ثانيا ـ استبداد

في مساء اليوم الثاني.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (نيكولاس إيلمنسكي)([1]).. الرجل الذي تقلب في السياسة، وقلبته السياسة.. بوجه متغير حاول بابتسامته الدبلوماسية العريضة أن يخفي تغيره، لكنه لم يطق.
ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟
نظر إليهم بابتسامته العريضة، وقال: طبعا.. هناك نتائج إيجابية.. ولا يمكن إلا أن تكون هناك نتائج إيجابية.. لقد فزت في جميع جولاتي الدبلوماسية، فكيف لا أفوز في هذه.
أطرق قليلا، ثم قال: نعم.. لقد كانت الحرب مستميتة بيني وبين من يدعونه حكيما.. لقد كان مجادلا بارعا، ومحاميا قويا.. ولكن الحق كان معي.. وسيظل معي.. ولا ينبغي أن يكون إلا معي.
ابتدر أخي ليأخذ القرص، ليضعه في القارئ، فقال نيكولاس: أرى أن تتركوا الفرصة لأحدثكم أنا بدل رؤية القرص.. فليس هناك رواية أحسن من رواية الشفاه..
ثم ابتسم لهم، وقال: نعم هذا أسلوب قديم.. ولكني أرى أنه الأفضل.
قال رجل من الجماعة: أرى أن السياسة قد أثرت فيك يا نيكولاس.. فدعنا نسير بالطريقة التي اجتمعنا لنسير عليها.
سكت نيكولاس على مضض.. فابتدر أخي.. ووضع القرص في القارئ.. وبدأ شريط الأحداث:
رأينا نيكولاس يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: هل تعرفون محمدا؟
قال رجل من الجمع: منا من يعرفه.. ومنا من لا يعرفه.. ولكنا نتفق جميعا ـ من يعرفه ومن لا يعرفه ـ في أنا نحب أن نعرفه، أو نستزيد من معرفته.. فإن كان لديك شيء منها، فأنبئنا.. فكلنا آذان صاغية.
قال نيكولاس: هل تعرفون لينين؟
قالوا: أجل.. ولكنه مستبد آثم.
قال نيكولاس: وهل تعرفون فرعون وأتاترك وهتلر؟
قالوا: أجل.. وهم لا يختلفون عن لينين.
قال رجل من الجماعة: نحن نبحث عن محمد.. ونريد أن نعرف محمدا.. ولا حاجة لنا بمعرفة هؤلاء المستبدين الظالمين.
قال نيكولاس: من عرف هؤلاء فقد عرف محمدا.. بل إن محمدا أسوأ منهم.. فإن أحدا منهم لم يقل: إني مستبد يوحي إلي، ولكن محمدا قالها.
هنا ظهر الحكيم بطلعته البهية، ونوره الساطع، وصاح من بعيد: في أي سورة ورد ما ذكرته؟
ثم أضاف: لقد قرأت القرآن.. وربما قرأت الآية خطأ، فالآية تقول:{ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } (الكهف:110).. وليس في القرآن آية تدعو للاستبداد، أو تحث عليه، أو تشرع له.. بل إنه ليس هناك كتاب في الدنيا يدعو إلى الثورة على الاستبداد كالقرآن.
سكت قليلا، ثم قال: ربما تتصور أن ذلك حديثا.. ليس هناك حديث في الدنيا يحث على الاستبداد أو يشرع له.
قال نيكولاس: ربما يكون ما ذكرته صحيحا.. ونحن لا نتحدث عنه هنا.. نحن نبحث في حياة محمد.. وحياة محمد عنوان للاستبداد بجميع أشكاله.. وإلا لما تسنى له أن يقيم أي دولة، أو ينشئ أي مجتمع.
قال الحكيم: لست أدري هل أنت صاحب شبهة تبحث عن التحقيق.. أم أنك صاحب هوى تبحث عن الجدل؟
قال رجل من الجمع: لا.. لا نظنه إلا صاحب شبهة، فإن كان لديك ما يرفعها عنه، فاذكره له.. ونحن هنا لنرى أنصع الحجج.. حجتك أو حجته.. لنتبعها.
قال الحكيم: يسرني ذلك.. ولست أدري هل يرضى صاحبنا بذلك أم لا؟
لم يجد نيكولاس إلا أن يجيب بالإيجاب..
حينذاك قال الحكيم: أليس المستبد هو الذي يحتقر الرعية، ويتكبر عليها، ويستولي على جميع أمورها، بحيث يفرض رأيه على كل أحد، ولا يسمع لأي أحد؟
قالوا: بلى.. هذا هو المستبد.. وكل مظاهر الاستبداد تنطلق من هذا.
قال الحكيم: فإذا أثبت لكم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان يحترم كل من يحيط به، بل كل من ولي أمره من المسلمين، وأنه فوق ذلك كان يستشيرهم في الصغير والكبير، والحقير والجليل.. هل أكون بذلك قد دفعت شبهته؟
قال الجمع: لا نرى الصواب إلا فيما ذكرت.
التفت الحكيم إلى نيكولاس، وقال: هل تقر بهذا الأصل أم أنك تخالف فيه؟
قال نيكولاس: ليس الشأن في التعرف على الأصول إنما الشأن في إثباتها.
قال الحكيم: فاسمع مني ما يثبتها لك.
استجمع الحكيم أنفاسه، ثم قال: لو تأملتم حياة جميع الزعماء والقادة والمصلحين وعلاقتهم بمن يحيط بهم لن تجدوا رجلا في سماحة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا تواضعه ولا احترامه.
ضحك نيكولاس، وقال: وأستطيع أن أقول في المقابل: لو تأملتم جميع حياة المستبدين والمتكبرين والظالمين، فلن تجدوا رجلا مثل محمد.
قال الحكيم: ما دام كل منا له دعواه.. فليقدم كل واحد منا ما عنده من إثباتات.
قال نيكولاس: حسبي من الإثباتات أنه كان يفرض عليهم أي حكم، فلا يجدون مناصا من تنفيذه.
قال الحكيم: وكل الحكام يفعلون ذلك.. أم ترى أنه يستسلم لأهوائهم لتضع في الدين ما تشاء؟
سكت نيكولاس، فقال الحكيم: أما أنا.. فسأذكر لكم أربعة أدلة تعرفون من خلالها أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان يحترم من ولي عليهم أعظم احترام، ولا يمكن لمن يكون له كل ذلك الاحترام أن تكون فيه ذرة من استبداد.
قال رجل من الجمع: فما الدليل الأول؟
قال الحكيم: الدليل الأول هو مخالطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ورعيته وعدم احتجابه عنهم بأي نوع من أنواع الحجاب.. بل إنه كان يعتبر الحجاب نوعا من الاستبداد، لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يحذر من الاحتجاب عن الرعية:(من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة)([2])
ومن هذا المنطلق كان أسهل شيء على أي أحد من الناس مقابلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والجلوس معه..
فقد قال الحسن يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده)([3])
ووصفه حمزة بن عبيد الله بن عتبة قال: كانت في رسول الله خصال ليست في الجبارين، كان لا يدعوه أحمر، ولا أسود، إلا أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى فيه، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان يركب الحمار عريا، ليس عليه شئ)([4])
وذات مرة لقيه رجل تصور أنه مثل كل القادة والزعماء.. وقد حدثنا حديثه ابن مسعود فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلم رجلا فأرعد، فقال: (هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديدة)([5])
وفي حديث آخر عن عبد الله بن بسر، قال: أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاة فجثا على ركبتيه، فأكل، فقال أعرابي: يا رسول الله ما هذه الجلسة؟ فقال:(إن الله عزوجل جعلني عبدا كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا)([6])
وقد أشفق الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يصيبه من تلك المخالطة، فطلبوا منه أن يتخذوا له محلا خاصا، فأبى، ففي الحديث: قال العباس: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم)([7])
وكان من تواضعه صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يكن يتميز بشيء عن سائر الناس حتى أن من الناس من لا يعرفه كما روي عن أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بامرأة تبكي عند قبرٍ فقال: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي! ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تجد عنده بوابين([8])، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى([9]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يسلم على كل من لقيه صغيرا كان أو كبيرا، يعرفه أو لا يعرفه، فعن أنس أنه مر على صبيان، فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لى الله عليه وسلم يفعله([10]).
وعن هند بن أبي هالة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ من لقيه بالسلام([11]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يسير مع أي أحد يعرفه أو لا يعرفه، عن أنس قال: إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتنطلق به حيث شاءت([12]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار كما يركبه سائر العوام، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار، ويعود المريض، ويشهد الجنازة، ويأتي دعوة المملوك، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف، على إكاف من ليف([13]).
بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يردف خلفه.. وقد ذكر العلماء أسماء من ردفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم نحو الخمسين أفرد أسماءهم الحافظ أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب ابن الحافظ الكبير ابن عبد الله بن مندة في جزء لطيف وأضيف إليهم غيرهم.
وهم أكثر من أن يحصوا ـ كما روي عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر، وغزا أردف كل يوم رجلا من أصحابه ([14]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يلبس لباسا بسيطا كسائر الناس، ففي الحديث: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد عقد عباءة بين كتفيه فلقيه أعرابي، فقال: لم لبست هذا يا رسول الله؟ فقال: (ويحك، إنما لبست هذا لأقمع به الكبر)([15])
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل مع كل الناس حتى من عافهم الناس أو خافوا من عدواهم، فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد مجذوم، فأدخله معه في القصعة، ثم قال له: (كل باسم الله، وثقة بالله، وتوكلا عليه)([16])
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجيب كل من دعاه، ولأي شيء دعاه، حتى لو كان حقيرا، فعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك، ويقول: (لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت)([17])
قال رجل من الجمع: عرفنا الدليل الأول.. وعرفنا قوته.. فما الدليل الثاني؟
قال الحكيم: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتفي بمخالطة الناس مجرد مخالطة ليقتنص ودهم كما يفعل بعض الزعماء والقادة.. وإنما كان يشاركهم في حياتهم وأعمالهم.. بل كان صلى الله عليه وآله وسلم لرحمته لهم يستأثر بأشقها.
فمن مشاركته لمن كان معه صلى الله عليه وآله وسلم مشاركتهم في الأعمال التي يقومون بها:
ومما روي في ذلك مشاركته صلى الله عليه وآله وسلم لهم في بناء المسجد بعد هجرته إلى المدينة المنورة بالرغم من العناء الكبير الذي لاقاه في هجرته، عن الحسن قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة قال: ابنوا لنا مسجدا، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: عرش كعرش موسى، ابنوا لنا بلبن، فجعلوا يبنون ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعاطيهم اللبن على ما دونه ثوب، وهو يقول:
اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للانصار والمهاجرة
فمر عمار بن ياسر فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينفض التراب عن رأسه، ويقول: ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية([18]).
وعن يعقوب بن يزيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبع غبار المسجد بجريدة([19]).
وفي غزوة الخندق.. بعد أن أحاطت الأحزاب بالمدينة المنورة.. وفي ذلك الموقف الشديد الذي تزلزلت له القلوب.. والذي يكتفي فيه القادة بالجلوس في غرفهم المكيفة للتخطيط وإلقاء الأوامر.. كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابهم يشاركهم في كل صغيرة وكبيرة..
قالت أم سلمة: ما نسيت يوم الخندق، وهو يعاطيهم اللبن، وقد اغبر شعره، تعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم ([20]).
وعن البراء قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمل التراب على ظهره، حتى حال التراب بيني وبينه وإني لانظر إلى بياض بطنه([21]).
قال محمد بن عمر: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شدة اجتهاده في العمل يضرب مرة بالمعول ومرة يغرف بالمسحاة التراب، ومرة يحمل التراب في المكتل، وبلغ منه التعب يوما مبلغا فجلس، ثم اتكأ على حجر على شقه الايسر فنام.
بل كان صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموقف الشديد يتكفل بكل عمل شاق يتوقفون عنده، فعن جابر: أن المسلمين عرض لهم في بعض الخندق كدية عظيمة شديدة بيضاء مدورة، لا تأخذ فيها المعاول، فكسرت حديدهم، وشقت عليهم، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قبة تركية فقال: أنا نازل، ثم قام، وبطنه معصوب بحجر من الجوع، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن دعو به، ثم نضح من ذلك الماء عليها، فيقول من حضرها: والذي بعثه بالحق إنها عادت كالكثيب المهيل ما ترد فأسا ولا مسحاة([22]).
ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الشديد يكتفي بالعمل فقط.. بل كان يسليهم ويرتجز بما يرتجزون، ويضحك كما يضحكون:
قال ابن إسحاق وابن عمر: وارتجز المسلمون في الخندق برجل يقال له (جعيل) أو جعالة بن سراقة، وكان رجلا دميما صالحا، وكان يعمل في الخندق، فغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسمه يومئذ فسماه عمرا، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:
سماه من بعد جعيل عمرا وكان للبائس يوما ظهرا
وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول شيئا من ذلك، إلا إذا قالوا: عمرا، وإذا قالوا: ظهرا، قال: ظهرا.
وعن البراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى وارى التراب بياض بطنه([23])، وكان كثيف الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات لابن رواحة:
والله لولا ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الاقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
ورفع بها صوته: أبينا أبينا([24]).
وعن سلمان: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب في الخندق وقال:
باسم الاله وبه هدينا ولو عبدنا غيره شقينا
يا حبذا ربا وحب دينا([25])
وكان صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الشديد يدعو الله لهم، ويشجعهم بكل ما أطاق أن يشجعهم به، عن سهل بن سعد قالا: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نحفر في الخندق، وننقل التراب على أكتادنا([26]) في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك، فلما رأى ما هم فيه من النصب والجوع قال:(اللهم لا عيش إلا عيش الاخرة، فاغفر للانصار والمهاجرة)، فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
ويؤتونه بملء كفي شعير، فيصنع لهم بإهالة سنخة([27])، توضع بين يدي القوم، وهم جياع وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتن.
ومما كان يشجعهم به ما روي في الحديث من ضربه على تلك الكدية وما كان فيها من معجزات، فقد ورد في الحديث: فأخذ المعول من سلمان، وقال:(بسم الله)، وضرب ضربة فكسر ثلثها، وبرقت برقة فخرج نور من قبل اليمن فأضاء ما بين لابتي المدينة حتى كأن مصباحا في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال:(أعطيت مفاتيح اليمن، إني لابصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة، كأنها أنياب الكلاب)، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، وبرق منها برقة فخرج نور من قبل الروم فأضاء ما بين لابتي المدينة فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لابصر قصورها الحمر من مكاني الساعة.
ثم ضرب الثالثة، فقطع بقية الحجر وبرق برقة من جهة فارس أضاءت ما بين لابتي المدينة، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال:(أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لابصر قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب من مكاني هذا، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا بالنصر.
فاستسر المسلمون، وقالوا: الحمد لله موعد صادق، بأن وعدنا النصر بعد الحصر، وجعل يصف لسلمان، فقال سلمان: صدقت يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذه صفته، أشهد أنك رسول الله.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(هذه فتوح يفتحها الله تعالى بعدي يا سلمان، لتفتحن الشام، ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته، وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد، وليفتحن هذا المشرق، ويقتل كسرى فلا يكون كسرى بعده)، قال سلمان: فكل هذا قد رأيت([28]).
ومن مشاركته صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ـ التي هي رعيته ـ أنه كان يذوق من الجوع ما يذوقون، بل يذوق أعظم مما يذوقون([29])، ففي غزوة الخندق قال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حجرين.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم آخر من يأكل إذا ما دعوا إلى أي أكل، فعن أبن عباس: أن جابرا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق عاصبا بطنه بحجر من الجوع وأنهم لبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا.
قال جابر: فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنزل فأذن لي، فذهبت فقلت لامرأتي: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمصا شديدا، ما في ذلك صبر، فعندك شئ؟ قالت: عندي صاع من شعير وعناق، فأخرجت إناء فيه صاع من شعير، وذبحت العناق، وطحنت الشعير، وجعلنا اللحم في البرمة، فلما انكسر العجين وكادت البرمة أن تنضج وأمسينا، وأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الانصراف ـ قال: وكنا نعمل نهارا، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهلنا ـ قالت لي: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه.
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فساررته فقلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان.
