خامسا ـ الحرية

خامسا ـ الحرية

في اليوم الخامس، صاح السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا المساء.. سيساق إلى الموت (عمار بن ياسر) ([1]).. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح لجميع السجناء بتوديعه والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن.. ومن يخترقها فسيتحمل مسؤولية خرقه.

ما هي إلا لحظات قصيرة حتى اجتمعت الجموع حول عمار بطلعته البهية وقامته الفارعة وسنحته الممتلئة بأسارير الإيمان([2]) .. وكأنه ذلك الجبل الشامخ الذي صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقدم روحه فداء له ولدينه إلى آخر لحظة من لحظات حياته.

عندما اجتمعت الجموع، نظر إليهم عمار نظرة حانية، ثم صاح: اسمحوا لي أنا العبد الضعيف الفقير إلى الله أن أجلس بينكم لأحدثكم عن أعظم رسالة وأعدل شريعة وأكمل نظام..

واسمحوا لي قبل ذلك أن أحدثكم عن نفسي..

لقد نادى السجان علي باسم (عمار بن ياسر).. ولعل ذلك يجعلكم تتوهمون أن هذا هو اسمي الذي ولدت به.. وأنا أبادر فأصحح هذا الخطأ..

إن هذا الاسم في الحقيقة هو الاسم الذي اخترته بعد ولادتي الثانية.. والتي كانت بعد مخاض طويل تقلبت فيه بين الأديان والمذاهب والأفكار أبحث لي عن دين أتحقق فيه بالحرية التي عشقتها، ولم أر في الحياة شيئا يعدلها.

وبعد ذلك التيه رأيت الإسلام بعقيدته وشريعته.. ورأيت فيه من الحرية ما لم أجده في أي دين ولا أي مذهب.. وقد شدني ذلك العملاق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك الذي يسمى (عمار بن ياسر)، فرحت أسمي نفسي به.

لقد تحرر عمار من كل القيود.. قيود القبيلة.. وقيود الأهواء.. وقيود الأنا.. وقيود المتجبرين المستبدين الطغاة.. فلذلك صار عندي مثالا للانعتاق الكامل.. بل مثالا للحرية التي لم أكن أرى في الحياة شيئا يعدلها.. ولذلك رحت أتشرف بأن أتسمى باسمه، ثم أسلك في حياتي سلوكه.. وها أنتم ترون ما حصل له يحصل لي.. وأنا فخور بذلك فرح به.. ولعل الله يشرفني هذه الليلة.. فألتقي به.. وألتقي بجميع الأحبة الذين امتلأ قلبي عشقا لهم.

قال رجل منا: من العجب أن تخبرنا بهذا.. ونحن لا نعلم دينا كبت الحريات وقيدها كما فعل الإسلام.. أليس هو الدين الذي يدعو إلى العبودية.. ثم يضع الإنسان في قالب صلب ممتلئ بالأغلال والقيود.. فلا يتحرك حركة إلا ويجد من أحكام الشريعة ما يحد حركاته ويضبطها ويقيدها..

ابتسم عمار، وقال: قبل تيهي في المذاهب والأفكار بحثا عن الانعتاق والتحرر كان هذا هو تصوري للحرية..

كنت أتصور أني أتحرر عندما أفعل كل ما تشتهيه نفسي.. وقد أوقعني ذلك في قيود كثيرة.. لم ينقذني منها إلا الإسلام.

لقد اكتشفت نفسي في ذلك التيه عبدا لكل شيء([3])..

لقد صدق في قوله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)([4])

لقد أصبحت عبدا أسيرا للدنيا.. فالدينار والدرهم والمال والدنيا هي كل شيء عندي.. من أجلها أرضى.. ولأجلها أسخط.. وفي سبيلها أضحي بكل شيء.

وقد استغل أباطرة الظلم والاستبداد هذه العبودية الاختيارية التي أوقعتني فيها نفسي وشهواتي.. فراحوا يطلقون على عبوديتي هذه (حرية).. وراحوا يطالبونني بعمل المزيد من أجل تحقيقها.. يطالبونني باستعمال كل الوسائل حتى لو كان القتل والفتنة والفساد..

لقد كانت دعوى الحرّية من أهم شعارات الثورة الفرنسية.. وأعقبتها ثورات أُخرى كثيرة قامت لتصارع من أجل صورة الحرّية التي توهمتها، وتعاقبت الثورات في تاريخ الإنسان حتى يومنا هذا.. ولكن الإنسان في الأرض اليوم ما زال يفقد الحرية الحقيقية، وما زال يجاهد من أجل السراب.

لقد فشلت معظم هذه الجهود لأَنها لم تطلب الحرّية بصورتها المتكاملة، وميزانها العادل، فاضطربت المقاييس وامتد الصراع.

لقد قامت الشيوعية تدعو إلى حقوق الطبقة العاملة وحرّيتهم وإنقاذهم من المجرمين الظالمين في الرأسمالية.. فماذا كانت النتيجة؟.. لم ينل العمال حقوقهم ولا حرّيتهم، ولم تحترم أدنى درجات الإنسانية.. ولكن الشيوعية وأحزابها في صراعها مع الرأسمالية استبدلت بمجرمي الرأسمالية مجرمين اشتراكيين وشيوعيين.. استبدلت بالظالمين ظالمين جدداً.. فأفنت الملايين من البشر في ظلمات فوقها ظلمات.

وهكذا قامت شعوب كثيرة تطالب بحريتها.. فمن فشلت جهودهم من هذه الشعوب سُحِقوا تحت شعار الحرية والعدالة، ومن نجحت جهودهم أقاموا لوناً آخر من الظلم والفساد في الأرض، ولوناً آخر من العدوان والنهب.

كلٌّ يدّعي الحرّية، وكل يصوغها على نمط مصالحه المادية وشهواته المتفلتة.. فالديمقراطية حين أطلقت الحرية الفردية دون ضوابط أَغرقتها في أوحال الحرية الجنسية الملوّثة وأوحال الجريمة، لا توقفها مسؤولية في الدنيا ولا رهبة من الآخرة.. وعندما يطلقون حرية الدين كما يزعمون فإنهم في حقيقة أَمرهم يقتلون الحرية ويدفنونها.. ذلك لأنهم خدَّروا الناس بالشهوة والمصالح والجري اللاهث وراء الدنيا، فجرَّدوا الإنسان بذلك من جوهر قوته التي يفكر بها حرّاً طليقا.. جرّدوه من سلامة الفطرة التي لوَّثتها المعصية وأَحاطت بها الجريمة وخنقتها الأهواء والشهوات الثائرة.

ولم يكتفوا بذلك، بل صاغوا له القوانين التي تدفعه إلى الانحراف دفعاً، وهيأوا له من وسائل الإعلام ما يجعل الشهوة ناراً يلتهب بها دمه، ثمَّ حبسوا الدين في الكنائس، لا يخرج للناس منه إلا ظنون وأَوهام، وأَحقاد وعصبيات، لا علم معها ولا بحث عن الحقّ ولا دراسة ولا تَقَصٍّ.. حبسوا الدين في الكنائس لا يخرج منها إلا للدعاية التي تحتاجها المصالح الشخصية المتصارعة، أو لإطلاق حركات التنصير خارج بلادهم لتكون مُمهِّدة للجيوش الزاحفة بظلمها وعدوانها.

سكت قليلا، ثم قال: لا شك أنكم ترون الإنسان الآن ـ في ظل هذه الحضارة الآبقة ـ كيف صار مسحوقا ومخدَّرا.. كل العلوم الحديثة والصناعة تحوّلت إلى أَدوات تسحق الإنسان وتُخدِّر فيه إحساسه وقواه..

إن الديمقراطية والرأسمالية والشيوعية والعلمانية والحداثة لم تفقد جوهر الحرية وحقيقتها فحسب، بل إنها فقدت معها الأمن والعدل والكرامة الإنسانية وهبطت به أسفل سافلين.. إنها أفقدت الناس حقيقة الإيمان والتوحيد اللذيْن هما أساس حياة الإنسان وأساس مستقبله في الدنيا والآخرة.

قال رجل منا: حدثنا عن الحرية التي جاء بها الإسلام.. فما ذكرته من المظالم نراه بأعيننا، ولا نحتاج لتشرحه لنا.

قال عمار: لقد أسس الإسلام الحرية الحقيقية.. وقد بدأ تأسيسه للحرية بتحريره للفكر الإنساني.. فلا يمكن للحياة أن تستقيم بالأفكار الممتلئة بالقيود.

الفكر

قلنا: فحدثنا عن تحرير الإسلام للفكر.

قال: قال: لقد بدأ الإسلام رسالته بتحرير العقول من كل الأوهام والخرافات والتقاليد والعادات التي تسيطر عليها.. فلا تسمح الشريعة للإنسان أن يؤمن بشيء إلا بعد أن يفكر فيه ويعقله، ولا تبيح له أن يقول مقالاً أو يفعل فعلاً إلا بعد أن يفكر فيما يقوله ويفعله ويعقله.

فالقرآن يعتمد في إثبات وجود الله، وفي إقناع الناس بالإسلام، وفي حملهم على الإيمان بالله ورسوله وكتابه اعتماداً أساسياً على استثارة تفكير الناس وإيقاظ عقولهم.. فهو يدعوهم بكل الوسائل إلى التفكير في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم وفي غير ذلك من المخلوقات، ويدعوهم إلى التفكير فيما تقع عليه أبصارهم وما تسمعه آذانهم؛ ليصلوا من وراء ذلك كله إلى معرفة الخالق، وليستطيعوا التمييز بين الحق والباطل.

ونصوص القرآن التي تحض على استخدام العقل وتحرير الفكر لا تعد كثرة([5])..، فالله تعالى يقول :{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (البقرة: 164)، ويقول:{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (سبأ: 46) ويقول:{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} (الروم: 8)، ويقول:{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: 101)، ويقول:{ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق: 5 – 7)، ويقول:{ أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الغاشية: 17 – 20)، ويقول:{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37)، ويقول:{ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} (آل عمران: 7)

ويعيب القرآن على الناس أن يلغوا عقولهم، ويعطلوا تفكيرهم، ويقلدوا غيرهم، ويؤمنوا بالخرافات والأوهام، ويتمسكوا بالعادات والتقاليد دون تفكير فيما يتركون وما يدعون، وينعي عليهم ذلك كله، ويصف من كانوا على هذه الشاكلة بأنهم كالأنعام بل أضل سبيلاً من الأنعام.

ونصوص القرآن صريحة في تقرير هذه المعاني.. اسمعوا قوله تعالى:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 170 – 171)، وقوله:{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46)، وقوله:{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179)

قال رجل منا: كيف تقول هذا.. والإسلام يفرض سلطانه على العقول فرضا لا مخلص لها منه؟

ابتسم عمار، وقال: إن كنت تقصد أن له من الحجج والبراهين ما يفرض به هذا السلطان فقد صدقت.. وذلك دليل على كونه حقا لا مرية فيه.. فالحق هو الذي يفرض نفسه فرضا..

أما إن أردت أن تقول بأن الإسلام يفرض عقيدته بسلطان غير سلطان الحجة والبرهان.. فقد أخطأت في ذلك.. فالشريعة الإسلامية وهي أول شريعة أباحت حرية الاعتقاد وعملت على صيانة هذه الحرية وحمايتها إلى آخر الحدود، فلكل إنسان – طبقاً للشريعة الإسلامية – أن يعتنق من العقائد ما شاء، وليس لأحد أن يحمله على ترك عقيدته أو اعتناق غيرها أو يمنعه من إظهار عقيدته.

لقد ألزمت الشريعة الإسلامية المسلمين أن يحترموا حق الغير في اعتقاد ما يشاءون، وفي تركه يعمل طبقاً لعقيدته، فليس لأحد أن يكره آخر على اعتناق عقيدة ما أو ترك أخرى.. ومن أراد أن يعارض آخر في اعتقاده فعليه أن يقنعه بالحسنى، ويبين له وجه الخطأ فيما يعتقد.

لقد وردت النصوص الكثيرة تصرح بهذا وتدعوا إليه قال تعالى :{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)، وقال:{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } (يونس: 99)، وقال:{ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية: 21 – 22)، وقال:{ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النور: 54)

هذه النصوص المقدسة لم يكن يقرؤها المسلمين للتعبد فقط.. بل كانوا يقرؤونها، ويمتثلون لها، ويعيشونها.

قال الرجل: فما السر إذن في دخول الناس في الإسلام، وتركهم لعقائدهم التي ولدوا عليها؟

قال عمار: هو ما ذكرته لك من سلطان الحجة والبرهان.. وسلطان السماحة والخلق الطيب الذي رباهم عليه الإسلام.. لقد شهد بهذا كل منصف تحدث عن هذا..

يقول المستشرق دوزي: (إن تسامح ومعاملة المسلمين الطيبة لأهل الذمة أدى إلى إقبالهم على الإسلام وأنهم رأوا فيه اليسر والبساطة مما لم يألفوه في دياناتهم السابقة)([6])

ويقول غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب): (إن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن، فقد ترك العرب المغلوبين أحراراً في أديانهم.. فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ العربية لغة له؛ فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى)([7]

قال رجل آخر: دعنا من هذه الأحاديث.. فنحن نرى الألفة لا تزال تنشر ظلالها بين المسلمين وغيرهم في بلاد الإسلام.. ولو كان لهم في تاريخهم ما يثير الأحقاد والضغائن لظهر ذلك.

دعنا من هذا.. وأجبنا لم فرض الإسلام حد الردة  مع كونه يقر للمخالف بكل ما ذكرته؟

قال عمار: ليس في الشريعة حد بهذا الاسم إلا حد الحرابة والإفساد في الأرض.

قام رجل، فقال: ولكن القرآن أخبر عن العقوبات المشددة على المرتدين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}  [آل عمران: 90-91]

ابتسم عمار، وقال: فهل يمكن تطبيق ما ورد في هذه الآية الكريمة من عقوبات ترتبط بالمرتدين.

سكت الرجل، فقال عمار: ما لك سكت؟ .. أم أنك ترى أن العقوبة المذكورة أعظم من أن يستطيع أحد من الناس أن يطبقها ..

ثم التفت للجميع، وقال: أنا أتحدى الآن أي شخص أن يأتيني بآية قرآنية واحدة تحض على قتال من نختلف معهم في شؤون الدين والعقائد.

إن كل الآيات الكريمة التي وردت في الردة تحصر العقوبة في الآخرة وليس في الدنيا.

قام رجل من القوم، وقال: فما تقول في الآيات التي تأمر بالقتال والجهاد.. أم أنها منسوخة عندك؟

قال عمار: كل القرآن محكم .. ويستحيل أن يأمرنا الله بأن نعبده بما ينهانا عن تنفيذه.. فإن شئت فاقرأ لي منها ما تراه لأخضع له([8]) ..

قال الرجل: فقد قال تعالى في سورة البقرة: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة: 190-194]

قال عمار: الآيات واضحة جدا .. وهي صريحة بأنه لا يجوز قتال المشرك لشركه، ولا الكافر لكفره، وإنما يقاتل المشرك والكافر لعداوته ومحاربته المسلمين، كما يشرع قتال الكافر إذا اضطهد المسلمين وأراد فتنتهم عن دينهم..

قال الرجل: فقد قال تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأُولَئِكَ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) [البقرة: 216-218]

قال عمار: الآيات واضحة في دلالتها.. وهي إخبار بسبب مشروعية الجهاد، وهو وجود كفار معتدين أخرجوا المسلمين من ديارهم.

قال الرجل: فما تقول في قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)  [الأنفال: 38-40]

قال عمار: هذه الآيات آيات سلام لا حرب، فهي تأمر بقتال المشركين الذين يضطهدون من أسلم منهم ليردوهم عن دينهم عن طريق الإكراه، والأحاديث والسير متواترة في الدلالة على هذا المعنى.

قال الرجل: فلم عبرت عنهم بكونهم كفارا، ولم تعبر عنهم بكونهم معتدين؟

قال عمار: لتبين أن كفرهم وعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر هو السبب في ذلك الطغيان والعدوان الذي يمارسونه على المستضعفين.. وهناك آيات كثيرة تدل على هذا.. والقرآن يفسر بعضه بعضا.

قال الرجل: فما تقول في قوله تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)  [الأنفال: 55-61]

قال عمار: هذه الآيات الكريمة واضحة في الدالة على أن الجهاد لا يشرع إلا في حق أولئك المعتدين من الكفار الذين ينقضون عهودهم، وليس بعد النقض إلا القتال.. وما تواتر من السيرة يدل على ذلك.

قال الرجل: فما تقول في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ  [الممتحنة: 1-3]

قال عمار: هذه الآيات ذكرت الأسباب الموجبة لقتال الكفار وهي المحاربة من إخراج الرسول والمسلمين من ديارهم، ومن استعدادهم لقتال المسلمين إذا ثقفوهم في أي مكان، فهم أعداء صرحاء، ومحاربون أصليون، وقتالهم ليس من باب القتال على الدين والعقيدة وإنما لمحاربتهم.

قال الرجل: فما تقول في قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) [الممتحنة: 8، 9]

قال عمار: هذه الآيات من أصرح الآيات التي تذكر أسباب مشروعية الجهاد، وأنه فقط في حق الذين يقاتلون المسلمين على دينهم ليردوهم عنه، ويخرجونهم من ديارهم، أو في حق الذين يظاهرون المشركين ويساعدونهم على هذه الأمور.. بل الآيات تأمر بالبر والإحسان للمشركين والكفار الذين لم يظاهروا عليهم عدواً ولم يحاربوهم ولم يخرجوهم من ديارهم.

قال الرجل: فما تقول في قوله تعالى: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)  [النساء: 74-75]

قال عمار: هذه الآيات واضحة في الدلالة على أن من أسباب تشريع الجهاد محاربة الاضطهاد الديني.. فكفار قريش أو غيرهم إذا اضطهدوا المسلمين دينياً، فالواجب نصرة المستضعفين الذين يجدون أقسى أنواع العذاب لأنهم اختاروا الإيمان بالإسلام ديناً.. وهناك آيات قرآنية أخرى تبين أن الجهاد يجب أن يكون ضد كل مضطهد حتى الذين يضطهدون اليهود والنصارى.

قال الرجل: فما تقول في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) [الفتح: 16]، فهذه الآية واضحة في الدلالة على مشروعية الإكراه الديني، ومبادأة الآخرين بالقتال لإدخالهم في الإسلام.

قال عمار: لا .. ليس كما فهمت.. فالقرآن لا يضرب بعضه بعضا .. فلا يجوز أن تتناقض هذه الآية مع الآيات الكثيرة الأخرى التي تنهى عن الإكراه في الدين، أو تلك الآيات التي تعلل الجهاد بعلل وجود المحاربين أو المضطهدين غيرهم دينياً.

قال الرجل: فما تقول في تعليل غاية الجهاد بالإسلام، فقد قال تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}؟

قال عمار: ليس كما فهمت .. وإلا تناقض القرآن بعضه مع بعض .. وإنما المراد بالإسلام هنا– كما هو معهود في اللغة العربية- (الإنقياد).. أي: أو ينقادون.

وهذه الآية تشبه الآية التي تتحدث عن الأعراب {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] أي: استسلمنا وانقدنا إلى نظام الدولة العادلة، فإن الإيمان يعني القناعة الداخلية، أما الإسلام فكل من دخل تحت نظام الدولة العادلة والتزم نظامها فيدخل في مسمى الإسلام بالمعنى العام الذي هو (الانقياد)

قال الرجل: فما تقول في آية السيف، وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}[التوبة: 5]، وهي الآية التي ذكر العلماء أنها نسخت كل آيات الرحمة والحكمة والإحسان في القرآن الكريم.

قال عمار: اقرأ الآيات من بداية سورة التوبة، وتدبر فيها وستراها منسجمة مع القرآن جميعا.. فالآيات تتحدث عن نوع خاص من المشركين كانوا محاربين، ثم ناكثي عهود، ثم منافقين يتربصون الفرص ويظاهرون على المؤمنين.

قال الرجل: ها أنت تفسر القرآن بحوادث تاريخية تحصرها فيها .. فما الفرق بين هذا وبين ما يفعله النسخ؟

قال عمار: لا . أنا استعنت بالتاريخ..ولم أفسر القرآن به.. فالقرآن كلام الله .. وحقائقه تدل على سنن الله في خلقه.. وهي تنطبق على المجتمعات جميعا.

قال الرجل: فكيف توجه ما ذكرت من تخصيصات؟

قال عمار: هي لا تحتاج لي لأوجهها.. فالقرآن غني بنفسه .. والتخصيص الذي ذكرته موجود في الآيات نفسها، فالله تعالى يقول في بداية السورة {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 1].. فالآيات تتحدث عن نوع خاص، وليست من الآيات التي تسن قانونا عاما كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]

بالإضافة إلى هذا فإن السياق الذي وردت فيه ما تسميها بآية السيف تدل على الأمر بإجارة المستجيرين من المشركين المحاربين حتى يسمعوا كلام الله، ثم يتم إيصالهم إلى مأمنهم، بمعنى أن يصلوا إلى قومهم المشركين المحاربين، وهذا ظاهر أنه لا دلالة فيه على الإكراه في الدين، وإنما كان سبب القتال هو المحاربة والعداوة من أنواع خاصة من المشركين وليس الموضوع مسألة إكراه على الدين، وإلا فكيف يجار المشرك ثم تتم حمايته إلى أن يبلغ مأمنه، فلو كان الكفر سبب القتال لما كانت هذه الإجارة والحماية.

بالإضافة إلى هذا فإن في الآيات استثناء للذين عاهدهم المسلمون عند المسجد الحرام، فأمر الله عز وجل بالاستقامة لهم على العهود وتحريم نقضها، وهذا يدل على أن الآيات نزلت في محاربين وناقضي عهود ومتآمرين على الدولة النبوية.

قال الرجل: فما تقول في قوله تعالى في نفس السياق: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11]، فالآية تشير إلى أن إخلاء سبيل المشركين والكف عنهم لن يتم إلا بالتوبة وإقامة الصلاة إيتاء الزكاة.. أليس في ذلك إكراها؟

قال عمار: لا .. وإلا ضرب القرآن بعضه بعضا.. مراد الآية الكريمة هو وصف لمآل هؤلاء بأن من ترك محاربة المسلمين وامتنع عن معاداتهم سيصبح في آخر الأمر مقيماً للصلاة ومؤدياً للزكاة وأخاً لبقية المسلمين، كما قال تعالى في سورة الممتحنة: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[الممتحنة:7] فهذه المودة لن تكون إلا بعد توبتهم بإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة، وهذا ما حصل تاريخيا لأكثر القبائل حول مكة والمدينة إذ أصبحوا أخوة للمسلمين الأوائل.

قام رجل آخر، وقال: أراك تستدل بالقرآن .. وتنسى الحديث.. ألا تعرف بأن السنة تفسر القرآن؟

قال عمار: بلى .. السنة تبين القرآن .. ولا تتناقض معه..

قال الرجل: وأحاديث الردة.. أنسيتها.. أم أنك من القرآنيين الذين لا يؤمنون بالسنة؟

قال عمار: أنا من الذين ينسجمون مع القرآن والسنة.. ولا يضربون القرآن بالسنة .. وعلى هذا الميزان رحت أبحث عن كل الأحاديث الواردة في الموضوع، فوجدتها على صنفين: صنف يتفق مع المراد القرآني.. وهذا على العين والرأس.. لأنه يطبق ما ورد في القرآن الكريم من معان.

وصنف يتناقض مع القرآن .. وقد رميت به عرض الحائط..

ولهذا، فقد رددت تلك الأحاديث وفق منهج المحدثين .. لا وفق العرض على القرآن فقط.

لقد وجدت أن هناك حديثين فقط يتعارضان مع المعاني القرآنية الآمرة بالسلام والمشرعه له..

أما الأول: فهو الحديث الذي يقول: (من بدل دينه فاقتلوه)..  وهذا الحديث انفرد به عكرمة مولى ابن عباس وقد كان من الخوارج.. وهو مرسل، فعكرمة ذكر هذا الحديث في قصة إحراق الإمام علي لأناس من المرتدين، ولم تصح حادثة الإحراق هذه، وإنما ذكرها عكرمة وحده، وجميع أسانيدها ضعيفة.

وأما الثاني: فحديث ( لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث..) وذكر منها ( التارك لدينه المفارق للجماعة).. ومن السهل تأويله لينسجم مع القرآن الكريم وسائر الأحاديث، فيفسر (التارك لدينه المفارق للجماعة) بالمفسد في الأرض، الذي يترك جماعة المسلمين، ويلجأ للنهب والسرقة وقطع الطريق، وقد جاء حكمه في القرآن الكريم في آية المحاربة المعروفة.

التفت عمار إلى الرجل، فوجده واجما، وكأنه لم يقنتع، فقال له: هناك أحاديث وردت في الصحاح، وهي متواترة، وأنت تعلم أن المتواتر مقدم على الآحاد.. وهي تدل على خلاف ما ذكرت.

قال الرجل: ما هي .. أنا قرأت كتب السنن جميعا.. ولم أرها.

قال عمار: منها (لا نكره أحداً على دين فقد تبين الرشد من الغي..)، ومنها (لكم أيها الكفار دينكم ولنا ديننا لا نكرهكم على ديننا ولا تكرهوننا على دينكم..)، ومنها (لا يقتل رجل على دينه وإنما على حربه..)، ومنها (من بدل دينه فله نار جهنم خالداً فيها..)، ومنها (من ارتد على وجهه وترك دينه سيعاقبه الله بنار أعدها للكافرين..)، ومنها (من ترك دينه فسيغني الله عنه..)، ومنها (لا يحل لامريء يؤمن بالله أن يقعد مع من يستهزيء بآيات الله، فليجتنب مجلسهم..)

غضب الرجل غضبا شديدا، وراح يقول: أنت كذاب وضاع حلال الدم.. فلا توجد أحاديث بهذه الألفاظ.

قال عمار: أنشدك بالله .. أرأيت لو أن هناك أحاديث متواترة بتلك الألفاظ أكنت ترجحها على حديث القتل؟

قال الرجل: أجل.. فالمتواتر مقدم على الآحاد.

قال عمار: فتلك الأحاديث هي نفس ما ورد في القرآن.. وهو متواتر.. ويستحيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخالف كلام ربه.

الحياة

قلنا: حدثتنا عن تحرير الإسلام للفكر.. فحدثنا عن تحريره للحياة.

قال: لقد بدأ الإسلام تحريره لحياة الإنسان بتحريره من كافة العبوديات والانقيادات والتبعات لأية جهة أخرى غير الله.. قال الله تعالى :{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} (آل عمران)، وقال منكرا على المسيحيين :{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} (التوبة)

وفي الحديث عن عدي بن حاتم، أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقه صليب من فضة، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية :{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } فقال عدي: إنهم لم يعبدوهم.. فقال صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم)([9])

قال رجل منا: ولكن الإسلام أوقع الإنسان في عبودية الله.. ألا تعتبر العبودية لله مناقضة للحرية؟

قال عمار: لا.. العبودية لله تعني أسمى أنواع الحرية التي لم يحلم بها الإنسان ولم يتصورها أبداً وهو يصارع ألوان العبوديات التي سلبت منه نعمة الحرية والحياة الآمنة والعيش الهانىء..

إن العبودية لله تحرر الإنسان من قيود الظلم والامتهان والاستعباد والأصنام والآلهة المزورة.. وتحرره من قيود النفس وأهوائها الجامحة ونزعاتها الجنونية، وتفسح المجال لعنصر العقل لكي يتخذ القرارات بشكل سليم وناضج بعيداً عن التأثيرات الكاذبة والأجواء المحمومة.. وهو ما يتيح للإنسان شق طريقه بشكل أفضل وأداء دوره بالصورة المطلوبة.

ولهذا، فإن الحرية في الحضارة الغربية تبدأ في الظاهر من التحرر لتنتهي إلى ألوان من العبودية والأغلال.. بخلاف الحرية الرحيبة في الإسلام فإنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى لتنتهي إلى التحرر من كل أشكال العبودية المهينة.

قال الرجل: ولكن العبودية لله لا تسمح للانسان بممارسة أي حرية حيال الله تعالى، فلا حرية للعبد في التنصل من التكاليف والمسؤوليات التي ألقيت على عاتقه.. ألم يقل القرآن :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) } (الأحزاب)؟

قال عمار: أجل.. ذلك صحيح.. ولكن المؤمن الذي اختار الله يمارس ذلك عن طواعية ورضا ومحبة.. وهو لا يطلب شيئا كما يطلب رضوان الله.. فبدون رضا الله لا تتحقق العبودية مطلقاً.. وبهذا المعنى تحتفظ (الحرية) برونقها في الإسلام، بل يشعر المسلم بلذة كبيرة حينما يرى نفسه وقد حافظ عليها وصانها من كل عملية تلاعب وتحريف.

بالإضافة إلى هذا.. فإن كل حرية لابد أن تقيد بالمسؤولية..

وقد رأيت من خلال تجوالي في المذاهب والأفكار أن مفهوم المسؤولية في كثير من الأنظمة لا يتجاوز في كثير من الأحيان مسؤولية الفرد تجاه القوانين المعمول بها.. بل حتى هذا النوع من المسؤولية غالباً ما يفقد بريقه من خلال عمليات الانتهاك المتوالية لتلك القوانين والخروج عليها..

أما مسؤولية الإنسان المسلم فتختلف جوهرياً عن تلك المسؤولية لأنها نابعة من باطن الإنسان ونافذة إلى أعماقه وماثلة أمامه دائماً.. فالانسان المسلم مسؤول أمام جهة مطلقة عليا تراقبه وتشاهد عن كثب كل تحركاته وسكناته، بل مطّلعة حتى على أفكاره وخلجات قلبه.. وهو بهذا كتاب مفتوح أمام العين الإلهية ولا حيلة له ولا وسيلة سوى أداء التكليف والقيام بالواجب الملقى على عاتقه دون تلكؤ أو تكاسل.

قال رجل منا: وعينا هذا.. ولا نرى أن أحدا يمكن أن يجادلك فيه إلا إذا كان يرى الإنسان هملا لا يعرف خلقا، ولا يقدر حرمة.. ولكنا نريد أن نسألك عن الحريات التي أتاحها الإسلام للإنسان لكي يعيش حياة طبيعية مستقرة لا يشعر فيها بأي نوع من أنواع الحرج والكبت والأغلال.

قال عمار: حفظ الحريات مقصد من مقاصد الشريعة الكبرى.. فلو نظرنا إلى الشريعة الإسلامية بهذا المنظار نجدها أتاحت كل الحريات التي توفر للإنسان حياة طبيعية مستقرة..

لا يمكنني أن أذكر لكم ـ هنا ـ أحكام الشريعة بكل تفاصيلها وعلاقتها بهذا.. بل سأكتفي فقط بذكر أمثلة تقرب لكم هذا.. وتدلكم على مجامعه([10])..

 أنتم تعلمون أن لحياة الإنسان جانبين: جانب مادي.. وجانب معنوي.. وقد جاءت الشريعة الإسلامية لتحفظ حرية كلا الجانبين..

الجانب المادي:

قلنا: فحدثنا عن الأول.. حدثنا عن الحرية التي أتاحها الإسلام للإنسان في جانبه المادي.

قال: من ذلك أن الإسلام أتاح للإنسان كل ما يرتبط بحريته الشخصية.. فقد اعتبره قادراً على التصرف في شئون نفسه، وفي كل ما يتعلق بذاته، آمناً من الاعتداء عليه، في نفسه وعرضه وماله، بشرط واحد هو ألا يكون في تصرفه عدوان على غيره.

ففي حرمة ذات الإنسان ـ مثلا ـ عنى الإسلام بتقرير كرامة الإنسان، وعلو منزلته.. فأوصى باحترامه وعدم امتهانه واحتقاره، قال تعالى :{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} (الإسراء)، وقال :{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} (البقرة)، وبذلك يضع الإسلام الإنسان في أعلى منزلة، وأسمى مكانة حتى أنه يعتبر الاعتداء عليه اعتداء على المجتمع كله، والرعاية له رعاية للمجتمع كله، قال تعالى :{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.. (32)} (المائدة)

 وتقرير الكرامة الإنسانية للفرد، يتحقق أياً كان الشخص، رجلاً أو امراة، حاكماً أو محكوماً، فهو حق ثابت لكل إنسان، من غير نظر إلى لون أو جنس أو دين.. حتى اللقيط في الطرقات ونحوها، يجب التقاطه احتراما لذاته وشخصيته، فإذا رآه أحد ملقى في الطريق، وجب عليه أخذه، فإن تركوه دون التقاطه أثموا جميعاً أمام الله تعالى، وكان عليهم تبعة هلاكه..وهكذا حرص الإسلام على احترام الإنسان حياً، فقد أمر بالمحافظة على كرامته ميتاً، فمنع التمثيل بجثته، وألزم تجهيزه ومواراته.

ومن ذلك ما جاء في الشريعة من ضمانات لسلامة الفرد وأمنة في نفسه وعرضه وماله، فلا يجوز التعرض له بقتل أو جرح، أو أي شكل من أشكال الاعتداء، سواء كان على البدن كالضرب والسجن ونحوه، أو على النفس والضمير كالسب أو الشتم والازدراء والانتقاص وسوء الظن ونحوه، ولهذا قرر الإسلام زواجر وعقوبات، تكفل حماية الإنسان ووقايته من كل ضرر أو اعتداء يقع عليه، ليتسنى له ممارسة حقه في الحرية الشخصية.

ومن ذلك ما جاء في الشريعة من ضمانات لحرية التنقل داخل بلده وخارجه دون عوائق تمنعه.. فالتنقل حق إنساني طبيعي تقتضيه ظروف الحياة البشرية من الكسب والعمل وطلب الرزق والعلم ونحوه، ذلك أن الحركة شأن الأحياء كلها، بل تعتبر قوام الحياة وضرورتها، قال تعالى :{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} (الملك)

ولأجل تمكين الناس من التمتع بحرية التنقل حرم الإسلام الاعتداء على المسافرين، والتربص لهم في الطرقات، وأنزل عقوبة شديدة على الذين يقطعون الطرق ويروعون الناس بالقتل والنهب والسرقة، قال تعالى :{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} (المائدة)

ولتأكيد حسن استعمال الطرق وتأمينها نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صحابته عن الجلوس فيها، فقال: (إياكم والجلوس في الطرقات)، قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد في مجالسنا، قال: (فإن كان ذلك، فأعطوا الطريق حقها)، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟قال: (غض البصر وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)([11])، فالطرق يجب أن تفسح لما هيئ لها من السفر والتنقل والمرور، وأي استعمال لغير هدفها محظور لا سيما إذا أدي إلى الاعتداء على الآمنين.

ولأهمية التنقل في حياة المسلم وأنه مظنة للطوارئ، فقد جعل الله تعالى ابن السبيل- وهو المسافر- أحد مصارف الزكاة إذا ألم به ما يدعوه إلى الأخذ من مال الزكاة، ولو كان غنياً في موطنه.

ومن ذلك ما جاء في الشريعة من ضمانات لحرية المأوى والمسكن.. فمتى قدر الإنسان على اقتناء مسكنه، فله حرية ذلك، كما أن العاجز عن ذلك ينبغي على الدولة أن تدبر له السكن المناسب، حتى تضمن له أدنى مستوى لمعيشته.. ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)([12])

فإذا ما ملك الإنسان مسكنا، فلا يجوز لأحد أن يقتحم مأواه، أو يدخل منزله إلا بإذنه، حتى لو كان الداخل حاكماً أعلى ما لم تدع إليه ضرورة قصوى أو مصلحة بالغة، لأن الله تعالى يقول :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)} (النور)

ولحفظ حرمة المنازل وعظمتها حرم الإسلام التجسس، قال تعالى :{ وَلَا تَجَسَّسُوا.. (12)} (الحجرات)، وذلك لأن في التجسس انتهاكا لحقوق الغير والتي منها :حفظ حرمة المسكن، وحرية صاحبه الشخصية بعدم الاطلاع على أسراره..

ومن ذلك ما جاء في الشريعة من ضمانات لحرية التملك وحيازة أي شيء، وقدرته على التصرف فيه، وانتفاعه به عند انتقاء الموانع الشرعية،  يستوي في ذلك التملك الفردي، والتملك الجماعي.

فقد أعطى الإسلام للفرد حق التملك، وجعله قاعدة أساسية للاقتصاد الإسلامي، ورتب على هذا الحق نتائجه الطبيعية في حفظه لصاحبه، وصيانته له عن النهب والسرقة،و الاختلاس ونحوه، ووضع عقوبات رادعة لمن اعتدى عليه، ضمانا له لهذا الحق، و دفعا لما يتهدد الفرد في حقه المشروع..كما أن الإسلام رتب على هذا الحق أيضا نتائجه الأخرى، وهي حرية التصرف فيه بالبيع أو الشراء والإجارة والرهن والهبة والوصية وغيرها من أنواع التصرف المباح.

غير أن الإسلام لم يترك (التملك الفردي) مطلقاً من غير قيد، ولكنه وضع له قيوداً كي لا يصطدم بحقوق الآخرين، كمنع الربا والغش والرشوة والاحتكار ونحو ذلك، مما يصطدم ويضيع مصلحة الجماعة.. و هذه الحرية لا فرق فيها بين الرجل والمرأة قال الله تعالى :{ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)} (النساء)

ومثل ذلك أعطى الإسلام الجماعة حق الانتفاع بالملكية الجماعية.. كالانتفاع بالمساجد والمستشفيات العامة والطرق والأنهار والبحار وبيت المال ونحو ذلك.. وما ملك ملكاً عاماً يصرف في المصالح العامة،و ليس لحاكم أو نائبه أو أي أحد سواهما أن يستقل به أو يؤثر به أحد ليس له فيه استحقاق بسب مشروع وإنما هو مسؤول عن حسن إدارته وتوجيهه التوجيه الصحيح الذي يحقق مصالح الجماعة ويسد حاجاتها.

ومن ذلك ما جاء في الشريعة من ضمانات لحرية العمل.. فالعمل عنصر فعال في كل طرق الكسب التي أباحها الإسلام، وله شرف عظيم باعتباره قوام الحياة ولذلك فإن الإسلام أقر بحق الإنسان فيه في أي ميدان يشاؤه ولم يقيده إلا في نطاق تضاربه مع أهدافه أو تعارضه مع مصلحة الجماعة.

ولأهمية العمل في الإسلام اعتبر نوعاً من الجهاد في سبيل الله،كما روي في الحديث عن كعب بن عجرة قال: مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل، فرأى أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من جلده ونشاطه، فقالوا :يا رسول الله،لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً، فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعضها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)([13])

الجانب المعنوي:

قلنا: حدثتنا عن الجانب الأول.. فحدثنا عن الجانب الثاني.. حدثنا عن الحرية التي أتاحها الإسلام للإنسان في جانبه المعنوي.

قال: من ذلك ما ذكرنا سابقا من الضمانات التي أتاحتها الشريعة للإنسان في اختيار الدين الذي يريده بيقين، والعقيدة التي يرتضيها عن قناعة، دون أن يكرهه شخص آخر على ذلك.. فإن الإكراه يفسد اختيار الإنسان، ويجعل المكره مسلوب الإرادة، فينتفي بذلك رضاه واقتناعه.

ويترتب على حرية الاعتقاد كثير من الحريات.. منها حرية إجراء الحوار والنقاش الديني، وذلك بتبادل الرأي والاستفسار في المسائل الملتبسة التي لم تتضح للإنسان، وذلك للاطمئنان القلبي بوصول المرء إلى الحقيقة التي قد تخفى عليه، وقد كان الرسل والأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – يحاورون أقوامهم ليسلموا عن قناعة ورضى وطواعية، بل إن إبراهيم u حاور ربه في قضية (الإحياء والإماتة) ليزداد قلبه قناعة ويقيناً، وذلك فيما حكاه القرآن لنا في قوله تعالى :{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} (البقرة)

بل إن في حديث جبريل u الذي استفسر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن (الإسلام) و(الإيمان) و(الإحسان) و(علامات الساعة) دليل واضح على تقرير الإسلام لحرية المناقشة الدينية، سواء كانت بين المسلمين أنفسهم، أو بينهم وبين أصحاب الأديان الأخرى، بهدف الوصول إلى الحقائق وتصديقها، لا بقصد إثارة الشبه والشكوك والخلافات، فمثل تلك المناقشة ممنوعة، لأنها لا تكشف الحقائق التي يصل بها المرء إلى شاطئ اليقين.

ومنها حرية ممارسة الشعائر الدينية،و ذلك بأن يقوم المرء بإقامة شعائره الدينية، دون انتقاد أو استهزاء، أو تخويف أو تهديد،و لعل موقف الإسلام الذي حواه التاريخ تجاه أهل الذمة من دواعي فخره واعتزازه، و سماحته.. وقد سبق أن ذكرت لكم شواهد ذلك وأدلته.

ومن الحريات المعنوية التي أتاحتها الشريعة الإسلامية حرية الرأي، فقد جوز الإسلام للإنسان أن يقلب نظره في صفحات الكون المليئة بالحقائق المتنوعة، والظواهر المختلفة، ويحاول تجربتها بعقله، واستخدامها لمصلحته مع بني جنسه، لأن كل ما في الكون مسخر للإنسان، يستطيع أن يستخدمه عن طريق معرفة طبيعته ومدى قابليته للتفاعل والتأثير،ولا يتأتى ذلك إلا بالنظر وطول التفكير.

ومن الحريات المعنوية التي أتاحتها الشريعة الإسلامية حرية التعلم.. فطلب العلم والمعرفة حق كفله الإسلام للفرد، ومنحه حرية السعي في تحصيله، ولم يقيد شيئاً منه، مما تعلقت به مصلحة المسلمين ديناً ودنيا، بل انتدبهم لتحصيل ذلك كله، وسلوك السبيل الموصل إليه، أما ما كان من العلوم بحيث لا يترتب على تحصيله مصلحة، وإنما تتحقق به مضرة ومفسدة، فهذا منهي عنه، ومحرم على المسلم طلبه، مثل علم السحر والكهانة،و نحو ذلك.

و لأهمية العلم والمعرفة في الحياة نزلت آيات القرآن الأولى تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقراءة، قال تعالى:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق)

ولما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، ونصب عليه الكفار الحرب، وانتصر المسلمون، وأسروا من أسروا من المشركين، جعل فداء كل أسير من أسراهم تعليم القراءة والكتابة لعشرة من صبيان المدينة و.

وهذا من فضائل الإسلام الكبرى، حيث فتح للناس أبواب المعرفة، وحثهم على ولوجها والتقدم فيها، وكره لهم القعود عن العلم والتخلف عن قافلة الحضارة.

***

ما وصل (عمار بن ياسر) من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا بيد عمار، وساروا به إلى مقصلة الإعدام..

أراد بعضنا أن يتدخل ليمنعهم.. فأشار إلينا بأن نتوقف، وقال: أستودعكم الله أيها الإخوان الأفاضل.. لا أريد منكم، وأنا أتقدم لنيل هذا الفضل الإلهي العظيم الذي سيجعلني ألتقي بالأحبة – الذين عشت حياتي كلها أحلم بأن ألتقي بهم – إلا شيئا واحدا.. هو أن تعلموا أن حريتكم في عبوديتكم لله.. وأن سعادتكم في لقائكم به.. وأنه مهما تمرغتم في الشهوات والملذات.. فلن تجدوا لذة أعظم من لذة معرفته وإقامة ما تتطلبه عبوديته..

فسيروا في الأرض.. وبشروا البشرية بهذا.. فلن تنجو البشرية من عبودية الشياطين إلا بعبوديتها لله.

قال ذلك، ثم سار بخطا وقورة إلى المقصلة.. وتمتم بالشهادتين، ثم أسلم نفسه مبتسما لله.

بمجرد أن فاضت روحه إلى باريها كبر جميع السجناء بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم.. وقد صحت معهم بالتكبير دون شعور.. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


([1])  أشير به إلى عمَّار بن ياسر (56ق.هـ – 37هـ)، من السابقين إلى الإسلام أوذي هو وأبوه وأمه سُمَيَّة. كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يمر بهم وهم يعذبون فيقول: (صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة)، قتل أبو جهل أمه سمية فكانت أول شهيدة في الإسلام.

كان عمار بن ياسر من أوائل من أظهر إسلامه بمكة، ومن أوائل من هاجر إلى المدينة. شارك في بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، شهد بدراً وأُحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاتل المرتدين في اليمامة.

كان من المقربين من علي واشترك معه في معاركه ضد البغاة، وقد نقل عنه أنه نزل إلى ميدان لقتال في صفين، وهو شيخ في الرابعة والتسعين من عمره، وهو يقول: (اللهم أنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقدف بنفسي في هذا البحر لفعلته، اللهم أنك تعلم لو أني أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلت، وأني لا أعلم اليوم عملاً أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم اليوم ما هو أرضى منه لفعلته، والله لو ضربونا حتى بلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل)

وقد قاتل حتى قُتل، وقد كان لمقتله أثراً كبيراً أزال الشبهة عند كثير من الناس، وكان ذلك سبباً لرجوع جماعة إلى علي والتحاقهم به، ذلك أن الجميع قد بلغهم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ويح عمّار تقتله الفئة الباغية، يدعونهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)

وقد وردت في فضل عمّار أحاديث كثيرة، منها ما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب من أن عمار استأذن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعرف صوته فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( مرحباً بالطيّب ابن الطيب ائذنوا له )، وقال فيه صلى الله عليه وآله وسلم : ( عمّار جلدة بين عيني)، وقال فيه : ( كم ذي طمرين ،لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، منهم عمار بن ياسر)، وقال فيه : ( لقد ملئ عمار إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه)، وقال فيه : ( إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار وسلمان)، وقال فيه : (ابن سمية لم يخيّر بين أمرين قط إلا أختار أرشدهما، فالزموا سمته)، وقال له بعد ذلك كله: (إنّك من أهل الجنّة)

وقد روي في استشهاده عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: شهدنا صفين مع علي فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية صفين إلا رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتبعونه كأنه علم لهم قال: وسمعته يومئذ يقول لهاشم بن عتبة بن أبي وقاص: يا هاشم تفر من الجنة ! الجنة تحت البارقة، اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أنا على حق وأنهم على الباطل.

 وقال أبو البختري : قال عمار بن ياسر يوم صفين : ائتوني بشربة. فأتي بشربة لبن فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن)، وشربها ثم قاتل حتى قتل.. وكان عمره يومئذ أربعا وتسعين سنة وقيل : ثلاث وتسعون وقيل : إحدى وتسعون.

 وروى عمارة بن خزيمة بن ثابت قال : شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسل سيفا، وشهد صفين ولم يقاتل وقال: لا أقاتل حتى يقتل عمار فأنظر من يقتله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (تقتله الفئة الباغية)، فلما قتل عمار قال خزيمة 🙁 ظهرت لي الضلالة)، ثم تقدم فقاتل حتى قتل.

ولما قتل عمار قال : (ادفنوني في ثيابي فإني مخاصم) (انظر: أسد الغابة)

([2])   مما جاء في وصف عمار أنه كان آدم طويلا مضطربا أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين.. وكان لا يغير شيبه (أسد الغابة)

([3])  من المراجع التي رجعنا إليها في هذا الفصل : الحرية في ميزان الإسلام، للدكتور عدنان علي رضا النحوي.. و(الحرية في الإسلام أصالتها وأصولها)، للدكتور أحمد الريسوني.. و(الحرية في الإسلام.. مرتكزاتها ومعالمها)، لعبدالرحمن العلوي.. و(الحرية في الإسلام: المفهوم.. والملامح.. والأبعاد)، د. جابر قميحة).. وغيرها.

([4])   رواه البخاري.

([5])   انظر رسالة (سلام للعالمين) فصل (العقل) من هذه السلسلة.

([6])   الإسلام وأهل الذمة (111)

([7])   حضارة العرب (127)

([8])   انظر هذه الآيات وغيرها كثير مع توجيهها كتاب (حرية الاعتقاد في القرآن الكريم والسنة النبوية) للشيخ حسن بن فرحان المالكي.

([9])   رواه أحمد، والترمذي، وابن جرير.

([10])   استفدنا هذه الأمثلة من كتاب (القيم الإسلامية) من (موقع الإسلام(

([11])   رواه البخاري ومسلم.

([12])   رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

([13])   رواه الطبراني في الكبير.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *