ثانيا ـ الأطفال

ثانيا ـ الأطفال

في اليوم الثاني، سرت إلى روضة للأطفال كان قد أسسها في تلك المدينة القاسية رجل من رجالنا.. كان لكثرة ترديده لاسم منظمة (اليونيسيف)([1])  يطلق عليه في تلك البلاد اسم (يونيسيف).. وقد أعجبه الاسم ورضي به، فصار لا يعرف إلا به.

وكان – على حسب ما علمت – قد تفنن في تصميمها، فحولها إلى جنة غناء من جنان الدنيا، تفيض بكل أنواع الجمال.

وبعد أن انتهى من تصميمها وبنائها جمع لها من أبناء المدينة أكثرهم ذكاء، وأوفرهم فطنة، ليصيغهم على حسب تصوره إلى أنموذج تحتذي به المدينة جميعا، أو تنبهر به المدينة جميعا.

وقد نجح صاحبنا في كل ذلك.. وذلك ما دفعه إلى أن يركب من مطايا الغرور ما جعله يقيم حفلا كبيرا يدعو له الوجهاء والعلماء، بل والعامة من الناس، ليروا إنجازه العظيم.. فإذا ما انبهروا به، سهل عليه أن يمرر عليهم رسالته التي لم يأت هذه المدينة، ولم يتكبد ذلك الشقاء إلا من أجل تحقيقها.

بعد أن اجتمع العامة والوجهاء في قاعة الحفل.. وذلك بعد مرورهم على كل أجنحة الروضة، وامتلائهم إعجابا بها، وبالأنشطة التي يقوم بها الصبية فيها.. خرج صاحبنا الممتلئ غرورا لينعق أمام الصبية وآبائهم ومن زار الروضة ذلك اليوم بمحاضرة لم تكن تهدف في الحقيقة إلا إلى شيء واحد هو أن الإسلام ظلم الطفولة، وهضمها حقوقها، وأنه تعامل بقسوة بالغة مع براءة الطفولة..

وكان من ضمن ما قال: اسمعوا لأمر محمد بضرب الأطفال.. إنه يقول بكل قسوة:(اضربوهم إذا بلغوا عشرا)([2]).. بل يأمر قبل ذلك.. وفي اليوم السابع من ميلادهم بإجراء عملية يسمونها الختان لا هدف لها إلا إذيتهم من غير قيام أي داع لذلك.. هي عملية جبرية قسرية تنم عن قسوة الإسلام، وعدم احترامه لبراءة الطفولة.

بعد أن أملى على الحضور في لحظة نشوته تلك الرسالة.. أراد أن يبرهن عليها، فأحضر أشرطة تصور حال صبية الروضة قبل قدومهم إليها.. وكيف كانوا يعانون جميع أنواع المشاق.. وكيف كانوا يعاملون بكل أنواع القسوة.

ثم أردف ذلك بإخراج أولئك الصبية أنفسهم ليراهم الحضور، وكيف تغير حالهم..

بل إنه إمعانا في بيان الدور العظيم الذي قام به.. طلب من الصبية أن يتحدثوا.. فتحدثوا شاكرين له، ولمجهوده الكبير الذي قدمه..

وكان للحفل أن ينجح، ويؤدي دوره الذي أراده منه لو أنه اكتفى بذلك.. ولكنه في لحظة نشوته راح من غير شعور يخير الصبية بين تلك الحياة الجميلة التي يحيونها في روضته وبين الإسلام قائلا لهم، وبسمة الغرور تملأ فاه: ما رأيكم – الآن- أحبائي الصغار في هذه الحياة التي منت بها عليكم هذه الحضارة، وبين الحياة التي أراد محمد أن تعيشوها.

وهنا تغيرت وجوه الصبية تغيرا تاما.. بل إن أحدهم لم يطق الاكتفاء بتغير الوجه، فراح يقول لصاحب الروضة بكل قوة: أي محمد تقصد؟

قال الرجل: ليس هناك إلا محمد واحد.. ذلك البدوي القاسي الذي صاغ دينا بدويا، وطلب من البشر جميعا أن يتحولوا إلى بدو قساة..

قال الصبي: تقصد محمدا الذي أرسله الله رحمة للعالمين؟

قهقه الرجل بصوت عال، وقال: أجل..

ثم التفت إلى الجموع، وراح يصيح: انظروا الغرور العظيم الذي كان عليه ذلك الرجل.. إنه لم يكتف بأن يزعم لنفسه الرحمة لقومه حتى راح يزعم أنه رحمة للعالمين..

وكيف يكون رحيما ذلك الذي يدعو إلى ضرب الصبية.. وإعناتهم.. وملأ حياتهم بالتكاليف الشاقة!؟

قاطعه الصبي، وقال: لقد سمعنا موقفك – حضرة الأستاذ الفاضل- فهل تأذن لنا في الجواب؟

قال الرجل بكل غرور: أجل.. لقد خيرتكم بين هذه الحياة الكريمة التي وفرتها هذه الحضارة الرحيمة، وبين الحياة القاسية التي دعاكم محمد إلى تحملها.

قال الصبي: قبل أن أجيبك عن هذا السؤال، أخبرك – أولا- أن القسوة التي كنت أعيش فيها مع رفاقي جميعا لم تكن قسوة مرتبطة بتشريعات الإسلام، ولا بتعاليم محمد.. وإنما كانت قسوة ناشئة عن الحالة المادية التي اضطرتنا الحياة إليها اضطرارا.

ومع ذلك.. ومع تلك القسوة الظاهرية.. كنا ننعم برحمة باطنية كبيرة تملأ حياتنا بالجمال الذي لا يراه الناس.

