ثانيا ـ الأنا

ثانيا ـ الأنا
بعد أن انتهينا من الدراسة في القسم الأول، وبعد أن رأيت تأثير التعاليم التي بثها الخرائطي في نفوس السامعين..سرت مع أهل السوق إلى القسم الثاني، وكان اسمه (قسم الأنا)، وقد عرفنا أن شيخه هو أبو بكر الآجري([1])، وأن له – كسميه – مصنفات في الأخلاق منها (أخلاق حملة القرآن)، و(أخلاق العلماء)، و(أدب النفس)، و(كتاب أهل البر والتقوى)، و(كتاب التوبة)، و(كتاب التهجد)، وغيرها كثير.
وقد سألنا الآجري عن سر تسمية هذا القسم بهذا الاسم، وسر كونه هو القسم الثاني التالي لقسم الجحود، فقال: إن أول ما يتصف به من جحد مولاه هو تضخم أناه.. وإن أول كلمة ينطق بها من نسي الله هي كلمة أنا..
قال له بعض الحاضرين: ولكن أنا هي أول لفظة يعبر بها الإنسان عن نفسه.. فهل ترى الإنسان آثما بنطقه بها؟
قال الآجري: في الخلق من يقول (أنا) لمجرد التعرف والتعريف، ويستعملها كما يستعمل جميع الضمائر منفصلة ومتصلة لا يشعر بالتغاير بينها ولا يعتقد أن أنا أفضل من أنت، أو أنا خير من هو أو هم.
وفي الخلق من يستعملها كأداة يمحو بها غيره، ويخضع بها رقاب غيره، يقولها ملء فيه، ويتصور أنها كافيه بمجرد نطقه بها أن يسجد لها الخلق، وأن يسمعوا ويطيعوا، أو يسبحوا ويكبروا.
قال الرجل: فما الفرق بين الأول والثاني؟
قال الآجري: الأول يشعر أنه جزء من كل، وفرد في مجموع، وواحد من عدد ضخم يتشكل منه بنيان الكون، أما الثاني فيعتقد أنه هو الكل، وغيره فروع لخدمته، وأنه هو المجموع وغيره شتات يتوحدون فيه، وأنه هو الواحد وغيره أصفار عن يساره و يمينه يتشكل منه عدده.
الأول يرى نفسه وغيره، ويسمع الأصوات جميعا، وبكل موجاتها، وينمحي في الآخرين كما ينمحون فيه، ويحبهم ويتفاعل في حياته معهم، أما الثاني فلا يرى إلا نفسه، ولا يسمع إلا حسه أومن ضبطت موجاته بحسب ترددات حسه، ولا يعرف الصفر وجوده لأن الصفر غيره.
الأول إذا مشى لم تشعر به الأرض،ولم يتحرك له النسيم، ولم تهرب الطيور من أوكارها ولا النمل إلى قراها ولم تهتز صفحة الماء وهو يطالعها بوجنته، أما الثاني فتندك الأرض من تحته، ويتخلخل السحاب من فوقه، وتفر النسور من قمم الجبال إن نظر إليها، وترتفع أمواج البحار إن طالعها بصفحته كالقمر يمدها ويسحبها.
قال الرجل: فالأنا الآثمة هي الأنا الثانية إذن؟
قال الآجري: أجل.. إنها الأنا التي تمتلئ عجبا بنفسها، ثم يفيض عجبها كبرا على غيرها.
لقد ضرب القرآن الكريم النماذج عن هذه الأنا الآثمة.. وأولها وسابقها إبليس.. ذلك الذي رفض طاعة الله بالسجود لآدم، فعندما قال الله له :{ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين } ٍ(الأعراف:12)
ومن ذلك الحين بدأ التعاظم بالذات، وبدأ الانفصال عن الكون المتكامل المتوازن، وورث خلق كثير من بني آدم هذه الكلمة وتعاظموا بها وتاهوا وأسسوا المعابد والقصور لتعبد ذواتهم، لأن الدماء الإلهية تسري في عروقهم، وشيدوا التماثيل ونشروا صورهم في كل المحلات وعلقوها على جميع الجدران، وقتلوا كل ذبابة تطن أثناء حديثهم، وقطعوا حبال كل من رفع صوته أمامهم، وأنشأوا دور الأمن المختلفة لتقوم بما يجب في حقهم من تشريفات وتعظيمات وتبجيلات.
والقرآن الكريم يقص علينا من أنباء هؤلاء.. ومنهم { الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) } (البقرة)
والقرآن الكريم يشير بهذا إلى السذاجة التي يقع فيها هؤلاء المتعاظمين بأنفسهم حين يصدقون أنهم ـ حقيقة ـ آلهة ما دام الملك بأيديهم ورقاب الخلق بين أيديهم يقتلون من يشاءون ويحيون من يريدون بدون معارضة ولا محاسبة.
وهذا التعاظم يحجب عن أعينهم مظاهر القصور الكثيرة التي تحيط بجميع ذواتهم، ولهذا قبل هذا الملك المناظرة مع إبراهيم u لأنه كان يظن أن ألوهيته أمر بديهي لا يناقش فيه، وتصوير دهشته وحيرته عندما واجهه إبراهيم u بالشمس يدل على أنه لم يكن يراها كما يراها سائر الناس لأنه كان مشغولا بنفسه، ولا يرى غيره إلا أصفارا يعكفون على التسبيح له.
والقرآن الكريم يذكر نموذجا آخر لتعاظم الأنا يفصل في ذكره تفصيلا لم يحظ به اسم كافر غيره، هو فرعون حيث ذكر اسمه في القرآن الكريم في سبعة وستين موضعا، وهذا النموذج تنطبق عليه نفس صفات النموذج السابق إلا أن القرآن الكريم يفسر سبب مرضه، وينص عليه في قوله تعالى :{ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) } (الزخرف)
ففسق قومه وخفة عقولهم وطاعتهم المطلقة له وقابليتهم لألوهيته هي التي جعلته يصدق حقيقة أنه إله ينبغي أن يعبد، ولهذا كان يصيح فيهم دائما بخطبة واحدة تكفي مبررا لأي أمر يصدره هي :{.. أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} (النازعات)
وعندما جاءه موسى u يدعوه إلى الله ويعرفه بأنه رسول رب العالمين تعجب أن يكون هناك إله غيره فسأله:{.. وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)} (الشعراء)
وعندما أراهم موسى u كل الحجج نهض فرعون يصيح في قومه وهو يتصور أن كلماته وحدها تكفي لتقرير ما يقول ونسف جميع معجزات موسى u :{ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)} (القصص)، وهذه هي السذاجة التي يتحلى بها كل من يعظم أناه ويمحو غيره.
لقد كان يتصور أنه إن وجد إله آخر فلن يعدو كونه صاحب سرير مثل سريره أو تاج مثل تاجه، مثلما تتصور الخلائق جميعا من أصحاب الملل المنحرفة آلهتها عندما تطبعها بطابع القومية والعرقية والأرض وتغرق ربها في مستنقعات من الأساطير لتعبد ذاتها من خلال ربها، وتنزل ربها من علياء وجوده ليرفع رايتها ويصيح بشعاراتها ويفكر بتفكيرها.
ويصور القرآن الكريم أسلوب هؤلاء المتعاظمين مع كل من يقيم عليهم الحجة، وهو أسلوب واحد في مختلف فترات التاريخ وإن تعددت أشكاله، وهو ما صاح به فرعون في وجه موسى u :{ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)} (الشعراء)، ثم يتوجه إلى الملأ من قومه ناصحا في غاية التواضع :{ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)} (غافر)، والفساد الذي يعنيه فرعون هنا هو أن يتحول غيره أرقاما ويصير هو جزءا من كل.
والقرآن الكريم يخبرنا بذلك التهديد ومحاولة تنفيذه ليبين سذاجة التفكير الناتج عن كسل عقل المتعاظم الذي لا يرى غيره ولا يستفيد من غيره، والذي يحول بينه وبين الصبر على أي مناظرة أو التنازل لقبول أي حجة.
ولهذا نرى في جميع مواطن الحوار بين المؤمنين وغيرهم في القرآن الكريم الكفار يقطعون الحوار بإثارة الشغب والتهديد بالقتل والرجم أو بممارسة القتل نفسه، فإبراهيم u يقطع حواره الرقيق مع والده بهذا التهديد الخطير :{ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) } (مريم)، والرجل الذي جاء قومه يسعى في سورة يس يقطع حواره بقتله ليستأنف القرآن الكريم ذكر تتمة حديثه بعد موته، ومؤمن آل فرعون قطع حواره الطويل البليغ بما يشير إلى محاولة قتله، كما قال تعالى :{ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)} (غافر)
والقرآن الكريم يبين أن ذلك التيه بالذات قد لا يكون بسبب ملك عريض أو عرش عظيم، بل قد يتيه الإنسان ببستان يملكه يمحو من خلاله غيره ويتعاظم عليهم، كما قال تعالى عن صاحب الجنتين :{ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)} (الكهف)
بل قد يقول هذا الضمير البسطاء من الخدم والسقاة لمعارف بسيطة يعلمونها أو يدعونها كما قال تعالى عن أحد صاحبي يوسف u في السجن :{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)} (يوسف)، ولهذا أنكر عليه الحسن البصري، وقال: كيف ينبئهم العلج؟!، بل في القرآن الكريم ما يشير إلى هذا الإنكار عندما طلب منه يوسف u أن يذكره عند ربه فنسي، فمن اللؤم نسيان نبي عرف صديقيته وإحسانه وبشره بنجاته.
ولهذا نرى أن كل من قال أنا في القرآن الكريم من الكفرة يقولها متعاظما مهما اختلف نوع تعاظمه.
قال رجل من الحاضرين: ولكن القرآن يذكر أن المؤمنين يقولون هذه الكلمة.. بل إن الله تعالى يأمر رسوله بأن يقولها.. ألم تسمع قوله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم :{ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} (الأعراف)
قال الآجري: إن الله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية الكريمة أن ينفي ادعاء أي ملكية لنفع يجلبه لنفسه أو ضر يمنعها منه إلا بما يسره الله له من قوى، وينفي عنه ادعاء الغيب، ويأمره أن يقول في تواضع :{ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
وبمثل ذلك يأمره في آية أخرى أن يخبرهم بأنه بشر مثلهم آتاه الله الرسالة، وأما الله تعالى فواحد، وأن لقاء الله مرتبط بأعمالهم التوحيدية المحضة لينفي عنهم أي ظن في نسبة الألوهية له كما نسبها النصارى للمسيح صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى :{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} (الكهف)
وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول هذه الكلمات التي تفيض بالتواضع لقوم عتاة متكبرين يتصورون أن مقامهم الرفيع يستدعي إنزال ملائكة أويستدعي خطابا مباشرا من الله بل رؤية مباشرة له، قال تعالى :{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)} (الفرقان)
وكانوا يقولون له صلى الله عليه وآله وسلم في تعاظم إذا أمرهم بالسجود للرحمن :{ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)} (الفرقان)
قال رجل من الحاضرين: وعينا هذا.. ووعينا خطورته.. فحدثنا عن الصنم الأول من أصنام الأنا.. ذلك الذي سميته العجب([2]).
قال الآجري: العجب هو ذلك الصنم الذي ذكره الله تعالى، فقال :{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)} (التوبة)
وذكر نموذجا آخر له، فقال:{ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)} (الكهف)
وذكر نموذجا آخر له، فقال:{ قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)} (القصص)
وذكر مآل أمره في الدنيا، فقال:{:{ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)} (الحشر)
وذكر مآل أمره في الآخرة، فقال:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)} (الكهف)
وهو الصنم الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر منه، العجب)([3])
وقال: (بينما رجل يمشي في حلّة تعجبه نفسه، مرجّل جمّته([4])، إذ خسف اللّه به، فهو يتجلجل([5]) إلى يوم القيامة)([6])
بل اعتبره صلى الله عليه وآله وسلم حجابا من الحجب الحائلة بين العقول وقبول الحق، فعندما سئل عن قوله تعالى :{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } (المائدة: 105) قال: (بل ائتمروا بمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتّى إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متّبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك- يعني بنفسك- ودع عنك العوامّ، فإنّ من ورائكم أيّام الصّبر، الصّبر فيه([7]) مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله)([8])
قلنا: عرفنا التحذير، ولكنا لم نعرف المحذر منه.. فما العجب؟
قال الآجري([9]): العجب هو السرور والفرح بالنفس وبما يصدر عنها من أقوال أو أعمال من غير تعد أو تجاوز إلى الآخرين من الناس، سواء أكانت هذه الأقوال وتلك الأعمال خيراً أو شراً، محمودة أو غير محمودة.. فإن كان هناك تعد أو تجاوز إلى الآخرين من الناس باحتقار أو استصغار ما يصدر عنهم فهو الغرور أو شدة الإعجاب.. وإن كان هناك تعد أو تجاوز إلى الآخرين من الناس باحتقارهم في أشخاصهم وذواتهم والترفع عليهم فهو التكبر أو شدة الإعجاب.
قال الرجل: فقد آل أمر الكبر إلى العجب؟
قال الآجري: أجل.. فلولا العجب ما كان الكبر..
قال الرجل: فحدثنا عن البذور التي تنبت شجرة العجب في النفس.
قال الآجري: لاشك أن أولها هو تلك النشأة الأولى التي يربى الإنسان عليها.. فقد ينشأ الإنسان بين أبوين يلمس منهما أو من أحدهما حب المحمدة ودوام تزكية النفس والاستعصاء على النصح والإرشاد ونحو ذلك من مظاهر الإعجاب فيحاكيهما، وبمرور الزمن يتأثر بهما ويصبح الإعجاب بالنفس جزء من شخصيته إلا إذا أنقذه الله منه.
ومنها الجهل بحقيقة النفس.. ذلك أن الإنسان إذا غفل أو جهل حقيقة نفسه، وأنها من ماء مهين، وأن النقص دائماً طبيعتها وسمتها، وأن مردها أن تلقى في التراب، فتصير جيفة منتنة، تنفر من رائحتها جميع الكائنات.. إذا غفل الإنسان أو جهل ذلك كله ربما خطر بباله أنه شئ، ويقوى الشيطان فيه هذا الخاطر حتى يصير معجباً بنفسه.. ولعل هذا هو السر في حديث القرآن و السنة المتكرر عن حقيقة النفس الإنسانية بدءاً، ونهاية.
ومنها صحبة المعجبين بأنفسهم.. ذلك أن الإنسان شديد المحاكاة والتأثر بصاحبه لا سيما إذا كان هذا الصاحب قوى الشخصية ذا خبرة ودارية بالحياة وكان المصحوب غافلا على سجيته يتأثر بكل ما يلقى عليه وعليه، فإذا كان الصاحب مصابا بداء الإعجاب، فإن عدواه تصل إلى قرينه فيصير مثله.
ومنها الوقوف عند النعمة ونسيان المنعم.. فمن الناس من إذا حباه الله نعمة من مال أو علم أو قوة أو جاه أو نحوه وقف عند النعمة ونسى المنعم وتحت تأثير بريق المواهب وسلطانها تحدثه نفسه أنه ما أصابته هذه النعمة إلا لما لديه من الكرامة.. ولا يزال هذا الحديث يلح عليه حتى يرى أنه بلغ الغابة أو المنتهي ويسر ويفرح بنفسه وبما يصدر عنها ولو كان باطلا.
ومنها الإطراء والمدح في الوجه دون مراعاة للآداب الشرعية المتعلقة بذلك.. ذلك أن هناك فريقا من الناس إذا أطرى أو مدح في وجهة دون تقيد بالآداب الشرعية في هذا الإطراء وذلك المدح اعتراه – لجهله بمكائد الشيطان – خاطر يقول له: إنك ما مدحت إلا لما تملك من المواهب.. وما يزال هذا الخاطر يلاحقه ويلح عليه حتى يصاب بالإعجاب بالنفس..
ولهذا ورد في النصوص المقدسة النهي عن المدح في الوجه، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)([10])
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلا يثني على رجل ويطريه في المدحة، فقال: (أهلكتم – أو قطعتم – ظهر الرجل)([11])
قال الرجل: فما الثمار التي تنتجها هذه الشجرة المنتنة؟
قال الآجري: كثيرة جدا هي الثمار المسمومة التي تنتجها تلك البذرة الخبيثة..
لعل أولها هو الوقوع في شراك الغرور والتكبر.. ذلك أن المعجب بنفسه كثيراً ما يؤدى به الإعجاب إلى أن يهمل نفسه، ويلغيها من دفتر التفتيش والمحاسبة.. وبمرور الزمن يستفحل الداء، ويتحول إلى احتقار واستصغار ما يصدر عن الآخرين، وذلك هو الغرور، أو يتحول إلى الترفع عن الآخرين، واحتقارهم في ذواتهم وأشخاصهم، وذلك هو التكبر.
ومنها الحرمان من التوفيق الإلهي.. ذلك أن المعجب بنفسه كثيراً ما ينتهي به الإعجاب إلى أن يقف عند ذاته، ويعتمد عليها في كل شئ ناسياً أو متناسياً خالقه وصانعه ومدبر أمره والمنعم عليه بسائر النعم الظاهرة و الباطنة، ومثل هذا يكون مآله الخذلان وعدم التوفيق في كل ما يأتي وفي كل ما يدع، لأن سنة الله تعالى مضت بأنه لا يمنح التوفيق إلا لمن تجردوا من ذواتهم، واستخرجوا منها حظ الشيطان، بل ولجأوا بكليتهم إليه، تبارك اسمه وتعاظمت آلاؤه، وقضوا حياتهم في طاعته وخدمته، كما قال تعالى في كتابه الكريم:{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} (العنكبوت)، وكما ورد في الحديث القدسي:(.. وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه)([12])
ومنها الانهيار في أوقات المحن و الشدائد.. ذلك أن المعجب بنفسه كثيراً ما يهمل نفسه من التزكية والتزود بزاد الطريق، ومثل هذا ينهار ويضعف مع أول شدة أو محنة يتعرض لها، لأنه لم يتعرف على الله في الرخاء حتى يعرفه في الشدة، كما قال تعالى:{ ِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} (النحل)، وقال :{.. وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} (العنكبوت)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة..)([13])
ومنها النفور من الآخرين.. ذلك أن المعجب بنفسه قد عرَّض نفسه بصنيعه هذا لبغض الله له، ومن أبغضه الله أبغضه أهل السموات، ثم يوضع له البغض في الأرض، فترى الناس ينفرون منه، ويكرهونه ولا يطيقون رؤيته، بل ولا سماع صوته.. لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا، فقال:( إن الله إذا أحب عبداً، دعا جبريل فقال : إني أحب فلاناً فأحبَّه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادى في السماء فيقول : إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، قال : ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول : إني أبغض فلاناً فأبغضْه، قال فيبغضه جبريل، ثم ينادى في أهل السماء، إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال : فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض)([14])
ومنها العقاب أو الانتقام الإلهي عاجلاً أو آجلاً.. ذلك أن المعجب بنفسه قد عرَّض نفسه بهذا الخلق إلى العقاب والانتقام الإلهي عاجلاً بأن يصاب بالقلق والتمزق والاضطراب النفسي وغيرها من ألوان العقوبات العاجلة، أو آجلاً بأن يعذب في النار مع المعذبين.. لقد جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين هذين النوعين من العقوبات، فقال 🙁 بينما رجل يمشى في حلة تعجبه نفسه، مرجِّل جمَّته([15]) إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة)([16])
قال الرجل: وعينا هذا.. فما المنشار الذي نقطع به جذور هذه الشجرة؟
قال الآجري: هذه الشجرة لا تقطع، وإنما توجه بذورها التوجيه الصحيح لتنتج الثمار الصحيحة.
قال الرجل: فبم توجه؟.. وكيف توجه؟
قال الآجري: أولها تذكر الإنسان دائماً لحقيقة نفسه، فإذا علم المعجب بنفسه أن نفسه التي بين جنبيه لولا ما فيها من النفخة الإلهية ما كانت تساوى شيئاً، فقد خلقت من تراب تدوسه الأقدام، ثم من ماء مهين يأنف الناظر إليه من رؤيته، وسترد إلى هذا التراب مرة أخرى، فتصير جيفة منتنة، يفر الخلق كلهم من رائحتها، وهي بين البدء والإعادة تحمل في بطنها الفضلات ذات الروائح الكريهة، ولا تستريح ولا تهدأ إلا إذا تخلصت من هذه الفضلات.
إن مثل هذا التذكر يساعد كثيراً في ردع النفس، وردها عن غيها، واقتلاع داء الإعجاب منها، بل وحمايتها من التورط فيه مرة أخرى.
وقد لفت أحد الصالحين النظر إلى هذه الوسيلة حين سمع معجباً بنفسه قائلاً 🙁 أتعرف من أنا؟) فرد عليه بقوله: (نعم : أعرف من أنت، لقد كنت نطفة مذرة، وستصير جيفة قذرة، وأنت بين هذا وذاك تحمل العذرة)
وقد ذكر بعض الشعراء هذا المعنى، وأحسن، فقال:
يا مظهر
الكبر إعجابا بصورته لو فكّر النّاس فيما في بطونهم هل في ابن آدم مثل الرّأس مكرمة أنف يسيل وأذن ريحها سهك يا بن التّراب ومأكول التّراب غدا |
انظر خلاك فإنّ النّتن تثريب ما استشعر الكبر شبّان ولا شيب وهو بخمس من الأقذار مضروب والعين مرفضّة والثّغر ملعوب أقصر فإنّك مأكول ومشـــــــروب |
قال آخر: علمنا هذا.. فهل هناك بلسم غيره؟
قال الآجري: أجل.. تذكر حقيقة الدنيا والآخرة.. فإذا عرف المعجب بنفسه أن الدنيا مزرعة للآخرة، وأنه مهما طال عمر الدنيا فإنها إلى زوال، وأن الآخرة هي الباقية، وأنها هي دار القرار.. إذا عرف هذه الحقائق فإنه لا شك سيعدل من سلوكه، ويقوم عوج نفسه، قبل أن تنتهي الحياة، وقبل أن تضيع الفرصة، ويفوت الأوان.
قال آخر: فما غيره؟
قال الآجري: تذكر النعم التي تغمر الإنسان، وتحيط به من كل الجهات، كما قال تعالى:{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} (النحل)، وقال تعالى :{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.. (20)} (لقمان)
إن هذا التذكر من شأنه أن يشعر الإنسان بضعفه وفقره، وحاجته إلى الله دائماً، وبالتالي يطهر نفسه من داء الإعجاب، بل ويقيه أن يبتلى به مرة أخرى.
قال آخر: وعينا هذا.. فما غيره؟
قال الآجري: التفكر في الموت وما بعده من منازل ومن شدائد وأهوال، فإن ذلك كفيل باقتلاع الإعجاب من النفس، بل وتحصينها ضده، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال آخر: وعينا هذا.. فما غيره؟
قال الآجري: دوام الاستماع أو النظر في كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودوام حضور مجالس العلم، لاسيما تلك التي تدور حول علل النفس وطريق الخلاص منها، فإن أمثال هذه المجالس كثيراً ما تعين على تطهير النفس، بل وصيانتها.
قال آخر: وعينا هذا.. فما غيره؟
قال الآجري: الاطلاع على أحوال المرضى وأصحاب العاهات بل و الموتى، لاسيما في وقت غسلهم وتكفينهم ودفنهم، ثم زيارة القبور بين الحين والحين والتفكر في أحوال أهلها ومصيرهم، فإن ذلك يحرك الإنسان من داخله، ويحمله على اقتلاع العجب ونحوه من كل العلل والأمراض النفسية أو القلبية.
قال آخر: وعينا هذا.. فما غيره؟
قال الآجري: تعريض النفس بين الحين والآخر لبعض المواقف التي تقتل كبرياءها وتضعها في موضعها الصحيح، كأن يقوم صاحبها بخدمة إخوانه الذين هم أدنى منه في المرتبة، أو أن يقوم بشراء طعامه من السوق، وحمل أمتعته بنفسه.
قال رجل من الحاضرين: وعينا هذا فحدثنا عن الصنم الثاني من أصنام الأنا.. ذلك الذي سميته الكبر.
قال الآجري([17]): التكبر هو إظهار الإنسان إعجابه بنفسه بصورة تجعله يحتقر الآخرين في أنفسهم وينال من ذواتهم ويترفع عن قبول الحق منهم.
قال الرجل: ففرح الإنسان المجرد بما عنده ليس كبرا؟
قال الآجري: هو ليس كبرا، ولكنه قد يصير عجبا.. وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:( لا يدجل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة؟ قال: (إن الله جميل يحب الجمال.. الكبر بطر الحق([18]) وغمط الناس([19]) )([20])
قال الرجل: أليس التكبر هو العزة؟
قال الآجري: التكبر هو العزة بالباطل، وهي التي أشار إليها قوله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)} (البقرة)، وقوله تعالى :{ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)} (النساء)
وقد تكون هناك عزة بالحق.. وهي العزة التي أشار إليها قوله تعالى:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)} (فاطر)
وقد جمع الله بينهما في قوله تعالى :{ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} (المنافقون)
قال الرجل: فما البذور التي تنبت منها شجرة الكبر؟
قال الآجري: جميع البذور التي تنبت منها شجرة العجب تنبت منها شجرة الكبر.. فليس الكبر إلا ثمرة من ثمار العجب..
قال الرجل: ولكن الكبر غير العجب.. وهذا يعني أن للكبر مياهه الخاصة التي تسقيه.
قال الآجري: صدقت..
قال الرجل: فاذكر لنا منها ما نعرف به منابع الكبر من نفوسنا.
قال الآجري: من ذلك اختلال معايير التفاضل عند الناس..
قال الرجل: متى يكون ذلك.. وما علاقته بالكبر؟
قال الآجري: يحصل ذلك إذا ساد الجهل في الناس إلى حد اختلال القيم أو معايير التفاضل عندهم، فتراهم يفضلون صاحب الدنيا، ويقدمونه حتى لو كان عاصياً أو بعيداً عن الله، في الوقت الذي يحتقرون فيه البائس المسكين الذي أدارت الدنيا ظهرها له حتى وإن كان طائعاً ملتزماً بهدى الله، ومن يعيش في هذا الجو قد يتأثر به.. ويتجلى هذا التأثر في احتقار الآخرين و الترفع عليهم.
وقد ألمح القرآن الكريم إلى هذا الباعث، فقال:{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} (مريم)، وقال:{ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} (سبأ)
وقد روي في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم مر على رجل، فقال لأصحابه: ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: نقول هو من أشرف الناس، هذا حري إن خطب أن يخطب، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومرَّ رجل آخر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :ما تقولون في هذا؟ قالوا : نقول والله يا رسول الله، هذا من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب لم ينكح، وإن شفع لا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لهذا خير من ملء الأرض مثل هذا)([21])
قال آخر: وعينا هذا.. فما غيره؟
قال الآجري: مقارنة المتكبر ما رزقه الله من نعمة بما رزقه الآخرين مع نسيان المنعم، ذلك أن من الناس من يحبوه الله – لحكمة يعلمها – بنعم يحرم منها الآخرين، كالصحة والولد والمال والجاه والعلم وحسن الحديث.. وتحت تأثير هذه النعم ينسى المنعم، ويأخذ في الموازنة بين نعمته ونعمة الآخرين فيراهم دونه فيها، وحينئذٍ يحتقرهم ويزدريهم ويضع من شأنهم.. وهذا هو التكبر.
وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا السبب من خلال حديثه عن قصة صاحب الجنتين فقال:{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)} (الكهف)
قال آخر: وعينا هذا.. فما غيره؟
قال الآجري: ظن دوام النعمة وعدم التحول عنها..
قال الرجل: ما معنى هذا؟
قال الآجري: أنتم ترون أن بعض الناس قد تأتيه النعمة من نعم الدنيا، وتحت تأثيرها وبريقها يظن دوامها أو عدم التحول عنها، وينتهي به هذا الظن إلى التكبر أو الترفع أو التعالي على عباد الله، كما قال صاحب الجنتين لصاحبه:{.. مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)} (الكهف)، وكما قال الله عن الإنسان:{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى.. (50)} (فصلت)
قال آخر: وعينا هذا.. فما غيره؟
قال الآجري: السبق.. فبعض الناس يتيح الله له من الفرص ما يسبق به غيره.. وقد يجره النظر إلى سبقه إلى ازدراء اللاحق والنظر إليه نظرة ازدراء واحتقار.
وقد لفت الله تعالى النظر إلى هذا السبب حين بين أن السبق لا يعتبر، ولا قيمة له إلا إذا كان معه الصدق، فقال:{ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (الحشر)
انظروا كيف لم يعتبر الله مجرد السبق مزية وفضلا، بل ضم إليه الأسباب الحقيقية للتفضيل، ومنها الهجرة والنصرة واتباع سبيل المؤمنين، وحسن الصلة بالله ومعرفة الفضل لذويه وغيرها.
قال آخر: وعينا هذا.. فما غيره؟
قال الآجري: الغفلة عن الآثار المترتبة على التكبر.. فمن غفل عن الآثار الضارة لعلة من العلل، أو آفة من الآفات، فإنه يصاب بها وتتمكن من نفسه، ولا يشعر بذلك إلا بعد فوات الأوان.
قال رجل: وعينا هذا.. فحدثنا عن الألوان التي يظهر بها المتكبر، والملابس التي يلبسها.
قال الآجري: لقد ذكر الله تعالى مظاهر الكبر وألوانه وألبسته، وفصل ذلك تفصيلا طويلا محذرا منه:
ومن ذلك الاختيال في المشية مع لي صفحة العنق وتصعير الخد، قال تعالى:{ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)} (الحج)، وقال: { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} (لقمان)، وقال :{ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} (الحديد)
ومن ذلك الإفساد في الأرض عندما تتاح له الفرصة مع رفض النصيحة، والاستنكاف عن الحق، قال تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)} (البقرة)
ومن ذلك التقعر في الحديث، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه، كما تخلل البقرة بلسانها)([22])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (ألا أنبئكم بشراركم؟ هم الثرثارون المتشدقون..)([23])
ومن ذلك محبة أن يسعى الناس إليه، ولا يسعى هو إليهم، وأن يمثلوا له قياماً إذا قدم أو مر بهم، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 من أحب أن يمتثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)([24])
قال آخر: وعينا هذا.. فحدثنا عن الثمار التي تثمرها شجرة الكبر المسمومة.
قال الآجري: أولها الحرمان من النظر والاعتبار.. فالمتكبر – بترفعه وتعاليه على عباد الله – قد اعتدى من حيث يدرى أو لا يدرى على مقام الألوهية، ومثل هذا لابد له من عقوبات، وأولها الحرمان من النظر والاعتبار، فتراه يمر على آيات الله المبثوثة في النفس والكون، وهو في إعراض تام عنها، قال تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)} (يوسف)
ومن حرم النظر والاعتبار كانت عاقبته البوار و الخسران المبين، لأنه سيبقى مقيماً على عيوبه وأخطائه، غارقاً في أوحاله.. لقد ذكر الله ذلك، فقال:{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)} (الأعراف)
قال آخر: عرفنا هذه الثمرة، وعرفنا خطرها.. فهل هناك غيرها؟
قال الآجري: أجل.. هناك ثمرة القلق والاضطراب النفسي.. فالمتكبر يحب – إشباعاً لرغبة الترفع والتعالي أن يحنى الناس رؤوسهم له، وأن يكونوا دوماً في ركابه، ولأن أعزة الناس وكرامهم يأبون ذلك، بل ليسوا مستعدين له أصلاً، فإنه يصاب بخيبة أمل، تكون عاقبتها القلق والاضطراب النفسي، هذا فضلاً عن أن اشتغال هذا المتكبر بنفسه يجعله في إعراض تام عن معرفة الله وذكره، وذلك له عواقب أدناها في هذه الدنيا القلق والاضطراب النفسي.
لقد ذكر الله ذلك، فقال:{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} (طه)، وقال :{ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) } (الجن)
قال آخر: عرفنا هذه الثمرة، وعرفنا خطرها.. فهل هناك غيرها؟
قال الآجري: أجل.. هناك ثمرة الملازمة للعيوب والنقائص.. ذلك أن التكبر لظنه أنه بلغ الكمال في كل شئ لا يفتش في نفسه، فيصلح ما هو في حاجة منها إلى إصلاح، ولا يقبل كذلك نصحاً أو توجيهاً أو إرشاداً من الآخرين، ومثل هذا يبقى غارقاً في عيوبه ونقائصه، ملازماً لها إلى أن تنقضي الحياة، ويدخل النار مع الداخلين، قال تعالى:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} (الكهف)
قال آخر: عرفنا هذه الثمرة، وعرفنا خطرها.. فهل هناك غيرها؟
قال الآجري: أجل.. هناك ثمرة الحرمان من الجنة.. ذلك أن المتكبر يعتدي بتكبره على مقام الألوهية، ويظل مقيماً على عيوبه ورذائله، ولذلك ستنتهي به الحياة وما حصل خيراً يستحق به ثواباً، فيحرم الجنة، ومن حرم الجنة دخل النار.
وقد امتلأ القرآن الكريم بالآيات التي تقرر العذاب الشديد الذي خصصه الله تعالى للمتكبرين، قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)} (الأعراف)، وقال:{ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)} (غافر)
ومثل ذلك وردت الأحاديث النبوية الكثيرة مخبرة عن الويلات الشديدة التي تنتظر المتكبرين جزاء وفاقا على تكبرهم، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يقول اللّه سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري. من نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنّم)([25])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (احتجّت النّار والجنّة فقالت هذه: يدخلني الجبّارون والمتكبّرون. وقالت هذه: يدخلني الضّعفاء والمساكين. فقال اللّه عزّ وجلّ لهذه: (أنت عذابي أعذّب بك من أشاء) وقال لهذه: (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء). ولكلّ واحدة منكما ملؤها)([26])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر كبّه اللّه لوجهه في النّار)([27])
وقال: (ألا أخبركم بأهل الجنّة؟)، قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كلّ ضعيف متضعّف، لو أقسم على اللّه لأبرّه)، ثمّ قال: (ألا أخبركم بأهل النّار؟) قالوا: بلى. قال: (كلّ عتلّ([28]) جوّاظ([29]) مستكبر)([30])
وقال: (إنّ من أحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدكم منّي مجلسا يوم القيامة الثّرثارون والمتشدّقون والمتفيهقون)، قالوا: يا رسول اللّه قد علمنا الثّرثارون والمتشدّقون. فما المتفيهقون؟ قال: (المتكبّرون)([31])
وقال: (ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكّيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذّاب، وعائل مستكبر)([32])
وقال: (لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر). قال رجل: إنّ الرّجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: (إنّ اللّه جميل يحبّ الجمال. الكبر بطر الحقّ([33]) وغمط النّاس([34])([35])
وقال: (من مات وهو بريء من الكبر، والغلول والدّين دخل الجنّة)([36])
وقال: (يحشر المتكبّرون يوم القيامة أمثال الذّرّ في صور الرّجال يغشاهم الذّلّ من كلّ مكان فيساقون إلى سجن في جهنّم يسمّى بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النّار طينة الخبال)([37])
وقال: (أربع في أمّتي من أمر الجاهليّة لا يتركونهنّ([38]): الفخر في الأحساب، والطّعن في الأنساب، والاستسقاء بالنّجوم، والنّياحة)، وقال: (النّائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)([39])
وقال: (أربعة يبغضهم اللّه- عزّ وجلّ: البيّاع الحلّاف، والفقير المختال، والشّيخ الزّاني، والإمام الجائر)([40])
وقال: (بينما رجل يتبختر. يمشي في برديه قد أعجبته نفسه فخسف اللّه به الأرض. فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)([41])
وقال: (لا يزال الرّجل يذهب بنفسه([42]) حتّى يكتب في الجبّارين، فيصيبه ما أصابهم)([43])
وقال: (تخرج عنق من النّار([44]) يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق، يقول: إنّي وكّلت بثلاثة: بكلّ جبّار عنيد، وبكلّ من دعا مع اللّه إلها آخر، وبالمصوّرين)([45])
قال آخر: عرفنا هذه الثمرة، وعرفنا خطرها، وقد ملأتنا مخافة منها.. فهل هناك غيرها، فإن هناك من يخاف من الثمرات العاجلة أكثر من خوفه من الثمرات الآجلة؟
قال الآجري: أجل.. هناك ثمرات كثيرة عاجلة تثمرها ثمرة الكبر..
منها أن المتكبر يبتلى بقلة الأنصار والمحبين الذين قد يستعين بهم على دنياه.. ذلك أن القلوب جبلت على حب من ألان لها الجانب، وخفض لها الجناح، ونظر إليها من دون لا من علٍ، أما من ترفع عليها واحتقرها أو ازدراها ونال منها، فإنها تبغضه وتنفر منه، بل وتحاول الابتعاد عنه، وتكون العاقبة خواء ذات اليد من الأنصار من ناحية، ووقوع الفرقة والتمزق بين من هو نصير وظهير بالفعل من ناحية أخرى.
وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا الأثر، وهو يتحدث عن المنافقين فقال:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)} (المنافقون)
ومنها حرمان المتكبر من العون الإلهي.. ذلك أن سنة الحق مضت أنه لا يعطى عونه وتأييده إلا لمن هضموا نفوسهم حتى استخرجوا حظ الشيطان منها، والمتكبرون قوم كبرت نفوسهم، ومن كانت هذه صفته، فلا حق له في عون أو تأييد إلهي، قال تعالى يشير إلى هذا:{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} (آل عمران)
انظروا كيف ربط الله نصره للمؤمنين بحالهم التي كانوا عليها من المسكنة والتواضع وهضم النفس، وكأن هذه الحال إذا انعدمت أو غابت غاب معها العون والتأييد.
قال آخر: وعينا كل هذا.. فحدثنا عن الترياق الذي نداوي به هذا الداء، ونتخلص به من هذه البذرة الخبيثة.
قال الآجري: انظروا في أخبار المتكبرين، كيف كانوا؟ وإلى أي شئ صاروا؟.. ابحثوا عن أخبار النمرود وفرعون وهامان وقارون وأبى جهل وأبى بن خلف وسائر الطغاة والجبارين والمجرمين، في كل العصور والبيئات، فإن ذلك مما يخوف النفس ويحملها على التوبة والإقلاع، خشية أن تصير إلى نفس المصير، وكتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكتب التراجم والتاريخ خير ما يعينكم على ذلك.
قال آخر: وعينا هذا.. فهل من علاج غيره؟
قال الآجري: ذكروا نفوسكم بالعواقب والآثار المترتبة على التكبر، فلعل هذا التذكير يحرك نفوسكم من داخلها، ويحملها على أن تتوب، وتتدارك أمرها قبل ضياع العمر وفوات الأوان.
قال آخر: وعينا هذا.. فهل من علاج غيره؟
قال الآجري: عودوا المرضى، وشاهدوا المحتضرين وأهل البلاء، وشيعوا الجنائز وزوروا القبور، فلعل ذلك يحرككم من داخلكم، ويعيدكم إلى الإخبات والتواضع.
قال آخر: وعينا هذا.. فهل من علاج غيره؟
قال الآجري: انسلخوا من صحبة المتكبرين، وصاحبوا بدلهم المتواضعين المخبتين، فربما تعكس هذه الصحبة بمرور الأيام شعاعها عليكم، وقد كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجالسة ضعاف الناس وفقرائهم، وذوى العاهات منهم، بل ومؤاكلتهم ومشاربتهم.
قال آخر: وعينا هذا.. فهل من علاج غيره؟
قال الآجري: تفكروا في النفس، وفي الكون، وفي كل النعم التي تحيط به من أعلاه إلى أدناه، مَن مصدر ذلك كله ومن ممسكه، وبأي شئ استحقه العباد، وكيف تكون حاله لو سلبت منه نعمة واحدة فضلاً عن باقي النعم.. فإن ذلك التفكر سيحرك النفس لا محالة ويجعلها تشعر بخطر ما هي فيه، إن لم تبادر بالتوبة والرجوع إلى ربها.
واستعينوا على هذا التفكر بحضور مجالس العلم التي يقوم عليها علماء ثقات نابهون، لاسيما مجالس التذكير والتزكية، فإن هذه المجالس لا تزال بالقلوب حتى ترق وتلين وتعود إليها الحياة من جديد.
قال آخر: وعينا هذا.. فهل من علاج غيره؟
قال الآجري: احملوا النفس على ممارسة بعض الأعمال التي يتأفف منها كثير من الناس ممارسة ذاتية ما دامت مشروعة، كأن يقوم المتكبر بشراء طعامه وشرابه وسائر ما يلزمه بنفسه، ويحرص على حمله و المشي به بين الناس، حتى لو كان له خادم، على نحو ما كان يصنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هذا يساعد كثيراً في تهذيب النفس وتأديبها، والرجوع بها إلى سيرتها الأولى الفطرية، بعيداً عن أي التواء أو اعوجاج.
قال آخر: وعينا هذا.. فهل من علاج غيره؟
قال الآجري: اعتذروا لمن تطاولتم عليه بسخرية أو استهزاء، بل ضعوا خدودكم على التراب عساه يعفو عنكم.. اصنعوا ما صنع أبو ذر مع بلال لما عاب عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعييره بسواد أمه.
***
بقينا مع الآجري أياما
معدودات يعلمنا فيها أمراض الأنا، ويستعمل في التنفير عنها كل ما آتاه الله من
العلم والحكمة.. وبعد أن رأى أن المحيطين به قد فقهوا عنه ما أراد أن يبلغهم إياهم
ويدربهم عليه، طلب منهم أن يسيروا للقسم الثالث.
([1]) أشير به إلى محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر الآجري (ت 360 هـ)، وهو فقيه شافعي محدث، نسبته إلى آجر (من قرى بغداد) ولد فيها، وحدث ببغداد، قبل سنة 330 ثم انتقل إلى مكة، فتنسك، وتوفي فيها. له مؤلفات كثيرة في الأخلاق اخترناه هنا لأجلها، منها (أخلاق حملة القرآن) و(أخلاق العلماء) و(التفرد والعزلة) و(حسن الخلق) و(الشبهات) و(تغير الازمنة) و(النصيحة) و(كتاب الاربعين حديثا) و(كتاب الشريعة) و(الغرباء) و(فرض طلب العلم) و(ما ورد في ليلة النصف من شعبان)
([2]) عرف العجب بأنه: (استعظام النّعمة والرّكون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم عزّ وجلّ)
([3]) رواه البزار بإسناد جيد.
([4]) الجمه: هي مجتمع الشعر إذا تدلى من الرأس إلى المنكبين.
([5]) التجلجل هو أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد، ويندفع من شق إلى شق، والمراد أنه ينزل في الأرض مضطربا متدافعا.
([6]) رواه البخاري.
([7]) فيه: أي في ذلك الوقت وتلك الأيام.
([8]) رواه أبو داود، واللفظ له، وابن ماجة.
([9]) من مراجعنا في هذا المطلب كتاب (آفات على الطريق)، للدكتور السيد محمد نوح.
([10]) رواه مسلم.
([11]) رواه البخاري ومسلم.
([12]) رواه البخاري وغيره.
([13]) رواه أحمد.
([14]) رواه مسلم.
([15]) مرجل جمته : أي مسرح ما سقط على المنكبين من شعر رأسه، إذ الجمة من شعر الرأس ما سقط على المنكبين.
([16]) رواه البخاري ومسلم.
([17]) من مراجعنا في هذا المطلب كتاب (آفات على الطريق)، للدكتور السيد محمد نوح.
([18]) بطر الحق: إنكار الحق ودفعه ترفعاً وتجبراً.
([19]) غمط الناس: احتقارهم.
([20]) رواه مسلم.
([21]) رواه ابن ماجة.
([22]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
([23]) رواه أحمد.
([24]) رواه أبو داود.
([25]) رواه مسلم وابن ماجة واللفظ له.
([26]) رواه البخاري ومسلم.
([27]) رواه أحمد والبيهقى من طريقه بإسناد صحيح.
([28]) العتل: الجافى الشديد الخصومة.
([29]) الجواظ: الجموع المنوع. وقيل المختال فى مشيته.
([30]) رواه البخاري ومسلم.
([31]) رواه الترمذى، وقال: هذا حديث حسن غريب.
([32]) رواه مسلم.
([33]) بطر الحق: هو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا.
([34]) غمط الناس وغمصهم: احتقارهم.
([35]) رواه مسلم.
([36]) رواه أحمد والترمذى واللفظ له، وابن ماجه، والحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
([37]) رواه الترمذى، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
([38]) لا يتركونهن: أي كل الترك. إن تركته طائفة، فعلته أخرى.
([39]) رواه مسلم.
([40]) رواه النسائى وابن حبان.
([41]) رواه البخارى ومسلم.
([42]) يذهب بنفسه: أى يترفع ويتكبر.
([43]) رواه الترمذى وقال: حسن.
([44]) عنق- بضمتين- أي قطعة من النار.
([45]) رواه الترمذى واللفظ له وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، ورواه الطبرانى بإسنادين رواة أحدهما رواة الصحيح.