ثامنا ـ علوم

ثامنا ـ علوم

في اليوم الثامن من تلك الأيام العشرة المباركة.. التقيت المستشرقة التي قطفت على يدها ثمرة (العلوم)من شجرة النبوة..

وهي الثمرة التي عرفت بها سر كون أول آيات القرآن تبدأ بقوله تعالى:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق)

فهذه الآيات الكريمة ـ التي هي أول ما نزل من القرآن الكريم ـ لا تشير إلى أهمية العلم فقط.. وإنما تشير أكثر من ذلك إلى ارتباط العلم بالله وبالدين وبالخلق..

وقد عرفت منها أن انفصال العلم من الدين.. وانفصاله ـ من ثم عن الخلق ـ سيكون وبالا عظيما على العالم.. وعلى البشرية.

وعرفت بهذه الثمرة سر ذلك التوبيخ والعقاب الذي ناله ذلك الرجل الذي سلخ علمه من دينه.. قال تعالى:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} (القصص)

وعرفت بها سرا خطيرا من أسرار قارون.. فقارون لم يطغه ماله فقط.. وإنما جعله يطغى تلك العلوم التي تميز بها بين الناس، فراح يقول:{ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (القصص:78)

وعرفت بها سر النصوص المقدسة الكثيرة التي تحذر من فصل العلم عن الدين وعن الخلق.. والتي امتلأ بها القرآن والسنة.

وعرفت بها سر إلحاح الأولياء والقديسين من المسلمين على ربط العلم بالخلق والدين..

وعرفت بها أسرارا كثيرة لا أطيق ذكرها لك الآن..

***

كانت المستشرقة المشهورة الدكتورة زيغريد هونكه([1]) من الأسماء الضخمة التي وضعت في الدفتر الذي سلمني إياه المرشد.. ولذلك كنت أتحين الفرص للقائها، والحديث معها، لأعرف سر ذلك المروق الذي شرفها بتسجيلها في ذلك الدفتر.

كنت أعلم مدى اهتمامها بالعلوم الإسلامية، والحضارة الإسلامية التي أنتجت تلك العلوم.. ولكني لم أكن أعرف المحرك الذي حركها لذلك إلى أن التقيتها ذلك اليوم.

في ذلك الصباح الذي التقيتها فيه كنت مارا على جنان تمتلئ بعناقيد العنب المباركة، فبقيت أنظر إلى تلك المصانع الصغيرة الكثيرة التي تصنع ألذ العصائر وأشهاها وأكثرها إفادة للصحة.

بينما أنا كذلك إذ سمعت أصواتا ترفع تكاد تقترب من الخصومة.. فسارعت إلى الدخول من غير استئذان لأفك الخصومة، أو أمنع حدوثها.

في ذلك الحين رأيت تلك المستشرقة التي طالما حلمت بالجلوس إليها..

لقد كانت هي صاحب الصوت المرتفع، وكانت تقول بجرأة عظيمة لصاحب البستان: إن هذه جريمة.. جريمة بحق الإنسانية.. وجريمة بحق العنب..

قال لها الرجل: ولكن كل الناس يفعلون ذلك.

قالت: وهل تتبعهم في جرائمهم.. أو في جنونهم..!؟

قال لها الرجل: لست أدري لما تتحاملين علي بهذه الصورة؟

قالت: لأنك تحول من البركة خبثا.. ومن الدواء داء.. ومن الترياق سما.. فكيف لا أتحامل عليك، وأنت تخرب بنيان الله، والطبيعة التي طبع الله عليها الأشياء!؟

قال لها الرجل: لا أرى إلا أن رحلتك لتلك البلاد.. وسكنك بين أولئك المتخلفين قد أثر فيك، وفي عقلك.. فدعيني أفعل ما أشاء.. فالأرض أرضي.. وعنبها عنبي.. ولي الحرية المطلقة في أن أحوله داء أو دواء..

قال ذلك بغضب شديد، ثم انصرف إلى عماله..

أما أنا، فاقتربت منها، وسألتها عن سر اختلافها مع هذا الرجل، فقالت: هذا الرجل أخي.. وقد ورث هذا البستان من زوجة له.. وقد كان يبيع عنبه كل سنة طيبا مباركا، ليأكله الناس كما خلقه الله.. ولكنه هذه السنة.. وبتأثير جماعة من المجرمين قرر أن يبيعه لصانعي الخمور، ليحولوا منه سما زعافا.

قلت لها: إن كل الناس يفعلون ذلك.. ولا يرون بذلك بأسا.

قالت: وهذا هو الخطر الأكبر.. أن يجتمع الناس على عدم إنكار المنكر.. بل على اعتبار المنكر معروفا..

قالت ذلك، ثم رمت ببصرها إلى الأفق البعيد، وسالت دمعة حارة من عينها، ثم قالت: متى يأتي اليوم الذي تشرق فيه شمسك يا محمد على هذه البلاد.. وعلى هؤلاء العباد.. ليعود الإنسان إلى الإنسان.. وتعود الحياة إلى الحياة.

قلت: مع من تتحدثين؟

قالت: أشواقي هي التي تتحدث.. لقد من الله علي أن أعيش بين ثلة من المسلمين استظلوا بظلال محمد.. وأشرقت عليهم أشعة شمسه.. فعرفت الإنسان، وعرفت الحياة.. وعرفت بعدنا عن الإنسان والحياة.

قلت: كيف تقولين هذا!؟.. ونحن أمة العلوم التي فجرت من أنهار العلوم وبحارها ما كان كامنا مختفيا، لا تراه الأبصار، ولا تسمع به الآذان.

قالت: ونحن من الأمة التي غرقت في تلك الأنهار والبحار، فلم تجد منقذا.

قلت: ما تقصدين؟

قالت: إن العلوم وتطبيقات العلوم التي فتحنا أبوابها كلها.. وأكلنا من شجرها جميعا تشبه تلك الجنة التي دخل إليها آدم.. مع فارق بسيط هو أن آدم أقدم مرة واحدة على الأكل من تلك الشجرة التي نهي عن الأكل منها.. ولكنا لم نأكل مرة واحدة.. بل رحنا نمزج من ثمار تلك الشجرة جميع ثمارنا، ونخلط سمها بجميع طعامنا.

قلت: ولكن آدم خرج من الجنة بأكله من تلك الشجرة.. ونحن دخلنا إليها بأكلنا منها.

قالت: نحن لم نخرج من الجنة فقط.. بل خرجنا من الإنسانية.. ونحن نغبط آدم، فقد خرج ـ على الأقل ـ بإنسانيته..

قلت:  أنت متشائمة كثيرا!؟

قالت: عندما تكون في الظلام لا تبصر غير الظلام..

قلت: أليس هناك بصيص من النور يمكن أن يخترق حجب الظلام ليعيد نهار البشرية!؟

قالت: أجل.. ذلك كائن لا محالة.. وقد نعمت به البشرية فترة طويلة.. وسيعود.. سيعود.. لي أمل كبير في ذلك.

قلت:  أفصحي.. فإني لا أطيق فك ألغازك.

قالت: أعرفك بنفسي أولا.. أنا زيغريد هونكه.. لست أدري هل سمعت بهذا الاسم أم لا..

قلت: بلى.. لقد سمعت به.. وأنا من بلدك.. من ألمانيا.. وقد سمعت بكتابك عن إشراقة شمس الإسلام على الغرب.. وقد تعجبت من كتابتك له.

قالت: لقد بثثت فيه بعض ما علي من دين نحو تلك الأمة العظيمة التي غرس شجرتها محمد.

قلت: ما الذي جعلك تميلين كل هذا الميل لمحمد، ولدين محمد؟

قالت: لأنه حافظ على الإنسان، فلم يحوله إلى حيوان.. وحافط على العنب، فلم يحوله إلى خمر.. وحافظ على الأنهار، فلم يحولها إلى مستنقعات..

قلت: ليس محمدا وحده هو الذي فعل هذا.. حتى أولئك البدائيين البسطاء الذين لم تنفتح لهم فتوح العلم فعلوا هذا.

قالت: فرق عظيم بين ما فعله محمد وثمار محمد، وبين ما فعله أولئك البسطاء.

قلت:  ما الفرق بينهما؟

قالت:  أولئك البسطاء لم تنفتح لهم العلوم.. ولم يغيروها.. ولكن الثمار التي رباها محمد على عينه فتحت لها خزائن العلوم لكن تربية محمد جعلتهم يتأدبون.. فلا يتناولون منها ما يحرف الإنسان، وما يحرف الأكوان.

لقد سمعوا ربهم يقول لهم:{ لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } (الروم:30)، فراحوا يحافظون على أصالة الإنسان وأصالة الأكوان.

وسمعوا ربهم يربط بين العلم والإيمان، فيقول لهم:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إ} (فاطر:28)، فراحوا يمزجون بين العلم والخشية.

وسمعوا ربهم يحدثهم عن الطواغيت الذين حرفوا العلم.. وانحرفوا بالعلم.. وبطروا بالعلم.. فراحوا يفرون من سلوكهم.. ويربطون علمهم بربهم، وبإيمانهم، وبمصالح البشرية التي كلفوا برعايتها.

أما قومنا.. فلا ينطبق عليهم إلا ما ورد في القرآن من خبر ذلك الذي سلخ علمه عن إيمانه.. { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ((الأعراف:175-176)

إن هذا المثال يكاد ينطبق تماما على الكثير من اكتشافات هذا العصر.. حيث تلهث البشرية كل حين وفي كل مجال، وتستغل العلم لتغذي ذلك اللهث الذي لا ينقطع.

قلت:  إن في كلامك هذا دعاوى كثيرة تحتاج إلى برهان.. فلا يمكن لعقلي أن يقبل الدعوى من غير برهانها.

قالت: اجلس.. وسأحدثك عن الحقائق التي اكتشفتها بعد بحث طويل في الأديان والمذاهب والأفكار بحثا عن شجرة العلوم التي سقيت بمياه الإيمان، وأشرقت عليها شمس العرفان.. فلم أجدها إلا في دين محمد.

علوم الجاهلية

قلت:  فهل سنبدأ بالحديث عن الجاهلية!؟

قالت: لا تعرف قيمة الفضائل إلا إذا قارنتها بالرذائل.. ولا يعرف شرف الحقائق إلا إذا قارنتها بالأباطيل.

قلت:  فبأي جاهلية تحبذين أن نبدأ حديثنا؟

المسيحية:

قالت: بالمسيحية.. بالدين الذي تنتسب إليه هذه الحضارة.. أو بالدين الذي تخلصت منه هذه الحضارة.

قلت: لا علاقة للمسيحية بالعلوم.. فالمسيحية دين الملكوت لا دين الملك.. وهي تبحث في حقائق الأزل، لا في أباطيل الفناء.

قالت: لقد أتيحت للمسيحية، ولرجال الدين، وللكنيسة أن تكون لها في فترة طويلة علاقة بالعلم.. فتعال بنا نرى ماذا فعلت في تلك الفرصة العظيمة التي أتيحت لها([2]

نظرت إلى عناقيد العنب المتدلية، وقالت: بمثل التحريف الذي يريد أخي أن يحرف به هذه العصارات المباركة، حرفت الكنيسة الحقائق.. فتبنت الجهل الذي اعتبرته علما، وقاومت العلم الذي اعتبرته جهلا.. فأخطأت خطأين لا نزال نصلى نارهما: نصرت الجهل، وحولت العلم عن وجهة الدين، لينفصل عن الدين.

قلت: فحدثني عن الخطأ الأول.

قالت: كما تسربت الوثنيات إلى عقائد المسيحية، وتسربت طقوس الوثنية إلى شعائرها، تسربت الخرافات إلى علومها.. ولم تكتف بقبولها، بل راحت تحتكرها، وتعتبرها عقائد لازمة يحرم من جحدها.

يقول برنتن: (إن أكثر أصحاب الوظائف العلمية حتى في أوج العصور الوسطى كانوا ينتمون إلى نوع من أنواع المنظمات الدينية، وكانوا جزءاً من الكنيسة، حيث أن الكنيسة بدرجة لا نكاد نفهمها اليوم تتدخل في كل لون من ألوان النشاط البشري وتوجهها وبخاصة النشاط العقلي)

ويقول: (وإذن فقد كان الرجال الذين يتلقون تعليمهم في الكنيسة يكادون يحتكرون الحياة العقلية، فكانت الكنيسة منصة المحاضرة والصحافة والنشر والمكتبة والمدرسة والكلية، وكان أصحاب الميول الفلسفية في الدول الرومية سواء من رجال الكنيسة أو من المسيحيين العاديين، متأثرين بتراثهم من الفكر الإغريقي في ميادين العلم والفلسفة، لا سيما آراء أرسطو وبطليموس، وقد بذلوا جهودهم في التوفيق بين معتقداتهم الدينية وآرائهم الفلسفية.ونشأ عن ذلك فلسفة مركبة تسمى (الفلسفة المسيحية)، وهي خليط من نظريات الإغريق وظواهر التوراة والأناجيل وأقوال القديسين القدامى، ولما كان العلم والفلسفة في ذلك العصر شيئاً واحداً، فقد أدمج الفلاسفة المسيحيون في صرح فلسفتهم كل ما وصل إليه العلم البشري في عصرهم من النظريات الكونية والجغرافية والتاريخية، ورأت الكنيسة في هذه الفلسفة التوفيقية خير معين على الدفاع عن تعليمها ضد المارقين والناقدين، فتبنتها رسمياً وأقرتها مجامعها المقدسة حتى أضحت جزءاً من العقيدة المسيحية ذاتها وامتدت يد التحريف فأدخلت بعض هذه المعلومات في صلب الكتب الدينية المقدسة)([3])

لقد تبنت الكنيسة آراء أرسطو في الفلسفة والطب ونظرية العناصر الأربعة ونظرية بطليموس في أن الأرض مركز الكون.. وما أضاف إلى ذلك كله القديس أوغسطين وكليمان الإسكندري وتوما الاكويني.. واعتبرت هذا المزيج من الآراء البشرية أصولاً من أصول الدين المسيحي وعقائد مقدسة لا يصح أن يتطرق إليها الشك.

وقد كانت هذه العلوم المسيحية تشتمل على معلومات تفصيلية عن الكون.. تذكر بأن الله خلق العالم ابتداء من سنة 4004 ق.م، وتوج ذلك بخلق الإنسان في جنة عدن.. والعجيب أنها ظلت مصرة على هذا الرأي حتى مطلع القرن التاسع عشر، فقد طبع كتاب الأسقف (آشر) الذي يحمل هذه النظرية سنة 1779 م ([4]).

أما تاريخ الطوفان فتختلف فيه تقاويم التوراة، لكنه على أقصى آرائها وقع بعد خلق آدم بـ (2262)سنة([5])، ومعنى ذلك أنه كان سنة 1742 ق.م.

ومن الطريف أن مجلساً كنسياً كان قد أعلن في بداية القرن العاشر للميلاد أن القرن الأخير من حياة العالم قد استهل، لأن الله قد جعل المدة بين إنزال ابنه ونهاية العلم ألف سنة فقط([6]).

هذه بعض معلوماتها التاريخية..

أما معلوماتها الطبية، فقد كانت أفضل وأنجح الوسائل العلاجية في نظرها إقامة الطقوس لطرد الشياطين التي تجلب المرض، ورسم إشارة لصليب ووضع صور العذراء والقديسين تحت رأس المريض ليشفي.

قلت: عرفت الخطأ الأول.. فما الخطأ الثاني؟

قالت:  لقد أتيح لقومنا أن يروا بعض ثمار العلوم التي أنتجتها الشجرة التي غرسها محمد.. وذلك بفضل مراكز الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية وجنوب إيطالية التي كانت بتشع نور العلم والمعرفة على القارة المستغرقة في دياجير الخرافة والجهل، فاستيقظ العقل الأوروبي من سباته وأخذ يقتبس عن المسلمين طرائق البحث ومناهج التفكير التي تجعله يكد ويعمل في مجال اختصاصه.

وفي ذلك الحين وقع الخطأ الثاني الذي لا نزال نعاني آثاره..

لقد ثارت ثائرة رجال الكنيسة على الذين يتلقون علوم الكفار.. والذين لم يكونوا في نظرهم غير المسلمين..

فلذلك أعلنت حالة الطوارئ ضدهم، وشكلت محاكم التفتيش في كل مكان تتصيدهم وتذيقهم صنوف النكال.. وأصدرت منشورات بابوية جديدة تؤكد العقائد السابقة وتلعن وتحرم مخالفيها.. وبذلك قامت المعركة بين الكنيسة والعلم، وأخذت تزداد سعاراً بمرور الأيام.

لقد كان من أول النظريات العلمية التي صادمت الكنيسة نظرية كوبرنيق (1543) الفلكية، فقبل هذه النظرية كانت الكنيسة المصدر الوحيد للمعرفة، وكانت فلسفتها تعتنق نظرية بطليموس التي تجعل الأرض مركز الكون، وتقول أن الأجرام السماوية كافة تدور حولها.

فلما ظهر كوبرنيق بنظريته القائلة بعكس ذلك كان جديراً بأن يقع في قبضة محكمة التفتيش، ولم ينج من ذلك لأنه كان قسيساً، بل لأن المنية أدركته بعد طبع كتابه بقليل، فلم تعط  المحكمة فرصة لعقوبته، إلا أن الكنيسة حرمت كتابه (حركات الأجرام السماوية)، ومنعت تداوله وذكرت أن ما فيه هو وساوس شيطانية مغايرة لروح الإنجيل.

وقد ظن رجال الكنيسة أن أمر هذه النظرية قد انتهى، ولكن رجلاً آخر هو (جردانو برونو) بعث النظرية بعد وفاة صاحبها، فقبضت عليه محكمة التفتيش، وزجت به في السجن ست سنوات، فلما أصر على رأيه أحرقته سنة 1600م وذرت رماده في الهواء وجعلته عبرة لمن اعتبر.

وبعد موته ببضع سنوات كان (جاليلو) قد توصل إلى صنع المرقب (التلسكوب)، فأيد تجريبياً ما نادى به أسلافه نظرياً، فكان ذلك مبرراً للقبض عليه ومحاكمته، وقضى عليه سبعة من الكرادلة بالسجن مدة من الزمان، وأمر بتلاوة مزامير الندم السبعة مرة كل أسبوع طوال ثلاث سنوات ([7])..

ولما خشي على حياته أن تنتهي بالطريق التي انتهى بها برونو أعلن ارتداده عن رأيه، وهو راكع على قدميه أمام رئيس المحكمة قائلاً: (أنا جاليلو.. وقد بلغت السبعين من عمري.. سجين راكع أمام فخامتك، والكتاب المقدس أمامي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر القول الإلحادي الخاطئ بدوران الأرض)

ولم يكتف بهذا التعهد.. بل أضاف إليه التعهد بتبليغ المحكمة عن كل ملحد يوسوس له الشيطان بتأييد هذا الزعم المضلل([8]).

قلت:  فما الذي جعل الكنيسة تصر على تلك الآراء كل ذلك الإصرار، مع أن ذلك لم يذكر في الكتاب المقدس؟

قالت:  وهل تتبنى الكنيسة شيئا مما في الكتاب المقدس!؟.. لقد رأت الكنيسة أن الأرض يجب أن تكون مركز الكون الثابت لأن الأقنوم الثاني.. الذي هو المسيح.. تجسد فيها، وعليها تمت عملية الخلاص والفداء، وفوقها يتناول العشاء الرباني.

وأضافوا إلى هذا ما فهموه من قول التوراة: (الأرض قائمة إلى الأبد، والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق) (انظر: سفر الجامعة:1/ 5-6)

أما كروية الأرض وسكنى جانبها الآخر، فنفتها الكنيسة بحجة أن (من خطل الرأي أن يعتقد الإنسان بوجود أناس تعلو مواطئ أقدامهم على رؤوسهم وبوجود نباتات وأشجار تنمو ضاربة إلى أسفل، وقالت إنه لو صح هذا الزعم لوجب أن يمضي المسيح إلى سكان الوجه الآخر من الأرض ويموت مصلوباً هناك من أجل خلاصهم)([9])  

قلت:  فهل أفلحت الكنيسة في نصرة آرائها ومقاومة الهراطقة؟

قالت: على العكس تماما.. فلم يكد القرن السابع عشر يستهل حتى كان لنظرية كوبرنيق وما أضاف إليها برونو وجاليلو آثار واسعة، ظلت راسخة في الفلسفة الأوروبية عامة.

وذلك ما أحدث أثرا خطيرا في ثقة الجماهير بالكنيسة جعلتهم يشكون في سلامة معلوماتها، وهو أثر له أهميته القصوى.

لقد قدم ذلك الصراع إيحاءات فلسفية جديدة، هزت فكرة الثبات المطلق التي كانت مسيطرة على العقلية الأوربية وحطت كذلك من قيمة الإنسان ومكانته في الوجود.

والأخطر من ذلك كله هو ما حصل من ثورة العلماء على الكنيسة كما ثار العامة عليها.. وتولد من تلك الثورة جاهلية جديدة فصلت العلم عن المبادئ والمثل.

قلت: فهل سكتت الكنيسة؟

قالت: لا.. الكنيسة لم تسكت.. ولم تبحث عن أي محاولة توفيق تحفظ للعلم حرمته، وتحفظ للدين قداسته.

قلت:  فماذا فعلت؟

قالت:  سلاح الإرهاب التي تدربت على استعماله في الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش..

لقد كان القرن السابع عشر هو القرن الذهبي لمحاكم التفتيش.. فقد قاسى العلماء أنواع الاضطهاد، واستخدمت ضدهم أساليب القمع الوحشية وظهرت الفهارس أو (القوائم البابوية) التي تحتوى على أسماء الكتب المحرمة، وكان وجود شيء من هذه الكتب في حوزة إنسان ذريعة لسوقه إلى محكمة التفتيش وتعريضه لأليم عقابها.

لقد قاومت الكنيسة كل محاولة للتجديد وإن كانت نافعة خيرة، فقد كفرت رئيس بلدية في ألمانيا لأنه اخترع غاز الاستصباح بحجة أن الله خلق الليل ليلاً والنهار نهاراً، وهو بمخترعه يريد تغيير مشيئة الخالق فيجعل الليل نهاراً.

واضطرب حبل الكنيسة بظهور الروح الجديدة اضطراباً واضحاً وألقت بكل ثقلها في معركة كانت في غنى عن دخولها أمام الناس، لا سيما المثقفون الذين انتهزوا الفرصة وخيل إليهم أن الأقدار قد لاقت أيهم مفتاحاً سحرياً يخلصهم من سجن الكنيسة وأغلالها ذلك هو مفتاح (العلم والتجربة)

قلت:  فهل سكت الناس؟

نظرت إلى عناقيد العنب نظرة ألم، ثم قالت: لقد بدأ العنب في ذلك الحين ـ بحكم تصرفات الكنيسة الحمقاء ـ يتحول إلى خمر..

لكن مع ذلك.. بدأت خطايا الكنيسة والمسيحية التي كانت تغطى بستار القداسة تفتضح.. وأصبحت للناس ـ وللعلماء على الأقل ـ الجرأة الكافية ليقولوا للكنيسة: لا.

وكان (سبينوزا) ذلك اليهودي المتحرر من هؤلاء.. بل لعله أعنفهم.. فقد طبق المنهج العقلي على الكتاب المقدس نفسه، ووضع الأسس التي قامت عليها (مدرسة النقد التاريخي) التي ترى أنه يجب أن تدرس الكتب الدينية على النمط نفسه الذي تدرس به الأسانيد التاريخية.. أى على أساس أنها تراث بشري، وليست وحياً إلهيا.

وقد استنتج سبينوزا ـ انطلاقا من تطبيق هذا المنهج ـ أن أسفار التوراة لم يكتبها موسى، مستدلاً بما جاء في سفر التثنية من ذكر موت موسى ورثائه، وقول كاتب السفر: (لم يأت نبي مثله من بعده)([10])  

واستطاع أن يثبت أن التوراة قد عينت أماكن بأسماء لم (توضع لها إلا بعد موسى بقرون عديدة)([11])

وفي إنجلترا طور جيبون النقد التاريخي للمسيحية في كتابه (سقوط الإمبراطورية الرومانية واضمحلالها).. أما هليوم فقد ابتدع مذهب الشك المطلق الذي كان ثورة نفسية على الإيمان المطلق طوال القرون الماضية.

كما استطاع (باسكال) أن يوجه نقده إلى عقيدة الخطيئة قائلاً: (لا شيء يزحم العقل الإنساني بالألم كعقيدة الخطيئة الأصلية، وأنه ليبدو أبعد ما يكون عن العقل أن يعاقب إنسان من أجل خطيئة اقترفها أحد أسلافه منذ أربعة آلاف سنة)

أما (جون لوك)، فقد خطا خطوة أبعد من ديكارت بأن طالب بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض قائلاً: (من استبعد العقل ليفسح للوحي مجالاً، فقد أطفأ نور كليهما وكان مثله كمثل من يقنع إنساناً بأن يفقأ عينيه ويستعيض عنهما بنور خافت يتلقاه بواسطة المرقب من نجم سحيق)

كما دعا إلى تطبيق مبدأ جديد على الحياة الأوربية آنذاك، وهو مبدأ التسامح الديني وإعطاء الحق لكل إنسان في أن يعتنق ما يشاء ويكفر بما يشاء من الأديان والمذاهب.

قلت:  فكيف سكتت الكنيسة على هؤلاء؟

قالت: لقد ظل صوتهم خافتاً أمام بطش محاكم التفتيش، وضغط المجتمع الذي كان يدين بالمسيحية ويراها جزءاً من كيانه.. ولذلك لم يحرقوا.. ولكن تراثهم مع ذلك تعرض للحرق والمصادرة كما تعرضوا شخصياً للإيذاء والمضايقة من قبل الكنيسة.. إلى أن تفجر البركان العلمي في كل مكان والخلافات الداخلية بين الطوائف المسيحية شغلتها عن إعطائهم ما يستحقون من الاهتمام.

كما أن النظريات الجديدة عن الكون في هذا القرن قد غمرت  الأفكار الفلسفية، واستأثرت بالاهتمام البالغ من قبل الأوساط الدينية والعلمية على السواء.

قلت:  فهل توقف النقد عند ذلك الحد المؤدب؟

قالت:  بل تجاوز النقد حد الأدب ليفسح الأمر لإله العقل الذي خلف إله الكنيسة..

لقد ظهر فولتير الذي كان أعدي أعداء الكنيسة آنذاك.. لقد نقد الكنيسة نقدا لاذعا..

وكان أول ما انتقده العقيدة المسيحية في التثليث وتجسيم الاله والصور المقدسة وأنحى باللائمة على بولس الذي طمس المسيحية وحرفها، ولذلك كان الإيمان بالمسيحية في نظره هو  (الاعتقاد بأشياء مستحيلة أو بأشياء تستعصي على الفهم فالحية تتكلم والحمار يتحدث وحوائط أريحا تتساقط بعد سماعها صوت الأبواق، إن الإيمان على هذا النحو هو على ما يقول أرازم هو الجنون)

أما الخطيئة الأولى فيرفضها فولتير، ويعتبرها إهانة لله واتهاماً له بالبربرية والتناقض، وذلك للتجرؤ على القول بأنه خلق الأجيال البشرية وعذبها لأن أباهم الأول قد أكل فاكهة من حديقته([12]).

وقد انتقد فولتير الطقوس السبعة نقدا مريرا، وسخر من الكتاب المقدس سخرية لاذعة تتجلى في قوله تعليقا علي معلومات التوراة الجغرافية: (من الواضح أن الله لم يكن قويا في الجغرافيا).. وقوله عن صيام المسيحية (دواء للفقراء لا يتعاطاه الأغنياء)، ويري (أن الطقوس والشعائر والعبادات و الاحتفالات الدينية جرائم محلية يعاقب عليها كل من يزاولها لأنها ضارة بالمجتمع خاصة إذا تمت في صورة أضاح وقرابين)

أما آراؤه السياسية، فقد عبر عنها بقوله: (إن التوحيد بين الدين والدولة لهو أبشع نظام لذلك يجب إلغاؤه وإقامة نظام آخر يخضع فيه رجال الدين لنظم الدولة ويخضع فيها الراهب للقاضي)

وقال: (إنه لا يمكن طاعة البشر باسم طاعة الله لابد من طاعة البشر باسم قوانين الدولة)([13])  

قلت: فهل سكتت الكنيسة؟

قالت:  لا.. لقد جزعت الكنيسة من هذه الانتقادات والآراء جزعا شديدا ولعنت فولتير وأشياعه وكفرتهم وحرمت قراءة كتبهم.. وتعرض فولتير للمضايقة والاضطهاد من قبل رجال اللاهوت، حتى أنه قال مخاطبا إنسان ذلك العصر: (أنت طائر في قفص محاكم التفتيش.. لقد قصت محاكم التفتيش جناحيك)([14])

العقلانية:

قلت: عرفت هذا ووعيته.. فما الجاهلية الثانية؟

قالت:  لقد أسست الجاهلية الأولى للجاهلية الثانية.. وهي جاهلية لبست لباس العقل([15]) كرد فعل ضد موقف الكنيسة من العلم.. وهي جاهلية تدعو للكفر بالكنيسة وبكل دين..

قلت: هذا موقف طبيعي.. وقد كان رد فعل.

قالت:  ولكنه رد فعل خاطئ.. فالدين ليس محصورا في الكنيسة.. لقد كان في إمكان العقلاء أن ينظروا في الأديان ويدرسوها دراسة موضوعية ليبحثوا عن الحقيقة، ويسلموا لها.

قلت:  ألم يفعلوا؟

قالت: لو فعلوا لما وقعنا فيما وقعنا فيه.

قلت:  فماذا فعلوا؟

قالت: لقد استبدلوا إله الكنيسة بإله العقل.. لقد صار العقل هو الإله الجديد لذلك العصر.. وصار المخبر هو الكنيسة.. وصار البشر هم القرابين التي تقدم لمحرقة كنيسة العلم.

قلت:  أفصحي عن مرادك.. فلا طاقة لي بفهم ألغازك.

قالت: لقد وصف برنتن ذلك العصر الذي ابتدأت فيه عبودية العقل المصارع لإله الكنيسة، فقال: (كان العقل للرجل العادي في عصر التنوير هو كلمة السر الكبرى لعالمه الجديد، العقل هو الذي يسوق الناس إلى فهم الطبيعة.. وهذه هي كلمة السر الثانية الكبرى.. وبفهمه للطبيعة يصوغ سلوكه طبقاً لها، وبذلك يتجنب المحاولات العابثة التي قام بها في ظل لأفكار المسيحية التقليدية الخاطئة، وما يخالفها في الأخلاق والسياسة ممالا يناقض الطبيعة)([16])

وقد بين أن السبب في هذا يعود إلى المسيحية التي طبعتها الكنيسة بطابعها الخاص، قال: (إن المسيحية التقليدية لم تعد قادرة على أن تمد المستنيرين بنظرية كونية فقد بدأ الناس يعرفون ما يكفي من الجيولوجيا لكي يبين أن تاريخ الخليقة الذي حدده الأسقف (آشر) بعام 4004 ق م وتاريخ قصة الطوفان بعيدا الاحتمال.. ولكن مبدأ التثليث في المسيحية مثلاً: إن الرياضة كانت ضد هذا المبدأ فإن أي نظام رياضي محترم لا يسمح بأن يكون الثلاثة ثلاثة وواحداً في آن واحد، أما عن المعجزات فلماذا توقفت؟ إذا أمكن إحياء الميت في القرن الأول، فلماذا لا يحيا في القرن الثامن عشر)([17])

لقد تخلص الإنسان في هذا العصر من القيود التي كانت تربطه بالكنيسة، فراح يتمرد عليها في كل شيء..

لقد انطلق العقل من أغلاله في ذلك العصر، ولم يعد مقيداً بأغلال الثنائية الديكارتية، بل بدأ يبحث عن ذاته، ويسلك طريقه لكي يتصرف كما لو كان (إلها) بالفعل، وتعالت أصوات الباحثين والفلاسفة منادية بأن العقل هو الحكم الوحيد والعقل هو كل شيء وما عداه فوهم وخرافة، ابتداء بالوحي وانتهاء بالفداء والصلب والرهبانية.. فكلها أباطيل مضللة وعقائد مرذولة لأنها لا تتسق مع العقل.

قلت:  ولكن العقل.. والمنطق العقلي.. يقتضي وجود الله.. بل وجود كمالات الله.

قالت: إن رد فعل العقلانيين على الكنيسة جعلهم ينفرون من الإله نفورا كليا.

قلت:  فبم استبدلوه؟

قالت:  بالطبيعة.. لقد حلت الطبيعة محل الإله.. كما يقول (سول): (صار لزاماً على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك ووجدوه في الطبيعة)([18])

وكتب الفكر الغربي تسمي ذلك العصر عصر (تأليه الطبيعة)، أو عبادة الطبيعة، وليست هذه العبارات مجازاً، بل هي مستعملة على الحقيقة تماماً، فكل صفات الله التي عرفها الناس عن المسيحية نقلها فلاسفة الطبيعة إلى إلههم الجديد، مع فارق كبير بين الإلهين في نظرهم.

فإله الكنيسة حقود يعذب السلالة البشرية ويقتل ابنه لأن الإنسان الأول أكل فاكهة من حديقته.. وهو إله متعنت يضع القيود الاعتباطية على حرية الإنسان ويقيده بالالتزامات ويفرض عليه الرهبانية والخضوع المذل لممثليه على الأرض.

أما الطبيعة فإله جذاب رحب الصدر ليس له كنيس ولا التزامات ولا يستدعي طقوساً ولا صلوات، وكل ما يطالب به الإنسان أن يكون إنساناً طبيعياً يلبي مطالبه الطبيعية في وضوح وصراحة.

وميزة الإله الجديد أنه ليس له رجال دين ـ كما للكنيسة ـ يستعبدون الناس لأنفسهم.. ولا كتاب مقدس متناقض.. ولا أسرار علياً مقدسة.. بل له دعاة من أمثال روسو وفولتير وديدرو.. وله كتب علمية هي (دائرة المعارف) و(العقد الاجتماعي) و(روح القوانين)

والقانون الطبيعي يجعل الكون مترابطاً متناسقاً لا اضطراب فيه ولا خلل، وبالمقابل جعلت الطبيعة للإنسان قانوناً يكفل له السعادة التامة ولكن النظم الإنسانية والأديان طمست هذا القانون فشقي الإنسان وتعذب.

تلك هي المبادئ الأولى للمذهب الطبيعي الذي تبلور ليصبح ديناً إنسانياً عند (كومت) في القرن التاسع عشر، وعنه انبثقت الماديات المتعددة التي تفسر الكون تفسيراً آلياً حسب القوانين التي سميت (قوانين الطبيعة)

قلت: فكيف بدأ ذلك؟

قالت:  لم يبدأ ذلك دفعة واحدة بطبيعة الحال.. لقد انفصلت الفلسفة عن الدين بادئ ذى بدء ونبذت البحث فيما وراء الطبيعة  كما كانوا يطلقون على أمور الغيب المتعلقة بالله وخلقه لهذا الكون، والغاية من هذا الخلق، والوحى الربانى المتضمن للقيم الدينية التى ينبغى أن يتبعها الإنسان من أجل الخلاص فى الآخرة.

واتجهت الفلسفة إلى دراسة الطبيعة والكون المادى، والإنسان باعتباره كائنا موجودا فى الطبيعة، لا بوصفه كائنا قد خلقه الله لغاية معينة وهدف يؤديه.

وكان التقدم العلمى الذى حدث منذ بدء النهضة أحد العوامل الهامة التى ساعدت على اتجاه الفكر الأوربى ذلك الاتجاه من خلال المذهب العقلى والتجريبى.

وقد بدأ ديكارت ـ أولا ـ بتطبيق المنهج العقلي في الفكر والحياة، واستثنى من ذلك الدين والعقائد الكنسية والنصوص المقدسة، وكان يرى أن ميدان العلم الطبيعة، وموضوعه استغلال القوى الطبيعية وأدواته الرياضة والتجربة، ويختص الدين بمصائر النفس في العالم الآخر، ويعتمد على الاعتقاد والتسليم، فلا مضايقة بين العلم والدين، ولا سلطان لاحدهما على الآخر ([19]).