نعم لم يكن للبيوت التي تكننا مثل هذا الجمال الذي تمتلئ به هذه الروضة.. ولم يكن فيها من المرافق ما فيها.. ولكنا مع ذلك كنا نشعر أن آباءنا لم يكونوا يقصدون شيئا من القسوة حولنا.. ولكن ذات يدهم جعلتهم لا ينيلوننا من الحياة إلا ما رأيتموه.. وليس لذلك كله صلة بالإسلام.

تغير وجه (يونيسيف) لإجابة هذا الصبي، وقال، وهو يحاول أن يستر موقفه: لا بأس.. دعنا من حياتكم.. وأخبرني عن التعاليم التي جاء بها محمد.. ألا ترى أن فيها وحدها ما يكفي للبرهنة على موقف الإسلام القاسي من الطفولة؟

ابتسم الصبي، وقال: إن أذنت لي، وأذن لي هذا الجمع المبارك، فسأحدثكم مع رفاقي الصبية عن التعاليم العظيمة التي جاء بها الإسلام حول الطفولة.. وسترون فيها البرهان الكافي على رحمة الإسلام بالطفولة.. وهي نفس رحمته التي شملت الحياة جميعا.

تغير وجه (يونيسيف)، ولكنه ستر تغيره بابتسامة عريضة قال بعدها: لقد خططتم لهذا اليوم إذن؟

قال الصبي: لا.. لم نخطط.. ولكن الله أتاح لنا أن نقرأ تعاليم الإسلام من مصادرها الأصلية.. وقد أعطانا ذلك قناعة كبرى بما نقول.. فهل تراك تأذن لنا في الحديث؟

قال (يونيسيف): أجل.. أجل.. يسرني ذلك.. تحدثوا.. فما أجمل أن يسمع الكبار للصغار.

قال الصبي: لقد رأينا من خلال استقراء النصوص المقدسة أن الإسلام أعطى للأطفال أربعة حقوق كبرى تنتظم فيها جميع الحقوق.

أما أولها، فحقهم في الوجود.. وأما الثاني، فحقهم في الحياة.. وأما الثالث، فحقهم في المعاملة النفسية الرقيقة.. وأما الرابع، فحقهم في التربية الصحيحة الصالحة.

التفت إلى رفاقه الصبية، وقال: سيحدثكم أصدقائي عن هذه الحقوق، ولكم أن تسألوهم ما شئتم.

الوجود

تقدم الصبي الأول، وقال – بشجاعة لا تقل عن شجاعة صديقه-: أنا أسامة.. وهو اسم لصاحب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. صحبه صبيا([3]).. وقد كان الناس يطلقون عليه (حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) لما يرون من عناية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به، واهتمامه الخاص به، خاصة بعد استشهاد أبيه.

لقد ذكر لكم صاحبنا أني سأحدثكم عن حق الوجود.. وهو أول حق من حقوق الطفل.. ولا يمكن أن تقوم سائر الحقوق إلا عليه.

ضحك (يونيسيف) بصوت عال، وقال: حق الوجود!؟.. لم نسمع بهذا.. إن هذا أقرب إلى الهزل منه إلى الجد.. من ناقش في حق الوجود حتى يتحدث عنه؟ أوحتى يطالب أحد به؟

ابتسم أسامة، وقال: لقد ناقش هذا الحق اثنان.. أما أحدهما فحمل سلاح الدين ليحارب به هذا الحق.. وأما الثاني، فحمل سلاح الحضارة.

قال (يونيسيف): فمن حمل السلاح الأول؟

التفت الصبي إلي، وكأنه يقصدني، وقال: أما السلاح الأول، فحمله رجال من رجال الدين أرادوا أن يحاربوا فطرة الله في عباده، فاعتبروا الكمال في العزوبة، والانقطاع عن الناس، وحياة الرهبانية.

قال (يونيسيف): ومن حمل السلاح الثاني؟

قال أسامة: لقد حملته هذه الحضارة.. عندما نادى بعض قادتها بضرورة تحديد النسل.. لاشك أنك تعرفه.. إنه مالتوس([4]).. لقد صاح بملء فيه يقول:(السكان يتزايدون بمعدلات حسابية… إنه إذاً الاختلال، فالمجاعة..)

قال (يونيسيف): ذاك رجل كلاسيكي..  فدعنا منه.

قال أسامة: لم يكن مالتوس وحده هو الذي نادى بذلك.. لقد صاح بعده – وفي سنة 1968 – العالم البيولوجي (بول أيرلخ) في كتابه الشهير (القنبلة السكانية) يقول:(لقد انتهت معركة توفير الغذاء للجميع بالفشل التام، وسيعاني العالم في السبعينات من هذا القرن (العشرين) من المجاعات وموت ملايين من البشر جوعاً، وذلك على الرغم من أن أي برنامج قد نبدؤه اليوم لتفادي ذلك)

وقد استمر هذا العالم يطلق صيحاته التحذيرية هذه.. حتى أنه في عام 1970 ذكر أن هناك احتمال موت 65 مليون من البشر – أمريكيين بالتحديد – من الجوع، وأربعة بلايين من بقية سكان العالم، بين سنتي 1980/1989.

إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث.. ومع أن سكان العالم قد تضاعفوا منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، إلا إنتاج الغذاء قد تضاعف ثلاث مرات في الفترة نفسها.

إن صيحات التحذير لم تكف بعد.. ففي هذه الأيام ظهرت صيحات جديدة مدعومة بالإحصاءات والدراسات، فتقارير منظمة الفاو (منظمة الأغذية والزراعية) تؤكد أن نحو 25 ألف مليون طن من التربة الخصبة تتعرض للزوال سنوياً، بفعل عوامل التعرية.. وأن تصيب الفرد من الأرض الصالحة للزراعة سينكمش بحلول عام 2010، من 0.85 إلى نحو 0.4 هكتار، ويقول (كيث كولينز) – وهو كبير اقتصادي وزارة الزراعية الأمريكية –:  (ينبغي معالجة الوضع عن كثب)، ويذكر تقرير المعهد الدولي لأبحاث السياسية الغذائية (أنه ستصبح العلاقة بين إنتاج المواد الغذائية على مستوى العالم والأسعار علاقة مضطربة، الأمر الذي سيترجم على مخاطر أكبر بالنسبة للأمن الغذائي في دول العالم النامي)([5])..

قال (يونيسيف): نعرف هذا.. ونحن نريد أن تحدثنا عن موقف الإسلام لا عن موقف قومنا.. فنحن أعرف به منكم.

قال أسامة: الإسلام ينطلق في هذه المعاني من قناعات إيمانية بأن الله الذي خلق هذا الكون جميعا، لن يعجزه أن يرزق الخلائق جميعا قلوا أو كثروا..

لقد كان هذا هو الأسلوب الذي استعمله القرآن الكريم مع من كانوا يقتلون أولادهم مخافة على أنفسهم وعليهم من الفقر.. لقد قال الله تعالى ينهى عن ذلك:{ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} (الإسراء)، وقال:{ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.. (151)} (الأنعام)

وفي الحديث عن ابن مسعود قال:  سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال:(أن تجعل لله ندا وهو خلقك) قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي ؟ قال: (أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك)، قلت: ثم أي ؟ قال: (أن تزاني حليلة جارك)([6])، ثم تلا هذه الآية ([7]):{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ.. (70)} (الفرقان)

ولهذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شجع على الأكثار من الأولاد، مع مراعاة تنشئتهم نشأة صالحة.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم)([8])

ولهذا، فإن الإسلام حرم الإجهاض، وكل ما يؤدي إلى حرمان الأولاد من حق الوجود..

قال يونسيف: ولكن ألا يمكن أن يكون ما ادعاه مالتوس ورفاقه صحيحا.. وأن الزمان الذي يحصل فيه ما ادعوه لم يحل فقط؟

قال: بالنسبة لنا – نحن المسلمين – فإن إيماننا بالله يحول بيننا وبين هذه الدعاوى.. نحن نؤمن بأن وعد الله لابد أن يتحقق لا محالة..

لقد قال تعالى يعدد نعمه على عباده:{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)} (فصلت)، فأقوات العباد مقدرة، وهي مبثوثة في كل الأرض، وقد اختص الخالق عز وجل كل جزء منها بثروة تكفي ساكنيها وتسد احتياجاتهم.

قال يونسيف: ولكن.. ألا ترى أن هذا الوعد قد تخلف مرات كثيرة.. فكم ضربت المجاعات البشر.. وهي لا تزال تضربهم؟

قال أسامة: ذلك يعود للبشر.. لا لرب البشر.. فرب البشر أرحم بعباده من أن يقتلهم بالجوع، وهو يملك خزائن كل شيء.

قال يونسيف: فما تقول في المجاعات؟

قال أسامة: سل عنها الإنسان.. ذلك الذي راح بجشعه يرمي القمح في البحار في الوقت الذي يموت فيه إخوانه من البشر جوعا.. لعلك تعلم ذلك.

ولعلك تعلم ما يقوله الخبراء من أن تهديد العالم الثالث بنضوب الثروات أكذوبة كبرى، فالخطر الحقيقي كامن في سوء استخدام الثروات والكنوز التي تفيض بها الأراضي البكر.. وسوء التخطيط لتطوير إنتاجي أفضل.. وبينما تنقل هذه الخامات إلى بلاد الغرب وتنهب، ثم تعيد تصديرهما للأمم المترفة الاستعمارية لا يحصل أصحاب هذه الثروات إلا على الفتات.

ولعلك تعلم كذلك أن الأبحاث الحديثة تتحدث عن ظاهرة الانحسار السكاني في الغرب، وتصفها بأنها ظاهرة مخيفة وخطيرة تقلق الخبراء الاجتماعيين والسياسيين ورجال الأعمال، فأمريكا تتجه نحو حالة الصفر في النمو السكاني. فهي تقف الآن في النقطة التي يكون فيها عدد المواليد مساوياً لعدد الوفيات.. وتتحدث الأبحاث عن هذا الخطر الهائل الذي يتهدد الولايات المتحدة والدول الغربية على بعد بضعة أجيال، مما يؤدي إلى انخفاض القوة العاملة وما يؤدي إلى ركود الإنتاج، في حين أن الدول الفقيرة تنموا نمواً متزايداً.

وتقول الأبحاث أن عدد سكان أمريكا([9]) (212 مليون نسمة) وأن النمو السكاني في أمريكا يصل إلى درجة الصفر عندما يبلغ السكان 260 مليون نسمة.. ويشارك الولايات المتحدة في هذه الظاهرة السويد وألمانيا الغربية، اليابان، هنغاريا، رومانيا.. وأن نسبة المواليد في هذه الدول في هبوط مستمر منذ الحرب العالمية الأخيرة، وأن الهبوط كان هائلاً في السنوات الأربع الماضية، في السويد وفنلندا والنمسا وبلجيكا وألمانيا.. أما هنغاريا وبريطانيا فقد بلغت درجة الصفر.. والقلق ناجم من أن القوة العاملة سوف تتضاءل في المستقبل بما يؤدي إلى ركود الإنتاج، ومن أجل ذلك شددت بعض دول أوروبا في قضايا الإجهاض وفرضت عقوبات على من يفعله، ومنع السوقيات تداول الحبوب المانعة للحمل، وأعطوا إجازات أطول للزوجة الحامل.

ويتوقع الخبراء أن تصل أكثر دول أوروبا إلى درجة الصفر في النمو السكاني في بداية القرن الواحد والعشرين، كما يرى بعض الخبراء أن الانحسار السكاني إلى درجة الصفر سيؤدي إلى ركود اقتصادي واجتماعي خطير.

قال يونسيف: أجل.. أعلم كل هذا.. ولكن.. كيف تقول هذا، ونحن نرى في المسلمين من يدعو إلى تحديد النسل؟

قال: أولئك هم أعداء المسلمين الذين عز عليهم أن يكثر الله سواد المسلمين، فراحوا بكل صنوف الوساوس يدعون إلى هذه الخدعة ليحموا بها أهواءهم.

الحياة

بعد أن ذكر الصبي الأول ما يكفي من الأدلة على احترام الإسلام لحق الوجود، تقدم الصبي الثاني، وهو عمير، وقال – بشجاعة لا تقل عن شجاعة صديقيه-: أنا عمير.. وهو اسم يذكرني بصاحب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. صحبه صبيا.. كان اسمه أبا عمير، وقد ورد موقف لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرتبط به، ففي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخل على أم سليم ولها ابن من أبي طلحة، يكني أبا عمير، وكان يمازحه، فدخل عليه فرآه حزينا فقال: (ما لي أرى أبا عمير حزينا؟) قالوا: يا رسول الله مات نغره الذي كان يلعب به فجعل يقول: (أبا عمير ما فعل النغير([10]) ؟)([11])

لقد تحدث صاحبي أسامة عن حق الوجود.. وسأحدثكم أنا عن حق الحياة.

ابتسم يونسيف، وقال: ألا ترى أن الوجود والحياة شيء واحد؟

قال عمير: لا.. حق الوجود مرتبط بالحي قبل وجوده.. وأما حق الحياة، فمرتبط به بعد وجوده.

قال يونسيف: لا بأس.. فما شرع الإسلام في هذا؟

قال عمير: لقد شرع الإسلام في هذا كل ما يحفظ الحياة الكريمة للولد من أول أيام حياته إلى الوقت الذي يستطيع أن يقوم فيه بنفسه بعيدا عن حضانة والدية.

وأول ذلك أنه أوجب على الأم إرضاع ابنها رضاعة طبيعية.. قال تعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } (البقرة:233)، إن هذه الآية الكريمة تبين حرص الشريعة على إرضاع الصبي مهما كان حال الأسرة التي ينتمي إليها..

وهي تدل في نفس الوقت على أن الرضاع واجب لا يكفي فيه أي بديل إلا إذا حكم الطبيب المختص بعدم صلاحية لبن الأم للرضاعة أو عدم استعداد الرضيع لرضاعتها.

ابتسم يونسيف، وقال: لقد قالت شريعتكم بذلك قبل أن تنتج حضارتنا الراقية هذه الأنواع الكثيرة من الألبان التي تملأ حياة الرضع بالصحة والعافية.. وتغنيهم عن السموم التي تسقيهم بها أمهاتهم.

ابتسم عمير، وقال: إن قولك هذا – حضرة الأستاذ الفاضل – يستدعي مقارنة علمية مفصلة بين الرضاع الطبيعي والإرضاع الصناعي..

وإن أذنت لي.. فسأذكر لك من المعان ما ترى من خلاله نصح الشريعة وغش هذه الحضارة التي لا تبتغي من وراء كثير مما تنتجه إلا الربح المادي([12])..

قال يونسيف: لا حاجة لذلك.. وأنا أسلم لك بأهمية الرضاع.. ولكن ما تقول في الختان.. تلك العلمية الإجبارية التي فرضها الإسلام عقوبة على الأطفال من غير ذنب اقترفوه؟

قال عمير: قال: لم يفرض الإسلام الختان عقوبة – حضرة الأستاذ – وإنما فرضه رحمة.. وقد أثبتت الأيام أن التشريعات التي جاء بها الإسلام في هذا الباب كلها تشريعات رحمة ونصح ولطف من الله بعباده.. وإن أذنت لي، فسأذكر لك من أدلة ذلك ما تقر به عينك، وتعلم به الرحمة العظيمة التي يحملها هذا التكليف([13]).

ابتسم يونسيف، وقال: لا بأس.. لقد سلمت لك بكل ما ذكرت.. فهل هذا كل ما جاء به الإسلام لحفظ صحة الصغار؟

قال عمير: لا.. معاذ الله.. فالإسلام الذي هو رحمة الله لعباده يستحيل أن يقتصر على الجزئيات والطقوس.

قال يونسيف: فما جاء به غير هذا؟

قال عمير: لقد جاء الإسلام بمنظومة صحية كاملة([14]) لا يمكننا في هذا المجلس أن نذكرها.. ولكنا نعلم – على حسب ما ربانا آباؤنا – أن الإسلام أمر الوالدين وكل من يتولى شؤون الصغار أن يحرصوا على كل ما يحفظ للأبناء صحتهم.. فلا يمكن الإنسان أن يؤدي الأدوار العظيمة التي أمر بها الإسلام إلا بصحة وقوة وعافية.

اللطف

بعد أن انتهى الصبي الثاني من حديثه، قام الصبي الثالث، وقال – بشجاعة لا تقل عن شجاعة أصدقائه-: أنا حسنين .. وهو اسم سماني به والدي ليجمع لي بين الحسنين حفيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن والحسين ..

لقد روى المحدثون كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم يعامل حفيديه الحسن والحسين.. ففي الحديث: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسناً أو حسيناً، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوضعه، ثم كبَّر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصبي على ظهر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي؛ فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة، قال الناس: (يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يُوحى إليك)، فقال:(كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته)([15])

وفي حديث آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المنبر فحملهما، ووضعهما بين يديه، ثم قال: (صدق الله:{ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ.. (15)} (التغابن)، فنظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)([16])

وفي حديث آخر: قبَّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالس، فقال الأقرع: (إن لي عشرة من الولد، ماقبَّلت منهم أحداً)، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه ثم قال: (مَن لا يَرحم لا يُرحم)([17])

وفي حديث آخر: أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: أتقبِّلون صبيانكم؟! فما نقبِّلهم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(أو أملِك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟)([18])

وكان من رحمته صلى الله عليه وآله وسلم بالأطفال أنه كان يخفف الصلاة إن سمع بكاءهم.. حرصا عليهم.. ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم يحدث عن نفسه:(إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجاوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكاءه)([19])

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يتعهد الأطفال بالهدايا.. ففي الحديث: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أخذه قال: (اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدِّنا)، ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثمر([20]).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يصطحب الصغار للصلاة ويمسح على خدودهم رحمة وتشجيعاً لهم.. فعن جابر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الأولى- أي الظهر- ثم خرج إلى أهله، وخرجت معه، فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدَّي أحدهم واحداً واحداً، قال: وأما أنا فمسح خدي، فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها صلى الله عليه وآله وسلم من جونة عطار ([21]).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن الكذب الأطفال، أو إخلافهم الوعد.. فعن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطك، فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أردت أن تعطيه؟)، قالت: أعطيه تمرا، فقال لها:(أما أنك لو لم تعطِه شيئا كُتبت عليك كذبة)([22])

ولم تقتصر رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أطفال المسلمين فحسب، بل امتدت لتشمل جميع الأطفال حتى لو كانوا أبناء غير المسلمين.. فقد كان من وصاياه صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب: (ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا)([23])

وعن الأسود بن سريع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغزوت معه فأصبت ظفرًا، فقتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ما بال أقوام جاوز بهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية؟)، فقال رجل: يا رسول الله إنما هم أبناء المشركين، فقال: (ألا إن خياركم أبناء المشركين)، ثم قال: (ألا لا تقتلوا ذرية.. كل مولود يولد على الفطرة، فما يزال عليها حتى يعرب عنها لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)([24])

التربية

تقدم الصبي الرابع، وهو عبد الله، وقال – بشجاعة لا تقل عن شجاعة أصدقائه-: أنا عبد الله.. وهو اسم لجملة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصغار.. وكان منهم واحد يلقب بترجمان القرآن، كان اسمه عبد الله بن عباس.. صحبه صبيا.. وقد حكى موقفا من مواقف تربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له، فقال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقَالَ:(يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعَنْ باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)([25])، وفي رواية:(احفظ اللَّه تجده أمامك، تعرف إِلَى اللَّه في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)

انظروا – حضرات المستمعين – لهذه المعاني العظيمة التي يحملها الحديث..

إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخاطب فيه شيخا كبيرا.. ولا كهلا.. ولا شابا.. بل كان يخاطب بها طفلا صغيرا.. ليعمق فيه من معاني الإيمان ما يحمي به حياته جميعا.. فلا يمكن للحياة أن تستقيم من دون إيمان.

ضحك يونسيف بصوت عال، وقال: فكيف استقامت حياتنا من دون إيمان؟

قال عبد الله: إن أردت بالحياة أنكم تأكلون وتشربون وتنامون.. فيمكنك أن تقول ذلك.. ويمكنك أن تفخر به.. ولكنك في ذلك الحين تكون قد غفلت عن أهم معنى من معاني الحياة.

قال يونسيف: وما هو هذا المعنى؟

قال عبد الله: تكون غافلا عن ربك الذي خلقك.. وعن حقيقتك التي جعلها الله فيك.. وعن وظيفتك التي ندبت إليها في هذا الوجود.

قال يونسيف: أنا أصارحك.. أنا لا يهمني إلا أن يعيش أولادي الحياة المادية التي أراها.. أما ما عداها فلا يهمني منها شيء.. أنا إنسان لا تهمني إلا منفعة أولادي التي أراها بعيني، والتي أسست لأجلها هذه الروضة لتنعموا أنتم أيضا بها.

قال عبد الله: حتى لو كنت كما تقول، فإنك بالإيمان تستطيع أن تجعل من أولادك أفرادا صالحين.. فلا يمكن للحياة أن تستقيم من غير صلاح صاحبها.. ولا يمكن لشخص أن يصير صالحا من غير أن يكون له من زاد الإيمان ما يهيئه لذلك.

لست أنا فقط الذي أقول هذا الكلام.. ولا ديني فقط هو الذي يقوله.. بل إن من قومك من وصل إلى هذه القناعة.

لقد قرأت للدكتور (هنري لنك) – وهو طبيب نفسي أمريكي – كلاما مهما يرد به على خصوم التربية الدينية.. ذكره في كتابه (العودة إلى الإيمان)، ومما قال فيه: (إن تربية الأطفال لمن أشق الواجبات وأخطرها وأدقها، ومشاكلها شديدة التعقيد والعسر، وهي بعد ذلك ذات أوجه متناقضة عند حلها يكون معها الآباء في مسيس الحاجة إلى أية معونة خارجية، مهما بلغت درجة تواضعها وبساطتها.

وقد كان طبيعياً: بعد أن استغنى الآباء المستنيرون عن المعتقدات الدينية، وضربوا بها عرض الحائط، أن يولوا وجوههم شطر مصدر جديد من مصادر المعونة. فلم يجدوا أمامهم سوى علم النفس الخاص بالأطفال، ولكن علم نفس الأطفال لم يكن بعد، على استعداد لتقديم المعونة لهم، لآن الثقة بهذا العلم لم تكن قد تعدت الثقة النظرية حتى ذلك الوقت. وكان البرهان العلمي حينذاك في مهده صغيراً برغم تعدد نظرياته.

ومن هنا بدأ الآباء يعتنقون هذه النظريات التي كان أبرزها أن العقوبة البدنية ضارة من الوجهة النفسية، وأنه من الأفضل إقناع الطفل بعمل شيء ما، لا إرغامه بالقوة والعنف عليه، وأنه لا يجوز كبت الطفل بل على العكس يجب منحه الفرصة كي يعبر عن ذاته.. وأنه يجب منح الأطفال علاوة منتظمة حتى يمكنهم إدراك قيمة المال، وأن بعض الأطفال يولدون بطبيعتهم عصبيين أو ذوى حساسية مرهفة، وعليه فلا يجوز إرغامهم على أن يفعلوا، ويعملوا ما يفعله ويعمله غيرهم.

وللأسف، لم يظهر أي برهان علمي أو نفسي يؤيد هذه النظريات، بل بالعكس ثبت أن كل هذه النظريات خاطئة)([26])

وهو إذ يهدم هذه الأفكار التي راجت باسم العلم يوماً ما، يرى ضرورة العودة إلى الدين، واتباع منهجه في تربية الأطفال وتهذيب سلوكهم، وتقويم أخلاقهم، فليس أصلح للطفل من أن تقول له: هذا حسن، لأن الله أمر به، وأنه يحبه ويرضاه ويثيب عليه بالجنة، وبأن هذا قبيح، لأن الله نهى عنه وأنه يبغضه ويسخطه، ويعاقب عليه بالنار.

ولهذا ينكر على الآباء الذين يتخلون عن هذه الطريقة المقنعة المقبولة إلى طرائق لم يثبت صحتها ولا نفعها فيقول:(فقد سمعنا الكثيرين من الآباء يرددون: انهم لا يبعثون بأولادهم إلى الدروس الدينية أو إلى محلات العبادة، حتى يصلوا إلى السن التي يدركون عندها ما يجري. غير أن ما يضايقهم، ويقض مضجعهم هو هذا السؤال:

ترى هل يكتسب هؤلاء الأولاد ذلك الشعور القوي الذي يمكنهم به أن يميزوا بين الخطأ والصواب؟ هل يؤمنون بتلك المثل الخلقية الواضحة التي آمنا بها منذ طفولتنا؟

لقد قلنا فيما مضى أن بعض الأعمال خطأ والبعض الآخر صواب، لأن الله سبحانه وتعالى قد بين ذلك، أو لأن كتابه قد أورد ذلك بمعنى آخر. وقد تكون هذه الطريقة فطرية بدائية، غير أنه مما لا شك فيه أن تأثيرها كان طيباً فقد عرفنا على الأقل الكثير عن طيب الأفعال وخبيثها. أما الآن فإننا لا نقول لأولادنا إلا أن هذا التصرف خطأ، وأن ذاك صواب، لأننا نرى ذلك، أو لأن المجتمع قد اتفق على ذلك. فهل لهذا الود من القوة والبيان ما لسابقه؟ وهل له مثل أثره وهل يكتسب أطفالنا القيم الخلقية الأساسية للحياة دون الحاجة إلى ضغط العقائد الدينية، تلك القيم التي نتقبلها ونسلم بها حتى بعد أن أصبحنا لا نسلم بمصدرها الإلهي؟)([27])

ويؤكد الدكتور (لنك) أن الدروس الدينية، والتردد على بيوت العبادة لها في نفس الصبي أعمق الأثر، وأطيب الثمرات، كما أثبتت ذلك التجارب والمقارنة بين الأطفال بعضهم وبعض.. وفي ذلك يقول:(ومهما بلغت المساوئ، التي نلمسها في أماكن العبادة، والاستماع إلى العظات الدينية، فإن هذه البيوت تساعدنا على غرس الأسس السليمة للخطأ والصواب، والأعمال الأنانية وغير الأنانية في نفوس الأطفال. كما أنها تساعد على غرس الإيمان بالله والاعتقاد في ناموسه الخلقي الإلهي كمصدر لتلك الأسس. ولذا فهي ذات فائدة عظمى للآباء والمجتمع، كي يبثوا الأسس الضرورية لتكوين الخلق القويم والشخصية الناجحة. وبناء على ذلك، ليس من المستغرب أن يدلنا الاختبار السابق الذكر على أن الطفل الذي يستمع إلى الدروس الدينية يتمتع بصفات شخصية أفضل ممن لا يحضرها، وأن الطفل الذي يذهب والداه إلى المعبد ذو شخصية أحسن من الطفل الذي لا يذهب والداه إليه.

وقد اتضح لي بعد دراسة كاملة لعشرة آلاف شخص، أن أولئك الذين يواظبون على الذهاب إلى دور العبادة، كانوا ذوى صفات شخصية أفضل ممن لا يذهبون) ([28])

ولا يقتصر على ذلك، بل يلح على التبكير بإعطاء هذه الدروس للأطفال وأعوادهم غضة، ولو لم يفهموا كل ما يقال لهم، ويرى من الخطأ والخطر تأخير هذه الدروس الدينية إلى السن التي يفهمون فيها.

يقول: (إن الوقت الأمثل لتعليم الطفل كيف يخضع دوافعه لقيم عليا، هو السن التي يستطيع فيها أن يتقبل ما يقال له دون أن يفهمه.

فإذا استقر رأي الآباء على عدم إرسال أولادهم إلى الدروس الدينية، حتى يبلغوا السن التي يفهمون عندها ما يستمعون إليه، فهم في الحقيقة يتبعون مبدأ هاماً، لأن الوقت يكون قد فات لإصلاح ما فسد إذا بلغ الطفل السن التي يفهم بها كل ما حوله، فانه حينئذ يكون قد أضاع من عمره سنين ثمينة)([29])

ويختتم حديثه عن التربية والتعليم بقوله: (إن ميدان التعليم لفي مسيس الحاجة إلى جمع القيم والحقائق الأساسية التي تبحث في الطبيعة البشرية وتصنيفها، حتى يمكن المحافظة على تلك التقاليد النبيلة التي اكتسبها الجنس البشرى، ووضعها في المكان اللائق بها، وحتى يمكن إخضاع الغطرسة الفكرية لنظام الحياة غير الأنانية. ولن تجد ما يجمع بين تلك القيم الماضية القديمة والمثل الحاضرة الحديثة غير الدين) ([30])

بعد أن ألقى علينا عبد الله هذه الكلمات توجه إلى يونسيف، وقال: هذه شهادة من بعض قومك على جدوى ما جاء به نبينا أوجهه إليك، وإلى من يفكر بالأسلوب الذي تفكر فيه.

أما نحن.. فقد حفظنا بفضل استظلالنا بأشعة شمسه صلى الله عليه وآله وسلم من الانحراف إلى أي قبلة غير القبلة التي وجهنا إليها ربنا، وأمرنا بالتوجه إليها.. وقام آباؤنا رغم فاقتهم وحاجتهم بها خير قيام.

لقد امتثلوا فينا أوامر الله التي يأمر فيها عباده بأن يحموا أنفسهم وأهليهم من أن تلتهمهم نيران الجاهليات، وبعدها نيران العذاب.. قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (التحريم:6)

وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن مسؤولية الإنسان عن أهله وولده، قال r:(كلكم راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته)([31]

وقد ترك صلى الله عليه وآله وسلم لآبائنا من الهدي ما جعلهم يمتلئون رحمة لنا في هذا الباب، كما امتلأوا رحمة في غيره([32]).

ومن ذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم بتربية الأبناء على الصلاة.. وعلى الحرص عليها.. تطبيقا لقوله تعالى:{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)} (طه)

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الآباء للتشدد مع الأبناء في شأن الصلاة:(علموا الصبي الصلاة لسبع سنين واضربوه عليها ابن عشر سنين)([33])

 هنا قام يونسيف، وكأنه قد ظفر بضالته، وقال: ها.. ها.. ها هو يذكر دعوة محمد لضرب الصبيان.

ابتسم عبد الله، وقال: أرأيت – حضرة البروفيسور الكبير –  لو أن ولدك أصابه مرض استدعى أن يشرب دواء مرا.. أو يرتمي بين يدي جراح ليعمل سكينه في جسده الضعيف.. أترى ذلك قسوة؟

قال يونسيف: لا.. ولكن ما علاقة هذا بهذا؟

قال عبد الله: لقد أمر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الآباء أن يستعملوا كل الأساليب الهادئة المسالمة مع أبنائهم.. أمرهم بالحوار معهم لإقناعهم.. وأمرهم بموعظتهم.. وأمرهم بأن يكونوا قدوة صالحة لهم..

فإذا استنفذ الآباء كل هذه الوسائل وغيرها أباح لهم استعمال الشدة المضبوطة بالضوابط الشرعية..

انظر- حضرة البروفيسور – المسافة الزمنية بين الأمر بالصلاة، وبين الضرب على تركها..

لقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم الآباء أن يأمروهم لسبع.. ويدربوهم عليها من ذلك السن.. فإذا وصلوا إلى العشر، ولم يقتنعوا بالصلاة أو لم يحرصوا عليها أبيح لوالديهم حينذاك أن يستعملوا العنف المضبوط بالضوابط الشرعية.

قال يونسيف: وما علاقة هذا بالعملية الجراحية؟

قال عبد الله: أليس غرض العملية الجراحية أو الدواء المر هو استئصال مادة الشر من المريض؟

قال يونسيف: تستطيع أن تقول ذلك.

قال عبد الله: وهذا هو نفسه دور ذلك التنبيه الذي أباح الشرع للوالد أن يستعمله إذا ما اضطر إليه.

قال يونسيف: دعنا من هذا.. وأنا لا يهمني هذا كثيرا.. ولكن ألا ترى اقتصار الإسلام على الحث على الصلاة فقط قصورا تربويا.

قال عبد الله: لا.. الصلاة جزء من أجزاء الإسلام.. وركن من أركانها.. ولذلك فإن التربية التي جاء بها الإسلام وحث عليها الآباء وغيرهم أعظم من أن تنحصر في ذلك.. إنها تربية تشمل الحياة جميعا بجميع مناحيها.

قال يونسيف: فحدثنا عنها.

***

أخذ عبد الله يحدث يونسيف والحضور عن المعاني التربوية الكثيرة التي جاء بها الإسلام، والتي شملت مناحي الحياة المختلفة([34]) إلى أن قال يونسيف من غير أن يشعر: إن ما تقوله عظيم.. لقد زرت كثيرا من البلاد، واطلعت على الكثير من الثقافات، واختطلت بكثير من الأديان.. لكني لم أر دينا ولا فكرا ولا ثقافة تحدثت عن هذا بهذا التفصيل الجميل.

ثم قام، وقال: اسمحوا لي – أيها الجمع – أن أقول لكم بكل صراحة: لقد جئت إلى هذه البلاد، وليس لي إلا همة واحدة هي اقتلاع الإسلام من قلوب هؤلاء الأبرياء.. ولذلك أسست هذه الدار، وملأتها بكل ما أطقته من المغريات.

لكني أرى أنه لا يقاوم هذ الدين شيء..

وذلك لا يدل إلا على أنه دين الله..

وأنا أشهدهم من هذا المحل استسلامي لهذا الإله العظيم الذي كنت أحاربه من حيث لا أشعر..

وعلامة صدقي في إسلامي وتوبتي أن أجعل هذه الدار دارا للإسلام، ولتربية الأبناء على الإسلام.. عسى ذلك أن يقربني لربي، وأن يمسح تلك الذنوب التي رانت على قلبي منذ أخذت حربتي ورحت أحاربه.

قال ذلك بشوق عظيم.. وقد كبر الجمع بعدها صغارا وكبار.. وقد صحت معهم بالتكبير من حيث لا أشعر.. وقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


([1])  (اليونيسيف)  UNICEF هو الاسم الشائع لصندوق رعاية الطفولة التابع للأمم المتحدة. ويأتي الاسم من اختصار الاسم الأصلي لهذه الهيئة. وتساعد برامج اليونيسيف أطفال أكثر من مائة دولة بمعاونتها على حل مشاكل الصحة والجوع والتربية.. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

([2])  طبعا الحديث لم يرد بهذه الصيغة، ولكن المستشرقين والمبشرين كما هو معلوم يحرفون الكلم عن مواضعه، فيقتصون من النصوص ما يتناسب مع أغراضهم.

([3])  هو أسامة بن زيد بن حارثة أمه أم أيمن وكان أسود أفطس. أردفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلفه يوم الفتح على راحلته القصواء واستعمله وهو ابن ثماني عشرة سنة.

([4])  هو (توماس روبرت مالتوس) Malthus، Thomas Robert (1766 – 1834م). اقتصادي بريطاني، اشتهر بمقالته عن مبادئ علم السكان سنة 1798م.. وتقوم فكرته الأساسية في هذا الكتاب على أن أعداد السكان في العالم تميل إلى الزيادة، بينما كميات الطعام تقل.. كما كان يعتقد أن الحروب والأمراض ستفتك بالأعداد الزائدة من البشر، ما لم يتم تحديد النسل. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

([5])  انظر: أصول الأمن الغذائي في القرآن والسنة، للأستاذ: السيد علي أحمد الصوري، موقع الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([6])  رواه البخاري ومسلم.

([7])  هذا في رواية النسائي والترمذي للحديث.

([8])  رواه أبو داود والنسائي.

([9])  الإحصائيات كما ذكرنا مرات كثيرة تخضع للزمن الذي كتبت فيه.. ونحن لا تهمنا هنا الأعداد بقدر ما تهمنا الحقائق التي تتضمنها.

([10])  النغير: طائر يشبه العصفور أحمر المنقار، ويجمع على نغران.

([11])  رواه البخاري.

([12])   رجعنا للمعلومات العلمية في هذا المطلب إلى كتاب (مع الطب في القرآن الكريم) للدكتور عبد الحميد دياب، والدكتور أحمد قرقوز، مؤسسة علوم القرآن، دمشق.

([13])  من المراجع التي رجعنا إليها في هذا: قبسات من الطب النبوي باختصار، الأربعون العلمية، عبد الحميد محمود طهماز.. د. محمد علي البار،  الختان، دار المنار.. د. حسان شمسي باشا: أسرار الختان تتجلى في الطب والشريعة  ابن النفيس  دمشق.

([14])  سنتحدث عن بعض التفاصيل المرتبطة بهذا في فصل (المتألمون) من هذه الرسالة.

([15])  رواه أحمد والنسائي والحاكم وغيرهم.

([16])  رواه أحمد وابن حبان والحاكم.

([17])  رواه البخاري.

([18])  رواه البخاري ومسلم.

([19])  رواه ابن ماجه.

([20])  رواه مسلم.

([21])  رواه مسلم.

([22])  رواه أبو داود وغيره.

([23])  رواه مسلم.

([24])  رواه أحمد.

([25])   الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

([26])  العودة إلى الإيمان: 113.

([27])  العودة إلى الإيمان: 110.

([28])  العودة إلى الإيمان: 123.

([29])  العودة إلى الإيمان: 130.

([30])  العودة إلى الإيمان: 181.

([31])  رواه البخاري ومسلم.

([32])  ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في كتاب خاص من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية) بعنوان (الأبعاد الشرعية لتربية الأولاد)

([33])  رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة. قال الترمذي: هو حديث حسن ، ولفظ أبي داود: (مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه  عليها)

([34])  لم نشأ أن نتحدث عن ذلك هنا باعتبار أن لنا كتابا خاصا في هذا الموضوع، وهو (الأبعاد الشرعية لتربية الأولاد)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *