ثانيا ـ منازل البركة

ثانيا ـ منازل البركة
قال: بورك في نصيحتك.. ولكني لست كما ظننت.
قلت: أنا لم أظن.. بل أتيقن.. كيف تقف مواقف التهم، ثم تريد أن نحسن بك الظن.
قال: أخبرني عنك أولا من أنت حتى أعرف كيف أتعامل معك؟
قلت: وما شأنك بي.. أنا أطلب منك أن تحمل بساطك.. فإن شئت النوم، فاذهب إلى بيتك، فهو أهنأ لك.
قال: أنا لا أريد أن أنام.. ولكني بسطت بساطي، واستلقيت لأعبد الله على جنب.. ألا تعرف هذا النوع من العبادة؟
قلت: لم أسمع بهذا النوع من العبادة إلا في حق المرضى الذين لا يطيقون القيام ولا الجلوس، فقد رخص لهم الشرع بدله في الصلاة على جنب.
قال: لا.. ذلك خاص بالمرضى.. وهذا عام لجميع الناس.. ألم تسمع قوله تعالى:{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } (آل عمران:191)؟
قلت: بلى.. ولكني لم أسمع منها ما سمعت.
قال: وهل عرفت ما سمعت حتى تحكم علي؟
قلت: حالك يدل على ما في نفسك منها.. أنت تريد أن تبرر بها عملك هذا.
قال: قل لي: ما ذا تفهم من الآية؟
قلت: فسرت هذه الآية على أنها تبين كيفية أداء الصلاة بالنسبة للمرضى، أي أنهم إذا اسـتطاعوا فليؤدوا الصلاة قياما، فإن لم يقدروا على ذلك فقعودا، أو فعلى أحد جنبيهم، ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك)([1])
وفسرت بأنهم الذين لا يقطعون ذكر الله في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم.
قال: صدقت.. ويمكنك أن تفسرها بما فعلته الآن.. وبما أنكرت علي.
قلت: كيف أفسرها بذلك، وأنا لا ازال أنكر عليك.
قال: أنا أحد المتوسمين..
قلت: أتدعي التوسم أيضا.. كيف تدعيه.. وأنت لم تعرفني؟
قال: وما علاقة التعرف عليك بالتوسم، أأنت شمس من شموس البركة، أم قمر من أقمارها؟
قلت: ولكن المتوسمين الذين لاقيتهم عرفوني قبل أن أعرفهم بنفسي.
قال: ذلك مذهبهم، وهذا مذهبي.. وقد سألت الله تعالى أن يستر علي أسرار الخلائق حتى لا أرى منها ما يرى المتوسمون.
قلت: لم طلبت ذلك؟.. أليس في ذلك مزيد فضل؟
قال: لا.. خشيت أن يتسرب إلى نفسي من ذلك ما يحجبني عنه.. فلذلك سألت الله أن لا أرى من ذلك قليلا ولا كثيرا.
قلت: عرفت إخوانك من المتوسمين.. وأنا الآن أبحث عن متوسم يدلني على منازل البركة.. فقد عرفت جميع سبل البركة ما عدا منازلها.
قال: إذا لم تعرف منازلها لم تعرفها.
قلت: كيف؟
قال: لأن البركات فائضة في الكون.. ولكن الشأن في استقبالها.
قلت: فكيف تستقبل؟
قال: بالمنازل.
قلت: فدلني على المتوسم الذي يدلني عليها.
قال: أنت تجلس بين يديه.
انتفضت قائلا: معذرة.. أأنت هو متوسم المنازل؟.. ولكن ماذا تفعل هنا؟
قال: لقد جلست هذا المجلس لأستقبل البركات.
قلت: ألا تستقبلها إلا بهذه الصورة؟
قال: لا.. أنا أستقبلها بكل الصور، فقد أستقبلها قائما، أو قاعدا، أو مضطجعا، أو نائما.. وقد أستقبلها في السوق أو في المقبرة، أو في الفيافي، أو في الشوراع، أو في المساجد، أو في المدارس.. فكل هذه محال يمكن أن تملأني بالأحوال المباركة.
قلت: فلم اخترت الآن هذه الهيئة لاستقبال البركات؟
قال: أنا لم أخترها.. ولكني وجدت نفسي وأحوالي لا تنتظم إلا بهذه الضجعة، فاضطجعتها.
قلت: فلم لم تقهر نفسك؟
قال: أقهرها عن الحرام.. ولا أقهرها عن عبادة الله.
قلت: كيف ذلك؟
قال: إذا وجدت قلبي في هذه الحالة خاشعا لله مجتمعا به ممتلئا ذكرا وفكرا.. فلماذا أخرج من هذه الحال.. فأتكلف ما قد يضر بحالي.
قلت: ففي جلوسك أو اضطجاعك هذا ماذا تفعل؟
قال: أبرمج نفسي بالبرامج التي تهيئها لنزول البركات.
قلت: تبرمج نفسك!؟
قال: خاب من لم يبرمج نفسه كل يوم بالبرامج الصالحة.
قلت: كيف تبرمجها؟
قال: أنظم جسدي ونفسي وعقلي وروحي ليجتمع شتاتها وتتوحد وجهتها وتستعد لاستقبال بركات الله.
قلت: أأنت تبرمج هذه الأجهزة الأربع؟
قال: أجل.. كما تبرمجون أجهزتكم وتنظمونها لتستفيدوا من بركاتها.. أرأيت لو أن جهاز استقبالك الذي تتفرج به على أحوال الدنيا لم يتوجه الوجهة الصحيحة.. أكنت ترى شيئا؟
قلت: لا.. لن أرى شيئا.
قال: وهل ذلك لشح الأمواج التي تنقل لك أحوال العالم.
قلت: لا.. هي منتشرة في كل مكان، ولم يضق بها الفضاء.
قال: فما سبب عدم استقبالك لها؟
قلت: صحن استقبالي.
قال: فكذلك البركات يمتلئ بها الفضاء، ولكن الشأن ليس فيها، بل في عزوفكم عنها، وإدارة ظهوركم لها.
قلت: فلنبدأ بالجسد.. كيف تبرمجه ليستقبل أمواج البركات؟
قال: أوصل إليه من أسرار البركة ما يملؤه حيوية ونشاطا ليؤدي الرسالة التي وكلت إليه.
قلت: كيف ذلك؟
قال: ألم تعلم ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن ينام؟
قلت: كان يجمع كفَّيْهِ ثم ينفُث فيهما، ويقرأ فيهما بسورة الإخلاص، والفلق، والناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأُ بهما على رأسه، ووجهه، وما أقبلَ مِنْ جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.
قال: فهذا نوع من برمجة الجسد ليحيطه بأنواع البركات.
قلت: لم أفهم هذا.
قال: ألا تعرف أن كل خلية من خلاياك كائن حي كلف بأداء وظيفة معينة في جسدك؟
قلت: أتقصد أنه كائن مستقل عني؟
قال: هو فيك، ولكنه في ذاته مستقل عنك.
قلت: أأنا لست فردا واحدا؟
قال: لا.. بل أنت فرد واحد.. ولكنك مكون من كم هائل من الجنود الذين يحفظون كيانك إلى أن تتم الوظيفة التي جئت إلى الأرض بسببها.
قلت: أنت تريد أن تقنعني بأن كل خلية من خلاياي كائن حي.
قال: ليس في ذلك أي غرابة.. ألا ترى المدينة تظل مدينة واحدة، ولو أن ملايين البشر يسكنونها؟
قلت: هذه دعوى عريضة لو سمعها قومي لرموك بالحجارة، أو لوضعوك في مارستان المجانين.
قال: لا.. ليست هذه دعوى، هذه حقائق تدل عليها كل الأدلة.. وتشير إليها كل الشواهد، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ}(فصلت:19 ـ 22)؟
قلت: بلى.. ولكن هذه الآية مثل قوله تعالى:{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(يّـس:65)تشير إلى حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم اللّه على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت.
قال: ومن قال بأن ذلك خاص بالآخرة؟
ضحكت، وقلت: وهل رأيت رجلا يتحدث مع عينه أو يسمع بصره أو يجادل جلده؟
قال: فأنت تعتمد الحس لتؤول القرآن الكريم؟
قلت: لا.. ولكن الشرع لم ينكر علينا الاستدلال بالحس.. فالحس أول المدارك، وقد رأيت في حصون العافية ما يبين فضله وقيمته.
قال: أجبني.. وأرجو ألا تجادلني.
قلت: لن أجادلك.. ولكني لن أقلدك.
قال: لا يجوز لأحد تقليد أحد.. فكلنا في العبودية سواء.
قلت: سل ما بدا لك.
قال: ما الغرض من استشهاد الشهود في الآخرة؟
قلت: هو إخبار الشهود بما يعلمون من حال المشهود عليه.
قال: ألا يقتضي العلم الحياة؟.. وهل رأيت علما بلا حياة؟.. أو عالما بلا حياة؟
قلت: لا.. العلم يقتضي الحياة.. بل يقتضي الحياة المستقلة.
قال: فقد عرفت إذن حياة أعضاء الإنسان المستقلة.
قلت: لم أفهم.
قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصور بعض مشاهد عدالة الآخرة، واستشهاد الجوارح.
قلت: قد وردت في ذلك نصوص كثيرة، منها ما روي عن أنَس بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:( أتدرون مم أضحك؟) قلنا:( اللّه ورسوله أعلم)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: لا أجيز عليَّ إلا شاهداً من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل)([2])
وقد ورد في بعض الأحاديث إشارة إلى هذا الصنف الذي تستنطق جوارحه، وهم المنافقون الذين حاولوا أن يحتالوا على قلب الحقائق في الدنيا، وخداع الخلق بها، فلذلك تبقى هذه الأحبولة في أيديهم يوم القيامة، ويتصورون أنهم سيخادعون الله كما خادعوا الخلق،، قال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث القيامة الطويل:( ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت وصلّيت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع – قال – فيقال له ألا نبعث عليك شاهدنا؟ – قال: فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه، فيختم على فيه، ويقال: لفخذه انطقي – قال – فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك الذي يسخط اللّه تعالى عليه)([3])
قال: فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن نطق الجوارح.. والجوارح لا تنطق إلا بما تعلم.. ولا يمكن أن يستشهد الله في الآخرة من لا يعلم.. وإلا كان الاستشهاد عبثا أو شهادة زور.
قلت: فأنت تقصد بأن هذه الجوارح التي هي كياننا الخارجي جواسيس علينا قد تفضحنا يوم القيامة.
قال: لا.. هي ليست جواسيس.. هي أنت.. ولكن كل جزء منها كائن مستقل ممتلئ عبودية لله، فهو يرضى عنك إن عدت الله، ويسخط عليك إن عصيته.
قلت: أجسدي يسخط علي؟
قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك المجادل وهو يتوجه إلى جوارحه، فيقول:( بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل)([4])
قلت: بلى.. فقد نص على ذلك الحديث.
قال: ولهذا تخاصم روحك جسدك يوم القيامة، ألم تسمع قوله تعالى:{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}(الزمر:31)
قلت: بلى.. ولكن هذه الآية في الخصومة بين المستضعفين والمستكبرين.
قال: لا.. الآية أعم من ذلك.. ألم تسمع الأحاديث السابقة؟
قلت: بلى.. فلمن النصرة؟
قال: قد ورد في ذلك أثر عن ابن عباس لا ندري مدى صحته، يقول:( لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلائق حتى تختصم الروح والجسد، فيقول الجسد للروح: أنت الذي حركتني وأمرتني وصرفتني وإلا فأنا لم أكن أتحرك ولا أفعل بدونك فتقول الروح له: وأنت الذي أكلت وشربت وباشرت وتنعمت فأنت الذي تستحق العقوبة فيرسل الله سبحانه إليهما ملكا يحكم بينهما، فيقول: مثلكما مثل مقعد بصير وأعمى يمشي دخلا بستانا فقال المقعد للأعمى أنا أرى ما فيه من الثمار ولكن لا أستطيع القيام وقال الأعمى أنا أستطيع القيام ولكن لا أبصر شيئا فقال له المقعد تعال فاحملني فأنت تمشي وأنا أتناول فعلى من تكون العقوبة فيقول: عليهما قال: فكذلك أنتما)([5])
قلت: فهمت هذا ووعيته، فكيف أحصل البركة لأعضائي.. أو كيف أجعل خلاياي تحبني، فلا تخاصمني في الدنيا، ولا تشهد علي في الآخرة؟
قال: ذلك شيء يسير.. أعطها ما تتمنى وما تحب.
قلت: ما بك.. كيف أعطيها ما تتمنى.. أتريد مني أن أهيم في أودية الأماني؟
قال: جوارحك تحب عبادة الله والسجود مع كل الأشياء لله، ألم تسمع قوله تعالى:{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران:83)، فقد أخبر تعالى عن إسلام كل شيء لله.
وأخبر عن سجود كل شيء لله، فقال:{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}(النحل:49)
بل إن في القرآن الكريم إشارة تكاد تكون صريحة لسجود جوراح الكفرة لله، فقد قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}(الحج:18)
قلت: فهي تسجد.. فلماذا تكون بركتها في إعطائها ما تتمنى من السجود؟
قال: هي تحب السجود الاختياري، وتباركه.
قلت: فكيف أسجد بها هذا السجود؟
قال: بسجودك تسجد.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( لا تبسط ذراعيك وادعم على راحتيك، وتجاف عن ضبعيك، فإنك إذا فعلت ذلك سجد لك كل عضو منك معك)([6])
قلت: بلى.. وقد كان مما يدعو به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( سجد لك خيالي وسوادي وآمن بك فؤادي، فهذه يدي وما جنيت بها على نفسي يا عظيم يرجى لكل عظيم اغفر لي الذنب العظيم)([7])
قال: وكان علي يقول إذا ركع:( اللهم لك خشعت ولك ركعت ولك أسلمت وبك آمنت وأنت ربي وعليك توكلت، خشع لك سمعي وبصري ولحمي ودمي ومخي وعظامي وعصبي وشعري وبشري سبحان الله سبحان الله سبحان الله، فإذا قال: سمع الله لمن حمده قال: اللهم ربنا لك الحمد، فإذا سجد قال: اللهم لك سجدت ولك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت، وأنت ربي سجد لك سمعي وبصري ولحمي ودمي وعظامي وعصبي وشعري وبشري سبحان الله سبحان الله سبحان الله)([8])
قلت: وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه في سجود القرآن:( سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره)([9])
قلت: هذا غذاؤها، فما سمها؟
قال: الحرام.. أكل الحرام.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( أيما لحم نبت من حرام، فالنار أولى به)([10])؟
قلت: وعيت هذا.. فلم كان صلى الله عليه وآله وسلم يمرر كفه على جسده بعد القراءة؟
قال: ليوصل بركة ما قرأه إلى جسمه وجوارحه، وكأنه يطعمها ما تشتهي من الطعام، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يمسح بهما ما استطاع مِن جسده، ويبدأ بهما على رأسه ووجهه ماَ أقبل من جسده، يفعلُ ذلك ثلاث مرات، فإذا اشتكى كلف من يقوم بذلك.
قلت: فهمت هذا.. ولكني لا أزال أتعجب من مسحه صلى الله عليه وآله وسلم بيده اليمنى على المريض ثم دعائه له، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يمسح بيده اليمنى على المريض، ويقول:( اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشفه أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما)([11])، وكان يقول:( امسح البأس رب الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت)، وكان أحيانا يضع يده على جبهة المريض، ثم يمسح صدره وبطنه ويقول:( اللهم اشفه)وكان يمسح وجهه أيضا.
قال: هذا من أسرار بركات الجسد، فاليد التي تمسح على الجسد مصحوبة بالدعاء تنزل ببركاتها وما يصحبها من جنود الدعاء على الألم فترفعه.
قلت: هي كالمرهم إذن.
قال: إن صحبتها البركة، فهي خير من المرهم.. وإن لم تصحبها، فلا خير فيها.
قلت: أتعالجون باليد المباركة إذن؟
قال: إن ظفرت بيد مباركة، فلا تفرط فيها.
قلت: أأطلب منها أن تداوي جسدي؟
قال: إن استطعت، فاطلب منها أن تداوي روحك([12]).
قلت: وفي إمكانها ذلك..
قال: ألم تسمع حديث شيبة بن عُثمان الحَجَبى؟
قلت: بلى.. فقد حدث نفسه بقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عامُ الفتح، فقد قال يحدث نفسه: قلت: أسير مع قريش إلى هوازن بحنين، فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة، فأثار منه، فأكون أنا الذى قمت بثأر قريش كلها، وأقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا، ما تبعته أبدا، وكنت مرصدا لما خرجت له لا يزداد الأمر فى نفسى إلا قوة، فلما اختلط الناس، اقتحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بغلته، فأصلت السيف، فدنوت أريد ما أريد منه، ورفعت سيفى حتى كدت أشعره إياه، فرفع لى شواظ من نار كالبرق كاد يمحشنى، فوضعت يدى على بصرى خوفا عليه، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنادانى:( يا شيب؛ ادن منى)، فدنوت منه، فمسح صدرى، ثم قال:( اللهم أعذه من الشيطان).. قال: فوالله لهو كان ساعتئذ أحب إلى من سمعى، وبصرى، ونفسى، وأذهب الله ما كان فى نفسى، ثم قال:( ادن فقاتل)، فتقدمت أمامه أضـرب بسيفى، الله يعلم أنى أحب أن أقيه بنفسى كل شئ، ولو لقيت تلك الساعة أبى لو كان حيا لأوقعت به السيف، فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسـلمون، فكروا كرة رجل واحد، وقربت بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستوى عليها، وخرج فى أثرهم حتى تفرقوا فى كل وجه، ورجع إلى معسكره، فدخـل خباءه، فدخلت عليه، ما دخل عليه أحد غيرى حبا لرؤية وجهه، وسرورا به، فقال:( يا شيب؛ الذى أراد الله بك خير مما أردت لنفسك)، ثم حدثنى بكل ما أضمرت فى نفسى ما لم أكن أذكره لأحد قط، قال: فقلت: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، ثم قلت: استغفر لى. فقال:( غفر الله لك)([13])
قال: أرأيت أثر ذلك المسح المبارك؟
قلت: أليس ذلك خاصا به صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قال: هو خاص به صلى الله عليه وآله وسلم، وينتقل لورثته ببركة اتباعهم له..
قلت: فهل تذكر لي مثالا يقرب لي هذا المعنى، فإني أجد بصيرتي تميل إليه، ولكني لا أجد لمصورتي ما يقنعها.
قال: مصورتك تريد الصور.
قلت: أنت عرف ذلك.
قال: أرأيت لو وضعت قطع حديد صغير متناثرة، ثم وضعت فوقها مغناطيسا جذابا؟
قلت: إن قربته منها انجذب إليها، فإن ضعف قربه حركها وحولها إلى الاتجاه الذي أريد.
قال: فكذلك الروح الممغنطة بنور الذكر والورع تمر على الخلايا بجاذبيتها الإيمانية، فتحولها صفوفا منتظمة، ليس لها من دور غير خدمة صاحبها.
قلت: فلنتحدث عن برمجة النفس.. لقد زعمت بأن جسدي مستقل عني.. أتراك تزعم بأن نفسي مستقلة هي الأخرى؟
قال: هي كذلك مستقلة عنك.. ألم تسمع قوله تعالى:{ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}(يوسف:53)، فقد أخبر تعالى أن النفس تأمر صاحبها بالسوء.. وأمرها له يدل على مغايرتها له.
وقد أخبر تعالى في آية أخرى بأنها تلوم صاحبها، فقال تعالى:{ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}(القيامة:2)، ولومها له يدل على أنها تخالفه وتغايره.
قلت: فما النفس حتى أعرف مغايرتها لحقيقتي؟
قال: سرها ستعرفه في ( بنيان الله)
قلت: فعرفني الآن من أسرارها ما أفهم به مغايرتها لي.
قال: نفسك هي الجهاز الذي يخدم وجودك على هذه الأرض.
قلت: أليس الجهاز الذي يخدم وجودي على الأرض هو جسدي؟
قال: لا.. جسدك هو مركبك الذي تركبه.
قلت: ونفسي؟
قال: هي جهاز تزويده بما يحتاجه لينطلق.. فهل يمكن لسيارتك أن تسير بلا وقود؟
قلت: لا.. لا يمكن ذلك.
قال: فالنفس هي التي تخبرك عن حاجتك للوقود، وتدلك عليها.. وهي التي تملأ فمك منها.
قلت: لم أفهم هذا.
قال: لقد خلق الله لجسدك حاجات كثيرة، ولا يتولى هذه الحاجات إلا النفس.
قلت: فكيف تتولاها؟
قال: بأخلاق طبعت عليها تسمونها الغرائز.
قلت: تقصد الشهوة والغضب والشح والحرص والأنانية وغيرها.
قال: أجل.. فقد أخبر تعالى أنه طبع النفس يهذه الأخلاق، فقال:{ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ } (النساء:128)
قلت: فلم طبعت عليها.. ولم لم تطهر منها؟
قال: لن يستقيم وجود الإنسان على هذه الأرض من دونها.
قلت: فلم نسمع الأمر بقهر النفس وعدم تلبية طلباتها؟.. ألم يقل الله تعالى:{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(النازعـات:40 ـ 41)؟
قال: بلى.. ولكن الله تعالى نهى عن إعطاء النفس هواها، ولم يأمر بقهرها.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لو أمر بقهرها، وقتل شهواتها، ودفن غرائزها ما قال:{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الزخرف:71)، فقد أخبر تعالى أنه يعطي لأهل الجنة ما تشتهيه أنفسهم من الملذات، وهذا يعني أنهم لم يقتلوها.
قلت: فما معنى النهي عن إعطاء النفس هواها؟
قال: لقد خلق الله تعالى في النفس الحرص على بقاء الإنسان سليما معافي في الأرض، ليسقيم بقاؤه، فهي لذلك قد تغفل عن غير هذه الوظيفة، فلا ترى إلا صاحبها، فتجتهد ـ على حسب علمها البسيط ـ في حفظه، ولكنها قد تخطئ، فتتيه في أودية الأماني.
قلت: وما مثل ذلك حتى أفهمه؟
قال: مثل أم حنون حريصة على ولدها.. ولكنها لغفلتها وغبائها تظل تطعمه إلى أن يصاب بالتخمة خوفا عليه من الجوع، وقد تمنعه من مصالحه خوفا عليه من الألم.
قلت: فهذه الأم هي النفس.
قال: أجل.. فهي تبحث عن الأماني متصورة أن الكمال فيها، فتحجب صاحبها عن بركات الكون.
قلت: فهي حجاب من حجب البركة؟
قال: وهي محال من محالها.
قلت: كيف يستقيم ذلك؟
قال: كل محل من المحلات إذا وجه لغير وجهته أو انحرف به صاحبه عن غايته يصير حجابا من الحجب.
قلت: فكيف تصير النفس محلا لاستقبال البركات؟
قال: بأربعة.
قلت: أعلم أنها أربعة.. فليس هناك غير أربعة.. فما هي؟
قال: الطمأنينة، والاعتدال، والتوازن، والسلام.
قلت: فحدثني عن الطمأنينة.
قال: هي التي قال الله تعالى فيها:{ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر:27 ـ 30)
قلت: فما الطمأنينة؟
قال: هي السكون العظيم الذي يملأ أرض الجسد راحة، وجهاز النفس سلاما.
قلت: أريد لغة صريحة.. فلا أفهم مثل هذه الألغاز.
قال: عندما يكون البحر هائجا قد تغرق السفن التي يقلها، وعندما تزلزل الأرض تنحدر الأحياء في الأخاديد التي تحفرها الزلازل.
قلت: لم تزدني إلا غموضا.
قال: الأرض المطمئنة هي الأرض التي يصلح فيها كل نبات، ويخضر فيها كل زرع.
قلت: بدأت أفهم.
قال: أليس الإنسان ترابا كالتراب؟
قلت: بلى.. فقد نص القرآن الكريم على ذلك.
قال: فالتراب لا يكون صالح نافعا مباركا إلا إذا كان هادئا مطمئنا لترقد فيه البذور، ثم تنبت كل أنواع الزهور.
قلت: أهكذا النفس؟
قال: أجل.. النفس الهادئة المطمئنة نفس مستقرة لا تزعزعها رياح الغضب، ولا أعاصير الجشع، ولا عواصف الأنا الكاذبة.
قلت: فهذه النفس مستعدة للبركة.
قال: أجل.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس وحسن أكله بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس وسوء أكله لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول)([14])؟
قلت: لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث أن لسخاوة النفس وسماحتها تأثيرا في حصول البركة.
قال: وأخبر أن للحرص والشح تأثير في سلبها.
قلت: فما تأثير سلبها؟
قال: عدم انتفاع الإنسان بما يأكله، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع)، وقد ورد في حديث آخر:(إن هذا المال خضرة حلوة، ومن سأل الناس أعطوه، والسائل منه كالآكل ولا يشبع)
قلت: فما معنى ذلك؟
قال: معناه عدم انتفاع الإنسان به.. فهو يتصور النقص في الأشياء.. ولكن سلوكه ونفسه هي التي ملأت هذه الأشياء فسادا.
قلت: ولكنا نرى أمثال هؤلاء كالفيلة ضخامة، وكالأحصنة قوة.
قال: أولا ترى عقولهم كعقول العصافير، وأرواحهم كالمستنقعات والمزابل!؟
قلت: بلى..
قال: فما فائدة جسم يسمن لتلتهمه النار؟.. وما فائدة قوة تخفي أعظم ضعف؟
قلت: صدقت.. فما مثال هذه النفس المملوءة حرصا؟
قال: مثال الكلب.
قلت: الكلب!؟
قال: أجل.. فهي في اندافعها وهيجانها ولهثها لا تختلف عن الكلب.. فلذلك لا تجد البركة ـ إن أرادت النزول ـ محلا تنزل عليه، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(لأعراف:176)
قلت: بلى.. فهذه الآية فيمن انسلخ من العلم.
قال: وهي فيمن اتبع هواه، فهو يلهث وراء السراب، وهو لا يعلم أنه ترك ما يبحث عنه خلف ظهره.. أتدري ما مثله في ذلك؟
قلت: مثل العير في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
قلت: فما الاعتدال؟
قال: هو أن لا تأخذ من الأشياء إلا ما تحتاجه منها.
قلت: ولكن الله تعالى سخر لنا كل شيء.. فكيف تأمرني بأن لا آخذ إلا ما أحتاجه؟
قال: إن أخذت ما لا تحتاجه منعت غيرك ما يحتاجه.. وإذا منعت غيرك ما يحتاجه أصبت بالمحق.. فتأكل، ولا تشبع.. وتلبس، ولكن تظل عاريا.. وتسكن.. ولكن الرياح السبعة تظل تعصف على جدرانك.
قلت: ولكن الله خلق كل شيء بكرم عظيم.. فنحن نحتاج إلى لقيمات، ولكن الله خلق لنا مخازن من الكرم لا حدود لها.. ونحن نحتاج إلى قطرات من الماء، ولكن الله خلق لنا بحارا وأنهارا ومحيطات.
قال: ولكنه أمرنا مع ذلك بالاعتدال.. ألم تسمع ما روي في الحديث: مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برجل يتوضأ يغرف الماء في وضوئه فقال: يا عبد الله لا تسرف فقال: يا نبي الله وفي الوضوء إسراف؟ قال: نعم.
ألم تسمع قبل ذلك قوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(الأنعام:141)، فقد عدد الله نعمه وفضله على خلقه، ثم ختم كل ذلك بالنهي عن الإسراف، وأخبر عن بغضه للمسرفين.
قلت: لقد سمعت عن مضار الإسراف كثيرا، ولكني أتساءل عن علاقته بالبركة.
قال: البركة لا تكون إلا بالاعتدال.. فالمسرف لا ينال إلا المحق.
قلت: لم؟
قال: لأنه برمج نفسه على أنه مهما أكل فلن يشبع.. فلذلك يظل يأكل، ولا ينتفع بأكله إلى أن يموت بالتخمة.
قلت: ولكن لم يحرم بركة أكله؟
قال: لأنه أسرف إسرافا منع جسده من الانتفاع بنعم الله.
قلت: اضرب لي على ذلك مثالا.
قال: أرأيت لو أن عمالا كلفوا من الأعمال ما لا يطيقون..؟
قلت: في أي نظام.. نظم السخرة.. أم نظم الحرية؟
قال: في نظم الحرية.
قلت: سيضرب العمال.. وسيتعطل الإنتاج.
قال: فهكذا عمال الجسد.. سيضربون وينددون بكل صنوف التنديد إن كلفهم صاحب العمل الذي هو النفس بما لا يطيقون.
قلت: فسر لي ذلك.
قال: أرأيت من طبق قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ما ملا آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فان كان لا محالة ثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)([15]).. فالتزم به.. أتراه يتعب جهازه الهضمي!؟
قلت: كلا.. فإن معدته ستجد الجو المناسب الذي ييسر لها هضم الطعام بكل حرية.
قال: وهل يمتص الجسم بركات الأغذية؟
قلت: أجل.. يمتصها بشغف وشوق.. ففرق كبير بين أن تأكل وأنت جائع وجسمك محتاج، وبين أن تأكل وأنت متخم لا تريد إلا إرهاق جسدك.
قلت: لقد ذكرتني بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:( زر غبا تزدد حبا)([16])
ابتسم، وقال: أجل.. ونعم ما استشهدت به.
قلت: فما التوازن؟
قال: هو انسجام النفس مع نفسها ومع الكون ومع الله.
قلت: فكيف تنسجم؟
قال: بالتوازان.
قلت: أعرف الاسم.. ولكني لا أعرف المسمى، أو لا أعرف كيف أنال بركاته.
قال: أرأيت التاجر الذي يطفف في الميزان، فيأكل حق غيره.. هل ينال بركة تجارته؟
قلت: كلا.. فقد توعده الله تعالى بالويل، فقال:{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}(المطففين:1)
قال: فمن المطففون؟
قلت:{ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين:2 ـ 3)
قال: وهل مع الويل بركة؟
قلت: لا.. فالويل فيروس يظل يلاحق صاحبه إلى أن يلقيه في هاوية المحق.
قال: فقد فهمت إذن.
قلت: لقد فهمت التطفيف في الميزان.. ولكني لم أفهم التطفيف في الحياة.
قال: ما حياتك إلا ميزان من الموازين.
قلت: كيف ذلك؟
قال: ألا يوزن الناس يوم القيامة في الموازين؟
قلت: بلى.. وقد قال تعالى:{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}(الانبياء:47).. وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن صاحب العمل يوزن، فقال:( يُؤتَى يوم القيامة بالرجل السَّمِين، فلا يَزِن عند الله جَنَاح بَعُوضَة)([17]) ثم قرأ:{ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}(الكهف:105)
وقد ورد في مناقب عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:( أتعجبون من دِقَّة ساقَيْهِ، فوالذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أُحُدٍ)([18])
قال: فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الرجل يوزن.
قلت: كما أخبر في نصوص أخرى أن الأعمال توزن، وأن الكتب توزن([19]).
قال: فهل الحكيم هو الذي نزن نفسه قبل أن يوزن.. أم الحكيم من يترك نفسه لهواها.. فلا يزنها بموازين الحكمة؟
قلت: بل الحكيم من يزن نفسه قبل أن يوزن.. ويكفي في ذلك أن يدمن على العمل الصالح.
قال: لا يكفي العمل الصالح.
قلت: ماذا تقول؟ إن لم يكف العمل الصالح.. فما يكفي؟
قال: وزن العمل الصالح.
قلت: العمل الصالح سيوزن عند الله، وسيلد حسنات كثيرة، فما الحاجة إلى وزنه في الدنيا؟
قال: العمل الصالح أنواع.. فلذلك تحتاج إلى الموازين التي تضبطه.. فيتوجه الوجهة الصحيحة المباركة.
قلت: لا يزال ذهني كليلا عن فهم هذا.
قال: أخبرني عن الملح.. هل هو طيب أم خبيث؟
قلت: بل طيب لا خبث فيه.. بل لا يصلح الطعام إلا به.
قال: أرأيت لو أتيت إلى قدر، فملأتها ملحا، أيمكنك أن تتناولها؟
قلت: حينذاك لا يصلح لها إلا القمامة.
قال: فقد كانت طيبة.
قلت: ولكن الملح أفسدها.
قال: ولكن الملح طيب.
قلت: هو طيب بمقدار محدد، فإن تجاوز المقدار أفسد.
قال: فكيف نعرف المقادير؟
قلت: النساء عندنا يعرفن ذلك بالفطرة.
قال: فمن لم تكن لها فطرة نقية؟
قلت: ننصحها بأن تتخذ ميزانا أو مكاييل تعرف بها مقادير الملح، وإلا فلن يأكل طعامها أحد.
قال: فقد فهمت ما أقصد إذن.
قلت: أتقصد أن يتخد كل واحد منا ميزانا يزن به أعماله؟
قال: أجل.. فالنفس قد تحن لبعض الأعمال الصالحة لهوى لها فيه.. فلا يبارك لها في العمل الصالح لتفريطها في غيره.
قلت: اضرب لي مثالا.
قال: أتعرف بشرا؟
قلت: هو فقيه من فقهاء السلوك إلى الله..
قال: أتعرف قصته مع الرجل الذي أرد الحج؟
قلت: أجل.. فقد روى أبو نصر التمار قال: إن رجلاً جاء يودع بشر بن الحارث وقال: قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء؟ فقال له: كم أعددت للنفقة؟ فقال: ألفي درهم. قال بشر: فأي شيء تبتغي بحجك؟ تزهداً أو اشتياقاً إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله؟ قال: ابتغاء مرضاة الله، قال: فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك؟ قال: نعم، قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس: مديون يقضي دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يغني عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تعطيها واحداً فافعل، فإن إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام، قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك؟ فقال: يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي، فتبسم بشر رحمه الله وأقبل عليه وقال له: المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطراً فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين.
قال: بورك فيك.. فقد رويت القصة بألفاظها.
قلت: وأروي أيضا عن عبد الله بن مسعود قوله:( في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب، يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الرزق ويرجعون محرومين مسلوبين، يهوى بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه)
قال: وبورك فيما ذكرت من حديث ابن مسعود، فقد كان فقيها في دين الله عليما بأسرار البركات.
قلت: أنا أروي الحديث.. ولكني لم أفهم علاقته بالبركة.. ثم علاقة كل ذلك بالصحة.
قال: الصحة شيء متكامل.. فلا صحة لجسد يحمل قلبا مريضا، ونفس تتلاعب بها الأهواء، وعقل تحمل عليه جيوش الظنون.
قلت: لم؟
قال: لأن البركات لا تتنزل على أمثال هؤلاء.. والبركة هي سر ابتسامة الأنين.. ألست أراك تبحث عن ابتسامة الأنين؟
قلت: أجل..
قال: فهذا سبيل من سبلها.
قلت: فكيف نقيد أعمالنا بالموازين التي تحفظها من موبقات الهوى.
قال: بأن تستن بسنة أعظم الخلق بركة.
قلت: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: من أراد العلم قصد العلماء.. ومن أراد البركة لا يقصد إلا المباركين.
قلت: فما علاقة السلام بالبركة؟
قال: البركات لا تتنزل إلا على النفوس المسالمة.
قلت: لم؟
قال: لأن النفوس المحاربة تستقبل البركات بالرماح والأسنة، فتحول بينها وبين النزول إلى أراضي النفوس.
قلت: وهل هناك من يشبع من البركة، فيحول بين نفسه وبينها؟
قال: أجل.. النفوس المحاربة المصارعة.
قلت: ولكن النفوس لا تحارب إلا من يحاربها.
قال: لا.. النفوس المحاربة تلتذ بحربها.. ولا ترى اللذة إلا في انتصارها وفي إسقاطها لخصومها.. فلذلك لا ترضى أن تستقبل البركات بالسلام.. بل تريد أن تقتنصها بالصراع.
قلت: فإن لم تجد من تحاربه؟.
قال: تصطنع عدوا تحاربه.. الصراع عندها كالغذاء والماء.. لا يمكنها أن تتخلى عنه.
قلت: ولكنها قد تنال بصراعها أشياء كثيرة..
قال: نعم يحصل ذلك.. ولكنه ممحوق البركة.. ألم تسمع بخزائن قارون؟
قلت: بلى.. فقد آتاه الله {مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} (القصص:76)
قال: ولكنه رفض أن ينسبها لله.. بل تصور أنه حصلها بجهده وعلمه وصراعه.
قلت: أجل.. وقد قال تعالى في ذلك على لسانه عندما نبهه قومه:{ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}(القصص:78)
قال: فقد رفض أن ينسب الأمر إلى أهله.
قلت: أجل.. وذلك شأن المصارعين.
قال: فهل بورك له في ماله؟
قلت: لا.. بل خسف الله به وبداره وبماله الأرض.
قال: وهكذا مصير كل مصارع.. فلن ينال من البركات إلا ما ناله قارون منها.
قلت: ولكنا لم نسمع برجل خسف به غير قارون.
قال: فاذهب إلى المقابر واسألها..
قلت: فلنتحدث عن برمجة العقل.. لقد زعمت بأن جسدي ونفسي مستقلان عني.. أتراك تزعم بأن عقلي مستقل هو الآخر؟
قال: عقلك تجل من جليات حقيقتك ومظهر من مظاهرها وطاقة من طاقاتتها.
قلت: فهو أنا.. وليس غيري.
قال: هو أنت إذا لم تستعمره النفس، ولم تقيده الأعراف، ولم تستعبده الأهواء.
قلت: فإن استعمر.
قال: يصير أعدى أعدائك.. ولن تنال منه إلا المحق.
قلت: كيف ذلك؟
قال: عقلك هو النافذة التي تطل بها على حقائق الوجود.. وهو النور الذي تتعرف به على واهب النور.. وهو العقال الذي ينظم نفسك لتنسجم مع الكون وتتخلق بأخلاق حقيقتها.. فإن كان كذلك كان لبا.. وكان بركة محضة.. ألم تسمع الله تعالى، وهو يثني كل الثناء على أولي الألباب؟
قلت: بلى.. فقد ورد فيهم قرآن كثير، فالله تعالى يقول:{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران:7)
قال: هذه الآية هي التي تدلك على بركات العقل.. وتنبئك على أسرار المحق.
قلت: فهي مفتاح البركة والمحق المرتباطان بالعقل.
قال: أجل.. فقد ذكر الله العقول الممحوقة، وهي العقول التي لا تتغذى إلا على المتشباهات التي تملؤها بالفتنة، وتبشرها بالجهل.. وذكر بجانبها العقول المباركة.. عقول الراسخين في العلم الذين لا ينحبجبون بالمتشباهات عن المحكمات.. ويتعرفون بكليهما على الحقائق.
قلت: فبركة العقل هي التغذي بغذاء المحكمات.
قال: من تغذى بغذاء المحكمات رزقه الله القوة على هضم المتشباهات.. بل جعل له من القوة ما يحول من المتشابه محكما.
قلت: ومن تغذى بالمتشابهات؟
قال: جعل الله في عقله من الغشاوة ما يجادل به المحكمات.. فلا تهضم في عقله، كما لا ينهضم الطعام الطيب في بطنه لإدمانه على الخبث.
قلت: فكيف نغذي عقولنا بالمحكمات؟
قال: إذا أدركنا وظيفة عقولنا.. وفهمنا سرها.. وتعرفنا على طاقاتها.
قلت: فما علاقة هذه المعارف بالبركة؟
قال: الجسد مرآة من المرائي التي قد تتعرف بها على الحقائق.. فلذلك سنستعير الأمثلة عنه.
قلت: ذلك سيبسط المسألة.
قال: أرأيت لو أن شخصا جهل ما يمكن لجهازه أن يهضمه.. فراح يطعمه السموم.
قلت: سيقتل نفسه لا محالة.
قال: فكذلك جهاز العقل الذي هو أمير النفس.. إذا غذي بغذاء المحكم هضم وقوى عقله ليهضم غذاء الشبهة.. ولكنه إن لم يغذه بالحكمة، سيقتله تناوله لغذاء الشبهة.
قلت: فسر لي ذلك بما يعمق هذه الحقيقة في نفسي.
قال: ألم تسمع ما قال الله تعالى في مثال البعوضة؟
قلت: بلى.. فقد قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}(البقرة:26)
قال: فالمؤمنون نظروا إلى هذا المثال من زاوية المحكم، فتعرفو به على الله، والكافرون نظروا إليه من زاوية المتشابه، فحجبوا به عن الحق، ومحقت بركة عقولهم.. ألم تسمع ما قال الله تعالى في تأثير التسعة عشر؟
قلت: بلى.. فقد قال تعالى:{ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}(المدثر:31)
قال: لقد اعتبر الله تعالى عدتهم فتنة للذين كفروا، ويقينا للذين أوتوا الكتاب، وزيادة إيمان للذين آمنوا.
قلت: بلى.. ذلك واضح.. فالغذاء واحد.. ولكن التأثير مختلف.
قال: المؤمنون غذوا إيمانهم بمحكم الإيمان بالله، فنالوا بركات العلوم.. ولكن الغافلين منعوا من هذه المعارف ببحثهم عن المتشابه، فصار الدواء في عقولهم داء، وصار الحق في أفواههم باطلا.
قلت: وعيت هذا.. فبركة العقل هي المحكمات.. فبها تتشرب المتشابهات.
قال: وبها تتغذى من كل حقائق الوجود.. ألم يقل الله تعالى:{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}(البقرة:269).. أتدري ما الحكمة؟
قلت: سمعت أن الحكمة هي الفهم عن الله.
قال: بأدوات أهل الله.
قلت: فما علاقة هذا بالصحة.. ألسنا في مستشفى السلام؟
قال: مستشفى السلام يعالج النفس بالعقل.. ويعالج الجسد بالنفس.
قلت: كيف ذلك؟
قال: يجعل للعقل الإمارة على النفس، ويجعل للنفس الإمارة على الجسد، كما يجعل للروح الأمارة على كل ذلك.
قلت: كيف يجعل الإمارة للعقل على النفس؟
قال: النفس قد تسترسل مع شهواتها، فتحتاج إلى أن تلجم بلجام العقل.. فالعقل هو العقال الذي تضبط به النفس..
قلت: اربط لي هذا بالصحة.
قال: لن يصعب عليك ربط كل ما ذكرناه بالصحة.. فالصحة كل متكامل.. وكل ما يؤثر في عقلك، يؤثر في جسدك ونفسك.. ولكني سأخاطبك بما يعي قومك.
قلت: أجل.. فهو أقرب لفهمي.
قال: أرأيت المدمن الذي خرب جسده بنيران شهوات الخمر والمخدرات لمن يسترسل في ذلك؟
قلت: لنفسه الأمارة بالسوء.
قال: ولماذا لا يحكم عقله.. فيتبصر خطر ما هو فيه.
قلت: عقله صار تحت زمام نفسه.. فهو يبحث ويخطط ليصل إلى ما تشتهيه نفسه.
قال: ولكن لماذا لا ينظر إلى الحقيقة؟
قلت: شبهات طغت على عقله.. فحالت بينه وبين فهم الحقائق المرتبطة بصحته.
قال: مثل ماذا؟
قلت: كثيرة هي.. ولعل أهمها انشغاله باللحظة.. فعقله وجودي لا يؤمن إلا بلذة الساعة.. ولسان حاله يقول ( النقد خير من النسيئة) أو ( درهم في الجيب خير من عشرة في الغيب)
قال: فقد منع عقله من غذاء المحكمات بتغذيته بغذاء المتشابهات..
قلت: فكيف يفلح هذا العقل؟
قال: بعودته إلى المحكمات.. فبالمحكمات يبارك في المتشابهات، وتصد الشبهات.
قلت: فهل نجلس كجلوسك هذا لنتغذى بالمحكمات؟
قال: ليس الشأن أن تجلس بجسدك.. ولكن الشأن أن يستقر عقلك في ميدان الفكرة.. فما نفع العقل شيء مثل رعيه في ميادين الحكمة.
قلت: فلنتحدث عن برمجة الروح.. فما هي الروح؟
قال:{ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الاسراء:85)
قلت: فكيف أبرمج ما لا أعلم؟
قال: ومن قال لك بأن الله تعالى لم يخبرنا عن الروح.. ألسنا سوى الروح؟ فكيف يتركنا الله أسارى جهلنا لذواتنا؟
قلت: ولكن الآية واضحة.. فالله يخبرنا بأن الروح من أمره.. وأنا لم نؤت من العلم إلا قليلا.
قال: ولم تعتقد أن الله تعالى لم يخبرنا عن الروح؟
قلت: لأنها من الأمور الغامضة التي لا يمكن للعقول الضعيفة معرفة شأنها.
قال: وهل الروح أعظم شأنا من الله؟
قلت: ما تقول؟.. لقد قف شعري مما قلت..
قال: لا تخف.. فأنا لم ألحد في قولي.. ولكني أتساءل.. فإن كان الله عرفنا بنفسه.. وهو أعظم شأنا.. واستطعنا أن ندرك من معرفة الله ما نعبده به.. فكيف لا يعرفنا بأرواحنا، أو كيف تزعم أن أرواحنا أعظم من أن نعرفها؟
قلت: ولكني لم أر في حياتي من وصف طول روحه أو عرضها أو لونها أو شكلها.
قال: من ابتغى أن يعرف الروح بهذه الأوصاف فقد غذى عقله بلبان المتشابهات.. ومن تغذى بلبان المتشابهات لم يدرك من الحقائق إلا ما يصرفه عن الحقائق.
قلت: فكيف أعرف الروح إن لم أعرفها بهذه الأوصاف؟
قال: كما تعرف الله تعرف روحك.. ألست تعرف الله بأسمائه وصفاته؟
قلت: بلى.. فلا يمكن إدراك الذات.
قال: فكذلك معرفتك لروحك.. تعرفها بأوصافها وطبائعها وخصائصها لتتعامل معها على أساس ذلك.. ولن تتنزل البركات إلا على من عرف سر روحه.
قلت: فأنبئني عن أسرراها.
قال: ستعرفه في بنيان الله..
قلت: ولكني أطلب البركات.. فهل أحرم من بركات روحي حتى أصل إلى ذلك المحل الرفيع؟
قال: لا.. يمكنك أن تعرف من أمور الروح ما يفيدك في تنزل البركات.
قلت: فما هو؟
قال: أن تعرف قبلة الروح.. فلبركات الروح قبلة واحدة، لن ينال البركات إلا من توجه لها.
قلت: فما هي قبلة الروح؟
قال: هي التي عبر عنها الله تعالى بقوله:{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة:115)
قلت: أراك تشير بها إلى شيء لا أفقهه.
قال: الآية واضحة في الدلالة عليه.. ومما يزيد في توضيحها قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور:39)
قلت: لم تفسر الغموض بالغموض؟
قال: لقد خلق الله عباده لمعرفته.
قلت: أفهم هذا.. فقد قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذريات:56)
قال: فالأرواح في أصل خلقتها تتوجه إلى الله.. ولا تجد لذتها إلا في ذلك.
قلت: أجل.. ولكنها تحيد عنها بتلبسها بالشهوات والأهواء.
قال: فهي في تلبسها بذلك تطلب الماء في السراب..
قلت: ما تقصد بذلك؟
قال: هي تطلب الله.. ولكنها تتيه عنه باللذات.. فلذلك تتوجه كل الوجهات تبحث عن الله.. فتتيه عنه بأخطاء النفس والعقل.
قلت: أيمكن أن تقع الروح أسيرة العقل والنفس؟
قال: أرواح الأولياء والأصفياء ملوك على العقول والنفوس.. أما أرواح غيرهم فأسيرة في أيدي النفوس والعقول.
قلت: فكيف تتنزل البركات على الروح؟
قال: بتوجهها إلى الله واستمدادها منه وتلذذها بمعرفته.
قلت: فما علاقة ذلك بالصحة.
قال: أصحة الإنسان، أم صحة أعضاء الإنسان؟
قلت: صحة الإنسان.
قال: لن تستقيم صحة الإنسان إلا بصحة الروح.
قلت: فمن تدنست روحه بأدناس الأغيار..!؟
قال: يظل مريضا، ولو عولج بعقاقير العالم.
قلت: ولكنا نراه بعافية يحسده عليها الصالحون.
قال: قلوب الصالحين لا تعرف الحسد.
قلت: أنا لا أريد حسدهم.. ولكني أريد المقارنة بين صحة الغافلين وصحة العارفين.
قال: أرأيت لو أن شخصا أصابه جرح في جسده، وبجانبه شخص أصابه جرح في قلبه.. فأيهما أكثر عافية، وأيهما أكثر ألما.
قلت: مريض القلب أكثر مرضا.. أما جرح اليد فسرعان ما يندمل.
قال: فلذلك ذكرت لك أن قلوب الصالحين لا تعرف الحسد.. لأنهم لا ينظرون إلى عافية الأجساد، بل ينظرون إلى عافية الأرواح.. ومن عافاه الله في روحه لا يضره أن يتضرر جسده.. بل إن من كملت روحه يداوي جسده بروحه.
قلت: أيمكن ذلك؟
قال: نعم.. فمراهم الروح لا تقف بجنبها المراهم.
قلت: أيمكن أن نعالج الأدواء الخطيرة بالروح؟
قال: بالروح
المطعمة بلبان البركة يمكنك أن تفعل كل شيء ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(
قال الله تعالى ما تقرب إلى عبدى بمثل اداء فرائضي وإنه ليتقرب إلى بالنوافل حتى
احبه فإذا أحببته كنت رجله التى يمشى بها ويده التى يبطش بها ولسانه الذى ينطق به
وقلبه الذى يعقل به إن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته)([20])
([1]) البخاري.
([2]) ابن أبي حاتم ورواه مسلم والنسائي بنحوه.
([3]) مسلم وأبو داود.
([4]) ابن أبي حاتم ورواه مسلم والنسائي بنحوه.
([5]) ابن منده، انظر: ابن كثير: 4/54.
([6]) الحاكم.
([7]) رواه أبو يعلى.
([8]) عبد الرزاق في المصنف.
([9]) الترمذي وقال: حسن صحيح.
([10]) أحمد.
([11]) أحمد وأبو د اود وغيرهما.
([12]) من الأحاديث الواردة في السمح باليد: قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إذا اشتكى أحدكم فليضع يده حيث يجد ألمه ثم ليقل: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر سبعا » مسلم.
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« امسحه بيمينك وقل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد سبع مرات » الترمذي.
وعن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن فقلت: يا رسول الله! بعثتني إلى قوم هم أسن مني وأنا حدث لا أبصر القضاء، فوضع يده على صدري وقال: اللهم! ثبت لسانه واهد قلبه، يا علي! إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء، فما أشكل علي قضاء بعد » الحاكم وابن سعد، وأحمد والعدني، وأبو داود والترمذي، وقال: حسن.
([13]) ابن سعد.
([14]) البخاري.
([15]) أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم.
([16]) البزار، والطبراني في الأوسط والبيهقي.
([17]) البخاري.
([18]) أحمد.
([19]) كما جاء في حديث البطاقة، في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كِفَّة تسعة وتسعون سجلا كل سِجِلّ مَدّ البصر، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها:« لا إله إلا الله » فيقول: يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى: إنك لا تُظلَم. فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “فَطاشَت السجلات، وثَقُلَتِ البطاقة » رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه.
([20]) ابن السنى في الطب عن سمويه.