فشبك أصابعه في أصابعي وقال: كم هو؟ فذكرت له، فقال: كثير طيب، لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجئ، وصاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سورا فحي، هلا بكم)، وصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدم الناس، ولقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وقلت: جاء الخلق، والله إنها للفضيحة على صاع من شعير وعناق، فدخلت على امرأتي فقلت: ويحك! جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمهاجرين والانصار ومن معهم، فقالت: أنت دعوتهم أو هو؟ قلت: بل هو دعاهم، قالت: دعهم، الله ورسوله أعلم، نحن قد أخبرناه بما عندنا، فكشفت عني.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال:(ادخلوا عشرة عشرة، ولا تضاغطوا)، فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك، فقال لنا:(اخبزوا واغرفوا وغطوا البرمة، ثم أخرجوا الخبز من التنور، وغطوا الخبز)، ففعلنا، فجعلنا نغرف ويغطي البرمة، ثم يفتحها فما نراها نقصت شيئا، ويخرج الخبز من التنور، ثم يغطيه فما نراه نقص شيئا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويقرب إلى أصحابه ويقول لهم:(كلوا)
فإذا شبع قوم قاموا، ثم دعا غيرهم حتى أكلوا وهم ألف، وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو، فقال:(كلوا واهدوا، فإن الناس أصابتهم مجاعة شديدة)
فلم نزل نأكل ونهدي يومنا ذلك أجمع، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب ذلك([30]).
قال رجل من الجمع: عرفنا الدليل الثاني.. واقتنعنا به.. فما الدليل الثالث؟
قال الحكيم: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإضافة إلى ذلك كله يتعامل مع من ولي أمرهم تعامل الأصحاب لا تعامل السلطان.. بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يسمي من استظل بظل ولايته صاحبا، حتى لو كان له عدوا.
فإنه لما قال رأس المنافقين ابن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فبلغها زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء ابن أبي يعتذر ويحلف ما قال، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تصديق زيد في سورة المنافقين، فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأذنه فقال: أبشر فقد صدقك الله، ثم قال: هذا الذي وفى لله بأذنه فقال له: عمر يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)([31])
وهكذا كان صلى الله عليه وآله وسلممع سائر الناس.. فقد كان يسير مع كل أحد ليقضي حاجته، فعن أنس قال: كانت امرأة في عقلها شئ قالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال:(يا أم فلان انظري أي الطرق شئت أقضي لك حاجتك)، فقام معها يناجيها، حتى قضت حاجتها([32]).
وفي حديث آخر عنه قال: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجئ فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة الحاجة([33]).
وعن عبد الله بن أبى أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف، ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي لهما حاجتهما([34]).
وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يستنكف أن يمشي مع الضعيف، والأرملة، فيفرغ لهم من حاجاتهم([35]).
وقد استدل عدي بن حاتم بهذا السلوك على نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا عنده امرأة وصبيان، أو صبي، فذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فعرفت أنه ليس ملك كسرى وقيصر([36]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعود مرضى المسلمين، ويهتم بهم، فعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أخبره أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمرضها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود المساكين، ويسأل عنهم([37]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجيب أي دعوة لا يهمه ما كانت، ولا ممن كانت:
فعن ابن عباس قال: إن كان الرجل من أهل العوالي ليدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصف الليل على خبز الشعير فيجيبه([38]).
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو دعيت إلى ذراع أو كراع لاجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت([39]).
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيب دعوه المملوك([40]).
بل كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يفرق في إجابة الدعوة بين مسلم وكافر، فعن أنس أن يهوديا دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه([41]).
لقد وصف بعضهم سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(وكان صلى الله عليه وآله وسلم يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره ويجيب دعوة الحر والعبد والامة والمسكين ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر، قال أنس: ما التقم أحد أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينحى رأسه حتى يكون الرجل هو الذى ينحى رأسه، وما أخذه بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخذ.
ولم ير مقدما ركبتيه بين يدى جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم ير قط مادا رجليه بين أصحابه حتى يضيق بهما على أحد يكرم من يدخل عليه وربما بسط له ثوبه ويؤثره بالوسادة التى تحته ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى ويكنى أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه، وروى أنه كان لا يجلس إليه أحد وهو يصلى إلا خفف صلاته وسأله عن حاجته فإذا فرغ عاد إلى صلاته([42])، وكان أكثر الناس تبسما وأطيبهم نفسا ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب، قال عبدالله بن الحارث: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([43])
قال رجل من الجمع: عرفنا الدليل الثالث.. واقتنعنا به.. فما الدليل الرابع؟
قال الحكيم: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكتفي بمجرد المشاركة والمواساة ولا الخلطة المجردة عن أي عمل إيجابي.. بل كان فوق ذلك كله، ومع ذلك كله، يبادر لأي خدمة سواء شورك فيها أو لم يشارك، وسواء كانت في بيته أو خارج بيته، لا يسأل على ذلك أجرا ولا شكرا.
عن أنس قال: ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم ولد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في عباءة يهنأ بعيرا له([44]).
وقد وصفت عائشة ما كان يصنع صلى الله عليه وآله وسلم في بيته، فقالت:(كان بشرا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخيط ثوبه، ويخدم نفسه، ويخصف نعله، ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم، ويكون في مهنة أهله، يعني خدمة أهله، فإذا سمع المؤذن خرج إلى الصلاة)([45])
وعنها ـ أيضا ـ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل عمل أهل البيت وأكثر ما يعمل للخياطة([46]).
وكان خارج بيته في أي شغل أو خدمة يحتاجها المسلمون، لا يستكبر عن أي عمل:
وكان أخطر أعماله وأهمها تعليم الناس، يصبر في ذلك أيما صبر، عن أبي رفاعة تميم بن أسيدٍ قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجلٌ غريبٌ جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتي بكرسيٍ، فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته، فأتم آخرها([47]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يترك هذه الوظيفة حتى وهو منشغل بحاجاته الأساسية، عن أنسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث قال: وقال: إذا سقطت لقمة أحدكم، فليمط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان وأمر أن تسلت القصعة. قال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة([48]).
بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم حتى ما يرتبط بحياتهم من معايش، فقد روي أنه مر مرة بغلام يسلخ شاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(تنح حتى أريك، فإني لا أراك تحسن تسلخ)، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده بين الجلد واللحم، فدخس بها حتى ترادت إلى الإبط، ثم قال:(يا غلام هكذا فاسلخ)([49])
وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا نام الناس يشتغل حارسا لهم، فيهب عند كل فزعة، عن محمد بن الحنفية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشجع الناس، وقال: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا، ما وجدت من شئ، وقال للفرس: وجدناه بحرا، وإنه لبحر، قال: وكان فرسه بطيئا فيه قطاف فما سبق بعد([50]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم عند الغزو هو الترس الذي يتترسون به، عن علي قال: كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه([51]).
وروى عنه أيضا قال: لما كنا يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أشد الناس بأسا يومئذ، وما كان أحد أقرب من المشركين منه.
وعن البراء سأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفر، كانت هوازن ناسا رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، وأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)([52])
وعن عمران بن حصين قال: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب([53]).
التفت الحكيم إلى دوج، وقال: هذه بعض الدلائل على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من احترام لرعيته الذين ولي أمرهم.. ولو قعدت أفصل لك ما يدل على هذه الأدلة ما خرجنا من هنا([54]).
ثم التفت إلى الجمع، وقال: هل يكفيكم ما ذكرنا من أدلة؟
قال رجل من الجمع: لقد كان يكفينا أقل مما ذكرت.. وقد صدقت، فلم نر زعيما في الدنيا مهما كان متواضعا، يبلغ به تواضعه لمن يتزعم عليهم إلى تلك الدرجة.
لم يجد نيكولاس في ذلك الموقف إلا أن قال: لا ينفي ما ذكرته من احترام محمد لمن تولى عليهم كونه مستبدا.. ذلك أن المستبد قد يفعل ذلك من باب كسب القلوب، ثم هو بعد ذلك يمارس ما يمليه عليه استبداده من تصرفات.
قال الحكيم: فما الذي ينفي استبداده؟
قال نيكولاس: رجوعه للرعية واستشارته لها.. وأن لا يبت أمرا إلا بعد استئذانها.
قال الحكيم: كلامك صحيح.. وسأشرح لك وللجمع ما يثبت لك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو الوحيد الذي استطاع أن يجمع ذلك كله في منتهى كماله.
قال نيكولاس: كيف تقول ذلك.. وهو يملي عليهم الأوامر.. ويزعم أنها تأتيه من السماء.. فلا يملكون إلا تنفيذها.
قال الحكيم: إن في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناحيتين، لكل منهما حكمه الخاص: أما الناحية الأولى.. فهي كونه نبيا يوحى إليه من الله.. وأما الناحية الثانية، فهي كونه بشرا وضع له من حرية الاختيار ما يمكنه من التصرف كما يشاء، أو كما تشاء الحكمة.
