ثانيا ـ القلب

في اليوم الثاني، قام رجل منا، وقال: سأحدثكم اليوم أنا عن حديثي.. اعذروني، لقد كنت مثل من سبقني أحمل أسماء كثيرة مستعارة، كنت أحاول بها أن أغطي حقيقتي التي كانت تعذبني كل حين.. لكن حقيقتي أبت إلا أن تتمرد علي، وتذيقني في تمردها من الهوان ما لم أكن أحسب له أي حساب.
ليست بهذه المأساوية تنتهي قصتي.. هناك جوانت مشرقة ممتلئة بالنور والسلام والصفاء، لعل حياتي كلها كانت تسير نحوها.. ولعلي لم أسر نحو هذه البلاد إلا بحثا عنها.
قلنا: من أي البلاد أنت؟
قال: أنا من بلاد العرب.. ومن قبيلة فيها يقال لها (بنو عذرة).. وهم قوم لم يعيشوا إلا بقلوبهم ولقلوبهم.. ولكني لم يستقر بي المقام بها إلا قليلا، فقد جبت المشرق والمغرب.
قلنا: لم؟
قال: ألم أقل لكم إني من قوم لا يعيشون إلا بقلوبهم ولقلوبهم؟
قلنا: كلنا كذلك.. بل كل البشر كذلك.. فلا يمكن لأحد أن يعيش بدون قلب.
قال: ما أكثر من يهيل على قلبه التراب.. وما أكثر من يسجن قلبه.. وما أكثر من يضيع قلبه، فيصير عضوا ضامرا.. حيا كميت.. أو ميتا كحي.
قلنا: وأنتم؟
قال: أما نحن، فقد اعتبرنا قلوبنا، والتي هي محل عواطفنا، أساس وجودنا، فلذلك لم ننشغل عنها بأي شاغل.
قلنا: فحدثنا
حديثك.
نظر إلى الأفق البعيد، وهو مشدوه، وراح يقول: في تلك الأيام التي ولدت فيها ببني عذرة لم أكن أسمع إلا أحاديث الحب.. كانت المجالس تردد كل حين:
هل العيش إلا أن تروح وتغتدي |
وأنت بكأس العشق في الناس نشوان |
وكان أساتذتنا الذين تربينا على أيديهم يحفظوننا قول الشاعر:
وما طابت الدنيا بغير محبة |
وأي نعيم لامرئ غير عاشق |
بل كانوا يقولون لمن رأوه مجادلا في هذا:
إذا أنت لم تعشق
ولم تدر ما الهوى |
فأنت وعير في
الفلاة سواء |
ويقولون له:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما
الهوى |
فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا |
بل كان الأمر يصل أحيانا إلى سبه ببذيء الكلام، فيقولون:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى |
فقم فاعتلف تبنا فأنت حمار |
بل كانوا فوق ذلك كله يعتبرون الحب هو الدين الذي يغني عن كل دين، ولا يغني عنه أي دين، ويقولون في ذلك متغنين:
ما دنت بالحب إلا |
والحب دين الكرام |
ولذلك، فإن الأخلاق عندهم تنطلق من الحب، وقد قال في ذلك شاعرهم:
وما أحببتها فحشا ولكن |
رأيت الحب أخلاق الكرام |
وهم يعتبرونه مع ذلك الدنيا التي لا تغني عنها أي دنيا، ويقولون:
إن الغواني جنة
ريحانها |
نضر الحياة فأين
عنها نعزف |
لولا ملاحتهن ما
كانت لنا |
دنيا نلذ بها ولا
نتصرف |
أما علماء النفس والاجتماع، فكانوا يصفون لنا في محاضراتهم العلمية المملوءة بالأرقام والمصطلحات الحب على أنه (فضيلة تنتج الحيلة، وتشجع الجبان، وتسخي كف البخيل، وتصفي ذهن الغبي، وتطلق بالشعر لسان العجم، وتبعث حزم العاجز وهو عزيز يدل له عز الملوك، وتضرع له صولة الشجاع، وهو داعية الأدب وأول باب تفتق به الأذهان والفطن، وتستخرج به دقائق المكايد والحيل، وإليه تستريح الهمم وتسكن نوافر الأخلاق والشيم، يمتع جليسه ويؤنس أليفه وله سرور يجول في النفوس وفرح يسكن في القلوب)([1])
ويذكرون لنا أن ( أرواح العشاق عطرة لطيفة، وأبدانهم ضعيفة، وأرواحهم بطيئة الانقياد لمن قادها، حاشي سكنها الذي سكنت إليه، وعقدت حبها عليه.. وكلام العشاق ومنادمتهم تزيد في العقول، وتحرك النفوس، وتطرب الأرواح، وتجلب الأفراح، وتشوق إلى مسامع أخبارهم الملوك فمن دونهم.. ويكفي العاشق المسكين الذي لم يذكر مع الملوك ومع الشجعان الأبطال أنه يعشق ويشتهر بالعشق فيذكر في مجالس الملوك والخلفاء فمن دونهم، تدور أخباره، وتروى أشعاره، ويبقى له العشق ذكراً مخلداً، ولولا العشق لم يذكر له اسم، ولا جرى له رسم، ولا رفع له رأس، ولا ذكر مع الناس)
ويذكرون أن أبا نوفل سئل: هل سلم أحد من العشق؟ فقال: (نعم.. الجلف الجافي الذي ليس له فضل، ولا عنده فهم، فأما من في طبعه أدنى ظرف، أو معه دمائة أهل الحجاز، وظرف أهل العراق، فلا يسلم منه)
ويذكرون عن بعضهم قوله:( لا يخلو أحد من صبوة إلا أن يكون جافي الخلقة، ناقصاً، أو منقوص البنية، أو على خلاف تركيب الاعتدال)
ويذكرون عن بعض العلماء أنه قيل له: إن ابنك قد عشق، فقال:( الحمد لله، الآن وقت حواشيه، ولطفت معانيه، وملحت إشاراته، وظرفت حركاته، وحسنت عباراته، وجادت رسائله، وجلت شمائله، فواظب على المليح، واجتنب القبيح)
أما رواتهم وقصاصوهم، فكانوا يذكرون لنا القصص والأساطير التي تؤيد هذه الرؤى، وتعمق هذه الأفكار، فيحكون لنا عن شيخ بخراسان له أدب وحسن معرفة بالأمور، أنه قال لسليمان بن عمرو ومن معه: أنتم أدباء، وقد سمعتم الحكمة ولكم حداء ونغم فهل فيكم عاشق؟ قال: لا قال: اعشقوا.. فإن العشق يطلق اللسان، ويفتح جبلة البليد والبخيل، ويبعث على التلطف وتحسين اللباس وتطييب المطعم ويدعو إلى الحركة والذكاء وتشريف الهمة.
ويروون لنا من كرامات المحبين أن ليلى الأخيليلة مرت مع زوجها بقبر توبة بن الحمير، فقال لها: هذا قبر الكذاب الذي قال:
ولو أن ليلى
الأخليلية سلمت |
علي ودوني جندل
وصفائح |
لسلمت تسليم
البشاشة أو زقا |
إليها صدى من
جانب القبر صائح |
فقالت: دعه، فقال: أقسمت عليك إلا ما دنوت منه، فسلمت عليه، فأبت فكرر عليها ذلك، فلما تقدمت إلى القبر، وقالت: السلام عليك يا توبة.. فطار من جانب القبر طائر كان هناك، وزقا، ونفر منه جمل ليلى، فوقعت من أعلاه، فاندقت عنقها، وماتت من وقتها، ودفنت إلى جانب توبة.
ويحكون لنا من أمر بهرام جور ما جعله نبينا الذي نتلقى منه كل الحقائق.
قلنا: من بهرام جور؟
قال: رجل كان له ابن قد رشحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة ساقط المروءة خامل النفس مسيء الأدب، فغم ذلك أباه فوكل به من المؤدبين والمنجمين والحكماء من يلازمه ويعلمه، وكان يسألهم عنه فيحكون له ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوما، فقال له المؤدب: قد كنا نخاف سوء أدبه، فحدث من أمره ما صيرنا إلى الرجاء في فلاحه، قال: وما ذاك الذي حدث؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان، فعشقها، فغلبت عليه فهو لا يهدأ إلا بها ولا يتشاغل إلا بها. فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه، ثم دعا بأبي الجارية، فقال له: إني مسر إليك سرا، فلا يعدوك فضمن له ستره، فأعلمه ان ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها وتقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها تجتنبه وهجرته، فإن استعلمها علمته أنها لا تصلح إلا لملك، ثم لتعلمني خبرها وخبره ولا تطلعهما على ما أسره إليك، فقبل أبوها ذلك منه، ثم قال للمؤدب والموكل بأدبه حضه وشجعه على مراسلة المرأة، ففعل ذلك وفعلت المرأة كما أمرها أبوها، فلما انتهت إلى التجني عليه، وعلم الفتى السبب الذي كرهته لأجله أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية وضرب الصولجان حتى مهر في ذلك، ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج إلى الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء وما أشبه ذلك، فسر الملك بذلك وأمر له بما طلب، ثم دعا مؤدبه فقال له: إن الموضع الذي وضع به ابني نفسه من خبر هذه المرأة لا يدري به فتقدم إليه وأمره أن يرفع أمرها إلي ويسألني أن أزوجه إياها، ففعل المؤدب ذلك، فرفع الفتى ذلك لأبيه فدعا بأبيها وزوجه إياها، وأمر بتعجيلها إليه، وقال: إذا اجتمعت أنت وهي فلا تحدث شيئا حتى أصير إليك، فلما اجتمعا صار إليه فقال: يا بني لا يضعن قدرها عندك مراسلتها إياك وليست في خبائك فإني أمرتها بذلك، وهي أعظم الناس منة عليك بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي، فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك، ففعل الفتى وعاش مسرورا بالجارية وعاش أبوه مسرورا به وأحسن ثواب أبيها ورفع منزلته لصيانه سره وأحسن جائزة المؤدب لامتثال ما أمر به.
قلنا: فما كان تأثير هذه التوجيهات عليكم؟
قال: لقد صار كل من في تلك القبيلة يصيح بقول الشاعر:
تشكى المحبون
الصبابة ليتني |
تحملت ما يلقون
من بينهم وحدي |
فكانت لقلبي لذة
الحب كلها |
فلم يلقها قبلي
محب ولا بعدي |
وبقول الآخر:
وددت بأن الحب
يجمع كله |
فيقذف في قلبي
وينفلق الصدر |
لا ينقضي ما في
فؤادي من الهوى |
ومن فرحي بالحب
أو ينقضي العمر |
وبقول الآخر:
وما سرني أني خلى
من الهوى |
ولو أن لي ما بين
شرق ومغرب |
قلنا: نرى أن كل ما ذكرته يكاد يكون سليما لا حرج فيه.. فلم نر مثل الحب عاطفة نبيلة؟
قال: صدقتم.. ولكن القبلة التي وجهنا إليها قومنا ملأتنا بالصراع.. فلم نكن نشعر في لحظة من حياتنا بالسلام الذي عمر الله به كونه.. لقد كانت حياة كل منا في يد محبوبه الذي سلم إليه أمره يجرعه من الهوان ما لا يذيقه أعتى الطغاة لأعتى المجرمين.
قلنا: أكنتم تتألمون؟
قال: كلنا كان يتألم.. ومنا من مات بسبب ألمه.. لقد قال المتنبي يذكر ذلك:
وعذلت أهل العشق
حتى ذقته |
فعجبت كيف يموت
من لا يعشق |
ليس الموت وحده ما يلقاه العاشقون.. فالموت يستوي فيه كل الناس.. إن الأمر أخطر من ذلك بكثير.
لقد قال لي بعض من بلي بهذه البلية منشدا:
وما عاقل في
الناس يحمد أمره ويذكر |
إلا وهو في الحب
أحمق |
وما من فتى ذاق
بؤس معيشة |
من الناس إلا
ذاقها حين يعشق |
وسمعت بعضهم ينشد بلوعة دونها كل لوعة:
فيبكي إن نأوا
شوقا إليهم |
ويبكي إن دنوا
حذر الفراق |
وما في الأرض
أشقى من محب |
وإن وجد الهوى
حلو المذاق |
تراه باكيا في كل
حين |
مخافة فرقة أو
لاشتياق |
وسمعت آخر ينشد، وأنا في أول رحلتي للبحث عن حبيب يملأ قلبي:
شكوتُ فقالتْ: كل
هذا تبرماً |
بحبي أراحَ اللّه
قلبكَ من حبي |
فلما كَتَمْتُ
الحبَّ قالَتْ لشَدَّ ما |
ضرتَ وما هذا
بفعلِ شَجَى القَلْبِ |
فأدنو فتقصيني
فأُبعد طالباً |
رضاها فتَعْتَدُّ
التباعدَ من ذنبي |
فشَكْوايَ
تُؤْذيها وصَبْري يسوؤها |
وتجزعُ من بُعدي
وتنفرُ من قربي |
فيا قومي هل من
حيلةٍ تعرفونها |
أشيروا بها
واستوجِبوا الشكرَ من ربي |
وسمعت آخر ينشد، وهو يتمرغ في التراب والقمامات:
قالوا جننت بمن
تهوى فقلت لهم |
العشق أعظم مما
بالمجانين |
العشق لا يستفيق
الدهر صاحبه |
وإنما يصرع المجنون
في الحين |
وسمعت آخر ينشد، وهو كالذي أعماه السكر، فصار لا يفرق بين السماء والأرض:
ويح المحبين ما
أشقى نفوسهم |
إن كان مثل الذي
بي بالمحبينا |
يشقون في هذه
الدنيا بعشقهم |
لا يرزقون به
دنيا ولا دينا |
وسمعت آخر ينشد:
قرين الحب يأنس
بالهموم |
ويكثر فكرة القلب
السقيم |
وأعظم ما يكون به
اغتباطا |
على خطر ومطلع
عظيم |
وسمعت آخر ينشد:
أما الهوى فهو
العذاب فإن جرت |
فيه النوى فأليم
كل عذاب |
قلنا: فهل صرفك هذا عن رحلة القلب التي أردت القيام بها؟
قال: لا.. لقد جاء من ينسخ لي كل هذا.. لقد وجدت رجلا كان صديقا لي، وكان اسمه (جميل)، وقد قال لي يرد على من يريد أن يصرفني عن رحلتي:
وقالَ أناسٌ إِن
في الحبِّ ذلةً |
تنقِّصُ من
قَدْرِ الفتى وتخفضُ |
فقلتُ صدقتمْ غير
أن أخا الهوى |
لذلِ الهوى
مستعذبٌ ليس يبغضُ |
لكن رجلا كان ممتلئا بالحكمة ناداني، وقال لي:( يا بني.. أنت تريد أن تقوم برحلة لن تورثك إلا الهم الدائم، والفكر اللازم، والوسواس والأرق، وقلة المطعم، وكثرة السهر، ثم تتسلط على جوارحك فتنشأ الصفرة في البدن، والرعدة في الأطراف، واللجلجة في اللسان، والنحول في الجسد، فالرأي عاطل، والقلب غائب عن تدبير مصلحته، والدموع هواطل، والحسرات تتابع، والزفرت تتوالى، والأنفاس لا تمتد، والأحشاء تضطرم، فإذا غشى على القلب إغشاء تاما، أخرجت إلى الجنون، وما أقربه حينئذ من التلف)
قلنا: فهل انتصحت لنصيحته؟
قال: لو انتصحت لنصيحته لانتهت قصتي هنا.. ولما ذقت ما ذقت من الذلة والهوان والجنون وكل أصناف الصراع..
قلنا: فحدثنا عن رحلتك.
قال: لقد كان أول من مررت به في رحلتي رجل يقال له عروة بن حزام.. كان معي حينها رفيق يقال له ابن مكحول، وكان عراف اليمامة، فرأينا عروة.. وهو أحد زملائي الذين تلقوا ما تلقينا من تربية وتوجيه.. جلسنا عنده؛ وسألناه عما به؛ وهل هو خبل أو جنون؟ فقال لابن مكحول: ألك علم بالأوجاع؟. قال: نعم؛ فأنشأ يقول:
وما بي من خبل
ولا بي جنة |
ولكن عمي يا أخي
كذوب |
أقول لعراف
اليمامة داوني |
فإنك إن داويتني
لطبيب |
فوا كبدا أمست
رفاتاً كأنما |
يلذعها بالموقدات
طبيب |
عشية لا عفراء
منك بعيدة |
فتسلو ولا عفراء
منك قريب |
عشية لا خلفي مكر
ولا الهوى |
أمامي ولا يهوى
هواي غريب |
فوالله لا أنساك
ما هبت الصبا |
وما عقبتها في
الرياح جنوب |
وإني لتغشاني
لذكراك هزة |
لها بين جلدي
والعظام دبيب |
|
ثم أخذ يهيل التراب على جسده، وهو ينشد، والدموع تملأ مقلته:
خليلي من عليا
هلال بن عامر |
بصنعاء عوجاء
اليوم واتنظراني |
ولا تزهدا في
الذخر عندي وأجملا |
فإنكما بي اليوم
مبتليان |
ألما على عفراء
إنكما غداً |
بوشك النوى والبين
معترفان |
فيا واشيا عفراء
ويحكما بمن |
وما وإلى من
جئتما تشيان |
بمن لو أراه
عانياً لفديته |
ومن لو رآني
عانياً لفداني |
متى تكشفان عني
القميص تبينا |
بي الضر من عفراء
يا فتيان |
إذن تريا لحماً
قليلاً وأعظماً |
بلين وقلباً دائم
الخفقان |
وقد تركتني لا
أعي لمحدث |
حديثاً وإن
ناجيته ونجاني |
جعلت لعراف
اليمامة حكمه |
وعراف حجر إن هما
شفياني |
فما تركا من حيلة
يعرفانها |
ولا شربة إلا وقد
سقياني |
ورشا على وجهي من
الماء ساعة |
وقاما مع الواد
يبتدران |
وقالا: شفاك الله
والله مالنا |
بما ضمنت منك
الضلوع يدان |
فويلي على عفراء
ويلاً كأنه |
على الصدر
والأحشاء حد سنان |
أحب ابنة العذري
حباً وإن نأت |
ودانيت فيها غير
ما متداني |
إذا رام قلبي
هجرها حال دونه |
شفيعان من قلبي
لها جدلان |
إذا قلت: لا،
قالا: بلى، ثم أصبحا |
جميعاً على الرأي
الذي يريان |
تحملت من عفراء
ما ليس لي به |
ولا للجبال
الراسيات يدان |
فيا رب أنت
المستعان على الذي |
تحملت من عفراء
منذ زمان |
كأن قطاة علقت
بجناحها |
على كبدي من شدة
الخفقان |
قال ذلك.. ثم انخفض صوته بعدها بأبيات لم نتبينها، ثم مات بعدها، وفي قلبه من الغصص ما لا يعلمه إلا الله..
وقد مكثنا مدة في ذلك المحل نرقب ما يحصل.. ثم سرنا، وبينما نحن في بعض الطريق إذ رأينا عفراء تسرع إلينا، وهي تردد:
ألا أيها الركب
المخبون ويحكم |
بحق نعيتم عروة
بن حزام |
فلا تهنأ الفتيان
بعدك لذة |
ولا رجعوا من
غيبة بسلام |
وقل للحبالى: لا
ترجين غائباً |
ولا فرحات بعده
بغلام |
ولم تزل تردد هذه الأبيات وتندبه بها، حتى ماتت.. فدفناها، وسرنا..
ما سرنا إلا قليلا حتى رأينا رجلا على فراش الموت، وهو ينشد:
عند قيس من حب
لبنى ولبنى |
داء قيس والحب
صعب شديد |
فإذا عادني
العوائد يوماً |
قالت العين لا
أرى من أريد |
ليت لبنى تعودني
ثم أقضي |
أنها لا تعود
فيمن يعود |
ويح قيس لقد تضمن
منها |
داء خبل فالقلب
منه عميد |
فقال له صاحبي الطبيب: منذ كم هذه العلة بك؟ ومنذ كم وجدت بهذه المرأة؟ ما وجدت؟ فقال منشدا بصوت تنفطر له القلوب:
تعلق روحي روحها
قبل خلقنا |
وليس إذا متنا
بمنفصم العقد |
فزاد كما زدنا
وأصبح نامياً |
وليس إذا متنا
بمنصم المهد |
ولكنه باق على كل
حادث |
وزائرتي في ظلمة
القبر واللحد |
فقال له صاحبي: إنما يسليك عنها تذكر ما فيها من المساوي والمعايب وما تعافه النفس، فنظر إليه نظرة اللائم المؤنب، ثم أعرض عنه، وهو ينشد:
إذا عبتها شبهتها
البدر طالعاً |
وحسبك من عيب لها
شبه البدر |
لقد فضلت لبنى
على الناس مثل ما |
على ألف شهر فضلت
ليلة القدر |
إذا ما شئت شبراً
من الأرض أرجفت |
من البهر حتى ما
تزيد على شبر |
وبقي هكذا يردد الأشعار، ويبكي إلى أن فاضت روحه، فواريناه التراب..
***
ثم سرنا في تلك البرية الممتلئة بضحايا الحب المدنس.. وفي الطريق رأينا مجنونا يهيل التراب على رأسه، والصبية مجتمعون حوله يضحكون، وهو يردد:
قالت جننت على
أيشٍ فقلت لها |
الحب أعظم مما
بالمجانين |
الحب ليس يفيق
الدهر صاحبه |
وإنما يصرع
المجنون في الحين |
ثم يردد، وهو يبكي:
وبي من هوى ليلى
الذي لو أبثه |
جماعة أعدائي بكت
لي عيونها |
أرى النفس عن
ليلى أبت أن تطيعني |
فقد جن من وجدي
بليلى جنونها |
ثم يردد، وهو يضحك:
يقول أناسٌ عل
مجنون عامرٍ |
يروم سلواً قلت
أنى لما بيا |
وقد لامني في حب
ليلى أقاربي |
أخي وابن عمي
وابن خالي وخاليا |
يقولون ليلى أهل
بيت عداوةٍ |
بنفسي ليلى من
عدو وماليا |
ولو كان في ليلى
شذاً من خصومةٍ |
للويت أعناق
المطي الملاويا |
بينما نحن كذلك إذ جاء رجل، وصاح بقوة (ليلى)، فرأينا المجنون يفطن، ويعود إليه من عقله ما زال عنه، فسألنا الرجل عن سر ذلك، فقال: هكذا المحبون.. لا يرون من الدنيا إلا من سلموا قلوبهم له.. فإذا غاب عنهم، ذهبت عقولهم([2]).
قلنا: أين؟
قال: إلى حيث ذهبت قلوبهم..
بينما نحن كذلك إذ سمعنا المجنون يردد:
أيا ويح من أمسى
تخلس عقله |
فأصبح مذهوباً به
كل مذهب |
خليعاً من الخلان
إلا مجاملا |
يساعدني من كان
يهوى تجنبي |
إذا ذكرت ليلى
عقلت وراجعت |
عوزاب قلبي من
هوىً متشعب |
ثم ينشد:
وشغلت عن فهم
الحديث سوى |
ما كان فيك فإنه
شغلي |
وأديم لحظ محدثي
ليرى |
أن قد فهمت
وعندكم عقلي |
***
ثم سرنا في تلك البرية.. فرأينا قوما يحملون خيامهم، ويرحلون بها، ثم ما فتئنا حتى رأينا رجلا عليه سيما الحب المدنس يصيح في الآثار، وبقلبه من الأحزان لا تطيق أشعاره التعبير عنه:
أيا حرجات الحي
حيث تحملوا |
بذي سلمٍ لا
جادكن ربيع |
وخيماتك اللاتي
بمنعرج اللوى |
بلين بلىً لم
تبلن ربوع |
ندمت على ما كان
مني ندامةً |
كما يندم المغبون
حين يبيع |
فقدتك من نفسٍ
شعاعٍ فإنني |
نهيتك عن هذا
وأنت جميع |
فقربت لي غير
القريب وأشرفت |
إليك ثنايا ما
لهن طلوع |
ثم رأيناه يحفر حفرة في تلك الآثار، ثم ينزل فيها ويرقد، فأسرعنا إليه، فوجدناه قد سلم نفسه للموت.. فلم نجد إلا أن نهيل التراب عليه، ثم نستأنف رحلتنا.
ما سرنا إلا قليلا حتى وجدنا رجالا اشتعلت رؤوسهم شيبا، لكن عقولهم لم تزل تترنح في متاهات الصبا:
قال أحدهم، والحزن قد خط على وجهه علامات سوداء زاد في سوادها ذلك الشحوب الذي امتلأت به قسمات وجهه:
وكنت حبيبا إلى الغانيات |
فألبسني الشيب هجر الشبيب |
وكنت سراجا بليل الشباب |
فأطفأ نوري نهار المشيب |
قال له صاحبه، وهو يحاوره:
فإن تسألوني بالنساء فإنني |
خيرٌ بأدواء النساء طبيب |
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله |
فليس له في ودهن نصيب |
يردن ثراء المال حيث علمنه |
وشرخ الشباب عندهن عجيب |
قال آخر، وهو لا يقل عن إخوانه حزنا:
أَراهنَّ لا يُحْببْنَ من قَلَّ مالُه |
ولا من رأينَ الشَيْبَ فيه وقوَّسا |
قال آخر، وكأنه يخاطب من لا يراه أصحابه:
لاتحسبي أن الشبابَ وشرَخهُ |
يبقى ولا أن الجمالُ يخلدُ |
عشرٌ ويخلقُ شطرُ حسنِكَ كُلَّه |
ويذمُّ ما قد كان منهُ يحمدُ |
قال آخر:
وما يَرْجُو الكبيرُ من الغواني |
إِذا ذهبَتْ شبيبتُهُ وشابا |
ما سرنا قليلا حتى رأينا شابا ممتلئا شبابا، لكنه كان يصيح بغناء أقرب إلى النواح منه إلى الطرب:
جننا بليلى وهيَ جُنتْ بغيرِنا |
وأخرى بنا مجنونةٌ لا نريدُها |
وكان بجانبه شيخ حكيم يبدو أنه ذاق ما ذاق إخوانه من كأس الحب المسمومة، كان يقول له:
لا تأمنِ الأنثى زمانَك كلَّه |
يوماً ولو حلفَتْ يميناً تكذبُ |
تغري بطيبِ حد يثِها وكلامِها |
وإِذا سَطَتْ فهي الثقيلُ الأشطبُ |
وتوقَّ من غدرِ النساءِ خيانةً |
فجميعُهن مكائدٌ لكَ تنصبُ |
***
ما سرنا إلا قليلا حتى رأينا نفرا من الناس قد عقدوا حلقة كحلقات الذكر في تلك الفلاة.. وعلى كل منهم سيما الجنون التي يسمها الحب بأهله:
قال أحدهم:
ذكرتك والخطى
يخطر بيننا |
وقد نهلت مني
المثقفة السمر |
فوالله ما أدري
وإني لصادق |
أداء عراني من
خيالك أم سحر |
وقال الآخر:
ولقد ذكرتك
والرماح نواهل |
مني وبيض الهند
تقطر من دمي |
فوددت تقبيل
السيوف |
لأنها لمعت كبارق
ثغرك المتبسم |
وقال آخر:
ذكرت سلمى وحر
الوغا |
كقلبي ساعة
فارقتها |
فشبهت سمر القنا
قدها |
وقد ملن نحوي
فعانقتها |
وقال الآخر:
ولقد ذكرتك
والصوارم لمع |
من حولنا
والسمهرية شرع |
وعلى مكافحة
العدو ففي الحشا |
شوق إليك تضيق
عنه الأضلع |
ومن الصبا وهلم
جرا شيمتي |
حفظ الوداد وكيف
عنه أرجع |
وقال الآخر:
ولقد ذكرتك
والطبيب معبس |
والجرح منغمس به
المسبار |
وأديم وجهي قد
فراه حديده |
ويمينه حذراً على
يسار |
فشغلتني عما لقيت
وأنه |
لتضيق منه برحبها
الأقطار |
وقال الآخر:
ولقد ذكرتك في
الشفينة والردى |
متلاطم متوقع
الأمواج |
والجو يهطل
ةالرياح عواصف |
و الليل مسود
الذوائب داجي |
وعلى السواحل
للأعادي عسكر |
يتوقعون لغارة
وهياج |
وعلت لأصحاب السفينة
ضجة |
وأنا وذكرك في
ألذ تناجي |
وقال آخر:
ولقد ذكرتك
والسيوف لوامع |
والموت يرقب تحت
حصن المرقب |
والحسن في شفق
الدروع تخاله |
حسناء ترفل في
رداء مذهب |
والموت يلعب
بالنفوس وخاطري |
يلهو بطيب ذكرك
المستعذب |
وقال آخر:
ولقد ذكرتك
والعجاج كأنه |
مطل الغنى وسوء
عيش المعسر |
والسوس بين مجتدل
في جندل |
منا وبين مغفر في
مغفر |
ظننت أني في صباح
مسفر |
بضياء وجهك أو
مساء مقمر |
تعطرت أرض الكفاح
كأنها |
فتقت لنا أرض
الجلاد بعنبر |
وقال آخر:
لقد ذكرتك
والجماجم وقع |
تحت السنابك
والأكف تطير |
الهام في أفق
العجاجة حوم |
فكأنها فوق
النسور نسور |
فاعتادني من طيب
ذكرك نشوة |
وبدت علي بشاشة
وسرور |
فظننت أني في
مجالس لذتي |
والراح تجلى
والكؤوس تدور |
وقال آخر:
ولقد ذكرتك
والرماح تنوشني |
عند الإمام
وساعدي مغلول |
ولقد ذكرتك والذي
أنا عبده |
والسيف فوق
ذؤابتي مسلول |
وقال آخر:
ولقد ذكرتك
والبحر الخضم طغت |
أمواجه والورى
منه على سفر |
في ليلة أسدلت
جلبابة ظلمتها |
وغار كوكبها عن
أعين البشر |
والفلك في وسط
الأمواج يحسبها |
عيناً وقد أطبقت
شفراً على شفر |
والروح من حزن
راحت وقد وردت |
صدري فيا لك من
ورد بلا صدر |
هذا وشخصك لا
ينفك في خلدي |
وفي فؤادي وفي
سمعي وفي بصري |
وقال آخر:
ولقد ذكرتكم برمل
روعه |
في قلب كل مشرق
ومغرب |
وبنو بياضة
كالدبي من حولنا |
بسوأدهم سدوا
فسيح السبب |
والقضيب تبري هام
كل مدجج |
من كف أشوس بالحروب
مهذب |
وأسنة الرماح
تلمع في الدجى |
كوميض برق في
الدجى متلهب |
وعلى العوالي كل
نسر واقع |
يفري أديم الليث
منه بمخلب |
والرعد للأرماج
رعد قاصف |
والبحر يهدر
كالهزبر الأغلب |
والبر بحر بالدما
والبحر بر |
بالفرنج وكل كلب
أجرب |
وعلى السواحل غارة
شعواء ما |
فيها لمن يرجو
النجا من مهرب |
وأنا باوتار
القسى كأنني |
فيه أغني بالرباب
وزينب |
وأقول ليت أحبتي
يدرون ما |
أنا فيه من لهو
وعيش طيب |
وقال آخر:
ذكرتك والحجيج له
ضجيج |
بمكة والقلوب لها
وجيب |
فقلت ونحن في بلد
حرام |
به لله أخلصت القلوب |
أتوب إليك يا
رحمن مما |
جنيت فقد تكاثرت
الذنوب |
فأما عن هوى ليلى
وتركي |
زيارتها فإني لا
أتوب |
وقال آخر:
ولقد ذكرتك
والظلام معبس |
وأنا قعيد في
البيوت وحيدتي |
والجو يصفر من
قعودي في الهوا |
ما فيه خل يكون
عنيدتي |
والبق والناموس
حولي عسكر |
يتفاتلون على
شريب دميمتي |
والفار يلعب في
الزوايا دائماً |
وينط كالقعقاع
فوق كويرتي |
والعنكبوت يحوك
حلة خيمة |
يصطاد ذبابا تجوز
كويتي |
والأكل خبز مثل
رأسي يابس |
والشرب مر من
دخيل بليدتي |
وسماع نغماتي
طنين بعوضة |
وصرير صرصرة وصفر
بويمة |
فوددت تعنيق
الفويرة كلما |
نطت لأنك مثلها
في الخفة |
وحسدت أيدي
لعنكبوت لشبهها |
بأصابع لك شبهها
في الرقة |
وطربت من صوت
الصراصر نغمة |
إذ اشبهت نغمات
صوت حبيبتي |
فبكيت شوقاً حيث
لا أنت معي |
تتنعمين تنعمي في
غرفتي |
وقال آخر:
أرى كل معشوقين غيري وغيرها |
يلدان في الدنيا ويغتبطان |
وأمشي وتمشي في البلاد كأننا |
أسيران للأعداء مرتهنان |
أصلي فأبكي في الصلاة لذكرها |
لي الويل مما يكتب الملكان |
ضمنت لها أن لا أهيم بغيرها |
وقد وثقت مني بغير ضمان |
ألا يا عباد اللّه قوموا لتسمعوا |
خصومة معشوقين يختصمان |
وفي كل عام يستجدان مرة |
عتاباً وهجراً ثم يصطلحان |
يعيشان في الدنيا غريبين أينما |
أقاما وفي الأعوام يلتقيان |
نهض رجل، وقام في وسط الحلقة يصيح بتواجد ([3]) :ظظظ
ملك أنا.. لو تصبحين حبيبتي
لا تخجلي مني.. فهذي فرصتي
أغزو الشموس مراكباً وخيولا
لأكون رباً، أو أكون رسولا.
كان هؤلاء العاشقون منشغلين تماما عن كل ما حولهم، فلذلك لم يلتفتوا إلينا، ولم يلتفتوا إلى ما حولهم من مراعي مجذبة، وحيوانات هالكة، وديار قد تحولت قفرا ليس فيها سكن لأحد.
***
بعد أن يئست أن أجد قلبا منسجما مع العقل ومتصالحا معه في تلك البوادي سرت نحو بلاد أكثر تحضرا.. وقلت لنفسي: إن هؤلاء البدو الذين مرغوا قلوبهم في رمال الصحراء أقل شأنا من أن أسلم قلبي لما سلموا له قلوبهم.
وقلت لنفسي: ما أحقر أن تعيشي أمة عند من يسومك سوء العذاب، ثم لا تنالين بعد ذلك إلا الجنون.
كان أول من التقيت به في تلك البلاد المتحضرة امرأة بين الشباب والكهولة، رأيتها تبكي بحرقة لا تقل عن حرقة عروة وقيس وكل من مررت بهم من أهل الهوى.. اقتربت منها، وسألتها عن عدوها الذي أجرى دموعها، فقالت: ومن غيره.. إنه الحب.. أو هو الوهم الذي سكن قلبي، فدمره، ودمر معه كل حياتي.
قلت: لقد مررت بقوم من الناس يستلذون الحب، فكيف نفرت منه؟
قالت: وكيف لا أنفر من السراب الذي يحسبه ظمآن ماء، فإذا جاءه لم يجده شيئا؟
قلت: حدثيني عن شأنك.. فإن لي قلبا خاويا، وأنا أبحث عمن يملؤه.
قالت([4]): أنا ـ كما تراني ـ فتاة في التاسعة والعشرين من عمري، تعرفت على شاب أثناء دراستي الجامعية.. وكانت الظروف كلها تدعونا لكي نكون معاً رغم أنّه ليس من بلدي.. تفاهمنا منذ الوهلة الأولى.. ومع مرور الأيام توطدت العلاقة بحيث أصبحنا لا نطيق فراقاً.
قلت: هو الحب إذن؟
قالت: بل هو الوهم..
قلت: كيف ذلك؟
قالت: بعد انتهاء الدراسة عاد إلى بلده، وعدت إلى أسرتي، واستمر اتصالنا عبر الهاتف والرسائل، ووعدني بأنه سيأتي لطلب يدي عندما يحصل على عمل، وبالطبع وعدته بالانتظار.. لم أفكر أبداً بالتخلي عنه رغم توفر فرص كثيرة لبدء حياة جديدة مع آخر.
عندما حصل على عمل اتصل بي ليخبرني أنه آت لطلب يدي، وفاتحت أهلي بالموضوع، وأنا خائفة من رفضهم، ولكنهم لم يرفضوا.. سألني أبي فقط إن كان أحد من أهله سيأتي معه، ولمّا سألته عن ذلك تغير صوته، وقال : إنه قادم في زيارة مبدئية.. شيء ما بداخلي أقنعني بأنه لم يكن صادقاً.. وأتي بالفعل، وليته لم يأت، لأنه عاد إلى بلده وانقطعت اتصالاته، وكلّما اتصلت به تهرب منّي، إلى أن كتبت له خطاباً، وطلبت منه تفسيراً، وجاءني الردّ الذي صدمني، قال:(لم أعد أحبك، ولا أعرف كيف تغيّر شعوري نحوك، ولذلك أريد إنهاء العلاقة )
أدركت كم كنت مغفلة وساذجة لأنني تعلقت بالوهم ستّ سنوات.. ماذا أقول لأهلي؟ أشعر بوحدة قاتلة، وليست لدي رغبة في عمل أي شيء.
قالت ذلك، ثم انصرفت إلى دموعها.. وكأنني لم أحدثها، ولم تحدثني..
***
لم أسر إلا قليلا حتى رأيت أختا لها، ولكنها أقل منها عمرا، سألتها عن نفسها، فقالت: أنا فتاة في العشرين من عمري، لم أكن أؤمن بشيء اسمه الحبّ – وما زلت – ولا أثق مطلقاً بأي شاب، بل كثيراً ما كنت أنصح صديقاتي وأحذرهن من فخاخ الحبّ الزائف الذي لم أستطع أن أمنع نفسي من الوقوع فيه.. نعم، وقعت فيه..
كان ذلك في مكان عام.. شاب يلاحقني بنظراته، ويحاول أن يعطيني رقم هاتفه، فخفق قلبي له بشدة، وشعرت بانجذاب إليه، وأنه الفارس الذي ارتسمت صورته في خيالي ورأيته في أحلامي.. وكأنه قد لاحظ مدى خجلي وتردّدي، فأعطى الرقم لصديقتي، وأخذته منها والدنيا لا تكاد تسعني، واتصلت به، وتعارفنا، وتحدثنا طويلاً.. فكان مهذّباً جداً، وكنت صريحة وصادقة معه.
وشيئاً فشيئاً صارحني بحبه، وطلب مني الخروج معه.. رفضت في البداية، وأفهمته أني لست مستعدة لفقد ثقة أهلي، والتنازل عن مبادئي وأخلاقي التي تمنعني من تجاوز الحدود التي رسمتها لنفسي.. لكنه استطاع إقناعي، ويبدو أن الحبّ أعماني فلم أميّز الصحّ من الخطأ.. وخرجت معه، فكانت المرّة الأولى في حياتي، وصارحته برأيي فيه وفي أمثاله من الشباب، فلم يعجبه كلامي، وسخر مني، بل اتهمني بتمثيل دور الفتاة الشريفة، وأشبعني تجريحاً، وكان اللقاء الأول والأخير، فقد قررت التضحية بحبّي من أجل كرامتي، ولكنه احتفظ بكتاب يتضمن أشعاراً ومذكرات لي كتبتها بخطي، ووقعتها باسمي، وقد رفض إعادتها لي..
قالت ذلك، ثم انصرفت إلى بكائها..
***
تركتها، وسرت حتى التقيت ثالثة سمعتها تحدث نفسها، وتقول: (الأحلام تبقى أمامي، والأوهام تنبت في قلبي، والكلمات التي اخترتها لا تُكتب، لكنها توجد في فكري وأحاسيسي، حكاية فيها كل المعاناة التي أعيشها اليوم، منذ أن افتقدت الثقة، ومنذ أن أصبح الحبّ وهماً ومأساة أهرب منها أو أتجاهلها.. الحبّ لا يعترف بالحذر أو الخوف منه، فإما أن تطرق أبواب الحبّ وتوهم نفسك أنك تحبّ، وإما أن تهرب منه أو تتجاهله)
***
تركتها، وسرت حتى التقيت رابعة، سمعتها تقول لصاحبتها بلوعة وحزن: إياك أن تغتري بهذا الوهم، فهو لم يجلب للقلوب إلا الدمار، ولم يجلب للبيوت إلا الخراب.
قالت صاحبتها: أراك تذمين ما أجمع الكل على حمده.
قالت: كلهم يحمده في البداية، ولكنه سرعان ما يبدو لهم عواره.. اسأليني أنا.. لقد كتب لقلبي أن يقع أسيرا في شباكه، وكتب أن ينال في ذلك الأسر من الألم ما لم يذقه أعتى عدو لعدوه.
سأقص عليك قصتي لتكون عبرة لك.. في ذلك اليوم المشأوم اتصلت بالهاتف بإحدى صديقاتي، ورد علي أخوها، وجذبني إليه رقّة حديثه، بعدها وجدتُ نفسي مشدودة للتفكير فيه، والتعلق به.. وتكرر الاتصال، وتعمدت اختيار الأوقات التي لا تكون صديقتي موجودة فيها.. وتواعدنا على الزواج.
وفجأة.. لاحظت تهربه من الحديث معي، وانقطعت اتصالاته بي.. حاولت بأسلوب غير مباشر التعرف على أسباب هذا التحول، دون فائدة.. وأخيراً وبطريق الصدفة أخبرتني صديقتي أن أخاها قد وقع اختياره على إحدى القريبات، وسيتم زفافهما قريباً..
أصابتني دهشة أفقدتني توازني وقدرتي على الرد عليه.. وفقدت بعدها الثقة في نفسي وفي كل من حولي.. تقدم لي الكثيرون ولكنني رفضتهم جميعاً دون أي مبرر..
العمر يتقدم بي، لكني عاجزة عن نسيان هذا الجرح القديم، الذي تمكن مني لدرجة كبيرة بدأت تثير شكوك أهلي تجاهي، ولا أدري كيف أتخلص مما أنا فيه.
***
لم أسر إلا قليلا حتى وجدت رجلا يحادث آخر، يشكو إليه بمرارة، ويقول في شكواه:(.. بسبب ظروف عملي سكنت بعيداً عن زوجتي وأولادي، وكنت أسافر إلى بيتي يومين في الأسبوع، وأحياناً يوماً واحداً.. كنت أحبّ زوجتي كثيراً، وكانت هي كذلك، إلا أن ضعف مرتبي حال بيني وبين إحضارها للإقامة عندي..
وفي ليلة من الليالي اتصلت فتاة تريد التعرف بي، فرفضت ذلك، وأفهمتها بأني متزوج ولدي أطفال، وقمت بإقفال السماعة في وجهها، وما كان منها إلا أن أصرت على محادثتي والتعرف علي، ومن تلك اللحظة أصابني صداع لم يفارقني تلك الليلة، وفي اليوم التالي اتصلت بي، فرد عليها أحد زملائي فلم تكلمه، ثم ردّ عليها الثاني والثالث، فلم ترد إلا أنا، وفي ساعة متأخرة من الليل اتصلت، ولم يكن غيري، فرفعتُ سماعة الهاتف، وزيّن لي الشيطان محادثتها، وتعرفت عليها، ويا ليتني لم أفعل، فلقد زلزلت كياني، وزرعت طريقي أشواكاً، بل لقد فرقتني عن زوجتي وأولادي، فلم يعد لهم في قلبي من الحبّ مثل ما كان قبل ذلك، كان فكري في ذلك الشيطان الذي تمثل لي في صورة تلك الفتاة، فقدت أعصابي مع زوجتي وأولادي، أثور عليهم لأدنى سبب، بسبب تلك الفتاة التي زرعت المرض والخوف في أعماقي.. حاولت أن أقاطعها فلم أقدر.. كانت تلعب بأعصابي كثيراً.. نسيتُ حتى عملي من كثرة السهر، ومع ذلك أصابني الاكتئاب النفسي، وذهبت إلى عيادة الأمراض النفسية، وأعطوني أقراصاً فلم ينفع معي أي علاج)
***
تركته، فلم أسر إلا قليلا حتى سمعت شابة صغيرة تقول لصاحبتها:( لقد كنت متفوقة في دراستي، لكني أحببت أحد المشاهير بشكل جنوني، فملأت بصوره الكبيرة حجرتي، ودسست صوره الصغيرة في كل كتبي، وكنت أحلم دائماً بلقائه، وأثور إذا تحدثت عنه زميلاتي.. بدأ مستواي الدراسي في الانحدار بسبب هذا الحبّ الجنوني، لدرجة أني أخشى من الاستمرار في الانحدار، وفي نفس الوقت لا أستطيع التغلب على مشاعري، وأشعر بأنني وحدي في مشكلة تهدد مستقبلي، ولا أستطيع مصارحة أحد بها..
***
تركتها تهذي بهذا الهذيان، وسرت نحو بلاد أخرى أكثر تحضرا، بحثا عن القلب الذي ينسجم مع العقل ومع كل اللطائف التي أودعها الله في.. وهناك فرحت كثيرا.. لقد تصورت أني قد وجدت غايتي، فقد وصلت في يوم يقال له (يوم الحب)([5])، وقد رأيت فيه الورود المتناثرة، والقلوب المتضامة، ولم أر فيه قطرة دمع واحدة، ولا مجنونا واحدا، فقلت لقلبي: في هذه البلاد سوف تقيم.. وفي هذه البلاد ـ التي لا تمتلئ بغير الورود ـ سوف تمتلئ بالهوى الممتلئ بالسلام والسكينة والسعادة.
لقد بقيت أحمل هذه الفكرة الجميلة إلى المساء.. لم تعش معي هذه الفكرة إلا تلك السويعات من الصباح إلى المساء.. ثم عدت بعدها إلى آلامي.
قلنا: كيف كان ذلك؟ ولم كان ذلك؟
قال: في المساء.. وعندما ذبلت تلك الورود، وذهب عنها عطرها الذي كانت تختال به، وذهب عنها بريق جمالها الذي كانت تحل بسببه أشرف المواقع.. وبعدما رميت تلك الورود وديست بالأقدام رأيت من دلني على ما كان يحمله ذلك الحب أو ذلك السراب من قنابل الصراع.
كان أول من التقيت امرأة، لا تبكي بدموعها، ولكن قلبها يكاد يحترق.. عندما رأيتها رحمتها، فقد رأيت جميع أحزان العالم تختزن في مقلتيها اللتين شحتا بالدموع، فاقتربت منها، وسألتها عن سرها، فقالت: إنني فتاة لا تستحق الرحمة أو الشفقة.. لقد أسأت إلى والدتي وأخواتي، وجعلت أعينهم دوماً إلى الأرض، لا يستطيعون رفعها خجلاً من نظرات الآخرين.
كل ذلك كان بسببي.. لقد خنت الثقة التي أعطوني إياها بسبب ذلك الحب اللعين.
بسبب ذلك الإنسان المجرد من الضمير، الذي أغراني بكلامه المعسول، فلعب بعواطفي وأحاسيسي حتى أسير معه في الطريق السيء..
وبالتدريج جعلني أتمادى في علاقتي معه إلى أسوأ منحدر.. كل ذلك بسبب الحب الوهمي الذي أعمى عيني عن الحقيقة، وأدى بي في النهاية إلى فقدان أعز ما تفخر به الفتاة، ويفخر به أبواها، عندما يزفانها إلى الشاب الذي يأتي إلى منزلها بالطريق الحلال..
لقد أضعت هذا الشرف مع إنسان عديم الشرف، إنسان باع ضميره وإنسانيته بعد أن أخذ مني كل شيء، فتركني أعاني وأقاسي بعد لحظات قصيرة قضيتها معه..
لقد تركني في محنة كبيرة بعد أن أصبحت حاملاً.. وآنذاك لم يكن أحد يعلم بمصيبتي سوى الله.. وعندما حاولت البحث عنه كان يتهرب مني، على عكس ما كان يفعله معي من قبل أن يأخذ ما يريد.. لقد مكثت في نار وعذاب طوال أربعة أشهر، ولا يعلم إلا الله ما قاسيته من آلام نفسية بسبب عصياني لربي، واقترافي لهذا الذنب.. ولأن الحمل أثقل نفسيتي وأتعبها.. كنت أفكر كيف أقابل أهلي بهذه المصيبة التي تتحرك في أحشائي؟.. فوالدي رجل ضعيف، يشقى ويكد من أجلنا، ولا يكاد الراتب يكفيه.. ووالدتي امرأة عفيفة، وفرت كل شيء لي من أجل أن أتم دراستي لأصل إلى أعلى المراتب.
لقد خيبت ظنها، وأسأت إليها إساءة كبيرة لا تغتفر، لا زلت أتجرع مرارتها حتى الآن..
إن قلب ذلك الوحش رقّ لي أخيراً حيث ردّ على مكالمتي الهاتفية بعد أن طاردته.. وعندما علم بحملي، عرض على مساعدتي في الإجهاض وإسقاط الجنين الذي يتحرك داخل أحشائي.. كدت أجنّ.. لم يفكر أن يتقدم للزواج مني لإصلاح ما أفسده([6]).. بل وضعني أمام خيارين : إما أن يتركني في محنتي، أو أسقط هذا الحمل للنجاة من الفضيحة والعار..
ولمّا مرت الأيام دون أن يتقدم لخطبتي، ذهبت إلى الشرطة لأخبرهم بما حدث من جانبه، وبعد أن بحثوا عنه في كل مكان وجدوه بعد شهرين من بلاغي، لأنه أعطاني اسماً غير اسمه الحقيقي.. لكنه في النهاية وقع في أيدي الشرطة، واتضح أنه متزوج ولديه أربعة من الأولاد، ووضع في السجن.
وعندما علمت أنه متزوج أدركت كم كنت غبية عندما سرت وراءه كالعمياء..
ولكن ماذا يفيد ذلك بعد أن وقعت في الهوة السحيقة التي جعلتني أتردى داخلها ؟!
لقد ظن أنني ما زلت تلك الفتاة التي أعماها كذبه، فأرسل إلي من سجنه امرأة تخبرني بأنني إذا أنكرت أمام القاضي أنه انتهك عرضي فسوف يتزوجني بعد خروجي من السجن.. لكني رفضت عرضه الرخيص.
قلت: فماذا تفعلين الآن؟
قالت: لقد رجعت إلى بيتي، واتخذتها سجني.. وها أنا قابعة فيه لا أكلم أحداً، ولا يراني أحد، بسبب تلك الفضيحة التي سببتها لأسرتي، فأهدرت كرامتها، ولوثت سمعتها النقية..
لقد أصبح والدي كالشبح يمشي متهالكاً يكاد يسقط من الإعياء.. بينما أصبحت أمي هزيلة ضعيفة، تهذي باستمرار، وسجنت نفسها بإرادتها داخل المنزل خشية كلام الناس ونظراتهم.
***
تركتها لأسمع أخرى، وهي تقول: أنا فتاة جامعية.. أحببت شاباً بكل معنى الكلمة.. واخترته حبيباً لقلبي ورفيقاً لدربي بموافقة ومباركة الأهل، وفيما كنا نقوم بالاستعداد للزواج فوجئنا باعتراضات رسمية، وعقبات وهمية، حالت دون إتمام فرحتنا، لكننا لم نستسلم، فحاولنا التغلب عليها، وضحينا بالكثير دون جدوى، ولم نفقد الأمل رغم وصولنا إلى طريق مسدود.
واستمرت اللقاءات والاتصالات بيننا، وفي ذات يوم نسينا أنفسنا في غمرة الحب، فكان الشيطان ثالثنا..
ومن هنا بدأت المشكلة أو المأساة الكبرى، فبدلاً من تصحيح غلطته أو غلطتنا، فوجئت به يتهمني زوراً وظلماً بأبشع التهم، ويزعم ويدعي بأني لم أكن عذراء، واتخذ من ذلك حيلة للتهرب من المسؤولية، وتصحيح غلطة فظيعة ارتكبناها في لحظة طيش.
كيف يمكن أن يحدث لي هذا، ولم يمسسني أحد غيره، وقد أقسمت له أني لم أعرف رجلاً قبله ولا بعده، وبكيت أمامه، وتوسلت إليه ألا يتخلى عني، فواعدني خيراً، وعاد يؤكد حبه لي.
وكثرت اللقاءات بيننا، وكنت أحرص خلالها على عدم إغضابه، وكان هو الآمر الناهي، والقاضي والجلاد، ثم بدأ يتهرب مني، وينتحل الأعذار، وأخيراً طال غيابه وانقطعت أخباره، فأدركت أنني كنت الجانية على شرفي والضحية، وأنني قد حكمت على نفسي بالإعدام.
لقد صبرت، وانتظرت بما فيه الكفاية، ورفضت عشرات الشبان خوفاً من افتضاح أمري فتكون نهايتي.
قالت ذلك، ثم غرقت في دموعها، ولم أتبين منها سوى ما ذكرته لكم.
***
سرت إلى بلاد أخرى.. فصادف دخولي إليها رؤيتي لمنظر بشع لا زال يلح كل حين على ذاكرتي.
قلنا: وما رأيت؟
قال: لقد رأيت فتاة صبت على نفسها البنزين، ثم أسرعت إلى رجل كان قريبا منها، ثم عانقته، ثم أشعلت عود الثقاب، فاحترقا جميعا، ولم يستطع الجمع المحيطين بهما أن يفعلوا شييئا.
قلنا: عجبا.. لم فعلت هذا؟
قال: لقد سألت المحيطين بها، وقد أخبروني أن سبب ذلك هو الحب.. فقد تخلى حبيبها عنها، وارتبط بأخرى.. وكانت قبل ذلك قد حبست نفسها في غرفتها بمنزلها مدة ثلاثة أيام متتالية..
وقد قالت لي إحدى جاراتها: إن هذه الشابة المسكينة لم تتوقف عن البكاء طيلة تلك الفترة، وقد حاولت مواساتها، لكنها ردت علي بأنها قد رتبت لقاءً أخيراً مع حبيبها الذي ألحق بها ضرراً بالغاً.. وتم اللقاء الأخير الذي تحول إلى مواجهة عنيفة بينهما، ثم دخلا في مشادة كلامية حادة، وعندها توجهت الفتاة إلى مكان قريب، وتناولت وعاء مليئاً بالبنزين، فصبته على جسدها أمام حشد من الناس، وأشعلت النار، وقد حاول (الحبيب) منعها، لكنها انقضت عليه وهي تشتعل ناراً، واحتضنته بكل ما أوتيت من قوة ليحترقا جميعاً..
***
ما سرت إلا قليلا حتى رأيت شابا يطلق الرصاص على امرأة كانت بجانبه، ثم يطلق النار على نفسه بعدها، فسألت عنهما، فقالوا: لقد عاش هذا الشاب في السنوات الأخيرة قصة عاطفية لم تُكتب لها نهاية سعيدة بعد أن اصطدمت ببعض المعوقات، بحسب رسالة تركها المنتحران بخط يديهما، قالا فيها : إنهما أقدما على الانتحار بكامل إرادتهما وقواهما العقلية.
ثم سمعت بعدها بطيار فضل الانتحار ومعه جميع الركاب، حين علم بوجود رجل على متن الطائرة التي يقودها كان قد انتزع منه فتاة يحبها على الرغم من اعتراضه سلفاً على وجوده في الطائرة، فما كان منه إلا أن قاد حفلة موت جماعية ذهب ضحيتها جميع الركاب.
ثم سمعت بامرأة وضعت السم لزوجها قبل زفافهما بيوم واحد حتى تتمكن من الزواج بشاب آخر تحبه منذ فترة طويلة.. وكان العريس قد توجه إلى منزل عروسه ليعرض عليهم كروت الدعوة لحفل الزفاف، فقدمت له العروس كوب شاي مسموم، وفور خروجه من المنزل سقط على الأرض، واكتشف الأطباء أنه مات مسموماً.
***
بعدها سرت إلى إيطاليا، وبالضبط إلى مدينة فيها يقال لها (فيرونا)، وهناك قدر الله لي أن أعيش أحداث مأساة روميو وجولييت.. لعلكم سمعتم بها.
قلنا: حدثنا عنها.
قال: قصتهما طويلة.. لقد حاول شكسبير بما أوتي من قوة قريحة أن يعبر عنها.. لكنه في الحقيقة لم يعبر إلا عن الظواهر التي رآها أو التي حاول أن يراها.. أما الحقيقة.. والتي ذقت مثلها.. فأعظم من أن يعبر عنها.
لقد كان روميو وجوليت مثالا عن الصراع الذي يعانيه أصحاب القلوب.. أصحاب القلوب الذين غمسوا قلوبهم في الطين المدنس..
قلنا: لقد شوقتنا، فحدثنا.
قال: لقد كانا شابين من فيرونا في إيطاليا، وقد وقعا ضحية عداء مرير بين عائلتيهما، عائلة مونتاجيو وعائلة كابيوليت.. وقد التقى روميو، وهو من عائلة مونتاجيو، بجولييت وهي من عائلة كابيوليت، في حفلة تنكرية أقامتها عائلة كابيوليت.. وحضر روميو تلك الحفلة بالرغم من أنه لم يُدْعَ هو ورفاقه إليها.. وفي تلك الحفلة صلي روميو بنار جولييت، وصليت جولييت بنار روميو.
وقد تزوج العاشقان في اليوم التالي سرًا بمساعدة الراهب لورانس، ولدى عودة روميو من حفل زواجه التقى بابن عم جولييت، واسمه تايبولت.. وقد تحرش هذا بروميو محاولاً الدخول في قتال معه، لكن روميو رفض قتاله، وهب صديق روميو واسمه ميركوشيو، وقبل التحدي دفاعًا عن شرف عائلة مونتاجيو، وعندما حاول روميو التدخل لفض النزاع، قام تايبولت بطعن ميركوشيو حتى الموت، مما يدفع روميو إلى قتل تايبولت، وأسفر ذلك عن إبعاد روميو عن فيرونا.
وفي أثناء ذلك حاول والد جولييت إجبارها على قبول الزواج من ابن عمها باريس، دون أن يدري بأنها متزوجة من روميو، لكن الراهب لورانس قام بإعطائها عقارًا يجعلها في حالة نوم تشبه الموت لمدة أربع وعشرين ساعة من أجل مساعدتها على التخلص من ضغوط والدها عليها بالزواج، ثم أرسل الراهب إلى روميو رسالة في منفاه يوضح له فيها ما فعل، لكن رسالته وصلت متأخرة حيث سارع روميو إلى قبر جولييت، وتجرع سمًا واستلقى إلى جانبها في القبر، وعندما استيقظت جولييت ووجدت زوجها ميتًا إلى جانبها، طعنت نفسها وماتت هي الأخرى.
هذه هي قصة روميو وجولييت الظاهرة.. أما قصتهما الباطنة، فلا يطيق التعبير عنها إلا من ذاق من ذلك الحب ما ذقت، وما ذاقه كل العشاق.
قال ذلك، ثم غرق في صمت عميق.. انتظرناه برهة، فلما لم يستأنف حديثه قلنا له: لقد حدثتنا عما رأيت، فحدثنا عما حصل لك.
قال: كل ما رأيتم من آلام حصل لي.. لقد كان الكل معبرا عني..
بعد أن قطعت كل تلك المفاوز شاء الله لقلبي أن يمتلئ بحب غانية من الغواني أذاقته من الهوان، ومن المراراة، ومن ذلة الاستعباد، ما لم أر مثله في حياتي..
قلنا: فهل ظفرت بها؟
قال: وهل يمكن لأحد أن يظفر بالسراب؟.. لقد صدق من نصحني.. ولكني لم أنتصح.
قلنا: فكيف ظهر لك أن تفارقها بعد كل تلك المحبة التي وصفت؟
قال: لم أفارقها أنا.. بل هي التي فارقتني.. لقد باعتني بثمن زهيد من متاع الدنيا.. فارقتني لتترك قلبي مملوء بحسرات لا يمكن لأحد في الدنيا أن يتحملها.
قلنا: فماذا فعلت؟
قال: لقد رحت أفعل ما فعل كل العشاق.
قلنا: تقصد الانتحار؟
قال: لم يعد للحياة معنى بعدها.. لقد كنت أصبح متألما، وأمسي متألما.. إلى أن عجز جسدي عن تحمل الألم، فراح يطالبني بالخلاص.
قلنا: فماذا فعلت؟
قال: لقد حفرت قبرا.. ورقدت فيه.. وهممت بشرب ما استحضرت من أدوية الموت.. لكني ما إن هممت حتى سمعت صوتا في المقبرة يردد بلحن عذب، فيه من ألحان العشق ما تعودت سماعه، لكنه يختلف عنها جميعا.. لقد كان مملوءا بالقوة والعزة والجمال.. وفوق ذلك كله بالسلام الذي لم أر له وجودا مع أي حب عشته أو رأيته.. لقد كان ذلك الصوت يقول:
كانت لقلبي أهواء مفرقةٌ |
فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي |
فصار يحسدني من كنت أحسده |
وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي |
تركت للناس دنياهم ودينهم |
شغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي |
ثم يقول بعدها متغنيا بصوت شجي متحدثا عن تأثير تلك المحبة العميقة العظيمة:
وإنْ خَطَرَتْ
يَوماً على خاطِرِ امرِىءٍ |
أقامَتْ بهِ
الأفْراحُ، وارتحلَ الهَمُ |
ولو نَضَحوا
مِنها ثَرى قَبْرِ مَيتٍ، |
لعادَتْ إليهِ
الرُّوحُ، وانْتَعَشَ الجسْم |
ولو طَرَحوا في
فيءِ حائِطِ كَرْمِها، |
عليلاً، وقد
أشْفى، لفارَقَهُ السّقَمُ |
ولو قَرَّبوا، من
حانِها، مُقْعَداً مَشى |
وتِنْطِقُ مِن
ذِكرِى مَذاقَتِها البُكْمُ |
ولو عَبِقَت في
الشَّرْقِ أنْفاسُ طيبها، |
وفي الغَرْبِ
مَزْكومٌ، لَعادَ لهُ الشم |
ولو خُضِبتْ،
مِنْ كأسِها، كفّ لامِسٍ |
لَما ضَلّ في
ليلٍ، وفي يَدِهِ النَّجمِ |
ولو جُلِيَتْ،
سِرّاً، على أكمَهٍ غَدا بَصيراً، |
ومِن رَاوَوقِها
تَسمعُ الصّمّ |
ولو أنّ ركْباً
يَمّمَوا تُرْبَ أرْضِها، |
وفي الرَّكبِ
مَلْسوعٌ، لما ضَرّهُ السّمُ |
ولو رَسَمَ
الرّاقي حُرُوفَ اسمِها، |
على جَبينِ
مُصابٍ جُنَّ، أبْرَأَهُ الرَّسمُ |
رميت ما كان معي من أدوية الموت، ورحت أسرع إلى مصدر الصوت، وأنا أصيح: هذا ما أبحث عنه، فأين أجده؟
قال: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:115)
قلت: ما تقصد؟
قال: كل من غاب عنه حبيبه اهتم، وكل من فارقه حبيبه تألم، وكل من قاطعه حبيبه انقطع.
قلت: أعرف ذلك.. وقد صليت بناره.. ولم آت إلى هنا إلا بسببه.
قال: فابحث عن الحبيب الذي لا يغيب ولا يفارق ولا يقاطع.. وابحث عن المحبة التي لا تورثك إلا العزة والخلود والكمال والجمال.
قلت: وأين أجدها؟
قال: لقد قلت لك: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:115)
قلت: وما علاقة ذلك بهذا؟.. إن ما قرأته يتحدث عن الله.
قال: وهل هناك أحد يمكن أن يتشرف القلب ويتقدس بمحبته غير الله؟
قلت: الله يعبد.
قال: أعظم عبودية توجه لله هي محبته.. فلا خير في الحركات التي لا تصحبها المحبة.. إنها لا تكاد تختلف عن النفاق والرياء والخداع.
قلت: لقد جربت الحب، وذقت من آلامه ما رماني في هذه المقبرة.. ولولا تلك الأبيات التي سمعتها منك لكنت الآن في الموتى.
قال: ذلك هو الحب المدنس.. إنه لا يرميك إلا للمقابر أو مارستانات المجانين.. لأنه حب يبدأ بالصراع، وينتهي بالصراع.
قلت: الصراع!؟
قال: أجل.. كل محب يريد أن يستولي على قلب محبوبه، ويستأثر به.. فإذا ظفر به سامه من ألوان العذاب ما لعلك رأيت بعضه.
قلت: وهل هناك حب مقدس؟
قال: أجل.. وهو حب واحد.
قلت: حب من؟
قال: حب الواحد.. فحب كل ما عداه داء وألم..
قلت: إني أشعر بجمال ما تقول.. لكن ذهني لا يزال كليلا دون فهمه.
قال: يحق لك أن لا تفهم هذا.. فمن الصعب على من ارتمى في دنس الأدناس أن يترقى إلى قدس الأقداس.
قلت: أنت تعيدني إلى اليأس إذن؟
قال: لا.. بل أنا أنشر فيك الهمة.. فلا يمكن لمنحط الهمة أن يطمع في مثل هذا الحب.
قلت: وما علاقة الهمة بهذا؟
قال: صاحب الهمة العالية يترفع أن يسلم قلبه لأي كان.. إنه يبحث عن المحل المناسب له.. لقد حدث بعض العارفين، وكان اسمه بشر بن الحارث قال: مررت برجل وقد ضرب ألف سوط في شرقية بغداد، ولم يتكلم ثم حمل إلى الحبس، فتبعته فقلت له: لم ضربت؟ فقال: لأني عاشق، فقلت له: ولم سكت؟ قال: لأنّ معشوقي كان بحذائي ينظر إليَّ، فقلت: فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر قال: فزعق زعقة خرّ ميتاً..
قلت: لكني تعودت أن لا أحب إلا من أرى.
قال: والله لا يغيب عن المحبين أبدا.. إن لم يروه بالأبصار المدنسة بدنس التبشبيه، رأوه بالبصائر المقدسة بأنوار التنزيه..
قلت: لقد ذكرت لك أني أشعر بجمال كلماتك.. ولكن عقلي لا يزال كليلا دون فهمه.. فهلا انتقلت من الترقيق إلى التحقيق.
قال: لك ذلك.. فهذا هو الحب الوحيد الذي ينسجم فيه العقل مع القلب مع النفس.. ومع جميع اللطائف التي يتكون منها بنيان الإنسان.
قلت: من السهل عليك أن تقول هذا.
قال: ومن السهل علي أن أثبته لك.
قلت: إنك أن أثبته لي لم تخلصني أنا فقط.. بل ستخلص العالم أجمع.. هذا العالم الأسير لقلبه.
قال: لاشك أنك مررت في برية الحب المدنس بالمرضى والمجانين والحزانى والغافلين والمتوهمين والمنحرفين والقتلة..
قلت: لكأنك كنت معي في رحلتي.
قال: لم أكن معك بجسدي.. ولكن حقيقتي كانت معك.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لقد كنت أنا كل أولئك.. لقد صليت بجميع نيران الحب المدنس.. إلى أن جاء اليوم الذي حفرت فيه قبرا.. وكدت أسلم نفسي للموت.. ولولا أن الله خلصني بشمس الهداية لكنت الآن في حفرة من هذه الحفر.
قلت: لكأنك تحدثني عن نفسي.
قال: الإنسان واحد.. وسنن الله واحدة.. لقد أبى الله إلا أن يعذب من رغب عنه إلى غيره..
قلت: فما الذي رغبك في هذا الحب الذي تسميه مقدسا؟
قال: أشياء كثيرة.. لا يمكن حصرها.. ولكني سأكتفي بسبعة تقابل تلك السبعة التي صليت بنارها.
قلت: فما هي؟
قال: الصحة.. والعقل.. والفرح.. والحضور.. والحقيقة.. والاستقامة.. والحياة.
قلت: فحدثني عن الصحة.. فإن أول ما ينشره الحب في أهله هو تلك الأدواء التي لا يجد صاحبها لها ترياقا.
ابتسم، وقال: لقد عبر شعراؤكم من بني عذرة على ذلك، فقال أحدكم:
الحب داء عضال لا
دواء له |
يحار فيه الأطباء
النحارير |
قد كنت أحسب أن
العاشقين غلوا |
في وصفه فإذا
بالقوم تقصير |
قلت: بل منهم من زاد على ذلك، فراح يصيح:
ألا ما الهوى
والحب بالشيء هكذا |
يذل به طوع
اللسان فيوصف |
ولكنه شيء قضى
الله أنه |
هو الموت أو شيء
من الموت أعنف |
فأوله سقم وآخره
ضنى |
وأوسطه شوق يشف
ويتلف |
وروع وتسهيد وهم
وحسرة |
ووجد على وجد
يزيد ويضعف |
قال: صدق الشاعر، فالحب في مقياس الحقيقة موت حقيقي، فالروح المسلوبة، الغائبة عن نفسها، الفانية عن وجودها، المستسلمة لهواها روح ميتة.. ولذلك يعتبر العارفون هذه الحال مرضا نفسيا لا يقع فيه إلا ضعاف العقول، قال الغزالي: (ما العشق إلا سعة إفراط الشهوة، وهو مرض قلب فارغ لا هم له)
قلت: سلمت لك بهذا.. فهل يخلو الحب الذي تدعو إليه من هذا؟
قال: أجل..
قلت: أثبت لي ذلك.
قال: ما أول ما ينشر المرض في المحبين؟
قلت: أشياء كثيرة.. منها فراق المحبوب أو إعراضه أو غيابه أو بغضه..
قال: ولذلك كان ذلك الحب مدنسا.. فمن الجنون أن تحب من يفارقك أو يعرض عنك أو يغيب أو يبغض..
قلت: لقد عرفت هذا الجنون في الحب المدنس.. فكيف يخلو المقدس من هذا الدنس؟
قال: أما الفراق.. فإن محب الله لا يعرفه.. فالله لا يغيب أبدا.. بل هو أقرب إلينا من أنفسنا.. لقد قال الله تعالى يذكر قربه من عباده :{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ )(البقرة: من الآية186)، وقال تعالى :{ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)(هود: من الآية61)، وقال تعالى:{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (يونس:61)، وقال تعالى :{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (قّ:16)، وقال تعالى :{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ)(الواقعة:85)، وقال تعالى:{ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(المجادلة: من الآية7)
وقد روي أن أعرابيًا قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )(البقرة: من الآية186)([7])
وسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أين ربنا؟ فأنزل الله عز وجل:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )(البقرة: من الآية186}([8])
وعن أبي موسى الأشعري، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غَزَاة فجعلنا لا نصعد شَرَفًا، ولا نعلو شَرَفًا، ولا نهبط واديًا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير. قال: فدنا منا فقال: (يا أيها الناس، أرْبعُوا على أنفسكم؛ فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته. يا عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله)([9])
سكت قليلا، ثم قال: لقد قال العارفون الذين ذاقوا لذة هذا القرب يعبرون عن هذا:
ومن عجب أني أحن إليهم |
وأسأل عنهم من أرى وهم معي |
وتطلبهم عيني وهم في سوادها |
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي |
وقال الشبلي: رأيت جارية حبشية فقلت: من أين؟ قالت: من عند الحبيب قلت: وإلى أين؟ قالت: إلى الحبيب قلت: ما تريدين من الحبيب؟ قالت: الحبيب.
قلت: والإعراض!؟
فمن البليةِ أن تح |
بَ ولا يحبكَ من تحبهْ |
ويصدَّ عنكَ بوجهِه |
وتلح أنتَ فلا تغبه |
قال: كلهم قد يعرض عنك إلا الله.. فالله الكريم لا يعرض عن عباده، بل يقبلهم، بل إنه يدعوهم بكل الأساليب ليقبلوا عليه، رحمة منه وتفضلا ومودة.. لقد ورد في الأخبار أنه كان في بني إسرائيل شاب عبد الله تعالى عشرين سنة ثم عصاه عشرين سنة، ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال: إلهي إني أطعتك عشرين سنة ثم عصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟ فسمع قائلاً يقول ولا يرى شخصاً: أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأهملناك وإن رجعت إلينا قبلناك.
وفي الأثر الإلهي من خطاب الله لعباده :
(متى جئتني قبلتك..
إن أتيتني ليلا قبلتك.. وإن أتيتني نهارا قبلتك..
إن تقربت مني شبرا تقربت منك ذراعا.. وإن تقربت مني ذراعا تقربت منك باعا.. وإن مشيت إلى هرولت إليك.
لا تحجبك الخطايا عني، فلو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة.. ولو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك.
هل هناك من هو أعظم مني جودا وكرما..
عبادي يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فرشهم.
إني والجن والإنس في نبإ عظيم: أخلق ويعبد غيري وأرزق، ويشكر سواي خيري إلى العباد نازل وشرهم إلى صاعد أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي.
من أقبل إلي تلقيته من بعيد ومن أعرض عني ناديته من قريب ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد ومن أراد رضاي أردت ما يريد ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد.
أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا إلي فأنا حبيبهم فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب.
من آثرني على سواي آثرته على سواه الحسنة عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والسيئة عندي بواحدة فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له.
أشكر اليسير من العمل وأغفر الكثير من الزلل.
رحمتي سبقت غضبي وحلمي سبق مؤاخذتي وعفوي سبق عقوبتي أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها)([10])
بهذا الحديث الودود وغيره يخاطبنا ربنا، وبهذه العذوبة والجمال يدعونا إليه، ليرفع الحجب التي تحول بيننا وبينه، ويزيل الأعذار التي تعتذر بها عن التقرب إليه.
قلت: والبغض!؟.. إن أخوف ما يخاف المحب أن يبغضه محبه.
قال: لن تلقى من الله إلا المحبة.. فالله هو الودود الذي غمر الأكوان بوده.. ولذلك لا يعرض الله إلا على من أعرض عنه.. ولا يبغض إلا من أبغضه أو أبغض التقرب إليه.
قلت: عرفت الأول.. فحدثني عن الثاني..
قال: لقد رأيت في برية الحب المدنس المجانين، وهم يهيلون على رؤوسهم التراب، ورأيت الأطفال، وهم يرمونهم بالحجارة.
قلت: أجل.. لقد رأيت ذلك.. وقد أصابني بعض ذلك.
قال: أتدري لم؟
قلت: لم أتعود البحث في أسرار الحب.. كنت أكتفي بالتعجب.. أو كنت أكتفي بأن أصلى بناره دون أن أبحث عن كيفية الخروج منه.
قال: لقد خلق الله لكل لطيفة من لطائف الإنسان محلها الذي لا تكمل إلا به.. ولا تستقر إلا به.. ولا تسكن إلا به.. فإن تحقق لها ذلك نعمت وسعدت وسلمت.. وإن لم يتحقق ثارت.. وقد يكون الجنون ثورة من ثوراتها.
قلت: قرب لي هذا.
قال: لقد خلق الله للمعدة طعاما هيأه لها في مطابخ القدرة يتناسب معها تناسبا تاما، فإن أقبلت عليه سلمت، وإن أعرضت عنه إلى ما لا يصلح لها أصابها من الجنون ما يملأ صاحبها بالألم.. ومثل ذلك خلق للرئتين هواء معينا تتنفسه.. فإن أعرضت عنه إلى غيره أصابها صاحبها من الضيق والألم ما قد يسلمه إلى الموت.
قلت: ما تقوله صحيح.. ولا يمكن لأحد أن يشك فيه.
قال: وهكذا عالم اللطائف.. لقد خلق الله قلب الإنسان.. والذي هو محل المواجيد محلا متوجها توجها كليا إلى الجمال الخالد الثابت الكامل.. فلذلك تجده يطلبه في كل محل، ويبحث عنه في كل مرآة..
قلت: ولكن لم يرضى بالجمال الزائل المتزعزع الناقص؟
قال: الغفلة ووساوس الشياطين.. وما يلقنه إياه رجال بني عذرة.
قلت: تقصد قومي؟
قال: أجل.. وفي البشر مثلهم كثير.. إنهم رجال صرفوا تلك اللطيفة من عالم القدس إلى عالم الدنس.. فصار الإنسان عبدا للإنسان.. وتمرغ عقل الإنسان السماوي وكرامة الإنسان السماوي في أوحال الطين.
قلت: ولكن القلب يجد بعض اللذة في ذلك؟
قال: إنها لذة لا تختلف عن لذة الخمرة([11]).. ألم تسمع شعراءكم وهم يرددون:
سكران سكر هوى
وسكر مدامة |
ومتى إفاقة من به
سكران |
وعبر الآخر عن ذلك بقوله:
تسقيك من عينها
خمرا ومن يدها خمرا |
فما لك من سكرين
من بد |
لي سكرتان
وللندمان واحدة |
شيء خصصت به من
بينهم وحدي |
وعبر صفي الدين الحلي عن ذلك بقوله:
للعشقِ سكرٌ
كالمدا |
مِ (كالمدام)
إِذا تمكنَ في العقولِ |
يبقى اليسيرُ من
الكث |
رِ (الكثر) فكيفَ
ظنُّكَ بالقليلِ |
وعبر الشريف المرتضى عن ذلك، فقال:
صحا الذي يشربُ
الصهباءَ مترعةً |
وشاربُ الحُبِ
أعيا أن يقالَ صَحا |
لقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المعنى الذي هو حقيقة الحب وأثره، بقوله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 حبك الشيء يعمي ويصم)([12])،
أي أن هذا النوع من الحب يجعل المحب مثل السكران لا يرى الأشياء على حقيقتها، فيعمى عن رؤية عيوب المحبوب، ويصم عن سماع العذال والناصحين، بل قد يلتذ بملامتهم ونصحهم لذكرهم محبوبه، كما قال شاعركم:
وقف الهوى بي حيث
أنت |
فليس لي متأخر
عنه ولا متقدم |
وأهنتني فأهنت
نفسي جاهدا |
ما من يهون عليك
ممن يكرم |
أشهبت أعدائي
فصرت أحبهم |
إذ كان حظي منك
حظي منهم |
أجد الملامة في
هواك لذيذة |
حبا لذكرك
فليلمني اللوم |
ولهذا نهت الملائكة لوطا u عن خطاب قومه ودعوتهم، وجعلت سبب ذلك ما يقعون فيه من سكر الهوى، قال تعالى :{ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ }(الحجر:72)
فلذة السكر يغيب معها العقل الذي يعلم به القول ويحصل معه التمييز، كما قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } (النساء: من الآية43)
فالآية الكريمة اعتبرت الغاية التي يزول بها حكم السكر أن يعلم السكران ما يقول، فمتى لم يعلم ما يقول فهو في السكر، فإذا علم ما يقول خرج عن حكمه.
قلت: أكل ذلك الحب الذي تغنى به قومي من بني عذرة لم يكن إلا نشوة لا تختلف عن نشوة الخمر؟
قال: أجل.. وليس من فرق بينهما إلا فارق زمني بسيط.. فنشوة الخمر تأثيرها يمتد ساعات، بينما نشوة الحب الموهوم قد تمتد إلى سنوات.
قلت: وإلام تنتهي؟
قال: إلى ما تنتهي إليه نشوة الخمر.. صداع في الرأس، وتهتك في الجسد، وانتكاسة في الروح، وجنون في العقل..
قلت: فهذا الحب الذي يتغنى به كل أولئك لا يعدوا أن يكون نوعا راقيا من أنواع المسكرات، أو صنفا ممتازا من أصناف المخدارت!؟
قال: أجل.. فأي سكير أو مدمن خمر يجد ما يجده المحب العاشق، فكلاهما قد يظفر باللذة، وكلاهما يعيش عالم اللاوعي واللاعقل، وكلاهما في الأخير يزول عنه ذلك السكر بانتهاء مدة تأثيره.
قلت: عرفت هذا.. فحدثني عن الفرح.. عهدي بالمحبين يفرحون سويعات اللقاء، ثم يتحولون إلى الحزن الدائم المقيم.
قال: وحق لهم أن يحزنوا.. ألم تعلم أن القلب لا يجد سعادته، ولا لذته، ولا فرحه إلا بلقاء حبيبه؟
قلت: بلى.. وقد جربته..
قال: وتعلم أنك إن فرحت بشيء، ثم ضاع منك، أو غاب عنك، حزنت عليه بقدر فرحك به؟
قلت: أعلم ذلك.. وأحسب أن الكل يعلمه.
قال: وتعلم أنه إن كان في حبيبك ما يسوء وما يسر، فرحت بما سرك منه، واستأت بما ساءك منه؟
قلت: ذلك صحيح.. فما غرضك من كل هذا؟
قال: من الجنون أن تطلب الفرح واللذة والسعادة فيمن هذا حال حبه.
قلت: فما البديل لذلك؟
قال: الحب الذي لا يأتيك منه إلا الفرح والسعادة والرضى.. ذلك الحب الكامل الذي تجتمع فيه جميع لذات المحبين، وتموت عنده جميع هموم العاشقين..
ذلك الحب الذي يملأ جميع أركان القلب، ويستغرق جميع زوايا الوجدان..
ذلك الحب الذي يتوحد فيه الإنسان، فبشارك فيه العقل القلب، وتنسجم النفس فيه مع الجسد.
قلت: أين هذا الحب؟.. لقد نذرت حياتي جميعا للحب، فلم أجد حبا بهذا الوصف.
قال: ذلك الحب لا يتحقق إلا في الحب المقدس.. فهو الحب الوحيد الذي تجتمع عنده كل هذه الخصائص.. لقد عبر عن تلك الكمالات اللذيذة من ذاقه، فقال:
كان يسبى القلب
فى كل ليله ثمانون |
بل تسعون نفساً
وأَرجح |
يهيم بهذا ثم يأْلف
غيره |
ويسلوهم من فوره
حين يصبح |
وقد كان قلبى
ضائعاً قبل حبكم |
فكان بحب الخلق
يلهو ويمرح |
فلما دعا قلبى
هواك أَجابه |
فلست أَراه عن
خبائك يبرح |
حرمت الأَمانى
منك إِن كنت كاذباً |
وإِن كنت فى
الدنيا بغيرك أَفرح |
وإِن كان شيء فى
الوجود سواكم |
يقرَّ به القلب
الجريح ويفرح |
إِذا لعبت أَيدى
الهوى بمحبكم |
فليس له عن بابكم
متزحزح |
فإِن أَدركته
غربة عن دياركم |
فحبكم بين الحشا
ليس يبرح |
وكم مشتر فى
الخلق قد سام قلبه |
فلم يره إِلا
لحبك يصلح |
هوى غيركم نار
تلظى ومحبس |
وحبكم الفردوس أَو
هو أَفسح |
فيا ضيم قلب قد
تعلق غيركم |
ويا رحمة مما
يجول ويكدح |
وقال آخر يذكر توحد لطائفه على محبة الله:
أروح وقد ختمت
على فؤادي |
بحبك أن يحل به
سواكا |
فلو أني استطعت
غضضت طرفي |
فلم أبصر به حتى
أراكا |
أحبك لا ببعضي بل
بكلي |
وإن لم يبق حبك
لي حراكا |
وفي الأحباب مختص
بوجد |
وآخر يدعي معه
اشتراكا |
إذا اشتبكت دموع
في خدود |
تبين من بكى ممن
تباكى |
فأما من بكى
فيذوب شوقا |
وينطق بالهوى من
قد تباكى |
وقد عجز العارفون الذين رزقهم الله هذا الحب الكامل عن التعبير عن مقداره، فذكروا بعض النسب للدلالة عليه، كما فعل أبو سليمان الداراني حين أخبر عن همة العارفيين، فقال: (إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة فكيف تشغلهم الدنيا عن الله؟)
أو عندما سئل معروف الكرخي عن الهمة التي دفعته إلى الإرادة والمجاهدة والتبتل، فسكت معروف، ليترك للسائل مجالا للتخمين، قال السائل : ذكر الموت، فقال معروف: وأي شيء الموت؟ فقال: ذكر القبر والبرزخ، فقال: وأي شيء القبر؟ فقال: خوف النار ورجاء الجنة، فقال: وأي شيء هذا؟ إن ملكاً هذا كله بـيده إن أحببته أنساك جميع ذلك وإن كانت بـينك وبـينه معرفة كفاك جميع هذا.
أو عندما سأل الثوري رابعة: ما حقيقة إيمانك؟ فقالت: ما عبدته خوفاً من ناره ولا حباً لجنته فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حباً له وشوقاً إليه، وقالت:
أحبك حبين حب الهوى |
وحباً لأنك أهْلٌ
لذاكا |
فأما الذي هو حب
الهوى |
فشغلي بذكرك عمن
سواكا |
وأما الذي أنت
أهلٌ له |
فكشفك لي الحجب
حتى أراكا |
فلا الحمد في ذا
ولا ذاك لي |
ولكن لك الحمد في
ذا وذاكا |
قلت: حدثتني حديث المواجيد، فحدثني حديث العقل.. ألم تزعم انسجام هذا الحب مع العقل؟
قال: صدقت.. أجبني.. ما الذي جعل قلبك ينجذب كل الانجذاب لكل من أحببت؟
قلت: أشياء كثيرة لا أكاد أحصيها.. بل لا أكاد أعرفها.
قال: لكن العارفين الخبراء الذين أطلعهم الله على أسرار القلوب عرفوها، وحاولوا إحصاءها، وقد وجدوا أنها مهما تشعبت لا تعدو ثلاثة.
قلت: فما هي؟
قال: أولها حب الإنسان لنفسه، فالمحبوب الأوّل عند كل حي: نفسه وذاته.. هذه سنة الله.. و { لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)(فاطر: من الآية43)
قلت: ما تعني بحب الإنسان لنفسه؟
قال: كل إنسان فطر على حبه لدوام وجوده، وعلى النفور من عدمه وهلاكه، (فلذلك يحب الإنسان دوام الوجود ويكره الموت والقتل، لا لمجرّد ما يخافه بعد الموت ولا لمجرّد الحذر من سكرات الموت، بل لو اختطف من غير ألم وأميت من غير ثواب ولا عقاب لم يرض به وكان كارهاً لذلك، ولا يحب الموت والعدم المحض إلا لمقاساة ألم في الحياة، ومهما كان مبتلى ببلاء فمحبوبه زوال البلاء، فإن أحب العدم لم يحبه لأنه عدم بل لأنّ فيه زوال البلاء، فالهلاك والعدم ممقوت ودوام الوجود محبوب)([13])
وكما أن الإنسان يحب أصل وجوده ودوامه، فإنه كذلك يحب كمال وجوده، لأن الناقص فاقد للكمال، والنقص عدم بالإضافة إلى القدر المفقود وهو هلاك بالنسبة إليه.
وهو لذلك يحب كل ما يكمل هذا الوجود، فهو يحب سلامة أعضائه، ويحب ماله وولده وعشيرته وأصدقاءه، وكل ذلك لتوقف كمال وجوده عليها.
فحبه لولده ـ مثلا ـ وإن كان لا يناله منه أي حظ، بل قد يتحمل المشاق لأجله يرجع لاعتقاده بأنه سيخلفه في الوجود بعد عدمه، ( فيكون في بقاء نسله نوع بقاء له، فلفرط حبه في بقاء نفسه يحب بقاء من هو قائم مقامه وكأنه جزء منه لما عجز عن الطمع في بقاء نفسه أبداً)
ومثل ذلك حبه لأقاربه وعشيرته، ( فإنه يرى نفسه كثيراً بهم قوياً بسببهم متجملاً بكمالهم، فإنّ العشيرة والمال والأسباب الخارجة كالجناح المكمل للإنسان، وكمال الوجود ودوامه محبوب بالطبع لا محالة)
قلت: عرفت هذا.. وأحسب أن الكل يعرفه.. فلا أحد من الناس يجادل في حبه لنفسه.. بل إن الكثير يجمح به حبه لنفسه إلى الأنانية المقيتة، والأثرة البغيضة.. ولكن كيف ينسجم الحب المقدس مع هذا.. بل كيف يكون مقدسا، وهو يرعى مثل هذا؟
قال: الحب المقدس هو الحب الذي يراعي الفطرة، وسلامة الفطرة.. فلا ينكسها ولا يعكسها.. وهو لذلك يرعى هذه الناحية ويهذبها ويعطيها البديل الذي تكف به عن كل شطط أو جموح.
قلت: كيف يجتمع له كل هذا؟
قال: لأن من عرف نفسه وعرف ربه علم ( أنه لا وجود له من ذاته، وإنما وجود ذاته ودوام وجوده وكمال وجوده من الله وإلى الله وبالله، فهو المخترع الموجد له وهو المبقي له وهو المكمل لوجوده بخلق صفات الكمال وخلق الأسباب الموصلة إليه وخلق الهداية إلى استعمال الأسباب، وإلا فالعبد من حيث ذاته لا وجود له من ذاته، بل هو محو محض وعدم صرف لولا فضل الله تعالى عليه بالإيجاد)([14])
ثم هو بعد هذا الوجود المستفاد من الله هالك عقيب وجوده لولا فضل الله عليه بالإبقاء، ثم هو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل، فليس في الوجود من يقوم بنفسه إلا الله الذي هو قائم بذاته، وكل ما سواه قائم به.
فلهذا إذا أحب العاقل ذاته أحب من يقوم بها، فإن كان لا يحبه فهو لجهله بنفسه وبربه، فالمحبة ثمرة المعرفة تنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها وتقوى بقوّتها.
ومثال هذا المبتلى بحرّ الشمس، فإنه لما كان يحب الظل، فإنه بالضرورة يحب الأشجار التي بها قوام الظل، (وكل ما في الوجود بالإضافة إلى قدرة الله تعالى فهو كالظل بالإضافة إلى الشجر والنور بالإضافة إلى الشمس فإنّ الكل من آثار قدرته، ووجود الكل تابع لوجوده، كما أن وجود النور تابع للشمس ووجود الظل تابع للشجر} ([15])
قلت: عرفت الأول، ووعيته، فما الثاني؟
قال: حب الإنسان لمن أحسن إليه.
قلت: صحيح هذا، فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، وقد قال في ذلك شاعرنا:
وَقّيَّدْتُ نفسي
في ذراك محبةً |
ومن وجدَ
الإِحسانَ قيداً تقيدا |
وقال الآخر:
أحسنْ إلى الناسِ
تَسْتَعبِدْ قلوبَهمُ |
فطالما استعبدَ
الإنسانَ إِحسانُ |
من جادَ بالمالِ
مالَ الناسُ قاطبةً |
إليه والمالُ
للإنسانِ فتانُ |
قال: لقد قال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم مشيرا إلى هذا السبب:( إن استطعت أن لا يكون لفاجر عندك يدا فافعل)([16])
وكان مما يقوله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه 🙁 اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة، فإني وجدت فيما أوحيته إلي :{ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (المجادلة: من الآية22)([17])، ففي هذا إشارة إلى أن حب القلب للمحسن حب اضطراري لا يستطاع دفعه، وهو جبلة وفطرة لا سبـيل إلى تغيـيرها.
قلت: ألا ترى أن هذا السبب هو عين السبب السابق؟
قال: ذلك صحيح، فالإحسان سبب إلى دوام الوجود وكمال الوجود وحصول الحظوظ التي بها يتهيأ الوجود.. لكن بينهما ـ مع ذلك ـ فرقا.. فالحب في السبب الأول ذاتي، بينما هو تبعي في هذا السبب، ( ففرق كبير بـين حب الصحة وبـين حب الطبـيب الذي هو سبب للصحة، إذ الصحة مطلوبة لذاتها والطبـيب محبوب لا لذاته بل لأنه سبب للصحة، وكذلك العلم محبوب والأستاذ محبوب، ولكن العلم محبوب لذاته والأستاذ محبوب لكونه سبب العلم المحبوب، وكذلك الطعام والشراب محبوب والدنانير محبوبة، لكن الطعام محبوب لذاته والدنانير محبوبة لأنها وسيلة إلى الطعام)([18])
فالفرق بين هذه المحبوبات راجع إلى الدرجة التي تحلها من القلب، وكلها من حيث مصدرها ترجع إلى حب الإنسان لنفسه، (فكل من أحب المحسن لإحسانه فما أحب ذاته تحقيقاً بل أحب إحسانه، وهو فعل من أفعاله لو زال زال الحب مع بقاء ذاته تحقيقاً، ولو نقص نقص الحب ولو زاد زاد، ويتطرّق إليه الزيادة والنقصان بحسب زيادة الإحسان ونقصانه)
قلت: وعيت هذا.. ولا أحسب أني أخالفك فيه.. فكيف اكتمل هذا السبب في الحب المقدس؟
قال: بل لم يكتمل هذا السبب، بل لم يوجد إلا في الحب المقدس.. فليس هناك من نعمة في الوجود إلا والله سببها الأول والمباشر.. فالله هو المحسن الوحيد، وكل من عداه محسن إليه.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك :{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } (النحل:53)، وأخبرنا عن استحالة عده لنعمه علينا، فقال:{ َآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } (ابراهيم:34)
قلت: كيف يكون الله هو المحسن الوحيد.. ونحن نرى الكل يمارس هذه الوظيفة؟
قال: أرأيت لو أن ملكا من الملوك أمر بعض خدمه بأن يهبك ما تشاء من الأموال والقصور وأنواع المتاع.. أكنت ترى تلك النعم من الملك، أم من ذلك الخادم البسيط الذي لم يقم إلا بما أمره به الملك؟
قلت: بل أرى كل تلك النعم من الملك.. أما الخادم فليس إلا عبد مأمور.. ولو أن الملك أمره بقتلي لفعل؟
قال: فهكذا كل الخلائق التي تراها منعمة عليك.. هي في الحقيقة وسائط الجود لا عين الجود.
قلت: عرفت الثاني، ووعيته، فما الثالث؟
قال: الجمال.
قلت: لن يجادلك أحد في هذا.. فلولا الجمال ما سقطت القلوب في أودية الهوى..
قال: لقد ذكر الله تعالى هذا، فذكر عن امرأة العزيز أن قلبها قد امتلأ بحب يوسف حتى صارت لا تملك من أمرها شيئا، ثم ذكر جماله وتأثيره في النسوة، فقال:{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } (يوسف:31)
قلت: فالقرآن يقر به، فكيف تنكره أنت؟
قال: أنا لا أنكره.. ولكني أنكر أن يرضى الإنسان بحبس قلبه في قفص العيون النجل، أو الخدود المتوردة، أو يرضى أن يشنق بالشعر الأشقر المبسوط..
قلت: فما المخرج من ذلك؟
قال: الحب المقدس.. الحب المقدس هو الوحيد الذي لا يصلح القلب إلا به، ولا تكمل مطامح الإنسان في الفرح الخالد إلا به.
قلت: وما عداه؟
قال: أنت ترى وأنت تسمع.. ولا شك أنك ذقت..
ثم أخذ ينشد:
أيا رُبَّ وجهٍ
في الترابِ عتيقِ |
ويا ربَّ حُسْنٍ
في الترابِ رقيقِ |
وياربَّ حزمٍ في
الترابِ ونجدةٍ |
ويا ربَّ رأىٍ في
الترابِ وثيقِ |
أرى كُلَّ حيٍّ
هالكاً وابنُ هالكٍ |
وذا نسبٍ في
الهالكينَ عريقِ |
فقلْ لقريبِ
الدارِ : إِنكَ ظاعنٌ |
إِلى منزلٍ نائي
المحلِّ سحيقِ |
قلت: أنت تشير إلى الهلاك؟
قال: وأشير قبله إلى الذبول.. ألم تر تلك الورود التي امتلأت بها الساحات في عيد الحب.. كيف تحولت في المساء إلى هشيم لا ترضاه العين، ولا يقبل عليه القلب؟
قلت: بلى..
قال: ولهذا، فإن القرآن الكريم ينهى عقولنا وقلوبنا أن تتعلق بالفاني والذابل والهالك.. لقد قال الله تعالى يشير إلى الدنيا بكل ما فيها من الحسناوات :{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} (الكهف:45)
قلت: فما الذابل، وما الهالك، وما الفاني؟
قال: كل ما أسر المحبين من ذلك الجمال المغشوش.. الذي هو أقرب إلى السراب منه إلى الماء..
سكت قليلا، ثم قال: لاشك أنك مررت في رحلتك بجميل وعروة وقيس وكثير.. وغيرهم كثير.
قلت: أجل.. لكأنك كنت معي في رحلتي..
قال: لقد كنت معك.. وكنت جميع أولئك.. لكني سألت نفسي، وقلت: أرأيت لو أن المجنون لم ير ليلى إلا بعد أن عمرت، وصارت عجوزا شمطاء.. أكان يكن لها كل ذلك الحب، أو كان يمكن أن يجن بسببها.. أو كان يمكن أن يرضى بها زوجا؟
ابتسمت، وقلت: حينذاك سيجن أيضا.. لكن لا بسبب حبه لها، بل بسبب بغضه لها.. ألم تسمع قول الشاعر:
إِن العجوزَ
فاركٌ ضجيعَها |
تسيلُ من غير
بكىً دموعُها |
تمدِّدُ الوجهَ
فلا يطيعُها |
كأن من يضيفُها
يضيعها |
وقول الآخر:
لا تنكحَنَّ
عجوزاً إِن أتيتَ بها |
واخلعْ ثيابكَ
منها ممنعاً هربا |
وإِن أَتَوْكَ
فقالوُا إِنها نَصفٌ |
فإِن أمثلَ
نصفَيها الذي ذَهَبا |
قلت: سلمت لك بهذا، فكل جمال سيذبل لا محالة.
قال: ومن الغبن أن تحب ما يذبل.. لأن قلبك سيذبل مثل ما يذبل من تحبه.
قلت: وهل هناك شيء لا يذبل؟
قال: الجمال المقدس عن الدنس.. الجمال الذي لا تغير عليه الأيام والليالي.. ولا تكر عليه جحافل المرض والهرم.
قال: لا.. هذا لا يقوله إلا المحبوس في سجن الخيالات.
قلت: كلنا سجين الخيالات..
قال: ومع ذلك فإن عقولنا تتحرر في أحيان كثيرة من هذه السجون.. بل ترانا نذم ما أطبقت العيون على حسنه.
ألم تسمع شاعركم، وهو يقول:
لا خَيْرَ في أوجهٍ صِباحٍ |
تسفرُ عن أنفسٍ قباحِ |
كالجُرْحِ يُبْنى على فَسادٍ |
بظاهرٍ ظاهرِ الصَّلاحِ |
فقُلْ لمن مالُه مصونٌ |
أُصِيْتَ في عِرْضِكَ المباحِ |
قلت: بلى.. وقد سمعت قول الآخر:
على وَجْهِ ميٍ مسحةً من ملامحةٍ |
وتحتَ الثيابِ الشينُ لو كان باديا |
ألم ترَ أن الماءَ يخبثُ طعمُهُ |
وإِن كانَ لونُ الماءِ أبيضَ صافيا |
وقول الآخر:
لا تغتررْ بهوى الملاحِ فربما |
ظهرتْ خلائقُ للملاحِ قباحِ |
وكذا السيوفُ يرون حِسنَ صِقالها |
وبَحدِّها تتخطف الأرواحُ |
قال: فالجمال أعمق إذن من أن ينحصر في مضيق الخيالات.
قلت: ذلك صحيح.. ولكن ما الذي جعلنا نحصره في مضيق الخيالات؟
قال: أشياء كثيرة.. لا يمكننا حصرها.. لعل أهمها هو الفراغ الذي يجده القلب، فيعشق أول من يصادفه.. إنه يفعل نفس ما تفعله المعدة الجائعة حين تبحث عن أي طعام يقابلها لتملأ نهمها به.
قلت: أهكذا الحب؟
قال: هكذا الحب المدنس.
قلت: والحب المقدس؟
قال: إن القلب المترفع الذي هو محل الحب المقدس يترفع أن يستسلم لأي إغراء من أي جهة من الجهات.. إنه لا يقبل إلا بالجمال الذي لا يذبل، والصفاء الذي لا يكدر.
قلت: فأين نجد هذا؟
قال: الله.. الله هو البديع والجميل الذي لا يسكن القلب ولا يستقر إلا في محبته.
قلت: ولكنا لم نر الله.
قال: لم نره بأبصارنا القاصرة.. ولكنا يمكن أن نراه بكل لطائفنا.. بل يمكننا أن نصحبه.. ويكفي ذلك لأن نمتلئ عشقا لجماله.
قلت: لا يزل ذهني كليلا دون فهم هذا.
قال: ألسنا نقول في أحاديثنا 🙁 هذا خلق حسن.. وهذا علم حسن.. وهذه سيرة حسنة.. وهذه أخلاق جميلة)؟
قلت: بلى.. وصدقنا في ذلك.. فنحن نستشعر جمال هذه الأشياء.
قال: ألسنا نشعر بجاذبية تربطنا ببعض الناس ممن التهم أجسادهم التراب؟
قلت: بلى.. فنحن نحب الكرماء والرحماء والعلماء والأدباء.. الذين لا تحلو المجالس إلا بذكرهم، ولا المصنفات إلا بأخبارهم، ولا الحياة إلا بعطر أزهارهم.
قال: فكيف بمن جمع كرم الكرماء وحلم الحلماء وعلم العلماء.. ولم تكن في هذا الكون مكرمة ولا فضل ولا جمال إلا منه وبه وله؟
قلت: أيوجد مثل هذا؟
قال: بل إن وجود هذا هو الوجود الحقيقي الواجب.. وما عداه ظلال.
قلت: أين؟
قال: الله.. فالله هو الجميل الذي حوى كل جمال، والكريم الذي حوى كل كرم، واللطيف الذي حوى كل لطف، والبديع الذي حوى كل بديع.. ولو ظللنا على مقدار الأنفاس تعدد كمالات الله ما انتهينا.. لقد قال الشاعر الصالح يذكر ذلك:
ومع تفنن واصفيه بمدحه |
يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف |
قلت: وعيت هذا، فحدثني عن الحضور.. ما مرادك منه؟
قال: ألم تر أولئك الذين شربوا من خمرة الحب المدنس كيف انشغلوا عن لطائفهم وعن حياتهم وعن جميع ما وكل إليهم من مسؤوليات؟
قلت: بلى.. لقد رأيتهم منشغلين بذكر من أحبوهم.. فهم غائبون بهم عمن سواهم.
قال: الحياة لا تستقيم بذلك.. الحياة لا تستقيم إلا بالحضور.
قلت: لم أفهم مرادك من الحضور.
قال: لقد خلق الله الموازين.. فقال تعالى :{ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)}(النجم)، وقال تعالى :{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} (الحديد)
قلت: ما علاقة الموازين بالحضور؟
قال: لقد خلق الله الحياة وكل ما في الحياة لرسالة معينة.. ولا يمكن أن تستقيم الحياة إلا بأداء تلك الرسالة.. فلذلك كان كل شاغل عنها حجابا خطيرا يتدنس به الإنسان، وتتدنس به الحياة.
قلت: ولكن المحب لا يمكن أن يحب إلا بعد أن يغيب في جمال محبوبه عن كل حضور.
قال: إلا محب الله.. فإن الله لا يغيب.. وفي كل حركة من حركات العبد.. وفي كل سكنة من سكناته رسالة من الله إليه.. والعبد المحب هو الذي يفك رموزها.. ليسير من خلالها إلى الله.
لقد قالت رابعة تذكر هذا:
ولقد جعلتك في
الفؤاد محدثي |
وأبحت حسمي من
أراد جلوسي |
فالجسم مني
للجليس مؤانس |
وحبيب قلبي في
الفؤاد أنيسي |
قلت: وعيت هذا، فحدثني عن الحقيقة.. فقد سئمت من أوهام الحب.
قال: لا حقيقة إلا في الحب المقدس.. أما ما عداه، فوهم وسراب.. ألم يقل شاعركم:
الحبُّ يَذْهَبُ
بالفوارقِ كُلِّها |
ويجيبُ الشقراءَ
والسمراءَ |
ويجمِلُ الشوهاءَ
حتى لا ترى |
عينُ المحبِ
حبيبةً شوهاءَ |
قلت: بلى.. وقد رأيت قبله بديارنا ببني عذرة المجنون، وهو يمر على ديار ليلى يقبل جدرانها، ويقول:
أمرُّ على
الديارِ ديارِ ليلى |
أقبلُ ذا الجدارَ
وذا الجدارا |
وما حبُّ الديارِ
شَغَفْنَ قلبي |
ولكن حبُّ من
سَكَنَ الديارا |
بل سألته مرة، فقلت له: أي شيء رأيته أحب إليك؟ قال: ليلى.. قلت له: دع ليلى، فقد عرفنا ما لها عندك، ولكن سواها، قال: والله ما أعجبني شيء قط فذكرت ليلى إلا سقط من عيني، وأذهب ذكرها بشاشته عندي، غير أني رأيت ظبياً مرة فتأملته وذكرت ليلى فجعل يزداد في عيني حسناً، ثم إنه عارضه ذئبٌ وهرب منه فتبعته حتى خفيا عني فوجدت الذئب قد صرعه وأكل بعضه، فرميته بسهم فما أخطأت مقتله، وبقرت بطنه فأخرجت ما أكل منه، ثم جمعته إلى بقية شلوه، ودفنته وأحرقت الذئب، وقلت في ذلك:
أبى الله أن تبقى
لحي بشاشةٌ |
فصبراً على ما
شاء الله لي صبرا |
رأيت غزالاً
يرعتي وسط روضةٍ |
فقلت أرى ليلى
تراءت لنا ظهرا |
فيا ظبي كل رغدا
هنيئاً ولا تخف |
فإنك لي جارٌ ولا
ترهب الدهرا |
وعندي لكم حصنٌ
حصينٌ وصارمٌ |
حسامٌ إذا أعملته
أحسن الهبرا |
ما راعني إلا
وذئبٌ قد انتحى |
فأعلق في أحشائه
الناب والظفرا |
ففوقت سهمي في
كتوم غمزتها |
فخالط سهمي مهجة
الذئب والنحرا |
فأذهب غيظي قتله
وشفى جوىً |
بقلبي إن الحر قد
يدرك الوترا |
ثم رأيت بعدها آخر، وهو يقول:
وإني ليرضيني
الممر ببابها |
وأقنع منها
بالشتيمة والزجر |
|
بل رأيت بعدها آخر، وقد بلغ به الجنون عتوه، وهو يصيح:
لو حز بالسيف
رأسي في محبتها |
لطار يهوي سريعا
نحوها رأسي |
قال: لقد كنت أقول مثل هؤلاء إلى أن عرفت الحقيقة، فمسحت عن عيني كل وهم..
قلت: وما عرفت؟
قال: عندما امتلأ قلبي بحب الغواني قرأت كلمة في القرآن الكريم رفعت عني كل ذلك الوهم.
قلت: كلمة واحدة!؟
قال: أجل.. كلمة واحدة رفعت كل تلك الزخارف التي زينت بها أوهام الحب.
قلت: فما هي؟
قال: (زُيِّنَ).. فهذه اللفظة القصيرة في مبناها العظيمة في معناها دلتني على الحقيقة..
قلت: أي حقيقة؟
قال: إن كلمة (زُيِّنَ) تشير إلى أن ذلك المزين قد كسي من الأثواب، ووضع عليه من المساحيق ما أحاله حسنا وجميلا، وإن كان في أصله قبيحا ودميما، فالمزين ليس جميلا بالضرورة.
ولهذا يبين القرآن الكريم كثيرا من مظاهر التزيين التي لا تتناسب مع كل الأذواق، ولكن القلوب المستعدة لذلك التزيين تتناسب معها وتفرح بها وتتعجب ممن لا يتذوق حلاوتها.
ومنها تلك القلوب التي أودعت فلذات أكبادها جوف الثرى مخافة أن تقتسم معها لقمة العيش أو مخافة السبة والعار، وهي تبتسم فرحا، وكأنها تخلصت من وزر ثقيل ينوء به ظهرها، قال تعالى :{ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } (الأنعام:137)
ومنها التي استحلت ألسنتها الطافحة بألوان الخبث سب الله تعالى وكأنه حلوى لذيذة أو فاكهة شهية، وقد نهي المسلمون عن سبهم أو مناقشتهم في ذلك لأن حلاوة الكفر قد تشربتها قلوبهم وذاقت لذتها وتمكنت منها، وفرق كبير بين مجرد الكفر وبين الكفر المزين في القلب، ولهذا يكون أبعد الناس عن اتباع الرسل رجال الدين الذين استحلوا صناعة التدين وتمكنت من قلوبهم، قال تعالى :{ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (الأنعام:108)
ومنها القلوب المصرة العنيدة التي تحملت لأواء الشدائد وهي تقبض ألسنتها بشدة عن دعاء الله استغناء عن الله وترفعا عنه كما يقبض اللئيم يده عن الكريم حسدا وتعاظما واستنكافا، قال تعالى :{ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (الأنعام:43)
ومنها القلوب التي ينقل القرآن الكريم عجب الهدهد منها، وهو الحيوان الصغير الضعيف صاحب الجمجمة الصغيرة والطاقة الفكرية الضعيفة حين رآها تعفر الثرى لمخلوق مثلها، لم يخطر على باله قط وهو الحيوان أن هناك من يبيع الله بأشعته الحارقة أو الدافئة، قال تعالى :{ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ } (النمل:24)
والخلاصة التي يعطيها القرآن الكريم في ذلك هي أن كل الانحرافات التي وقعت فيها الديانات والمذاهب والنفوس مزينة وليست زينة، فهي محسنة بأنواع الحلي والمساحيق والحلل، بينما تبرز الدمامة بكل مظاهرها والبشاعة بكل صورها لكل من انشغل بالحقيقة عن المظهر، ولم تنسه نشوة الفرح الكاذب ما تخفيه الصور.
قلت: ما دام الأمر هكذا، فكيف نميز بين الزينة الحقيقية والزينة المزيفة؟
قال: كل زينة أسرتك، أو ألهتك عن حقيقتك، أو أبعدتك عن الوجود، أو وضعت الحجب بينك وبين ربك زينة مزيفة..
قلت: فكيف أميز بين الحقيقة والوهم؟
قال: بالبصيرة الإيمانية النافذة التي كانت مركبة في عقول الذين آمنوا عندما مر بهم قارون، وهو في موكب الزينة يسلب الألباب وينشر الحسد والغبطة.
لقد نقل لنا القرآن الكريم بدقة صورة ذلك الموكب، وصورة النفوس التي كانت تلتف به، قال تعالى :{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ } (القصص:80)
والخلاف الذي وقع بين هذين الفريقين ـ كما ينقله القرآن الكريم ـ ليس في أصل الزينة، فكلا من المؤمنين والذين يريدون الحياة الدنيا يبصرونها وتشتهيها أنفسهم، لكن الفرق بينهما حصل فيما بعد الزينة وما خلفها، فالمؤمنون كانوا يشاهدون بعيونهم آثار تلك الزينة المؤقتة الملطخة بآلاف العيوب، ولعل أقلها فرح صاحبها بها وانشغاله بها عن ربه، بينما الذين يريدون الحياة الدنيا كانت أعينهم عميا عن إبصار المدى البعيد الذي يبصره المؤمنون.
ولهذا يصور القرآن الكريم الذين لا يؤمنون بالآخرة بصورة الأعمه المتردد الحائر بين نوازع نفسه الكثيرة المتناقضة، قال تعالى يصور هذه الحيرة :{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ } (النمل:4)
قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الاستقامة.. فقد رأيت من ضحايا انحرافات الحب ما ملأني بغضا له.
قال: ذلك الحب المدنس.. فالقلب الذي دنس بالأوهام، واكتحلت عينه بها، لا يمكنه أن يبصر الطريق، فكيف يمكنه أن يستقيم عليها.
قلت: والحب المقدس!؟
قال: ليس هناك في الوجود من يحرك القلوب والعقول والجوارح وجميع اللطائف مثل هذا الحب.. لقد أشار إلى هذا أولياء الله وورثة النبوة.. فعن صادق آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (حبّ اللّه إذا أضاء على سرّ عبد أخلاه عن كلّ شاغل وكلّ ذكر سوى اللّه، و المحبّ أخلص الناس سرّا للَّه وأصدقهم قولا وأوفاهم عهدا وأزكاهم عملا وأصفاهم ذكرا وأعبدهم نفسا يتباهى به الملائكة عند مناجاته وتفتخر برؤيته، وبه يعمر اللّه تعالى بلاده وبكرامته يكرم اللّه عباده، يعطيهم إذا سألوه بحقّه، ويدفع عنهم البلايا برحمته، فلو علم الخلق ما محلّه عند اللّه و منزلته لديه لما تقرّبوا إلى اللّه إلّا بتراب قدميه)
قلت: كيف يكون لحب الله كل هذه السطوة.. وأين ذهبت النفس الأمارة بالسوء؟ وأين ذهب الشيطان الرجيم المشغوف بالوسوسة؟
قال: أليس المحب مطيعا لمحبوبه؟
قلت: بلى.. بل إن كل المحبين يزعمون أنهم على دين من أحبوا.. وقد قال في ذلك رجل منا:
إنَّ هَوَاكَ الَّذِى بِقَلبى |
صَيَّرَنِى سَامِعاً مُطِيعَا |
وقال آخر:
كنْ إِذا
أحبَبْتَ عبداً |
للذي تَهوى مطيعا |
لن تنالَ الوصلَ
حتى |
تلزم النفسَ
الخضوعا |
وقال آخر:
اخضع وذل لمن تحب
فليس في |
شرع الهوى أنف
يشال ويعقد |
وقال آخر:
مساكين أهل العشق
حتى قبورهم |
عليها تراب الذل
بين المقابر |
وقال آخر:
قالوا عهدناك ذا
عز فقلت لهم |
لا يعجب الناس من
ذل المحبينا |
لا تنكروا ذلة
العشاق إنهم |
مستعبدون برق
الحب راضونا |
قال: وبما أن من أحبوا لا دين له لم يكن لهم دين.. ومن لم يكن له دين لم يكن له خلق.. ومن لم يكن له خلق لم تكن له استقامة.
قلت: والحب المقدس!؟
قال: ذلك عين الاستقامة.. فلا يحرك الاستقامة مثل الحب.. فالله لا يحبه إلا المستقيمون.. ومحبة الله لا تورث في أصحابها إلا الاستقامة.. لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، فقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )(المائدة: من الآية54)
قلت: فما الذي يحرك فيهم الاستقامة؟
قال: لقد عرفت أن المحب هو الذي يسعى في مرضاة محبوبه، حتى لا يراه إلا في أحسن أحواله.
قلت: بلى.. وقد ذقته.
قال: لقد ذكر لنا ربنا ما يحبه، وما يبغضه، وأعلمنا أننا لن نظفر بمحبته ـ التي هي غاية الغايات ـ إلا إذا فنى حبنا في حبه، ورضانا في رضاه.
فلذلك صرنا نحب الإحسان، لأن الله يحب المحسنين: قال تعالى :{ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:195)
وصرنا نحب التوبة والطهارة، لأن الله الذي امتلأت قلوبنا بحبه قال لنا :{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(البقرة: من الآية222)
وصرنا نحب التقوى الحاجزة عن معصية الله، لأن الله قال لنا :{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (آل عمران:76)
وصرنا نحب الصبر، ونتحمله، لأن الله قال لنا :{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:146)
وصرنا نحب التوكل على الله، لأن الله قال لنا :{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)
وصرنا نحب العدل، لأن الله قال لنا :{ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(المائدة: من الآية42)
وهكذا امتلأت قلوبنا وجوارحنا بكل خير.. لأن محبوبنا لا يحب إلا الخير، ولا يبغض إلا الشر.
قلت: وعيت كل هذا.. فحدثني عن الحياة.. فلم آت إلى هذه المقبرة إلا لأسلم نفسي إلى مشنفة الحب.
قال: الحب المدنس يسلمك إلى مشنقة الموت، أما الحب المقدس، فينفخ فيك من روح الحياة ما يملأك بالحياة.
قلت: لقد عرفت الشق الأول.. فحدثني عن الشق الثاني.
قال: أتدري ما سر الموت الذي يحمله الحب المدنس؟
قلت: لا.. لقد كنت غارقا إلى أذقاني في أوحاله.. ولعل ذلك ما أقعدني عن البحث في أسراره.
قال: هل تعرف دراكولا([19])؟
قلت: عندما تركت قومي من بني عذرة، وأتيت إلى هذه البلاد سمعت به.. وقد امتلأت خوفا من مهابته.. فهو من مصاصي الدماء.
قال: الحب المدنس هو دراكولا.. وهو جميع مصاصي الدماء.. ذلك أنه يريد أن يقضي على حياتك ليمد بها حياة من يحب..
قلت: ألم تكفه حياته حتى يمد أنيابه إلى حياتي؟
قال: وكيف تكفيه حياته، والموت يتهدده كل حين؟
قلت: فمن الغبن إذن محبة من يموت؟
قال: ومن الغبن التوكل على من يموت.. لقد قال الله تعالى :{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } (الفرقان: من الآية58)
قلت: إن ما تقوله خطير.
قال: ما خطره؟
قلت: إن هناك أنواعا كثيرة من الحب الشريف.. وكلها تتعلق بموتى.
قال: كل حب لا يتصل بحي أو لا ينبع من حي لا يمكن أن ينشر الحياة، أو تنتشر به الحياة.
قلت: أنتم تذكرون حب نبيكم وحب الأولياء وحب المؤمنين.. بل تفرطون فتزعمون أنكم تحبون كل الكون، وتذكرون عن نبيكم قوله عن جبل أحد:( هذا جبل يحبنا ونحبه)([20])
قال: كل ذلك الحب فيض من حب الله.. فمن أحب الله أحب لا محالة من يحبه الله.. ألستم تروون:
رأى المجنون في
البيداء كلبا |
فجر له من
الإحسان ذيلا |
فلاموه لذاك
وعنفوه |
وقالوا:لم أنلت
الكلب نيلا؟ |
فقال: دعوا
الملامة إن عيني |
رأته مرة في حي
ليلى |
قلت: بلى.. ولكن ذلك المجنون.
قال: جنونه هو أنه صرف طاقة الحب فيه إلى ليلى.. وليلى لم تكن إلا ليلا من الوهم.. ولو أنه صرفها إلى النور لتجلى له كل شيء.. وامتلأ قلبه بالحياة التي لا حياة تضاهيها.
***
ما وصل صاحبي من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمعت صائحا يصيح: يا سمنون([21]).. أين كنت؟.. لقد ظللنا طول النهار نبحث عنك؟
لست أدري كيف رميت ما كان معي من أدوية الموت.. ثم صحبته.. وقد رأيت فيه القلب الكبير الذي امتلأ بالمحبة الخالصة الصادقة الخالدة.. وقد أزحت بصحبته كل ما امتلأ به قلبي من أدران الدنس الذي علق بي من آثار الحب المدنس.
قلنا: فكيف ظهر لك أن تفارقه؟
قال: أنا لم أفارقه.. لكنه هو الذي فارقني.. وما أتيت إلى هذه البلاد إلا لأبحث عنه.
قلنا: ما الذي تقصد؟
قال: لقد سمعنا في تلك الأيام بأنباء فتنة تريد أن تجتث أصول الشجرة التي غرسها محمد.. وأن بداية الاستئصال ستكون من هذه البلاد.. فلذلك رحل سمنون إليها، وقدمت هنا لأبحث عنه، فلم تعد لي حياة إلا بصحبته.
قلنا: فقد أسلمت إذن؟
قال: لقد كنت أقرب الناس إلى الإسلام.. ولكن جبالا من الحديد والزنك والرصاص لا تزال تحول بيني وبين إعلان إسلامي.. ولست أدري لم، ولا كيف.
قال ذلك، ثم طأطأ
رأسه، واستغرق في صمت عميق، لم نشأ أن نخرجه عنه.
([1]) هذه النصوص منقولة من ديوان الصبابة، لابن أبي حجلة.
([2]) ربما يتوهم أن هذه حوداث نادرة، وأنها كانت مرتبطة بذلك الزمان دون هذا الزمان، وهذا خطأ كبير، وقد سئل أحد الأطباء النفسانيين – ضمن تحقيق أجراه بعض الصحفيين – : هل من الممكن أن للحبّ مجانين في نهاية القرن العشرين؟
فأجاب : هذا سؤال طريف، ولكنه على طرافته – سؤال مطروح في كل زمان ومكان، ففي عصرنا الحالي، الموصوف بأنه عصر المادية، يمكن أن تؤدي الصدمة العاطفية إلي العيادة النفسية، ولقد عُرِضتْ علي حالات مرضية كثيرة، كان الحبّ هو السبب الرئيس لها، والعامل الأكثر تأثيراً فيها)
وقد قام بعض الصحفيين بزيارة لإحدى المصحات النفسية، ووقفوا على بعض الحالات من ضحايا الحبّ الموهوم، منها حالة شاب كانت ابنة عمه هي السبب في تدهور عقله، ووصوله إلى حافة الجنون، ولما سُئل طبيبه المعالج عن سبب وصوله إلى تلك الحالة، أجاب بأنها قصة طويلة ومعقدة، خلاصتها أن هذا الشاب ( أحبّ) ابنة عمه الذي كان على خلاف مع أخيه والد هذا الشاب، وكانت الفتاة على علم بهذا الخلاف، فأرادت الانتقام لأبيها في شخص ابن عمها، فأوهمته بحبها له، حتى إذا ما جاء اليوم الموعود للزواج، رفضته، وتزوجت بغيره، فصُدم هذا الشاب، ووقع فيما يشبه الفصام العصبي.
ومثل ذلك ما حدثت به بعضهن قالت:( في يوم من الأيام جاءني اتصال من صديقة لي، تخبرني فيه بأن صديقة لنا في العناية المركزة بالمستشفي، فهرعتُ إليها وأنا لا أعلم السبب، وحينما وصلت إليها، وجدتها ممددة على السرير دون حراك، وقد أصابتها حالة تشنج عنيفة، تركتْ بصمات زرقاء وسوداء حول عينيها، وفي جميع أجزاء وجهها، وعندما سألت شقيقتها عن السبب، أخذتني بعيداً عن والدتها المنهارة، وقالت لي : لقد اكتشفتْ أن خالداً متزوج، ولديه ولد! أما عن خالد هذا، فهو شاب قد تعرفتْ عليه عن طريق الهاتف ! وبعد عدة لقاءات وعدها بالزواج !، وها هي تدخل المستشفى من أجله، ولو علم هذان الأبوان المنهاران أمام غرفة ابنتهما سبب دخولها المستشفى لقتلاها بدلاً من أن يبكيا عليها!)
وأغرب من ذلك، ما نُشر في بعض الصحف من قصّة تلك المرأة المصرية التي فوجئت وهي تفتح دولاب ملابسها بعد أن عادت إلى بيتها، بشاب يخرج من ذلك الدولاب، فتعالت صرخاتها مستغيثة بالجيران، وقد حاول الشاب إقناعها بأنه إنما جاء لخطبة ابنتها التي تربطه بها علاقة حب ! ولكن المرأة أصرت على استدعاء الشرطة، وكانت المفاجأة، أن سقط ميتاً بالسكتة القلبية قبل أن ينقل إلى قسم الشرطة في أغرب حادث حبّ غرامي مجنون)
وقد سئل الأستاذ الدكتور مصطفى محمود عن الحبّ قبل الزواج فأجاب:(الحبّ هو اتحاد شديد العمق، يؤدي التفريق فيه إلى سلسلة من انفجارات العذاب والألم، قد تستمر حتى الموت، وقد تنتهي بتغير الشخصية تماماً، وتحولها كما يتحول الراديوم بعد تفجر الإشعاع إلى رصاص، أما الحبّ بعد الزواج، فهو الحبّ الحقيقي الذي ينمو ويعيش، ويتحدى النسيان، ويضفي النبل والإخلاص والجلال على أبطاله) (انظر: وهم الحب، للمسند)
([3]) هذه الأبيات لنزار قباني.
([4]) ما سنذكره هنا من حكايات (بتصرف) من كتاب (وهم الحب)، لمحمد بن عبد العزيز المسند.
([5])أو (عيد الحب)، أو (عيد العشاق)، أو (الفالنتاين)، وقد تعود الغرب على الاحتقال به في في الرابع عشر من شهر فبراير ( شباط ) من كل عام.. وفي هذا اليوم عادة ما يتبادلون التهاني والورود الحمراء ويرتدون الملابس ذات اللون الأحمر، وتقام الحفلات الراقصة الماجنة..
ويرجع أصل هذا العيد إلى الرومان الوثنيين، فقد كان الرومان يحتفلون بهذه الحادثة في منتصف شهر فبراير من كل عام احتفالا كبيرا، وكان من مراسيمه أن يذبح فيه كلب وعنزة، ويدهن شابان مفتولا العضلات جسميهما بدم الكلب والعنزة، ثم يغسلان الدم باللبن، وبعد ذلك يسير موكب عظيم يكون الشابان في مقدمته يطوف الطرقات، ومع الشابين قطعتان من الجلد يلطخان بهما كل من صادفهما، وكان النساء الروميات يتعرضن لتلك اللطمات مرحبات، لاعتقادهن بأنها تمنع العقم وتشفيه.
بالإضافة إلى هذا، فقد ارتبط عيد الحب بالقديس فالنتين، والذي توفي في روما إثر تعذيب القائد القوطي (كلوديوس) له حوالي عام 296م، وبنيت كنيسة في روما في المكان الذي توفي فيه عام 350م تخليدا لذكره.
ولما اعتنق الرومان المسيحية أبقوا على الاحتفال بعيد الحب السابق ذكره، لكن نقلوه من مفهومه الوثني (الحب الإلهي) إلى مفهوم آخر يعبر عنه بشهداء الحب، ممثلا في القديس فالنتين الداعية إلى الحب والسلام الذي استشهد في سبيل ذلك حسب زعمهم. وسمي أيضا (عيد العشاق) واعتبر (القديس فالنتين) شفيع العشاق وراعيهم.
وكان من اعتقاداتهم في هذا العيد أن تكتب أسماء الفتيات اللاتي في سن الزواج في لفافات صغيرة من الورق، وتوضع في طبق على منضدة، ويدعى الشبان الذين يرغبون في الزواج ليخرج كل منهم ورقة، فيضع نفسه في خدمة صاحبة الاسم المكتوب لمدة عام يختبر كل منهما خلق الآخر، ثم يتزوجان، أو يعيدان الكرة في العام التالي يوم العيد أيضا
وقد ثار رجال الدين المسيحيين على هذا التقليد، واعتبروه مفسدا لأخلاق الشباب والشابات فتم إبطاله في إيطاليا التي كان مشهورا فيها، لأنها مدينة الرومان المقدسة، ولا يعلم على وجه التحديد متى تم إحياؤه من جديد. فالروايات النصرانية في ذلك مختلفة، لكن تذكر بعض المصادر أن الإنجليز كانوا يحتفلون به منذ القرن الخامس عشر الميلادي. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين انتشرت في بعض البلاد الغربية محلات تبيع كتبا صغيرة تسمى(كتاب الفالنتين) فيها بعض الأشعار الغرامية ليختار منها من أراد أن يرسل إلى محبوبته بطاقة تهنئة وفيها مقترحات حول كيفية كتابة الرسائل الغرامية والعاطفية. (انظر: الموسوعة الحرة، وغيرها)
وللأسف، فقد غزا هذا العيد ديار المسلمين ليصدق ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 لتتبعن سنن من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا : يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن؟) (رواه البخاري ومسلم)
([6]) ذكرنا الحلول الشرعية المرتبطة بهذه الحالة في سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)
([7])رواه ابن مَرْدُويه، وأبو الشيخ الأصبهاني.
([8])رواه عبد الرزاق.
([9]) رواه البخاري ومسلم.
([10]) مقتبس من جملة أحاديث بتصرف.
([11]) نجد بعض العارفين يعبرون عن المحبة بالسكر، وهو من باب المشاكلة لا من باب الحقيقة، والأولى ترك مثل هذه التعابير لما توحي به من معان قد تفهم فهما خاطئا.. وقد اشتد ابن القيم في رده لمثل هذا، فقال: ( وهذا المعنى (أي سقوط التمالك في الطرب الناشئ عن المحبة) لم يعبر عنه في القرآن ولا في السنة ولا العارفون من السلف بالسكر أصلا، وإنما ذلك من اصطلاح المتأخرين، وهو بئس الاصطلاح، فإن لفظ السكر والمسكر من الألفاظ المذمومة شرعا وعقلا، وعامة ما يستعمل في السكر المذموم الذي يمقته الله ورسوله قال الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } (النساء: من الآية43)، وعبر به سبحانه عن الهول الشديد الذي يحصل للناس عند قيام الساعة فقال تعالى :{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } (الحج:2)، ويقال: فلان أسكره حب الدنيا، وكذلك يستعمل في سكر الهوى المذموم.. فأين أطلق الله سبحانه أو رسوله أو الصحابة أو أئمة الطريق المتقدمون على هذا المعنى الشريف الذي هو من أشرف أحوال محبيه وعابديه اسم السكر المستعمل في سكر الخمر وسكر الفواحش كما قال عن قوم لوط لعمرك:{ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } (الحجر:72)، فوصف بالسكر أرباب الفواحش وأرباب الشراب المسكر، فلا يليق استعماله في أشرف الأحوال والمقامات ولا سيما في قسم الحقائق ولا يطلق على كليم الرحمن اسما يسمى سكرا)
ثم أشار إلى أن الإنكار متوجه للألفاظ دون المعاني، فقال 🙁 ونحن لا ننكر المعنى المشار إليه بهذا الاسم، وإنما المنكر تسميته بهذا الاسم، ولا سيما إذا انضاف إلى ذلك اسم الشراب، أو تسمية المعارف بالخمر، والواردات بالكؤوس، والله جل جلاله بالساقي فهذه الاستعارات والتسمية هي التي فتحت هذا الباب) (انظر: مدارج السالكين:3/306 )
ونحن مع تسليمنا لما ذكره ابن القيم، إلا أنه لا ينبغي المبالغة في إنكار ما ذكره الصالحون بسبب هذه الألفاظ، فهو لم يذكر إلا على سبيل المشاكلة.. وكأنهم يقولون للمنتشي بنشوة الخمر، أو نشوة الحب الموهوم: دع عنك ما أنت فيه، وتعال للخمر الحقيقية التي لا تعدل نشوتها أي نشوة، ولا لذتها أي لذة.
([12]) رواه أبو داود من حديث أبي الدرداء والوقف أشبه، وقد بالغ الصغاني فحكم بوضعه ولهذا تعقبه العراقي قال: وابن أبي مريم لم يتهم بكذب بل ولا شديد الضعف فهو حسن.(تذكرة الموضوعات:199)
([13]) الإحياء:4/297.
([14]) الإحياء: 4/301.
([15]) الإحياء: 4/301.
([16]) الفردوس بمأثور الخطاب.
([17]) رواه أبو أحمد العسكري.
([18]) الإحياء: 4/298.
([19]) دراكولا دراكيولا (بالإنكليزية: Dracula أو Drakula) رواية ألفها الكاتب البريطاني الإيرلندي برام ستوكر في 1897، وسميت باسم الشخصية الرئيسية فيها، مصاص الدماء الكونت دراكولا.
([20]) رواه البخاري ومسلم.
([21]) نشير به إلى سمنون بن حمزة، والذي يطلق عليه (سمنون المحب)، وقد كان من كبار العارفين المتحدثين في المحبة الإلهية، ومن أقواله 🙁 أول وصال العبد للحق هجرانه لنفسه، وأول هجران العبد الحق مواصلته لنفسه)
وقال أبو الطيب العكي: ذكر لي أن سمنونا كان جالسا على شط دجلة، وبيده قضيب يضرب به فخذه حتى تبدد لحمه وهو يقول:
كان لي قلب اعيش به |
ضاع مني في تقلبه |
رب فاردده علي فقد |
ضاق صدري في تطلبه |
واغث ما دام بي رمق |
يا غياث المستغيث به |
وعن محمد بن حمادن قال: رأيت سمنونا وقد أدخل راسه في زرمانقته، ثم أخرج رأسه بعد ساعة وزفر وقال:
تركت الفؤاد عليلا يعاد |
وشردت نومي فما لي رقاد |
ومن أشعاره في المحبة الإلهية قوله:
وكان فؤادي خالي قبل حبكم |
وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح |
لفما دعا قلبي هواك أجابه |
فلست اراه عن فنائك يبرح |
رميت ببين منك إن كنت كاذبا |
وإن كنت في الدنيا بغيرك افرح |
وإن كان شيء في البلاد بأسرها |
إذا غبت عن عيني لعيني يملح |
فان شئت واصلني وان شئت لا تصل |
فلست ارى قلبي لغيرك يصلح |
ومنها قوله:
ولا عيش إلا مع رجال قلوبهم |
تحن إلى التقوى وترتاح للذكر |
أديرت كؤوس للمنايا عليهم |
فأغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي السكر |
همومهم جوالة بمعسكر |
به أهل ود الله كالأنجم الزهر |
فأجسادهم في الأرض قتلى بحبه |
وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسرى |