ثانيا ـ الواعظ

قلت: فحدثني عن رحلتك الثانية.
قال: في رحلتي الثانية.. سرت إلى الطائف.. إلى تلك البلدة التي تشرفت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليها، وهو يحمل أعظم رسالة في الأرض.. بل أعظم رسالة في الكون جميعا.. رسالة التعريف بالله، والدعوة إلى عبادته.
كنت قبل ذلك قد تشرفت بأداء عمرة في مكة المكرمة، ثم منها سرت إلى الطائف، وقد حاولت أن أنهج نفس الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رحلته إليها، لأستشعر الجهد العظيم الذي ناله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يؤدي رسالة ربه.. فنالني من الجهد في تلك الطريق ما لم ينلني في حياتي جميعا.
في الطائف شد انتباهي رجل كانت سيما الدعاة إلى الله تتجلى على جبينه ولسانه وجميع حركاته، وكأنه يعد حركاته عدا، فلا يتحرك حركة إلا وخلط فيها من الدعوة إلى الله ما يملأك بالعجب..
سأقص عليك القصة من البداية:
كان أول ما ظهر لي عند زيارتي للطائف أن أزور مقبرتها، فليس هناك واعظ يمسح الجفاء عن القلوب مثل المقابر..
في المقبرة رأيت صاحبي الذي أرشدني إليه معلم الهداية، والذي كان الناس يطلقون عليه (الأمير)([1]) ينشد مخاطبا نفسه بأبيات الحريري المعروفة، والتي ضمنها مقامته الساوية:
أيا من
يدعي الفهم |
الى كم يا أخا الوهم | |
تعبي الذنب
والذم |
وتخطي
الخطأ الجم | |
أما بان لك
العيب |
أما أنذرك
الشيب | |
وما في
نصحه ريب |
ولا سمعك
قد صم | |
أما نادى
بك الموت |
أما أسمعك
الصوت | |
أما تخشى
من الفوت |
فتحتاط
وتهتم | |
فكم تسدر
في السهو |
وتختال من
الزهو | |
وتنصب الى
اللهو |
كأن الموت
ما عم | |
وحتام
تجافيك |
وإبطاء
تلافيك | |
طباعا جمعت
فيك |
عيوبا
شملها انضم | |
إذا أسخطت
مولاك |
فما تقلق
من ذاك | |
وإن أخفق
مسعاك |
تلظيت من
الهم | |
وإن لاح لك
النقش |
من الأصفر تهتش | |
وإن مر بك
النعش |
تغاممت ولا
غم | |
تعاصي
الناصح البر |
وتعتاص
وتزور | |
وتنقاد لمن
غر |
ومن مان
ومن نم | |
وتسعى في
هوى النفس |
وتحتال على
الفلس | |
وتنسى ظلمة
الرمس |
ولا تذكر
ما ثم | |
ولو لاحظك
الحظ |
لما طاح بك
اللحظ | |
ولا كنت
إذا الوعظ |
جلا
الأحزان تغتم | |
ستذري الدم
لا الدمع |
إذا عاينت
لا جمع | |
يقي في
عرصة الجمع |
ولا خال
ولا عم | |
كأني بك
تنحط |
الى اللحد
وتنغط | |
وقد أسلمك
الرهط |
الى أضيق
من سم | |
هناك الجسم
ممدود |
ليستأكله
الدود | |
الى أن
ينخر العود |
ويمسي
العظم قد رم | |
ومن بعد
فلا بد |
من العرض إذا
اعتد | |
صراط جسره
مد |
على النار
لمن أم | |
فكم من
مرشد ضل |
ومن ذي عزة
ذل | |
وكم من
عالم زل |
وقال الخطب
قد طم | |
فبادر أيها
الغمر |
لما يحلو
به المر | |
فقد كاد
يهي العمر |
وما أقلعت
عن ذم | |
ولا تركن
الى الدهر |
وإن لان
وإن سر | |
فتلفى كمن
اغتر |
بأفعى تنفث
السم | |
وخفض من
تراقيك |
فإن الموت
لاقيك | |
وسار في
تراقيك |
وما ينكل
إن هم | |
وجانب صعر
الخد |
إذا ساعدك
الجد | |
وزم اللفظ
إن ند |
فما أسعد
من زم | |
ونفس عن
أخي البث |
وصدقه إذا
نث | |
ورم العمل
الرث |
فقد أفلح
من رم | |
ورش من
ريشه انحص |
بما عم وما
خص | |
ولا تأس على
النقص |
ولا تحرص
على اللم | |
وعاد الخلق
الرذل |
وعود كفك
البذل | |
ولا تستمع
العذل |
ونزهها عن
الضم | |
وزود نفسك
الخير |
ودع ما
يعقب الضير | |
وهيئ مركب
السير |
وخف من لجة
اليم |
كان ينشد هذه الأبيات بلحن عذب، زاد في عذوبته امتزاجه بحشرجة الدموع.. وقد أسال من دموعي بإنشاده وخشوعه ما غسل بعض القسوة من قلبي.
بعد أن انتهى من إنشاده خرج من المقبرة، فسرت خلفه من غير أن يشعر بي..
كان أول ما صادفنا بعد المقبرة رجل يعرض سلعة في مدخل السوق، ما إن رأى (الأمير) حتى أقبل مسرعا إليه، وقال: يا طبيب القلوب.. جد لي بموعظة تلين ما قسا من قلبي.
نظر إليه (الأمير) نظرة ممتلئة بالرحمة، وقال: (يا ابن آدم إنما تغدو في كسب الأرباح، فاجعل نفسك فيما تكسبه، فإنك لم تكسب مثلها)([2])
عاد الرجل إلى محله، وقد امتلأ عزيمة وإرادة.. وكأنه في ذلك الموقف البسيط قد شحن قلبه بما يعيد له الحياة.
سرت خلفه.. فلقيه رجل آخر، وطلب منه ما طلب الأول، فقال (الأمير):(من امتطى الصبر قوي على العبادة، ومن أجمع اليأس استغنى عن الناس، ومن أهمته نفسه لم يول مرمتها غيره، ومن أحب الخير وفق له، ومن كره الشر جنبه، ومن رضي الدنيا من الآخرة حظا فقد أخطأ حظ نفسه)
لقيه بعد ذلك رجل يظهر من مظهره أنه صاحب وظيفة دينية في تلك البلدة، فأسرع إليه (الأمير)، وقال: أخي.. أنت مثل نفسي.. فاسمح لي أن أخاطبك بما أخاطب به نفسي.
قال الرجل: قل ما بدا لك.. فلطالما أحييت قلوبنا الميتة، وأسلت عيوننا الجافة.
قال (الأمير):(أوصيك ـ أخي ـ بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك، فاجعله من بالك على حالك، وخفه بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك، واعلم أن الذنب من العاقل أعظم من الأحمق، ومن العالم أعظم من الجاهل، وقد أصبحنا أدلاء بزعمنا والدليل لا ينام في البحر)
ثم سكت قليلا، وقال: لقد كان المسيح u يقصدنا حين قال:(حتى متى تصفون الطريق للدالجين وأنتم مقيمون في محلة المتحيرين؟ تصفون البعوض من شرابكم وتسترطون الجمال بأجمالها) أي أخي كم من مذكر بالله ناس لله، وكم من مخوف بالله جريء على الله وكم من داع إلى الله فار من الله. وكم تال لكتاب الله منسلخ من آيات الله)
قال ذلك، ثم انصرف تاركا الرجل لدموعه.. سرت خلفه، فرأيته قصد جمعا يبدو أن الخلاف دب بين بعضهم، فما إن رأوه حتى فتحوا له الطريق، فقال:(إن استطعتم أن تكونوا كرجل ذاق الموت وعاش ما بعده، فسأل الرجعة، فأسعف بطلبه، وأعطي حاجته فهو متأهب مبادر، فافعلوا، فإن المغبون من لم يقدم من ماله شيئا ومن نفسه لنفسه)
قال ذلك، ثم انصرف عنهم، وقد عالج ما حل بهم من غير خطبة ولا قضاء.
سرت خلفه، فلقيه رجل في موكب كمواكب الملوك والأمراء.. فلما رآه (الأمير) أسرع، وكأنه يفر بنفسه، فأسرع خلفه بعض من كان في ذلك الموكب، وقال له: إن الأمير يطلبك..
قال (الأمير): وما يريد من فقير مثلي؟
قال: يريد أن تلين من قلبه ما قسا، وتسيل من دموعه ما جف.
ذهب (الأمير) معه، وحدثه، ولم أسمع من حديثه إلا قوله له:(يا أمير المؤمنين إن لك بين يدي الله تعالى مقاما وإن لك من مقامك منصرفا، فانظر إلى أين منصرفك، إلى الجنة أم إلى النار؟)
قال له: زدني
فقال: إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخا، وأصغرهم عندك ولدا، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك.
بكى الأمير بكاء شديدا، حتى قال بعض رفقاء الأمير مخاطبا (الأمير):(ارفق بأمير المؤمنين) فقال:(يا فلان.. تقتله أنت وأصحابك وارفق به أنا)
فقال الأمير: لا تسمع إليه.. زدني رحمك الله.
قال (الأمير): يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار، فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:(من اصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة)([3])
فبكى الأمير، وقال له: عليك دين.
قال (الأمير): نعم، دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي.
قال الأمير: إنما أعني دين العباد.
قال (الأمير): إن ربي لم يأمرني بهذا، أمر ربي أن أوحده وأطيع أمره، فقال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذريات:56 ـ 58)
قال الأمير: هذه ألف دينار، خذها، فأنفقها على عيالك، وتقو بها على عبادتك.
قال (الأمير): سبحان الله، أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك.
قال (الأمير) هذا، ثم انصرف تاركا الأمير لدموعه..
ظللت طيلة النهار أسير خلف (الأمير) من غير أن يشعر بي، وقد رأيته لا يترك أحدا إلا وعظه ودعاه.
بعد أن رأيت كل ذلك اقتربت منه، وقلت: لكأني بك أحد الذين أبحث عنهم.
نظر إلي، وقال: إن كنت تبحث عن الذي يسيل ما جف من الدموع، ويلين ما قسا من القلوب([4])، فقد ظفرت بحاجتك، وأنا ذلك الرجل.
قلت: ففمك هو الفم الثاني.
قال: إن كان الفم الثاني هو فم الواعظ، ففمي هو فم ذلك الفم.
قلت: فهل تأذن لي في صحبتك لأتعلم على يديك من فنون الهداية ما يجعلني وارثا من ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: ذلك لك لا لي.. فما كان لي أن أرد من قصدني.
قلت: كيف يكون ذلك لي، وأنا الذي أضع نفسي بين يديك لتعلمني مما علمك الله؟
قال: إن تحليت بحلة أهل العلم، وتأدبت بآداب أهل الورع، كنت صالحا لتلقي هذه العلوم، وإلا فإن في هذه العلوم فتنة، فلا تكفر.
قلت: فتنة.. أي فتنة؟.. هل الدعوة إلى الله فتنة؟
قال: ليست الدعوة إلى الله هي الفتنة.. ولكن الفتنة قد تعرض للداعية إلى الله بما يراه من إقبال الناس عليه، فيتخذهم إلها من دون الله.
قلت: فما المخرج من ذلك؟
قال: أن لا تدعو إلا نفسك، وأن لا تعظ إلا نفسك.
قلت: إنما قصدتك ليجعل الله مني نورا من أنوار الهداية، فكيف أكتفي بنفسي؟
قال: إذا وعظت غيرك، فكن في موعظتك لغيرك واعظا لنفسك، فلا خير فيمن يعظ ولا يوعظ.
قلت: أكل ما سمعته منك كان مواعظ لنفسك؟
قال: أجل.. ولولا ذلك ما خشعت القلوب، ولا سالت الدموع؟.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا إلى ذلك: (أوحى الله إلى عيسى ابن مريم: عظ نفسك بحكمتي، فان انتفعت فعظ الناس، وإلا فاستحي مني)([5])
***
لم أصحب هذا الرجل الفاضل إلا أربعة أيام فقط.. ولكنها كانت ـ بالنسبة لثمراتها وعلومها ـ كأربعة أعوام.. لقد كانت ـ كما قال ابن عطاء الله في حكمه ـ:(رب عمر اتسعت آماده وقلت أمداده، ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده)
في مساء اليوم الأول سرت معه إلى مجلس من المجالس، وكان ذلك المجلس مكتظا بالحضور، وكلهم شوق ولهفة لسماعه.
صعد (الأمير) منصة متواضعة، وقال: سلوني.. ولا تسألوني إلا ما ينفعكم..
قام رجل تبدو عليه آثار النعمة، وقال: أصدقك القول.. أنا رجل من أثرياء هذه المدينة.. وهم في سائر المناطق ـ ماعدا هذه المدينة ـ يسمونني (رجل أعمال).. وأنا ألقى الاحترام حيث حللت.. ولكني في هذه المدينة لا أجد من الاحترام ما أجد في تلك المناطق.
نظر إليه (الأمير)، وقال: ما حاجتك؟
قال الرجل: أريد منك أن تعظ هؤلاء في هذا.. ألم يأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإنزال الناس منازلهم؟.. فأريد منك أن تعظهم في هذا.
قال (الأمير): أهذه هي حاجتك؟
قال الرجل: أجل.. هذه أول مرة أحضر مجلسك هذا.. وقد علمت مدى تأثيرك.. فلذا طلبت منك ما طلبت.. ولك عندي من الجزاء بعدها ما تريد.
قال (الأمير): فاسمع مني هذه القصة التي رواها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته.. واعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يروها لنا لنتسلى، وإنما رواها لنتأدب ونتعظ.
قال الرجل: هات نسمع.. فما أحلى القصص.. أنا أسافر من أجل القصص المسافات الطويلة.. وأصرف الأموال الكثيرة.
قال (الأمير): لقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ثلاثةً من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، أراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص فقال: أي شيءٍ أحب إليك؟ قال: لونٌ حسنٌ، وجلدٌ حسنٌ، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس؛ فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لوناً حسناً. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، فأعطي ناقةً عشراء، فقال: بارك الله لك فيها.
فأتى الأقرع فقال: أي شيءٍ أحب إليك؟ قال: شعرٌ حسنٌ، ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس: فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعراً حسناً. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرةً حاملاً، وقال: بارك الله لك فيها.
فأتى الأعمى فقال: أي شيءٍ أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأبصر الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاةً والداً.
فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم.
ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكينٌ قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيراً أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرةٌ. فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيراً، فأعطاك الله !؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكينٌ وابن سبيلٍ انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاةً أتبلغ بها في سفري؟ فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيءٍ أخذته لله عز وجل. فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك([6]).
صاح الرجل: حسبك.. حسبك.. والله لكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث عني.. لقد كنت فقيرا، فأغناني الله.. وكنت مبتلى فعافاني الله.. وأنا أعوذ بالله من أن أسقط في الاختبار.. وإني أشهدك وأشهد هذا الجمع المبارك أن بابي مفتوح لمن يريد، وأناشد كل من رددته أو صددت دونه بابي أن يأتي إلي ليأخذ ما يريد، ويدع ما يريد.
قام آخر، وقال: أنا تاجر.. والتاجر ـ كما تعلم ـ يتعامل مع أموال الناس.. وأنا ـ أحيانا ـ يأتيني الرجل بسلعة من سلعه لأبيعها له.. ثم يغيب عني، فلا أراه.
قال (الأمير): فما تفعل في المال الذي تستفيده منها؟
قال الرجل: أنتفع به.. ليس لي إلا ذلك.. لقد ذكرت لك أن الرجل يضع سلعته عندي، ثم لا أراه بعدها.
قال (الأمير): اصدقني.. هل تسر لمجيئه إن جاء؟
قال الرجل: لولا أني في هذا المجلس، وأمامك، ما صدقتك.. أنا لا أسر لمجيئه، بل أحيانا أدعو الله أن يضل عن محلي، فلا يراه ولا يدله أحد عليه.. وأحسب أن كل إنسان في محلي يتخذ نفس الموقف.
قال (الأمير): فاسمع هذه القصة التي قصها علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وحاول أن تطبقها على نفسك.. لقد ذكر رسول الله أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا، قال: فائتني بالكفيل، فقال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني تسلفت من فلان ألف دينار، فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضى بك، وسألني شهيدا فقلت: كفى بالله شهيدا، فرضى بك، وإني قد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أجد، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا، فلما نظرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بألف دينار وقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه! قال: هل كنت بعثت إلي شيئا؟ قال: أخبرتك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه، قال: فان الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة ، فانصرف بألف دينار راشدا)([7])
قال الرجل: فهمت القصة.. وعلمت أمانة هذا الرجل.. ولكن هل ترى من الحكمة أن أرمي المال في الشارع، ثم أقول له:(اذهب إلى فلان)
قال (الأمير): رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد هذا.. إن القصة لا تؤخذ بحروفها، بل بمعانيها.
قال الرجل: فكيف أطبقها علي.. أو: كيف أستفيد منها في وضعي.
قال (الأمير): إذا جاءك الرجل، فسجل كل ما يرتبط به من معلومات.. فإذا وفقك الله وبعت سلعته، فاكتف بحقك منها، وأرسل إليه ليأخذ حقه.
قال الرجل: أحيانا تكون السلع بسيطة.. فهل أتكلف كل هذا التكلف لأجلها.
قال (الأمير): ليس في الأمانة صغير ولا كبير.. ألم تسمع قوله تعالى:{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران:75)؟
أترضى ـ وأنت المنتسب إلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن تكون أدنى من ذاك الإسرائيلي؟
قال الرجل: لا.. لا أرضى.. وبورك فيك.. وأعاهدك وأعاهد هذا الجمع المبارك أني سأبحث عن كل صاحب أمانة لأرد له أمانته.. فما كان لهمتي أن تكون أقصر من همة ذلك الإسرائيلي([8]).
قام رجل آخر، وقال: اسمح لي يا طبيب القلوب.. واسمحوا لي أيها الجمع المبارك أن أبث إليكم شكواي.. أنا رجل كنت في رغد من الدنيا، وفي وافر من الصحة، وفي رفيع من المناصب.. لكن كل ذلك ولى وجهه عني.. ولست أدري لم.. ولست أدري ما المخرج.. أنا الآن أشعر كأني داخل كهف مظلم لا يتسرب إلي من خلاله أي شعاع من أشعة الأمل.
قال ذلك، ثم جلس، فقال (الأمير): سأقص عليك قصة رواها لنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.. حاول أن ترتقي لتفهمها، وتطبقها على حالك.. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (انطلق ثلاثة نفرٍ ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غارٍ فدخلوه، فانحدرت صخرةٌ من الجبل، فسدت عليهم الغار؛ فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
قال رجلٌ منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً. فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقضهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت ـ والقدح علي يدي ـ أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي ـ فاستيقظا فشربا غبوقهما.. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.
قال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عمٍ كانت أحب الناس إلي، فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنةٌ من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينارٍ على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، قالت: اتق الله، فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها.. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجلٍ واحدٍ ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك: من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزيء بي؟! فقلت: لا أستهزيء بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون([9]).
قال الرجل: بورك فيك.. لقد دللتني على المخرج.. لكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث معي، ويبشرني.. فجزاك الله عني كل خير.
قام شاب من الجمع، وقال: أنا ـ في الحقيقة ـ أمثل مجموعة شباب من هذه المدينة.. نحن طلبة بالجامعة الأمريكية بلبنان.. نحن ملتزمون باطنا.. ولكنا ـ في الظاهر ـ نستحيي من إظهار انتسابنا للإسلام.. فلذلك نحاول إخفاءه قدر ما استطعنا.. حتى أنا ـ إذا كنا في الجامعة ـ لا نلقي السلام الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل نلقي التحية التي تعارف عليها طلبة هذه الجامعة..
قال (الأمير): أتخشون من إدارة الجامعة أن تطردكم منها إن أظهرتم التزامكم بالإسلام؟
قال الشاب: لا.. الإدارة تسمح بالحرية الدينية..
قال (الأمير): فلا يمنعكم من الالتزام الظاهر بآداب الدين إلا ما ترونه من سخرية زملائكم؟
قال الشاب: أجل.. لقد جربنا أن نفعل ذلك.. فضحكوا علينا.. بل سمونا (رجعيين)، وبعضهم سمانا (إرهابيين)
قال (الأمير): فاسمع مني هذه القصة التي قصها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في وقت كانوا يجدون أكثر مما تجدون.. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحرٌ، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر؛ فبعث إليه غلاماً يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهبٌ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر.
فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابةٍ عظيمةٍ قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره. فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي؛ وكان الغلام يبريء الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء.
فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرةٍ فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك، فآمن بالله تعالى فشفاه الله تعالى، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك ربٌ غيري؟! قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبريء الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب؛ فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل بأصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقورٍ([10]) وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل بأصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحدٍ، وتصلبني على جذعٍ، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: بسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيدٍ واحدٍ، وصلبه على جذعٍ، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك. قد آمن الناس. فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌ لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق([11]).
بكى الشاب، وقال: ما أعظم التضحية التي قدمها هؤلاء..
قال (الأمير): لقد حدث خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسدٌ بردةً له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)([12])
بكى الشاب، وقال: لو ذكرت هذا لزملائي لامتلأوا حياء من أنفسهم.
قال (الأمير): لقد حدث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لما كانت الليلة التي أسرى بي فيها وجدت رائحة طيبة فقلت: ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها، قلت: ما شأنها؟ قال: بينما هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت بنت فرعون: أبي؟ فقالت: لا ولكن ربي وربك ورب أبيك الله، قالت: وإن لك ربا غير أبي؟ قالت: نعم ، قالت: فأعلمه بذلك؟ قالت: نعم، فأعلمته، فدعا بها فقال: يا فلانة ! ألك رب غيري؟ قالت : نعم، ربي وربك الله، فأمر ببقرة من نحاس، فأحميت ثم أخذ أولادها يلقون فيها واحدا بعد واحد، فقالت: إن لي إليك حاجة! قال: وما هي؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد فتدفننا جميعا! قال: ذلك لك لما لك علينا من الحق، فلم يزل أولادها يلقون في البقرة حتى انتهى إلى ابن لها رضيع فكأنما تقاعست من أجله فقال لها: يا أمه! اقتحمي، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ثم ألقيت مع ولدها، وتكلم أربعة وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم)([13])
قام رجل من الجمع، وقال: أنا رجل حبب الله إلي الصلاة.. وأحيانا يأتيني من يزعجني عنها.. فأرفع صوتي غضبا عليه.. فهل ترى في هذا ما يتنافى مع آداب الشريعة؟
سكت (الأمير)، حتى بدا للجمع أنه لا يريد إجابته.. فقام آخر، وقال: أصارحك.. أنا رجل أحب المظاهر.. وأعظم كل صاحب مظهر.. وأمتلئ بالاحتقار لكل متواضع.. حتى أن التواضع صار بالنسبة لي مرادفا للذلة.
التفت (الأمير) إلى الرجلين، وقال: لقد روى لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصة.. اسمعوها مني.. وحاولوا أن ترتقوا لتسمعوها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلا خير فيمن لم يسمع من رسول الله.. قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثةٌ: عيسى ابن مريم، وصاحب جريجٍ، وكان جريجٌ رجلاً عابداً، فاتخذ صومعةً فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته فانصرفت. فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وكانت امرأةٌ بغيٌ يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها. فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريجٍ، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك. قال: أين الصبي؟ فجاؤوا به فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلانٌ الراعي، فأقبلوا على جريجٍ يقبلونه ويتمسحون به وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهبٍ، قال: لا، أعيدوها من طينٍ كما كانت، ففعلوا.