لقد أشار إلى هاتين الناحيتين أحد الصحابة، وهو الحباب بن المنذر في غزوة بدر عندما رأى مكانا آخر أهم من المكان الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذهب.. وهو الجندي البسيط.. إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال بأدب: يا رسول الله.. أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم ـ أي جيش المشركين ـ فننزله ونغور ـ نخرب ـ ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا، فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.
فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الاقتراح، ونهض بالجيش إلى أقرب ماء من العدو فنزل عليه، ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار.
أنت ترى أن هذا الرجل الممتلئ أدبا لم يقدم مشورته إلا بعد أن علم أن المسألة من الأمور التي يمكن أن تقدم فيها الآراء المختلفة.
قال نيكولاس: ففي الناحية الأولى لا مجال للشورى إذن؟
قال الحكيم: يمكنك أن تقول ذلك.. ففي هذه الناحية لا يتنازل محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء أمر به.. أو نهي عنه.. بل نهى المؤمنين أن يقفوا موقف الاختيار في هذا الجانب، قال تعالى:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب:36)، وقال:{ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65)
بل إنه حذر من مخالفة أمره، فقال:{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور:63)
بل إنه نهى أن يتبع محمد صلى الله عليه وآله وسلم آراء أحد من الناس مقابل الهدي الذي جاء به، قال تعالى:{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (المائدة:48)، وقال تعالى:{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (المائدة:49)
قال نيكولاس: فهل تركت هذه النصوص للاستبداد شيئا؟
قال الحكيم: أرأيت لو ذهبت إلى طبيب من الأطباء، هو خبير في ميدانه، فوصف لك شيئا من الأدوية أنت أحوج الناس إليه.. أتراك تجادله في ذلك؟
قال نيكولاس بقوة: نعم قد أجادله.. وقد حصل ذلك كثيرا.. فأنا لست إمعة تحركني الرياح حيث شاءت.
قال الحكيم: ولكنك بعد جدالك له لا تجد إلا أن تسلم له، ثم تتناول الأدوية التي وصفها لك.
سكت نيكولاس، فقال الحكيم: ما ذكرت صحيح.. ولذلك فإن الله برحمته يذكر لنا ـ عند ذكره لأصناف الأدوية الربانية ـ الحكم منها، لتقبل عليها العقول والقلوب عن بينة.. وفي ذلك منتهى الرحمة والحكمة والعدالة.. فالله برحمته لا يفرض علينا فرائضه كما يفرضها الملوك الذين يشتهون التسلط على غيرهم.. بل إن الله يأمرنا بما يرحمنا به، وبما ينفي وصول مضرة لنا.
لقد ذكر القرآن الكريم كثيرا هذا، فقد ذكر مثلا حكمة اعتزال النساء في المحيض وذكر أنها دفع الأذى قال تعالى:{ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222)
وذكر حكمة تحريم الخمر، وأنه مع ما فيها من المنافع المتوهمة تحوي أضرارا أخطر من منافعها، قال تعالى:{ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)(البقرة:219)، ثم فصل في ذكر المضار الكثيرة التي استدعت تحريمها، فقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:90-91)
وذكر حكمة تحريم الزنا، وأنها فحشه وسوء سبيله، ومفاسد مآله، فقال تعالى:{ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (الاسراء:32)
وذكر حكمة تشريع الزواج وأنها السكن والمودة والرحمة وإعمار الكون، فقال تعالى:{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21)
قال نيكولاس: ولكن هذه التشريعات تجعل الإنسان في دائرة ضيقة لا تقل عن الدائرة التي يرسمها المستبدون.
ابتسم الحكيم، وقال: حتى ولو لم تتحكم فيه هذه الدائرة التي تتصور ضيقها، فستتحكم فيه دوائر أخرى شاء أم أبى.. حتى الخمر ـ التي تتصور أن تحريمها استبداد ـ لو تحرر أي شخص من استبداد تحريمها، فسيقع في استبداد شربها.. لعلك تعرف الإدمان، وتعرف المخاطر التي يجلبها لصاحبه.
ومع ذلك.. فإن الشريعة التي جاء بها الإسلام تقوم على التوسعة ورفع الحرج ليعيش الإنسان حياته الطبيعية على حسب ما تتطلبه الفطرة السليمة.
ولذلك ترى من قواعد الشريعة هذه القاعدة الذهبية (المشقة تجلب التيسير)، وقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، و(والضرورة تقدر بقدرها)، و(العادة محكمة)
قال نيكولاس: أنا لي رأي في هذه القواعد التي ذكرتها.
قال الحكيم: يسرني سماعه.
قال نيكولاس: أرى أن الفقهاء الذين لاحظوا ضيق الشريعة وتشددها وعدم تناسبها مع الحاجات المختلفة للإنسان هم الذين راحوا ينسخون أحكامها بمثل هذه القواعد، كما فعل بولس عندنا في المسيحية.. أرى أن كلاهما مارس نفس السلوك.
ابتسم الحكيم، وقال: ما كان لفقهائنا أن يفعلوا هذا.. ولن يتركهم أحد لو فعلوه.. إن ما ذكرته لك هو ما دلت عليه النصوص المقدسة من الكتاب والسنة.
لقد قال تعالى يقرر تلك القواعد:{ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة:6)، وقال تعالى:{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78)، وقال تعالى:{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة:173)، وقال تعالى:{ قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام:145)
وبمثل ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم يقرر تلك القواعد:((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة)([55])
فهذا الحديث يقرر قواعد كثيرة توهمت أنت أنها من صنع الفقهاء، فهو يقرر التيسير (إن الدين يسر).. ويقرر منع التشدد والمبالغة من غير موجب:(ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه).. ويقرر ملازمة السداد والوسطية، أي الصواب من غير إفراط ولا تفريط: (فسددوا).. ويحث على بلوغ الكمال: (وقاربوا)، أي اعملوا بما يقرب من الأكمل.. ويحث على دوام العمل وزيادته: (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذي تصفه بالاستبداد لا يختار من الأمور إلا أيسرها ـ قالت عائشة: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده خادما قط ولا امرأة ولا شيئا إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا انتقم لنفسه من شئ يؤتى به إليه حتى تنتهك محارم الله فيكون هو ينتقم لله عزوجل، ولا خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما حتى يكون إثما فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الاثم)([56])، فهذا الحديث ينص على أن المختار في الشريعة هو التيسير والرفق والتخفيف في الأمور كلها ما لم يكن إثما.
سكت الحكيم قليلا، ثم قال: ومع ذلك كله، فإن الدين الذي أمر به محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر به كما أمر به لينين..
هنا لاحظت وجه نيكولاس، وقد تغير تغيرا شديدا، وكأنه كان يقصده.
قال الحكيم ذلك، ثم التفت إلى نيكولاس، وقال: لعلك تعرفه.. لا أظن إلا أنك تعرفه.. فإن شئت ذكرت لك بعض جرائمه وجرائم إخوانه من الذين تصوروا أنهم رحمة نزلت من السماء لتحمي الإنسان.
لقد وقع حوالي (60-65) مليونا من المسلمين تحت وطأة الثورة البلشفية، وهؤلاء المسلمون ينتشرون على أرض مساحتها أكثر من (15) مليون ميل مربع (أكثر من مساحة إفريقيا).
وبعد أن انتصر الشيوعيون ـ بأفكارهم التي أرادوا فرضها فرضا ـ حصدوا كل من خالفهم من المسلمين حصدا مريعا.. في تركستان الشرقية التي احتلتها الصين سنة (1934م) ـ بمساعدة الجيش الأحمر الروسي ـ قتل (ربع مليون مسلم) من المفكرين والعلماء والشباب.
وعندما قامت الثورة الصينية سنة (1952م) قتلت (122) ألفا من المسلمين.
وفي يوغسلافيا أباد تلميذ لينين المخلص تيتو بعد الحرب العالمية من المسلمين (24) ألفا.
قارن هذا مع الطريقة التي دعا بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى دينه، والحرية التي أتاحها في تقبله، لقد قال الله تعالى موضحا دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:{ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} (الغاشية)
إن هذه الآيات الكريمة تبين دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودور كل مسلم في نشره لدينه ودعوته إليه.. إن دوره قاصر على التذكير والتنيبه والموعظة.. أما ما عدا ذلك فلله، فالله هو الهادي وهو المحاسب وهو المعاقب.. فهو وحده رب الدين.
لقد قال الله تعالى يبين للمسلمين أسلوب نشر الحقائق التي لا ينبغي أن تكون محل اختيار:{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (النحل:125)
فالآية تأمر المؤمن بأن يقدم رأيه مدعما بما يراه من أدلة، ثم يترك الحرية للآخر بالاقتناع بقوله أو عدم الاقتناع.
سأنقل لك نموذجا عن أسلوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الدين الذي جاء به لتقارن بين استبداد المستبدين وجدلهم وبين سلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحكمته وعدله..
حدث جابر بن عبد اللّه قال: اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد: فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد اللّه؟ فسكت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى يسمع قولك، إنا واللّه ما رأينا سِخَلَةً قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا وشتّت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، واللّه ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، حتى نتفانى، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً)، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم:(فرغت؟)، قال:(نعم)، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم:{ بسم اللّه الرحمن الرحيم حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (فصلت:2) حتى بلغ:{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } (فصلت:13)، فأمسك عتبة على فيه، وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله([57]).
ليس ذلك فقط.. فالقرآن يخاطب المخالفين ليقول لهم بعد مناقشة طويلة في الأدلة على وحدانية الله:{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (سـبأ:24)
فهو في حواره مع المخالفين يعتبرهم مع المسلمين سواء في الهداية أو الضلال، ثم يضيف على الفور في تنازل كبير:{ قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سـبأ:24)، فيجعل اختياره هو بمرتبة الإجرام على الرغم من أنه هو الصواب، ولا يصف اختيار الخصم بغير مجرد العمل.
أما عن سلوكه صلى الله عليه وآله وسلم مع المخالفين.. بل مع من لا يكتفون بالمخالفة المجردة، بل يضيفون إليها تدبير المكايد لحرب الإسلام، مما يعتبر في عصرنا خيانة عظمى، فسأذكر لك ثلاثة نماذج مختلفة عنها، لترى كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم متسامحا.. ولا يمكن أن يكون المستبد متسامحا.
أما النموذج الأول، فهو تعامله صلى الله عليه وآله وسلم مع المنافقين، ونختار للدلالة على ذلك رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول، قد كان عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وإليه يجتمعون، وكان في محل بحيث يخاف أي زعيم من أن ينقلب عليه.. فعندما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وعبد الله بن أبي سيد أهلها لا يختلف عليه اثنان، لم يجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره حتى جاء الإسلام.
بل كان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه، ثم يملكوه عليهم، فجاءهم الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهم على ذلك فما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد استلبه ملكا.. فلما أن رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن.
وهو الذي أطلق تهديده في غزوة بني المصطلق، فقال:{ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)(المنافقون:8)
وهو الذي نزلت فيه سورة كاملة تبين خصال المنافقين ومواقفهم.. ومع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقدم على قتله، ولا اغتياله كما يفعل ذلك كل الزعماء بمختلف الأساليب.
لقد جاءه جمع من الناس يطلبون أن يقتلوه لخيانته.. لكنه لم يأذن لواحد منهم.
بل إن ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي تقدم طالبا أن يقتل أباه إن أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(يا رسول الله، إن كنت تريد أن تقتل أبي فيما بلغك عنه فمرني به، فوالله لاحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، والله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالديه مني، وما أكل طعاما منذ كذا وكذا من الدهر ولا شرب شرابا إلا بيدي، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأدخل النار.. وعفوك أفضل، ومنك أعظم)
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(يا عبد الله ما أردت قتله ولا أمرت به، ولنحسنن له صحبته ما كان بين أظهرنا)
ولم يكتف هذا الابن المؤمن بهذا، بل عجل بعد ما أطلق أبوه تهديده، فأناخ بجامع طرق المدينة ودخل الناس حتى جاء أبوه عبد الله بن أبي فقال: وراءك، فقال: مالك ويلك؟ قال: والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليعلمن اليوم من الأعز من الأذل.
فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فشكا إليه ما صنع ابنه، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن خل عنه حتى يدخل ففعل.
وعندما حضرت هذا المنافق الخائن الموت دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجرى بينهما كلام، فقال له عبد الله بن أبي: قد أفقه ما تقول، ولكن من علي اليوم وكفني بقميصك هذا وصل علي.. فكفنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقميصه وصلى عليه([58]).
وفي ذلك نزل قوله تعالى:{ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة:84)
التفت إلى نيكولاس، وقال: أنت ترى أن الآية لم تأمر بشيء مما يأمر به المستبدون.. لقد اكتفت بذكر الأحكام الشرعية التعبدية المحضة.. والتي يتصور هؤلاء أنها لا تضرهم ولا تنفعهم.
بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه النواحي الأخروية تعامل معهم برحمة لا نظير لها، فقد روي أنه لما نزل قوله تعالى فيهم:{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:80) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(أسمع ربي قد رخص لي فيهم، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم)([59])
وحينذاك نزل قوله تعالى:{ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (المنافقون:6)
التفت الحكيم إلى دوج، وقال: هل ترى هذا المنطق، وهذه النفس الطاهرة نفس مستبد؟
سكت نيكولاس، وقد تغير وجهه تغيرا شديدا، فقال الحكيم: أما النموذج الثاني، فهم اليهود.. ولاشك أنك تعرف اليهود، وتعرف ما أصابهم من إخوانك المسيحيين في جميع فترات التاريخ..
أما مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أتيح لهم من الحرية ما لم يكونوا يحلمون به، فلذلك راحوا يفعلون ما يحلوا لهم، ويقولون ما يحلو لا يخشون في ذلك لومة لائم([60]).
لقد روى المفسرون بأسانيدهم في تفسير قوله تعالى:{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام:91) أن رجلا من اليهود ـ يقال له مالك بن الضيف ـ جاء ومعه جماعة فخاصموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا له: يا أبا القاسم، ألا تأتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا؟
فأنزل الله عز وجل:{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً} (النساء:153)، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(أنشدك الله بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟) وكان حبرا سمينا.. فغضب، وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ.
فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا على موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ، فأنزل الله تعالى الآية([61]).
التفت إلى نيكولاس، وقال: ها أنت ترى أن كل ما كان يجري بين محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو مجرد محاورات.. وبالرغم من سلاطة لسانهم، وبالرغم من قدرته صلى الله عليه وآله وسلم على استئصالهم في أي لحظة، لكنه لم يفعلوا إلى أن وصل الأمر إلى الحد الذي لا يصبر عنه.. لأن الصبر عنه سيؤدي إلى زوال الأمة التي أسسها محمد صلى الله عليه وآله وسلم ([62]).
سكت قليلا، ثم قال: أما النموذج الثالث، فهو تعامله صلى الله عليه وآله وسلم مع من وقع في أخطاء كبرى من أصحابه، مما يعتبر في عصرنا خيانة عظمى.
ونختار لذلك نموذج حاطب بن أبي بلتعة.. وقصة ما وقع من خيانته حدثنا بها علي بن أبي طالب قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبا مرثد والزبير وكلنا فارس، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلنا: الكتاب؟ فقالت: ما معنا من كتاب، فأنخناها، فالتمسنا، فلم نر كتاباً، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزتها وهى محتجزة بكساء، فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: صدق، ولا تقولوا إلا خيراً([63]).
التفت إلى دوج، وقال: هل ترى أن المستبد يمكن أن يقف مثل هذا الموقف.
إن المستبد يقتل بمجرد الظنة والاتهام، وأنت ترى أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم مع كونه نبيا يوحى إليه لم يستدعه حتى ثبت له في الواقع وبالدليل القطعي ما صنعه.
والمستبد لا يترك الفرصة لمن يتهمه، وأنت ترى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كيف استمع له.
والمستبد أسرع الناس إلى السيف، وأنت ترى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كيف عفا عنه.
والمستبد ينكر كل جميل قدم له، وأنت ترى أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كيف لم ينس فضل حاطب ـ مع خيانته ـ في موقفه من غزوة بدر.
وهكذا.. فهذه المواقف التي هي مجرد نماذج تحيل أن يكون في محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذرة مما في نفوس المستبدين.
قال رجل من الجمع: وعينا هذه الناحية، وأدركنا مدى العدالة التي تحويها.. وأدركنا السر الذي دعا إلى عدم استشارتنا فيها.. وأدركنا مدى الحرية التي أعطيت لنا خلالها.. فحدثنا عن الناحية الثانية.
