ثانيا ـ النظام

في اليوم الثاني، صاح السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا المساء.. سيساق إلى الموت (الحسين بن علي)([1]).. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح لجميع السجناء بتوديعه والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن.. ومن يخترقها، فسيتحمل مسؤولية خرقه.
ما إن قال ذلك.. وما إن فتحت أبواب الزنازن.. حتى أسرع جميع السجناء إلى ساحة السجن حيث وجدوا الحسين بن علي جالسا على عرشه ينتظرهم.
كان فتى ممتلئا وقارا وهيبة وجمالا..
قال لنا بصوت قوي جليل ممتلئ بالحنان والرحمة: أيها الإخوان الكرام.. أنا اليوم في أسعد أيام حياتي.. لقد كانت أمنيتي الغالية منذ صباي أن يرزقني الله موتة كريمة عزيزة كموتة ذلك الأبي الشهم النبيل حفيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسين بن علي..
لقد كان يمثل لي ـ كما يمثل للملايين في الأجيال الطويلة المختلفة ـ الصوت الصارخ في البرية ضد الطغاة والمجرمين والمستبدين..
لقد كان دوره البطولي العظيم في وقعة الطف إحياء للدين.. وإماتة لبدعة خطيرة كان يمكن أن تقوض النظام الإسلامي لتحوله نظاما كسرويا أو قصرويا..
لقد استشهد الحسين ليقول للناس: إن دين الله ليس في المساجد فقط.. بل إنه في كل محل.. في محال السياسة والاقتصاد والتعليم والاجتماع والحسبة والقضاء والدفاع.. وكل المؤسسات.
فدين الله دين الحياة.. بجميع تفاصيلها..
هذا ما نادى به الحسين، وهو يخرج معارضا الاستبداد والطغيان.. ليحيي سنة التضحية بالنفس من أجل المبادئ.. ويميت أول وأخطر بدعة أرادت أن تنحرف بالإسلام عن مسار العدالة الذي شرعه الله لعباده.
قال رجل منا: ولكن الحسين قتل.. وقد سمعت البعض يعتبر ما قام به محاولة تمرّد فاشلة.
قال الحسين: دعهم يقولون ما يشاءون.. فإنهم لا يرددون سوى ما ردده أولئك الطغاة وأذنابهم وأعوانهم.
قال الرجل: وما تقول أنت؟
قال الحسين: أنا لا أقول.. بل التاريخ والحقائق هي التي تقول.. لقد كان الحسين هو المنتصر الحقيقي في تلك المعركة.. وكانت المبادئ التي نادى بها الحسين هي المنتصرة..
لقد خرج الحسين في ذلك الحين ليحفظ دين جده من أن يتلاعب به الصبية الذين يحملون عقول أهل الجاهية، وقيم أهل الجاهية..
ولا زال الحسين بخروجه ذلك رمزا لكل الرجال الأبطال الذين يرفضون أن يحنوا رؤوسهم لأي طاغية.
قال رجل منا: دعنا من الحديث عن الحسين بن علي.. وحدثنا عنك.
قال: أنا أحقر من أن أضيع أوقاتكم بالحديث عن نفسي.. ولذلك أسمحوا لي أن تكون كلماتي الأخيرة التي أقولها في هذه الدنيا هي الكلمات التي خرج الحسين من أجلها..
لقد قام الحسين وأصحابه.. واسترخصوا نفوسهم في ذات الله، من أجل أن يبقى للنظام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم نقاءه وصفاءه وطهارته..
لقد جاء المستبدون بعقول الجاهلية.. وأرادوا أن يحولوا من الإسلام دينا يدع لقيصر ما له وما ليس له.. لكن الحسين وإخوانه في كل زمان كانوا يقفون في وجه هذا الفهم الخاطئ للدين.. فالدين ليس قيما رفيعة فقط يمكن لأي شخص أن يقوم بها بمفرده..
لا.. إنه فوق ذلك كله نظام.. نظام يشمل جميع المؤسسات: السياسية، والاقتصادية، والتعليمية، والاجتماعية، والإصلاحية، والقضائية، والعسكرية.. وغيرها من المؤسسات.
قال رجل منا: فحدثنا عن النظام السياسي في الإسلام..
قال آخر: لم أسمع أن هناك في الإسلام شيء اسمه (نظام سياسي)
قال آخر: بلى.. هناك نظام سياسي.. وهو نظام ملكي.. تتوارثه العائلات الكبرى.. كان من بينها بنو أمية.. ثم بنو العباس.. ثم بنو عثمان.. وكان من بينها بنو الأحمر، وبنو الأصفر..
قال آخر: لا.. هو نظام يعتمد العصبية والقوة.. فمن كانت له العصبة والقوة كانت له شرعية الحكم.. ومن لم تكن له كان باغيا خارجيا ظالما.
قال آخر: هناك نظام سياسي.. ولكنه يعتمد على وجود القرشيين.. لأنه لا يمكن أن يقوم إلا بوجودهم.. وهذا يستدعي وجود النسابين حتى يميز القرشي عن غيره.
أشار إليهم الحسين أن يسكتوا.. بعد أن سكتوا قال: أنتم ترددون تلك الأفكار التي أشاعها من قتل الحسين، أو من لم يهتز له عرق لقتله..
إن النظام السياسي في الإسلام يختلف عن كل ما ذكرتم.. إنه نظام لا ينشأ إلا للعدل.. ولتحقيق العدل..
إنه نظام ينطلق من أن العباد عباد الله.. ولا يحق لأحد أن يحكمهم إلا ربهم الذي خلقهم.. { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } (الأنعام: 57).. :{ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (القصص:70).. :{ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص:88)
وربهم الذي خلقهم أنزل عليهم بفضله وكرمه ورحمته ما يدلهم على مراضيه ليجعلوه دستور حياتهم الذي عليه تقام، وبه تستقر، فلا يحق لأحد أن يتجاوزه أو يقدم رأيه عليه، قال تعالى :{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } (المائدة)
وهو نظام ينطلق من وجود الخليفة الصالح الحفيظ العليم الذي يكون قدوة لرعيته في تطبيقها لأحكام ربها، قال تعالى :{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (صّ:26)
وهو نظام ينطلق من وجود رعية حكيمة واعية تطيع أميرها لطاعته لله وتعينه على ذلك.. فهي تتخذه إماما يصلي بها كما أمر الله..
وهو نظام ينطلق من وجود برامج تنظيمية تيسر تحقيق العدالة التي أمر الله بها، وجعل الهدف الأكبر لسياسة العباد.
قال رجل منا: ألا ترى أن ما ذكرته مجرد مبادئ عامة في السياسة.. أما السياسة في حقيقتها فهي أعظم من ذلك، وأشد تعقيدا([2]).
ابتسم الحسين، وقال: لقد خلق الله الحياة بسيطة.. فلا يصح أن نعقدها.
قال الرجل: ولكن المعقد يبقى معقدا.. ولا يستطيع أحد في الدنيا أن يجعله بسيطا.. وإلا حوله عن أصله الذي خلقه الله عليه.
قال الحسين: لقد خلق الله كل شيء على الفطرة.. والفطرة ليس فيها ما تذكره من التعقيدات..
التعقيد يأتي من الذين يريدون أن يتلاعبوا بالحقائق.. ليغشوا الرعية ويسرقوها.
لقد ردد جميع أحفاد الطغاة ما تذكره ليقولوا للرعية المسكينة: الأمر أعقد من أن تفهميه.. فلذلك ليس عليك إلا أن تطيعي.
قال الرجل: أنا لم أستند للطغاة في قولي هذا.. لقد استندت إلى علماء كبار.. علماء يرتدون من العمائم ما لا تستطيع أنت ولا أحد في الدينا أن يرتدي مثلها.. لقد وفقني الله فدرست على يد شيخ منهم.. هو من كبار شيوخ الأزهر.. كان اسمه (علي عبد الرازق).. لقد كتب كتابا في ذلك الحين لم يؤلف مثله من قبل ومن بعد.. سماه (الإسلام وأصول الحكم )..
أذكر أنه كتب كتابه هذا سنة ( 1925 م ) في تلك السنين التي ألغي فيها نظام الخلافة في تركيا.. وكان كتابه ذلك من أعظم هداياه لهم.
قال: أعرف ذلك الرجل.. لقد كان رجلا صادقا.. ولكنه كان مسكينا.. زار ذات مرة تلك البلاد التي تغرب منها الشمس، فرأى ما فيها من بهرج .. فعمي عن البهرج الذي فيها عن الحيات التي تسكنها وتوجهها([3]).
ومع ذلك.. فقد كان له ناصحون كثيرون([4]).. ولعله انتصح لهم.
قال الرجل: لم يكن ذلك الرجل وحده.. لقد قرأت في بعض المصادر المهمة أن في الإسلام نظريتين: إحداهما تقول بأن الإسلام دين ودولة، والأخرى تقول أن الإسلام دين روحي.. ولذلك ليس على أي طرف من الأطراف أن يفرض قناعته على غيره.
ابتسم الحسين، وقال: أعلم أن لك تأثرا بالمستشرقين.. فأجبني عما أسألك عنه.
أرأيت لو أن شخصا قال لك: إن في المسيحية نظريتين في الألوهية: إحداهما تقول (الآب والابن وروح القدس)، والثانية تقول ( لا إله إلا الله).. فهل تصدق هذا؟
قال: حسب معلوماتي.. فإن المسيحيين متفقون في الآب والابن ورح القدس.. ويختلفون في طبيعة المسيح.. ويختلفون في..
قال الحسين: دعني من اختلافهم.. أسألك عن اتفاقهم في كلمة (الآب والابن وروح القدس)،
قال: هم متفقون فيها.
قال الحسين: وآريوس أسقف كنيسة بوكاليس في الإسكندرية (250 ـ 336 م) لقد كان مخالفا لهذا.. وقد كان له ألوف الأتباع ممن عرفوا بالآريوسيين… وقد بقي مذهبهم التوحيدي حيا لفترات زمنية طويلة…
قال: هم مع ذلك محدودون.. وقد أكلهم الدهر.. ولا يصح اعتبار مذهبهم خرقا للمسيحية.
قال الحسين: وما تقول في يوزيبيوس النيقوميدي أسقف بيروت، الذي نقل لنيقوميديا عاصمة الإمبراطورية الشرقية، و كان من أتباع لوسيان الأنطاكي، وقد كان من أصدقاء آريوس.
قال: أنت تتحدث عن تواريخ بائدة لا ندري صحة ما نقل منها، فكيف تريد أن تخرق بها الإجماع المسيحي([5])؟
قال الحسين: وكيف تريد أن تخرق أنت برجل واحد وقف الكل ضده الإجماع الإسلامي بوجود نظام سياسي.
قال رجل منا: دعنا من هذا.. النظريات لا تثبت هكذا.. النظريات تثبت بأدلتها.. وبالحقائق التي تنطوي عليها..
أنت تقول: إن هناك نظاما سياسيا في الإسلام.. ونحن لا نصدقك.. ولا نكذبك.. ولكنا نسألك عن الأسس التي يقوم عليها هذا النظام.. فإن كانت هذه الأسس صحيحة قويمة لها ما يدل عليها من النصوص أو من الواقع سلمنا لك بها.. وإلا فلن يجدي إجماع الملايين على وجود شيء لم نره بأعيننا أو لم نلمسه بأدينا.
قال الحسين: يقوم النظام السياسي في الإسلام على أربعة أركان كبرى.. هي: الدستور، والإمام، والتنظيمات التي يختارها الإمام، والرعية التي تحدد موقفها من الإمام.
سأذكرها لكم باختصار.. أما تفاصيلها، فتجدونها في المطولات التي كتبها فقهاء المسلمين في الأزمان الطويلة.
قلنا: فحدثنا عن الركن الأول.
قال: أرأيتم الآلات الكثيرة التي يتزاحم الناس عليها ابتغاء ما فيها من رفاه.
قلنا: ما بها؟
قال: ألستم تجدون معها من الدفاتر ما يوضح غرضها، ووجوه استعمالها، وأساليبه.. وكيفية تصحيح ما يقع لها من أعطاب.. وكيفية تجنب تلك الأعطاب قبل حصولها؟
قلنا: أجل.. وذلك من المحاسن لا من المساوئ.
قال: أرأيتم لو أن مؤسسة ما اخترعت جهازا معقدا غاية التعقيد.. وله من الاستعمالات ما لا يمكن حصره.. وكان فيه في نفس الوقت من الاستعداد للعطب ما يجعله يتأثر لأبسط المؤثرات..؟
قلنا: إن مثل هذا الجهاز قد لا يحتاج دفترا فقط.. إنه يحتاج فوق ذلك إلى تدريب خاص لمن يمتلكه.
قال: من يقوم بذلك التدريب.. ومن يعين عليه؟
قلنا: الجهة المصنعة هي الجهة المسؤولة عن ذلك.
قال: ولو قصرت الجهة؟
قلنا: تقصيرها لا يغتفر.. بل تكون إساءتها بالتقصير في هذا ناسخة لمحاسنها في صناعته.
قال: فهكذا الأمر مع صنعة الله.. الإنسان.. بنيان الله الفريد العجيب.. إنه آلة معقدة.. بل هو أعقد الآلات.. ولو جمعنا جميع عقول آلات الدنيا.. فلن تعدل عقل مجنون من مجانين بني آدم..
قلنا: نسلم لك بهذا.. فما تريد منه؟
قال: هل ترون الله الرحمن الرحيم الذي خلق هذه الآلة العجيبة.. وأمدها بكل ما تحتاجه.. البسيط والمعقد.. يمكن أن يقصر في هذا، في الوقت الذي لا تقصر فيه أبسط المؤسسات وأحقرها؟
سكتنا، فقال: ولهذا.. فنحن المسلمين نعتقد أن الله تعالى برحمته أرسل إلى البشرية.. في كل فترة من فتراتها.. وفي كل أمة من أممها ما يدلها على الطريق الصحيح الذي تعبد به ربها، وتمارس به حياتها:
لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} (البقرة)
وقال تعالى عن تقصير بني إسرائيل ـ باعتبارهم نموذجا لرسالة من رسالات الله ـ فيما أنزل إليهم من كتاب:{ ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} (آل عمران)
وقال يصفهم :{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (المائدة)
وعلى هذا النهج والسنة الإلهية أنزل القرآن الكريم ليؤدي الوظيفة التي أدتها سائر الدساتير الإلهية، قال تعالى :{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} (المائدة)
وقد سمى الله تعالى كل خلاف للمنهج الذي اختاره لعباده جاهلية، فقال :{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (المائدة)
ضحك أحدنا بصوت عال، وقال: هل ترى أن الله ينزل من علياء عرشه.. ليحكم هذه الذرات التائهة المسماة (بشرية)؟
ابتسم الحسين، وقال: أليس الله هو الذي خلق النمل والنحل والبعوض ووحيدات الخلية، وأمدها بالفطرة السليمة التي تتيح لها أن تحيا الحياة السليمة؟
قد لا تقول بعض الديانات المحرفة بهذا.. أما تصورنا نحن المسلمين، فيقوم على هذا، فالله هو القيوم الذي يقوم به كل شيء من الخلق والأمر.. قال الله تعالى :{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255)
لقد أخبرنا ربنا أن حركات النحل التي تتحركها لتصنع ذلك الشفاء الرباني العجيب لا تتحركها إلا انطلاقا من الوحي الإلهي، قال تعالى :{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(69)} (النحل)
فإذا كان النحل البسيط يحتاج إلى الله في حركاته.. فكيف نستغني نحن عنه؟
قال رجل منا قد يكون مسيحيا، أو له علاقة بالمسيحية: لقد عرفت الله، وعرفت أنه أرفع من أن ينزل إلى عرش قيصر ليحكم بدل قيصر.. فلذلك قال لنا الكلمة: ( دعوا ما لقيصر لقصير، وما لله لله)
قال الحسين: أما لقيصر لله، أم ليس لله؟
قال الرجل: ما تقصد؟
قال: أليس البشر الذين يحكمهم قيصر عباد لله.. خلقهم الله وصورهم ووهبهم من أفضالهم ما وهبهم؟
قال الرجل: صحيح ما تقول.
قال: فهم لله.. وليسوا لقيصر.
قال الرجل: ولكن قيصر هو الذي يحكمهم.
قال: أرأيت لو أن رجلا سطا على بيتك.. وجلس على عرشك.. وراح يأمرك وينهاك أكنت تعتقد أن طاعته واجبة عليك لا مناص لك منها؟
قال الرجل: لا.. طاعتي له جريمة.. فكيف أرضى لمن سطا علي أن يتملكني.
قال: فكذلك قيصر.. وكذلك كل القياصرة.. لقد خلقنا الله أحرارا، فرحنا نبيع حريتنا للمستبدين ليحرقونا بنيرانهم.. ثم ننسب ذلك كله لله.
قلنا: حدثتنا عن الركن الأول من الأركان التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي.. فحدثنا عن الركن الثاني.
قال: ألا ترون السماء.. وأقمارها وكواكبها ونجومها ومجراتها؟
قلنا: بلى.. وما علاقتها بهذا؟
قال: ألا ترون كيف نظم الله الكون.. فالقمر تابع للكوكب.. والكوكب تابع للنجم.. والنجم سائر مع المجرة يتحرك وفق حركاتها.. فلا يشذ عنها ولا ينحرف.
قلنا: بلى.. فما علاقة ذلك بما نحن فيه؟
قال: إن الحركات المنتظمة تستدعي نقطة مركزية أو محورا.. ولا يمكن أن تنظم الحركات من دون ذلك.
قلنا: أتقصد أن الركن الثاني هو تلك النقطة المركزية؟
قال: أجل.. فلا يكفي الدستور وحده لأكثر الناس.. فلذلك هم يحتاجون إلى من ينظم حياتهم وحركاتهم.
قال رجل منا: ذلك متفق عليه عند البشر جميعا.. وقد قال الشاعر قديما:
لا يصلح الناس الفوضى لا سراة لهم |
ولا سراة إذا جهالهم سادوا |
والبيت لا يبتني إلا على عمد |
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد |
فما ميزة النظام الإسلامي في هذا؟
قال: ميزة الإسلام في هذا أنه وضع القوانين التي تتيح لشخص ما أو لجماعة ما هذه الوظيفة الخطيرة التي تتوقف عليها حياة الناس.
قلنا: فما هذه الضوابط؟
قال: لقد ذكر القرآن الكريم ضابطين عظيمين لذلك، تندرج ضمنهما سائر الضوابط، وذلك في قوله تعالى على لسان يوسف u :{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف:55)
لقد ذكر الله في هذه الآية الكريمة ضابطين عظيمين، أما أولهما، فالحفظ، وأما الثاني، فالعلم.
أما الحفظ، فيتمثل في جميع الأخلاق التي تجعل من وكلت إليه هذه المهمة لا يسعى لحظ نفسه.. بل يسعى لحفظ ما وكل به من شؤون الرعية..
وأما العلم.. فيتمثل في جميع القدرات والخبرات التي تمكنه من أداء وظيفته.. فلا يمكن أن تؤدى وظيفة من وظائف الوجود بالجهل.. فالجاهل لا ينفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟
ضحك بعض الحاضرين، وقال: فأين مثل هذا الرجل.. إنه كالدرة اليتيمة.
ابتسم الحسين، وقال: جل جناب الحق أن يخلي الأرض من أصحاب القدرات المختلفة.
قال الرجل: فما الذي يحول بينهم وبين الوصول إلى المناصب التي هم أهل لها؟
قال الحسين: أصحاب النفوس والأهواء هم الذين يحولون بينهم وبينها.. لقد ذكر الله ذلك فقال حاكيا عن بني إسرائيل وعنصريتهم التي حالت بينهم وبين قبول الحاكم الذي رضيه الله لهم.. قال تعالى :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} (البقرة)
ومع ذلك لم يقبلوا إلى أن رأوا المعجزة التي تدلهم على أنه الحاكم الذي رضيه الله لهم.
ولم يكن الأمر قاصرا على بني إسرائيل.. فأكثر الأمم واجهت أنبيائها الذين هم أشرف الناس وأقدر الناس على تحمل مثل هذه المسؤوليات بالتكذيب والاحتقار لسبب بسيط كهذا السبب الذي أورده القرشيون في رفضهم لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. قال تعالى :{ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} (الزخرف)
وقد رد الله عليهم هذا المنطق، فقال :{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} (الزخرف)
قلنا: فما الركن الثالث من أركان النظام السياسي الإسلامي؟
قال: الرعية.. الرعية هم الذين يتشكل منهم نظام السياسة في الإسلام.
قلنا: وفي غير الإسلام.. فلا يمكن أن يكون هناك نظام من غير رعية.
قال: لا أقصد بالرعية الشعب المجرد عن حرية الرأي، وقوة الإرادة، ونفاذ العزيمة.. بل أقصد الشعب الممتلئ بالحرية والوعي والقدرة على أن تكون له إرادته الحرة التي يهابها الحاكم، ويحسب لها حسابها.. بل لا يمكن للحاكم أن يحكم الرعية من دونها.
قلنا: تقصد الانتخاب؟
قال: لا أقصد الانتخاب وحده.. بل أقصد كل ما يربط الرعية براعيها حتى عزله إن أرادت.
قلنا: أفي الإمكان ذلك؟
قال: أجل.. بل يجب على الرعية أن تعمل على عزل راعيها إن أساء..
قلنا: نرى أن للرعية شأنا في النظام الإسلامي.. فما هو؟.. وما منطلقاته؟
قال: للرعية في النظام السياسي الإسلام أربع مسؤوليات([6]): البيعة لمن توفرت فيه الأهلية.. والطاعة في المعروف.. والمعصية في المنكر.. وعزل من لم تتوفر فيه الأهلية.
قلنا: فحدثنا عن أولها.
قال: تبدأ علاقة الرعية براعيها في النظام السياسي الإسلامي بالبيعة.. فلا يمكن للحاكم أن يصير حاكما قبل أن يبايع.
لقد طبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ باعتباره أول حاكم للمسلمين ـ ذلك على نفسه.. فكان بين الحين والآخر يدعو إلى البيعة ويجددها.. وقد ذكر القرآن الكريم ذلك.. قال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (الفتح:10)، فَيَدُه سبحانه في الثّواب فوق أيديهم في الوفاء، ويده في المنّة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطّاعة.
هذه الآية الكريمة تتحدث عن بيعة الرّضوان بالحديبية، وقد أنزل اللّه تعالى فيمن بايعه فيها قوله تعالى :{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } (الفتح:18)
وقبل ذلك.. وفي بيعة العقبة الأولى بايع المسلمون الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم على ما يسميه الفقهاء (بيعة النّساء)، وكان نص الببيعة هو: (بايعوني على أن لا تشركوا باللّه شيئاً، ولا تَسْرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على اللّه، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدّنيا فهو كفّارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثمّ ستره اللّه، فهو إلى اللّه، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه)
وقد بايعوه صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك مرات على حسب الأحوال.. بل بايعه النساء.. وقد ذكر القرآن الكريم ذلك، قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (الممتحنة:12)
هذه نماذج عن بعض بيعات المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي دليل على أن من سنة الحاكم الراشد أن يبادر كل حين طالبا بيعة رعيته على حسب الأحوال المختلفة.
قال رجل منا: ما الحاجة للبيعة كل مرة.. ألا يكفي الحاكم أن يبايع مرة واحدة؟
قال الحسين: لا يكفي الحاكم الراشد أن يبايع مرة واحدة.. فهو قد يحكم رعيته في ظرف معين.. ثم تجد ظروف أخرى، وقد يضع لها الحاكم من البرامج ما يتناسب معها.. ولذلك يحتاج أن يأخذ رأيهم كل حين حتى يقفوا مع ما يريد أو يخالفوه..
قال الرجل: إذن ما أسرع أن يعزل هذا الحاكم في رعية لا تعرف إلا أهواءها.
قال الحسين: لا يستطيع الحاكم أن يحكم رعية لا تثق فيه ولا تتقبله وليس لها من العزم ما تستطيع به أن تنفذ ما يطلبه منها مما تقتضيه السياسة.
قلنا: عرفنا المسؤولية الأولى.. فما الثانية؟
قال: المسؤولية الثانية هي الطاعة في المعروف.. فالرعية التي بايعت الإمام ينبغي أن تخلص لبيعتها.. فتنفذ ما تقتضيه من طاعته ما دام يطيع الله.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } (الفتح:10)
وأمر بالوفاء بالعقود، فقال :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(المائدة: 1)
وأثنى الله على المؤمنين بصدق الوفاء ببيعاتهم وعهودهم، فقال :{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } (الأحزاب:23)
وقد ورد في السنة الحث على الوفاء بما تتطلبه البيعة، وورد فيها في نفس الوقت تهديد من نقض بيعته من غير موجب:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)([7])
وقال : (لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان)([8])
وقال في الحديث القدسي: (يقول الله – تعالى – ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره)([9])
وقال : ( من خلع يدا من طاعة الله لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)([10])
وقال : (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر)([11])
قلنا: عرفنا المسؤولية الثانية.. فما الثالثة؟
قال: المسؤولية الثالثة هي المعصية في المنكر.. فقد عرفنا أن الله هو الحاكم الأعلى للمسلمين.. وما الخلفاء إلا نواب.. ولا يصح أن يعصى الحاكم الأعلى بطاعة النائب الأدنى.
وقد ورد في النصوص الكثيرة ما يدل على هذا.. فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية، فاستعمل رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه فغضب، فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تطيعوني قالوا: بلى قال: فاجمعوا لي حطبا فجمعوا فقال: أوقدوا نارا فأوقدوها فقال: ادخلوها، فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون فررنا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ( لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف)([12]).. فهذا الأمير أمر أصحابه بما يجلب المضرة لهم، وينفي مصالحهم، فأمرهم صلى الله عليه وآله وسلم بمعصيته في ذلك، بل أخبر أنهم لو أطاعوه فدخلوا النار ما خرجوا منها.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم يذكر قاعدة ذلك:( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)([13])، وقال : ( لا طاعة لبشر في معصية الله)([14])
قلنا: عرفنا المسؤولية الثالثة.. فما الرابعة؟
قال: المسؤولية الرابعة هي عزل الوالي إن أساء..
قاطعه الرجل الذي له علاقة بالفقهاء، وقال: كيف تقول ذلك.. وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها) قالوا : يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال:(تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم)([15])
قال الحسين: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وليس الشأن فيما قال، ولكن الشأن في أن نفهم ما قال.
قال الرجل: فما الفهم الصحيح الذي تراه لهذا؟
قال الحسين: لقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نطيع الولاة.. لأنه لا يمكن أن تنتظم أمور حياتنا من غير ذلك..
وهذه الطاعة قد يعترضها أحيانا ما يشوشها.. وهذا لا حرج فيه.. فالحاكم بشر.. وقد يخطئ وقد يصيب.. ولو أن كل حاكم أخطأ خطأ بسيطا عزل وأهين لما قامت للولاية سوق.. ولصرنا نطلب من الله أن يرسل لنا أنبياء ليحكمونا.
بالإضافة إلى أن الحقوق قد تلتبس.. فالبعض يتصور ما ليس له بحق حقا.. وطاعة ذلك تؤدي إلى محالة إلى سيطرة الأهواء .. وسيطرة الأهواء لا تؤدي إلا إلى الفتنة.
بالإضافة إلى أن للأوضاع المختلفة تأثيرها في تصرفات الحاكم.. وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك في قوله:( إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار) ([16])
وهذا كله لا يعني عدم الوقوف في وجه الحاكم إن أخطأ.. بل قد ذكر الفقهاء العدول أن على الأمة أن تفعل ذلك بكل ما أوتيت من قوى([17])..
قلنا: حدثتنا عن الركن الثالث من الأركان التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي.. فحدثنا عن الركن الرابع.
قال: أرأيتم لو أن رساما رسم على لوحته صورة لحديقة زينها بأجمل الزهور والألوان، ونسقها تنسيقا بديعا.. لكنه تلاعب بالألوان.. فجعل أوراق الأشجار سوداء.. وجعل المياه حمراء.. وجعل الشمس خضراء؟
قلنا: لا شك أن هذا رسام هازل.
قال: لا.. هو رسام جاد.. ولكنه أراد أن يبدع.. وقد رأى أن كل الرسامين يرسمون الأوراق خضراء، فراح يحولها إلى سوداء.
قلنا: فهذا مجنون إذن.
قال: لم ترون جنونه؟
قلنا: لأن الإبداع لا يكون بالتلاعب بحقائق الأشياء..
قال: ففيم يكون إذن؟
قلنا: في تنسيقه واختياراته والإيحاءات التي تعبر عنها صوره.
قال رجل منا: ما تريد بكل هذا؟
قال: أريد أن أبين لكم العلاقة بين التنظيمات والدستور.. فالدستور الإلهي دوره أن يبين فطر الأشياء وحقائقها حتى لا يتلاعب الساسة بها.. وأما التنظيمات، فدورها أن تجعل صورة الحياة جميلة حية ممتلئة بالسعادة.
قلنا: فما علاقة هذا بالنظام السياسي الإسلامي؟
قال: كما أن الإسلام تشدد في دستوره الذي يحفظ حقائق الأشياء، فإنه في مقابل ذلك تفتح تفتحا تاما على كل ما يخدم الحياة من تنظيمات.. فالحياة لا تستقيم إلا بالتنظيمات الصالحة التي تيسر للرعية حياتها.
لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك حين قال:( إن الله يحب إذا عمل أحدكم العمل أن يتقنه)([18])
واعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإحسان أصلا من أصول الدين وقمة من قممه، فقال : (إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)([19])
ولذلك.. فإن جميع التنظيمات الصالحة التي تيسر تحقيق العدالة واجبة من جهة دخولها في الإحسان الذي أمرنا الله به.. بل كتبه علينا في كل شيء.
ولذلك.. فإن النظام السياسي في الإسلام يطلب من ولي الأمر البحث عن كل إبداع في هذا الباب.. ويطلب منه أن يستخدم جميع الوسائل التي تيسر عليه تحقيق العدالة التي لا ينتظم شأن الرعية إلا بها.
قام رجل منا، وقال: فمن هذا الباب ـ إذن ـ تأثر الفقه الإسلامي بالتشريع الروماني([20])؟
ابتسم الحسين، وقال: لقد علمنا ربنا أن لا نقر شيئا، ولا ننكره إلا بدليل، فقال:{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36)، وقال :{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَO (البقرة: 111).. فما أدلتك على هذا؟
قال: لقد اتفق على هذا أكثر المستشرقين([21])..
ابتسم الحسين، وقال: لقد اتفق كل المدمنين على المخدرات على أن للمخدرات نشوة لا تعدلها نشوة.. فهل تقرهم على إجماعهم؟
قلت: كيف أقرهم وهم ضحايا الإدمان؟
قال الحسين: لكل إدمانه الخاص.. فلذلك لا يصح أن نعتبر آراء الرجال ـ مهما كانت ـ دليلا..
قال الرجل: من الأدلة التي أوردوها هو أنه كان في الشام مدارس للقانون الروماني عند الفتح الإسلامي في قيصرية وفي بيروت، وكان هناك محاكم تسير في نظامها وأحكامها حسب القانون الروماني، واستمرت هذه المحاكم في البلاد بعد الإسلام زمنا.. وطبيعي أن قوما لم يأخذوا من المدنية بحظ وافر إذا فتحوا بلادا ممدنة نظروا ماذا يفعلون، وبم يحكمون، ثم اقتبسوا عن أحكامهم.
بالإضافة إلى هذا، فإن المقارنة بين بعض أبواب الفقه وبعض أبواب القانون الروماني تقنعنا بهذا، بل إن هناك قواعد نقلت من القانون بنصها مثل: (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)..
بالإضافة إلى أن كلمتي الفقه والفقيه استعملتا وفاقا لمعنى الكلمة المستعملة عند الرومان، فهم يستعملون كلمة، وهي تدل على الفهم والمعرفة والحكمة.
بالإضافة إلى هذا.. فإنه من المحتمل أن يكون الفقه الإسلامي قد استفاد من القانون الروماني إما مباشرة أو عن طريق التلمود.. لأن التلمود أخذ كثيرا من القانون الروماني، واتصال المسلمين باليهود مكنهم من الأخذ ببعض أقوال التلمود([22]).
ابتسم الحسين، وقال: لقد سمعت لأدلتك بكل صدق وإخلاص.. فاسمح لي أن أبين لك ما أراه من صواب.. لا بحسب كوني مسلما.. ولكن بحسب كوني باحثا عن الحقيقة.
لقد انطلت علي في يوم من الأيام هذه الشبهة وغيرها.. لكن الحقائق الكثيرة التي رأيتها في الإسلام جعلتني أراجع نفسي، وأتراجع عن تلك الأفكار التي لم يكن لها إلا هدف واحد هو تحويل الإسلام مسخا مركبا لا حقيقة له ولا أساس.
لقد كان من أول ما فند عندي هذه الشبهة هو أني رأيت المسلمين ـ منذ بدأ الإسلام ـ يعتقدون أن الله خاطب بالشريعة الإسلامية جميع البشر، بما أتى به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أوامر ونواه وتخييرات.. ورأيتهم يعدون كل من لا يؤمن بالشريعة الإسلامية كافرا، كما قال تعالى :{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)
ورأيتهم يعتقدون أن أي حكم يخالف حكم الإسلام هو من أحكام الكفر، يحرم عليهم أخذه.. كما قال تعالى:{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة: 44)
فلا يتأتى لمن يحمل مثل هذا الاعتقاد أن يأخذ أي حكم من غير الإسلام.
كان هذا أول ما صد عني رياح هذه الشبهة..
قال ذلك، ثم التفت إلى الرجل، وقال: أما كلمة (فقه) و(فقيه)، قد وردت في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف قبل أن يكون للمسلمين أي اتصال حضاري بتلك الشعوب.. فالله تعالى يقول:{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)([23])
وأما قاعدة (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر).. فقد وردت في الحديث قبل اتصال المسلمين بغيرهم.. ففي الحديث، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)([24])
وفي حديث آخر: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)([25])
قال رجل منا: حدثتنا عن النظام السياسي.. فحدثنا عن النظام الاقتصادي..
قال آخر: لم أسمع أن هناك (نظاما اقتصاديا) له صلة بالإسلام.
قال آخر: (اقتصاد إسلامي)!؟.. لم أسمع بهذا من قبل.
قال آخر: بلى.. سمعت بهذا.. ولو أني لم أره..
قال آخر: بلى.. لقد رأيته بأم عيني.. بل دخلت محلاته .. وهي محلات مزخرفة ممتلئة بكل زينة.. لقد كتب على بابها بالبنط العريض (بنوك إسلامية).. ولكني لم أرها تبيع إلا السيارات الفاخرة التي تنتجها الدول العظمى.
قال آخر: لو كان في الإسلام نظام اقتصادي، فهو نظام فاشل.. وأكبر دليل على فشله هو أن بلاد المسلمين من أغنى أرض الله بالثروات، ومع ذلك ينام أهلها تحت وطأة الفقر والجوع.
أشار إليهم الحسين أن يسكتوا.. فلما سكتوا أخذ يرتل بجلال قوله تعالى :{ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا } (البقرة: 275)
ثم التفت إلى الجمع، وقال: هذه الآية الكريمة تختصر جميع النظام الاقتصادي الإسلامي..
قلنا: كيف؟.. ولا نراها إلا تحل البيع.. وتحرم الربا.. والاقتصاد أخطر من أن ينحصر في البيع والربا.
قال: إن هذه الآية العظيمة تدلنا على أمرين:
أما أولهما، فهو التصرفات المباحة.. والتي يشكل البيع واحدا منها.. وهو يمثل كل حركة للمال والجهد.
وأما الثاني، فهو كابح لتلك التصرفات والحركات حتى لا تنجرف إلى الربا وإخوان الربا.
إن مثل ذلك مثل سيارة تزود بكل ما يتيح لها الحركة الحرة في كل اتجاه.. ولكنها في نفس الوقت تحمى بفرامل تقيها العثرات.. ولا يمكن لأي سيارة في الدنيا أن تستغني عن مثل هذه الفرامل.
قلنا: من العجب أن يختصر الاقتصاد بتفاصيله في هذا.
قال: سأشرح لكم ذلك.. وسترون عظمة الاقتصاد الذي شرعه الله لعباده..
إن الاقتصاد حسبما تنص عليه تلك الآية يتكون من معنيين: من القيم الاقتصادية.. ومن الحركة الاقتصادية.
قلنا: فحدثنا عن القيم وعلاقتها بالاقتصاد الإسلامي.
قال: هناك قيمتان كبيرتان تنطلق منهما جميع القيم التي جاء الإسلام لمراعاتها في هذا الباب.. أما إحداهما، فعقدية تتعلق بالتصورات والأفكار.. وأما الثانية، فأخلاقية متعلقة بالسلوك والآدب.
قلنا: حدثنا عن أولاهما.. تلك التي ترتبط بالعقيدة والتصورات.
قال: ينطلق الإسلام في كل مواقفه وتنظيماته من الإيمان بالله.. ولذلك فإن أول ما تفعله العقيدة في المؤمن أن تسلب منه ملكيته لماله، كما تسلب منه قبل ذلك ملكيته لكل شيء..
فالله في تصور المؤمن هو المالك الحقيقي للأشياء.. قال تعالى:{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة:120)
والله واحد في ملكه لا شريك له.. قال تعالى:{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (الاسراء:111)
وانطلاقا من هذا، فإن القرآن الكريم يملأ وجدان المؤمن بأن المال مال الله.. وأن المؤمن ليس له من حظ في هذا المال سوى أنه مستخلف أو وكيل فيه، قال تعالى:{ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ O (النور: 33).. انظروا كيف نسب الله تعالى المال لنفسه.. وكأنه يقول للعبد: أنت مخطئ في تصورك أن هذا المال مالك.. إنما هو مال الله.
وقال تعالى مقررا علاقة الإنسان بالمال :{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } (الحديد:7)
قاطعه رجل منا، وقال: فالإسلام يتفق في ذلك مع العقيدة المسيحية إذن.. فقد حدث أصحاب الأناجيل – متى ومرقص ولوقا – عن المسيح: أن شاباً غنياً أراد أن يتبع المسيح، ويدخل في دينه، فقال له المسيح: ( بع أملاكك، ثم اعط ثمنها للفقراء، وتعال اتبعني)، فلما ثقل ذلك على الشاب قال المسيح: (يعسر أن يدخل غني ملكوت السموات) أقول لكم أيضاً: ( إن دخول جمل في ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غيى ملكوت الله )
قال آخر: والإسلام بذلك يختلف اختلافا جذريا عن جميع المذاهب الاقتصادية.. فكلها من رأسمالية وشيوعية وغيرها تجعل الاقتصاد محور الحياة وتجعل من المال (إله ) الأفراد والجماعة.
قال الحسين: الإسلام يتفق مع هذا وذاك..
قلنا: كيف ذلك؟.. ونحن نرى أنهما يسيران في خطين متوازيين..
قال: الإسلام.. رسالة الله وازنت بينهما.. لتحقق العدل الذي قامت عليه السموات والأرض.
قلنا: كيف ذلك؟
قال: عندما يعتقد الإنسان أن المال ماله.. وأنه أوتيه بجهده وقوته سوف يؤديه ذلك لا محالة إلى الطغيان..
لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :{ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7)} (العلق).. ففي هذه الآية يخبر تعالى أن من طبيعة الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله.
ولهذا توعد الله بالويل من اختصر همته في حياته في جمع المال وعده، قال تعالى :{ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} (الهمزة)
وقد ضرب الله المثل للتفاني في حب المال بقارون، فقال يحكي قصته باعتباره نموذجا لهذا الصنف من الناس ومن المذاهب والأفكار:{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)..} (القصص)
اعذروني إن كنت قد قرأت لكم هذه الآيات بطولها.. فأنا لا أراها مجرد قصة لرجل من بني إسرائيل.. بل أراها أعظم من ذلك بكثير إنها تمثل دستور المسلمين الاقتصادي..
وقارون بالنسبة لي ليس مجرد شخص.. إنه يتمثل في أنظمة كاملة.. أنظمة ممتلئة بالكبر والجشع والأنانية..
ومصير قارون بالنسبة لي هو المصير النهائي الذي ستؤول إليه تلك الأنظمة.. فتلك الأنظمة التي استكبرت فوق الأرض ليس لها من مصير سوى أن تخسف بها تنال الأرض لتنال جزاء كبريائها.. ولهذا ختم الله تعالى قصة قارون بقوله :{ تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} (القصص)
انظروا كيف وصفت هذه الآية العابدين للمال من دون الله.. لقد وصفتهم بالعلو والاستكبار.. كما وصفتهم بالفساد.. وكلاهما نتيحتان حتميتان لكل من اتخذ المال إلها من دون الله.
قال رجل منا: فالمال ممقوت إذن بسبب كل ما ذكرت.
قال الحسين: نعم.. المال إن جعل صاحبه مثل قارون فهو مال ممقوت.. هو ممقوت كما يمقت المرض، وكما تمقت الزلازل وجميع المصائب.. وكيف لا يمقت، وهو يؤدي بصاحبه إلى تلك النتيجة الخطيرة التي آل إليها أمر قارون.. وغيره.. في جميع أحقاب التاريخ.
لقد حذر الله المؤمنين من أن يشتغلوا بأموال قارون عن الوظيفة التي خلقوا لها.. قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (المنافقون:9).. وقال :{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (لأنفال:28)
قال رجل منا: فكيف تزعم أن الإسلام جمع بين الأمرين.. بين حب المال وبغضه.. ووازن بين الزهد والحرص.. زهد المسيح وحرص المذاهب المادية؟
قال الحسين: الإسلام حذر من حب المال لأجل المال، أو من أجل المصالح الدنيا التي يتطلبها الترف.. لأن هذا الحب سيؤدي بصاحبه لا محالة إلى الشح، وإلى استخدام المال استخداما خاطئا.. وليس هناك ما يضر أي أمة من الأمم مثل هذين.. مثل الشح ومثل الاستخدام السيء للمال.
ولهذا.. فإن الله تعالى أخبر أن الأمم تهلك بانتشار ثقافة المترفين فيها، فقال :{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } (الاسراء:16)
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخبرا عن عواقب الشح : (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)([26])
قال رجل منا: أراك عبرت بنا إلى الركن الثاني من أركان القيم.. وهو الركن المرتبط بالأخلاق والسلوك.
قال الحسين: أجل.. فالأخلاق تنبع من التصورات والأفكار.. ولهذا فإن الأخلاق في الإسلام ليست مجرد ظواهر سلوكية قد تصدر من نفس متكلفة.. بل هي آثار لمعان عميقة يمتلئ بها الوجدان جميعا.
قلنا: فحدثنا عن القيم الأخلاقية التي دعا الإسلام أن يسلكها المسلم في تعامله مع المال.
قال: جميع القيم الأخلاقية التي دعا إليها الإسلام في هذا الجانب ترتبط بتحصين المسلم وتحصين اقتصاد المسلمين من عدوين لدودين: الطغيان، والفساد.
قلنا: فما الطغيان؟ وما نتاجه؟
قال: أرأيتم لو أن رجلا كان له مال كثير.. وكان مفرقا في مواضع مختلفة.. وقد كان له لذلك وكلاء في كل محل من المحلات.. ثم إن بعضهم تمرد عليه، وراح يعبث بماله ويتلاعب به([27])؟
قلنا: هذا لص متمرد طاغية.
قال: لم؟
قلنا: لأنه تصرف فيما لا يملكه بغير حق.
قال: فهكذا الأمر بالنسبة لله تعالى.. ولله المثل الأعلى.. فكل إنسان تمرد على ربه.. واعتقد أن المال ماله، وأنه لا يحق لأحد أن يتحكم فيه فقد طغا وبغا وظلم..
لقد ضرب الله المثل لهذا بحضارة من حضارات الطغيان.. هي حضارة ثمود.. كانت هذه الحضارة تمارس كل الانحرافات الاقتصادية.. وكان من أهمها الطغيان.. والذي تجلى بصورته الفاضحة في تطفيفهم للمكاييل والموازين.
وقد أخبر القرآن الكريم عن النفس الذي ينبع منها هذا السلوك عند ذكره لمخاطبة نبيهم صالح u لهم.. وكان من تلك المخاطبات قوله لهم :{ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)} (هود)
وعندما سمعت ثمود هذا منه استغربت.. فلم تكن تتصور ـ لطغيانها ـ أن هناك من يشكك في ملكيتها التامة لمالها.. وحريتها التامة في التصرف فيه.. قال تعالى حاكيا قولهم:{ يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)} (هود)
حينذاك أجابهم صالح u بقوله :{ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} (هود)
فردوا عليه :{ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)} (هود)
فأجابهم بهدوئه وسلامه :{ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ(93)} (هود)
اعذروني إن كنت قد نقلت لكم الحوار بطوله.. ففي هذا الحوار يتجلى موقف المؤمن من ماله، وهو موقف المسالم المتواضع الممتلئ بمعاني العدالة.. وفي نفس الوقت يتجلى الموقف الثاني موقف الباغي الطاغي الظالم الذي يرى أن له الحرية المطلقة في ماله يملكه كيف يشاء.. ويتصرف فيه كيف يشاء.
ومثل هذا الحوار هذا الحوار.. قال تعالى :{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)} (الكهف)
قلنا: عرفنا الطغيان.. فما الفساد؟
قال: الطغيان يؤدي لا محالة إلى الفساد.
قلنا: كيف ذلك؟
قال: أرأيتم لو أن شخصا أكل من الطعام أضعاف ما يتحمله جهازه الهضمي.. وداوم على ذلك مدة.. ألا يؤدي ذلك لا محالة إلى فساد هذا الجهاز؟
قلنا: لا شك في ذلك.. وذلك ليس مختصا بالجهاز الهضمي.. فكل من حمل شيئا ما لا يحتمل فسد.
قال: فهكذا تعاملنا مع أموالنا.. إن نظرنا إليها نظرة الطغاة المتمردين.. فإننا لا شك سنقع في كل الموبقات.. موبقات الكسب الحرام.. وموبقات الإنفاق الخبيث.
قلنا: فما موبقات الكسب الحرام؟
قال: كثيرة.. ذكرتها النصوص المقدسة.. وحذرت منها.. وفصلتها كتبنا الفقهية تفصيلا شديدا.. وهي ـ لذلك الدعامة التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي.
منها الربا.. وقد تشدد الإسلام في حرمته.. بل اعتبر أكلة الربا محاربين لله تعالى.. قال تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (البقرة:275)
بل إن القرآن الكريم أخبرنا أن الربا كان محرما في الشرائع السابقة.. قال تعالى يعدد معاصي الإسرائيليين، وكونها السبب فيما حصل في شريعتهم من تشديد([28]) :{ وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (النساء:161)
قال رجل منا: أنا إلى الآن لا أزال مستغربا من كل هذا التشديد في الربا.. أليس الربا مكسبا من المكاسب المحترمة؟
قال الحسين: لا.. الربا ليس إلا تعبير عن الجشع والطغيان.. فمالك المال المرابي لا يتعب نفسه في فلاحة ولا صناعة ولا تجارة.. بل يكتفي بأن يرسل ماله ليمتص جهود الناس وعرقهم، وهو ضامن ـ مع ذلك كله ـ لربحه ضمانا تاما..
وهذا يؤدي لا محالة إلى دفع فئة من الأمة إلى الكسل والبطالة وتمكنهم من زيادة ثروتهم بدون جهد أو عناء.. وذاك يؤدي بالضرورة إلى انتشار ظاهرة التضخم في المجتمع وتوسيع الهوة بين الفقراء والأغنياء.
وذاك يؤدي إلى تنمية الضغائن والأحقاد بين الناس لعدم اقتناع المقترض بما أخذ منه مهما كانت حاجته ورغبته فيه..
قلنا: فاذكر لنا عللا أخرى من العلل التي يسببها الطغيان والفساد.
قال: كل معاملة تحوي غررا).. أو جهالة.. أو غبنا.. أو تدليسا.. أو غشا.. أو خلابة.. وكل أكل لأموال للناس بالاحتيال والنصب.
لقد مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على صبرة طعامٍ، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ! من غشنا فليس منا)([29])
وعن أبي ذرٍ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليمٌ) قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مراتٍ. قال أبو ذرٍ: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال : ( المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)([30])
وعن أبي سباع قال : اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما خرجت بها أدركني يجر إزاره، فقال: اشتريت؟ قلت نعم.. قال: أبين لك ما فيها؟ قلت وما فيها إنها لسمينة ظاهرة الصحة، قال: أردت بها سفرا أو أردت لحما؟ قلت: أردت بها الحج، قال: ارتجعها، فقال صاحبها: ما أردت إلى هذا أصلحك الله؟ تفسد علي، قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يحل لأحد أن يبيع شيئا إلا بين ما فيه، ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه)([31])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم : (المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعا فيه عيب أن لا يبينه)([32])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(المؤمنون بعضهم لبعض نصحة وادون وإن بعدت منازلهم وأبدانهم، والفجرة بعضهم لبعض غششة متخاونون وإن اقتربت منازلهم وأبدانهم)([33])
وفي حديث آخر عن جرير قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة، وأن أنصح لكل مسلم.. وكان إذا باع الشيء أو اشتراه قال : ما الذي أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر([34]).
قلنا: زدنا.
قال: كل حبس للسلع عن الناس من أجل التلاعب بأسعارها حرام.. وقد سماه الشرع احتكارا.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من احتكر فهو خاطئ)([35]).. وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( من احتكر حكرةً يريد أن يغلّي بها على المسلمين فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمّة اللّه)([36]).. وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه اللّه بالجذام والإفلاس)([37]).. وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (من احتكر الطّعام أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه وبرئ اللّه منه، وأيّما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمّة اللّه)([38])
بل إن من المفسرين من حمل قوله تعالى :{ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } (الحج: 25) على الاحتكار.. مستندين ذلك لما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (احتكار الطّعام في الحرم إلحاد فيه)([39])
قلنا: حدثتنا عن القيم.. فحدثنا عن الحركة، وعلاقتها بالاقتصاد الإسلامي.
قال: كما أن الشريعة كبحت جماح المسلم من أن يطلب المال من غير حله أو يضعه في غير محله.. فإنها أطلقت له العنان في العمل الحلال الذي يعمر الأرض، ويلؤها بالبركات([40])..
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر العامل المكتسب مجاهدا في سبيل الله.. لا يقل أجره عن أي مجاهد.. ففي الحديث أن بعض الصحابة رأى شاباً قوياً يسرع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بقوله: ( لا تقولوا هذا ؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان )([41])
بل صرح صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ الجهاد، فقال لبعض أصحابه:( أبشر، فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله )([42])
وسر ذلك هو أن الجهاد الذي هو حمل السلاح لا يكون في الشريعة إلا لطارئ، وهو أشبه بالحراحة التي يقوم بها الطبيب لنزع علة معينة، أما الجهاد الذي هو حمل الفأس والضرب في الأرض، فإنه لعمارة الدنيا التي أمرنا بعمارتها، فلا يليق أن نملأ الدنيا التي هي دار الضيافة الإلهية بالجهاد المدمر، ولا نملؤها بالجهاد المعمر.
بالإضافة إلى هذا، فقد ورد في النصوص ما يدل على أن كل منتفع بعمل العامل يصب في أجره، فقد قال قال صلى الله عليه وآله وسلم في إحياء الأرض:( ما من امرئ يحي أرضا فتشرب منها كبد حرى أو تصيب منها عافية إلا كتب الله تعالى له به جرا )([43])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في أجر من أحيا أرضا ميتة:( من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة )([44])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في غرس الغرس:( ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له به صدقة )([45])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغرس)([46])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة )([47])
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا للعمل ولو لم يبق للعامل أي أمل في الحياة.. ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)([48])
قال رجل منا: حدثتنا عن النظام الاقتصادي.. فحدثنا عن النظام الاجتماعي في الإسلام..
قال آخر: لم أسمع أن هناك في الإسلام شيء اسمه (نظام اجتماعي)
قال آخر: بلى.. سمعت أن هناك نظاما اجتماعيا في الإسلام.. وقد سمعت أنه نظام ذكوري.. يجعل الرجل جبارا متسلطا على المرأة.. ويجعل المرأة عبدا ذليلا مهانا للرجل.
قال آخر: وقد سمعت أنه نظام يقوم على العصبيات والقبليات والعرقيات.
قال آخر: وقد سمعت أنه نظام يقوم على طبقات مختلفة.. تبدأ برجال الدين.. ثم برجال الدنيا.. وفي أسفل الهرم الدهماء والعامة.
قاطعهم الحسين، وقال: ائذنوا لي أن أحدثكم بالحقائق.. فما أيسر لأسماعكم أن تسمع ما تشاء.. وما أيسر لأي قائل أن يقول ما يشاء.. والعبرة ليس بما نسمع.. ولا بما نقول.. وإنما العبرة بالحقيقة.. الحقيقة هي وحدها التي تحررنا من كل الشبهات والأهواء..
قلنا: قد ذكرنا لك ما سمعنا.. فحدثنا بما تراه من الحقائق.
قال: لقد بحثت في النظام الاجتماعي في الإسلام بحسب مصادره الأصلية.. وبحسب ما بقي فيه من بقية صالحة تتوزع في أقطار مختلفة من بلاد المسلمين.. وبحسب ما رواه المؤرخون الثقاة الذين أرخوا للسياسة كما أرخوا للاجتماع..
وقد وجدت من خلال هذه البحوث جميعا أن بنيان المجتمع الإسلامي يقوم على أربعة أعمدة كبرى: هي التآلف، والتكافل، والتناصر، والتناصح ([49]).
قلنا: فحدثنا عن أولها.. ذلك الذي سميته التآلف.
قال: لقد عبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الركن من أركان النظام الاجتماعي، فقال : (المؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف).. بل بين المنزلة الرفيعة التي أنزلها الله من اتصف بهذا الركن العظيم، فقال : (إن أقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون)
وعبر عنه قبل ذلك قوله تعالى ـ وهو يقرر الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الاجتماعية ـ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات:13)
وعبر عنه بعد ذلك قوله تعالى ـ وهو يقرر الرابطة الوحيدة التي لا يصح أن يربط غيرها بين المؤمنين ـ:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10)
قلنا: سمعنا النصوص.. فما معانيها؟.. وكيف حولها الفقهاء إلى ممارسات واقعية؟
قال: ليس الفقهاء هم الذين حولوها.. بل هي التي جعل الله فيها من القوة واليسر ما حولت به جميع أنظمة الجاهلية إلى نظام السلام الذي جاء به الإسلام.
قلنا: فحدثنا عن هذه النصوص.. وكيف أطاقت أن تنشر الإلفة بين المؤمنين؟
قال: لقد ورد في النصوص ما يسمى بحقوق المسلم.. والمراد منها جميعا تلك اللحمات التي كانت تصل بنيان المجتمع الإسلامي بعضه ببعض.. والتي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)([50]) .. وعبر عنها، فقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)([51])
وقد جمع العلماء من النصوص الكثير من تلك اللحمات التي تصل بين المسلمين.. بل صنفوا في ذلك المصنفات.. سأذكر لكم بعض ما ذكروا لتعلموا من خلاله أنه لا يوجد دين في الأرض وضع من أسرار الألفة الاجتماعية ما وضعه الإسلام.
من ذلك ما عبر عنه الغزالي بقوله : ( أن تسلم عليه إذا لقيته، وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات، وتبر قسمه إذا أقسم عليك، وتنصح له إذا استنصحك، وتحفظه بظهر الغيب إذا غاب عنك، وتحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك)
لقد وردت النصوص الكثيرة التي لا يزال المسلمون يحفظونها عن ظهر قلب تقرر هذا.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض وأتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس)([52])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 أربع من حق المسلمين عليك: أن تعين محسنهم، وأن تستغفر لمذنبهم، وأن تدعو لمدبرهم، وأن تحب تائبهم)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( حق المسلم على المسلم ست : إذا لقيته فسلم عليه: وإذا دعاك فأجبه، وإذا أستنصحك فأنصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده، وإذا مات فأتبعه)([53])
وقال:( للمسلم على المسلم ست بالمعروف : يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويتبع جنازته ويحب له ما يحب لنفسه)([54])
وقال:( للمؤمن على المؤمن ست خصال : يعوده إذا مرض، ويشهده إذا مات، ويجيبه إذا دعاه، ويسلم إذا لقيه، ويشمته إذا عطس، وينصح له إذا غاب أو شهد)([55])
ومن ذلك أن لا يؤذي أحداً من المسلمين بفعل ولا قول.. بأي صنف من صنوف الأذى.
لقد وردت النصوص الكثيرة تدل على ذلك.. قال صلى الله عليه وآله وسلم : (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)([56])
وقال : ( من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه؛ من عرضه أو من شيءٍ، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهمٌ؛ إن كان له عملٌ صالحٌ أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسناتٌ أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)([57])
وقال : ( من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة) فقال رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ فقال : ( وإن قضيبا من أراك)([58])
وقال : ( إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار )([59])
وقال: ( لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما )([60])
وقال: (من مر في شيء من مساجدنا، أو أسواقنا، ومعه نبل فليمسك، أو ليقبض على نصالها بكفه ؛ أن يصيب أحدا من المسلمين منها بشيء)([61])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل يأمر فيه بجملة من الفضائل:( فإن لم تقدر فدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدقت بها على نفسك)([62])
وقال:( لا يحل لمسلم أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه)([63])
وقال:( إن الله يكره أذى المؤمنين)([64])
وقال مرة لأصحابه : ( أتدرون من المسلم؟)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، قالوا: فمن المؤمن؟ قال: (من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم)، قالوا: فمن المهاجر؟ قال: (من هجر السوء واجتنبه)([65])
وقال لهم مرة : ( أتدرون من المفلس؟ ) قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال : ( إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)([66])
وقال لهم مرة:( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض : السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم : ثلاث متواليات : ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، أي شهر هذا؟) قلنا : الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:( أليس ذا الحجة؟) قلنا : بلى. قال 🙁 فأي بلد هذا؟ ) قلنا : الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال : ( أليس البلدة؟ ) قلنا : بلى. قال : ( فأي يوم هذا؟ ) قلنا : الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال : ( أليس يوم النحر؟ ) قلنا : بلى. قال : ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه )، ثم قال : ( إلا هل بلغت، ألا هل بلغت؟ ) قلنا : نعم. قال : ( اللهم اشهد)([67])
وقال له رجل: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال:( أن تسلم قلبك لله، ويسلم المسلمون من لسانك ويدك)([68])
ومن ذلك أن يتواضع لكل مسلم ولا يتكبر عليه:
لقد وردت في تقرير ذلك والتربية عليه النصوص المقدسة الكثيرة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا، ولا يبغ بعضكم على بعض)([69])
وقال: (ما نقصت صدقةٌ من مالٍ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله)([70])
وقال : ( التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله، والعفو لا يزيد العبد إلا عزا فاعفوا يعزكم الله، والصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم الله )([71])
وقال:( طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل نفسه في غير مسألة، وأنفق مالا جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة.. طوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره.. طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله)([72])
وقال : ( إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة)([73])
وقال : (من يتواضع لله درجة يرفعه الله درجة حتى يجعله في أعلى عليين، ومن يتكبر على الله درجة يضعه درجة حتى يجعله في أسفل سافلين)([74])
وقال : ( من تواضع لأخيه المسلم رفعه الله، ومن ارتفع عليه وضعه الله)([75])
وقال : ( إياكم والكبر فإن الكبر يكون في الرجل، وإن عليه العباءة)([76])
وقال : (إن من التواضع لله الرضا بالدون من شرف المجالس)([77])
وقال : ( تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عباد الله، وتخرجوا من الكبر)([78])
وقال : (صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه عليه أخوه المسلم)([79])
وقال : ( عليكم بالتواضع فإن التواضع في القلب ولا يؤذين مسلم مسلما، فلرب متضعف في أطمار لو أقسم على الله لأبره)([80])
وقال : (ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة بيد ملك فإن تواضع قيل للملك : ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك : ضع حكمته)([81])
وقال : ( من تواضع لله رفعه الله، ومن اقتصد أغناه الله، ومن ذكر الله أحبه الله)([82])
وقال : ( من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه ضعيف وفي أنفس الناس عظيم، ومن تكبر وضعه الله فهو في أعين الناس صغير وفي نفسه كبير حتى لهو أهون عليهم من كلب أو خنزير)([83])
وقال : ( قال الله تعالى من لان لخلقي وتواضع لي ولم يتكبر في أرضي رفعته حتى أجعله في عليين)([84])
وقال : (ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة موكل بها ملك، فإن تواضع رفعه الله، وإن ارتفع قمعه الله، والكبرياء رداء الله فمن نازع الله قمعه)([85])
وقال : (ما من آدمي إلا وفي رأسه سلسلتان، سلسلة في السماء السابعة وسلسلة في الأرض السابعة، فإن تواضع رفعه الله بالسلسلة إلى السماء السابعة، وإذا تجبر وضعه الله بالسلسلة إلى الأرض السابعة)([86])
وقال : (من رفع رأسه في الدنيا قمعه الله يوم القيامة، ومن تواضع في الدنيا بعث الله إليه ملكا يوم القيامة فانتشطه من بين الجمع فقال : أيها العبد الصالح، يقول الله – عز وجل – : إلي فإنك ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)([87])
ومن ذلك أن لا يسمع بلاغات الناس بعضهم على بعض، ولا يبلغ بعضهم ما يسمع من بعض.. لقد وردت النصوص الكثيرة تقرر ذلك، وتربي عليه قلوب المؤمنين:
قال صلى الله عليه وآله وسلم: (النميمة والشتيمة والحمية في النار)([88])
وقال : ( النميمة والحقد في النار.. لا يجتمعان في قلب مسلم) ([89])
وقال : (ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه)، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى :{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً } (الأحزاب:58)([90])
وقال : (خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت)([91])
وقال : ( الهمازون واللمازون والمشاءون بالنميمة الباغون للبرآء العيب يحشرهم الله في وجوه الكلاب)([92])
وقال : ( إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبرآء العيب)([93])
وقال : ( ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا بلى إن شئت يا رسول الله، قال : شراركم الذي ينزل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده، أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله، قال : من يبغض الناس ويبغضونه.. قال : أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله، قال : الذين لا يقيلون عثرة، ولا يقبلون معذرة، ولا يغفرون ذنبا.. قال : أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال : من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره)([94])
وقال : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال : إصلاح ذات البين، فإن إفساد ذات البين هي الحالقة)([95])
قلنا: فحدثنا عن ثانيها.. ذلك الذي سميته التكافل([96]).
قال: التكافل هو إعانة الأخ لأخيه إعانة تخرجه من العوز إلى الغنى.. وهو ركن أساسي لأن حياة الإنسان لا تقوم إلا بحياة هذا الجسد وصحته، وتوفر ما يلزمه وما يقتضيه بقاؤه، وذلك كله يقتضي توفر ما يلزم من قوت ومأوى ونحو ذلك.
وهذا الواجب لا يتحقق إلا بتوفر التربية التي تشعر الفرد بمسؤوليته على الجماعة..
ويشير إلى هذ من القرآن الكريم قوله تعالى :{ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (الحشر:9)
ففي هذه الآية إخبار عن الإيثار الذي تحلى به الأنصار لما قدم المهاجرون إليهم، بعد أن تركوا في بلادهم كل ما يلزم لنفقتهم، فوجدوا لهم إخوانا لهم اقتسموا معهم زادهم، بل آثروهم على أنفسهم.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذا التكافل بصورة أخرى جميلة، فقال تعالى :{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً } (الانسان:8 ـ 9)
ففي هاتين الكريمتين إخبار عن إيثار هؤلاء المحاويج من المؤمنين غيرهم بالطعام مع حبهم له وحاجتهم إليه، ثم هم لا يطلبون على ذلك جزاء ولا شكورا.
قلنا: فحدثنا عن ثالثها.. ذلك الذي سميته التناصر.
قال: التناصر هو نصرة الأخ لأخيه في مواقف الشدة والحاجة، لأن الأمن ركن أساسي في الحياة لا يقل عن ركن الغذاء، ولذلك جمع الله تعالى بينهما في قوله :{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل:112)، وقال تعالى في ذكر نعمه على قريش:{ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } (قريش:4)
لأن أسباب الهلاك لا تصيب الإنسان من جهة الجوع وحده، بل تصيبه أيضا من الأعداء الذين يتربصون به، بل إن هذا الجانب أكثر ضررا بالإنسان من جانب الجوع.
وقد أشار إلى هذا الركن قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (لأنفال:72)
ففي هذه الآية الكريمة حض على نصر المؤمنين بعضهم بعضا، فلا يصح أن ينعم المسلم بالأمن في الوقت الذي يصاب إخوانه بكل أنواع البلاء.
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحض على رعاية هذا الركن:( المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، قيل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالما؟)، قال:( تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه)([97])
ولأجل تحقيق هذا الركن شرع الإسلام الجهاد في سبيل الله، قال تعالى في تبرير الأمر بالجهاد مع كونه إزهاقا للأرواح التي جاءت الشريعة لحفظها:{ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً( (النساء:75)
وقد ورد هذا التبرير في مواضع مختلفة، وكلها تنطلق من أن الغرض من القتال في الإسلام ليس المقصود منه التوسع ولا الاستعمار والسيطرة، وإنما المقصد منه نصرة المستضعفين، قال تعالى:{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ( (الحج:39)، وقال تعالى:{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ( (البقرة:190)
قلنا: فحدثنا عن رابعها.. ذلك الذي سميته التناصح.
قال: هذا ركن من الأركان الأساسية التي يقوم عليها بنيان المجتمع في الإسلام.. وهو أساسي لأن الإنسان ليس جسدا فقط يحتاج إلى غذاء قد يكفي أمره التكافل، أو حماية قد يكفي أمرها التناصر، ولكنه روح وعقل يحتاج إلى تعليم وتوجيه وتربية ونصح، وكل ذلك يستدعي وجود هذا الركن.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الركن في قوله تعالى:{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ( (البلد:17)، وقال:{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( (العصر:3)
وإلى هذا الركن الإشارة بقول لقمان u في وصيته لابنه:{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (لقمان:17)
وقد اعتبر القرآن الكريم هذا الركن خاصة من خصائص هذه الأمة، فقال تعالى:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آل عمران: 110)
واعتبر أداء هذا الركن من علامات المؤمنين الصادقين، فقال تعالى:{ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } (آل عمران:114)
بل اعتبره من صفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأساسية، قال تعالى:{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (الأعراف:157)
واعتبره بعد ذلك من علامات صحة التمكين في الأرض، قال تعالى:{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (الحج:41)
وقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم هذا التناصح ركنا من أركان الدين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( الدين النصيحة) ثلاثا، قلنا لمن؟ قال:( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)([98])، فقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم الدين نصيحة، ثم عد من النصيحة النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم.
قال رجل منا: حدثتنا عن النظام الاجتماعي.. فحدثنا عن النظام التعليمي..
قال آخر: لم أسمع أن هناك في الإسلام شيء اسمه (نظام تعليمي)
قال آخر: بلى.. هناك نظام تعليمي.. وهو نظام تقليدي.. يعتمد على تحفيظ المعارف الدينية.
قال آخر: نعم.. نعم.. لقد عرفته.. إن دوره هو تكوين الفقهاء المتزمتين، والقضاة الجائرين..
قاطعهم الحسين، وقال: اصبروا.. ما بالكم تسارعون للشبهات.. إن الحقائق التي نطقت بها كل الأدلة تبين أن النظام التعليمي الذي جاء به الإسلام من أول يوم كان أكمل نظام وأعدل نظام وأحق نظام([99])..
لقد عبر القرآن الكريم في أول الآيات نزولا عن أركان هذا النظام، فقال :{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} (العلق)
إن هذه الآية الكريمة تلخص المنهج الذي قام عليه النظام التعليمي الإسلامي.. فقد قام على ربط المعارف والعلوم المتنوعة بالله وبالنظام الذي رضيه الله لعباده.
قال رجل منا: وما علاقة العلوم بالله، وبالنظام الذي وضعه الله.
قال الحسين: إن العلوم التي تنشأ بعيدة عن الله وعن النظام الذي اختاره الله لعباده تنشأ ممتلئة بالمحق.. فلذلك لن تنتج إلا الهلاك والدمار.. ولعلكم رأيتم ما أثمرته العلوم في عصرنا من أنواع الدمار.
قال الرجل: ورأينا ما أثمرته من أنوع البناء والعمران.
قال الحسين: إن البناء الذي بنته هذه الحضارة الزائفة يمكن أن تخربه في أي لحظة.. فهي تمتلك من أنواع الجنون ما يقضي على كل ما بنته.
قال الرجل: فكلامك هذا لا يعني إلا أن الإسلام لا يتبنى في نظامه التعليمي ما تبنته هذه الحضارة من الاهتمام بالعمران والصناعات..
قال الحسين: لا.. هو يتبنى كل ذلك.. بل هو يدعو إلى كل ذلك.. ولكنه يربطه بالله.. ويربطه بالأخلاق والقيم الرفيعة.. فالعلم الذي لا يربطك بالله، ولا يجعلك نافعا لعباد الله لا بركة فيه.
ولهذا نرى في النصوص المقدسة تقييد العلم المبارك بالنافع.. لقد ذكر القرآن ذلك، فقال:{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:102)
فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن العلوم التي كان يبثها ذانك الملكان (هاروت وماروت) من العلوم التي تصف حقائق كونية.. كتلك الحقائق التي توصل إليها علماء عصرنا.. وقد كانت تلك العلوم تحمل ثمارا طيبة خيرة يمكن أن تستفيد منها البشرية، وتحمل في نفس الوقت ثمارا خبيثة يمكن أن تتحول إلى شر محض.. ولهذا، فإن هذين الملكين كانا ينبهان كل من يدرس على يديهما تلك العلوم إلى المحاذير التي تنطوي عليها المعارف التي يدرسونها.. فالعلم وحده إن لم يصحبه التوجيه الأخلاقي سيكون وبالا على أصحابه..
ولهذا فإن النظام التعليمي الإسلام ارتبط بالأخلاق وقيد العلم بها.. واعتبر انتفاع صاحبها بعلومه منوطا بمدى أخلاقيتها ومدى صدقه في تلقيها وفي تبليغها:
فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في دعائه:( اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع ومن علم لا ينفع)([100])
وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم:( كل علم وباله على صاحبه إلا من عمل به)([101]) وفي رواية مرفوعا:( أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه « يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه([102]) فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالخير ولا آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه)([103])،
وضرب صلى الله عليه وآله وسلم للذي لا يعمل بعلمه مثلا، فقال:( مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل الفتيلة تضيء على الناس وتحرق هي نفسها)([104])
قال الرجل: ولكن لم حصر الإسلام العلوم في العلوم الدينية؟
ابتسم الحسين، وقال: لأن كل العلوم في الإسلام علوم دينية.. فالمسلم وهو يدرس الكون يتعرف من خلاله على المكون.. وعندما يبحث في الكون عن الأدوات التي تيسر عليه الحياة يبحث في الحقيقة عن فضل الله الذي خبأه له في مكوناته.
ولذلك فإن المسلم لا ينحجب بالعلم عن الله.. بل يزداد له معرفة.. ويزداد به اتصالا.
قال رجل منا: فحدثنا عن نظام الحسبة في الإسلام..
قال آخر: نظام الحسبة!.. ما نظام الحسبة؟
قال آخر: لقد سمعت به.. إنه لا يختلف كثيرا عن نظام الشرطة عندنا..
قال آخر: ليته كان كذلك.. لقد سمعت أنه نظام ليس له من قصد إلا التدخل في شؤون الناس الداخلية.
قال آخر: فهو نظام قمع إذن.
قال آخر: أجل.. لقد سمعت بأن المستبدين أنشأوه ليضربوا الرعية بعضها ببعض.
بعد أن ألقى أصحابي السجناء ما عندهم من الشبهات قام الحسين، وقال: مهلا.. مهلا.. فلا ينبغي أن نتحدث في شيء لم نؤت علمه.
قال رجل منا: فعلمنا علمه.
قال: نظام الحسبة نظام لم ينشئه المستبدون ولا الظلمة([105]) .. بل هو نظام سام أنشأه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أنشأه بأمر من الله تعالى ليحفظ للمجتمع الإسلامي صفاءه وطهارته ونقاءه..
لقد نص القرآن الكريم على هذا النظام في قوله تعالى ـ وهو يدعو الأمة المسلمة إلى أن تتخذ منها طائفة صالحة لا هم لها إلا أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر ـ :{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (آل عمران:104)
ونص عليه، وهو يعدد أوصاف المسلمين الأساسية، قال تعالى :{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (التوبة:71)
ونص عليه، وهو يبين مصدر خيرية هذه الأمة ورساليتها، قال تعالى:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)
ونص عليه، وهو يبين شروط التمكين، وصفات الممكن لهم، قال تعالى:{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:41)
ونص عليه بعد ذلك، وهو يبين أسرار الانحطاط الذي وقعت فيه المجتمعات والأمم، قال تعالى :{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) } (المائدة).. فاللعنة التي حصلت لبني إسرائيل لا تعني الجانب الغيبي فقط.. بل لها حظ كبير في عالم الشهادة..
وبعد ذلك كله.. وتحقيقا لأمر الله تعالى.. جاءت الأوامر الكثيرة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأمر الأمة بأن تتحمل مسؤولية إصلاح كل خلل يقع فيها:
ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما من رجل ينعش بلسانه حقا، فعمل به بعده إلا جرى عليه أجره إلى يوم القيامة، ثم وفاه ثوابه يوم القيامة)([106])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 الجهاد أربع : الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، والصدق في مواطن الصبر، وشنآن الفاسق)([107])
وقال:( إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى تكون العامة تستطيع تغير على الخاصة، فإذا لم تغير العامة على الخاصة عذب الله العامة والخاصة)([108])
وقال:( إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه)([109])
وقال:( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)([110])
وقال:( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان)([111])
وقال:( والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم)([112])
وقال:( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فانه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه، ذلك ان يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على أيدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعظكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم)([113])
وقال:( ما من نبي بعث الله في أمة من قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويتقدون بأمره، ثم إنها تخلف منهم من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يأمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الايمان حبة خردل)([114])
وقال:( مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقال الذين في أعلاها لا ندعهم يصعدون فيؤذونا، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فان يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)([115])
وقال:( لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا لله تعالى فيه مقال، فلا يقول : يا رب خشيت الناس، فيقول : فاياي كنت أحق أن تخشى)([116])
وقال:( ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعمله ثم لا يغيروه إلا عمهم الله منه بعقاب)([117])
وقال:( إذا عملت الخطيئة في الارض، كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)([118])
وقال:( من حضر معصية فكرهها فكأنما غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها فكأنما حضرها)([119])
وقال:( إذا خفيت الخطيئة لا تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة)([120])
وقال:( إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له : إنك ظالم فقد تودع منهم)([121])
وقال:( إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يسأله : ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله العبد حجته قال: يا رب رجوتك وفرقت من الناس)([122])
وقال:( إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)([123])
وقال:( إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القوي وهو غير متعتع)([124])
وقال:( إن الله لا يقدس أمة لا يعطون الضعيف منهم حقه)([125])
وقال:( لا يقدس الله أمة لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم)([126])
وقال:( إن أحدكم مرآة أخيه، فإذا رأي به أذى فليمطه عنه)([127])
وقال:( إن من أمتي قوما يعطون مثل أجور أولهم، ينكرون المنكر)([128])
وقال:( الآمر بالمعروف كفاعله)([129])
وغيرها من النصوص الكثيرة التي تمتلئ بها دواوين الإسلام..
لقد نشرت هذه النصوص المقدسة في المسلمين وعيا عاما بضرورة الإصلاح وضرورة التعاون مع المصلحين..
وكان هذا الوعي هو المقدمة والأساس الذي انبنى عليه بعد ذلك كله ذلك النظام الذي تعارف الناس على تسميته (نظام الحسبة)
قال رجل منا: لم اختاروا له هذا الاسم؟
قال: لأن المحتسب يعتبر نفسه موظفا عند الله تعالى، فلذلك لا ينتظر أجره إلا من الله تعالى.
قال رجل منا: دعنا من الأسماء.. وحدثنا عن المسمى..
قال: عن أي شيء تريدون أن أحدثكم؟
قلنا: حدثنا عن المحتسب وشروطه.
قال: المحتسب في الشريعة صنفان:
أما أحدهما، فيمارسها لوجه الله، متطوعا بها، لا ينال عليها أجرا، ولا يحتاج فيها إلى ترخيص.
وأما الثاني، فموظف يعهد ولي الأمر إليه بها، لما يتوسم فيه من خلال.. فهو يمارسها لذلك وظيفة كما يمارس غيره وظائفهم.. ويرتزق منها كما يرتزق غيره من الموظفين.. هو لأجل ذلك له من السلطة ما ليس للمتطوع بها.. وله من الشروط ما ليس له.
قال رجل منا: فهو عون من أعوان القضاء إذن؟
قال: إن كان القصد من القضاء هو تحقيق العدالة والسلام.. فهما متفقان.. هما متفقان في الهدف.. وإن كانا يختلفان في الوسيلة.. فللمحتسب بعض مسؤولية القاضي.. وله بعض المسؤوليات الخاصة به، والتي يقصر عنها القاضي، أو يزيد عليها.
قلنا: فحدثنا عن صفات المحتسب.
قال: أهمها وأساسها العدالة.. فأول صفات المحتسب هو فعله للمعروف الذي يريد أن يأمر به، وانتهاؤه عن المنكر الذي يريد أن ينهى عنه.. لما ورد في النصوص من التحذير من مخالفة الفعال للأقوال، كما قال تعالى حاكيا عن بني إسرائيل معاتبا لهم :{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} (البقرة)
وقال إخبارا عن شعيب u:{ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } (هود: 88)
وقال معاتبا المسلمين:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ(3)} (الصف)
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)([130])
وقال: ( مررت ليلة أسري بي على قوم شفاههم تُقْرَض بمقاريض من نار. قال: قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟)([131])
وقال: ( يُجَاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهلُ النار، فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)([132])
وقال: ( إن أناسًا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون: بم دخلتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم، فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل)([133])
ومع ذلك، فليس هذا على الإطلاق، فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 مروا الناس بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تتناهوا عنه كله)([134])
وذلك أنه لو لم يعظ الناس إلا معصوم أو محفوظ لتعطل الأمر والنهي مع كونه دعامة الدين.
قلنا: فما العلوم التي يشترط للمحتسب أن يتعلمها؟
قال: يشترط أن يتعلم العلوم التي لها علاقة بما يحتسب فيه.. وما أيسر ذلك وما أسهله..
قلنا: كيف؟
قال: من تعلم الوضوء يمكنه أن يحتسب، فيصحح وضوء من أخطأ.. ومن أحسن الصلاة احتسب فيها.. ومن أحسن أي حرفة يمكنه أن يحتسب فيها.
قلنا: وعينا هذا .. فما آداب المحتسب؟
قال: على المحتسب أن يلزم الصبر والحلم، لأن الغالب لحوق الأذى والمضايقات به، فإن لم يكن صبورا حليما كان ضرره أكبر من نفعه، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه.
ويشير إلى هذا قوله تعالى على لسان لقمان u وهو يعظ ابنه:{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} (لقمان)
فقد أمر ابنه بالصبر بعد أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومثل ذلك ما ورد في سورة العصر كما قال تعالى :{ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} (العصر)
فقد أمر الله تعالى بالتواصي بالصبر بعد أمره بالتواصي بالحق.. وكأنه يشير إلى البلاء الذي قد يعرض لمن يوصي بالحق.
ومن الآداب التي وردت بها النصوص.. وشددت عليها.. أن يكون المحتسب رقيقا رفيقا في أمره ونهيه بعيدا عن الفظاظة.. وهو ما أمرت به النصوص الكثيرة.. وقد قال تعالى واصفا تأثير الرفق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)
قلنا: عرفنا المحتسب وصفاته .. فحدثنا عن المحتسب فيه.
قال: لقد عبر الله عن الوصف الجامع لذلك بكونه خيرا، فقال :{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (آل عمران:104) فالخير يشمل كلّ شيء يرغب فيه من الأفعال الحسنة.. ويندرج تحته التّرغيب في فعل ما ينبغي، وهو الأمر بالمعروف.. ويندرج تحته التّرغيب في ترك ما لا ينبغي، وهو النّهي عن المنكر.
قلنا: فحدثنا عن الكيفية التي يتم بها الاحتساب.
قال: لقد نص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الكيفية التي يتم بها الاحتساب، وبين مراتبها، فقال : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان)([135])
ففي هذا الحديث ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مراتب للحسبة: الحسبة باليد، والحسبة بالقول، والحسبة بالقلب.
قال رجل منا: أليس من العجب أن يبدأ نبيكم بالحسبة باليد.. أليس الأصل أن يبدأها بالقول؟
ابتسم الحسين، وقال: أرأيت لو أن ظالما أمسك شيخا كبيرا أو ولدا صغيرا وأخذ يضربه.. ثم جئت أنت ورحت تقدم له محاضرة في الرحمة.. في الوقت الذي لم يتوقف فيه الظالم عن ظلمه.. أكان ذلك باعتبار الفطرة السليمة حسنا؟
قلنا: لا.. الأولى في هذا أن يكف يده أولا عن ذلك الظلم.. ثم بعد ذلك لا بأس أن ينهاه بالمواعظ.
قال: فهذا ما أراده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلا ينبغي أن يترك المعتدي متماديا في اعتدائه.. ثم لا يجد من المجتمع إلا كلمات قد تؤثر في الظالم وقد لا تؤثر.
ومع ذلك.. فإن المجتمع الإسلامي مجتمع ينشر قيم الفضيلة بكل الوسائل والأساليب، وبذلك يكون التغيير بالقول مقدما على التغيير باليد.
قلنا: فحدثنا عن الكيفية العملية لتطبيق ذلك.
قال: لقد ورد في السنة المطهرة ما يدل على ذلك.. ففي الحديث أن أعرابيا بال في المسجد، فقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقعوا فيه.. لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدرك حاله من الجهل، وأدرك أنه ـ في ذلك الحين ـ كان في حالة خاصة.. ولذلك عالجه بما يناسب حاله.. فعالج جهله بالتعليم..
وعالج الحالة الخاصة التي كان عليها بتأخيره حتى يفرغ من بوله، ولو كان في المسجد، لأن مفسدة قطعه من بوله أعظم من مفسدة ما يفعل..
لذلك بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة حاله، ونهى أصحابه أن يتعرضوا له، بل منعهم من أن يقطعوا عليه بوله، فقال: (لا تُزرِمُوه)
ثم ما إن انتهت حاله هذه حتى بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة حاله الأصلية، وهي الجهل، فبدأ يُعلِّمُهُ بكل رِفق، وبكل سهولة، حتى قال الأعرابي قولته المشهورة، التي أضحكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً)([136])
وقريب من هذا ما حدث به بعض الصحابة قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وا ثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)([137])
لقد كان سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا الرجل المبتدئ في الإسلام سببا لأن يقول هذه الشهادة التي ظلت الأجيال تحفظها 🙁 ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني)
قال رجل منا: حدثتنا عن نظام الحسبة.. فحدثنا عن النظام القضائي في الإسلام.
قال آخر: تقصد القضاء الشرعي.. ذلك الذي يقوم بالتزويج والتطليق.
قال آخر: لا.. ليته كان كذلك فقط.. لقد كان في كثير من فترات التاريخ يمثل السلطة المستبدة.. ليقمع كل المعارضين.. ويزج بهم في زنانزنهم.
قال آخر: وقد كان القضاة ـ على حسب ما سمعت ـ يتقاضون أجورهم من الأغنياء والإقطاعيين.. فلذلك كانوا سيفا مسلطا على الفقراء والمستضعفين..
قال آخر: وفوق ذلك كله سمعت أن لهؤلاء القضاة من النصوص المقدسة ما يحتمون به، ويلجأون إليه، ويفرضون على الرعية المستضعفة طاعتها بسببه.
بعد أن ألقى كل واحد من السجناء ما لديه من الشبهات حول القضاء في الإسلام وقف الحسين، وقال: يؤسفني أن أقول لكم بأن كل ما تقولونه أوهام سربها المستكبرون ليقفوا حجابا بين المستضعفين وبين القيم الرفيعة التي تمثلت في القضاء الذي جاء به الإسلام..
قلنا: وما هذه القيم؟
قال: أربعة أعمدة كبرى.. لا يكون القضاء عادلا إلا بتحققها جميعا.
قلنا: فما هي؟
قال: الأمانة.. والحرية.. والعدالة.. والرحمة.
قلنا: فما وجه كونها أركانا؟
قال: الأمانة تحمي القضاء من الخيانة والخونة.. والحرية تحمي القضاء من المستبدين والظلمة.. والعدالة تحمي القضاء من الجور والظلم.. والرحمة تحمي القضاء من الغلظة والقسوة.
قلنا: فحدثنا عن الأولى.. حدثنا عن الأمانة.. كيف حمى الإسلام القضاء من الخيانة، ومن الخونة.
قال: هل ترون في أي من بلاد من بلاد الدنيا من يتهرب من ولاية القضاء؟
قلنا: لا.. بل نراهم متزاحمين على طلبه.
قال: لم؟
قلنا: للمكاسب الكثيرة التي يحصل عليها القضاة.. بالإضافة إلى الجاه العريض الذي يتاح لهم في المجتمع.
قال: ألا يخاف هؤلاء من الجور أو الظلم في أحكامهم؟
قلنا: هم يحكمون بناء على ما لديهم من قوانين.. ولا يهمهم عدلت تلك القوانين أو جارت.
قال: فتلك أول الخيانة؟
قلنا: كيف؟
قال: أول الخيانة ـ بحسب ما علمنا ديننا ـ أن يدخل المرء شيئا من غير أن يحتسب أجره من الله فيه.. ومن غير أن يستعين بالله عليه.. ومن غير أن يستعيذ بالله من شره.
قلنا: فكيف أنبت الإسلام شجرة هذا في نفوس أتباعه؟
قال: لقد ورد في النصوص المقدسة الكثيرة عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم التنفير من تولي القضاء لمن لم يكن له من القوة والأمانة ما يكفي لتوليه:
ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من ولي القضاء أو جعل قاضيا بين الناس، فقد ذبح بغير سكين)([138])
وفي حديث آخر قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القضاة، فقال: (القضاة ثلاثة : واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار)([139])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (ليأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة واحدة قط)([140])
وقال: (يدعى القاضي العدل يوم القيامة، فيبقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره)([141])
وقال: (من ولي شيئا من أمر المسلمين أتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم فإن كان محسنا نجا، وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفا وهي سوداء مظلمة)([142])
وقال: (ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله به مغلولا يوم القيامة يداه إلى عنقه فكه بره أو أوثقه إثمه أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة)([143])
وقال: ( من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده)([144])
وقال: (من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن جبر عليه ينزل ملك فيسدده)([145])
وقال: ( من طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عدله جوره فله الجنة، وإن غلب جوره عدله فله النار)([146])
وقال: (إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان)([147])
وقال: (يؤتى بالقاضي يوم القيامة فيوقف للحساب على شفير جهنم فإن أمر به دفع فهوى فيها سبعين خريفا)([148])
وقال: (لا يلي أحد من أمر الناس شيئا إلا أوقفه الله على جسر جهنم فزلزل به الجسر زلزلة فناج أو غير ناج لا يبقى منه عظم إلا فارق صاحبه فإن هو لم ينج ذهب به في جب مظلم كالقبر في جهنم لا يبلغ قعره سبعين خريفا)([149])
وقال: (ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لم يجهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)([150])
وقال: (من ولي من أمر الناس شيئا ثم أغلق بابه دون المسكين والمظلوم وذي الحاجة أغلق الله – تبارك وتعالى – أبواب رحمته دون حاجته وفقره أفقر ما يكون إليها)([151])
وقال:( ليس من قاض ولا وال إلا يؤتى به يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عز وجل على الصراط، ثم تنشر صحيفة سيرته فتقرأ على رؤوس الخلائق فإن كان عدلا نجاه الله بعدله وإن كان غير ذلك انتفض به الجسر انتفاضة فصار بين كل عضو من أعضائه مسيرة كذا وكذا ثم ينخرق به الجسر إلى جهنم)
قلنا: عرفنا هذا.. فما غيره؟
قال: ألا تندهشون من كثرة المحامين؟
قلنا: نحن نعتبر ذلك من دلائل الحضارة.. فللمتهم الحق في أن يدافع عن نفسه، وله الحق في أن يوكل من يدافع عنه.
قال: له الحق في أن يدافع عن نفسه بالحق لا بالباطل.. فهل ترون كل هؤلاء المحامين لا يدافعون عن المستضعفين؟
قال رجل منا: هم يدافعون عمن يدفع لهم.. ولا يهمهم هل هو مستضعف أم مستكبر.. بل إنهم أميل إلى المستكبر منهم إلى المستضعف.. فللمستكبر من القوة والمال والنفوذ ما يجعلهم ينجذبون إليه.
قال: لكن شريعة العدل التي أنزلها الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم تحرم كل ذلك.. هي تعتبر هذا من الإعانة على الظلم، ومن التشجيع عليه.. فلذلك تحصر المحاماة في الدفاع عن أهل الحق لا عن أهل الباطل.
لقد وردت النصوص المقدسة تذكر ذلك وتشدد عليه:
ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من أعان على خصومة بغير حق كان في سخط الله حتى ينزع)([152])
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله)([153])
وقال : (مثل الذي يعين قومه على الحق كمثل بعير تردى في بئر فهو ينزع منها بذنبه)([154])
وقال:( أيما رجل حالت شفاعته دون حد من حدود الله لم يزل في غضب الله حتى ينزع، وأيما رجل شد غضبا على مسلم في خصومة لا علم له بها فقد عاند الله حقه وحرص على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاد ما قال)([155])
وقال:( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في ملكه، ومن أعان على خصومة لا يعلم أحق أو باطل فهو في سخط الله حتى ينزع، ومن مشى مع قوم يرى أنه شاهد وليس بشاهد فهو كشاهد زور، ومن تحلم كاذبا كلف أن يعقد بين طرفي شعيرة، وسباب المسلم فسوق وقتاله كفر)([156])
وقال: ( من أعان ظالما بباطل ليدحض به حقا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله، ومن مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام)([157])
قلنا: عرفنا هذا.. فما غيره؟
قال: ألا ترون أن من أكبر أسباب جور القضاة هو ما ينالونه من منافع بسبب وظيفتهم؟
قلنا: بلى.. فمنها منافع مادية.. ومنها منافع معنوية.
قال: فقد حرمت شريعة العدل الإلهية أن ينال القاضي ومن معه ممن تولوا هذه المسؤولية الخطيرة أي منافع ما عدا تلك المنافع التي ينالونها كأجر مرتب على وظيفتهم ..
لقد اعتبرت الشريعة ذلك رشوة.. فحرمته.. وتشددت في تحريمه.
لقد نص على هذه الحرمة قوله تعالى :{ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (البقرة:188)، أي لا تدلوا بأموالكم إلى الحكام ـ أي لا تصانعوهم بها ولا ترشوهم ـ ليقتطعوا لكم حقاً لغيركم وأنتم تعلمون أنه لا يحل لكم.
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم)([158])
وقال: ( من شفع لرجل شفاعة فأهدى له عليها هدية فقد أتى باباً كبيراً من أبواب الربا)([159])
وقال: (الراشي والمرتشي في النار)([160])
وقال: (ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)([161])
وقال: (من ولي عشرة فحكم بينهم بما أحبوا أو بما كرهوا جيء به مغلولة يداه فإن عدل ولم يرتش ولم يحف فك الله عنه وإن حكم بغير ما أنزل الله وارتشى وحابى فيه شدت يساره إلى يمينه ثم رمي به في جهنم فلم يبلغ قعرها خمسمائة عام)([162])
وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لعن الراشي والمرتشي في الحكم والرائش الذي يسعى بينهما)([163])
قال رجل منا: إن ما ذكرته من التشديدات والترهيبات سوف يصرف خيار الناس عن تولي هذه المسؤولية الخطيرة.. فكيف حلت الشريعة هذه المعضلة؟
قال: كما أن الشريعة توعدت قضاة السوء ورهبتهم من الجور والظلم، فإنها ـ كذلك ـ وعدت القضاة العادلين بالأجور الجزيلة، والتي تجعلهم يقبلون على القضاء برغبة صادقة..
فقد جعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم القضاء العادل من النّعم التي يغبط أصحابها لما ينالونه من أجر، فقد جاء في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (لا حسد إلا في اثنتين([164]): رجلٌ آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق، ورجلٌ آتاه الله حكمةً، فهو يقضي بها ويعلمها)([165])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم : (إن المقسطين عند الله على منابر من نورٍ: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)([166])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (أهل الجنة ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ مقسطٌ موفقٌ، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلمٍ، وعفيفٌ متعففٌ ذو عيالٍ)([167])
وغيرها من النصوص.. وهي كافية لأن تملأ قلوب الصادقين رغبة في تولي هذا المنصب بعد اكتمل أدواته..
بالإضافة إلى هذا، فإن الشريعة الإسلامية زرعت في قلوب المسلمين الشعور بتحمل مسؤولياتهم عن دينهم وعن العدل الذي جاء لتحقيقه.. ولذلك فإنه لا يجوز لشخص أطاق منصبا أن يتركه إلا إذا وجد من يكفيه أو وجد من هو أكفأ منه له.. أما أن يتركه شاغرا مع قدرته عليه، فتلك معصية لا تقل عن طاعة التورع عنه([168]).
لقد أشار إلى هذا قوله تعالى على لسان يوسفu :{ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } (يوسف: 55).. لقد رأى يوسف u نفسه ملزما بإنقاذ الخلق من المجاعة التي تتربص بهم.. ورأى نفسه الكفء الوحيد لذلك المنصب.. فراح يطلبه لنفسه ذاكرا الأوصاف التي استحق بها طلب ذلك المنصب.
ولهذا، فإنه يجوز لمن هذه نيته أن يتوسل بما أوتي من وسائل لتولي هذا المنصب ليحمي العباد من الجور والظلم.
وبعد ذلك كله.. فقد اعتبرت الشريعة أن لولي الأمر الحق في أن يجبر من قدر على هذه الوظيفة، ثم تورع عنها، لأنه لا يمكن لولي الأمر أن يؤدي وظيفته من دون معونة القادرين الخبراء.
قلنا: حدثتنا عن الأمانة.. وكيف حمت الشريعة القضاء من الخيانة.. فحدثنا عن الحرية.. وكيف حمت الشريعة القضاء من التبعية للطغاة والمستبدين؟
قال: أول ما فعلت الشريعة لذلك هو أنها نصت على جميع الأحكام المرتبطة بالقضاء.. ولذلك لم يبق للقاضي من دور سوى أن ينفذ ما قررته الشريعة..
روي أن جعد بن هبيرة قال لعلي بن أبي طالب : يا أمير المؤمنين، يأتيك الرجلان، أنت أحب إلى أحدهما من أهله وماله، والآخر لو يستطيع أن يذبحك لذبحك فتقضي لهذا على هذا!.. قال: فلهزه علي وقال: إن هذا شيء لو كان لي لفعلت، ولكن إنما ذاك شيء لله.
قلنا: ذلك ليس خاصا بالإسلام.. ففي جميع محاكم العالم لا يمكن للقاضي أن يقضي إلا بما سنته الدولة من قوانين.
قال: ومن هي الدولة؟
قلنا: هي الشعب.. ومن يمثل الشعب.
قال: فإن كان من يمثل الشعب مستبدا ظالما؟
قلنا: ستمثل القوانين استبداده وظلمه.
قال: ولهذا.. فإن الله سبحانه برحمته بعباده ولطفه بهم لم يترك هذا الباب لتقلبات الأيام.. وتغيرات الدول.. وأمزجة الحكام..
ففي الوقت الذي كان فيه لويس الخامس عشر يقول: (أنا الدولة والدولة أنا) كان قضاة المسلمين يقفون بكبرياء أمام أي حاكم يريد أن ينحرف بالعدالة إلى ما تتطلبه أهواؤه.
لقد روي أن علياً ضاعت منه درع فوجدها عند نصراني. فأقبل به إلى القاضي شريح يخاصمه، وقال علي: هذه الدرع درعي ولم أبع ولم أهب.. فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين.. فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب! فالتفت شريح إلى على وقال: يا أمير المؤمنين، ألك بينة؟ فابتسم علي وقال: أصاب شريح، ما لي بينة.
فقضى بالدرع للنصراني، فأخذها ومشى خطوات ثم رجع، فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقتضي فيقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، سقطت منك وأنت منطلق إلى صفين. قال علي: أما إذ أسلمت فهي لك.
سكت قليلا، ثم قال: لقد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القضاة بفعاله قبل أن يعلمهم إياها بقوله.. فقد كان مع نبوته ووحي الله إليه يقول: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه)، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لايقضي إلا بما يسمع، لا بما يعلم.
وفي قضية الحضرمي والكندي قال صلى الله عليه وآله وسلم : (شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلا ذلك)([169])
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا جهم على الصدقة فلاحاه رجل على فريضة، فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاهم الأرش([170])، ثم قال: (إني خاطب الناس، ومخبرهم أنكم قد رضيتم.. أرضيتم؟) قالوا : نعم، فصعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر فخطب، وذكر القصة، وقال :(أرضيتم؟) قالوا : لا.. فهم بهم المهاجرون، فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاهم، ثم صعد فخطب الناس ثم قال : أرضيتم؟ قالوا : نعم([171])..
انظروا كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ بعلمه في هذه القصة.. انظروا كيف عاد فأعطاهم، ولم يعاملهم بحسب إقرارهم الأول.
قلنا: عرفنا استقلال القضاء الإسلامي عن التبعية لأي سلطة غير سلطة الشريعة.. فحدثنا عن عدالته.
قال: لا تتم العدالة في القضاء إلا بسريانها في جميع أركان القضايا.
قلنا: وما أركان القضايا؟
قال: هما اثنان: الإثبات والحكم.. إثبات التهمة على من ارتكبها.. والحكم عليهم بعدها.
قلنا: فحدثنا عن العدالة التي جاءت بها شريعة الإسلام فيما يتعلق بالإثبات؟
قال: لقد اعتبرت الشريعة الإسلامية البراهين والأدلة هي المعيار الذي به يتم تمييز الحق من الباطل.. فلهذا، فإن كل ادعاء يبقى في نظر القضاء الشرعي محتاجا إلى دليل، ولا يؤخذ به إلا بالحجة والبرهان، قال تعالى :{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة: 111) إن كنتم صادقين ( (20)، وقال :{ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)(النور: 13)
وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) ([172])
قال رجل منا: ليس الشأن في اعتبار الدليل.. ولكن الشأن في ماهية الدليل..
لقد مارست كثير من الشعوب دجلا كثيرا سمته دليلا:
فكان منها القناعة الشخصية.. والتي تعتمد على القوة.. لقد كان كل شخص يقضي لنفسه بنفسه، وينتقم لنفسه من خصمه بدون دليل ولا برهان، وإنما لمجرد القوة الشخصية، فيستعين الشخص بأقاربه، وقد تهب القبيلة لنجدته سواء كان ظالما أو مظلوما كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
وكان منها ما يسمونه طريقة الامتحان الإلهي.. وذلك بأن يعطوا المتهم السم، أو يلقونه في النهر، أو يصبون عليه الزيت أو الماء المغلي، أو يعرض لبعض الثعابين، فإن لم تؤثر عليه هذه المحاولات ثبتت براءته، وإلا ثبت عليه الجرم.. وقد بقي هذا معمولا به في انكلترا حتى القرن الثالث عشر.
وكان منها غير ذلك.. فما المنهج الذي اعتمده الإسلام في هذا؟
قال: منهج الإسلام في هذا يرتبط أول ما يرتبط بالإيمان بالله..
قلنا: وما علاقة هذا بالإيمان بالله؟
قال: أنتم تعلمون أن القضايا تبدأ بالسماع.. سماع الدعاوى التي تتوفر شروطها..
قلنا: ذلك صحيح..
قال: الإسلام بدأ من هذا.. فنهى عن الكذب، وشدد فيه، واعتبره علامة من علامات النفاق، بل اعتبره مضادا للإيمان.. وانتشار مثل هذه القيم في المجتمع سيحفظه لا محالة من كثير من الدعاوى الكاذبة.
لقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)([173])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة ؛ وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار)([174])
وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: يا رسول الله ما عمل الجنة؟ قال : (إذا صدق العبد بر، وإذا بر آمن، وإذا آمن دخل الجنة)، وقال يا رسول الله ما عمل النار؟ قال: (الكذب، إذا كذب العبد فجر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر دخل النار)([175])
وقال: (رأيت الليلة رجلين أتياني فقالا لي : الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب الكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به ذلك إلى يوم القيامة )([176])
وقال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر)([177])
وقال: ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) ([178])
وقال : (لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقا)([179])
وقال : (لا يبلغ العبد صريح الإيمان حتى يدع المزاح والكذب ويدع المراء وإن كان محقا)([180])
وقال : (يطبع المرء على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)([181])
وقيل: يا رسول الله أيكون المؤمن جبانا؟ قال : نعم.. قيل له أيكون المؤمن بخيلا؟ قال : نعم.. قيل له أيكون المؤمن كذابا؟ قال : لا([182]).
وقال : (لا يجتمع الكفر والإيمان في قلب امرئ، ولا يجتمع الصدق والكذب جميعا، ولا تجتمع الأمانة والخيانة جميعا)([183])
وقال : (كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت له كاذب)([184])
وقال : (ألا إن الكذب يسود الوجه والنميمة عذاب القبر )([185])
وقال : (بر الوالدين يزيد في العمر، والكذب ينقص الرزق، والدعاء يرد القضاء)([186])
وقال : (إذا كذب العبد تباعد الملك عنه ميلا من نتن ما جاء به)([187])
وقال : (من قال لصبي تعال هاك أعطيك ثم لم يعطه فهي كذبة )([188])
وقال : (ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له ويل له)([189])
وقال : (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان وملك كذاب وعائل – أي فقير – مستكبر)([190])
وقال:( ثلاثة لا يدخلون الجنة : الشيخ الزاني، والإمام ـ أو قال والملك ـ الكذاب، والعائل المزهو)([191])
قلنا: عرفنا هذا.. فما غيره؟
قال: أنتم تعلمون أن الإقرار سيد الأدلة.. وأنه يختصر الكثير من الجهد المبذول في التحري.. وأنه يقي القضاء من أن يقع في مهاوي الأخطاء.
قلنا: نعلم ذلك.. ولكن ما أصعب أن نجد المتهم الذي يقر بما فعله.
قال: الإسلام نشر نوعا من الوعي في المجتمع الإسلامي يجعل تحقيق هذا سهلا ميسورا.. لقد نشر ذلك بواسطة الإيمان بالله واليوم الآخر.. لقد علم النفوس أن تصبر على ألم الدنيا لأنها لا يمكن أن تصبر على ألم الآخرة.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول للخصوم إذا أتوه:( إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها)([192])
عندما قال مرة هذا الكلام بكى الخصمان وقال كل واحد منهما لصاحبه: حقي لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أما إذا فعلتما ذلك فاقتسماه وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحللا)
قلنا: عرفنا هذا.. فما غيره؟
قال: أنتم تعلمون أن الشهادة هي أهم وسائل الإثبات.
قلنا: أجل..
قال: ولكن الشهود قد ينكلون ويكتمون، وقد يكذبون ويرجفون.
قلنا: وهذا أصعب ما يعترض الشهادة.
قال: لقد وضع الإسلام حله.. فربى النفوس على أنها إن سكتت عن المنكر، فهي شريكة فيه.. فأداء الشهادة واجب.. قال تعالى :{ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } (الطلاق: 2)، وقال :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135)، وقال :{ وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا )(البقرة: 282)، وقال :{ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } (البقرة: 283)
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من كتم شهادة إذ دعي إليها كان كمن شهد بالزور)([193])
قلنا: عرفنا هذا، فما غيره؟
قال: لقد اعتبرت الشريعة الكذب في الشهادة من أكبر الكبائر..
ففي الحديث: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين – وكان متكئا فجلس – فقال: (ألا وقول الزور وشهادة الزور)، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت([194]).
وقال: ( الكبائر : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس)([195])
وقال : ( لن تزول قدما شاهد الزور حتى يوجب الله له النار)([196])
وقال : (إن الطير لتضرب بمناقيرها وتحرك أذنابها من هول يوم القيامة، وما يتكلم به شاهد الزور ولا يفارق قدماه الأرض حتى يقذف به في النار)([197])
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الصبح، فلما انصرف قام قائما، فقال : ( عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثلاث مرات)، ثم قرأ :{ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } (الحج: 30)([198])
قام رجل منا، وقال: إن كان هذا فقط ما يستعمله القاضي من أساليب الاستدلال على القضايا، فما أسهل أن يتلاعب المحتالون.. فيزوروا ما شاء لهم أن يزوروا من غير رادع ولا زاجر.
قال: لا.. ليس ذلك فقط.. لقد أتاحت الشريعة للقاضي أن يستعمل من الأساليب العادلة ما يراه مناسبا للتعرف على القضايا.. وذلك ما نص عليه قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (الحجرات:6)
وأشار إليه قوله تعالى :{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)} (الأنبياء)
وقد روى المفسرون في تفسيرها: (الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرما نفشت فيه الغنم، فلم تَدَع فيه ورقة ولا عنقودًا من عنب إلا أكلته، فأتوا داود، فأعطاهم رقابها، فقال سليمان: لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهلُ الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيصلحوه ويعمروه حتى يعود كالذي كان ليلة نَفَشت فيه الغنم، ثم يُعطَى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم)
ومما حدث به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن سليمان u قوله: بينما امرأتان معهما ابنان لهما، جاء الذئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا. فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها، لا تَشُقه، فقضى به للصغرى([199]).
قلنا: عرفنا عدالة الإثبات، فحدثنا عن عدالة الحكم.
قال: من مظاهر العدالة في الحكم التسوية بين الخصوم في الأحكام.. فلا تميز فئة من الناس بأحكام خاصة بها.. فالناس ـ في نظر الإسلام ـ مهما علت مقاماتهم، أو سمت منازلهم، فهم أمام شرع الله متساوون، لا امتياز لأحد على أحد.
وهذا ما تنص عليه النصوص المقدسة الكثيرة.. والتي يتخذها القضاة قانونهم الذي يحكمون من خلاله.. قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58)، وقال:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90)، وقال :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (المائدة:8)
وفي الحديث أن أن امرأة من بني مخزوم سرقت حليا وقطيفة، فبعث قومها أسامة بن زيد بن حارثة ليشفع فيها، فرده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: ( يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله؟ وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)
وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم في جوابه لأسامة بن زيد إلى أن العدول عن العدل سبب هلاك الأمم المتقدمة، فقال: ( إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)([200])
قلنا: عرفنا هذا.. وعرفنا أهميته.. فما غيره؟
قال: لقد حثت الشريعة القضاة على أن يتعاملوا في أحكامهم مع الظواهر لا البواطن.. فلا يحاكمون الناس إلا بما بدر منهم.. وقد كنت ذكرت لكم قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها)، وفي لفظ (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار)([201]).. وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)([202])
قلنا: عرفنا هذا.. وعرفنا أهميته.. فما غيره؟
قال: على القاضي أن يبين دليله الذي اعتمد عليه في أحكامه.. لينظر فيه هل هو موافق للشريعة أم مخالف لها.. فلا يصح الحكم في الإسلام إلا بشرع الله.. قال تعالى :{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49)، وقال :{ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (النساء:65)
قلنا: عرفنا هذا.. فما غيره؟
قال: لقد نهت الشريعة القاضي أن يقضي، وهو في حالة نفسية مشوشة لئلا يؤثر ذلك على أحكامه، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم : (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان)، وسر ذلك هو أن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد.. ومثل هذا كل ما يمكن أن يعرض له من هم مزعج وخوف مقلق وجوع وظمأ الشديد وشغل للقلب مانع من الفهم.
قلنا: عرفنا ما وضعته الشريعة من أحكام تخدم العدالة.. فما وضعت من الأحكام التي تخدم الرحمة.
قال: الرحمة في ديننا أصل أصوله.. فلا حظ لقاسي القلب في هذا الدين..
قلنا: فما تجليات الرحمة في هذا؟
قال: كثيرة جدا.. سأقتصر لكم على بعض مجامعها.. منها أن للمحكوم عليه حق الاستئناف سواء عند نفس القاضي الذي حكم عليه، أو عند غيره.. ومنها الحفاظ على حقوق المتهم المحكوم عليه.. فلا يعاقب فوق العقوبة التي حددها له الشارع.
ومما يدل على هذا ما ورد في الحديث من أن رجلاً كان يلقب حماراً وكان يهدى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العكة من السمن والعكة من العسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أعط هذا ثمن متاعه، فما يزيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبتسم ويأمر به فيعطى، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد شرب الخمر، فقال رجل: (اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( دعوه فإنه يحب الله ورسوله)([203])
ومثل ذلك ما رود في حديث المرأة التائبة والتي أقام عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحد.. فإنه بعد موتها صلى عليها، فقال له عمر : تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز و جل؟)([204])
قال رجل منا: حدثتنا عن النظام القضائي.. فحدثنا عن نظام الدفاع الذي جاء به الإسلام..
قال آخر: لم أسمع أن في الإسلام شيئا اسمه (نظام دفاع)
قال آخر: بلى.. هناك مثل هذا النظام.. وهو نظام يعتمد الأسلحة التقليدية.. والحرب التقليدية.
قال آخر: أجل.. أعرفه.. إنه نظام يعتمد على الكر والفر.. والخداع والمكر.
قال آخر: وهو نظام يعتمد على اللصوصية التي كان يمارسها العرب في جاهليتهم.. ولكن بفارق بسيط وهو أن العرب كانوا يغزوا بعضهم بعضا، فحولهم الإسلام إلى غزو الدول القريبة منهم.
قاطعهم الحسين، وقال: رويدكم.. فلا ينبغي أن نردد كل ما يقال.. لقد جعل الله لنا من المدارك ما نميز به الخبيث من الطيب.. والباطل من الحق..
تأملوا جيدا فيما سبق أن ذكرته لكم.. هل يمكن لدين يحمل كل تلك المعاني الجميلة.. وكل تلك الأهداف النبيلة أن يصير لصا مجرما سفاحا..
قال رجل منا: صدقت.. فحدثنا ما تقول الحقائق عن نظام الدفاع الذي جاء به الإسلام.
قال: نظام الدفاع الذي جاء به الإسلام يقوم على ركنين أساسيين كبيرين كلاهما جاء به القرآن وكلاهما مارسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ودعا إليه.
أما أولهما، فهو القوة.. وأما الثاني، فهو الأمانة..
وقد جمعهما الله في قول ابنة الرجل الصالح وهي تثني على موسى u – بعدما استطاع أن يستخلص حقها وحق أختها من قومها المستكبرين -:{ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} (القصص)
انظروا إلى هذه العبارة ما أجمعها.. إنها تجمع الشروط التي تحمي الأمة كما حمى موسى u ابنتي الرجل الصالح.. فقوة الدولة وحدها لا تكفي.. كما أن أمانتها المجردة من القوة وحدها لا تكفي..
ولهذا.. فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نبه بعض أصحابه إلى شرط القوة لأداء الأمانة، فقال 🙁 يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)([205])
قلنا: ما تريد بالقوة؟
قال: القوة تعنى امتلاك جميع الأسباب التي تجعل الغير لا يطمع فيك.. وهي ليست ـ في منظور الإسلام ـ مقتصرة على القوة الجسدية وحدها.. فقد تكون قويا في جسدك.. ولكنك ضعيف في نفسك.. وذلك مما يطمع أعداءك فيك.
ولهذا ورد الأمر بالقوة والاستعداد لها من غير تحديد لنوع ذلك الاستعداد، ولا لنوع تلك القوة، قال تعالى :{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ.. (60)} (الأنفال)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن فضل قوة المؤمن من غير تحديد لنوعها، فقال 🙁 المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل. فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان)([206])
فالقوة في المفهوم الإسلام هي القدرة على مواجهة جميع الصعاب مهما كان نوعها أو مصدرها.. وهي تتحقق في السلم كما تتحقق في الحرب.. بل لا يمكن أن ينجح في الحرب من لم ينجح في السلم..
ولهذا فإن قوة الدولة هي الحصن الذي يحميها.. قبل أن تحميها جيوشها وأسلحتها.
قلنا: فحدثنا عن الأمانة.. وما وجه علاقتها بنظام الدفاع؟
قال: الأمانة هي عدم الظلم وعدم الخيانة.. فمن أعطاه الله قوة.. فلا ينبغي أن يتكبر بها على عباد الله، فيظلمهم أو يسلبهم حقوقهم أو يستولي على ما آتاهم الله من فضله.
ولهذا أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن هلاك الأمة مرتبط بضياع الأمانة وضياع أهلها، فقال 🙁 إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)([207])
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن هناك خصالاً إذا فعلتها هذه الأمة حل بها البلاء، فقال 🙁 إذا اتخذ الفيء دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وتعلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام لآل قطع سلكه فتتابع)([208]) أي: كالمسبحة حينما ينقطع خيطها فتخرج خرزة بعد الأخرى حتى تنتهي.
***
ما وصل الحسين بن علي من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا بيد خبيب، وساروا به إلى مقصلة الإعدام..
بعد أن وضع الحبل على عنقه التفت إلينا بابتسامة، وقال: أستودعكم الله أيها الإخوان الأفاضل.. لا أريد منكم، وأنا أتقدم لنيل هذه الجائزة العظيمة إلا أن تجعلوا نفوسكم جنودا في جيش العدالة الإلهية.. وأن تتحملوا مسؤوليتكم في هذا الصدد.. فـ :{ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)} (الأحزاب)
قال ذلك، ثم تمتم بالشهادتين، ثم أسلم نفسه مبتسما لله.
بمجرد أن فاضت
روحه إلى باريها كبر جميع السجناء بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم.. وقد صحت معهم
بالتكبير دون شعور.. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس
محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
([1]) أشير به إلى أبي عبد الله الحُسَيْن بن علي (4 – 61هـ )، سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيد شباب أهل الجنة، وريحانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد ردت في فضله المناقب الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منها قوله: ( الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة ) (رواه الترمذي بإسناد صححه وحسنه)، ومنها ما روى حذيفة: (إن ملكًا هبط إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يهبط إلى الأرض قطّ قبل هذه الليلة، استأذن ربه، عز وجل، أن يُسلِّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويبشره أن الحسين سيّد شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء الجنة) (رواه أحمد والترمذي)، ومنها : (إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا)(البخاري)، ومنها ( حسين مني وأنا منه، أحب الله من أحب حسيناً، الحسن و الحسين من الأسباط)، ومنها من أحبهما – أي الحسن والحسين – فقد أحبني)، وغيرها.
ومع كل هذه المناقب.. فقد شاء الله لبعض الأشقياء من الطغاة أن يقدموا على قتله مع أهل بيته في الواقعة المشهورة بكربلاء في يوم الجمعة في العاشر من المحرم منها عام 61هـ.. وقد ذكرنا الحادثة بتفصيل في الرسالة الموسومة بـ (حوار مع الطغاة) في الفصل الذي خصصناه للطاغية (يزيد)
([2]) من القائلين بهذا علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم).. ذلك أنه قال عن نظام الحكم زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه كان موضع غموض وإبهام وخفاء ولبس)
([3]) يذكر بعضهم أن علي عبد الرازق ذهب قبل تأليفه إلى بريطانيا، وأقام فيها عامين.. ومن أجل هذا وغيره ذهب فضيلة الشيخ ( محمد بخيت ) رحمه الله إلى أن الكتاب ليس من تأليف (على عبد الرازق)، ورجح الدكتور (ضياء الدين الريس) بأن مؤلف الكتاب الحقيقي هو مستشرق إنجليزي يهودي الأصل، وهو (مرجليوث) ومن هنا أطلق عليه الأستاذ أنور الجندي ( حاشية على عبد الرازق على بحث مرجليوث )
([4]) صدرت كتب عديدة ترد على الكتاب وحوكم مؤلف الكتاب أمام هيئة كبار العلماء بالأزهر.
([5]) سنرى الأدلة الكثيرة على عدم إجماع المسيحيين على التثليث في رسالة (الله جل جلاله) من هذه السلسلة.
([6]) سنرى مسؤوليات أخرى للرعية في فصل (المسؤولية) من هذه الرسالة.
([7]) رواه البخاري ومسلم.
([8]) رواه البخاري ومسلم.
([9]) رواه البخاري.
([10]) رواه مسلم.
([11]) رواه مسلم.
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(1) رواه ابن حبان وابن أبي شيبة وأحمد والطيالسي.
([15]) رواه البخاري ومسلم.
([16]) رواه البخاري ومسلم.
([17]) ذكرنا أمثلة عن ذلك في فصل (مسؤولية) من هذه الرسالة.
([18]) رواه أبو يعلى والعسكري، وابن أبي خيثمة والبغوي وابن قانع وروي بلفظ: (أن يحكمه)
([19]) رواه مسلم.
([20]) هذه شبهة يعرضها معظم المستشرقين، وينتصرون لها، وكأنها حقيقة لا شك فيها.. وسنحاول أن نذكر بعض ما ذكره علماؤنا في الرد عليها.
([21]) على خلاف بينهم في درجات هذا التأثر.. فمنهم فريق من أمثال (جولد تسيهر) و(فون كريمر) و(شيلدون آموس) يذهبون إلى القول بأن الشريعة الإسلامية مستمدة من القانون الروماني، فهذا القانون هو المصدر الذي أقام فقهاء المسلمين على أساس من قواعده الكيان القانوني للشريعة الإسلامية..
([22]) انظر: فجر الإسلام، ص 246.
([23]) رواه البخاري ومسلم.
([24]) رواه الترمذي والدارقطني بسند ضعيف.
([25]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([26]) رواه مسلم.
([27]) هذا المثل مقتبس من قوله تعالى :{ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الروم:28) أي: هل يرتضي أحد منكم أن يكون عبده شريكًا له في ماله، فهو وهو فيه على السواء { تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي: تخافون أن يقاسموكم الأموال..
قال أبو مِجْلَز: إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك، وليس له ذاك، كذلك الله لا شريك له.
([28]) الآية السابقة التي تشير إلى هذا هي قوله تعالى :{ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)} (هود)
([29]) رواه مسلم.
([30]) رواه مسلم.
([31]) رواه الحاكم وصححه والبيهقي وكذا ابن ماجه باختصار القصة إلا أنه قال عن واثلة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت الله ، أو لم تزل الملائكة تلعنه)
([32]) رواه أحمد وابن ماجه والطبراني في الكبير والحاكم وقال صحيح على شرطهما.
([33]) رواه أبو الشيخ ابن حبان.
([34]) رواه أبو داود والنسائي.
([35]) رواه مسلم وأبو داود.
([36]) رواه أحمد.
([37]) رواه ابن ماجه.
([38]) رواه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزّار وأبو يعلى.
([39]) رواه أبو داود.
([40]) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (مفاتيح المدائن) من هذه السلسلة.
([41]) رواه الطبراني في الكبير.
([42]) رواه الحاكم.
([43]) رواه الطبراني في الكبير.
([44]) رواه أحمد والترمذي وابن حبان ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
([45]) رواه أحمد والترمذي.
([46]) رواه أحمد.
([47]) رواه مسلم.
([48]) رواه أحمد وعبد بن حميد، والبخاري في الأدب وابن منيع وابن أبي عمر.
([49]) ذكرنا هذه الأركان في (سلام للعالمين).. ونعيد هنا ما يقتضيه المقام منها، بالإضافة إلى بعض التفاصيل التي لم نذكرها هناك.
([50]) رواه البخاري ومسلم.
([51]) رواه البخاري ومسلم.
([52]) رواه البخاري ومسلم.
([53]) رواه مسلم.
([54]) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.
([55]) رواه الترمذي والنسائي.
([56]) رواه البخاري ومسلم.
([57]) رواه البخاري.
([58]) رواه مسلم.
([59]) رواه البخاري ومسلم.
([60]) رواه البخاري.
([61]) رواه البخاري ومسلم.
([62]) رواه البخاري ومسلم.
([63]) رواه ابن المبارك في الزهد من رواية حمزة بن عبيد مرسلا بسند ضعيف وفي البر و الصلة له من زيادات الحسين المروزى حمزة بن عبد الله بن أبي سمى وهو الصواب.
([64]) رواه ابن المبارك في الزهد من رواية عكرمة بن خالد مرسلا بإسناد جيد.
([65]) رواه الطبراني و الحاكم وصححه.
([66]) رواه مسلم.
([67]) رواه البخاري ومسلم.
([68]) رواه أحمد.
([69]) رواه البخاري في الأدب، وأبو نعيم، وابن ماجة.
([70]) رواه مسلم.
([71]) رواه ابن أبي الدنيا.
([72]) رواه الطبراني بسند حسن صحيح.
([73]) رواه الخرائطي.
([74]) رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم.
([75]) رواه الطبراني.
([76]) رواه الطبراني.
([77]) رواه الطبراني والبيهقي.
([78]) رواه أبو نعيم.
([79]) رواه الطبراني وابن عساكر.
([80]) رواه الطبراني.
([81]) رواه الطبراني بسند حسن.
([82]) رواه ابن النجار.
([83]) رواه أبو نعيم.
([84]) رواه أبو نعيم.
([85]) رواه ابن صصرى.
([86]) رواه الخرائطي والحسن بن سفيان وابن لال والديلمي.
([87]) رواه ابن عساكر.
([88]) رواه الطبراني.
([89]) رواه الطبراني.
([90]) رواه الطبراني.
([91]) رواه أحمد، وفي رواية لابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا : ( المفسدون بين الأحبة)
([92]) رواه أبو الشيخ.
([93]) رواه الترمذي.
([94]) رواه الطبراني وغيره.
([95]) رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه.
([96]) خصصنا فصلا خاصا لهذا الركن في هذه الرسالة بعنوان (التكافل)
([97]) رواه البخاري وأحمد.
([98]) رواه مسلم.
([99]) راجع التفاصيل المختلفة المرتبطة بالنظام التعليمي الإسلامي في الرسائل التالية: (النبي الإنسان)، (النبي الهادي)، (ثمار من شجرة النبوة).. وغيرها.. ولذلك سنختصر الكلام عليه هنا.
([100]) رواه مسلم وغيره.
([101]) رواه الطبراني.
([102]) أقتابه: الأقتاب: الأمعاء، واحدها: قتب بالكسر، وقيل: هي جمع قتب، وقتب جمع، وهي المعي. النهاية (4/11)
([103]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([104]) رواه البزار وغيره.
([105]) نحن نتحدث هنا عن الأنظمة كما وصفها الإسلام بأصوله المقدسة، أما التطبيق التاريخي الخاطئ للأنظمة الإسلامية، فلا علاقة لنا به لأنه لا علاقه له بالإسلام.
([106]) رواه أحمد.
([107]) رواه أبو نعيم.
([108]) رواه أحمد والطبراني في الكبير.
([109]) رواه أحمد.
([110]) رواه البزار والطبراني في الكبير.
([111]) رواه مسلم.
([112]) رواه أحمد والترمذي.
([113]) رواه أبو داود والترمذي.
([114]) رواه مسلم.
([115]) رواه أحمد والبخاري والترمذي.
([116]) رواه أحمد وابن ماجة.
([117]) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.
([118]) رواه أبو داود والبيهقي في الشعب.
([119]) رواه البيهقي في الشعب.
([120]) رواه الطبراني في الأوسط.
([121]) رواه أحمد والطبراني والحاكم.
([122]) رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان.
([123]) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
([124]) رواه ابن ماجة والبيهقي، وفي رواية (كيف يقدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من قويها وهو غير متعتع)
([125]) رواه الطبراني في الكبير.
([126]) رواه ابن ماجة وابن حبان.
([127]) رواه الترمذي.
([128]) رواه أحمد.
([129]) رواه يعقوب بن سفيان في مشيخته.
([130]) رواه الطبراني.
([131]) رواه أحمد وعبد بن حميد في مسنده، وتفسيره.
([132]) رواه البخاري ومسلم.
([133]) رواه ابن عساكر.
([134]) رواه ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف.
([135]) رواه مسلم.
([136]) رواه البخاري وغيره.
([137]) رواه مسلم.
([138]) رواه أبو داود والترمذي واللفظ له وقال حسن غريب ، وابن ماجه والحاكم وصححه.
([139]) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
([140]) رواه أحمد.
([141]) رواه ابن حبان في صحيحه.
([142]) رواه الطبراني.
([143]) رواه أحمد.
([144]) رواه أبو داود والترمذي وقال حسن غريب.
([145]) رواه ابن ماجه.
([146]) رواه أبو داود.
([147]) رواه الترمذي وابنا ماجه وحبان، ورواه الحاكم وصححه إلا أنه قال : (فإذا جار تبرأ الله منه)
([148]) رواه ابن ماجه والبزار واللفظ له.
([149]) رواه ابن أبي الدنيا وغيره.
([150]) رواه مسلم، وزاد الطبراني : ( كنصحه وجهده لنفسه)
([151]) رواه أحمد بسند حسن.
([152]) رواه الحاكم وصححه.
([153]) رواه أبو داود.
([154]) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه.
([155]) رواه الطبراني.
([156]) رواه الطبراني.
([157]) رواه الطبراني والأصبهاني.
([158]) رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.
([159]) رواه أبو داود.
([160]) رواه الطبراني بسند رجاله ثقات.
([161]) رواه أحمد.
([162]) رواه الحاكم.
([163]) رواه الحاكم، وروى أحمد والبزار والطبراني عن ثوبان قال : (لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي والرائش)، وروى الطبراني بسند جيد : ( لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم)
([164]) أي أنه ينبغي أن لا يغبط أحدٌ إلا على إحدى هاتين الخصلتين.. وليس المراد من ذلك الحصر، فقد ورد في حديث آخر قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجلٌ آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) رواه البخاري ومسلم.
([165]) رواه البخاري ومسلم.
([166]) رواه مسلم.
([167]) رواه مسلم.
([168]) انظر فصل (المسؤولية) في هذه الرسالة.
([169]) رواه مسلم.
([170]) هو ما يعطى في الجراحات.. وتقويمه راجع لأهل العلم.
([171]) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
([172]) رواه البخاري ومسلم.
([173]) رواه أبو داود والترمذي وصححه واللفظ له.
([174]) رواه ابن حبان في صحيحه.
([175]) رواه أحمد من رواية ابن لهيعة.
([176]) رواه البخاري.
([177]) رواه البخاري ومسلم، زاد مسلم في رواية : (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)
([178]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([179]) رواه أحمد والطبراني.
([180]) رواه أبو يعلى.
([181]) رواه أحمد.
([182]) رواه مالك مرسلا.
([183]) رواه أحمد.
([184]) رواه أحمد بسند فيه مختلف فيه وأبو داود.
([185]) رواه أبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه والبيهقي.
([186]) رواه الأصبهاني.
([187]) رواه الترمذي وقال حسن.
([188]) رواه أحمد وابن أبي الدنيا.
([189]) رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي.
([190]) رواه مسلم وغيره.
([191]) رواه البزار بسند جيد.
([192]) رواه البخاري ومسلم.
([193]) رواه الطبراني من رواية من احتج به البخاري.
([194]) رواه البخاري ومسلم.
([195]) رواه البخاري.
([196]) رواه ابن ماجه والحاكم وصححه.
([197]) رواه الطبراني.
([198]) رواه الترمذي وابن ماجه.
([199]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([200]) رواه البخاري ومسلم.
([201]) رواه البخاري ومسلم.
([202]) رواه البخاري ومسلم.
([203]) رواه البخاري.
([204]) رواه مسلم.
([205]) رواه مسلم.
([206]) رواه مسلم والنسائي وابن ماجه.
([207]) رواه البخاري.
([208]) رواه الترمذي.