وبينا صبيٌ يرضع من أمه، فمر رجلٌ راكبٌ على دابةٍ فارهةٍ وشارةٍ حسنةٍ، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع، ـ قال الراوي: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فيه، فجعل يمصها ـ قال: ومروا بجاريةٍ وهم يضربونها، ويقولون: زنيت سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل. فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهنالك تراجعا الحديث فقالت: مر رجلٌ حسن الهيئة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت: اللهم اجعلني مثلها؟! قال: إن ذلك الرجل كان جباراً فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها زنيت، ولم تزن وسرقت، ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها)([14])
قام رجل، وقال: أحيانا تأتيني فرص عظيمة.. ومن ناس بسطاء.. لو أتيحت لهم لخرجوا من الوضع الذي هم فيه إلى وضع أحسن وأكمل..
سأضرب لك مثالا على ذلك.. في الأسبوع الماضي اشتريت سلعة بألف دينار.. ولم يمض يوم على شرائي لها حتى ارتفع سعرها في الأسواق العالمية عشرات الأضعاف.. فرحت لذلك فرحا كثيرا.. ولكني ما إن رأيت بائعها، وهو يعض أصابع الندم، حتى امتلأت حسرة، وتصورت أني في موقفه.. فما تراني أفعل في مثل هذه المواقف؟
قال: سأقص عليك قصة قصها علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وافهم منها ما بدا لك.. لقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمن قبلنا من الأمم، فقال: اشترى رجل من رجل عقارا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة يها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع الذهب ، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر لي جارية فقال: أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقوا([15]).
قال الرجل: وعيت القصة.. ولكني لم أقدر على تنزيلها على حالتي.
قال (الأمير): النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه القصة يحضنا على الأمانة والرحمة والعدالة.. فلا ينبغي للكريم السمح أن يكون أنانيا حريصا.. بل يحاول أن يشرك غيره..
وأنا أرى أن تشرك هؤلاء في بعض ما يرزقك الله به من المكاسب..
قال الرجل: بورك فيك.. نعم.. لا ينبغي لي أن أكون أنانيا.. ولا حريصا.. لقد استفتيت الفقهاء، فأفتوني.. ولكن قلبي لم يطمئن.. فلذلك سآخذ بما ذكرت.
قام رجل من الجمع، وقال: أنا رجل حبب الله إلي العلم.. فأنا أنهل منه، ولا أكاد أشبع.. ولكي ـ أحيانا ـ أشعر، وكأني قد التهمت جميع العلوم.. وأحيانا ـ وبكل صراحة ـ أشعر أني أعلم أهل الأرض.. وأنه لا أحد يضاهيني في المعارف التي كتب لي أن أتعلمها.
نظر إليه (الأمير)، وقال: لقد قص علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصة، فاسمعها، وارتق لتسمعها منه صلى الله عليه وآله وسلم.. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى: يا رب، وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتا، تجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم.
فأخذ حوتا، فجعله بمكتل، ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يوشع بن نون ـ عليهما السلام ـ حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه، فسقط في البحر واتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق. فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه:{ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} (الكهف: 62)، ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمره الله به.
قال له فتاه:{ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} (الكهف: 63)، قال: فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا، فقال:{ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} (الكهف: 64)
فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام!. قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا، قال: { إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} (الكهف: 67)، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. فقال موسى:{ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} (الكهف: 69)، قال له الخضر:{ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} (الكهف: 70)
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة، فكلموهم أن يحملوهما، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قد حملونا بغير نول، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرا:{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)} (الكهف)، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(كانت الأولى من موسى نسيانا)
وجاء عصفور فنزل على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، أو نقرتين، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فقتله، فقال له موسى:{ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)} (الكهف)، قال:(وهذه أشد من الأولى)، { قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} (الكهف:76)
فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض قال: مائل. فقال الخضر بيده، فأقامه، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، { لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)} (الكهف)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما) ([16])
قام رجل من الجمع، وقال: أنا عضو في بعض جمعيات الرفق بالحيوان.. وقد عاتبني البعض في انتمائي لمثل هذه الجمعيات.. فهل ترى علي من بأس في ذلك؟
نظر إليه (الأمير)، وقال: لقد حكى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه القصة.. قال: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها وشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي ! فنزل البئر فملا خفه ماء ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله ! وإن لنا في البهائم أجرا ؟ قال في كل ذات كبد رطبة أجر)([17])
وحكى لنا قصة أخرى، فقال: (غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي([18])كاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لهذا بذلك)([19])
وحكى لنا قصة أخرى، فقال: (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش([20])الأرض حتى ماتت)([21])
وحكى لنا قصة أخرى، فقال:(مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق فقال: والله لانحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة)([22])
***
بعد أن عدنا إلى البيت في ذلك المساء قلت له: يا إمام.. كيف اكتفيت في ذلك المجلس بتلك القصص، ولم تعدها إلى المواعظ التي تعود الوعاظ إلقاءها.
قال: من آداب الواعظ أن يغير أسلوب موعظته حتى لا يصيب الناس السأم والملل.. فالملل هو أخطر ما يصيب المستمعين، ولذلك فإن الواعظ المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يحرص على أن لا يجر مستمعيه إليه.. فعن ابن مسعود قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام، كراهية السآمة علينا)([23])
قلت: فلم اخترت القصص بالذات؟
قال: لم يكن لي خيار في ذلك.. لقد كانت حال المستمعين وأسئلتهم تستدعي أن أذكر لهم من القصص ما سمعت، فقصصت عليهم.
قلت: أترى أن للقصص من التأثير ما يمكن أن يؤثر في المستمعين؟
قال: أجل.. ولولا ذلك ما أمرنا الله تعالى باستعمال هذا الأسلوب، فقال:{ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (لأعراف:من الآية 176).. ولولا ذلك ما قص علينا ربنا، ولا قص علينا نبينا.. إن كلام ربنا، وهدي نبينا { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42)
قلت: فما وجه هذا التأثير؟
قال: لقد أخبر القرآن الكريم عن بعض تأثير القصص في نفس المتلقي، فقال:{ وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } (هود: 120)، ففي هذه الآية الكريمة إخبار عن نوع من أنواع تأثير القصص القرآني في النفس، وهو تثبيت المؤمن على دين الله، وأخذه بالعزيمة في ذلك.
قلت: فما سر ذلك؟
قال: إن القاص ـ الذي يعرف كيف يتسلل إلى قلوب مستمعيه ـ ينشئ في نفس المستمع إلى القصة حب تقمص شخصية البطل، وهو ما يدعوه إلى التأسي به والاعتبار بمواقفه.
فمن يعجب مثلا بموقف إبراهيم u مع قومه، وعدم خوفه من أذاهم، وتعرضه للفتن بسبب ذلك، يمتلئ إعجابا وحبا لإبراهيم u، وهو ما يدعوه بتلقائية لأن يتقمص الأدوار التي أداها إبراهيم u تقمصا لروح القصة لا لحقيقتها.
فقصة إبراهيم u مع ابنه مثلا، وكيف هم بذبحه طاعة لله في ذلك ينشئ في نفس المؤمن الاستسلام المطلق لله بغض الظر عن أن يكون ذلك بنفس الطريقة التي حصل بها إسلام إبراهيم u.
قلت: ولكن البعض ينحرف بالقصص انحرافات خطيرة([24])؟
قال: في كل مجال هناك المستن، وهناك المبتدع.. ولا ينبغي أن نترك السنة لأجل الخوف من البدعة.
قلت: ألا يمكن أن نسد ذرائع البدع؟
قال: إذا سددنا ذرائع البدع بإماتة السنن، يكون ذلك من أعظم البدع.. ونكون قد حققنا أغراض البدع، لأنه لا غرض للبدعة إلا إماتة السنة.
قلت: لكني سمعت نهي بعض الصالحين عن الجلوس إلى القصاصين؟
قال: هم لم يقصدوا كل القصاص.. وإنما قصدوا الكذابين منهم..
قلت: إن كل ما ذكرته من القصص مما ورد في السنة.. فهل تعني بذلك عدم جواز القص بما ورد في غيرها؟
قال: لا.. ومعاذ الله أن أضيق ما وسع الله..
قلت: فهل يمكن وضع القصص كما يفعل الروائيون؟
قال: أجل.. ولابد من ذلك.. فلا يحق لمسلم يجد وسيلة يدعو بها إلى ربه، ثم يفرط فيها.
قلت: ولكنه يكذب بذلك.. لأنه يحكي شيئا لم يوجد.
قال: لو حكاه باعتباره وقع بالفعل كان كاذبا.. لكنه إن حكاه باعتباره حكاية موضوعة فلا حرج عليه في ذلك.
قلت: لقد نظر البعض إلى القصص التي ذكرها القرآن الكريم بهذا الاعتبار، فتصوروا أنها مجرد حكايات موضوعة للتربية ولا حظ لها من الوجود الواقعي.
قال: كذبوا.. ألم يقرأوا قوله تعالى:{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} (الكهف: 13)؟
ألم يقرأوا قوله تعالى:{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران:44)؟
ألم يقرأوا قوله تعالى:{ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود:49)؟
ألم يقرأوا قوله تعالى:{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف:102)؟
في اليوم الثاني سرت مع الأمير إلى مجلس من المجالس، وكان ذلك المجلس ـ كسابقه ـ مكتظا بالحضور، وكلهم ـ مثل من قبلهم ـ شوق ولهفة لسماعه.. ولكن الفرق بين هؤلاء وأولئك هو أن هؤلاء كانوا من خلال مظهرهم وأسئلتهم على مستوى عال من الثقافة، فلذلك كانت أسئلتهم تختلف كثيرا عن أسئلة من قبلهم، وكانت أجوبة الأمير تميل إلى العلمية في هذا المحل أكثر منها إلا الوعظية.
صعد (الأمير) منصة متواضعة، وقال: عم تريدون أن أحدثكم.
قال رجل منهم: نريد أن تحدثنا عن سر قوله تعالى:{ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (ابراهيم: 25)، وقوله تعالى:{ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:43)
قال الأمير: في هذه الآيات وغيرها يخبرنا القرآن الكريم عن مسلك من المسالك التي تنفذ منها المواعظ إلى القلوب، وهو مسلك الأمثال.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} (الاسراء:89)، وقال:{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف:54).. فتصريف الآيات يشمل تنويع الحجج والبراهين على قضية واحدة، فيؤتى للقضية الواحدة بأكثر من دليل وبرهان، فتتابع على عقولهم الحجج وتُصرَّف لها الأمثال والعبر.
انظروا القرآن الكريم، فسترونه ينوع الأساليب، فيؤتى بالدليل الواحد بأكثر من أسلوب: فتارة بالخبر، وتارة بالاستفهام، وأخرى بالنفي والإثبات، وأحيانا بضرب الأمثال أو القصص، ونحوها.
قالوا: فما الأمثال؟
قال: هي ادعاء التماثل الجزئي أو الكلي بين شيئين أو حالين طلباً لإثبات أو إيضاح أحدهما اعتماداً على ثبوت أو وضوح الثاني.. وهي لذلك تستخدم في تقريب المعنى وإيضاحه والإقناع به والحث على الفعل ونحو ذلك.
قالوا: فاضرب لنا مثلا يقرب ذلك.
قال: انظروا كيف عبر لقمان u عن لطف الله وخبرته، وهي قضية عقدية، ترتبط بها ناحية سلوكية، وهي تأثير هذه المعرفة في الحذر من المعاصي، والحرص على الطاعة، فجاء بصورة حسية تقرب هذه المعاني جميعا، فقال:{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (لقمان:16)
إن هذه الصورة هي أن المظلمة أو الخطيئة أو الطاعة لو كانت مثقال حبة خردل، وكانت مخفية في السماوات أو في الأرض، فإن الله يحضرها يوم القيامة حين يضع الموازين القسط، ويجازي عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، حتى لو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء، أو ذاهبة في أرجاء السماوات والأرض، فإن اللّه يأتي بها لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولهذا ختم الآية بقوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي لطيف العلم فلا تخفى عليه الأشياء، وإن دقّت ولطفت وتضاءلت، خبير لا تعزب عنه الأخبار الباطنة فلا يجري في الملك والملكوت شيء ولا تتحرك ذرة ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبرها.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بغير هذه الصيغة كقوله تعالى:{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الانبياء:47)
ولكن للصيغة التي ذكرها لقمان u، وفي المحل الذي ذكرها فيه تأثيرها الخاص، وهي تتناسب مع ميل الإنسان بطبعه إلى توظيف الخيال في توضيح الحقائق.
قالوا: وعينا ما ذكرت، فاضرب لنا من أمثال القرآن الكريم ما يؤكد ذلك ويحققه.
قال: لقد ورد في القرآن الكريم الكثير من الأمثال التي خصت بالبحث فيها المصنفات.. بل ورد في الحديث اعتبار الأمثال قسما من أقسام القرآن الكريم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال)([25])
ومن الأمثال التي ورد بها القرآن الكريم قوله تعالى:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (النحل:75)، فهذا المثل يشبه المشركين بعبد مملوك لا يستطيع القيام بأية خدمة لمولاه، ويشبه المؤمنين بإِنسان غني، يستفيد الجميع من إِمكانياته.. والعبد ليس له قدرة تكوينية لأنّه أسير بين قبضة مولاه ومحدود الحال في كل شيء، وليس له قدرة تشريعية أيضاً لأنّ حق التصرف بأمواله (إِنْ كان له مال) وكل ما يتعلق به هو بيد مولاه، وبعبارة أُخرى إنّه: عبد للمخلوق،ولا يعني ذلك إِلاّ الأسر والمحدودية في كل شيء.
أمّا ما يقابل ذلك فالانسان المؤمن الذي يتمتع بانواع المواهب والرزق الحسن: (ومَنْ رزقناه منّا رزقاً حسناً) والإِنسان الحر مع ما له من إِمكانيات واسعة (وهو ينفق منه سراً وجهراً) فاحكموا: (هل يستوون).. قطعاً، لا .. فإِذِنْ: (الحمد لله)
اللّه الذي يكون عبده حُرّ وقادر ومنفق، وليس الاصنام التي عبادها أسرى وعديمو القدرة ومحددون (بل أكثرهم لا يعلمون) ([26])
ومن الأمثال القرآنية قوله تعالى:{ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُم} (النحل: 92)
فالله تعالى يصور لنا في هذا المثال حال من ينقض المواثيق والأيمان بعد توكيدها، فضرب مثلا بامرأة خرقاء كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه.. لقد قال سيد مبينا التأثير التربوي لهذا المثل:(فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة ومحلولة ! وكل جزيئة من جزئيات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجيب. وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب. وهو المقصود وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه)([27])
ومن الأمثال القرآنية قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (ابراهيم:24 ـ25)، وفي مقابلها:{ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} (ابراهيم:26)
فهذا المثال يصور الكلمة الطيبة بصورة الشجرة الطيبة الثابتة التي تؤتي ثمرها كل حين، وتصور الكلمة الخبيثة بصورة الشجرة الخبيثة التي لا قرار لها، ولا ثمر ينتفع به، وقد قال سيد مبينا بعض أبعاد هذا المثل:(إن الكلمة الطيبة – كلمة الحق – لكالشجرة الطيبة. ثابتة سامقة مثمرة.. ثابتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل ؛ ولا تقوى عليها معاول الطغيان – وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان – سامقة متعالية، تطل على الشر والظلم والطغيان من عل – وإن خيل إلى البعض أحيانا أن الشر يزحمها في الفضاء – مثمرة لا ينقطع ثمرها، لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن)
وبالمقابل فإن (الكلمة الخبيثة – كلمة الباطل – لكالشجرة الخبيثة ؛ قد تهيج وتتعالى وتتشابك ؛ ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى. ولكنها تظل نافشة هشة، وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض.. وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض، فلا قرار لها ولا بقاء) ([28])
ومن الأمثال القرآنية هذا المثال الذي يصور عاقبة الصدقة في سبيل الله، قال تعالى:{ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:261)
فالله تعالى في هذه الآية يضرب مثلا لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فجاء بمثل يحوي القضية ودليلها، ليكون أكثر إقناعا وتأثيرا.
ومن الأمثال القرآنية ما نص عليه قوله تعالى:{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20} (البقرة)
ففي هذه الآيات الكريمة نجد مثالين للمنافقين:
يصور أولهما بدقّة عمل المنافقين على ساحة الحياة الإنسانية. فهذه الحياة مملوءة بطرق الإنحراف والضلال، وليس فيها سوى طريق مستقيم واحد للهداية، وهذا الطريق مليء بالمزالق والأعاصير. ولا يستطيع الفرد أن يهتدي من بين الطرق الملتوية إلى الصراط المستقيم، كما لا يستطيع أن يتجنب المزالق ويقاوم أمام الأعاصير، إلاّ بنور العقل والإيمان، وبمصباح الوحي الوهّاج.
وهل تستطيع الشعلة المحدودة المؤقتة التي يضيئها الإنسان، أن تهدي الكائن البشري في هذا الطريق الشائك الطويل؟!
هؤلاء الذين سلكوا طريق النفاق، ظنوا أنّهم قادرون بذلك أن يحافظوا على مكانتهم ومصالحهم لدى المؤمنين والكافرين. وأن ينضمّوا إلى الفئة الغالبة بعد نهاية المعركة. كانوا يخالون أن عملهم هذا ذكاء وحنكة. وأرادوا أن يستفيدوا من هذا الذكاء وهذه الحنكة، كضوء يشقّ لهم طريق الحياة ويوصلهم إلى مآربهم. لكن الله سبحانه ذهب بنورهم وفضحهم.
وأما المثال الثاني، فيصوّر حياة المنافقين بشكل ليلة ظلماء مخوفة خطرة، يهطل فيها مطر غزير، وينطلق من كل ناحية منها نور يكاد يخطف الأبصار، ويملأ الجوّ صوت مهيب مرعب يكاد يمزّق الآذان. وفي هذا المناخ القلق ضلّ مسافر طريقه، وبقي في بلقع فسيح لا ملجأ فيه ولا ملاذ، لا يستطيع أن يحتمي من المطر الغزير، ولا من الرعد والبرق، ولا يهتدي إلى طريق لشدّة الظلام([29]).
قال بعض القوم: لكن المثل الواحد قد تفهم منه معاني مختلفة، ألا يحدث ذلك تلبيسا؟
قال: لا.. ذلك يثري المثل، ويجعله مادة تربوية غنية بالمعاني..
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الأمثال التي نطق بها حبيب القلوب، ومحيي النفوس سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حريصا على اتباع سنة القرآن الكريم في ضرب الأمثال.. ولذلك كان من سنته ضربها للتعليم والموعظة.
قالوا: فحدثنا عن أمثاله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم يحكي عن انتهاج الأنبياء ـ عليهم السلام ـ لضرب الأمثال في المواعظ:(إن الله تعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فكأنه أبطأ بهن فأوحى الله تعالى إلى عيسى: إما أن يبلغهن أو تبلغهن ! فأتاه عيسى فقال له: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وأن تأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فاما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن ! فقال له: يا روح الله ! إني أخشى أن سبقتني أو أن أعذب أو يخسف بي!
فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرفات، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله تعالى أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن، وأولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فان مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق ثم أسكنه دارا فقال: اعمل وارفع إلي ! فجعل العبد يعمل ويرفع إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك ! وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأمركم بالصلاة، وإذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا فان الله عزوجل يقبل بوجهه إلى عبده ما لم يلتفت، وأمركم بالصيام، ومثل ذلك كمثل رجل معه صرة مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وأمركم بالصدقة، ومثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم ! فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه، وأمركم بذكر الله كثيرا، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في اثره فأتى حصنا حصينا فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصين ما يكون من الشيطان إذا ان في ذكر الله تعالى وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: الجماعة والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فانه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلق ربقة الاسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، فادعو بدعوى الله الذي سماكم المسلمين والمؤمنين عباد الله)([30])
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه، والصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة: محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله تعالى، والداعي فوق الصراط:واعظ الله في قلب كل مسلم)([31])
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يربط الأمثلة أحيانا بأمور حسية ليبقى أثرها في نفس المتلقي، ومن ذلك ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ غصناً، فنفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فانتفض، فقال:(إن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ينفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها)
ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يستعمل حركات معينة لتقرير المعاني وتشبيهها، ومما روي عنه في ذلك في مواضع مختلفة التشبيك بين أصابعه الشريفة للكناية عن القوة والتماسك حينًا، وللتداخل بين شيئين حينًا آخر، وللاختلاط والاختلاف أحيانا أخرى.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه)([32])
ومنها قوله:( كيف بكم وبزمان يوشك أن يأتي، يغربل([33]) الناس فيه غربلة، تبقى حثالة من الناس، قد مرجت([34]) عهودهم وأماناتهم واختلفوا، وكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه)([35])
في اليوم الثالث، سرت مع الأمير إلى مدرسة من المدارس التقنية، وقد تعجبت من مسيره إليها، وقلت: ما عسى الرجل يتحدث في هذا المحل.. وهو محل لا يتحدث إلا عن الصنائع والأكوان؟
أحسست أنه قرأ ما في خاطري، فقال: لقد تحول هذا المحل ـ بحمد الله ـ وبفضل التوجيه الصادق إلى محراب من محاريب العبادة.. لقد صارت المخابر منابر.. وصارت المراقب والمراصد مجالي للتأمل في خلق الله وعبودية الله من خلال النظر إلى أكوانه.. وصارت الآلات التي انشغل بها الكثير عن الله مسابح يذكر الله عند كل حركة من حركاتها.
قلت: كيف ذلك؟
قال: تعال معي لأدلك على منهج ذلك.
سرت معه إلى داخل تلك المدرسة التي ما إن رآه أهلها حتى هبوا مسرعين إليه، وكأنهم معه على ميعاد، وقد رأيت في عيونهم من الأشواق لحديثه ما رأيت في سابقيهم.
في بداية حديثه أخذ يرتل بصوت عذب قوله تعالى:{ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } (الأنبياء:32)، وقوله تعالى:{ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } (فصلت: 12)
ثم قال لرجل كان يستمع إليه بشوق عظيم: حدثنا يا فلان عما ورد في العلم من حفظ الله للأرض من كل ما يؤذيها.
أخذ الرجل يقول: إن هذه الآية تتحدث عن خاصية مهمة لبناء السماء أثبتتها الأبحاث العلمية الحديثة.. لا يمكنني أن أتحدث عنها هنا بالتفصيل.. ولكني سأحدثكم فقط على ناحية منها لها علاقة بالأرض التي نعيش فيها.. فالأرض تحاط بغلاف جوي يؤدي وظائف ضرورية لاستمرار الحياة، فهو يدمر الكثير من النيازك الكبيرة والصغيرة، ويمنعها من السقوط على سطح الأرض وإيذاء الكائنات الحية.
فلولا وجود الغلاف الجوي لسقطت ملايين النيازك على الأرض جاعلة منها مكاناً غير قابل للعيش، ولكن خاصية الحماية التي يتمتع بها هذا الغلاف سمحت للكائنات بالبقاء آمنة على قيد الحياة.
ليس ذلك فقط.. فالغلاف الجوي يصفي شعاع الضوء الآتي من الفضاء المؤذي للكائنات الحية.
والملفت للنظر، والجالب للدهشة أن الغلاف الجوي لا يسمح إلا للإشعاعات غير الضارة مثل الضوء المرئي والأشعة فوق البنفسجية، وموجات الراديوا بالمرور.. وكل هذه الإشعاعات أساسية للحياة.
فالأشعة فوق البنفسجية التي يسمح بمرورها بشكل جزئي فقط عبر الغلاف الجوي ضرورية جداً لعملية التمثيل في النباتات، ولبقاء الكائنات الحية على قيد الحياة.
أما غالبية الإشعاعات فوق البنفسجية المركزة، فيتم تصفيتها من خلال طبقة الأوزون في الغلاف الجوي، ولا تصل إلا كمية محدودة وضرورية من الطيف فوق البنفسجي إلى الأرض.
وهذه الوظيفة الوقائية للغلاف الجوي لا تقف عند هذا الحد، بل إن الغلاف الجوي يحمي الأرض من برد الفضاء المجمد الذي يصل إلى 270 درجة مئوية تحت الصفر.
قال ذلك، ثم التفت إلى الأمير، وقال: هذا بعض ما أعرفه من تفسير تلك الآيات التي قرأتها.
أشار الأمير إلى رجل آخر، وقال: حدثنا عن تفسير ما ورد في النصوص المقدسة في مواضع كثيرة من الإخبار عن دقة الصنع الإلهي للكون، وأنه مبني على حسابات دقيقة، كما قال تعالى: { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } (يّـس:40)، وقال تعالى يعبر عن الموازين التي تضبط الكون، لئلا يختل اتزانه، فيقول:{ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } (الرحمن:7)
أخذ الرجل يتحدث بكلام مسهب مفصل عن دقائق الصنع الإلهي، ودقة الموازين التي ضبط بها الكون([36]).
وبعد أن أنهى حديثه أشار الأمير إلى رجل آخر، وقال: حدثنا عما ورد في العلوم من تفسير قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } (فاطر:41)، وقوله:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحج:65)، وقوله:{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } (لقمان:10)، وقوله:{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } (الرعد:2)
أخذ الرجل يتحدث بمثل ما تحدث من قبله بكلام مسهب مفصل فيما قاله العلم الحديث في آخر أبحاثه في هذه المسائل.
ظللنا طول يومنا نسمع قرآنا وعلوما.. وقد رأيت دموع الحاضرين تنهمر بقوة، وهي تسمع تلك الأحاديث العذبة التي تفسر القرآن الكريم خير تفسير وأبين تفسير.. وقد رأيت بعضهم يصيح تائبا لله ومستغفرا له.
وقد عجبت من ذلك عجبا شديدا، فلم أر من الأمير إلا قراءته القرآن، ودعوته العلماء والمختصين للحديث، وقد سألته عن سر ذلك التأثير، فقال: إن أعظم حجاب بين الإنسان وبين الإيمان، وما يقتضيه الإيمان هو غفلته عن الله، وعن عظمة الله، ولذلك، فإن خير ما يعيد للقلب يقظته هو نظره في الكون، وعبادته الله من خلال ذلك النظر.
ولهذا يتكرر في القرآن الكريم الدعوة إلى النظر، والدعوة إلى العلم، بل إن القرآن الكريم أخبر بأن الخشية محصورة في العلماء.. فلا يعرف الله من لا يعرف أكوانه.
اسمع قوله تعالى:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (البقرة:164).. وقوله تعالى:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } (آل عمران:190)
بل إن القرآن الكريم دعا أولي العقول إلى إعمال فكرهم في السماء.. ليعرفوا الله من خلالها، فقال تعالى:{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } (الروم:8)
وأخبر الجاحدين الذين يجحدون قدرة الله على بعث مخلوقاته بعظمة خلق الكون، فقال:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (غافر:57)
في اليوم الرابع سرت مع الأمير إلى محال مختلفة، ومن العجيب أني لم أره في تلك المحال جميعا ينطق بشيء إلا بما ورد في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جوامع الحكمة.
سأكتفي بأن أذكر لك بعض ما قاله باختصار([37]) لترى مدى عظمة الهدي الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم:
رأى رجلا، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اعزل الاذى عن طريق المسلمين)([38])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغالبيق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه)([39])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى محسن فأحسنوا)([40])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى يحب أن يعمل بفرائضه)([41])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى يحب معالى الامور وأشرافها، ويكره سفسافها)([42])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى يقول يا ابن آدم ! تفرغ لعبادتي أملا صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملات يديك شغلا ولم أسد فقرك)([43])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من أفضل الاعمال إدخال السرور على المؤمن، تقضي عنه دينا، تقضي له حاجة، تنفس له كربة)([44])
وورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم)([45])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أخبركم بخيركم من شركم! خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره)([46])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس ! إن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله تعالى عزوجل على ظهر فرسه أو على ظهر بعيره أو على قدميه حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجلا فاجرا جريئا يقرأ كتاب الله ولا يرعوي([47]) إلى شئ منه)([48])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس)([49])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تكونوا إمعة([50])تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن أساؤا أسأنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا أن تحسنوا، وإن أساؤا أن لا تظلموا)([51])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من عبد إلا وله صيت في السماء، فان كان صيته في السماء حسنا وضع في الأرض، وإن كان صيته في السماء سيئا وضع في الأرض)([52])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها)([53])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)([54])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ذهب في حاجة أخيه المسلم فقضيت حاجته تكتب له حجة وعمرة، فان لم تقض كتبت له عمرة)([55])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا مؤودة من قبرها)([56])، وورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة)([57])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما مسلم كسا مسلما ثوبا كان في حفظ الله تعالى ما بقيت عليه منه رقعة)([58])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من عال أهل بيت من المسلمين يومهم وليلتهم غفر الله له ذنوبه)([59])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يتوكل لي ما بين لحييه وما بين رجليه أتوكل له بالجنة)([60])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق، قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد، قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة، قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن)([61])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من ألطف مؤمنا أو خف له في شئ من حوائجه صغر أو كبر كان حقا على الله أن يخدمه من خدم الجنة)([62])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟.. تقوى الله وحسن الخلق، أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس النار؟.. الأجوفان: الفم والفرج)([63])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حفرماء لم يشرب منه كبد حرى من إنس وجن ولا سبع ولا طاهر إلا آجره الله يو القيامة، ومن بنى مسجدا كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة)([64])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)([65])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه ستر الله تعالى عليه كنفه وأدخله جنته: رفق بالضعيف، وشفقة على الوالدين، والاحسان إلى الملوك)([66])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ثلاث من كن فيه آواه الله في كنفه ونشر عليه رحمته وأدخله جنته: من إذا أعطي شكر، وإذا قدر غفر، وإذا غضب فتر)([67])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته: تعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك)([68])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه فإن الله يغفر له ما سوى ذلك: من مات لا يشرك بالله شيئا، ولم يكن ساحرا يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه)([69])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه استوجب الثواب واستكمل الايمان: خلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن محارم الله، وحلم يرده عن جهل الجاهل)([70])
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه أظله الله تحت عرشه يوم لاظل إلا ظله: الوضوء على المكاره، والمشي إلى المساجد في الظلم، وإطعام الجائع)([71])
***
لم أمكث في الطائف إلا تلك الأيام الأربعة التي تشرفت فيها بصحبة (الأمير).. لقد كانت تلك الأيام من أكثر الأيام بركة في حياتي..
لقد شعرت ـ وأنا أسير في الطائف بصحبة (الأمير) ـ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يتجول في شوارع المدينة وأسواقها يدعوها لربها ويهديها لسبيله.. بل شعرت، وكأن أحفاد أهل الطائف يكفرون عن ذنب أسلافهم في مقابلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما قابلوه به، بذلك الإكرام وتلك الحفاوة التي أفاضوها على وريثه (الأمير)
وشعرت في نفس الوقت بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد الوعاظ، ومعلمهم، وأن من لم يتعلم الوعظ على يديه، فسيتيه في أودية الهوى، وسيغرق من يعظه وديان الردى.
سألت صاحبي عن سبب تركه للأمير بعد جميل صحبته له، فقال: لقد كان الأمير رجلا رحالة.. لقد كان يشعر أنه كالطبيب الذي يبحث عن الأمراض ليعالجها..
فلذلك نهض ذلك اليوم باكرا، وحزم أمتعته، فسألته عن قصده، فقال: أنت تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك سوقا، ولا قبيلة، ولا مجتمعا، ولا أفرادا إلا وبث فيهم من أنوار الهداية ما يقيم به عليهم الحجة، ويدلهم على المحجة.
قلت: ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: ولا خير فيمن لم يحمل من الهم ما كان يحمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. إن الوارث لن يناله حظه من وراثة نبيه إلا بعد أن يمتلئ قلبه ألما لكل معصية، وحزنا على كل عاص.
قلت: ما جاء ديننا إلا بالرحمة، فكيف تدعوني إلى الألم؟
قال: الرحمة هي التي تدعو إلى الألم.
قلت: كيف تقول هذا؟
قال: ألا تتألم عندما ترى الفقير الجائع، واليتيم الضائع؟
قلت: بلى.. الكل ينشق قلبه لهذه المرائي.
قال: والورثة يرون في الناس ما ترون.
قلت: ليس كل الناس لهم من الفقر واليتم ما ذكرت.
قال: أعظم الفقر أن تكون فقيرا من ربك، مستغنيا عنه، وأعظم اليتم أن تكون بعيدا عن مولاك الذي لا خير إلا منه.
قلت: فأولياء الله يرون عباد الله بهذا المنظار؟
قال: أجل.. وقد ورثوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلذلك لا ترى لهم سرورا إلا في إقبال الخلق على الله، واهتدائهم بهدي الله.
***
ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا أنفسنا قد قطعنا المرحلة الثانية من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب..
لقد كان خيالي منصرفا تمام الانصراف لما يتحدث به صاحبي.. وكأني مع ذلك النبي الواعظ الذي امتلأ العالم جميعا بأنوار عظاته، وتقوت بجمال كلماته.. ولم يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية تتربص بنا من كل اتجاه.
لقد نزلت
علي بمجرد قطعي لتلك المرحلة أنوار جديدة.. اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى
الله عليه وآله وسلم.
([1]) أشير به إلى الإمام إبراهيم بن محمد بن إسماعيل الحمزي الحسني الهاشمي المعروف بالأمير(1141 – 1213 ه = 1729 – 1799 م) وهو واعظ، ومفسر، من متصوفي الزيدية، نعته الشوكاني بكونه (عالم الدنيا وحافظها، وخطيب الأمة وواعظها)، ولد وتعلم في صنعاء، ورحل إلى مكة مرات ثم استقر إلى أن توفي فيها.. من كتبه (فتح الرحمن في تفسير القرآن بالقرآن)، و (فتح المتعال الفارق بين أهل الهدى والضلال) و (مجموع) ذكر فيه مؤلفات والده وشيوخه وتلاميذه وتراجم بعض معاصريه.. انظر: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، لمحمد بن علي الشوكاني، وانظر: الأعلام للزركلي.
وقد اخترناه لسببين: أولاهما أنه واعظ جمع بين الوعظ والسلوك، ولا يكمل الوعظ إلا بالسلوك.
والثاني: أنا أردنا أن نشير من خلاله إلى طائفة من طوائف الأمة التي لا تزال تتمسك بهدي نبيها صلى الله عليه وآله وسلم وبهدي أهل بيته الطاهرين، وهي (الزيدية)، وهي طائفة تنسب إلى زيد بن علي بن الحسين (79 – 122هـ)، وتتفق مع الاثني عشرية (والتي سنشير إلى علم من أعلامها البارزين في عصرنا، وهو القمي في الفصل الأخير) في ترتيب الأئمة حتى الإمام علي زين العابدين، ولكنها تقول بإمامة زيد بدلاً من محمد الباقر.. ومن أعلامها البارزين غير الأمير محمد بن إبراهيم بن الوزير (775 – 840هـ)، ومحمد بن إسماعيل بن الأمير (1099 – 1182هـ)، ومحمد بن علي الشوكاني (1173 – 1250هـ)
([2]) هذه الموعظة والمواعظ التي أضعها بين قوسين هي لابن السماك، كما في (صفة الصفوة)
([3]) رواه ابن سعد وابن عساكر.
([4]) أشير إلى الحديث المعروف: وعطنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موعظةً بليغةً وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودعٍ فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبدٌ حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ (رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح)
([5]) رواه الديلمي.
([6]) رواه البخاري ومسلم.
([7]) رواه البخاري.
([8]) لم نقصد بهذا احتقار الإسرائيلي، فالمسلم يعتقد أن كل المسلمين في جميع الأزمنة والأمكنة أمة واحدة.. وإنما أردنا من هذا أن الهمة تستثار بذكر أعمال الصالحين.
([9]) رواه البخاري ومسلم.
([10]) القرقور بضم القافين: نوعٌ من السفن.
([11]) رواه مسلم.
([12]) رواه البخاري.
([13]) رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي.
([14]) رواه البخاري ومسلم.
([15]) رواه البخاري ومسلم.
([16]) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.
([17]) رواه البخاري ومسلم.
([18]) ركي: الركي جنى للركية، وهي البئر، وجمعها ركايا. (النهاية:2 / 261).
([19]) رواه البخاري.
([20]) خشاش: الخشاش: حشرات الارض، والطير ونحوها، الواحدة خشاشة. (المعجم الوسيط:1/ 235)
([21]) رواه البخاري ومسلم.
([22]) رواه أحمد ومسلم.
([23]) رواه البخاري ومسلم.
([24]) وذلك مثل القصص الكثيرة التي تمتلئ بها كتب التفسير، والمتلقاة عن اليهود الذين أسلموا، وهي قصص أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقائق.
([25]) رواه البيهقي.
([26]) الأمثل للشيرازي: 8/264..
([27]) الظلال.
([28]) الظلال.
([29]) انظر: الأمثل: 1/105.
([30]) رواه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم والبخاري في التاريخ عن الحارث بن الحارث الاشعري.
([31]) رواه أحمد والترمذي والنسائي.
([32]) رواه البخاري.
([33]) أي يذهب خيارهم ويبقى أرذالهم.
([34]) أي اختلطت وفسدت.
([35]) رواه ابن ماجة.
([36]) انظر تفاصيل ما ورد في هذا من كلام الخبراء في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
([37]) حاولنا أن نجمع هنا أكبر قدر من النصوص في جوامع كلمه صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تصنف في أبواب الحكم، وقد اكتفينا بذكرها دون شرحها، لأن لكل منها محله الخاص به.
([38]) رواه مسلم.
([39]) رواه ابن ماجة.
([40]) رواه ابن عدي.
([41]) رواه ابن عدي.
([42]) رواه الطبراني في الكبير.
([43]) رواه أحمد والترمذي والحاكم.
([44]) رواه البيهقي عن ابن المنكدر مرسلا.
([45]) رواه الطبراني في الكبير.
([46]) رواه أحمد والترمذي وابن حبان.
([47]) يرعوي: أي لا ينكف ولا ينزجر، من رعا يرعو إذا كف عن الامور (النهاية:2/236)
([48]) رواه أحمد والنسائي والحاكم.
([49]) رواه الترمذي.
([50]) إمعة: الامعة بكسر الهمزة وتشديد الميم: الذي لو رأى له، فهو يتابع كل أحد على رأيه، والهاء فيه للمبالغة، ويقال فيه إمع أيضا، (النهاية:1/67)
([51]) رواه البخاري.
([52]) رواه البزار.
([53]) رواه الترمذي.
([54]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
([55]) رواه البيهقي.
([56]) رواه البخاري في الأدب وأبو داود والحاكم.
([57]) رواه أحمد.
([58]) رواه الطبراني في الكبير.
([59]) رواه ابن عساكر.
([60]) رواه أحمد والترمذي والحاكم وابن حبان.
([61]) رواه ابن ماجة.
([62]) رواه البزار.
([63]) رواه أبو الشيخ في الثواب ، والخرائطي في مكارم الاخلاق.
([64]) رواه ابن خزيمة والشاشي وسمويه.
([65]) رواه البخاري ومسلم.
([66]) رواه الترمذي.
([67]) رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس.
([68]) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب، والطبراني في الأوسط والحاكم عن أبي هريرة.
([69]) رواه البخاري في الأدب والطبراني في الكبير عن ابن عباس.
([70]) رواه البزار عن أنس.
([71]) رواه أبو الشيخ في الثواب، والاصبهاني في الترغيب عن جابر.