قال الحكيم: لقد نص القرآن الكريم على وجوب الشورى في هذه الناحية، وأمر بها، فقال تعالى:{ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى:38).. لقد قرن الله تعالى الشورى في هذه الآيات بأمور كلها واجبة، بل كلها من أصول الواجبات، كالصلاة والزكاة والاستجابة لله.
بل إن الله تعالى في هذه الآية الكريمة فصل بين الصلاة والزكاة مع أن العادة هي الجمع بينهما، وقد فصل بينهما بالأمر بالشورى، لأنه لا يمكن أن تؤدى الزكاة أو أي شيء له علاقة بالمجتمع إلا بعد الشورى، حتى يمحص المحتاج من غير المحتاج.
قال نيكولاس: نحن لا نتحدث عن الإسلام.. بل نتحدث عن سلوك محمد.. فقد يأمر أحد من الناس غيره بالشورى من غير أن يمارسها.
قال الحكيم: إن كان هناك أحد في الدنيا يمكن وصفه بأنه أكثر الناس استشارة لغيره، فلن يكون ذلك إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم..
فمع أن الله أغناه بما يوحى إليه([64]) إلا أنه كان يشاور في الصغير والكبير تنفيذا لما دعاه الله إليه في قوله تعالى:{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } (آل عمران:159)
وقد ذكر بعض الصحابة كثرة استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه، فقال: ما رأيت من الناس أحدا أكثر مشورة لاصحابه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ([65]).
بل إنه كان يستشيره حتى في شؤونه الخاصة، فقد روي أن قيصر أهدى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبة من سندس، فاستشار أصحابه، فقالوا: يا رسول الله، نرى أن تلبسها، يكبت الله بها عدوك، ويسر المسلمين، فلبسها، وصعد المنبر فخطب وكان جميلا يتلألأ وجهه فيها، ثم نزل فخلعها، فلما قدم عليه جعفر وهبها له.
أما في الشؤون العامة، فلم يترك الشورى في أي موقف من المواقف.. بل إنه كان يتوجه بطلب الشورى للناس جميعا لا لمجلس معين، ولا لناس مخصوصين.. وفوق ذلك يتنازل في أحيان كثيرة لما يراه غيره مع مخالفته لرأيه.
ففي غزوة بدر، وهي أول معركة يخوضها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضد المشركين تجلت الشورى بأعمق صورها وفي جميع مجالاتها.
ففي البداية استشارهم صلى الله عليه وآله وسلم في دخول المعركة، وعدم دخولها ([66]).. ثم استشارهم في المحل الذي ينزلون فيه.. ثم استشارهم فيما نتج عن المعركة من الأسرى:
أما الأول، فقد روي أنه لما علم صلى الله عليه وآله وسلم بخبر مسير قريش، ليمنعوا عيرهم، استشار الناس، فتكلم المهاجرون.. ثم قام المقداد، ققال: يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله ما نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)، ولكن اذهب أنت ربك، فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، عن يمينك وشمالك، وبين يديك وخلفك، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه.
وقد كان بإمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتفي بهذا.. فقد سكت الجميع بعد أن تكلم هؤلاء، وحصل بسكوتهم الإجماع السكوتي، وهو إجماع معتبر عند الجميع، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف به، بل راح يستشيرهم، ففهمت الانصار أنه يعنيهم، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، كأنك تعرض بنا.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم إنما يعنيهم لانهم بايعوه على أن يمنعوه من الاحمر والاسود في ديارهم، فاستشارهم ليعلم ما عندهم، فقال سعد: يا رسول الله قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض لما أردت، ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الانصار ترى عليها ألا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لامرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان([67]) لنسيرن معك، والله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقي عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقربه عينك، ولعلك خرجت لأمر فأحدث الله غيره، فسر بنا على بركة الله، فنحن عن يمينك وشمالك، وبين يديك وخلفك، ولا نكونن كالذين قالوا لموسى:{ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون)
فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسر بقول سعد، وحين رأى صلى الله عليه وآله وسلم موافقة الجميع، أعلن بدء الحرب، فقال:(سيروا على بركة الله، وأبشروا، فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم)([68])
انتفض نيكولاس قائلا: ولكن.. ألم تسمع بأن هناك مخالفين رغبوا في العير، ولم يرغبوا في النفير؟
قال الحكيم: صدقت.. لقد ذكرهم أبو أيوب، فقال: لما سرنا يوما أو يومين قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟)، فقلنا: والله ما لنا طاقة بقتال القوم، ولكن أردنا العير، ثم قال: ما ترون في قتال القوم؟ فقلنا مثل ذلك، وذكر الحديث فأنزل الله تعالى:{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (لأنفال:5)([69])
قال نيكولاس: فكيف سار محمد إذن وخالف ما ذهب إليه هؤلاء؟
قال الحكيم: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفرض على أي أحد من الناس الخروج.. حتى هؤلاء الذين لم يعجبهم ذلك، لم يقهرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه.. ولم يقل لهم بعد أن وافقت الأغلبية العظمى على الخروج: اخرجوا معي.. بل ترك لهم حرية الاختيار.. ولم يفعل ذلك في ذلك الوضع الصعب غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال رجل من الجمع: عرفنا استشارته للخروج للمعركة، فكيف استشارهم في خطتها؟
قال الحكيم: عندما ارتحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحل بمكان ظن أنه المكان المناسب، جاءه رجل من عامة المسلمين، هو الحباب بن المنذر، وقال بأدب: يا رسول الله.. أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم ـ أي جيش المشركين ـ فننزله ونغور ـ نخرب ـ ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا، فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.
فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الاقتراح، ونهض بالجيش إلى أقرب ماء من العدو فنزل عليه، ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار.
قال رجل من الجمع: لقد سبق أن ذكرت هذا.. فكيف استشارهم فيما نتج عن الغزوة؟
قال الحكيم: أنتم تعلمون أن الله نصر المسلمين في غزوة بدر، وقد كان من مظاهر انتصار المسلمين في تلك الغزوة أن الله أمكنهم من كثير من أعدائهم الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب.. وكان في إمكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو كان يفكر تفكير مستبد أن يبت فيهم بأمره، أو أن يقتلهم ليشفي غليله منهم، ولكنه لم يفعل.. بل استشار المسلمين في شأنهم..
سكت قليلا، ثم قال: وفي غزوة أحد شاور النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه، ونزل عن رأيه إلى رأى أكثريتهم، مخالفا لرأيه، مع أنهم تنازلوا بعد ذلك عما ذهب إليه من رأي مراعاة لرأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد روي أنه لما قصد أبو سفيان وأصحابه المدينة يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (إني رأيت في المنام سيفي ذا الفقار انكسر، وهي مصيبة([70])، ورأيت بقرا تذبح، وهي مصيبة، ورأيت علي درعا وهي مدينتكم لا يصلون إليها، إن شاء الله تعالى)([71])
وبعد أن قص عليهم ما رأى من الرؤيا قال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، ونجعل النساء والذرية في الآطام، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم في الأزقة فنحن أعلم بها منهم، ورموا من فوق الصياصي والآطام)، وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن.
وكان هذا الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأي الاكابر من المهاجرين والأنصار، وكان عبد الله بن أبي المنافق يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لكن جماعة من المسلمين غالبهم أحداث لم يشهدوا بدرا، وطلبوا الشهادة وأحبوا لقاء العدو، وأكرمهم الله تعالى بالشهادة يوم أحد قالوا: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم، فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله أقم بالمدينة، ولا تخرج، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم الصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
فقال حمزة بن عبد المطلب، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك في طائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل، فظفرك الله تعالى عليهم، ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله تعالى به، فساقه الله تعالى إلينا في ساحتنا.
وقال إياس بن أوس بن عتيك: نحن بنو عبد الأشهل، إنا لنرجو أن نكون البقر المذبح.
وقال غيره: هي إحدى الحسنيين: الظفر أو الشهادة، والله لا تطمع العرب في أن تدخل علينا منازلنا.
وقال حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة.. وكان يوم الجمعة صائما ويوم السبت صائما.
وقال النعمان بن مالك: يا رسول الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لمه؟) قال: لأني أحب الله تعالى ورسوله، ولا أفر يوم الزحف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(صدقت)([72])
وحث مالك بن سنان الخدري وإياس بن عتيك وجماعة على الخروج للقتال.
فلما رأى صلى الله عليه وآله وسلم رغبتهم في القتال خارج المدينة، صلى صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة بالناس ـ وكان ذلك اليوم يوم جمعة ـ ثم وعظهم، وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، ففرح الناس بالشخوص إلى عدوهم، وكره ذلك المخرج بشر كثير.
ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العصر بالناس وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ورفعوا النساء في الآطام.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيته، وقد صف الناس له بين حجرته إلى منبره، ينتظرون خروجه، فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، فقالا للناس: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقلتم له ما قلتم، والوحي ينزل عليه من السماء، فردوا الأمر إليه، فما أمركم به فافعلوه، وما رأيتم له فيه هوى ورأيا فأطيعوه.
فبينما هم على ذلك إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطه بمنطقة من حمائل سيف من أدم، واعتم، وتقلد السيف.
وندم الناس على إكراهه، فقالوا: يا رسول الله استكرهنا، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذ لبس لامته أن يضعها، حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه.. انظروا ما أمركم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله تعالى، فلكم النصر ما صبرتم)([73])
التفت الحكيم إلى نيكولاس، وقال: ها أنت ترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يتنازل في هذا الأمر الخطير إلى رأي أصحابه مع يقينه بما لرأيه من مصداقية.
بل إنك ترى كيف أنه ـ مع تنازلهم عن آرائهم لرأيه ـ لم يتحين الفرصة، فيمضي رأيه.
سكت قليلا، ثم قال: وفي غزوة الأحزاب تلك الغزوة التي تعرض فيها المسلمون إلى أخطر ما تعرضوا له.. فقد كادت الأحزاب تستأصلهم.. أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصالحة غطفان لما بلغه نقض بني قريظة العهد.
وقد أرسل ـ لأجل ذلك ـ إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان، فلما جاءا في عشرة من قومهما قال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أرأيتما إن جعلت لكما ثلث تمر المدينة أترجعان بمن معكما، وتخذلان بين الأعراب؟)، فقالا: تعطينا نصف تمر المدينة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك، فأحضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحيفة والدواة، وهو يريد أن يكتب الصلح بينهما، وعباد بن بشر قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مقنع في الحديد، فأقبل أسيد بن حضير إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه الرمح، ولا يدري بما كان من الكلام، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعيينة بن حصن ماد رجليه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلم ما يريدون قال: يا عين الهجرس اقبض رجليك، أتمدهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ والله لولا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقتلتك بهذا الرمح!
ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله إن كان أمرا من السماء فامض له، وإن كان غير ذلك، فوالله لا نعطيهم إلا السيف، متى طمعوا بهذا منا؟
فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فاستشارهما في ذلك وهو متكئ عليهما، والقوم جلوس، فتكلم بكلام يخفيه، وأخبرهما الخبر.
فقالا: يا رسول الله، إن كان الأمر من السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر به ولك فيه هوى فامض له سمعا وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف.
وأخذ سعد بن معاذ الكتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما)
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله تعالى ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة واحدة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله تعالى بالاسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا!؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت وذاك.
فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا([74]).
سكت قليلا، ثم قال: وفي حصاره الطائف.. وبعد أن مضت خمس عشرة من حصارها، استشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نوفل بن معاوية الديلي، فقال:(يا نوفل ما ترى في المقام عليهم)، فقال: يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك([75]).
وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برأيه، وأمر الناس بالرجوع.
قال ذلك، ثم التفت إلى نيكولاس، وقال: ها أنت ترى أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لا يبت أمرا من أمور الحرب، والتي هي أخطر الأمور، إلا استشار فيه، بل يتنازل عن رأيه لما يراه غيره.. فهل يمكن لمستبد أن يفعل مثل هذا؟
قال نيكولاس: لقد وعيت هذا، وتقبلته، ولكن ألا ترى نبيكم يستشير الرجل فقط، ولا يعتبر النساء.. ألستم تقولون:(شاوروهن وخالفوهن)([76])؟
ابتسم الحكيم، وقال: إن كان أحد من الناس قال هذا، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يقله.. وكيف يقوله، وهو الذي لم يفرق بين رجل وامرأة في أي شيء؟
وكيف يقوله، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يستشيرهن، ويقبل مشورتهن، ففى (الحديبية) شاور أم سلمة في امتناع أصحابه عن التحلل من إحرامهم بعد الصلح، فقد عز عليهم ذلك بعد نية العمرة، فأشارت عليه أم سلمة أن يخرج إليهم، ويتحلل من إحرامه أمامهم دون أن يتكلم، فما أن رأوه فعل ذلك، حتى بادروا إلى الاقتداء به.
سكت نيكولاس، فقال الحكيم: وأزيدك شيئا ـ قد لا يستطيع عقلك أن يهضمه، ولكني أقوله لتعرف شمول الشورى التي كان يمارسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقد روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(إن الله سبحانه تعالى أرسل إلي ملكا من الملائكة حجزته تساوي الكعبة، ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل عليه السلام، فقال: (السلام عليك يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، أنا رسول ربك إليك، أمرني أن أخيرك: إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا)، فنطرت إلى جبريل عليه السلام كالمستشير، فأشار إلي جبريل بيده، أن تواضع، فقلت، (بل نبيا عبدا، لو قلت: نبيا ملكا، ثم شئت لسارت معي الجبال ذهبا)، قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك يأكل متكئا ويقول: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد)([77])
بعد أن لم يجد نيكولاس ما يعترض به على الشورى التي كان يمارسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جمع المجالات راح يقول: ولكن ممارسة الشورى وحدها لا تنفي الاستبداد، فقد يشاور المستبد مستبدين مثله، فيمارس من خلالهم ما تهواه نفسه من الاستبداد.
قال الحكيم: صدقت في هذا.. جزاك الله خيرا..
كان لهذا الدعاء تأثيره الشديد في نفس نيكولاس الذي أشرق وجهه بعد أن كان كالحا.
واصل الحكيم حديثه يقول: نعم.. لقد ذكر القرآن الكريم أن المستبدين قد يتخذون وزراء يعينونهم على استبدادهم.. وقد ذكر القرآن من نماذج ذلك فرعون الذي قال له ملؤه الذين كانوا مستشاريه:{ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } (الأعراف:127)
قال نيكولاس: فأنت توافقني فيما أقول إذن؟
قال الحكيم: لو وافقتك حقائق التاريخ لوافقتك.. فهلم جميعا نسأل التاريخ عن موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العدالة التي هي نقيض الاستبداد.
لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أتدري من أولهم؟
سكت نيكولاس، فقال الحكيم: لقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(إمامٌ عادلٌ)، وذكر صلى الله عليه وآله وسلم (أن المقسطين عند الله على منابر من نورٍ: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)([78])، فأنت ترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يعمم معنى العدالة لتشمل كل شيء.
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن أهل الجنة ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ مقسطٌ موفقٌ، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلمٍ، وعفيفٌ متعففٌ ذو عيالٍ([79]).
فهل يمكن لنبي يدعو إلى مثل هذا، ويأمر بمثل هذا أن يجور!؟
سكت نيكولاس، فقال الحكيم: شيء آخر كان يفعله صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا، وهو دليل من دلائل انتقاض ما ترميه به من استبداد، وهو تخييره صلى الله عليه وآله وسلم لرعيته بين الاحتمالات المختلفة، ثم قبول ما تختاره منها، أو يترك لكل شخص ما اختاره منها.
وسأقتصر لك من التاريخ مثلين أختم بهما:
أما الأول، فهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما غنم غنائم بني النضير دعا ثابت بن قيس بن شماس، فقال: ادع لي قومك، قال ثابت: الخزرج يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(الانصار كلها)، فدعا له الأوس والخزرج، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الانصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وإيثارهم على أنفسهم، ثم قال:(إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله تعالى علي بن بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم)
فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وجزاهما خيرا، فقالا:(يا رسول الله بل تقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا)
ونادت الانصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(اللهم ارحم الانصار، وأبناء الانصار)([80])
وقد نزل في ذلك قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9)
أما النموذج الثاني فإنه بعد غزوة هوازن، وبعد أن أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد السبي إلى أهله عرض على الناس المسألة، وخيرهم في ذلك، فعن المسور ومروان: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام في المسلمين، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:(أما بعد فان إخوانكم قد جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أراد عليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول فئ يفيئه الله علينا فليفعل)، فقال الناس: قد طبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم)، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم([81]).
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم)، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لله ولرسوله، وقالت الانصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله.
فقال الاقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا.
وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا.
وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنوا سليم فلا.
فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال العباس بن مرداس: وهنتموني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(من كان عنده منهن شئ فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك، ومن أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فئ يفيئه الله)، فرد المسلمون الى الناس نساءهم وأبناهم.
***
بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (نيكولاس إيلمنسكي) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..
التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.
أما أنا..
فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه
وآله وسلم.
([1]) أشير به إلى (نيكولاس إيلمنسكي)( ق 20 م )، وهو مبشر روسي، رسم سياسة تنصيرية للتتار بجذبهم إلى المسيحية عن طريق الدمج الديني والثقافي، فكان يهدف إلى (تنشئة نخبة مثقفة من المواطنين يعتنقون المذهب الأرثوذوكسي لكن ثقافتهم تترية ويستخدمون اللغة التترية القازانية المكتوبة بالأحرف الروسية)، وقد ارتد عن الإسلام بفعل هذه السياسة في عهد ألسكندر الثاني قرابة مائة ألف (000. 100 ) مسلم والتحقوا بطائفة كرياشن (ألكسندر بينيغسن وشانتال لوميرييه كيلكجاي: المسلمون المنسيون في الاتحاد السوفييتي – ص 27، ونجيب العقيقي: المستشرقون: ص 26 )
([2])رواه أبو داود، والترمذي.
([3]) رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر ـ وقال: هذا حديث مرسل ـ وقد جاء معناه في الأحاديث المسندة.
([4]) رواه ابن سعد.
([5]) رواه ابن ماجه.
([6]) رواه ابن ماجه.
([7]) رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.
([8]) ولا يعارض هذا بما ورد في بعض النصوص من الاستئذان عليه صلى الله عليه وآله وسلم .
([9]) رواه البخاري ومسلم.
([10]) رواه البخاري ومسلم.
([11]) رواه الترمذي وصححه والبيهقي.
([12]) رواه البخاري.
([13]) رواه الترمذي.
([14]) رواه أحمد والبخاري وأبو يعلى.
([15]) رواه ابن عدي.
([16]) رواه أبو داود والترمذي.
([17]) رواه أبو الشيخ، وابن سعد.
([18]) رواه ابن عساكر.
([19]) رواه ابن أبي شيبة.
([20]) رواه أحمد برجال الصحيح وأبو يعلى.
([21]) رواه محمد بن عمر.
([22]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([23])وفي لفظ: حتى أغمر بطنه، أو قال اغبر بطنه، وفي لفظ: حتى وارى الغبار جلده.
([24]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([25]) رواه البيهقي.
([26]) جمع كتد، وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفي لفظ: أكتافنا، وفي لفظ عن متوننا.
([27]) الاهالة: الودكة، والسنخة: المتغيرة الريح الفاسدة الطعم.
([28]) سبق تخريج الحديث بتفاصيله، وانظر رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.
([29]) سنرى تفاصيل ذلك في محلها.
([30]) رواه اليخاري ومسلم، وانظر تفاصيل أكثر في (معجزات حسية)
([31]) رواه ابن إسحق وغيره.
([32]) رواه أحمد ومسلم.
([33]) رواه أبو بكر بن أبي شيبة.
([34]) رواه الدارمي.
([35]) رواه الخرائطي.
([36]) رواه البخاري في الأدب، وروي عبد بن حميد عن عدي بن حاتم قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو جالس في المسجد فقال القوم: هذا عدي، وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلما دفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي قال: فقام معي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا: لنا إليك حاجة، فقام معهما، حتى قضى حاجتهما.
([37]) رواه أبو ذر الهروي في دلائله.
([38]) رواه الطبراني، ورواه مسدد مرسلا برجال ثقات.
([39]) رواه البخاري.
([40]) رواه ابن ماجه.
([41]) رواه أحمد وابن سعد وابن شيبة.
([42])كما روي عن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فاسمع بكاء الصبي فاتجوز في صلاتي مما اعلم من شدة وجد أمه من بكائه.
([43]) انظر: عيون الأثر: 2/423.
([44]) رواه أبو داود.
([45]) رواه البخاري ومسلم.
([46]) رواه ابن سعد.
([47]) رواه مسلم.
([48]) رواه مسلم.
([49]) رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، وقاسم بن ثابت، والطبراني.
([50]) رواه ابن سعد، وهذا من جملة معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم كونه ركب فرسا قطوفا بطيئا فعاد بحرا لا يسابق، ولا يجارى.
([51]) رواه أحمد، وابن ماجه.
([52]) رواه ابن أبي شيبة.
([53]) رواه أبو الشيخ.
([54]) سنرى أدلة أوفر على هذا في سائر السلسلة.
([55]) رواه البخاري.
([56]) رواه أحمد وعبد بن حميد وابن عساكر.
(1) رواه البغوي في تفسيره، وقد روي أن عتبة بن ربيعة لما سمع ذلك من رسول الله r لم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم، فقال أبو جهل:« يا معشر قريش واللّه ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك له إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فقال أبو جهل:« يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد »، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمد أبداً، وقال:« واللّه لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء واللّه ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب»
([58]) رواه عبد بن حميد.
([59]) رواه ابن جرير.
([60]) سنرى التفاصيل المرتبطة بتعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع اليهود في فصل (حروب) من هذه الرسالة.
([61]) رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وابن جرير.
([62]) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في فصل (حروب) من هذه الرسالة.
([63]) رواه البخاري.
([64]) روى سعيد بن منصور ابن المنذر عن الحسن في الاية قال: قد علم الله أن ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد ليستن به من بعده.
([65]) رواه ابن أبي حاتم والخرائطي.
([66]) ذكر الحافظ في الفتح الروايات الواردة في هذا، ثم قال: ويمكن الجمع بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استشارهم في غزوة بدر مرتين: الاولى: وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبي سفيان، وذلك بين في رواية مسلم، والثانية: بعد أن خرج كما في حديث ابن مسعود في الصحيح، وحيئذ قال سعد بن معاذ ما قال.
([67]) وفي رواية: برك الغماد من ذي يمن.
([68]) انظر: البيهقي في الدلائل، وغيره.
([69]) رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه.
([70]) روى البيهقي عن ابن شهاب قال: يقول رجال: كان الذي رأى بسيفه الذي أصاب وجهه.
([71]) رواه الطبراني والبزار.
([72]) وقد استشهد يومئذ
([73]) رواه ابن عتبة وابن إسحاق وابن سعد وغيرهم.
([74]) رواه ابن إسحق وغيره، وقد روي أن غطفان هي التي طلبت المصالحة، فقد روى البزار والطبراني عن أبي هريرة قال: جاء الحارث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا محمد ناصفنا تمر المدينة وإلا ملاتها عليك خيلا ورجالا، فقال: حتى أستأمر السعود: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود، فكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فقالوا: لا، والله ما أعطينا الدينة في أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله تعالى بالاسلام، فرجع إلى الحارث فأخبره، فقال: غدرت يا محمد.
([75]) رواه محمد بن عمر، وانظر تفاصيل الحصار والحكمة من الرجوع في فصل (حروب) من هذه الرسالة.
([76]) روي هذا الحديث، وهو موضوع باتفاق المحدثين، ومثله ما روي عند العسكري من حديث حفص بن عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال: قال عمر: خالفوا النساء، فإن في خلافهن البركة، بل يروى في المرفوع من حديث أنس: لا يفعلن أحدكم أمراً حتى يستشير، فإن لم يجد من يستشير، فليستشر امرأة، ثم ليخالفها، فإن في خلافها البركة، وقد أخرجه ابن لال، ومن طريقه الديلمي من حديث أحمد بن الوليد الفحام، حدثنا كثير بن هشام، حدثنا عيسى بن إبراهيم الهاشمي عن عمر بن محمد عنه به، وعيسى ضعيف جداً مع انقطاع فيه. (انظر: تذكرة الموضوعات: 128)
([77]) رواه أبو نعيم وابن عساكر من طرق عن ابن عباس موقوفا، وابن سعد عن عائشة، وأبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا.
([78]) رواه مسلم.
([79]) رواه مسلم.
([80]) فقسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أفاء الله تعالى عليه، وأعطى المهاجرين، ولم يعط أحدا من الانصار من ذلك الفئ شيئا إلا رجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف وأبا دجانة، وأعطى سعد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق، وكان سيفا له ذكر عندهم.
([81]) رواه البخاري.