ثانيا ـ القوي

قلت: عرفت السر الأول من أسرار الإنسان.. فما السر الثاني؟
قال: قوته..
قلت: عجبا.. لقد أقنعتني بضعفه وعجزه.. فكيف يستقيم هذا مع قوته.. ألا ترى أن هناك تناقضا بينهما؟
قال: أرى تكاملا بينهما لا تناقضا.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لقد خلق الله الإنسان مملوءا بالضعف.. ولذلك زوده بأنواع من القوى يستطيع أن يخرج بها من ضعفه ليمارس الوظيفة التي كلفه الله بها.. فلا يمكن أن تؤدى الوظائف إلا من الأقوياء..
انظر..إن موسى u ما استطاع أن يحسن إلى المرأتين، ويقوم بالواجب الذي تمليه المروؤة نحوهما لولا أنه كان قويا.. قال تعالى يذكر ذلك:{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} (القصص)
والله تعالى أمر يحي u بأن يأخذ الكتاب بقوة.. قال تعالى :{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)} (مريم)
وأمر موسى u أن يأخذ الكتاب بقوة.. قال تعالى :{ َكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)} (الأعراف)
وأمر بني إسرائيل بأن يأخذوا الكتاب بقوة، قال تعالى :{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)} (البقرة)
وأخبر أن ذا القرنين احتاج إلى القوة ليؤدي الوظيفة التي كلف بها.. قال تعالى :{ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)} (الكهف)
وأخبر أن معلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قويا.. وكأنه يشير إلى أنه لم يكن ليؤدي وظيفته التي كلف بها لو لم يكن كذلك.. قال تعالى :{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} (النجم)
قلت: كل من ذكرتهم أقوياء.. فمن مثل الأنبياء.. ومن مثل الملائكة.. ومن مثل الأولياء؟
قال: لقد أعطى الله لكل مخلوق من القوى ما يتناسب مع الوظيفة التي أنيطت به.. حتى الطير في السماء أعطاه الله من قوى جسده وعقله ما استطاع أن يطير به.. وأن يعيش حياته الطبيعية وهو في أجواء السماء.
قلت: والمستضعفون.. المساكين.. الذين حرموا من كل قوة، وامتلأوا بكل ضعف؟
قال: لقد وبخ الله تعالى المستضعفين.. ووصفهم بأنهم ظالمون لأنفسهم، لأنهم نظروا إلى ضعفهم وقصورهم.. ولم ينتبهوا لتلك القوى التي جعلها الله فيهم.. وعدم انتباههم لها هو الذي جعلهم يضيعونها، فلا يستثمرونها.. اسمع البيان الإلهي، وهو يصور هذه الحقيقة :{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:97)
انظر.. إن هذه الآية تنبه المستضعفين إلى القوى التي جعلها الله فيهم.. وهي قوى لها علاقة بالإدراك والعلم..
فالذي يريد أن يهاجر يحتاج ـ أولا ـ إلى البحث عن الأرض التي يريد أن يهاجر إليها، والتي تسمح له بالحياة التي لا تتناقض مع وظيفته.. ومثل هذا يستدعي القوة العلمية..
والذي يريد أن يهاجر يحتاج قوة حركية تمكنه من الانتقال..
قلت: وعيت هذا.. وأحسبني مستعدا لأن تحدثني عن المفتاح الذي فتح الله به عليك هذا السر.
قال: لك ذلك.. فبعد أن من الله علي، فعرفت من أسرار ضعف الإنسان ما ذكرته لك سرت في تلك المدينة العجيبة ـ التي فتح الله لي فيها من علوم الإنسان ما كان منغلقا ـ فرأيت الناس.. جميع الناس.. يسرعون إلى بيوتهم.. والدموع تملأ عيونهم.. وهم يصيحون: الله أكبر.. لقد استشهد البطل.. لقد استشهد البطل..
لم أكن أتصور عندما طرقت هذه الكلمة طبلة أذني إلا رجلا قويا مفتول العضلات يستطيع بعضلاته أن يفتك بأعدائه..
لكني وجدت الأمر خلاف ذلك تماما..
قلت: ما وجدت؟
قال: لقد عرفت أن البطل الذي بكى عليه الناس.. كان رجلا ممتلئا بالعلل.. ولكنه كان في شموخه وإبائه وشجاعته وحكمته كجبل أشم راسخ ممتلئ بجميع أنواع القوى.
قلت: لكأني بك تقصد الشيخ (..!؟)([1])؟
قاطعني، وقال: أجل.. لقد قدر الله أن يكون حادث استشهاد ذلك الشيخ البطل هو المفتاح الذي ولجت منه إلى مفتاح هذا السر من أسرار الإنسان.
في ذلك الصباح مررت على مقهى في ذلك الشارع الذي كنت أسير فيه.. فرأيت الجميع محلقين بأبصارهم إلى شاشة التلفزيون التي كانت تعرض صورا لاستشهاده.. ثم عرضت خطبة للشيخ قال فيها: (إن الرسالة التي نحملها هي رسالة الإسلام العظيمة، التي جاءت لتنقذ البشرية من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، قال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } (الأنبياء).. لذلك لا بد أن يكون حملة هذه الرسالة العظيمة علماء تجردوا من الدنيا وشهواتها، وتعلقوا بالآخرة ونعيمها، ووحدة القلوب تجمعهم، ووحدة الأخوة تؤلف بينهم، الحب والتعاون شعارهم، همهم إنقاذ الناس من النار بالكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، والمعاملة العالية من الرفق والحنان والعطف، ومد يد المساعدة لإنقاذ من في النار إلى جنة عرضها السماوات والأرض، طريقهم طريق الأنبياء والرسل الكرام، طريقهم محفوف بالمخاطر، ولكنه في النهاية منتصر، طريقهم البذل والعطاء والصدق والأمانة والعفاف، والعاقبة للمتقين، قال تعالى:{ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} (المجادلة)
لست أدري كيف شعرت بقوة عجيبة تسري في أعضائي.. فنهضت، وأنا أصيح: لقد أدى الشيخ ما عليه.. وبقينا نحن.. فهلم نستيقظ من غفوتنا لنوقظ هذه الأمة التي طال نومها.
ما قلت هذا حتى قال الجميع: صدقت.. فهلموا بنا إلى (مدرسة المسلم القوي).. فلا يمكن أن نستيقظ ولا أن نوقظ ما دمنا لم ننتسب إليها.
تعجبت من قولهم هذا، وقلت: هل هناك مدرسة بهذا الاسم؟.. لم أسمع بها.
قالوا: كيف لم تسمع بها.. وقد كنت الساعة تدعونا للانضمام إليها.. ونحن ببركة دعوتك عزمنا على تلبية طلبك.. فقد رأينا فيه من الصدق ما رغبنا في الانضمام إليها.
قلت: اعذروني.. أنا صادق في إخباركم عن جهلي بهذه المدرسة.. وأنا طالب منكم أن تمنوا علي بدلالتي عليها.
قال أحدهم: لا بأس.. أنا أعرف موقعها.. فهلم بنا إليها.
وقف الجميع.. ووقفت معهم.. وسرنا جميعا في تلال ومرتفعات عالية إلى أن لاحت لنا مدرسة في منتهى الجمال.. قصدناها.. فوجدنا رجلا هو كالشمس أو قريب من الشمس يقف على بابها، وهو يقول: مرحبا بكم في مدرسة المسلم القوي.. يشرفكم أن تنتسبوا إليها.. فلا يمكن للقوة أن تدب في قلوبكم، ولا يمكن للنشاط أن يسري بين جوارحكم ما لم تمتلئوا بالمعاني التي تعلمكم إياها هذه المدرسة.
قلت: أراك تعظم من شأنها.. فمن ترى مؤسسها؟
قال: ومن غيره؟.. إنه محمد رسول الله.. إنه الرسول الذي دعا إلى القوة بكل معانيها.. ونحن هنا ورثة من ورثته آلينا على نفوسنا أن ندرب كل من يقصدنا على تلك القوة..
قلت: فعلام تدربون من يقصدكم؟
قال: على سبعة معان.. أو سبع درجات([2]).. من ارتقى في سلمها شعر بقوة عجيبة يهون أمامها كل صعب، ويسهل أمامها كل عسير.
سرت مع الجمع إلى مدرسة المسلم القوي، وإلى أول قسم من أقسامها، وقد استقبلنا فيه رجل علمت بعد ذلك أن اسمه (الحكيم الترمذي)([3])، وقد علمت أنه قدمها من (ترمذ) بعد أن حصل له فيها مع أهلها بعض الخلاف، فقد أساءوا فهم ما يدعوهم إليه، فراحوا يشنعون عليه، كما هو عادة الأنبياء والأولياء مع أقوامهم..
لكنه لم يركن إليهم.. بل جاء إلى هذا القسم ليبشر بما منع أن يبشر به في ترمذ.. وقد نال خلاف ما نال هناك.. فقد لقي من شيوخ المدرسة وأصحابها من الاحترام والتكريم وفوق ذلك من الطاعة ما هو أهل له.
عندما دخلت القسم وجدته بين تلاميذه كالهالة أمام الشمس.. وهو ينشدهم بصوت عذب قائلا:
مثّل لنفسك أيها المغرور |
يوم القيامة والسماء تمور | |
إذ كُوِّرتْ شمس النهار وأُدنيتْ
|
حتى على رأس العباد تسير | |
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت |
وتبدّلت بعد الضياء كدور | |
وإذا البحار تفجّرت من خوفها |
ورأيتها مثل الجحيم تفور | |
وإذا الجبال تقلّعت بأصولها |
فرأيتها مثل السحاب تسير | |
وإذا العشار تعطّلت وتخرّبت |
خلت الديار فما بها معمور | |
وإذا الوحوش لدى القيامة أُحشرت |
وتقول للأملاك أين نسير | |
وإذا تقاة المسلمين تزوجت |
من حور عين زانهن عبير | |
وإذا الموءودة سُئِّلتْ عن شأنها
|
وبأيّ ذنب قتلها ميسور | |
وإذا الجليل طوى السما بيمينه |
طيّ السجل كتابه المنشور | |
وإذا الصحائف عند ذاك تساقطت |
تُبدى لنا يوم القصاص نشور | |
وإذا الصحائف نشِّرت فتطايرت |
وهتّكت للمسلمين ستور | |
وإذا السماء تكشطت عن أهلها |
ورأيت أفلاك السماء تدور | |
وإذا الجحيم تسجَّرت نيرانها |
فلها على أهل الذنوب زفير | |
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت |
لفتى علي طول البلاد صبور | |
وإذا الجنين بأمه متعلِّقٌ |
يخشى القصاص وقلبه مذعور | |
هذا بلا ذنب يخاف جناية |
كيف المُصِرّ على الذنوب دهور |
بعد أن انتهى من إنشاده الذي تحركت له القلوب، وسالت له العيون، نظر إلى تلاميذه، وقال: ما رأيتم؟
قال أحدهم: ما رأينا شيئا.
قال: ألم تروا أهوال القيامة، والصحف وهي تنشر، والموازين وهي تقام، والجحيم وهي تزفر، والجنة وهي تشتاق إلى أهلها.
نظروا إلى بعضهم بعضا، ثم قالوا: لا.. لم نر بعد شيئا.
قال: أنتم لا زلتم نائمون.. لا بد أن تستيقظوا.. فلا يمكن للنائم أن يبصر الحقائق.
قال أحد الحاضرين: الحقائق تعلم، ولا تبصر.
قال: الحقائق التي تعلم تبقى منحصرة في زوايا مهملة من الذهن.. ولا يمكن للحقائق أن تؤتي ثمارها النافعة إلا بعد أن تصبح رأي العين.. ألم تعلموا أنه (ليس الخبر كالعيان)([4])؟
ألم تعلموا أن إبراهيم u طلب الرؤية ليعبر إلى الطمأنينة الإيمانية.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك :{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} (البقرة)؟
قالوا: أجل.. ولكن كيف نرى كل ما ذكرت، وهو لم يحصل بعد؟
قال: لقد ورد في الحديث أن بعض الصحابة قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:يا رسول اللّه، نكون عندك تذكّرنا بالنّار والجنّة، حتّى كأنّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضّيعات، نسينا كثيرا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (والّذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذّكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، يا حنظلة، ولكن ساعة وساعة (ثلاث مرّات)([5])
قال أحدهم: إن هؤلاء صحابة وواعظهم هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وأين نحن من الصحابة.. وأين أنت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
بدا الغضب على وجه الترمذي، ثم راح يصيح فيهم: ويحكم أتريدون أن تكرروا ما فعله أهل ترمذ.. ويحكم ما فائدة الحقائق إن لم نعشها.. وما جدوى المعارف إن لم نبصرها.
أما الصحابة فهم بشر مثلكم.. ولستم أقل منهم شأنا إن أحسنتم.. فالله لا يحاسب خلقه إلا بأعمالهم.. ولا يرفع درجاتهم إلا بما كسبت أيديهم..
ثم لم لم تذكروا أنه إن فاتتكم الصحبة فإن أخوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تفتكم.. وأنتم تعلمون أن للأخوة من الفضل في كثير من الأحيان ما لا تدانيه الصحبة؟
قال أحدهم غاضبا: ما تقول يا شيخ؟.. وأين نحن من الأخوة التي تزعمها؟
قال: لعلكم لم تسمعوا بما ورد في الحديث من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى المقبرة فقال: (السّلام عليكم دار قوم مؤمنين. وإنّا إن شاء اللّه، بكم لاحقون. وددت أنّا قد رأينا إخواننا) قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول اللّه؟ قال: (أنتم أصحابي. وإخواننا الّذين لم يأتوا بعد)، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمّتك يا رسول اللّه؟ فقال: (أرأيت لو أنّ رجلا له خيل غرّ محجّلة. بين ظهري خيل دهم بهم.. ألا يعرف خيله) قالوا: بلى. يا رسول اللّه! قال: (فإنّهم يأتون غرّا محجّلين من الوضوء. وأنا فرطهم على الحوض. ألا ليذادنّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضّالّ أناديهم: ألا هلمّ! فيقال: إنّهم قد بدّلوا بعدك. فأقول سحقا سحقا)([6])
وفي حديث آخر عن عمر قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أتدرون أى الخلق أفضل إيماناً؟ قلنا: الملائكة. قال: وحق لهم، بل غيرهم. قلنا: الأنبياء. قال: وحق لهم، بل غيرهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أفضل الخلق إيماناً قوم في اصلاب الرجال يؤمنون بى ولم يرونى، يجدون وَرَقا فيعملون بما فيها وهم أفضل الخلق إيماناً)([7])
قال الرجل: نعم ما ذكرت.. ولكن ما علاقة ما تذكره بهذا القسم؟
قال الحكيم: إن اليقظة تتطلب أمرين لا يمكن أن تحقق من دونهما: أن تعرفوا الحقائق التي يقوم عليها هذا الكون.. وأن تعرفوا من أنتم وما محلكم منه..
إن هذا مثل المستيقظ من النوم تماما.. فالمستيقظ يعرف حقيقته وحقيقة ما يحيط به.. بخلاف النائم الذي انشغل عن كلا المعنيين.
قالوا: وعينا هذا.. ونحن نتعجب من دعوتنا إلى رؤية الحقائق بدل علمها.
قال: لأن علمها موجود عندكم.. كما هو موجود عند كثير من الناس.. ولكن الكثير ينشغل عن العلم بالجهل، فيغطي جهله علمه.. فلذلك يحتاج إلى أن يبصر الحقائق حتى يتغلب علمه على جهله.
قالوا: اضرب لنا مثالا حتى نعي هذا.
قال: لاشك أنكم تعرفون الموت.
قالوا: ومن لا يعرفه؟
قال: ولكنكم في تعاملكم مع شؤون حياتكم تكادون تنسونه.
قال رجل منهم: أجل.. ولذلك قالوا : لم نجد يقينا أشبه بالشك من الموت.
قال: ذلك عند كل الناس ما عدا المستيقظ.. فإن الموت عنده حقيقة حاضرة يعيشها.. ويلتزم بلوازمها.. فلا يركن إلى الدنيا ولا يركن إلى الأهواء، ولا ينشغل بالعاجلة عن الباقية..
لقد حدث الصالحون عن الربيع بن خثيم وغيره من الأولياء أنهم كانوا يرتدون الأكفان، ويتوسدون التراب؟! ليستشعروا حضور الموت، فيعملوا بمقتضيات علمهم به.
وحدثوا عن إبراهيم التيمي أنه قال: (مثّلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، ثم مثّلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي : أي شيء تريدين؟ قالت : أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا. قال : قلت : فأنت في الأمنية فاعملي)
وحدثوا عن سالم الخواص أنه كان يقرأ الآية ويكررها، ويتلذذ بذلك كما يتلذذ أحدنا بالعسل، وعندما سئل عن سر ذلك قال: (كنت أقرأ القرآن ولا أجد له حلاوة ، فقلت لنفسي: اقرئيه كأنك سمعتيه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءت حلاوة قليلة ، فقلت لنفسي : اقرئيه كأنك سمعتيه من جبريل u حين يخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فازدادت الحلاوة ، ثم قلت لها : اقرئيه كأنك سمعتيه حين تُكِّلم به، فأتت الحلاوة كلها)
انظروا إلى هذا المستيقظ كيف صار يسمع الكلام من ربه.. هذه هي اليقظة الحقيقية..
لقد قلت ذلك لأهل ترمذ، فراحوا يرمونني بالدواهي.. فإياكم أن تكونوا مثلهم.. واسمعوا إلى الله، فإنكم ستجدونه يخاطبكم خطابا مباشرا.. فإياكم أن تنشغلوا بالحجب عن خطابه.
***
بقينا مدة في صحبة الحكيم الترمذي إلى أن خرقت لنا الحجب، وفتحت لنا الأبواب، وانفتح من أعيننا ما كان مغمضا، ومن آذاننا ما كان مسدودا..
وبعد أن رأى الترمذي منا هذه الأحوال طلب منا أن نسير إلى القسم الثاني.
سرنا إلى القسم الثاني، وكان إمامه إمام من أئمة الحديث والتقوى.. كان الجميع يسمونه (الإمام النسائي)([8])، وقد علمت أنه قدم فارا من دمشق بعد أن طلب بعض المبتدعة منه فيها أن يثني على بعض الظلمة.. فأبى، وقال لهم بكل قوة: إن الثناء على الظالم دعوة للظلم.. وإن الثناء على الظالم سب للمظلوم.. وإن الله أمرنا بلعنة الظالم الباغي، ولم يأمرنا بالترضي عنه أو الترحم عليه.. وإن الله قال:{ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} (هود)، ولم يقل: (ألا رحمة الله على الظالمين)
بمجرد أن دخلنا قاعة القسم وجدنا نفرا من الناس يجادلونه بكل قوة، قال أحدهم: ما تقول يا إمام.. أنسيت أن من تذكره بهذه المثالب هو خال المؤمنين؟
قال: حتى لو كان أبا للمؤمنين أو ابنا لهم.. لاشك أنكم تعلمون أن صفية زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي أم من أمهات المؤمنين.. فمن كان أبوها الذي هو جد المؤمنين؟
قال أحدهم والبسمة على فمه: هو حيي بن أخطب ذلك الظالم المعتدي الذي أهدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دمه.
قال: فهل أغنى كونه أبا لصفية عنه شيئا؟
قالوا: لا.. بل قد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل قوله تعالى :{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ (214)} (الشعراء): يا معشر قريش اشتروا لأنفسكم، لا أغني عنكم من اللّه شيئا.. يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من اللّه شيئا.. يا عبّاس بن عبد المطّلب، لا أغني عنك من اللّه شيئا.. ويا صفيّة عمّة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لا أغني عنك من اللّه شيئا.. ويا فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من اللّه شيئا)([9])
قال أحدهم: وقد روى بعضهم أنه كان كاتبا للوحي([10]).
قال: حتى لو فرضنا صحة ذلك.. فإنه لن يغني عنه من الله شيئا ألا تعلمون أن اثنين من كتبة الوحي قد ارتدا عن الإسلام؟
قال رجل منهم: أجل.. أعرف أحدهما.. إنه عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وقد روي الثقاة من خبره في تفسير قوله تعالى :{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)} (التوبة): أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجع قافلا من تبوك الى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناس من أصحابه فتآمروا عليه أن يطرحوه في عقبة في الطريق، فلما هموا وبلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فلما غشيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر خبرهم، فقال: (من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فانه أوسع لكم)، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العقبة، وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سمعوا ذلك استعدوا وتلثموا وقد هموا بأمر عظيم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر فمشيا معه مشيا، وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة وأمر حذيفة أن يسوقها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم من ورائهم، قد غشوهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمر حذيفة أن يردهم وأبصر حذيفة غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم، فضربها بالمجن وأبصر القوم وهم متلثمون لا يشعر انما ذلك فعل المسافر، فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أدركه قال: (اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش أنت يا عمار)، فأسرعوا حتى استوى بأعلاها فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا حذيفة، هل عرفت من هؤلاء الرهط، أو الركب أو أحدا منهم؟) قال: عرفت راحلة فلان وفلان، وقال: كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هل علمتم شأنهم وما أرادوا ؟) قالوا: لا، والله يا رسول الله، قال: (فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا أظلمت في العقبة طرحوني منها، وان الله تعالى قد أخبرني بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وهم عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وابو حاضر الاعرابي، وابو عامر، والجلاس بن سويد بن الصامت، ومجمع بن جارية وفليح التيمي، وحصين بن نمير، وطعمة بن أبيرق وعبد الله بن عيينة، ومرة بن الربيع)، قيل: يا رسول الله، أفلا تأمر بهم فتضرب أعناقهم، قال: أكره أن يتحدث الناس، ويقولوا: (ان محمدا وضع يده في أصحابه)، فلما أصبح أرسل إليهم كلهم، فقال: (أردتم كذا وكذا) فحلفوا بالله ما قالوا، ولا أرادوا الذي سألهم عنه([11]).
قال آخر: وأنا أعرف الثاني.. وأعرف أن الأرض لفظته، فعن أنس قال: كان هنا رجل من بني النجار، وقد قرأ البقرة وآل عمران، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فرفعوه، قالوا: هذا كان يكتب لمحد، فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه، فأصبحت الارض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصحبت الارض قد نبذته وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصحبت الارض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذا([12]).
قال النسائي: فقد بان لكم أن هذا أيضا لن يغني عنه شيئا.
قالوا: فما الذي يغني عن الإنسان إن لم يغن عنه ما ذكرت؟
قال: وجهته التي توجه إليها، وقبلته التي استقبلها..
قالو: فإذا كان يتوجه للكعبة المشرفة كما يتوجه سائر المسلمين.
قال: رب متوجه بوجهه للكعبة، وهو متوجه بقلبه لعرش الشيطان.
قالوا: فكيف نميز بينهما؟
قال: بالإرادة نميز بينهما.. أنسيتم أنا في قسم الإرادة.. فلا يمثل الإنسان إلا إرادته وهمته..
قالوا: فحدثنا عنها.
قال: سأحدثكم عن إرادة أهل الله.. فنحن في هذا القسم لا نعلم إلا هذا النوع من الإرادة.
قالوا: فحدثنا عنها.
قال: لقد ذكرها الله تعالى، فقال :{ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)} (الروم)
وذكر الله أهلها، وأثنى عليهم، فقال:{ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)} (الأنعام)
وقد ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث كثيرة، فعن جابر بن عبدالله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة فقال: (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم؛ حبسهم المرض)، وفي رواية: (إلا شركوكم في الأجر)([13])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)([14])
هل رأيتم منزلة الإرادة وقيمتها، حتى لو لم يكن معها عمل.. إنها تنزل المؤمن منازل الشهداء حتى لو مات على فراشه.. وتنزله منازل الكرماء حتى لو لم ينفق دينارا ودرهما.. وتنزله منازل المجاهدين حتى لو لم يخرج من بيته.
قالوا: عجبا .. كيف يكون ذلك؟
قال: لقد قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصناف الناس، فقال: ( إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء )([15])
فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن النية الصادقة، والرغبة الأكيدة، والإرادة الجازمة، يمكنها أن تصل بالإنسان وحدها إلى أرقى المراتب.
قالوا: لقد ملأت قلوبنا رغبة في الإرادة.. فما الطريق إليها؟
قال([16]) : اعلموا ـ أيها الأحباب الكرام ـ يا من اصطفاكم الله لإرادته أن أول الطريق باعث قوي يقذف في قلب العبد يـحثه على الإقبال على الله والدار الآخرة، والإعراض عن الدنيا وعما الـخلـق مشغولون به من عمارتـها وجمعها والتـمتع بشهواتها والاغترار بزخارفها.
وهذا الباعث من جنود الله الباطنة، وهو من نفحات العناية وأعلام الهداية، وكثيرا ما يفتح به على العبد عند التخويف والترغيب والتشويق، وعند النظر إلى أهل الله تعالى والنظر منهم، وقد يقع بدون سبب.
والتعرض للنفحات مأمور به ومرغب فيه والانتظار والارتقاب بدون التعرض ولزوم الباب حمق وغباوة.
ومن أكرمه الله بهذا الباعث الشريف فليعرف قدره المنيف، وليعلم أنـه من أعظم نعم الله تعالى عليه التي لا يقدر قدرها ولا يـبلغ شكرها فلـيبالغ في شكر الله تعالى على ما منحه وأولاه، وخصه به من بين أشكاله وأقرانه فكم من مسلم بلغ عمره ثمانين سنة وأكثر لم يجد هذا الباعث ولم يطرقه يوما من الدهر.
قالوا: وعينا هذا.. فكيف نقوي هذا الوارد.. وكيف نحفظ بركات تلك النفحات؟
قال: تقوونه بكثرة ذكر لله، والفكر فيما عند الله، والمجالسة لأهل الله.. وتحفظونه بالبعد عن مجالسة المحجوبين، والإعراض عن وسوسة الشياطين، وبأن تبادروا بالإنابة إلى الله تعالى، وبالصدق في الإقبال عليه.
لقد قال أبو الربيع داعيا إلى ذلك: سيروا إلى الله عرجا ومكاسير ولا تنتظروا الصحة فإن انتظار الصحة بطالة.. وقال ابن عطاء الله في الحكم: إحالتك العمل على وجود الفراغ من رعونات النفوس.
قالوا: فبم نبدأ لنصدق في إرادتنا؟
قال: أول شيء يبدأ به المريد الصادق في طريق الله تصحيح التوبة إلى الله تعالى من جميع الذنوب، وإن كان عليه شيء من المظالم لأحد من الخلق فليبادر بأدائها إلى أربابها إن أمكن وإلا فيطلب الإحلال منهم، فإن الذي تكون ذمـته مرتهنة بحقوق الخلق لا يمكنه السير إلى الحق.
وليكن المريد على الدوام في غاية من الاعتراف بالتقصير عن القيام بما يجب عليه من حق ربه، ومتى حزن على تقصيره وانكسر قلبه من أجله فليعـلم أن الله عنده إذ يقول سبحانه: أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي.
وعلى المريد أن يحترز من أصغر الذنوب فضلا عن أكبرها أشد من احترازه من تناول السم القاتل، ويكون خوفه لو ارتكب شيئا منها أعظم من خوفه لو أكل السم، وذلك لأن المعاصي تعمل في القلوب عمل السم في الأجسام، والقلب أعز على المؤمن من جسمه بل رأس مال المريد حفظ قلبه وعمارته.
وعلى المريد أن يجتهد في حفظ قلبه من الوساوس والآفات والخواطر الردية، وليـقم على باب قلبه حاجبا من المراقبة يمنعها من الدخول إليه فإنها إن دخلته أفسدته، ويعـسر بعد ذلك إخراجها منه.
وليبالغ في تـنقية قلبه الذي هو موضع نظر ربه من الميل إلى شـهوات الدنيا، ومن الحقد والغل والغش لأحد من المسلمين، ومن الظــن السوء بأحد منهم، وليكن ناصحا لهم رحيما بهم مشفقا عليهم، معتقدا الخير فيهم، يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من الشر.
وعلى المريد أن يجتهد في كف جوارحه عن المعاصي والآثام، ولا يحرك شيئا منها إلا في طاعة، ولا يعمل بها إلا شيئا يعود عليه نفعه في الآخرة. وليبالغ في حفظ اللسان فإن جرمه صغير وجرمه كبير، فليكفه عن الكذب والغيبة وسائر الكلام المحظور، وليحترز من الكلام الفاحش، ومن الخوض فيما لا يعنيه، وإن لم يكن محرما فإنـه يقـسي القلب، ويكون فيه ضياع الوقت، بل ينبغي للمريد أن لا يحرك لسانه إلا بتلاوة أو ذكر أو نصح لمسلم أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو شيء من حاجات دنياه التي يستعين بها على أخراه
قالوا: وعينا هذا.. فما علامة المريد الصادق؟
قال([17]): لا يكون المريد مريدا حتى يجد في القرآن كل ما يريد، ويعرف النقصان من المزيد، ويستغني بالمولى عن العبيد، ويستوي عنده الذهب والصعيد.
المريد من حفظ الحدود، ووفى بالعهود، ورضي بالموجود، وصبر عن المفقود.
المريد من شكر على النعماء، وصبر على البلاء، ورضي بمر القضاء، وحمد ربه في السراء والضراء، وأخلص له في السر والنجوى.
المريد من لا تسترقه الأغيار، ولا تستعبده الآثار، ولا تغلبه الشهوات، ولا تحكم عليه العادات. كلامه ذكر وحكمة، وصمته فكرة وعبرة، يسبق فعله قوله ويصدق علمه عمله، شعاره الخشوع والوقار، ودثاره التواضع والانكسار، يتبع الحق ويؤثره، ويرفض الباطل وينكره، يحب الأخيار ويواليهم، ويـبغض الأشرار ويعاديهم، خبره أحسن من خبره، ومعاشرته أطيب من ذكره، كثير المعونة، خفيف المؤونة، بعيد عن الرعونة.
المريد الصادق أمين مأمون، لا يكذب ولا يخون، لا بخيلا ولا جبانا، ولا سبابا ولا لعانا، ولا يشتغل عن بده، ولا يشح بما في يده، طيب الطوية، حسن النية، ساحته من كل شر نقية، وهمته فيما يقربه من ربه علية، ونفسه على الدنيا أبية، لا يصر على الهفوة، ولا يقدم ولا يحجم بمقتضى الشهوة، قرين الوفاء والفتوة، حليف الحياء والمروة، ينصف كل أحد من نفسه ولا ينتصف لها من أحد. إن أعطي شكر، وإن منع صبر، وإن ظلم تاب واستغفر، وإن ظلم عفا و غفر، يحب الخمول والاستتار، ويكره الظهور والاشتهار، لسانه عن كل ما لا يعنيه مخزون، وقلبه على تقصيره في طاعة ربه محزون، لا يداهن في الدين ولا يرضي المخلوقين بسخط رب العالمين، يأنس بالوحدة والانفراد، ويستوحش من مخالطة العباد، ولا تلقاه إلا على خير يعمله، أو علم يعلمه، يرجي خيره، ولا يخشى شره، ولا يؤذي من آذاه، ولا يجفو من جفاه.
المريد الصادق كالنخلة ترمى بالحجر فترمي بالرطب، وكالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح، تلوح أنوار صدقه على ظاهره، ويكاد يفصح ما يرى على وجهه عما يضمر في سرائره، سعيه وهمته في رضا مولاه، وحرصه ونهمته في متابعة رسوله وحبيبه ومصطفاه، يتأسى به في جميع أحواله، ويقتدي به في أخلاقه وأفعاله وأقواله.
المريد الصادق من تراه في غاية الحرص على متابعة نبيه ممتثلا لأمر ربه وراغبا في الوعد الكريم وهاربا من الوعيد الأليم.
***
بقينا مدة في صحبة النسائي إلى أن دبت فينا روح الإرادة والعزيمة، وتحركت قلوبنا وجوارحنا للعمل بقتضياتها.. وبعد أن رأى النسائي منا هذه الأحوال طلب منا أن نسير إلى القسم الثالث.
3 ـ المعاهدة
سرنا إلى القسم الثالث، وكان شيخه إمام جليل قدم من قلقشندة من أرض مصر.. وكان يقال له (عبد الوهاب الشعراني)([18]).. وقد امتلأ صلاحا من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه.
عندما دخلنا القسم، رأيناه يحمل كتابا من تأليفه كان عنوانه (لواقح الأنوار القدسية في العهود المحمدية)([19])
بمجرد أن رآنا قال لنا مرحبا: مرحبا بكم في قسم المعاهدة.. هل أحضرتم معكم دفاتركم وأقلامكم؟
قلنا: لم يطلب منا من سبقك أقلاما ولا دفاتر.
قال: وحق لهم أن لا يطلبوا.. فقد كان الأول يدعوكم إلى اليقظة، والثاني يدعوكم إلى الإرادة، وكلاهما يبدآن من النفس وينتهيان إليها.. أما أنا فلست أدعوكم إلا إلى المعاهدة.. ولا يمكن أن تتحقق المعاهدة من دون أقلام وأوراق.. هل ترون موثقي العقود يستغنون عن الأوراق والأقلام؟
قلنا: لا.. ولكنك لست موثق عقود.
قال: ليس هناك من فرق بيني وبين موثقي العقود إلا أنهم يوثقون عقود الدنيا وأنا أوثق عقود الآخرة.. وهم يوثقون العقود مع الخلق، وأنا أوثق العقود مع الخالق.
قلنا: أفصح عن غرض هذا القسم حتى لا ترميك ظنوننا بالدواهي.
قال: هذا القسم هو قسم المعاهدة.. والمعاهدة عقد يجريه من امتلأ همة وإرادة مع مولاه ليصلح من حياته ما فسد، ويبني منها ما تهدم.. وقد يفتح الله عليه بها فيعرج المعراج الذي لا نزول بعده، ويسجد السجدة التي لا يقوم من سجدها.
قلنا: ما أعظم ما تقول.. فأنظرنا حتى نأتي بدفاترنا وأقلامنا.
قال: انتظروا.. فلا يمكن أن تقدموا العقود قبل أن تعرفوا حقيقتها وأسرارها وآثارها وأركانها ومحلها من الدين ومن نصوصه المقدسة.
قلنا: بوركت.. فلا يحل أن نقدم على أمر قبل أن نعرف حكم الله فيه.. فحدثنا.. هل ورد في النصوص المقدسة الحديث عنها؟
قال: وكيف يفتح قسم لم تأذن النصوص المقدسة بفتحه..
قلنا: فنور أسماعنا بما ورد من كلام ربنا وهدي نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: لقد ذكر الله تعالى فضل من وفى بعهده مع الله، وصدق في بيعه وشرائه معه، فقال:{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} (التوبة)
بل اعتبر من بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاهده مبايعا لله ومعاهدا له، فقال :{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)} (الفتح)
وذكر من صفات أولي الألباب الذين يعلمون ما أنزل الله على رسوله من الحقائق أنهم { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)} (الرعد)
وذكر من صفات ورثة الفردوس أنهم {.. الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} (المؤمنون)
وأثنى على الأبرار الذين فهموا حقيقة البر ومارسوها، فقال:{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} (البقرة)
وأبلغ في الثناء على رجال من المؤمنين بقوله:{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)} (الأحزاب)
ومع الثناء على أهل الله الموفين بعهد الله وردت النصوص مخبرة بوجوب هذا الوفاء، وأنه لا يقل في وجوبه عن أي وفاء آخر، قال تعالى:{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)} (البقرة)، وقال :{ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)} (الأنعام)، وقال :{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)} (النحل)
قلنا: هذه الآية الكريمة تتحدث عن العقود بين الخلق.. فكيف أدرجتها هنا؟
قال: وهل يكون الوفاء مع التاجر والأجير والمكاري أعلى درجة من الوفاء مع الله؟
لقد فهم الربانيون من الآيات الحاضة على وجوب الوفاء بالعقود أن أول العقود هو العقد الذي يجريه العبد مع ربه، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)} (المائدة)
فالعقود التي يجب الوفاء بها لا تتوقف على عقود البيع والشراء، بل تعم جميع العقود التي يعقدها العبد مع ربه، عن ابن عباس قال: (العهود ما أحل اللّه وما حرم، وما فرض وما حد في القرآن كله، ولا تغدروا ولا تنكثوا)
ولهذا كتب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً لعمرو ابن حزم، حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنّة، ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتاباً وعهداً، وأمره فيه بأمره، فكتب: (بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من اللّه ورسوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ..(1)} (المائدة) عهد من محمد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى اللّه في أمره كلهن فإن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)([20])
ومما يبين خطورة هذه المعاهدات ووجوب الوفاء بها تأكيد القرآن الكريم على أن الله تعالى سيسأل عباده عن هذه العهود، قال تعالى:{ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34)}(الاسراء)، وقال:{ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً (15)} (الأحزاب)
قال رجل منا: نعم ما قرأته.. وصدق الله ورسوله وسلمنا لهما.. ولكن لمن نمد أيدينا بالمعاهدة والبيعة.. لقد قبض الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.. فكيف نبايع ومن نبايع؟
قال: إن كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد مات، فإن الله حي لا يموت..
قال الرجل: تقصد أن نبايع الله ونعاهده؟
قال: أجل.. ألم تسمعوا إلى الله تعالى، وهو يخبر عن بيعة المؤمنين لربهم ومعاهدتهم له، كما قال تعالى :{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)} (الأحزاب)؟
وقد ورد في سبب نزول هذه الآيات ما يدل على هذا المعنى، فعن أنس قال: نرى هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر)([21])
وقد قص علينا ثابت قصة هذا العهد العظيم، فقال : كان أنس عمي (أنس بن النضر)، لم يشهد مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم غبت عنه، لئن أراني اللّه تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ليرين اللّه ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يوم أُُحد، فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: (يا أبا عمرو أين، واهاً لريح الجنة إني أجده دون أحد)، قال: فقاتلهم حتى قتل، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته عمتي الربيع ابنة النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه، قال: فنزلت هذه الآية :{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)} (الأحزاب)، قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه)([22])
قال الرجل: ولكن مع ذلك لا بد من الوسائط.. فقد قيل: إن من ليس له شيخ، فشيخه الشيطان.
قال: صدقت.. لقد ذكر أولياء الله هذا..
قال رجل من الحاضرين يبدو التشدد على ملامحه: ما تقول يا شيخ؟.. هل نأخذ ديننا عن ربنا، أم عن من زعمت له الولاية؟
قال الشعراني: بل نأخذه عن ربنا.. ومعاذ الله أن يؤخذ دين الله عن غير الله.. إنا إذن لمبتدعون.
قال الرجل: فكيف تخرج مما ذكرت.
قال الشعراني: لقد دلنا ربنا على ضرورة الهادي المرشد المربي، فقال :{ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} (الرعد)، وقال :{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (الإسراء)
قاطعه الرجل قائلا: إن ما تذكره من النصوص لا علاقة له بالشيوخ.. إنه مرتبط بالرسل والأنبياء.
قال الشعراني([23]): صدقت.. وأنا من هذا الباب أريد أن أبين لك وللحضور ضرورة المرشد.. ذلك أن الله تعالى يعلم حاجة عباده لمن يدلهم على الطريق الصحيح، ويربيهم عليه.. فلو ترك الناس لأفكارهم وحدها، فإنها وإن سمت فإن العقل مهما بلغ فهو محل للخطأ.. ولأن العلم وحده قد يكون طريق الهلاك.. والأدلة على ذلك في تواريخ الفلاسفة والمفكرين بين العقليين وأصحاب المذاهب الاجتماعية المختلفة لا تكاد تحصى.
ومن هنا وجد الإشراف والتوجيه البشري في كل شيء سواء كان وظيفة أو تجارة أو تعليما أو احترافا أو إدارة أو غير ذلك.
ومن هنا جاء أمر الله باتخاذ القدوة الصالحة.. ولا تكون القدوة حسنة إلا إذا كان الله غايتها،كما قال تعالى: {.. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ..(15)} (لقمان)، وقال :{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)} (غافر)
وعندما ذكر الله أنماطا من أهل القدوة الصالحة الداعية إليه تعالى في سورة الأنعام قال لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم :{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ..(90)} (الأنعام)
بالإضافة إلى هذا.. هل يمكن لأي إنسان أن يقرأ القرآن قراءة صحيحة بغير مقرئ خبير؟ أو هل يمكن أن يفهم الفقه من غير فقيه نحرير؟.. وهكذا في عالم النفس المزدحم بالمشكلات لا يمكن أن يهتدي الإنسان إلى حلها من غير طبيب خبير عالم بمسالك النفس ومطالبها وأهواءها.
لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، وإلى ضرورته، فقال :{ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} (النحل)، وقال :{ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} (فاطر)، وقال :{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ..(90)} (الأنعام)، وقال :{ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ..(15)} (لقمان)، وقال :{ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} (الفرقان)
إن هذه النصوص جميعا تدل على أنه لابد للسالك إلى الله من هاد ذي قدرة وذي ذكر خبير بوسائل الفرار إلى الله والهجرة إليه..
لقد اتفق على هذا كل أولياء الله..
فهذا أبو حامد الغزالي يقول: (يحتاج المريد إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، فمن سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه وأهلكها ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها فإنها تجف على القرب وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر فمعتصم المريد شيخه فليتمسك به)([24])
وقال: (كنت في مبدأ أمري منكرا لأحوال الصالحين ومقامات العارفين حتى صحبت شيخي (يوسف النساج)، فلم يزل يصقلني بالمجاهدة حتى حظيت بالواردات، فرأيت الله تعال في المنام فقال لي: يا أبا حامد دع شواغلك واصحب أقواما جعلتهم في أرضي محل نظري، وهم الذين باعوا الدارين بحبي قلت: بعزتك إلا أذقتني برد حسن الظن بهم، قال: قد فعلت، والقاطع بينك وبينهم تشاغلك بحب الدنيا، فاخرج منها مختارا قبل أن تخرج منها صاغرا، فقد أفضت عليك أنوارا من جوار قدسي، فاستيقظت فرحا مسرورا وجئت إلى شيخي (يوسف النساج) فقصصت عليه المنام فتبسم وقال: يا أبا حامد هذه ألواحنا في البداية، بل إن صحبتني ستكحل بصيرتك بإثمد التأييد)([25])
وقال: (إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه، فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق)
وذكر منها (أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس، مطلع على خفايا الآفات، ويحكمه في نفسه ويتبع إشاراته في مجاهداته وهذا شأن المريد مع شيخه والتلميذ مع استاذه فيعرفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه ويعرفه طريق علاجها)([26])
وقال: (فمما يجب في حق سالك طريق الحق أن يكون له مرشد ومرب ليدله على الطريق، ويرفع عنه الأخلاق المذمومة، ويضع مكانها الأخلاق المحمودة.. ومعنى التربية أن يكون المربي كالزارع الذي يربي الزرع، فكلما رأى حجرا أو نباتا مضرا بالزرع قلعه وطرحه خارجا ويسقي الزرع مرارا إلى أن ينمو ويتربى ليكون أحسن من غيره، وإذا علمت أن الزرع محتاج للمربي علمت أنه لابد للسالك من مرشد البتة)([27])
وقال ابن عطاء الله السكندري: (وينبغي لمن عزم على الاسترشاد وسلوك الرشاد أن يبحث عن شيخ من أهل التحقيق سالك للطريق تارك لهواه راسخ القدم في خدمة مولاه، فإذا وجهد فليمتثل ما أمر، ولينته عما نهى عنه وزجر)([28])، وقال: (لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله)
وقال: (ليس شيخك من سمعت منه، وإنما شيخك من أخذت عنه.. وليس شيخك من واجهتك عبارته وإنما شيخك الذي سرت فيك إشارته.. وليس شيخك من دعاك إلى الباب وإنما شيخك الذي رفع بينك وبينه الحجاب.. وليس شيخك من واجهك مقاله وإنما شيخك الذي نهض بك حاله.. شيخك هو الذي أخرجك من سجن الهوى ودخل بك على المولى.. شيخك هو الذي ما زال يحدو مرآة قلبك حتى تجلت فيها أنوار ربك أنهضك إلى الله فنهضت إليه وسار بك حتى وصلت إليه وما زال محاذيا لك حتى ألقاك بين يديه فزجَّ بك في نور الحضرة وقال: ها أنت وربك)([29])
وقال سميي الشيخ عبدالوهاب العشراني في كتابه الذي بين يدي، والذي سماه (العهود المحمدية): ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نواضب على الركعتين بعد كل وضوء بشرط أن لا نحدث فيهما أنفسنا بشيء من أمور الدنيا أو بشيء لم يشرع لنا في الصلاة.. ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به حتى يقطع عنه الخواطر المشغلة عن خطاب الله تعالى.. فاسلك يا أخي على يد شيخ ناصح يشغلك بالله تعالى حتى يقطع عنك حديث النفس في الصلاة، وإلا فمن لازمك حديث النفس ولا يكاد يسلم لك منه صلاة واحدة ولا فرض ولا نفل، فاعلم ذلك وإياك أن تريد الوصول إلى ذلك بغير شيخ كما عليه طائفة المجادلين بغير علم فإن ذلك لا يصح لك أبدا)([30])
وقال: (ولو أن طريق القوم يوصل إليها بالفهم من غير شيخ يسير بالطالب فيها لما احتاج مثل حجة الإسلام الإمام الغزالي والشيخ عز الدين بن عبد السلام أخذ أدبهما عن شيخ مع أنهما كانا يقولان قبل دخولهما طريق القوم : كل من قال: (إن ثم طريقا للعلم غير ما بأيدينا فقد افترى على الله عز وجل)، فلما دخلا طريق القوم كانا يقولان: (قد ضيعنا عمرنا في البطالة والحجاب وأثبتا طريق القوم ومدحاها)([31])
وقال – يتحدث عن نفسه-: (وكانت صورة مجاهداتي لنفسي من غير شيخ أنني كنت أطالع كتب القوم كرسالة القشيري وعوارف المعارف والقوت لأبي طالب المكي والإحياء للغزالي ونحو ذلك وأعمل بما ينقدح لي من طريق الفهم ثم بعد مدة يبدو لي خلاف ذلك فأترك الأول وأعمل بالثاني.. وهكذا فكنت كالذي يدخل دربا لا يدري هل ينفذ أم لا؟ فإن رآه نافذا خرج منه وإلا رجع، ولو أنه اجتمع بمن يعرفه أمر الدرب قبل دخوله لكان بين له أمره وأراحه من التعب، فهذا مثال من لا شيخ له، فإن فائدة الشيخ إنما هي اختصار الطريق للمريد، ومن سلك من غير شيخ تاه وقطع عمره ولم يصل إلى مقصوده، لأن مثال الشيخ مثال دليل الحجاج إلى مكة في الليالي المظلمة)([32])
قال الرجل: ولكنا نرى الكثير ممن ذكرت يتاجر بالإرشاد، ويزعم أن له من القدرات ما لم يجعله الله لرسله ولأنبيائه.
قال الشعراني: كما يوجد في الأطباء الدجالون، يوجد في المرشدين من ذكرت.. وكما لا يصح أن نحجب بالطبيب الدجال عن الطبيب الناصح، فكذلك لا يصح أن نحجب بالدليل الضال عن الدليل الهادي.
لقد ذكر سلفنا الصالح هذا، فقالوا: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)، وقالوا: (العلم روح تنفخ لا مسائل تنسخ فليتنبه المتعلمون عمن يأخذون وليتبنه العالمون من يعطون)
بل قد ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال لابن عمر: (يا ابن عمر دينك دينك إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ.. خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا)([33])
قال الرجل: فكيف نميز بين الدجال المحتال والناصح المخلص؟
قال الشعراني: لقد ذكر أولياء الله للمرشد الكامل علامات بها يعرف، وبسيماها يميز:
منها ما ذكره أبو القاسم القشيري حين قال: (قد درج أشياخ الطريق كلهم على أن أحدا منهم لم يتصدر للطريق إلا بعد تبحره في علوم الشريعة، ولم يكن أحد في عصر ممن العصور إلا وعلماء ذلك الزمان يتواضعون له ويعملون بإشارته)([34])
ومنها ما ذكره أبو العباس المرسي حين قال: (من كان فيه خمس خصال لا تصح مشيخته: الجهل بالدين.. وإسقاط حرمة المسلمين.. والدخول فيما لايعني.. واتباع الهوى في كل شيء.. وسوء الخلق من غير مبالاة)
ومنها ما ذكره ابن عربي حين قال: (الشيوخ نواب الحق في العالم كالرسل – عليهم الصلاة والسلام – في زمانهم، بل هم الورثة الذين ورثوا علم الشرائع عن الأنبياء – عليهم السلام – غير أنهم لا يشرعون فلهم حفظ الشريعة في العموم، وليس لهم التشريع، ولهم حفظ القلوب، ومراعاة الآداب في الخصوص، وهم من العلماء بالله بمنزلة الطبيب، وقد جمع الشيخ بين الأمرين.. والشيوخ هم العارفون بالكتاب والسنة، قائلون بها في ظواهرهم، متحققون بها في سرائرهم، يراعون حدود الله تعالى، ويوفون بعهد الله، قائمون براسم الشريعة، لا يتأولون في الورع، آخذون بالاحتياط، مجانبون لأهل التخليط، مشفقون على الأمة، لا يمقتون أحدا من العصاة، يحبون ما أحب الله ويبغضون ما أبغض الله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر المجمع عليه، يسارعون في الخيرات، ويعفون عن الناس، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، يميطون الأذى عن الطريق طريق الله وطريق الناس، يؤدون حقوق الناس، يبرون عباد الله، هينون لينون رحماء بين خلق الله)
قال الرجل: فإن لم يوجد في المشايخ من وصفت؟
قال الشعراني: يستحيل أن تخلو الأرض من ورثة الرسل – عليهم الصلاة والسلام-
قال الرجل: فما نفعل حتى نصل إليهم.
قال الشعراني: لقد قال الأولياء في هذا (جد صدقا تجد مرشدا)
قال الرجل: فقد ضيقت السبيل علينا إذن؟
قال الشعراني: كيف؟
قال الرجل: أليس غاية السلوك الوصول إلى الصدق والصديقية؟
قال الشعراني: أجل..
قال الرجل: فقد أوقعتنا في الدور.. فنحن نحتاج إلى الصدق لنصل إلى الشيخ الذي يدلنا على الصدق.. أليس هذا دورا؟
قال الشعراني: شتان ما بين الصدقين: الصدق الأول للسالكين المريدين، والصدق الثاني للواصلين المقربين.
قال الرجل: فهل من سبيل غير ما ذكرت؟
قال الشعراني: لقد ذكر أولياء الله الصحبة الصالحة.. فلها من التأثير ما للمشيخة.. فيمكن للأصحاب أن تجري بينهم من المعاهدات ما يستعينون به على السير إلى الله.
قال الرجل: إن هذا يسير.. فحدثنا عنه.
قال الشعراني: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الصحبة الشريفة، فقال :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} (التوبة)
والصادقون هم الصفوة من المؤمنين الذين عناهم الله تعالى بقوله :{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)} (الأحزاب)
وهم الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على صحبتهم، كما قال تعالى :{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} (الكهف)
وهم الذين بين الله عظم ندامة من لم يصحبهم، قال تعالى :{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} (الفرقان)، وقال :{ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} (الزخرف)
وفي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك (يعطيك)، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة)([35])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)([36])
وقال:( إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله)، قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: (هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)، وقرأ هذه الآية :{ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} (يونس)([37])
وسئل صلى الله عليه وآله وسلم : يا رسول الله أي جلسائنا خير؟ قال: (من ذكركم الله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكركم في الآخرة عمله)([38])
وعن أبي ذر قال: يا رسول الله الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل كعملهم ؟ قال: (أنت يا أبا ذر مع من أحببت) قال: فإني أحب الله ورسوله، قال: (فإنك مع من أحببت)، فأعادها أبو ذر فأعادها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ([39]).
قال الرجل: فكيف تجري المعاهد بين الإخوان؟
قال الشعراني: لقد ذكر أولياء الله تفاصيل ذلك، والتي ستعرفونها في تداريب هذا القسم.
قال الرجل: أنا لا أستطيع أن أقدم على أمر دون أن أعلم دليله.
قال الشعراني: لاشك أنك تعرف حديث زيارة سلمان لأبي الدرداء؟
قال الرجل: أجل.. فقد روي.. ولنا في السنة ما يدل عليه، ففي الحديث عن أبي جحيفة قال : آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة([40])، فقال: ما شأنك؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال له : كل فإني صائم، قال : ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال له : نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال له : نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا جميعا فقال له سلمان: (إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه)، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر ذلك له فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (صدق سلمان)([41])
التفت إلى الرجل، وقال: أرأيت كيف كان سلمان يأمر أخاه بالدرداء، ولم يكن أبو الدرداء يتردد في إجابته؟
قال الرجل: أجل..
قال الشعراني: فهكذا يفعل الإخوان مع بعضهم بعضا.. فإذا رأى في أخيه عيبا سارع لنصحه، وإذا رأى فيه تقصيرا سارع لتداركه.. وهكذا.
قال الرجل: سلمت لك بكل ما ذكرت.. وبورك فيك.
***
بعد أن سمعنا كل هذا، سألنا الشعراني عن سر الدفاتر والأقلام التي طلب منا إحضارها، فقال: لابد أن نضع برنامجا نسير عليه في حياتنا.. برنامجا لكل يوم ولكل أسبوع ولكل شهر ولكل سنة ولعمرنا جميعا.. فلا يحق للسالك لطريق الله أن يدع لنفسه هواها تتحرك كيف تشاء..
***
بقينا مع الشيخ الشعراني مدة من الزمن نتدرب على وضع البرامج وتنفيذها والاستعانة بالمرشدين والأصحاب.. وبعد أن تمرنا على ذلك، وأتقناه طلب منا أن نسير إلى القسم الرابع من مدرسة (المسلم القوي)
سرنا إلى القسم الرابع، وكان إمامه إمام من أئمة الحديث والتقوى.. وكان من أهل الدينور.. وقد علمنا أنه يقال له (ابن السني)([42])، وأنه تلميذ شيخ الإرادة (الإمام النسائي)، وعلمنا أنه سار على دربه في البحث عن أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة الناس إليها.
وقد عجبنا لما رأينا من كثرة الكاميرات والأضواء في هذا القسم، وعندما سألنا شيخه ابن السني عن ذلك، قال: أردنا من خلال هذه الكاميرات ومن خلال الإضاءة أن نشعر المتدربين على أنهم في مسرح، وأن كلا منهم ممثل من الممثلين.. وأن لكل منهم أن يختار الدور الذي يشاء.. دور الولي أو دور الشقي.
قلنا: ألستم تدفعونهم بذلك إلى الرياء؟
قال: نحن نربيهم على الشعور بأنهم مراقبون.. فإذا ما شعروا بذلك أعلمناهم بأن الكاميرات وإن أغلقت، والأضواء وإن أطفئت، فإن هناك من لا يغيب عنه شيء..
قلنا: فأخبرنا من علوم هذا القسم، من أين استفدتموها؟
قال: كل علوم هذا القسم.. وكل علوم هذه المدرسة.. وكل علوم المدارس جميعا نقطة من فيض بحر كلام الله الذي لا تنتهي أمداده..
قلنا: فاذكر لنا منه ما تنشرح له صدورنا، وتقر به أعيننا.
قال: لقد ذكر الله أصل المراقبة الذي منه تبدأ، وإليه تنتهي، فقال :{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة،7)، وقال:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} (ق)، وقال :{ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } (الملك)، وقال :{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} (يونس)، وقال:{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)} (الأنعام)، وقال مخبرا عن موعظة لقمان u لابنه:{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} (لقمان)
وفي الحديث ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضل المراقبين لله المراعين لنظره، فقال عند ذكر من يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: (سبعة يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: الإمام العادل، وشاب نشأ بعبادة اللّه، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابّا في اللّه اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنّي أخاف اللّه، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه)([43])
وفي وصية منه صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ، قال فيها: (اعبد اللّه كأنّك تراه، واعدد نفسك من الموتى، وإن شئت أنبأتك بما هو أملك بك من هذا كلّه؟ قال: هذا.. وأشار بيده إلى لسانه([44]).
بل اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم مراقبة الله درجة من درجات الإحسان، ففي الحديث عندما سأله جبريل u عن الإحسان، قال: (أن تعبد اللّه كأنّك تراه فإنّك إن لا تراه فإنّه يراك)([45])
قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن حقيقة المراقبة.
قال: قال: حقيقة المراقبة هي ملاحظة الرّقيب، وانصراف الهمم إليه، فمن احترز من أمر من الأمور بسبب غيره، يقال إنّه يراقب فلانا، ويراعي جانبه، ويعني بهذه حالة للقلب يثمرها نوع من المعرفة، وتثمر تلك الحالة أعمالا في الجوارح وفي القلب.
أمّا الحالة فهي مراعاة القلب للرّقيب واشتغاله به والتفاته إليه وملاحظته إيّاه وانصرافه إليه.
وأمّا المعرفة الّتي تثمر هذه الحالة فهي العلم بأنّ اللّه مطّلع على الضّمائر، عالم بالسّرائر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كلّ نفس بما كسبت، وأنّ سرّ القلب في حقّه مكشوف كما أنّ ظاهر البشرة للخلق مكشوف بل أشدّ من ذلك.. فهذه المعرفة إذا صارت يقينا، ثمّ استولت بعد ذلك على القلب قهرته.. فإذا قهرته جرته إلى مراعاة جانب الرّقيب وصرفت همّه إليه.
قلنا: فقد آل أمر المراقبة إلى المعرفة اليقينية.
قال: أجل.. فبقدر اليقين في المعرفة تكون قوة المراقبة.
قلنا: فهي درجات مختلفة إذن؟
قال: أجل.. هي كجميع أصول البر درجات بعضها فوق بعضها بها يميز المقربون من أهل اليمين.
قلنا: ما دمت قد ذكرت هذا.. فحدثنا عن درجاتها([46]).. وابدأ بأعلاها وأزكاها لعل هممنا تتحرك إليها.
قال: أعلى درجات المراقبة هي مراقبة المقربين من الصديقين.. وهي مراقبة التعظيم والإجلال.. وتتحقق بأن يصير القلب مستغرقاً بملاحظة ذلك الجلال ومنكسراً تحت هيبته، فلا يبقى فيه متسع للالتفات إلى الغير أصلاً.
الجوارح في هذه الدرجة تتعطل عن التلفت إلى المباحات فضلاً عن المحظورات.
وهذا هو الذي صار همه هماً واحداً فكفاه الله سائر الهموم.. ومن نال هذه الدرجة فقد يغفل عن الخلق حتى لا يبصر من يحضر عنده وهو فاتح عينيه، ولا يسمع ما يقال له مع أنه لا صمم به وقد يمرّ على ابنه مثلاً فلا يكلمه، حتى كان بعضهم يجري عليه ذلك فقال لمن عاتبه: إذا مررت بي فحركني.
قال رجل منا: أكائن هذا.. أيمكن للإنسان أن يصل إلى هذه الدرجة؟
قال: أجل.. لا تستبعدوا هذا، ففي القرآن الكريم إشارة إليه، فقد قال تعالى مخبرا عن حال النسوة بعد رؤيتهن ليوسف u:{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)} (يوسف)
بالإضافة إلى هذا، فإنكم تجدون لهذا نظائر في القلوب المعظمة لملوك الأرض، حتى إن خدم الملك قد لا يحسون بما يجري عليهم في مجالس الملوك لشدّة استغراقهم بهم.. بل قد يشتغل القلب بمهم حقير من مهمات الدنيا فيغوص الرجل في الفكر فيه ويمشي فربما يجاوز الموضع الذي قصده وينسى الشغل الذي نهض له.
وقد قيل لعبد الواحد بن زيد: هل تعرف في زمانك هذا رجلاً قد اشتغل بحاله عن الخلق؟ فقال: ما أعرف إلا رجلاً سيدخل عليكم الساعة فما كان إلا سريعاً حتى دخل عتبة الغلام، فقال له عبد الواحد بن زيد: من أين جئت يا عتبة؟ فقال من موضع كذا ـ وكان طريقه على السوق ـ فقال: من لقيت في الطريق؟ فقال: ما رأيت أحداً.
وحكي عن بعضهم أنه قال: مررت بجماعة يترامون وواحد جالس بعيداً منهم، فتقدّمت إليه فأردت أن أكلمه فقال: ذكر الله تعالى أشهى فقلت: أنت وحدك؟ فقال: معي ربـي وملكاي فقلت: من سبق من هؤلاء؟ فقال: من غفر الله له، فقلت: أين الطريق؟ فأشار نحو السماء وقام ومشى وقال: أكثر خلقك شاغل عنك.
ودخل الشبلي على أبـي الحسين النووي وهو معتكف فوجده ساكناً حسن الاجتماع لا يتحرّك من ظاهره شيء فقال له: من أين أخذت هذه المراقبة والسكون؟ فقال: من سنور كانت لنا، فكانت إذا أرادت الصيد رابطت رأس الحجر لا تتحرّك لها شعرة.
وقال أبو عبد الله بن خفيف، خرجت من مصر أريد الرملة للقاء أبـي علي الروذباري فقال لي عيسى بن يونس المصري : إن في صور شاباً وكهلاً قد اجتمعا على حال المراقبة، فلو نظرت إليهما نظرة لعلك تستفيد منهما؟ فدخلت صوراً وأنا جائع عطشان وفي وسطي خرقة وليس على كتفي شيء، فدخلت المسجد فإذا بشخصين قاعدين مستقبلي القبلة فسلمت عليهما فما أجاباني، فسلمت ثانية وثالثة فلم أسمع الجواب، فقلت: نشدتكما بالله إلا رددتما عليّ السلام فرفع الشاب رأسه من مرقعته فنظر إلي وقال: يا ابن خفيف الدنيا قليل وما بقي من القليل إلا القليل فخذ من القليل الكثير، يا ابن خفيف، ما أقل شغلك حتى تتفرّغ إلى لقائنا؛ قال: فأخذ بكليتي ثم طأطأ رأسه في المكان فبقيت عندهما حتى صلينا الظهر والعصر فذهب جوعي وعطشي وعنائي، فلما كان وقت العصر قلت: عظني فرفع رأسه إليَّ وقال: يا ابن خفيف نحن أصحاب المصائب ليس لنا لسان العظة، فبقيت عندهما ثلاثة أيام لا آكل ولا أشرب ولا أنام ولا رأيتهما أكلا شيئاً ولا شربا، فلما كان اليوم الثالث قلت في سري: أحلفهما أن يعظاني لعلي أن أنتفع بعظتهما، فرفع الشاب رأسه وقال لي: يا ابن خفيف عليك بصحبة من يذكرك الله رؤيته وتقع هيبته على قلبك، يعظك بلسا ولا يعظك بلسان قوله، والسلام؛ قم عنا.
قلنا: وعينا هذا.. وما أشرفها من رتبة.. ولكنا لا نجد نفوسنا نطيقها.. فحدثنا عما هو دونها.
قال: الدرجة الثانية هي درجة الورعين، والذين سماهم القرآن الكريم (أصحاب اليمين)، كما في قوله تعالى :{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)} (الواقعة)؛ وهم قوم غلب يقين اطلاع الله على ظاهرهم وباطنهم وعلى قلوبهم، ولكن لم تدهشهم ملاحظة الجلال، بل بقيت قلوبهم على حدّ الاعتدال متسعة للتلفت إلى الأحوال والأعمال، إلا أنها مع ممارسة الأعمال لا تخلو عن المراقبة.
نعم غلب عليهم الحياء من الله فلا يقدمون ولا يحجمون إلا بعد التثبت فيه، ويمتنعون عن كل ما يفتضحون به في القيامة فإنهم يرون الله في الدنيا مطلعاً عليهم فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة.
قلنا: فهلا حدثتنا عن الفرق بين هذه الدرجة، والتي قبلها.
قال: تعرفون اختلاف الدرجتين بالمشاهدات؛ فإنكم في خلوتكم قد تتعاطون أعمالاً فيحضركم صبي أو امرأة فتعلمون أنه مطلع عليكم فتستحون منه فتحسنون جلوسكم وتراعون أحوالكم، لا عن إجلال وتعظيم بل عن حياء.. وقد يدخل عليكم ملك من الملوك أو كبـير من الأكابر فيستغرقكم التعظيم حتى تتركون كل ما أنتم فيه شغلاً به، لا حياء منه.. فهكذا تختلف مراتب العباد في مراقبة الله تعالى.
ومن كان في هذه الدرجة فإنه يحتاج أن يراقب جميع حركاته وسكناته وخطراته ولحظاته، بل جميع اختياراته.
قال رجل منا: كيف ذلك؟
قال: للمراقبين في هذه الدرجة نظران: نظر قبل العمل، ونظر في العمل.
قلنا: فحدثنا عن نظرهم قبل العمل.
قال: لقد أشار إلى هذا النوع من النظر قوله تعالى :{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} (الإسراء)
وفي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من النّاس. فمن اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ألا وإنّ حمى اللّه في أرضه محارمه ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب)([47])
وقال الإمام علي: (الهوى شريك العمى، ومن التوفيق التوقف عند الحيرة، ونعم طارد الهم اليقين، وعاقبة الكذب الندم، وفي الصدق السلامة، رب بعيد أقرب من قريب، وغريب من لم يكن له حبـيب، والصديق من صدق غيبه، ولا يعدمك من حبـيب سوء ظن، نعم الخلق التكرم، والحياء سبب إلى كل جميل، وأوثق العرى التقوى، وأوثق سبب أخذت به سبب بـينك وبـين الله تعالى إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، والرزق رزقان: رزق تطلبه ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك، وإن كنت جازعاً على ما أصيب مما في يديك فلا تجزع على ما لم يصل إليك، واستدل على ما لم يكن بما كان فإنما الأمور أشباه، والمرء يسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه، فما نالك من دنياك فلا تكثرن به فرحاً وما فاتك منها فلا تتبعه نفسك أسفاً، وليكن سرورك بما قدمت وأسفك على ما خلفت وشغلك لآخرتك وهمك فيما بعد الموت)
قلنا: وعينا ما أردت من النصوص، ولكنا لم نع مرادك من إيرادها.
قال: إن هذه النصوص تدل على هذا النوع من النظر.. إنها تدعونا إلى نظرين قبل العمل:
أما أولهما، فهو في مدى موافقة العمل للشريعة.. فلا يطاع الله إلا بما شرع.
وأما الثانية، فتدعونا إلى النظر في محركنا للعمل، أهو لله خاصة أو هو في هوى النفس ومتابعة الشيطان؟ فيتوقف فيه ويتثبت حتى ينكشف له ذلك بنور الحق، فإن كان لله تعالى أمضاه، وإن كان لغير الله استحيا من الله وانكف عنه ثم لام نفسه على رغبته فيه وهمه به وميله إليه وعرّفها سوء فعلها وسعيها في فضيحتها وأنها عدوّة نفسها إن لم يتداركها الله بعصمته.
وهذا التوقف في بداية الأمور إلى حدّ البـيان واجب محتوم لا محيص لأحد عنه، وقد ورد في بعض الآثار: (إنه ينشر للعبد في كل حركة من حركاته وإن صغرت ثلاثة دواوين: الديوان الأوّل: لم؟ والثاني: كيف؟ والثالث: لمن؟ ومعنى (لمَ) أي لم فعلت هذا أكان عليك أن تفعله لمولاك أو ملت إليه بشهوتك وهواك؟ فإن سلم منه بأن كان عليه أن يعمل ذلك لمولاه سئل عن الديوان الثاني فقيل له: كيف فعلت هذا، فإن لله في كل عمل شرطاً وحكماً لا يدرك قدره ووقته وصفته إلا بعلم فيقال له: كيف فعلت أبعلم محقق أم بجهل وظنّ؟ فإن سلم من هذا نشر الديوان الثالث وهو المطالبة بالإخلاص فيقال له: لمن عملت ألوجه الله خالصاً وفاء بقولك: (لا إله إلا الله) فيكون أجرك على الله؟ أو لمراءاة خلق مثلك فخذ أجرك منه؟ أم عملته لتنال عاجل دنياك فقد وفيناك نصيبك من الدنيا؟ أم عملته بسهو وغفلة فقد سقط أجرك وحبط عملك وخاب سعيك؟
فإذا عرف العبد أنه بصدد هذه المطالبات والتوبـيخات طالب نفسه قبل أن تطالب، وأعد للسؤال جواباً، وليكن الجواب صواباً، فلا يبدىء ولا يعيد إلا بعد التثبت، ولا يحرّك جفناً ولا أنملة إلا بعد التأمل.
قال رجل منا: إن هذا النظر يدعو إلى العلم؟
قال: أجل.. بل لا يستطيع أن يعطي لهذه الدرجة حقها إلا صاحب العلم المتين والمعرفة الحقيقية بأسرار الأعمال وأغوار النفس ومكايد الشيطان، فمتى لم يعرف نفسه وربه وعدوّه إبليس ولم يعرف ما يوافق هواه ولم يميز بـينه وبـين ما يحبه الله ويرضاه في نيته وهمته وفكرته وسكونه وحركته، فلا يسلم في هذه المراقبة.. بل الأكثرون يرتكبون الجهل فيما يكرهه الله تعالى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.. بل يجسبون أنهم يعذرون بذلك، وهيهات بل طلب العلم فريضة على كل مسلم.. ولهذا كانت ركعتان من عالم أفضل من ألف ركعة من غير عالم، لأنه يعلم آفات النفوس ومكايد الشيطان ومواضع الغرور فيتقي ذلك، والجاهل لا يعرفه فكيف يحترز منه؟ فلا يزال الجاهل في تعب والشيطان منه في فرح وشماتة.
قال الرجل: خلاصة ما ذكرته في هذا النظر هو أن على العبد أن يراقب نفسه عند همه بالفعل وسعيه بالجارحة، فيتوقف عن الهم وعن السعي حتى ينكشف له بنور العلم أنه لله تعالى فيمضيه، أو هو لهوى النفس فيتقيه ويزجر القلب عن الفكر فيه وعن الهم به.
قال: أجل.. وبورك فيك.. فإنّ الخطوة الأولى في الباطل إذا لم تدفع أورثت الرغبة، والرغبة تورث الهم، والهم يورث جزم القصد، والقصد يورث الفعل، والفعل يورث البوار والمقت.. فلهذا على العاقل أن يحسم مادة الشر من منبعه الأوّل وهو الخاطر فإن جميع ما وراءه يتبعه.
قال الرجل: فإن أشكل عليه؟
قال: إن أشكل عليه، فلم ينكشف له فليتفكر بنور العلم، وليستعذ بالله من مكر الشيطان بواسطة الهوى.. فإن عجز عن الاجتهاد والفكر بنفسه فليستضئ بنور علماء الدين، وليفرّ جهده من العلماء المضلين المقبلين على الدنيا فراره من الشيطان بل أشدّ، فقد روي أن الله تعالى أوحى إلى داود u: (لا تسأل عني عالماً أسكره حب الدنيا فيقطعك عن محبتي.. أولئك قطاع الطريق على عبادي)
فالقلوب المظلمة بحب الدنيا وشدّة الشره والتكالب عليها محجوبة عن نور الله تعالى، فإن مستضاء أنوار القلوب حضرة الربوبـية فكيف يستضيء بها من استدبرها وأقبل على عدوّها وعشق بغيضها ومقيتها وهي شهوات الدنيا؟
قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن النظر الثاني.. حدثنا عن نظرهم عند العمل.
قال: يكون ذلك بتفقد كيفية العمل، ليقضي حق الله فيه، ويحسن النية في إتمامه، ويكمل صورته، ويتعاطاه على أكمل ما يمكنه.. وهذا ملازم له في جميع أحواله، فإنه لا يخلو في جميع أحواله عن حركة وسكون، فإذا راقب الله تعالى في جميع ذلك قدر على عبادة الله تعالى فيها بالنية وحسن الفعل ومراعاة الأدب.
قلنا: فهلا ضربت لنا أمثلة على ذلك.
قال: لا يخلو العبد إما أن يكون في طاعة، أو في معصية، أو في مباح:
فمراقبته في الطاعة بالإخلاص والإكمال ومراعاة الأدب وحراستها عن الآفات.
ومراقبته في المعصية بالتوبة والندم والإقلاع والحياء والاشتغال بالتفكر.
ومراقبته في المباح بمراعاة الأدب، ثم بشهود المنعم في النعمة وبالشكر عليها.
وبما أن العبد لا يخلو في جملة أحواله عن بلية لا بدّ له من الصبر عليها ونعمة لا بدّ له من الشكر عليها فعليه بمراقبة نفسه في تلك الأحوال.
بل لا ينفك العبد في كل حال من فرض لله تعالى عليه: إما فعل يلزمه مباشرته، أو محظور يلزمه تركه، أو ندب حث عليه ليسارع به إلى مغفرة الله تعالى ويسابق به عباد الله، أو مباح فيه صلاح جسمه وقلبه وفيه عون له على طاعته.. ولكل واحد من ذلك حدود لا بدّ من مراعاتها بدوام المراقبة.
فينبغي أن يتفقد العبد نفسه في جميع أوقاته في هذه الأقسام الثلاثة، فإذا كان فارغاً من الفرائض وقدر على الفضائل فينبغي أن يلتمس أفضل الأعمال ليشتغل بها، فإنّ من فاته مزيد ربح وهو قادر على دركه فهو مغبون، والأرباح تنال بمزايا الفضائل، فبذلك يأخذ العبد من دنياه لآخرته كما قال تعالى:{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا..(77)} (القصص)
بل إن الورع يراقب نفسه حتى في الساعات التي هو فيها مشغول الجوارح بالمطعم والمشرب، فإنه مع هذا الاشتغال لا يخلو عن عمل هو أفضل الأعمال وهو الذكر والفكر، فإن الطعام الذي يتناوله مثلاً فيه من العجائب ما لو تفكر فيه وفطن له كان ذلك أفضل من كثير من أعمال الجوارح.
والناس في هذا على أقسام: قسم ينظرون إليه بعين التبصر والاعتبار، فينظرون في عجائب صنعته وكيفية ارتباط قوام الحيوانات به وكيفية تقدير الله لأسبابه، وخلق الشهوات الباعثة عليه وخلق الآلات المسخرة للشهوة فيه.. وهذا مقام ذوي الألباب.
وقسم ينظرون فيه بعين المقت والكراهة ويلاحظون وجه الاضطرار إليه وبودهم لو استغنوا عنه، ولكن يرون أنفسهم مقهورين فيه مسخرين لشهواته، وهذا مقام الزاهدين.
وقسم يرون في الصنعة الصانع، ويترقون منها إلى صفات الخالق، فتكون مشاهدة ذلك سبباً لتذكر أبواب من الفكر تنفتح عليهم بسببه، وهو أعلى المقامات، وهو من مقامات العارفين، وعلامات المحبـين، إذ المحب إإذا رأى صنعة حبـيبه وكتابه وتصنيفه نسي الصنعة واشتغل قلبه بالصانع.
وقسم ينظرون إليه بعين الرغبة والحرص، فيتأسفون على ما فاتهم منه ويفرحون بما حضرهم من جملته، ويذمون منه ما لا يوافق هواهم ويعيبونه ويذمون فاعله فيذمون الطبـيخ والطباخ، ولا يعلمون أن الفاعل للطبـيخ والطباخ ولقدرته ولعلمه هو الله تعالى، وأن من ذم شيئاً من خلق الله بغير إذن الله فقد ذم الله.
قلنا: إن ما ذكرته شديد.. فهل لك من ترياق ييسره؟
قال: أجل.. أرأيتم لو طلب منكم مراقبة ساعة واحدة على الحال التي وصفت.. هل ترون ذلك يسيرا؟
قلنا: أجل.. ما أيسر ذلك.
قال: ما دمتم قد ذكرتم ذلك.. فاعلموا أن ساعات الإنسان ثلاثة: ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية.. وساعة مستقبلة لم تأت بعد لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا، ولا يدري ما يقضي الله فيها.. وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد فيها نفسه ويراقب فيها ربه.
فإن لم تأته الساعة الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة، وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الأولى.. ولا يطول أمله خمسين سنة فيطول عليه العزم على المراقبة فيها، بل يكون ابن وقته، وكأنه في آخر أنفاسه، فلعله آخر أنفاسه وهو لا يدري، وإذا أمكن أن يكون آخر أنفاسه، فينبغي أن يكون على وجه لا يكره أن يدركه الموت وهو على تلك الحالة.
***
بقينا مع ابن السني مدة من الزمن نتدرب على المراقبة بدرجاتها وأنواعها.. وبعد أن تمرنا على ذلك، وأتقناه طلب منا أن نسير إلى القسم الخامس من مدرسة (المسلم القوي)
سرنا إلى القسم الخامس، وكان إمامه إمام من أئمة الجهد والدعوة.. وقد علمنا أنه قدم من الهند على قدميه خارجا في سبيل الله.. وقد كان أهل هذا القسم يطلقون عليه اسم (محمد إلياس)([48]).. وهو سمي ذلك الداعية الكبير المؤسس لجماعة الدعوة والتبليغ.
عندما دخلنا القسم – وكنا قد انتهينا من صلاة المغرب- بادرنا بقوله: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أيها الأحباب الكرام نعلم جميعاً أن نجاحنا وفلاحنا في الدنيا والآخرة في الامتثال الكامل لأوامر الله سبحانه وتعالى وعلى طريقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجل هذا أطلب منكم أن تصبروا قليلاً بعد أذكار الصلاة لكي نتفكر سوياً في إحياء جهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجزاكم الله خيراً.
بعد أن أدينا ما طلب منا التففنا حوله، وقلنا: حدثنا.. ما هو الجهد الذي تطلبه منا؟
قال: اعلموا أولا (أنّ حالة دين الإنسان ليس فيها قرار، فإما أن يكون الإنسان لا يزال راقياً في الدين، وإما أن يكون في انحطاط.. خذوا مثالاً لذلك المزرعة إذا زودت بالماء الحلو والجو المناسب فإنها لا تزال تخضر وتنمو وترقى في نضارتها وبهجتها، وأما إذا اختلف جوها أو لم تُسقَ بماء فإذاً لم تقف نضارتها وخضرتها ونموها في مكانها عند ذلك بل تبدأ في الانحطاط، فحالة دين الإنسان نفس هذه الحالة تماماً)([49])
قلنا: فكيف نتعهد مزارع نفوسنا بالسقي والإصلاح؟
قال: هل ترون الفلاح كيف يتعهد مزرعته بالسقي والإصلاح؟
قلنا: أجل.. ولكن الفلاح يتعامل مع التراب، ونحن نتعامل مع نفوسنا.
قال: ونفوسنا تراب كالتراب.. وهي تحتاج إلى جهد لتنقيتها من حجارة الكبر، وأشواك الغرور، وديدان الحسد، وغيرها من المعيقات التي تمنعها من إخراج الثمر الطيب.. وفوق ذلك تحتاج إلى سماد الإيمان، ومياه الطهارة، وأضواء العرفان.. وغيرها من العناصر التي لا تطيب ثمارها إلا بها.
قلنا: ولكن الفلاح يبذل جهدا كبيرا في ذلك؟
قال: وأنتم كذلك لا يمكنكم أن تطهروا أرض أنفسكم من دون جهد، ولا يمكنكم أن تغرسوا الصفات الفاضلة فيها من غير جهد([50]).. ألم تسمعوا قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} (العنكبوت)؟
قلنا: قد سمعنا قوله تعالى :{ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) } (طه)، وقوله تعالى:{ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} (المائدة)
قال: صدق الله العظيم.. نعم دين الله ليس فيه حرج.. ولكن بعض النفوس فيها حرج.. وهي تحتاج إلى المجاهدة التي ترفع عنها الحرج.
قال رجل منا: نحن لا نعرف من المجاهدة إلا قتال الأعداء المتسلطين الظالمين.
قال: ذاك هو الجهاد الأصغر.. أما جهاد النفس في ذات الله فهو الجهاد الأكبر.
قال الرجل: ألست تحتقر الجهاد بقولك هذا؟
قال: معاذ الله.. ولكن هل ترون من غلبته نفسه قادرا على الخروج للجهاد؟
قلنا: لا..
قال: فلا يمكن إذن لأحد أن يخرج لجهاد أعداء الخارج إلا بعد أن يغلب أعداء الداخل.
قلنا: ذلك صحيح.
قال([51]): فلذلك كان أكبر وأصعب امتحان كتبه الله تعالى على الإنسان في هذه الحياة هو ابتلاؤه بنفسه، وعلى أساس نجاحه في هذا الامتحان يكون موقعه عند الله، ومستقبله الدنيوي والأخروي.. من هنا كانت المعركة مع النفس أشق وأخطر معركة يخوضها الإنسان في حياته.
وهي معركة حتمية لا خيار لأحد فيها، ولا يستثنى أحد منها حتى الأنبياء والأولياء.. وإذا كان الإنسان يستطيع اجتناب المعارك والصراعات مع الآخرين بطريقة أو أخرى فإنه لا فرار له من معركته مع نفسه.
وهي معركة دائمة مساحتها طول عمر الإنسان منذ أن يدركه الوعي وإلى أن تفارقه الحياة.. وقد يحصل أن يكسب إنسان المعركة ضد نفسه طيلة حياته، ثم يخسرها في اللحظات الأخيرة من عمره.
بالإضافة إلى هذا، فإنها معركة شاملة تستوعب كل جوانب حياة الإنسان، ومختلف شؤونه، وتمتد إلى جميع الزوايا والتفاصيل، فكراً وإحساساً، وعملاً وقولاً، وإشارة وصمتاً؛ حيث إن خطر الأهواء والشهوات النفسية يهدد سلامة معتقد الإنسان وأفكاره، وصحة مشاعره وأحاسيسه، وصدق أقواله ومواقفه، واستقامة تعامله وعلاقاته.
والأدهى من كل ذلك قوة الارتباط وشدة العلاقة ووثاقتها بين الإنسان ونفسه، فالنفس أقرب شيء للإنسان، وهي متداخلة معه وملتصقة به، وكم هو صعب على الإنسان أن يعايش عدوه ويتداخل معه، ويكون قريباً منه ووثيق الصلة به!
لكل ذلك تصبح المعركة مع النفس أخطر معركة..
ولذلك ورد في الحديث التعبير عن جهاد النفس بكونه الجهاد الأكبر، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سريَّة، فلما رجعوا قال: (مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغرن وبقي عليهم الجهاد الأكبر)، قيل: يا رسول وما الجهاد الأكبر؟ قال: (جهاد النفس)، ثم قال: (أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه)([52])
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)([53])
وعلى هذا اتفق أولياء الله.. فعن الإمام علي قال: (أشجع الناس من غلب هواه)، وقال: (املكوا أنفسكم بدوام جهادها)، وقال: (صلاح النفس مجاهدة الهوى)
ويصور بعض تكتيكات المعركة مع النفس، فيقول: (إذا صعبت عليك نفسك فاصعب لها تذلّ لك، وخادع نفسك عن نفسك تنقد لك)، ويقول: (أقبل على نفسك بالإدبار عنها)، وقال: (دواء النفس الصوم عن الهوى والحمية عن لذات الدنيا)
وفي إحدى خطبه يقول: (واعلموا أنه ما من طاعة الله شيء إلا يأتي في كُره، وما من معصية الله شيء إلا يأتي في شهوة، فرحم الله امرؤاً نزع عن شهوته، وقمع هوى نفسه، فإن هذه النفس أبعد شيء منزعاً، وإنها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى.. واعلموا – عباد الله- أن المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا ونفسه ظنون عنده، فلا يزال زارياً عليها، مستزيداً لها)
وفي وصية قدمها إلى شريح بن هاني يقول: (اتق الله في كل صباح ومساء، وخف على نفسك الدنيا الغرور، ولا تأمنها على حال، واعلم أنك إن لم تردع نفسك عن كثير مما تحب، مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك مانعاً رادعاً، ولنزوتك عند الحفيظة واقماً قامعاً)
ويؤكد الإمام الدور الحاسم لذات الإنسان في مقاومة نفسه فيقول: (واعلموا أنه من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر، لم يكن له من غيرها لا زاجر ولا واعظ)
ويقول: (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر)
وتسليطاً للضوء على طبيعة المعركة مع النفس وتحديد أطرافها ومواقعها يقول الإمام: (العقل صاحب جيش الرحمن، والهوى قائد جيش الشيطان، والنفس متجاذبة بينهما فأيهما غلب كانت في حيزه)، ويقول: (العقل والشهوة ضدان، مؤيد العقل العلم، ومزين الشهوة الهوى، والنفس متنازعة بينهما فأيهما قهر كانت في جانبه)
فالعقل هو رائد معركة الإنسان ضد نفسه، والعلم والمعرفة سلاح رئيسي في هذه المعركة، ولكل من طرفي المعركة وهما العقل والهوى جنود وأسلحة فهما جيشان: جيش الرحمن وجيش الشيطان يتصارعان على أرض نفس الإنسان.
قام رجل منا غاضبا، وقال: ما بالك تهجر القرآن إلى نصوص لا ندري هل تصح إلى أصحابها أم لا تصح.. حدثنا بكلام ربنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قال: لا.. بأس.. هل ترون أن جرأة الإنسان على قتل أخيه الإنسان، ومصادرة حقه في الحياة جريمة؟
قلنا: بل هي أكبر جريمة، وأبشع جريمة.
قال: فقد نسب القرآن الكريم هذه الجريمة البشعة إلى النفس في حال استسلام صاحبها لها، وخسارته المعركة معها، قال تعالى في قصة ابني آدم:{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)} (المائدة)
وهكذا اعتبر القرآن الكريم البخل هزيمة للإنسان مع نفسه، قال تعالى :{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} (التغابن)
واعتبر النفس هي التي تزين للإنسان وتدفعه للارتداد عن الدين وسوء التعامل مع قضاياه، كما حصل للسامريّ الذي أضل المؤمنين بتوجيههم لعبادة عجل صنعه من الحليّ، يقول قال تعالى :{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)} (طه)
واعتبر أهواء النفس وراء ما يحصل من مخالفة للأنبياء ومن اعتداء عليهم، قال تعالى :{ فَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} (البقرة)
واعتبر ما فعله إخوة نبي الله يوسف u من تلك الجريمة النكراء – حيث ألقوه في قاع الجبّ، وهو ذلك الصغير الوديع المتفرد في جماله وحسنه – نتيجة لانحراف نفسي أصابهم، قال تعالى على لسان أبيهم يعقوب u :{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} (يوسف)
واعتبر الحسد حالة مرضية نفسية بين الأفراد أو الأمم والمجتمعات، قال تعالى :{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} (البقرة)
واعتبر التكبر مرضا يعشعش في أرجاء النفس، قال تعالى :{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)} (الفرقان)
واعتبر الإعراض عن دين الله ورسالة الأنبياء إنما ينشأ من حالة انحراف نفسي يطلق عليه القرآن (سفاهة)، قال تعالى :{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} (البقرة)
قال الرجل: حسبك.. فقد وفيت وأجدت.. فحدثنا عن المنهج الذي ننتصر به على نفوسنا الأمارة بالسوء.
قال: لقد ذكر أولياء الله لذلك سبلا.. منها أن تطلب صحبة عبد من عباد الله مجتهد في العبادة، فتلاحظ أقواله وتقتدي بها.. وقد ذكر بعضهم هذا السبيل، فقال: (كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى أحوال محمد بن واسع وإلى اجتهاده فعملت على ذلك أسبوعاً)
قال الرجل: فإن تعذر هذا العلاج.. فقد فقد في هذا الزمان أمثال محمد بن واسع.
قال: إن فقد محمد بن واسع، فلم تفقد أخباره وأخبار أصحابه من أولياء الله وأنبيائه.. فابحث فيها واسمعها، فلا شيء أنفع للنفس من سماع أحوال الصالحين ومطالعة أخبارهم، وما كانوا فيه من الجهد الجهيد، وقد انقضى تعبهم وبقي ثوابهم ونعيمهم أبد الآباد لا ينقطع، فما أعظم ملكهم وما أشدّة حسرة من لا يقتدي بهم فيمتع نفسه أياماً قلائل بشهوات مكدرة ثم يأتيه الموت ويحال بـينه وبـين كل ما يشتهيه أبد الآباد.
قلنا: فهلا حدثتنا من أخبار اجتهادهم([54]) ما يملؤنا همة.
قال: لقد حدث بعض أصحاب الإمام علي قال: صليت خلف علي الفجر فلما سلم انفتل عن يمينه وعليه كآبة فمكث حتى طلعت الشمس ثم قلب يده وقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أرى اليوم شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً قد باتوا لله سجَّداً وقياماً يتلون كتاب الله يراوحون بـين أقدامهم وجباههم، وكانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم وكأن القوم باتوا غافلين – يعني من كان حوله –
وذكر الحسن من رآه من المجتهدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فقال: أدركت أقواماً وصحبت طوائف منهم، ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل، ولا يتأسفون على شيء منها أدبر، ولهي كانت أهون في أعينهم من هذا التراب الذي تطؤونه بأرجلكم، إن كان أحدهم ليعيش عمره كله ما طوي له ثوب ولا أمر أهله بصنعة طعام قط، ولا جعل بـينه وبـين الأرض شيئاً قط، وأدركتهم عاملين بكتاب ربهم وسنة نبـيهم إذا جنهم الليل فقيام على أطرافهم، يفترشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون ربهم في فكاك رقابهم، إذا عملوا الحسنة فرحوا بها ودأبوا في شكرها وسألوا الله أن يتقبلها، وإذا عملوا السيئة أحزنتهم وسألوا الله تعالى أن يغفرها لهم، والله ما زالوا كذلك وعلى ذلك ووالله ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلا بالمغفرة.
وروى سعيد بن كلثوم قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمّد فذكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فأطراه ومدحه بما هو أهله، ثمّ قال: (و اللّه ما أكل عليّ بن أبي طالب من الدّنيا حراما قطّ حتّى مضى لسبيله، وما عرض له أمران قطّ هما للَّه رضا إلّا أخذ بأشدّهما عليه في دينه، وما نزلت برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم نازلة قطّ إلّا دعاه ثقة به، وما أطاق أحد عمل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأمّة غيره وإن كان ليعمل عمل رجل كان وجهه بين الجنّة والنّار، يرجو ثواب هذه، ويخاف عقاب هذه، ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه اللّه عزّ وجلّ والنجاة من النّار ممّا كدّ بيديه، ورشح منه جبينه، وإنّه كان ليقوت أهله بالزّيت والخلّ والعجوة، وما كان لباسه إلّا الكرابيس إذا فضل شيء عن يده من كمّه دعا بالجلم فقصّه، وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقرب شبها به في لباسه وفقهه من عليّ بن الحسين ، ولقد دخل ابنه أبو جعفر عليه السّلام عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد فرآه قد اصفرّ لونه من السهر، ورمصت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، قال أبو جعفر: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء فبكيت رحمة له وإذا هو يفكّر فالتفت إليّ بعد هنيئة من دخولي، وقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف الّتي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب فأعطيته فقرأ منها شيئا يسيرا ثمّ تركها من يده تضجّرا، وقال: من يقوي عبادة عليّ بن أبي طالب)([55])
وكان صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام، وبلغ من الاجتهاد ما لو قيل له القيامة غداً ما وجد متزايداً..
وقال بعضهم: ما أخاف من الموت إلا من حيث يحول بـيني وبـين قيام الليل.
وقال علي: سيما الصالحين صفرة الألوان من السهر وعمش العيون من البكاء وذبول الشفاه من الصوم، عليهم غبرة الخاشعين.
وقيل للحسن: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره.
وعن بعضهم قال: كان زمعة نازلاً عندنا بالمحصب – وكان له أهل وبنات – وكان يقوم فيصلي ليلاً طويلاً فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته: أيها الركب المعرسون أكل هذا الليل ترقدون أفلا تقومون فترحلون؟ فيتواثبون فيسمع من هاهنا باك ومن هاهنا داع ومن ههنا قارىء ومن هاهنا متوضىء، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: عند الصباح يحمد القوم السرى.
وقال بعض الحكماء: إنّ لله عباداً أنعم عليهم فعرفوه، وشرح صدورهم فأطاعوه، وتوكلوا عليه فسلموا الخلق والأمر إليه فصارت قلوبهم معادن لصفاء اليقين وبـيوتاً للحكمة وتوابـيت للعظمة وخزائن للقدرة، فهم بـين الخلق مقبلون ومدبرون، وقلوبهم تجول في الملكوت وتلوذ بمحجوب الغيوم، ثم ترجع ومعها طوائف من لطائف الفوائد وما لا يمكن واصفاً أن يصفه فهم في باطن أمورهم كالديباج حسناً وهم الظاهر مناديل، مبذولون لمن أرادهم تواضعاً.
ويحكى أنّ قوماً دخلوا على عمر بن عبد العزيز يعودونه في مرضه، وإذا فيهم شاب ناحل الجسم، فقال عمر له: يا فتى ما الذي بلغ بك ما أرى؟ فقال: يا أمير المؤمنين أسقام وأمراض، فقال: سألتك بالله إلا صدقتني فقال: يا أمير المؤمنين ذقت حلاوة الدنيا فوجدتها مرّة وصغر عندي زهرتها وحلاوتها واستوى عندي ذهبها وحجرها، وكأني أنظر إلى عرش ربـي والناس يساقون إلى الجنة والنار فأظمأت لذلك نهاري وأسهرت ليلي، وقليل حقير كل ما أنا فيه في جنب ثواب الله وعقابه.
التفت الشيخ محمد إلياس إلى الرجل، وقال: إن حدثتك نفسك بأن هؤلاء رجال أقوياء لا يطاق الاقتداء بهم فطالع أحوال النساء المجتهدات وقل لها: يا نفس لا تستنكفي أن تكوني أقل من امرأة فأخسس برجل يقصر عن امرأة في أمر دينها ودنياها..
قال رجل: فهل كان في النساء أمثال هؤلاء الرجال؟
قال: أجل.. فمن خلق الهمة العالية في الرجال لن يعجز أن يخلق مثله في النساء.. أليس النساء شقائق الرجال؟
قال الرجل: أجل.. فحدثنا من أخبارهن، نعسى أن نحتقر نفوسنا فيحركها للاجتهاد في طاعة الله.
قال: من ذلك ما روي عن حبـيبة العدوية أنها كا نت إذا صلت العتمة قامت على سطح لها وشدت عليها درعها وخمارها ثم قالت: إلهي قد غارت النجوم ونامت العيون وغلقت الملوك أبوابها وخلا كل حبـيب بحبـيبه وهذا مقامي بـين يديك، ثم تقبل على صلاتها فإذا طلع الفجر قالت: إلهي هذا الليل قد أدبر وهذا النهار قد أسفر فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ أم رددتها عليّ فأعزّى؟ وعزتك لهذا دأبـي ودأبك ما أبقيتني، وعزتك لو انتهرتني عن بابك ما برحت لما وقع في نفسي من جودك وكرمك.
ويروى عن عجرة أنها كانت تحيـي الليل وكانت مكفوفة البصر فإذا كان في السحر نادت بصوت لها محزون: إليك قطع العابدون دجى الليالي يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك فبك يا إلهي أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أوّل زمرة السابقين وأن ترفعني لديك في عليـين في درجة المقربـين وأن تلحقني بعبادك الصالحين فأنت أرحم الرحماء وأعظم العظماء وأكرم الكرماء يا كريم، ثم تخرّ ساجدة فيسمع لها وجبة ثم لا تزال تدعو وتبكي إلى الفجر.
وقال يحيـى بن بسطام: كنت أشهد مجلس شعوانة فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء، فقلت لصاحب لي: لو أتيناها إذا خلت فأمرناها بالرفق بنفسها؟ فقال: أنت وذاك، قال: فأتيناها فقلت لها: لو رفقت بنفسك وأقصرت عن هذا البكاء شيئاً فكان لك أقوى على ما تريدين؟ قال: فبكت ثم قالت: والله لوددت أني أبكي حتى تنفد دموعي ثم أبكي دماً حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحي وأنى لي بالبكاء وأنى لي بالبكاء. فلم تزل تردد (وأنى لي بالبكاء) حتى غشي عليها.
وقال محمد بن معاذ: حدثتني امرأة من المتعبدات قالت: رأيت في منامي كأني أدخلت الجنة فإذا أهل الجنة قيام على أبوابهم، فقلت: ما شأن أهل الجنة قيام؟ فقال لي قائل: خرجوا ينظرون إلى هذه المرأة التي زخرفت الجنان لقدومها فقلت: ومن هذه المرأة؟ فقيل: أمة سوداء من أهل الأيكة يقال لها شعوانة. قالت: فقلت: أختي والله، قالت: فبـينما أنا كذلك إذ أقبل بها على نجيبة تطير بها في الهواء فلما رأيتها ناديت: يا أختي أما ترين مكاني من مكانك فلو دعوت لي مولاك فألحقني بك؟ قالت: فتبسمت إليَّ وقالت: لم يأن لقدومك ولكن احفظي عني اثنتين: ألزمي الحزن قلبك، وقدمي محبة الله على هواك ولا يضرك متى مت.
وقال عبد الله بن الحسن: كانت لي جارية رومية وكنت بها معجباً فكانت في بعض الليالي نائمة إلى جنبـي فانتبهت فالتمستها فلم أجدها، فقمت أطلبها فإذا هي ساجدة وهي تقول: بحبك لي إلا ما غفرت لي ذنوبـي، فقلت لها: لا تقولي بحبك لي ولكن قولي بحبـي لك، فقالت: يا مولاي بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام وبحبه لي أيقظ عيني وكثير من خلقه نيام.
وقال أبو هاشم القرشي: قدمت علينا امرأة من أهل اليمن يقال لها سرية فنزلت في بعض ديارنا، قال: فكنت أسمع لها من الليل أنيناً وشهيقاً، فقلت يوماً لخادم لي: أشرف على هذه المرأة ماذا تصنع قال: فأشرف عليها فما رآها تصنع، شيئاً غير أنها لا تردّ طرفها عن السماء وهي مستقبلة القبلة تقول: خلقت سرية ثم غذيتها بنعمتك من حال إلى حال، وكل أحوالك لها حسنة وكل بلائك عندها جميل، وهي مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوثب على معاصيك فلتة بعد فلتة: أتراها تظن أنك لا ترى سوء فعالها وأنت عليم خبـير وأنت على كل شيء قدير.
وقال ذو النون المصري: خرجت ليلة من وادي كنعان فلما علوت الوادي إذا سواد مقبل عليَّ وهو يقول :{.. وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)} (الزمر) ويبكي فلما قرب مني السواد إذا هي امرأة عليها جبة صوف وبـيدها ركوة، فقالت لي: من أنت؟ غير فزعة مني، فقلت: رجل غريب، فقالت: يا هذا وهل يوجد مع الله غربة؟ قال: فبكيت لقولها فقالت: ما الذي أبكاك؟ فقلت: قد وقع الدواء على داء قد قرح فأسرع في نجاحه، قالت: فإن كنت صادقاً فلم بكيت؟ قلت: يرحمك الله والصادق لا يبكي؟ قالت: لا، قلت: ولم ذاك؟ قالت: لأن البكاء راحة القلب، فسكتُّ متعجباً من قولها.
وقال أحمد بن علي: استأذنا على عفيرة فحجبتنا فلازمنا الباب، فلما علمت ذلك قامت لتفتح الباب لنا فسمعتها وهي تقول: اللهم إني أعوذ بك ممن جاء يشغلني عن ذكرك، ثم فتحت الباب ودخلنا عليها فقلنا لها: يا أمة الله ادعي لنا، فقالت: جعل الله قراكم في بـيتي المغفرة، ثم قالت لنا: مكث عطاء السلمي أربعين سنة فكان لا ينظر إلى السماء، فحانت منه نظرة فخر مغشياً عليه فأصابه فتق في بطنه، فيا ليت عفيرة إذا رفعت رأسها لم تعص ويا ليتها إذا عصت لم تعد وقال بعض الصالحين: خرجت يوماً إلى السوق ومعي جارية حبشية فاحتبستها في موضع بناحية السوق وذهبت في بعض حوائجي وقلت: لا تبرحي حتى أنصرف إليك، قال: فانصرفت فلم أجدها في الموضع، فانصرفت إلى منزلي وأنا شديد الغضب عليها، فلما رأتني عرفت الغضب في وجهي فقالت: يا مولاي لا تعجل علي إنك أجلستني في موضع لم أر فيه ذاكراً لله تعالى فخفت أن يخسف بذلك الموضع فعجبت لقولها وقلت لها: أنت حرّة. فقالت: ساء لي ما صنعت كنت أخدمك فيكون لي أجران، وأما الآن فقد ذهب عني أحدهما.
وقال ابن العلاء السعدي: كانت لي ابنة عم يقال لها بريرة، تعبدت وكانت كثيرة القراءة في المصحف، فكلما أتت على آية فيها ذكر النار بكت، فلم تزل تبكي حتى ذهبت عيناها من البكاء فقال بنو عمها: انطلقوا بنا إلى هذه المرأة حتى نعذلها في كثرة البكاء قال: فدخلنا عليها فقلنا: يا بريرة كيف أصبحت قالت: أصبحنا أضيافاً منيخين بأرض غربة ننتظر متى ندعى فنجيب، فقلنا لها كم هذا البكاء قد ذهبت عيناك منه؟ فقالت: إن يكن لعيني عند الله خير فما يضرهما ما ذهب منهما في الدنيا، وإن كان لهما عند الله شر فسيزيدهما بكاء أطول من هذا؟ ثم أعرضت. قال: فقال القوم: قوموا بنا فهي والله في شيء غير ما نحن فيه. وكانت معاذة العدوية إذا جاء النهار تقول: هذا يومي الذي أموت فيه فما تطعم حتى تمسي، فإذا جاء الليل تقول: هذه الليلة التي أموت فيها فتصلي حتى تصبح.
وقال أبو سليمان الداراني: بت ليلة عند رابعة فقامت إلى محراب لها وقمت أنا إلى ناحية من البـيت، فلم تزل قائمة إلى السحر فلما كان السحر قلت: ما جزاء من قوّانا على قيام هذه الليلة؟ قالت: ج زاؤه أن تصوم له غداً. وكانت شعوانة تقول في دعائها: إلهي ما أشوقني إلى لقائك وأعظم رجائي لجزائك وأنت الكريم الذي لا يخيب لديك أمل الآملين ولا يبطل عندك شوق المشتاقين، إلهي إن كان دنا أجلي ولم يقربني منك عمل فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللي؛ فإن عفوت فمن أولى منك بذلك وإن عذبت فمن أعدل منك هنالك، إلهي قد جرت على نفسي في النظر لها وبقي لها حسن نظرك فالويل لها إن لم تسعدها، إلهي إنك لم تزل بـي براً أيام حياتي فلا تقطع عني برك بعد مماتي ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه أن يسعفني عند مماتي بغفرانه، إلهي كيف أيأس من حسن نظرك بعد مماتي ولم تولني إلا الجميل في حياتي، إلهي إن كانت ذنوبـي قد أخافتني فإن محبتي لك قد أجارتني فتول من أمري ما أنت أهله وعد بفضلك على من غره جهله، إلهي لو أردت إهانتي لما هديتني ولو أردت فضيحتي لم تسترني فمتعني بما له هديتني وأدم لي ما به سترتني، إلهي ما أظنك تردني في حاجة أفنيت فيها عمري، إلهي لولا ما قارفت من الذنوب ما خفت عقابك، ولولا ما عرفت من كرمك ما رجوت ثوابك.
وقال الخواص: دخلنا على رحلة العابدة، وكانت قد صامت حتى اسودت وبكت حتى عميت وصلت حتى أقعدت، وكانت تصلي قاعدة فسلمنا عليها ثم ذكرناها شيئاً من العفو ليهون عليها الأمر، قال: فشهقت ثم قالت: علمي بنفسي قرح فؤادي وكلم كبدي والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً، ثم أقبلت على صلاتها.
قال رجل منا: نعم ما ذكرت يا شيخ.. ولكنهم كانوا في وقت يجدون فيه أعوانا على الخير.. ونحن لا نجد من ذلك قليل أو كثير.. والمصيبة إذا عمت طابت.
قال: ما ذكرته خدعة من خدع النفس.. فلا تنخدع بخداعها، وقل لها: أرأيت لو هجم سيل جارف يغرق أهل البلد، وثبتوا على مواضعهم، ولم يأخذوا حذرهم لجهلهم بحقيقة الحال، وقدرت أنت على أن تفارقيهم وتركبـي في سفينة تتخلصين بها من الغرق، فهل يختلج في نفسك، أن المصيبة إذا عمت طابت، أم تتركين موافقتهم وتستجهلينهم في صنيعهم وتأخذين حذرك مما دهاك، فإذا كنت تتركين موافقتهم خوفاً من الغرق وعذاب الغرق لا يتمادى إلا ساعة فكيف لا تهربـين من عذاب الأبد وأنت متعرضة له في كل حال؟ ومن أين تطيب المصيبة إذا عمت ولأهل النار شغل شاغل عن الالتفات إلى العموم والخصوص؟ ولم يهلك الكفار إلا بموافقة أهل زمانهم حيث قالوا :{ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} (الزخرف)
***
بعد أن حدثنا الشيخ محمد إلياس عن ضرورة المجاهدة، وأخبار المجتهدين والمجتهدات في طاعة الله تعالى شعرت بهمة عجيبة تحركني لسلوك سبيلهم.. وقد شعرت أنها تنزلت على جميع من كان معي.
فلما رأى الشيخ منا هذه الحال طلب منا أن نذهب إلى محال التدريب على مجاهدات الصالحين لنتعلم كيف ندير معاركنا مع نفوسنا، وكيف ننتصر عليها.
وبعد أن تمرنا على الكثير من ذلك طلب منا أن نسير إلى القسم السادس من تلك المدرسة.
سرنا إلى القسم السادس، وكان إمامه إمام من أئمة الورع.. وقد علمنا أنه قدم من بغداد.. وقد كان أهل هذا القسم يطلقون عليه لقب (المحاسبي)([56]) لما علم عنه من كثرة محاسبته لنفسه.
ما إن دخلنا عليه القسم حتى وجدناه يخاطب نفسه، ويقول لها من غير أن يلتفت لنا أو يشعر بوجودنا([57]): يا نفس.. اسمعي مني خمسة تنبيهات مقابل ما تفوهتِ به، وأنتِ منغمسة في الجهل المركب، سادرة في نوم الغفلة على فراش الكسل..
يا نفسي الشقية!.. هل أن عمركِ أبدي؟.. وهل عندك عهد قطعي بالبقاء الى السنة المقبلة، بل الى الغد؟.. فالذي جعلك تملين وتسأمين من الطاعة هو توهمك الأبدية والخلود، فتظهرين الدلال، وكأنك بترفك مخلدة في هذه الدنيا.
يا نفسي الشرهة!.. إنك يوميا تأكلين الخبز، وتشربين الماء، وتتنفسين الهواء، أما يورث هذا التكرار مللا وضجرا؟.. كلا.. دون شك.. لأن تكرار الحاجة لا يجلب الملل بل يجدد اللذة، لهذا؛ فالطاعة التي تجلب الغذاء لقلبي، وماء الحياة لروحي، ونسيم الهواء للطيفة الربانية الكامنة في جسمي، لابد أنها لا تجعلك تملين ولا تسأمين أبدا.
يا نفسي الجزعة!.. إنك تضطربين اليوم من تذكر عناء العبادات التي قمت بها في الأيام الماضية، ومن صعوبات الصلاة وزحمة المصائب السابقة، ثم تتفكرين في واجبات العبادات في الأيام المقبلة وخدمات أداء الصلوات، وآلام المصائب، فتظهرين الجزع، وقلة الصبر ونفاده.. هل هذا أمر يصدر ممن له مسكة من عقل؟.
يا نفسي الطائشة!.. يا ترى هل أن أداء هذه العبودية دون نتيجة وجدوى؟! وهل أن أجرتها قليلة ضئيلة حتى تجعلك تسأمين منها؟. مع أن أحدنا يعمل إلى المساء ويكد دون فتور إن رغبه أحد في مال أو أرهبه.
إن الصلاة التي هي قوت لقلبك العاجز الفقير وسكينة له في هذا المضيف الموقت وهو الدنيا. وهي غذاء وضياء لمنزلك الذي لابد أنك صائرة اليه، وهو القبر. وهي عهد وبراءة في محكمتك التي لا شك أنك تحشرين اليها. وهي التي ستكون نورا وبراقا على الصراط المستقيم الذي لابد أنك سائرة عليه.. فصلاة هذه نتائجها هل هي بلا نتيجة وجدوى؟ أم أنها زهيدة الأجرة؟
يا نفسي المغرمة بالدنيا!.. هل أن فتورك في العبادة وتقصيرك في الصلاة ناشئان من كثرة مشاغلك الدنيوية؟ أم انك لا تجدين الفرصة لغلبة هموم العيش؟!
فيا عجبا هل أنت مخلوقة للدنيا فحسب، حتى تبذلي كل وقتك لها؟. تأملي!! إنك لا تبلغين أصغر عصفور من حيث القدرة على تدارك لوازم الحياة الدنيا رغم أنك أرقى من جميع الحيوانات فطرة..
بعد أن قال هذا التفت إلينا، فرآنا متعجبين من حاله، فقال: ما بالكم.. أرى العجب في وجوهكم.
قال رجل منا: وكيف لا نعجب ونحن نراك تتحدث مع نفسك كما يتحدث المجانين.
ابتسم المحاسبي، وقال: بل المجنون من لم يتحدث مع نفسه ليحاسبها.. ألا ترون كيف يحاسب التاجر نفسه ليبحث في ربحه وخسارته؟
قال الرجل: ذلك التاجر.. ونحن نتحدث عن العابد.
قال: ألم تسمع قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} (الصف)؟
ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إنّ سلعة اللّه غالية، ألا إنّ سلعة اللّه الجنّة)([58])؟
قال الرجل: بلى.. فما فيها مما نحن فيه؟
قال([59]): إن هذه النصوص المقدسة تطلب من المؤمنين أن يحرصوا على الربح والفلاح كما يحرص التجار.. فكما أن مطالب المتعاملين في التجارات المشتركين في البضائع عند المحاسبة سلامة الربح، وكما أن التاجر يستعين بشريكه فيسلم إليه المال حتى يتجر ثم يحاسبه، فكذلك العقل هو التاجر في طريق الآخرة، وإنما مطلبه وربحه تزكية النفس لأن بذلك فلاحها، كما قال تعالى:{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} (الشمس)، وإنما فلاحها بالأعمال الصالحة، والعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة إذ يستعملها ويستسخرها فيما يزكيها كما يستعين التاجر بشريكه وغلامه الذي يتجر في ماله.
وكما أن الشريك يصير خصماً منازعاً يجاذبه في الربح فيحتاج إلى أن يشارطه أولاً ويراقبه ثانياً ويحاسبه ثالثا ويعاقبه رابعاً؛ فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أولاً فيوظب عليها الوظائف ويشترط عليها الشروط ويرشدها إلى طريق الفلاح ويجزم عليها الأمر بسلوك تلك الطرق، ثم لا يغفل عن مراقبتهما لحظة، فإنه لو أهملها لم ير منها إلا الخيانة وتضييع رأس المال كالعبد الخائن إذا خلا له الجو وانفرد بالمال، ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها فإن هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى وبلوغ سدرة المنتهى مع الأنبياء والشهداء، فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم كثيراً من تدقيقه في أرباح الدنيا مع أنها محتقرة بالإضافة إلى نعيم العقبى
لقد اتفق على ضرورة المحاسبة كل أولياء الله..
قال مالك بن دينار: (رحم اللّه عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثمّ زمّها، ثمّ خطمها، ثمّ ألزمها كتاب اللّه- عزّ وجلّ- فكان لها قائدا)
وعن ميمون بن مهران قال: (لا يكون الرّجل تقيّا حتّى يكون لنفسه أشدّ محاسبة من الشّريك لشريكه)
وقال الغزاليّ: (عرف أرباب البصائر من جملة العباد أنّ اللّه تعالى لهم بالمرصاد، وأنّهم سيناقشون في الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذّرّ من الخطرات واللّحظات، وتحقّقوا أنّه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلّا لزوم المحاسبة، وصدق المراقبة، ومطالبة النّفس في الأنفاس والحركات ومحاسبتها في الخطرات واللّحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفّ في القيامة حسابه وحضر عند السّؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيّئاته، فلمّا انكشف لهم ذلك علموا أنّه لا ينجيهم منه إلّا طاعة اللّه وقد أمرهم بالصّبر والمرابطة فقال عزّ من قائل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} (آل عمران)
قلنا: وعينا هذا.. فعلمنا كيف نحاسب نفوسنا.
قال: للمحاسبة زمنان: قبل العمل.. وبعده.
قلنا: فحدثنا كيف نحاسب نفوسنا قبل العمل.
قال: إذا أصبح العبد، وفرغ من صلاة الصبح – التي هي أول فريضة من فرائض يومه- فينبغي عليه أن يفرغ قلبه بعض الوقت لمشارطة النفس، كما أن التاجر عند تسليم البضاعة إلى الشريك العامل يفرغ المجلس لمشارطته، فيقول للنفس: ما لي بضاعة إلا العمر، ومهما فني فقد فني رأس المال ووقع اليأس عن التجارة وطلب الربح، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه وأنسأ في أجلي وأنعم علي به، ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوماً واحداً حتى أعمل فيه صالحاً، فاحسبي – يا نفس- أنك قد توفيت، ثم قد رددت، فإياك ثم إياك أن تضيعي هذا اليوم، فإن كل نفس من الأنفاس جوهرة لا قيمة لها، واعلمي يا نفس أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وقد ورد في بعض الآثار: (أنه ينشر للعبد بكل يوم وليلة أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح له منها خزانة فيراها مملوءة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة فيناله من الفرح والسرور والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار التي هي وسيلته عند الملك الجبار ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم ذلك الفرح عن الإحساس بألم النار، ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح نتنها ويغشاه ظلامها، وهي الساعة التي عصي فيها فيناله من الهول والفزع ما لو قسم على أهل الجنة لتنغص عليهم نعيمها، ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسره ولا ما يسوءه، وهي الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من مباحات الدنيا فيتحسر على خلوها ويناله من غبن ذلك ما ينال القادر على الربح الكثير والملك الكبير إذا أهمله وتساهل فيه حتى فاته، ناهيك به حسرة وغبناً)
وهكذا تعرض عليه خزائن أوقاته طول عمره فيقول لنفسه: اجتهدي اليوم في أن تعمري خزانتك ولا تدعيها فارغة عن كنوزك التي هي أسباب ملكك، ولا تميلي إلى الكسل والدعة والاستراحة فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك وتبقى عندك حسرة لا تفارقك وإن دخلت الجنة، فألم الغبن وحسرته لا يطاق وإن كان دون ألم النار، وقد قال بعضهم: (هب أن المسيء قد عفي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين؟)
لقد أشار الله إلى هذا الغبن والحسرة، فقال :{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} (التغابن)
قلنا: علمتنا كيف نحاسب نفوسنا قبل العمل.. فعلمنا كيف نحاسبها بعده.
قال: كما أن العبد يكون له وقت في أوّل النهار يشارط فيه نفسه على سبـيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم حرصاً منهم على الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته، ولو حصل ذلك لهم فلا يبقى إلا أياماً قلائل، فكيف لا يحاسب العاقل نفسه بما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟ ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك.
قلنا: فكيف تكون هذه المحاسبة؟
قال: كما تكون المحاسبة مع الشريك تكون المحاسبة مع النفس.
قلنا: المحاسبة مع الشريك تكون بأن ينظر في رأس المال، وفي الربح والخسران ليتبـين له الزيادة من النقصان، فإن كان من فضل حاصل استوفاه وشكره، وإن كان من خسران طالبه بضمانه وكلفه تداركه في المستقبل.
قال: فكذلك رأس مال العبد في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي.. وموسم هذه التجارة جملة النهار ومعاملة نفسه الأمارة بالسوء، فيحاسبها على الفرائض أوّلاً، فإن أداها على وجهها شكر الله تعالى عليه ورغبها في مثلها، وإنّ فو تها من أصلها طالبها بالقضاء، وإن أداها ناقصة كلفها الجبران بالنوافل، وإن ارتكب معصية اشتغل بعقوبتها وتعذيبها ومعاتبتها ليستوفي منها ما يتدارك به ما فرّط – كما يصنع التاجر بشريكه –
ثم ينبغي أن يحاسب النفس على جميع العمر يوماً يوماً وساعة ساعة في جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة، كما نقل عن توبة بن الصمة وكان بالرقة وكان محاسباً لنفسه؛ فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلتي ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟ ثم خرّ مغشياً عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى.
فهكذا ينبغي أن يحاسب العبد نفسه على الأنفاس وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كل ساعة؛ ولو رمى العبد بكل معصية حجراً في داره لامتلأت داره في مدّة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي والملكان يحفظان عليه ذلك :{.. أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)} (المجادلة)
***
بعد أن حدثنا المحاسبي عن ضرورة المحاسبة، وعلمنا كيف ننفذها في حياتنا، مكثنا مدة نتدرب على ذلك إلى أن رأى منا الأهلية للتخرج من هذا القسم، فقام بإرسالنا إلى القسم الأخير من هذه المدرسة، وهو القسم السابع.
سرنا إلى القسم السابع، وكان إمامه إمام من أئمة العلم والورع.. وقد علمنا أنه قدم من دمياط.. وقد كان أهل هذا القسم يسمونه (أحمد النحاس)([60])
ما إن دخلنا عليه القسم حتى وجدناه يحمل قضيبا في يده يضرب به رجله، ويقول: يا نفس ذوقي الألم.. فلا يكفك عن غيك غيره.. لطالما نصحتك ووجهتك، ولكنك أبيت إلا أن تقتحمي غمار غضب الله.. أتراك تطيقينه؟
ألم تسمعي ما أمر الله بني إسرائيل عندما اقتحموا نيران معاصيه.. لقد أمرهم بقتل أنفسهم، لقد قال تعالى يذكر ذلك :{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)} (البقرة)؟
ألم تعلمي ما رتب الله على معاصيه من العقوبات في الدنيا قبل الآخرة؟
ألم تعلمي أن الصالحين كانوا يذيقون أنفسهم آلام الدنيا لترتدع وتتذكر عذاب الآخرة..
إن لم تكوني تعلمي ذلك فاعلمي أن المحدثين ذكروا أنه انطلق رجل ذات يوم – في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم – فنزع ثيابه وتمرّغ في الرمضاء فكان يقول لنفسه: ذوقي ونار جهنم أشدّ حرّاً أجيفة بالليل بطالة بالنهار؟ فبـينما هو كذلك إذ أبصر النبـي صلى الله عليه وآله وسلم في ظل شجرة فأتاه فقال: غلبتني نفسي فقال له النبـي صلى الله عليه وآله وسلم: (ألم يكن لك بد من الذي صنعت، أما لقد فتحت لك أبواب السماء، ولقد باهى الله بك الملائكة)، ثم قال لأصحابه: (تزودوا من أخيكم)، فجعل الرجل يقول له: يا فلان ادع لي، يا فلان ادع لي، فقال النبـي صلى الله عليه وآله وسلم: (عمهم)، فقال: (اللهم اجعل التقوى زادهم، واجمع على الهدى أمرهم)، فجعل النبـي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم سدده)، فقال الرجل: اللهم اجعل الجنة مآبهم([61]).
وحدث صاحب للأحنف قال: كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل، الدعاء، وكان يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه: يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟
وحدث إسحاق بن عمار قال : خرجت مع أبي عبد الله وهو يحدث نفسه، ثم استقبل القبلة فسجد طويلا، ثم ألزق خده الايمن بالتراب طويلا، قال : ثم مسح وجهه ثم ركب، فقلت له : بابي أنت وأمي لقد صنعت شيئا ما رأيته قط، قال : يا إسحاق إني ذكرت نعمة من نعم الله عزوجل علي فأحببت أن أذلل نفسي، ثم قال : يا إسحاق ما أنعم الله على عبده بنعمة فشكرها بسجدة يحمد الله فيها ففرغ منها حتى يؤمن له بالمزيد من الدارين.
ودخل ابن السماك على داود الطائي حين مات – وهو في بـيته على التراب – فقال: يا داود سجنت نفسك قبل أن تسجن وعذبت نفسك قبل أن تعذب، فاليوم ترى ثواب من كنت تعمل له.
***
بعد أن سمعنا ورأينا منه بعض ما ذكرته لك التفت إلينا، فتعجب من حضورنا، وقال: أهلا بكم.. اعذروني.. عساني لم أطل عليكم.
قلنا: لا.. ولكنا قد امتلأت عجبا من حالك.. كيف تضرب نفسك؟
قال: لو تأدبت لما ضربتها.
قال رجل منا: لقد عهدنا أنه لا يضرب أحد نفسه إلا إذا كان مجنونا.
قال: فهذا الذي لا يضرب نفسه هل يضرب غيره إن أساء؟
قلنا: أجل.. ولكن ذلك شيء مألوف.
قال: فمن لم يردع نفسه، فكيف يجوز لنفسه أن يردع غيره؟ إن النفس أولى بالعقوبة من الغير.
قلنا: فما فعلته شيء خاص بك.. أم شيء تدعونا إليه؟
قال: بل شيء أدعوكم إليه.. ألستم في مدرسة المسلم القوي.. لا يمكن للمسلم أن يصير قويا ما لم يقهر نفسه التي بين جنبيه.
لقد ذكر أولياء الله هذا.. فقد ذكروا أنه مهما حاسب الإنسان نفسه فلم تسلم عن مقارفة معصية وارتكاب تقصير في حق الله تعالى، فلا ينبغي أن يهملها.. لأنه إن أهملها سهل عليه مقارفة المعاصي، وأنست بها نفسه، وعسر عليه بعد ذلك فطامها، وكان ذلك سبب هلاكها، بل ينبغي أن يعاقبها، فإذا أكل لقمة شبهة بشهوة نفس ينبغي أن يعاقب البطن بالجوع، وإذا نظر إلى غير محرم ينبغي أن يعاقب العين بمنع النظر، وكذلك يعاقب كل طرف من أطراف بدنه بمنعه عن شهواته.. هكذا كانت عادة سالكي طريق الآخرة.
ومن لطائف العقوبات التي ذكروها أن مريد الله إذا رأى شرها في نفسه للطعام ألزمها بالصوم وتقليل الطعام، ثم يكلفها أن تهيئ الأطعمة اللذيذة ويقدمها إلى غيره وهو لا يأكل منها حتى يقوي بذلك نفسه فيتعود الصبر وينكسر شرهه.
ومثل ذلك إن رأى الغضب غالباً عليه ألزم نفسه الحلم والسكوت، بل سلط على نفسه من يصحبه ممن فيه سوء خلق، ويلزمها خدمته حتى يمرن نفسه على الاحتمال معه.
وقد حكى عن بعضهم في هذا أنه كان يعود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغضب، فكان يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ويكلف نفسه الصبر، ويكظم غيظه حتى صار الحلم عادة له بحيث كان يضرب به المثل.
وبعضهم كان يستشعر في نفسه الجبن وضعف القلب فأراد أن يحصل لنفسه خلق الشجاعة فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الأمواج.
قال رجل منا: فجوهر ما ذكرته في هذا هو أن تعاقب النفس بمخالفة شهواتها.
قال: أجل.. فلا يمكن أن تستقيم النفس وهي ترعى في مراعي شهواتها..
حدث الجنيد عن نفسه، قال: أرقت ليلة فقمت إلى وردي فلم أجد الحلاوة التي كنت أجدها، فأردت أن أنام فلم أقدر، فجلست فلم أطق الجلوس، فخرجت فإذا رجل ملتف في عباءة مطروح على الطريق، فلما أحس بي قال: يا أبا القاسم إلى الساعة، فقلت: يا سيدي من غير موعد؟ قال: بلى سألت الله عز وجل أن يحرك إلى قلبك، فقلت: قد فعل فما حاجتك؟ قال: فمتى يصير داء النفس دواءها؟ فقلت: إذا خالفت النفس هواها، فأقبل على نفسه فقال: اسمعي فقد أجبتك بهذا سبع مرات فأبيت أن تسمعيه إلا من الجنيد ها قد سمعتيه، ثم انصرف وما عرفته.
وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت الصمت، قال: متى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت الكلام.
وقال علي: من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات في الدنيا.
وكان مالك بن دينار يطوف فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه: اصبري فوالله ما أمنعك إلا من كرامتك علي.
قال آخر: ربما يكون بعض ما ذكرته مقبولا.. ولكن الذي لا يقبله عقلي هو أن يحمل عاقل مثلك ما تحمله من القضيب، لتضرب به نفسك.. فمن أين لك هذا؟
ابتسم النحاس، وقال: أنا لست مبتدعا في هذا.. فلي سلف صالح فيه.. إنه أبو مسلم الخولاني، فقد روي أنه كان قد علق سوطاً في مسجد بيته يخوّف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفاً حتى يكون الكلل منك لا مني.. فإذا دخلت الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه، ويقول: أنت أولى بالضرب من دابتي.
وكان يقول: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يستأثروا به دوننا.. كلا والله لنزاحمهم عليه زحاماً حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً.
قال الرجل: دعنا من آراء الرجال.. وحدثنا عن سيد الرجال.. ذلك الذي لا يؤخذ الدين إلا عنه.
قال: لقد روي في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم أرسل أبا لُبَابة إلى بني قريظة، وكان حليفاً لهم، وكانت أمواله وولده في منطقتهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجَهَشَ النساء والصبيان يبكون في وجهه، فَرَقَّ لهم، وقالوا : يا أبا لبابة، أتري أن ننزل على حكم محمد؟ قال : نعم ؛ وأشار بيده إلى حلقه، يقول : إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله فمضي على وجهه، ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتي المسجد النبوي بالمدينة، فربط نفسه بسارية المسجد، وحلف ألا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبداً. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبره – وكان قد استبطأه – قال: (أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه)
وقد بقي أبو لبابة على تلك الحال إلى أن نزلت توبته، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السحر يضحك، فقلت: مم تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك؟ قال: تيب علي أبي لبابة، قلت: أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئت.. فقامت على باب حجرتها، فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يطلقني بيده الشريفة.
وقد أقام مربوطا ست ليالي أو سبع ليال، وقيل سبع عشرة ليلة.. وكان تأتيه امرأته أو بنته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيربط بالعمود حتى كاد يذهب سمعه وبصره.
وروي أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن تاب الله عليه: (من تمام توبتي أن أهجر دار قوم أصبت فيها الذنب)، وروي أنه عاهد الله أن ينخلع من ماله فقال له صلى الله عليه وآله وسلم :(يجزيك الثلث)([62])
التفت النحاس إلى الرجل، ثم قال: انظر كيف أقره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فعله، ولو كان ذلك غير مشروع لنهاه.
***
بعد أن حدثنا (أحمد النحاس)عن ضرورة المعاقبة، وعلمنا كيف ننفذها في حياتنا، مكثنا مدة نتدرب على ذلك إلى أن رأى منا الأهلية للتخرج من هذا القسم، ومن هذه المدرسة.
وقد رأيت بعيني بركات تلك المدرسة على تلك الجماعة الممتلئة بالضعف، فقد سارت بعد تخرجها بهمة عجيبة إلى بلدها تحرره من الطغاة المستبدين الظالمين.. ولم يكلفها ذلك شيئا كثيرا.
بل بمجرد أن رأى الطغاة أنوار الإيمان والإرادة ذابوا كما يذوب الملح في الماء، أو كما يذوب الثلج عندما تشرق عليه الشمس..
لقد حصل لهم نفس ما حصل
للدجال عند رؤيته للمسيح عليه السلام.
([1]) لم نذكر اسم الشخصية في هذا المحل كعهدنا في هذه السلسلة من عدم ذكر الأسماء التي قد تجرح جهة من الجهات.
([2]) نحب أن ننبه هنا إلى أنه لدينا رسالة خاصة بهذا الموضوع من رسائل السلام سميناها (مرابطات النفس اللوامة)، وما نذكره هنا هو ملخص مختصر منها.
([3]) أشير به إلى الولي الصالح أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن بشر، المعروف بالحكيم الترمذي (ت 320 هـ)، عالم بالحديث وأصول الدين، من أهل (ترمذ) نفي منها بسبب تصنيفه كتابا خالف فيه ما عليه أهلها، فشهدوا عليه بالكفر.. فجاء إلى بلخ (فقبلوه) لموافقته إياهم على المذهب.. من مؤلفاته (غرس الموحدين) و(الرياضة وأدب النفس) و(غور الامور) و(المناهي) و(شرح الصلاة) و(المسائل المكنونة) وكتاب (الاكياس والمغترين) و(بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب)، و(العقل والهوى) و(العلل) (انظر: الأعلام للزركلي)
([4]) روى كثيرون منهم أحمد وابن حبان قوله صلى الله عليه وآله وسلم :(يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر)
([5]) رواه مسلم.
([6]) رواه مسلم.
([7]) رواه أبو داود الطيالسى.
([8]) أشير به إلى أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي الكبير (215-303 هـ) القاضي الإمام، أحد الأئمة المبرزين والحفاظ المتقنين، والأعلام المشهورين. طاف البلاد وسمع من ناس في خراسان والعراق والحجاز ومصر والشام والجزيرة وغيرها. قال الحاكم: كان النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره وأعرفهم بالصحيح والسقيم من الآثار وأعرفهم بالرجال. له من الكتب: السنن الكبرى في الحديث؛ المجتبى وهو السنن الصغرى، خصائص عليّ؛ مسند عليّ؛ الضعفاء والمتروكون بمسند مالك.
وقد تعرض هو الآخر لمحنة سببها كتابه في في فضل الإمام علي بن أبي طالب الذي جمع فيه الاحاديث الواردة في فضل الامام أمير المؤمنين وأهل بيته.. فقد ذكر المؤرخون أنه بعد أن ترك مصر في أواخر عمره قصد دمشق ونزلها، فوجد الكثير من أهلها منحرفين عن الامام علي بن أبي طالب، فأخذ على نفسه وضع كتاب يضم مناقبه وفضائله رجاء أن يهتدي به من يطالعه أو يلقى إليه سمعه، فأتى به والقاه على مسامعهم بصورة دروس متواصلة.
وبعد ان فرغ منه سئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: (أما يرضى معاوية ان يخرج رأسا برأس حتى يفضل؟)، وفي رواية: (ما أعرف له فضيلة إلا لا أشبع الله بطنك)، فهجموا عليه وداسوه حتى أخرجوه من المسجد، فقال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها، فتوفى بها.
([9]) رواه البخاري.
([10]) يذكر كثير من المدافعين عن الظلمة والمشرعين للاستبداد أن معاوية أحد كتاب الوحي، وهو غير صحيح من الناحية التاريخية، فلم يثبت أنه كتب الوحي قط، بل كان كاتباً من كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فترة وجيزة.. وذلك لا يغني عن شيئا.
([11]) رواه ابن أبي حاتم وابو الشيخ عن الضحاك والبيهقي، عن عروة عن حذيفة وعن ابن اسحاق.
([12]) رواه البخاري ومسلم.
([13]) رواه مسلم.
([14]) رواه مسلم.
([15]) رواه الترمذي (2325) ، وأحمد (18031)
([16]) الكلام الوارد هنا منقول بتصرف من [رسالة آداب سلوك المريد] للشيخ الحبيـب عبد الله بن علوي الحداد الحضرمي الشافعي.
([17]) هذه كلمات متفرقة من علامات المريد الصادق.
([18]) أشير به إلى الشيخ عبد الوهاب بن أحمد بن علي بن أحمد، أبو محمد الشعراني أو الشعراوي المصري ( 898 ـ 973 هـ ) الفقيه الشافعي، الصوفي، ولد في قلقشندة (بمصر)، ونشأ بساقية أبي شعرة، وانتقل إلى القاهرة سنة (911 هـ)، فقطن بجامع الغمري، وحفظ بعض الكتب في الفقه والعربية، وقرأ على أمين الدين إمام الجامع المذكور. ثم جاهد نفسه مدة وقطع العلائق الدنيوية، وأخذ التصوف عن: الخوّاص، والمرصفي، والشناوي.. وتصدى للتصنيف، فألّف كتباً، منها: (الاَجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية)، و(البحر المورود في المواثيق والعهود)، و(الدرر المنثورة في زبد العلوم المشهورة)، و(منح المنة في التلبس بالسنّة)، و(البدر المنير)، و(الاَنوار القدسية في معرفة آداب العبودية)، و(درر الغوّاص)، و(المنهج المبين في أدلة المجتهدين)، و(لواقح الاَنوار في طبقات الاَخيار)، و(اليواقيت والجواهر في عقائد الاَكابر)
ولا يخفى سر اختيارنا له في هذا المحل..
([19]) قال الشعراني في مقدمة كتابه هذا مبينا غرضه من تأليفه: (هذا كتاب نفيس لم يسبقني أحد إلى وضع مثاله ولا أظن أحدا نسج على منواله ضمنته جميع العهود التي بلغتنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من فعل المأمورات وترك المنهيات ( وسميته لواقح الأنوار القدسية في العهود المحمدية ) وكان الباعث لي على تأليفه ما رأيته من كثرة تفتيش الإخوان على ما نقص من دنياهم ولم أرى أحدا منهم يفتش على ما نقص من أمور دينه إلا قليلا فأخذتني الغيرة الإيمانية عليهم وعلى دينهم فوضعت لهم هذا الكتاب المنبه لكل إنسان على ما نقص من أمور دينه فمن أراد من الإخوان أن يعرف ما ذهب من دينه فلينظر في كل عهد ذكرته له في هذا الكتاب ويتأمل في نفسه يعرف يقينا ما أخل به من أحكام دينه فيأخذ في التدارك أو الندم والاستغفار إن لم يمكن تداركه)
([20]) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
([21]) رواه البخاري.
([22]) رواه أحمد ورواه مسلم والترمذي والنسائي.
([23]) استفدنا بعض الأدلة الواردة هنا على ضرورة الشيخ من كتاب (الموسوعة اليوسفية في بيان أدلة الصوفية) للأستاذ الفاضل الشيخ يوسف خطار محمد، وهو من الكتب القيمة في هذا الباب.
([24]) الإحياء.
([25]) نقلا عن: شخصيات صوفية لطه عبد الباقي سرور ص (154).. والله أعلم بمدى صحة هذه الرواية.
([26]) الإحياء.
([27]) خلاصة التصانيف في التصوف لحجة الإسلام الغزالي ص 18.
([28]) مفتاح الفلاح ص 30.
([29]) لطائف المنن ص 167.
([30]) لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية:1/51.
([31]) لطائف المنن والأخلاق للإمام ا لشعراني: 1/25.
([32]) لطائف المنن والأخلاق: 1/48.
([33]) رواه ابن عدي.
([34]) الأنوار القدسية للإمام الشعراني ص (63).
([35]) رواه البخاري ومسلم.
([36]) رواه أبو داود.
([37]) رواه الطبراني بإسناد حسن.
([38]) رواه أبو يعلى.
([39]) رواه أبو داود.
([40]) متبذلة : أي لابسة ثياب المهنة تاركة ثياب الزينة.
([41]) رواه البخاري.
([42]) أشير به إلى أبي بكر أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن اسباط الدينوري المعروف بابن السني (284 – 364 هـ)، وهو محدث من تلاميذ النسائي.. سمع بالعراق ومصر والشام والجزيرة.. من كتبه (عمل اليوم والليلة) و(فضائل الاعمال) و(القناعة) و(الطب النبوي)، و(الصراط المستقيم)، و(المجتبي) اختصر به سنن النسائي.. شرفه الله بأن مات فجأة وهو يكتب.
([43]) رواه البخاري ومسلم.
([44]) رواه ابن أبي الدنيا بإسناد جيد.
([45]) رواه البخاري ومسلم.
([46]) رجعنا في ذكر تفاصيل درجات المراقبة إلى الإحياء مع التصرف الذي التزمناه في هذه السلسلة.
([47]) رواه البخاري ومسلم.
([48]) أشير به إلى الداعية الكبير الشيخ محمد إلياس بن محمد إسماعيل بن غلام حسين بن كريم بخش (ولد 1303 هـ) من أسرة معروفة بالعلم والتقوى والورع في القارة الهندية.. تخرج من جامعة مظاهر العلوم، ورافق شيخه في سفره إلى الحجاز للحج للمرة الثانية ورأى في المنام أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال له: سنأخذ منك عملاً دينياًّ في الهند.. فعاد إلى الهند خائفاً مهموماً من الرؤيا، فما يدري ما المراد بالعمل الذي سيؤخذ منه.. وقد كان العمل الذي ينتظره هو التنظيم المحكم الذي وضعه لجماعة الدعوة والتبليغ، والتي لا يزال نشاطها مستمرا رغم الظروف الخطيرة التي مر بها العالم الإسلامي.
([49]) ما بين قوسين هو من كلام الشيخ محمد إلياس من كتابه (الملفوظات)
([50]) تركز جماعة التبليغ في منهجها التربوي على ست الصفات تعتبرها أم الصفات ومنبعها، وهي:
1- تحقيق اليقين على أنه لا إله إلا الله سبحانه وتعالى وحسن اتباع النبي
2- الصلاة ذات الخشوع والخضوع.
3- طلب العلم مع مداومة الذكر.
4- إكرام المسلمين وحسن الخلق.
5- تصحيح النية وإخلاصها لله تعالى.
6- الدعوة إلى الله وبذل الجهد للدين.
وهم لأجل التربية على هذه الصفات يطلبون من الناس تفريغ الأوقات، والخروج في سبيل الله فترات محددة بحسب الحاجة.
([51]) انظر: (النفس منطقة خطر)، للشيخ حسن الصفار.
([52]) بحار الأنوار للمجلسي:70/64.
([53]) رواه البخاري.
([54]) في بعض الأخبار التي سنوردها بعض المبالغات التي لا يقر الشرع المداومة عليها، ولكنها مع ذلك قد تكون أسلوبا من الأساليب التي تعالج بها النفوس لترد إلى الطريق المستقيم.
([55]) المحجة البيضاء فى تهذيب الاحياء، ج4، ص: 235.
([56]) أشير به إلى أبي عبد الله الحارث بن أسد ( ت 243 هـ) أحد مشايخ الصوفية.. كان فقيهاً، متكلماً، كتب الحديث وعرف مذاهب النساك، وصنّف كتباً كثيرة في الزهد وأصول الديانات، وله أقوال مشهورة، وحكايات مع الجنيد.. من كتبه: آداب النفوس، المسائل في أعمال القلوب والجوارح، وهي رسالة، الرعاية لحقوق اللّه عزّ وجلّ، الخلوة والتنفّل في العبادة، رسالة المسترشدين، والتفكر والاعتبار.. ولا يخفى سر اختيارنا له في هذا الفصل..
([57]) ما نذكره من هذه المحاسبة مقتبس من (الكلمة الحادية والعشرون) من (الكلمات) للنورسي بالتصرف الذي ألفناه في هذه السلسلة.
([58]) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب.. ورواه الحاكم وصححه.
([59]) النص الوارد هنا من الإحياء بالتصرف الذي ألفناه في هذه السلسلة.
([60]) أشير به إلى أحمد بن ابراهيم بن محمد الدمشقي، ثم الدمياطي، المعروف بابن النحاس (ت 814 هـ)، كان عالما بالفرائض والحساب، والهندسة، والفقه، وغير ذلك.. وكان بالإضافة إلى ذلك مجاهدا، توفي شهيدا، قتله الفرنج في اكباب وحمل إلى دمياط..
من تآليفه (مشارع الاسواق إلى مصارع العشاق)، و(مثير الغرام إلى دار السلام)، و(تنبيه الغافلين في معرفة الكبائر والصغائر)، و(بيان المغنم في الورد الاعظم)، و(حاشية على شرح تجريد الكلام)
([61]) رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس.
([62]) انظر: السيرة الحلبية: 2/674.