ومع ذلك فقد وجد فلاسفة آخرون معاصرون لهؤلاء لم ترق لهم هذه الفلسفة، بل أغرتهم تفاهة آراء الكنيسة وحقدهم عليها أن يهاجموا التعاليم الدينية هجوماً مباشراً.

ثم كان نيوتن ونظرياته خطوة دافعة على الطريق.. 

فقد اكتشف نيوتن بعض ما سمى عندهم (قوانين الطبيعة) التى يجرى الكون المادى بمقتضاها.. وكشف عما يسمى عندهم (قانون السببية) أى القانون الذى يفسر ظواهر الطبيعة بردها إلى أسبابها الظاهرة، وقد كان هذا فى أوروبا ذريعة لنفى الأسباب غير الظاهرة وغير المحسوسة، أى نفى الأسباب الغيبية.

يقول برينتون: (إن السببية تهدم كل ما بنته الخرافات والإلهامات والمعتقدات الخاطئة فى هذا العالم)

ويقول: (الإله فى عرف نيوتن أشبه بصانع الساعة، ولكن صانع هذه الساعة الكونية – ونعنى بها الكون – لم يلبث أن شد على رباطها إلى الأبد، فبإمكانه أن يجعلها تعمل حتى الأبد، أما الرجال على هذه الأرض فقد صممهم الإله كأجزاء من آلته الضخمة هذه ليجروا عليها، وإنه ليبدو أن ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذا الساعة الكونية الضخمة، الذى لا يستطيع إذا ما أراد التدخل فى شئون عمله)([20])  

ويقول: (ولكن ثمة أناس ذهبوا إلى أبعد من ذلك، واعتبروا فكرة الإله فكرة شريرة، وخاصة إذا ما كان إله الكنيسة الكاثوليكية، وأطلقوا على أنفسهم بكل فخر اسم الملحدين، وهم يعتقدون أن ليس ثمة وجود لمسيح أو لإله المسيحية، ويقولون إن الكون ليس إلا مجموعة متحركة ذات نظام معين يمكن فهمه باللجوء إلى السببية المعتمدة على أساس العلوم الطبيعية)([21])  

هكذا سار الاتجاه المادى المادى الملحد بخطوات حثيثة حتى جاء القرن التاسع عشر، فظهرت الفلسفة الوضعية التى تقول بسيادة الطبيعة على الدين والعقل، واعتبارها هى الأصل الذى ينبثق عنه كل شئ.. والذى يبعث الأفكار فى العقل البشرى، وكان من أهم فلاسفتها (أوجست كومت) و(فرباخ)

نظرت إلى عناقيد العنب بحزن، وقالت: لم تكن هذه هي النظريات الوحيدة التي فصل فيها العلم عن الله وعن الإنسان وعن الحقائق..

لقد ظهر دجالون كثيرون.. لا تزال سموم فلسفاهم تنتشر في مدارسنا وجامعاتنا..

قلت:  إلى أن ظهر ماركس فرعون الإلحاد ليبشر بالجدلية المادية.. والتفسير المادي للكون.

قالت:  لقد لقد ظهر قبله (فيشته) و(هيجل) ليؤسسا لأقواله..

لقد جاء هذان الدجالان بالتفكير الجدلى الذي يبحث عن تصور فلسفى يسمح بوجود المتناقضات فى الكون والحياة ويفسرها.. ذلك أن المنطق اليونانى القديم (الذى يسمى المنطق الصورى) ينفى وجود التناقض فى الكون والحياة، ويقيم تفكيره على أساس أن الشئ ونقيضه لا يمكن أن يجتمعا، فوجود أى شئ هو ذاته نفى قاطع لوجود نقيضه.

ولكن الفكر الأوروبى منذ عصر النهضة – وإن كان قد رجع إلى الفكر الإغريقى يستمد منه ـ كانت له التفاتات مختلفة عنه فى مجالات متعددة. حتى إذا كان النصف الثانى من القرن الثامن عشر الميلادى ـ عصر سيادة العقل فى الفكر الأوربى قام فلاسفة يشيرون إلى وجود التناقض فى الكون والحياة ويحاولون تفسيره، من أبرزهم (فيشته) و(هيجل)

فأما فيشته (1762 – 1814 م)، فقد استخدم مبدأ النقيض كى يدعم سيادة العقل كمصدر للمعرفة مقابل الدين والطبيعة.

وأما هيجل (1770 – 1831)، فيستخدم مبدأ النقيض لتأكيد قيمة العقل من جهة، ثم لدعم فكرة الألوهية من جديد، وتأكيد الوحى كمصدر أخير للمعرفة، وهو يعتبر الله عقلا ([22]).

وهذا العقل المجرد يتمثل فى القانون والأخلاق، وفى الفن والدين والدولة والجماعة والفلسفة.. إذن فالعقل المجرد الذى يتحقق فى أى وحدة من هذه القيم العاملة المذكورة جامع للمتقابلين: جامع للفكرة فى العقل المطلق وهو الله، وللفكرة فى العقل المقيد وهو الطبيعة.. ذلك أنه ليس له إطلاق العقل المطلق ولا تحديد عقل الطبيعة، بل فيه إطلاق بالنسبة إلى الطبيعة وتقييد بالنسبة للعقل المطلق، ولذا يعتبر جامع الدعوى ومقابل الدعوى.

بالإضافة إلى هذين، فقد استلهم ماركس نظرية التطور.. فقد جاء دارون يؤله الطبيعة ويقول عنها إنها تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق.. ويؤكد أن الإنسان هو نهاية سلسلة التطور الحيوانية.. وأن التطور ذاته – الذى أنشأ الحياة المادية الميتة أول مرة، ثم تدرج بها من الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان – هو نتيجة أسباب مادية بحتة، وأنه يتم مستقلا عن إرادة الكائن الحى، وبصورة حتمية لا يملك الكائن الحى الخروج عليها  ولا معارضتها ولا الوقوف فى طريقها.

المادية:

قلت: فهمت هذا ووعيته.. فهل أورثت هذه الجاهلية الثانية جاهلية أخرى؟

نظرت إلى عناقيد العنب بألم وقالت: أجل.. ولدت هذه الجاهلية التي توشحت بوشاح العقل، فلسفات أخرى، كلها امتلأت بها جميع علومنا ومدارسنا.. وكلها حولت هذه العناقيد الطاهرة خمرا معتقة يخرج من إنسانيته كل من اقترب منها.

قلت:  ما هي هذه الفلسفات؟

قالت: كلها فلسفات مادية تحتقر الإنسان، وتحتقر ما أنيط به من وظائف، بل تحتقر الكون وتملؤه بالخراب..

قلت: لم وصفتها بالمادية([23]

قالت:  لأنها كالدجال لا ترى إلا بعين واحدة.. فجميع نظريات العلوم الإنسانية التي تتضمنها المناهج الدراسية الحديثة نظريات مغلوطة وناقصة وقائمة على المفهوم المادي الذي لا يؤمن بالأديان المنزلة، ولا بالقيم الأخلاقية المرتبطة بالدين.

وهي تقوم في مجموعها على مفهوم زائف وباطل هو أن البيئة هي التي تخلق تراثها، وهي التي يرجع إليها الفضل في تنشئة الفرد وتوجيهه والإشراف على سلوكه.

ومعنى هذا إنكار الدور الذي يقوم به الدين في تكوين الأفراد وتجاهل وجود الدين كلية أو اعتباره قد خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها، على حد تعبير دوركايم.

لقد عمد دوركايم (بوضعه أبرز منظري علم الاجتماع) إلى إقامة منهج التشكيك في القيم والمثل والعقائد والأخلاق من منطلق مفهوم قوامه أن كل الظاهر نسبية متغيرة متبدلة، لا تثبت على حال ولا تستقر على وضع لأنها في كل يوم يتبدل الحال بحال.

ليس هذا خاصا بعلم الاجتماع.. بل صار هذا قاعدة مضطردة في كل مجالات دراسات الاجتماع والنفس والأخلاق وتاريخ الأديان.

قلت: ولكن العلوم التي نشرتها هذه الحضارة ليست هي العلوم الإنسانية وحدها.. بل هناك علوم كثيرة نشأ عنها هذا الترف الذي يعيشه أهل هذا العصر.

قالت:  بما أن العلوم الإنسانية هي الأساس الفكري الذي يملأ عقول المكتشفين والمخترعين، فإنهم راحوا بما أملى عليهم أولئك الدجالون يسخرون سلاح العلم ليقتلوا به الإنسان، ويدمروا به الأكوان..

إن أنواع الأسلحة التي تنشر الصراع على الأرض.. وأنواع الدمار التي قتلت الحياة فيها.. كل ذلك سببه تلك المفاهيم التي بني على أساسها العلم الذي تحول إلى معول لهدم الحياة وهدم الإنسان.

علوم الإسلام

قلت:  عرفت الجاهلية وعلوم الجاهلية.. فحدثيني عن الإسلام.. ولماذا لم يحصل للمسلمين ذلك الفصام الأسود بين علومهم وبين الإسلام.

قالت: لأن الإسلام هو دين العلم والعقل والتجربة والمنطق.. وكل ما توصلت إليه البشرية من مناهج البحث عن الحقيقة([24]) ..

فلئن كانت المسيحية تعتمد على الإيمان المجرد.. فإن الإسلام يعتمد على العقل والمنطق.. ويحث على طلب العلم الذي يغذى به العقل والمنطق.

التعميم:

ولئن كانت المسيحية جعلت العلم محصورا في طائفة محدودة.. فإن الإسلام أمر بتعميمه على الكل.. فالعلم في الإسلام ركن من أركان الدين لا يقل عن الإيمان والشعائر التعبدية: فالتعرف على الله الذي هو جوهر الدين وأصله وغايته وموضوعه يحتاج إلى العلم..:{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ((محمد:19)

ولهذا كان أول أمر من أوامر هذا الدين هو:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }  (العلق:1)، ثم كرر هذا الأمر في قوله:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } (العلق:3)

والقرآن يعتبر وظيفة الرسل هي وظيفة المعلمين:{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (آل عمران:164)

وأخبر أن كل الأنبياء جاءوا أقوامهم بالبينات، وهي العلوم الواضحات التي قويت أدلتها..{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } (ابراهيم:9)

بل إن القرآن فوق ذلك كله أخبر عن مزية الإنسان التي أهلته للخلافة في الأرض، وأهلته للتكريم الرباني، فقال يقص قصة بداية خلق الإنسان:{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } (البقرة:31 ـ 33)

انطلاقا من هذا وردت النصوص الكثيرة عن محمد بالحض على العلم والترغيب فيه ورفع مكانة أهله، فقد أخبر بأن العلم نوع من أنواع العبادة، بل هو من أفضلها:، فقال: (أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع)([25])

وصرح بذلك فقال : (فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)([26])، وقال: ( قليل العلم خير من كثير العبادة، وكفىٰ بالمرء فقها إذا عبد الله، وكفىٰ بالمرء جهلا إذا أعجب برأيه)([27])، وقال: (ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في دين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد وعماد هٰذا الدين الفقه)([28]

وقايس بين بعض النوافل وبين طلب العلم، فقال لأبي ذر، وقد رأى حرصه على النوافل: (يا أبا ذر لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل به خير لك من أن تصلي ألف ركعة)([29]

وأخبر أن تعليم العلم لا يختلف عن الصدقات، فقال: (أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علما ثم يعلمه أخاه المسلم)([30])

ويروى أنه ذكر له رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال: ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)، ثم قال: (إن الله وملائكته، وأهل السمٰوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)([31]

وطلب العلم لذلك دليل على خيرية العبد الطالب للعلم، بل دليل على اجتباء الله له، قال: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)([32])، وقال: ( يا أيها الناس إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، و { إنما يخشىٰ الله من عباده العلماء} (فاطر: 82))([33])

وهذا الاجتباء هو الذي يؤهله للجنة ولهذا التكريم الذي أخبر محمد عنه،  قال محمد وهو يعدد فضل طالب العلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السمٰوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)([34]

وقال: (ما من رجل تعلم كلمة، أو كلمتين، أو ثلاثا، أو أربعا، أو خمسا مما فرض الله عز وجل فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة)([35]

ويخبر عن بعض صور التكريم التي يقابل بها الملأ الأعلى أهل العلم، فعن بعض أصحاب محمد قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد متكىء على برد له أحمر، فقلت له: يا رسول الله إني جئت أطلب العلم، فقال: (مرحبا بطالب العلم إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب)([36])

بل إن محمدا يرفع درجة أهل إلى درجة الأنبياء، فيقول: (من جاءه أجله وهو يطلب العلم لقي الله ولم يكن بينه وبين النبيـين إلا درجة النبوة)([37]

أما الأجور المعدة لأهل العلم، فإنها أضعاف مضاعفة، قال محمد: (من طلب علما فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر، ومن طلب علما فلم يدركه كتب الله له كفلا من الأجر)([38])

ومن أكبر ميزات أجر العلم أن أجره غير منقطع، قال محمد: (إذا مات ابن آدم ٱنقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)([39])

وفي حديث آخر مفصل، قال محمد: ( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته)([40])

وقد ورد وصف مفصل لفضل العلم وفضل أهله، ففي الحديث: (تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة لانه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة قائمة تقتص آثارهم ويقتدىٰ بفعالهم، وينتهىٰ إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلىٰ في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء)([41]).

نظرت إلي، وقالت: أتدري من قال هذه النصوص.. إنه رجل لم يدخل مدرسة ولا جامعة.. ولم يكتب حرفا واحدا.. ولم يقرأ رسالة واحدة.. ومع ذلك شاء الله أن تقوم على يده أكبر نهضة علمية عرفتها البشرية.

قلت:  ما تقولين؟

قالت:  منذ قال محمد تلك النصوص هرعت كل أمة محمد تنهل من العلم صغارها وكبارها ورجالها ونساؤها.. حتى الشيوخ الكبار كانوا يحتضرون، وهم يطلبون العلم.

في ذلك الوقت الذي كنا فيه عبيدا للكنيسة وفلاحين عند رجال الدين، وكان الرهبان عندنا يتقربون إلى الله بالجهل.. كان المسلمون يتنافسون في بناء المدارس والمكتبات والجامعات، ويعتبرون ذلك من أقرب القرب إلى ربهم([42]).

فانتشرت الكتاتيب التي تمثل المدارس الابتدائية التي تقام لتعليم الصبيان القراءة، والكتابة، والقرآن وبعض العلوم العربية، والرياضيات، وقد وجدت هذه الكتاتيب قديماً في الإسلام، وقد ذكر بعض المؤرخين أنها وجدت في عصر الصحابة، وكانت من الكثرة بحيث عد ابن حوقل ثلاثمائة كتاب في مدينة واحدة من مدن صقلية([43]).

وكان الكُتَّاب في بعض البلدان من السعة بحيث يضم مئات وآلافاً من الطلاب، ومما يروى عن أبي القاسم البلخي أنه كان له كتاب يتعلم به ثلاثة آلاف تلميذ، وكان كتابه فسيحاً جداً، ولذلك كان أبو القاسم يحتاج إلى أن يركب حماراً ليتردد بين طلابه وليشرف على شؤونهم([44]).

وكانت هذه الكتاتيب جميعا تمول بأموال المحسنين الذين يجعلونها وقفا لوجه الله.

بالإضافة إلى هذا.. فقد كانت أموال الموقفين تتوجه لبناء المدارس الكبار.. والتي بدأ إنشاؤها بعد أن تضاعف إقبال طلاب العلم على حلقات المساجد.

وقد كانت الدراسة في تلك المدارس مفتوحة لكل راغب في العلم دون قيد أو شرط، وكان طلاب هذه المدارس يتمتعون بكل الرعاية من طعام وشراب وعلاج وإقامة للغرباء والفقراء، وكان الأساتذة الذين يقومون بالتدريس فيها ينتخبون ممن شهد لهم الشيوخ بالكفاءة العلمية، وكان المتخرجون من هذه المدارس يمنحون إجازة علمية باسم شيخ المدرسة، وما كان يسمح للأطباء بممارسة مهنة الطب إلا بعد نيل هذه الشهادة أو الإجازة من كبير أطباء المدرسة.

بالإضافة إلى هذا فقد أدرك المحسنون من المسلمين والواقفون للمدارس، وزوايا العلم، وحلقات الدرس في المساجد أهمية الكتاب لنشر العلم، وأن الاقتصار على تشييد الأبنية وتوفير جهاز للتدريس غير كاف فاهتموا بوقف الكتب عليها لتكون وسيلة ميسرة للتحصيل والمراجعة، توفر مادة علمية يستند إليها المعلم والمتعلم في وقت واحد، فأصبح من المعتاد وجود مكتبة في كل مدرسة، أو جامع، أو رباط وقف على طلبة العلم وغيرهم([45]).

وكانت هذه المكتبات بكتبها الوقفية إضافة إلى المكتبات الخاصة مثل مكتبات الخلفاء والأمراء والوزراء والعلماء، وراء حركة الازدهار العلمي التي شهدها العالم الإسلامي على مدى قرون طويلة، فقد اعتمد عليها العلماء وطلاب العلم في دراستهم ومراجعاتهم، ووضع مصنفاتهم.

الانفتاح:

قلت: ولكن الإسلام مع توسعه في الأمر بطلب العلم إلا أنه ضيق في العلم المطلوب.. وفي مصادر العلم المطلوب.. فخصه بما يتعلق بالكتاب والسنة ولم ينفتح على باقي الثقافات.

قالت: الأمر عكس ذلك تماما.. لقد انفتح الإسلام على جميع الثقافات الأجنبية، واستفاد منها، وتعامل معها بإيجابية تامة.. يأخذ منها ما يراه مفيدا، ويرد ما لا يراه صالحا.. لعلم المسلمين أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها، فهو أحق بها.

ففي الوقت الذي قام رجال ديننا بتكفير كل انفتاح علمي كان فقهاء المسلمين يقرؤون الفلسفة اليونانية والثقافة الهندية وجميع أنواع الثقافات.

ولكنهم لا يتعاملون معها تعامل الخاضع الذليل.. بل يتعاملون تعامل الند للند.. يناقشونها مناقشة موضوعية علمية لا نزال نفتقد مثلها.

فلم يقبل المسلمون المنطق الأرسطي، ونقدوه من جميع عناصره، وكونوا لهم منطقًا آخر، هو المنطق الاستقرائي.

فقد أدرك مفكرو الإسلام تمام الإدراك أنه لا بد من وضع منهج في البحث يخالف المنهج اليوناني، حيث أن هذا المنهج إنما هو تعبير عن حضارة مخالفة، وتصور حضاري مختلف، وقد وصل المسلمون إلى فكرة (الخواص) اللازمة لكل ذات، وهي الفكرة التي صبغت المنهج الاستقرائي الحديث بصبغتها الخاصة، وأخذ بها جون استيورت مل وغيره، وأعلن المسلمون أن الإنسان يتوصل إلى القضية الجزئية قبل التوصل إلى القضية الكلية.

واختلف قياس المسلمين عن قياس أرسطو، فاعتبر المسلمون القياس: هو قياس الغائب على الشاهد، فوصلوا إلى اليقين، أما قياس أرسطو الذي هو حركة فكرية ينتقل فيها العقل من حكم كلي إلى أحكام جزئية، فإنه يوصل فقط إلى الظن.

وفي الوقت الذي احتقر فيه اليونان التجريب والتجربة، وجاء منطق أرسطو أكبر معبر عن روح اليونان، رفضه المسلمون إيمانًا بروح الحضارة الإسلامية وروح القرآن الذي دعا إلى وضع منهج ومنطق مختلف في كل خصائصه عن منطق أرسطو وروح الحضارة اليونانية.

ومنهج القرآن منهج ينأى عن البحث في الشيء ذاته ويدعو إلى البحث في آثاره: (تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا)، وكان ذلك العمل الإسلامي هو مصدر التحول العالمي من النظرة المفكرة للدنيا المعزولة عنها المسقطة للإرادة والتكليف القائمة على التشاؤم والانسحاب والعجز إلى نظرة التكليف والإرادة والبناء والعمل.

وقد صحح المسلمون أغلاط أرسطو وجالينوس وأفلاطون في الفلسفة والعلوم والكثير من أخطاء الفلسفة اليونانية، وأبطل صناعة التنجيم وبطلان القول بأن بعض الكواكب يجلب السعادة، وبعضها يجلب النحس، وعللوا ذلك بأن اليونان أخذوه من غير برهان ولا قياس..

وأبان علماء المسلمون ضعف نظام بطليموس ونقط القصور فيه، وقد عكف (التباني) على دراسة بطليموس، وحقق مواقع كثير من النجوم، وصحح حركات القمر والكواكب السيارة، وخالف بطليموس في ثبات الأوج الشمسي.

وأنكر الغزالي ما قاله فلاسفة اليونان من أن بالسماء حيوانًا وأن له نفسًا، ونقد الأطباء المسلمون طب اليونان، ورفضوا الأخذ ببعض نظرات أبقراط وجالينوس، ومن طريق التجربة والاختبارات الشخصية، ورفض ابن النفيس قبول نظرية جالينوس عن الدور الذي تلعبه الرئتان في نقل الدم من تجويفة القلب الواحدة إلى الأخرى، وأعلن أنها خاطئة.

قلت: ولكني قرأت كثيرا من المنشورات والكتب التي يصدرها قومنا تذكر أن الثقافة الإسلامية والعلوم الإسلامية مجرد نقل للثقافة اليونانية..

ففي الطب مثلا يقول سانجور وجو داريلانو: (ليس الطب الإسلامي إلا مجموعة ترجمات كتبت باللغة العربية، من قبل فارسيين ويهود ومسيحيين)

ويقول داريمبرغ: (كانت سيطرة الطب الإسلامي في القرون الوسطى سيطرة كاملة في أوروبا. لكن هذا لم يغير جوهر العلم، فقد كان وبقي جالينوسيا فالطب العربي بأجمله، ما هو إلا ترجمة أو بالأحرى تزييف وتزوير للطب الأغريقي)

ويقول بارياتي: (أن الميزة المهمة للطب العربي هو حفظه ونقله للمؤلفات اليونانية العديدة التي كانت منسية في الجزء الأول للقرون الوسطى)

ويقول كاستيجليوني: (إن الطب الإسلامي ما هو إلا الطب اليوناني القديم، لابسا حلة جديدة)

قالت: أنت تعرف قومنا.. وتعرف أسلوب تفكيرهم، والطريقة التي يبثون بها مواقفهم.. فلذلك لا أحتاج إلى الرد عليهم.. لأنهم يلقون بالمواقف التي تملى عليهم، ولا يلقون بالمواقف التي يجدونها بالبحث الموضوعي.

ولكني أقول لك ـ وخصوصا في هذا الجانب ـ أن المسلمين لم يكتفوا بترجمة المؤلفات اليونانية والهندية، لكنهم أعطوا العالم أطباء بكل معنى الكلمة، وأعطوا للطب شكلاً لم يكن معروفاً من قبل، وكانت مدارسهم مثلاً اقتدى الغرب بها، فجعل جامعاته على نفس النمط، وعلم فيها ما كان يعلم في المدارس الإسلامية.

فمنذ القرن العاشر أخذ الطب بفضل الأطباء المسلمين، شكلاً جديداً لم يكن معروفاً من قبل، لا عند إبقراط ولا جالينوس ولا عند غيرهم، وكان هذا الطب الجديد يرسخ على ثلاث ركائز متينة:

فهو نظام طبي للتعليم والممارسة.. وهو يقوم على تشخيص الأمراض ووصف أمراض جديدة، وله اهتمام بعلم الصيدلة واكتشاب أدوية جديدة.

أما تنظيم التعليم الطبي وممارسة مهنة الطب.. فقد كان هذا التنظيم يعتمد على مدرسة للعلم تعطى فيها الدروس النظرية وتشرح فيها الكتب العلمية، وإلى جانب هذه المدارس، كانت بيوت الكتب تغص بالمؤلفات من كل الأنواع، كما كانت هناك مستشفيات للمرضى، يعطي فيها المعلم الدروس العملية. ومستشفيات بغداد والري وابن طولون أمثلة حية على ذلك.

وكانت هناك قواعد لهذا النظام، فقد كان على من يود ممارسة مهنة الطب، الحصول على أجازه لذلك. وكانت هذه الإجازة، تعطى من قبل لجنة تتشكل من أعضاء لهم خبرة ويرأسها عالم، وكان لهذه اللجنة الحق في سحب الإجازة ممن كانت معلوماتهم  غير كافية.

وإلى جانب هذا التنظيم، كان الطب في مضمونه وفي مادته جديداً فكتب الحاوي للرازي، و(الملكي) لابن العباس، والقانون لابن سينا، لم تكن ترجمة لكتب القدماء. بل اعتمد الأطباء المسلمون على تشخيص كل مرض بظواهر عديدة، وعلى اكتشاف ووصف أمراض لم تكن معروفة قبلاً.

وكانت المؤلفات الطبية الإسلامية عديدة وهامة: فموسوعة الحاوي للرازي كانت مؤلفة من 24 كتاباً أو فصلاً وتحتوي على كل المعلومات الطية المعروفة في القرن العاشر.

وكان كتاب القانون لابن سينا مرجعاً طبياً، وبدون منازع، طيلة القرون الوسطى، وإن كان ابن سينا قد لقب في الشرق باسم (الشيخ الرئيس)، فقد كان لقبه في الغرب (أمير الأطباء)

وإلى جانب هذا كان علم الصيدلة منظماً كغيره من العلوم، وللعرب فضل كبير في نهضته وتطوره، فمنذ القرن العاشر، نجد فرقا  بين الصيادلة والعطارين ونجد قواعد وقوانين الصيدلة في كتاب (نشاجة الرطبة)، الذي كتب في سنة1236.

وقد انتشر الطب الإسلامي وتطور بسرعة هائلة فكان هناك منذ القرن العاشر أطباء ذوو شهرة واسعة، واستفادت أوروبا كلها من ازدهار الطب الإسلامي عموماً وازدهاره في إسبانيا على الأخص.. فقد كان هناك أوروبيون يدرسون الطب الإسلامي في الجامعات الإسلامية، ومن أشهرهم جيريبر دورياك، جيرار دي كريمونه، ارنو  دي فيلنوف وقسطظين الإفريقي..

وأولى هذه المدارس هي مدرسة ساليرن في جنوب إيطاليا، ومن بعدها مدرستي مونبليه وباريس في فرنسا([46]).

القيم:

نظرت إلى عناقيد العنب بحزن، ثم قالت: ناحية مهمة تميز بها العلم في الإسلام عن العلم الذي نعاني ويلاته بنفس القدر الذي نتنعم بخيراته.

قلت: ما تقصدين؟

قالت:  القيم.. والآداب الرفيعة.. والنيات الصالحة التي كانت تحرك طلبة العلم والعلماء.

لقد بلغ الاهتمام بمزج التربية بالعلم في الإسلام حدا لم تبلغه أي حضارة.

فقد اعتبر الإسلام الإيمان والتقوى والصلاح من أهم خصائص العلماء وطلبة العلم.. وقد وصف القرآن أهل العلم بأنهم يسجدون لله ويخشعون ويبكون حين يسمعون آياته:{ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } (الاسراء: 107 ـ 109)

وقد وصف القرآن العلماء بانهم أهل خشية:{ إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ((فاطر: 28)

ووصفهم بأنهم يحذرون عذابه ويرجون رحمته:{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ( (الزمر: 9)

وفي الحديث عن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: (هذا أوان يُخْتَلَسُ العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء)، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله، وكيف يُخْتَلَسُ منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا، فقال: (ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة،  هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟)

ولهذا كانوا يقولون: (ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم خشية الله)، وكانوا يقولون: (العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل)، ويقولون: (إن حقّاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله)

قلت: لست أدري كيف تطرحين مثل هذه الطروحات في عصرنا هذا الذي بلغ العلم فيه شأوا بعيدا لم يصله عصر من العصور.

قالت:  لأن كل السلبيات التي نعانيها في حياتنا سببها تسخير العلم في خدمة أهواء الشياطين..

تصور لو أن القائمين على برامج التلفزيون والإنترنت وغيرها من وسائل العصر كان لهم من الخشوع والتقوى ما يحول بينهم وبين صناعة الإجرام التي يمارسونها.. أكنت ترى هذا الواقع؟

قلت: لا..

قالت:  ولو أن أولئك العلماء الذين مدوا أيديهم للطغاة.. فراحوا يصنعون لهم أحدث الأسلحة وأفتكها.. كانوا ممتلئين تقوى وخشوعا.. أكانوا يقدمون على صناعة تلك الأسلحة؟

قلت: لا..

قالت:  ولو أن أولئك العلماء الذين احتكرتهم شركات الأدوية الكبرى ليحولوا من السموم أدوية قاتلة تنشر وهم الصحة الكاذبة كانوا ممتلئين خشوعا أكانوا يقدمون على ذلك؟

قلت: لا..

قالت:  ولو أن خبراء التغذية الذين راحوا يتلاعبون بأغذية الله ليحولوها سموما قاتلة كانوا ممتلئين خشوعا أكانوا يقدمون على ذلك؟

قلت: لا..

قالت: ولو أن مهندسي الأزياء ومصممي الموضة كانوا ممتلئين خشوعا أكانوا يقدمون على مثل تلك التصاميم التي تنشر الخراب في المجتمعات؟

قلت: لا..

قالت:  فقد رأيت إذن أن كل المصائب التي تعانيها هذه الحضارة سببها انعدام التقوى والخشوع..

ولذلك كان من الثمار العظيمة لشجرة العلوم التي غرسها محمد كونها شجرة مسقية بماء التقوى والورع والإيمان.. فلذلك لم تنحرف بالبشرية عن الفطرة التي خلقها الله عليها.

الرفاه:

قلت: ما ذكرته صحيح.. ولكن ناحية مهمة ربما تكون قد غابت عنك.

قالت: ماهي؟

قلت: نعم.. لقد اهتم الإسلام بالعلم.. ولكن العلم الذي يقصده هو العلم بالدين.. ولذلك لم يهتم المسلمون بعلم الدنيا..

لقد اعتبر الغزالي من أول مواصفات العلماء إدراكهم لحقارة الدنيا بجانب ما أوتوا من العلم، فقال: (إن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها ويعلم أنهما متضادتان، وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وأنهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى، وأنهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر، وأنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلىء يفرغ الآخر. فإن من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل. فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك فكيف يكون من العلماء من لا عقل له؟ ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بـينهما طمع في غير مطمع؟ فهو جاهل بشرائع الأنبـياء كلهم، بل هو كافر بالقرآن كله من أوّله إلى آخره، فكيف يعدّ من زمرة العلماء؟ ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته فكيف يعد من حزب العلماء من هذه درجته؟)([47]

ابتسمت، وقالت: إن هذا الكلام العظيم الذي نطق به الغزالي كما نطق به جميع علماء الإسلام هو الذي أعطى لعلوم المسلمين تلك الروحانية العميقة والآداب الرفيعة التي نفتقر إليها.

والغزالي لا يقصد ما فهمته من ترك علوم الدنيا.. لأن الإسلام لا يفرق بين علوم الدنيا وعلوم الدين.. فالدنيا لابد أن تخضع في الإسلام للدين ليقيها من الانحراف.

والغزالي نفسه ـ الذي استندت إليه في ذلك الفهم ـ يعتبر جميع ما نسميه علوم الدنيا من علوم الدين.. بل من العلوم التي يفتقر إليها في فهم القرآن.. لقد قال في بيان نسبة هذه العلوم للقرآن: (ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن، فان جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد، فمن أفعال الله تعالى ـ وهو بحر الأفعال ـ مثلا الشفاء والمرض كما قال الله تعالى عن ابراهيم u:{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ((الشعراء:80)، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه الا من عرف الطب بكماله، إذ لا معنى للطب الا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه)([48])

وضرب مثالا آخر عن ذلك بعلم الفلك، وهو  ـ فيما نرى ـ علم محض إلا إذا هدف من ورائه إلى تحقيق مصلحة من المصالح ـ فقال: (ومن افعاله تبارك وتعالى تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان وقد قال الله تعالى:{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن:5)، وقالتعالى:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (يونس:5)، وقال تعالى:{  وَخَسَفَ الْقَمَرُ} (القيامة:8)، وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج:61)، وقال تعالى:{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (يّـس:38)، ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما وولوج الليل في النهار وكيفية تكور أحدهما على الآخر الا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض وهو علم برأسه)([49]

وضرب مثالا آخر عن ذلك بقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار:6 ـ 8)، فلا يعرف مراد هذه الآية (إلا من عرف تشريح الأعضاء من الانسان ظاهرا وباطنا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها، وقد أشار في القرآن في مواضع اليها)

بل إن الغزالي بنور بصيرته الإيمانية يذكر بأن العلوم لا تنحصر في علوم عصره، ويتنبأ بعلوم كثيرة ستظهر للوجود، كلها تغترف من بحار أفعال الله، فيقول: (بل أقول ظهر لنا بالبصيرة الواضحة التي لا يتمارى فيها أن في الامكان والقوة أصنافا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود، وإن كان في قوة الآدمي الوصول اليها، وعلوم كانت قد خرجت الى الوجود واندرست الآن فلن يوجد في هذه الأعصار على بسيط الأرض من يعرفها، وعلوم أخر ليس في قوة البشر أصلا ادراكها والإحاطة بها)([50]

ومثل الغزالي بين النورسي مدى الفوائد التي تجنى من هذه العلوم إذا ما استنارت بنور الله، وبهدي الإيمان، فيقول: (العلوم التي تبحث في حقيقة الموجودات – كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان.. ـ هذه العلوم التي هي (حكمة الاشياء) يمكن ان تكون حكمة حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله (الحكيم) جل جلاله في الاشياء، وهي تجليات تدبير، وتربية، ورعاية. وبرؤية هذه التجليات في منافع الاشياء ومصالحها تصبح تلك الحكمة حكمة حقاً، أي باستنادها الى ذلك الاسم (الحكيم) والى ذلك الظهير تصبح حكمة فعلاً، وإلاّ فإما أنها تنقلب الى خرافات وتصبح عبثاً لا طائل من ورائها أو تفتح سبيلاً الى الضلالة، كما هو الحال في الفلسفة الطبيعية المادية)

ويذكر علة مهمة لذلك غابت عن العلوم الحديثة، فأغرقتها في الجزئية، وأبعدتها عن جمال الوحدة والتناسق والكمال، فقال: (إن نظر النبوة والتوحيد والايمان يرى الحقائق في نور الالوهية والآخرة ووحدة الكون لأنه متوجه اليها، أما العلم التجريبي والفلسفة الحديثة فانه يرى الامور من زاوية الاسباب المادية الكثيرة والطبيعة لأنه متوجه اليها، فالمسافة اذن بين زاويتي النظر بعيدة جداً. فرب غاية عظيمة جليلة لدى اهل الفلسفة تافهة وصغيرة لا تكاد ترى بين مقاصد علماء اصول الدين وعلم الكلام. ولهذا فقد تقدم اهل العلم التجريبي كثيراً في معرفة خواص الموجودات وتفاصيلها واوصافها الدقيقة في حين تخلفوا كثيراً حتى عن ابسط المؤمنين وأقلهم علماً في مجال العلم الحقيقي وهو العلوم الإلهية السامية والمعارف الاخروية)

قلت: ربما يكون الغزالي والنورسي وغيرهما تأثرا في ذلك بنا وبالفلسفة اليونانية التي كانت مهتمة بالعلوم.

قالت:  لا.. لم يستمد الغزالي ولا النورسي ولا جميع علماء الإسلام هذه المعاني النبيلة إلا من القرآن..

فالقرآن يشير إلى هذه الناحية، ويعتبرها من تمكين الإنسان في الأرض، ففيه عن ذي القرنين:{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} (الكهف:84)

بل إن القرآن نوه بأنواع الصناعات، وقد كانت محتقرة في الجاهلية لا يقوم بها إلا العبيد أوعامة الناس وبسطاؤهم:

فذكر صناعة الحديد، ونوه بها، وذكر اشتغال الأنبياء والصالحين بها:{ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} (الكهف:96)..:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (سـبأ:10)، بل قرن بإنزال الحديد إنزال الكتاب:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25)

وذكر الصناعات النسيجية وأنواعها وأغرضاها:{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} (النحل:80)

وذكر ما يرتبط بالعمران من أعمال:{ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (لأعراف:74)

وذكر الصناعات المرتبطة بالنقل:{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ((النحل:8)..:{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ((هود:37)..

وذكر الصناعات البحرية:{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ((النحل:14)..

بل إن القرآن دعا إلى بذل كل الجهود لتحصيل جميع أنواع القوى، ويدخل فيها هذا النوع من أنواع القوى، قوة الصناعة والسياسة، ففيه:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ((لأنفال:60)

والقرآن لا ينهى عن هذه العلوم بذاتها، وإنما ينهى على ما تفرزه في الإنسان من قيم الطغيان حين يبتدئ فيها باسم أهوائه لا باسم الله، فالقرآن يحكي عن هود قوله:{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ((هود:52) فهو لم يخبرهم بأن نتيجة إيمانهم بالله زوال قوتهم التي كانوا يحرصون على الظهور بها، بل أخبر عن زيادة قوتهم.

بل أخبر القرآن أن القوة التي لا تستضيء بهدي الله مصيرها الهلاك المحتم، ولذلك يدعو إلى السير في الأرض للبحث عن مصير الحضارات العظيمة التي لم يبق منها إلا فلول آثار تدل على مدى طغيانها:{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ((الروم:9)

وذلك لأن أخطر ما تنفخه الصناعة في عقول أصحابها ذلك الاغترار بالقوة، والذي حجبهم عن الله:{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ((فصلت:15)

قلت: ربما يكون ما ذكرته صحيحا.. ولكنه يبقى على المستوى النظري، فلم يستطع المسلمون أن يترجموا تلك التوجيهات القرآنية إلى أفعال تنهض بالعلم، وتحقق به مصالح البشر.

انتفضت قائلة: لا.. بل لم يفعل المسلمون غير ما أمرهم به دينهم.. لقد نهضوا ـ على ضوء تلك التوجيهات المقدسة ـ فحققوا في التراث الذي وصل إليهم من الأمم المختلفة، ونقحوه، وأضافوا إليه كما كبيرا من العلم لولاه ما قامت الحضارة الحديثة.

قلت: فكيف لم يصلوا إلى ما وصلنا إليه من تطور؟

قالت: لا شك أنك تعلم أن التقدم العلمي يسير بطريقة خاصة.. فالمبادئ النظرية قد تستدعي الواحدة منها قرونا عديدة.. لكن تحويل تلك النظريات إلى تطبيقات عملية لا يستغرق وقتا طويلا..

لقد أجريت مقارنة بين الفترات الزمنية التي كان يستغرقها الوصول من الكشف العلمي النظري إلى التطبيق في ميدان الإنتاج منذ عصر الثورة الصناعية حتى اليوم.. فوجدت مدى التسارع الذي يصل إليه هذا التطبيق العملي.

لقد احتاج الإنسان ـ على سبيل المثال ـ إلى 112 سنة (1727 – 1839 م) لتطبيق المبدأ النظري الذي يبنى عليه التصوير الفوتوغرافي.. واحتاج إلى 56 سنة (1820 – 1876 م) لكي يتوصل من النظريات العلمية الخالصة إلى اختراع التليفون.. وإلى 35 سنة (1867 – 1902 م) لظهور الاتصال اللاسلكي.. وإلى 15 سنة (1925 – 1940 م) للرادار.. و12 سنة (1922 – 1945 م) للتلفزيون.. و6 سنوات (1939 – 1945 م) للقنبلة الذرية.. و5 سنوات (1948 – 1953 م) للترانزستور.. و3 سنوات (1959 – 1961 م) لإنتاج الدوائر المتكاملة.. وهكذا ترى مدى التسارع الذي يسير به التطبيق العلمي بعد أن توفر الكم الكبير من النظريات العلمية.

قلت: تقصدين أن المسلمين كان يمكن أن يصلوا إلى هذا التطور التكنولوجي الذي وصلنا إليه.

قالت:  أجل.. كل البشائر كانت تدل على ذلك.. لولا ما أصابهم من ضعف، وما أصابهم بسببنا من عدوان.

لقد قطفنا ثمرات علومهم ناضجة لنخلط فيها الحق بالباطل، والمنفعة بالمضرة.

قلت: فهل ظهر علماء مسلمون في ميادين العلوم؟

قالت:  في كل ميادين العلوم كان للعلماء المسلمين موقع الريادة والسيادة والسبق.. سأضرب لك أمثلة تقرب لك ذلك، أو تبرهن لك عليه([51]).

لقد اتجه علماء الفلك المسلمين ـ منطلقين من اهتمام القرآن بالكون ـ نحو مظاهر الكون وعلاقاتها وأسبابها ومسبباتها، فربطوا حركة المد والجزر بحركة القمر، وطبقوا حساب المثلثات على الأرصاد  الفلكية، وقاسوا أجرام  الشمس والقمر والنجوم بطرق هندسية حسابية قريبة من الحقيقة،  وقاسوا أبعادها عن الأرض، وتأسس على أيدهم علم المثلثات الكروية في القرن الرابع الهجري مما أدى إلى تسهيل حساب المسافات بين الأمكنة على الأرض، كما قاسوا محيط الأرض بأمر الخليفة المأمون بطريقة مبتكرة فبلغ ( 41248 كم)، وتمكن البتَّاني (القرن الرابع) من حساب السنة بمقدار 365 يوماً وخمس ساعات و46 دقيقة و24 ثانية، والفرق بين  تقديره والتقدير الحالي دقيقتان واثنان وعشرون ثانية.

واعتمد المسلمون على الرصد الفلكي المستمر من مراصدهم الممتدة من مراغة وسمرقند إلى اشبيلية.. وطوروا آلات الرصد من الاسطرلابات والمناظير المتنوعة،  وعرفوا أن الأرض تدور حول الشمس منذ القرن الثامن الهجري على يد ابن الشاطر الدمشقي، ووضعوا الجداول الرياضية (التقاويم) مستندين على علم الأزياج..

وكان أبرز علماء الفلك المسلمين ينكرون التنجم ـ الذي يعني أثر النجوم في حياة الإنسان  ـ كالخوارزمي والفرغاني والبيروني، وهذا من أثر العقيدة الإسلامية عليهم.

وقد مهد علماء الفلك المسلمين للنهضة العلمية الأوروبية حيث لا زالت مصطلحاتهم تستعمل في علم الفلك المعاصر، وقد أحصيتها بـ 160 مصطلحا وكلمة.

واهتم المسلمون بالرياضيات، فابتكر العالم المسلم أبو الحسن علي الاقليدسي (القرن الرابع الهجري) نظام  الكسر العشري في الحساب، مما كان له أثر كبير في تقدم الحساب وفي اختراع الآلة الحاسبة (الكومبيوتر) في العصر الحديث.. ووضع المسلمون علم الجبر الذي لازال يعرف باسمه العربي في مختلف لغات العالم  Algebra حيث ألَّف محمد بن موسى الخوارزمي (ت 235 هـ) كتابه المشهور (الجبر والمقابلة) في عصر المأمون (198-218هـ)..

ووضع المسلمون اللبنات الأولى للهندسة التحليلية عندما حلوا المعادلات التكعيبية الصعبة، كما  برعوا في  الهندسة التطبيقية حيث طبقها ابن الهيثم 0ت430هـ) في العديد من المسائل في علم المناظر (البصريات) لتحليل الشعاع وانعطافه وانكساره وانعكاسه على المرايا المستوية والمقعرة والمحدبة والأسطوانية..

وقام المسلمون بتنظيم علم  المثلثات وهو يبحث في الزوايا وعلاقتها بالأبعاد، وأضافوا إليه اكتشاف جيب الزاوية وجيب التمام والظل (المماس) وقاطع التمام. 

والمسلمون هم الذين أنشأوا علم الكيمياء واكتشفوا بعض أجزائها المهمة كحامض الكبريتيك والنيتريك، والكحول، وقاموا بعمليات التقطير والترشيح والتصعيد والتبلور والتكليس، وهيأوا الأدوات والمختبرات اللازمة لهذه العمليات، ولا زالت كثير من مصطلحاتهم تستعمل في الكيمياء المعاصرة، وقد  بنى المسلمون صناعتهم على اكتشافاتهم العلمية مثل صناعة العقاقير وتنقية المعادن وصناعة الورق والأقمشة والزجاج ودبغ الجلود وصناعة العطور، واعتبر ابن حيان (ت 200هـ) أكبر عالم في مجال التأليف والبحث في هذا العلم.

أما في الطب فالمسلمون هم أول من استخدم المخدر (المرقد) في الطب والعمليات الجراحية مستخدمين الإسفنجة المخدرة من محلول الأفيون يستنشقها المريض.. كما اكتشف الأطباء المسلمون العديد من الأمراض وشخصوها، فاكتشف ابن سينا المرض المعروف اليوم بالانكلستوما وهي الدودة التي وصفها بالمستديرة، واكتشف ابن النفيس (ت 686) الدورة الدموية الصغرى بعد تشريح القلب، كما ألف في علم التشريح كتاباً، وبذلك استقل هذا الفرع من العلوم الطبية.. واهتم أبو القاسم الزهراوي (ت 404 هـ)  بعلم الجراحة ووصف أكثر من مائتي آلة جراحية مع صورها، وصار كتابه بعد  ترجمته إلى اللاتينية يدرس في أوربا خمسة قرون، واستعمل الزهراوي خيوط الحرير في خياطة العمليات الجراحية لأول مرة، كما كان الرازي قد استعمل الخيوط المصنوعة من أمعاء الحيوانات لأول مرة.. وألَّف ابن الجزار القيرواني (ت 369 هـ) أول كتاب في طب الأطفال، وقد استمرت عنايتهم بطب الأطفال حتى وصلوا إلى تلقيحهم ضد الجدري الذي كان معروفاً في المغرب العربي.

وعلى يد المسلمين استقل علم الصيدلة، وألحقوا الصيدلية بالمستشفى، وأجروا امتحاناً للصيادلة منذ القرن الثالث الهجري، ونموا علم العقاقير بالتأليف في الأدوات المفردة والمركبة، وظلت كثير من الأسماء العربية للعقاقير تستعمل في اللغات الأخرى حتى الوقت الحاضر، وظلت مؤلفاتهم في الصيدلة يستفاد منها في أوروبا حتى أوائل القرن التاسع عشر.

وقد ألحق المسلمون المعاهد الطبية بالمستشفيات مما نجم عنه تقدم الطب السريري (الإكلينيكي)، وقد ذكر المستشرق الألماني (ماكس ماير هوف) 43 مؤسسة طبية تعليمية مع المستشفيات المنتشرة من فارس إلى مراكش.

إن الاعتراف العالمي بجهود المسلمين  في الطب   يظهر في الموسوعات العلمية وفي صورتي الرازي وابن سينا المعلقتين في كلية الطب بجامعة باريس، وفي إطلاق اسم الرازي على قاعة من أفخم قاعات جامعة برنستون الأمريكية.

أما في علوم الطبيعة (الفيزياء) فتظهر جهود ابن  الهيثم (ت430 هـ) في تطور علم البصريات وفيزيولوجية الأبصار، وكان بحثه في العدسات قد مهَّد لظهور العدسة المكبرة للمجهر والتلسكوب، وجهود البيروني في بيان أن سرعة الضوء أعظم بكثير من سرعة الصوت، وبحث المسلمون في الصوت وتموجاته في الأثير، وهو أساس اختراع الإذاعة المسموعة.

كما استبط علماء المسلمين طرقاً واخترعوا آلات تمكنوا بواسطتها من معرفة الوزن النوعي لعدد من المعادن والأحجار، وبحثوا في الضغط الجوي وعرفوا بأن الهواء كالماء يحدث ضغطاً من أسفل إلى أعلى مما مهَّد السبيل لاختراع البارومتر ومفرغات الهواء.

واهتموا بعلم الميكانيكا وأسموه (علم  الحيل)، ووصف ابن الجوزي خمسين آلة ميكانيكية كالساعات المائية والنافورات مع صورها بالألوان الجميلة، كما  بحثوا في هذا  العلم نظرياً مثل موضوعات القوة وأنواعها والحركة وقوانينها، وتصادم الأجسام وتساقطها، وطبيعة الزمان والمكان وقوة الجذب والجاذبية الأرضية، مما  يقلب مفاهيمنا عن كثير من النظريات التي كانت تنسب إلى علماء الغرب.

واهتم المسلمون بعلم الحيوان والنبات وصنفوا في أنواعها وصفاتها، ونشأ عندهم علم البيطرة، وعلم الفلاحة فصنفوا في ذلك كله منذ القرن الثالث الهجري، وقد ظهر تأثير دراساتهم على نظام الري المعقد في العصر العباسي والذي ضمّ مائة قناة للري، كما ظهر على المستوى الراقي للحدائق والبساتين  وخاصة  في الأندلس.

والميزة الكبرى للمسلمين أنهم نقلوا هذه العلوم لقومنا الذين استفادوا منها كثيرنا.. بل لولاها لما قامت هذه العلوم الحديثة.

 لقد حاول بعض الحقدة طمس هذه الحقيقة والزعم بأن النهضة الأوروبية بنيت على تراث اليونان مباشرة دون وساطة المسلمين وإضافاتهم الكبيرة،  لكن الدراسات الحديثة الجادة تؤكد أن أوروبا في عصر النهضة اعتمدت على ترجمة المؤلفات العربية ودرستها في جامعاتها عدة قرون، وطبعت منها  بعد  اختراع الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي عشرات الطبعات في سنين قليلة (طبع كتاب (القانون) لابن سينا خمس عشر مرة  خلال  ثلاثمائة وست وعشرين  سنة ( 1174 – 1500) وطبع كتاب ( الحاوي)  في الطب للرازي مرارا وتكرارا حتى القرن الثامن عشر بعد ترجمته إلى اللاتينية سنة 1279 م في صقلية، وثمة مؤلفات أساسية عديدة ترجمت  في القرن العاشر والحادي عشر وظلت متداولة  في الجامعات ولدى العلماء قروناً طويلة)، ومن هنا قال فؤاد سزكين: (كلما أمعن الإنسان في دراسة المصادر الأصلية للنهضة الأوروبية ازداد تصوره أن هذه النهضة المزعومة أشبه ما تكون  بالولد الذي نسب إلى غير أبيه الحقيقي)

***

ما وصلت (زيغريد هونكه) من حديثها إلى هذا الموضع حتى أقبل أخوها.. وقد كان في محل قريب منا يتنصت لنا.. وقال ـ والدموع تسيل من عينيه ـ: أعتذر إليك ـ أختي ـ على ذلك السلوك المشين الذي سلكته معك..

لقد كنت أنتصت لحديثك مع هذا الرجل.. وقد سمعت من الحقائق ما جعلني أندم على هذه النية التي نويتها.. وأنا الآن أعاهدك، وأعاهد هذا الرجل الفاضل على أن أحافظ على العنب حتى يبقى عنبا..

وأعدك فوق ذلك بأن أبحث عن أسرار ذلك الرجل الذي تزينت الحياة بمجيئه، وأظلمت بفقده.. إن لي أشواقا نحوه لست أدري سرها.

قال ذلك، ثم انصرف، ليتركها ودموعها تختلط بابتسامتها.

قلت لها: أخوك رجل طيب..

قالت: انظر.. إن دين محمد علي لا ينتهي.. فهذا أخي بمجرد سماعه حديث محمد تحول إلى ما رأيت.. فيا خسارة البشرية التي لم تسمع بمحمد.. ولم تسمع لمحمد.

قلت: أنا أعجب لك.. فمع كل هذه الأشواق والمحبة لم تعلني إسلامك..

قالت: ذلك سر آخر ([52]).. أحيانا يتطلب منك حبك للشيء أن تكتم محبتك له.

قلت:  لم؟

قالت: أرأيت لو أني أعلنت إسلامي.. ثم كتبت جميع شهاداتي للإسلام.. هل ترى أحدا من الناس سيقبلها؟

قلت:  لا أظنهم يفعلون..

قالت: هذا ما أطيق أن أجيبك عنه.. فلا تسألني المزيد من الأسئلة.

قلت:  فأنت مسلمة تكتمين إسلامك!؟

قالت:  ليس هناك أحد يعرفه.. ثم ينكره.. وليس هناك من يراه.. ثم لا يحبه.

قالت ذلك، ثم انصرفت تطلب أخاها، وانصرفت على إثرها، وفي قلبي بصيص جديد من النور اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


([1])  هي الدكتورة زيغريد هونكه Dr. Sigrid Hunke، وهي مستشرقة ألمانية معاصرة، وهي زوجة الدكتور شولتزا، المستشرق الألماني المعروف الذي تعمق في دراسة آداب العرب والاطلاع على آثارهم ومآثرهم. وقد قضت هونكه مع زوجها عامين اثنين في مراكش، كما قامت بعدد من الزيارات للبلدان العربية.

من آثارها: (أثر الأدب العربي في الآداب الأوروبية) وهو أطروحة تقدمت بها لنيل الدكتوراه من جامعة برلين، و(الرجل والمرأة) وهو يتناول جانبًا من الحضارة الإسلامية (1995)، و(شمس الله تسطع على الغرب) الذي ترجم بعنوان: (شمس العرب تسطع على الغرب)، وهو ثمرة سنين طويلة من البحث والدراسة.

وقد اخترناها للحوار معها في هذا الفصل لشهاداتها الكثيرة المعروفة حول الإسلام والعلوم الإسلامية والحضارة الإسلامية.. ومنها قولها:( لقد أوصى محمد كل مؤمن رجلاً كان أو امرأة بطلب العلم، وجعل من ذلك واجبًا دينيًا. وكان يرى في تعمق أتباعه في دراسة المخلوقات وعجائبها وسيلة التعرف على قدرة الخالق. وكان يرى أن المعرفة تنير طريق الإيمان.. ويلفت أنظارهم إلى علوم كل الشعوب، فالعلم يخدم الدين والمعرفة من الله وترجع إليه، لذلك فمن واجبهم أن يصلوا إليها وينالوها أيًا كان مصدرها ولو نطق بالعلم كافر. وعلى النقيض تمامًا يتساءل بولس الرسول مقرًا: (ألم يصف الرب المعرفة الدنيوية بالغباوة)؟ مفهومان مختلفان، بل عالمان منفصلان تمامًا، حدّدا بهذا طريقين متناقضين للعلم والفكر في الشرق والغرب وبهذا اتسعت الهوة بين الحضارة العربية الشامخة والمعرفة السطحية المعاصرة في أوروبا حيث لا قيمة لمعرفة الدنيا كلها..”( شمس العرب تسطع على الغرب، ص 369 ) (انظر: قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل)

([2])  انظر المراجع التي تتحدث عن العلمانية التي سبق ذكرها.

([3])  انظر استمداد المسيحية من الفلسفة من كتاب المشكلة الأخلاقية والفلاسفة ص101 فما بعد.

([4])  انظر معالم تاريخ الإنسانية: ج1 ص16.

([5])  انظر: إظهار الحق:218.

([6])  انظر قصة الحضارة:14/ 379.

([7])  معالم تاريخ الإنسانية:1/1008.

([8])  قصة النزاع بين الدين والفلسفة: توفيق الطويل /205 وانظر كذلك تكوين العقل الحديث 3/348.

([9])  قصة النزاع بين الدين والفلسفة: توفيق الطويل /205 وانظر كذلك تكوين العقل الحديث 3/348.

([10])  انظر: رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([11])  انظر: رسالة في اللاهوت والسياسة لسبينوزا، ترجمة: حسن حنفي.

([12])  سلسلة تراث الإنسانية ج 8 ص 78، 80.

([13])  وقد كان فولتير صرح ببعض التصريحات ضد الإسلام قبل أن يعرفه، ولكنه بعد معرفته أعلن توبته عن مواقفه من الإسلام، ومن محمد r  ولكن الأضواء لا تسلط إلا على أقواله الأولى، أما أقواله الأخيرة فقد طُمست، فهو يعترف بأنه كان ضحية الأفكار السائدة الخاطئة:( قد هدم محمد الضلال السائد في العالم لبلوغ الحقيقة، ولكن يبدو أنه يوجد دائماً من يعملون على استبقاء الباطل وحماية الخطأ)

ثم يقول في قاموسه الفلسفي:( أيها الأساقفة والرهبان والقسيسون إذا فُرض عليكم قانون يحرم عليكم الطعام والشراب طوال النهار في شهر الصيام.. إذا فرض عليكم الحج في صحراء محرقة.. إذا فُرض عليكم إعطاء 2,5 بالمائة من مالكم للفقراء.. إذا حُرِّم عليكم شرب الخمور ولعب الميسر.. إذا كنتم تتمتعون بزوجات تبلغ ثماني عشرة زوجة أحياناً، فجاء من يحذف أربع عشرة من هذا العدد، هل يمكنكم الإدعاء مخلصين بأن هذه الشريعة شريعة لذّات؟! )

ويقول:( لقد قام الرسول بأعظم دور يمكن لإنســان أن يقوم به على الأرض… إن أقل ما يقال عن محمد أنه قـــد جاء بكتاب وجاهد، والإسلام لم يتغير قط، أما أنتم ورجال دينكم فقد غيرتم دينكم عشرين مرة )

([14])  مقتطفات من سلسة قراءات إنسانية ج 8 ص 80 – 87.

([15])  نقصد بالعقلانية هنا كل المناهج العلمية التي تستبعد الوحي، لا المنهج الفلسفي المعروف الذي اشتهر به ديكارت وغيره.

([16])أفكار ورجال: 474، 476.

([17])أفكار ورجال: 476.

([18])  جورج سول: المذاهب الاقتصادية الكبرى:51.

([19])  العلم والدين في الفلسفة المعاصرة: اميل بوترو / 19، وتتلخص نظريته في الاعتقاد بوجود منبعين للتصورات: احدهما الاحساس, فنحن نتصور الحرارة والنور والطعم والصوت لأجل احساسنا  بذلك كله, والآخر الفطرة بمعنى أن الذهن البشري يملك معان وتصورات لم تنبثق عن الحس وإنما هي ثابتة في صميم الفطرة, فالنفس تستنبط من ذواتها.

وهذه التصورات الفطرية عند (ديكارت) هي فكرة (الله والنفس والامتداد والحركة) وما إليها من أفكار تتميز بالوضوح الكامل في العقل البشري.وهذه الازدواجية الديكارتية وجدت لها نظيراً في منهج بيكون التجريبي الذي قال عنه أندرسن:( إن أعظم مآثر بيكون الفصل بين العلم البشري والوحي الإلهي )، فعند بيكون يمكن أن تكون أي قضية خاطئة تماماً في نظر العقل، ولكنها صحيحة تماماً لأنها نظر الدين.

                 والواقع أن المذهب الازدواجي ليس إلا مرحلة طبيعية في سلم التدرج من الإيمان المطلق بالوحي إلى الإنكار المطلق له (راجع: مدخل الى فلسفة ديكارت ـ سلسلة المكتبة الفلسفية رقم 5 منشورات عويدات)

([20])  منشأ الفكر الحديث ص 151.

([21])  منشأ الفكر الحديث ص 152.

([22])  عن الفكر الإسلامى الحديث ص 289 بتصرف.

([23])انظر: تجاوزات العلوم الاجتماعية والإنسانية لمفهوم الفطرة والعلم، أنور الجندي.   

([24]) تحدثنا عن هذا بتفصيل في كتاب (سلام للعالمين) من هذه السلسلة، فصل العقل.   

([25]) )  رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة.

([26]) )  الطبراني في الأوسط، والبزار بإسناد حسن.

([27]) )  الطبراني في الأوسط.

([28]) )  الدارقطني والبيهقي.

([29]) )  ابن ماجه بإسناد حسن.

([30]) )  رواه ابن ماجه بإسناد حسن.

([31]) )  الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

([32]) )  البخاري ومسلم وابن ماجه.

([33]) )  الطبراني في الكبير.

([34]) )  أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي.

([35]) )  أبو نعيم.

([36]) )  أحمد والطبراني بإسناد جيد واللفظ له، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

([37]) )  الطبراني في الأوسط.

([38]) )  الطبراني في الكبير.

([39]) )  مسلم وغيره.

([40]) )  ابن ماجه بإسناد حسن والبيهقي، ورواه ابن خزيمة في صحيحه مثله.

([41]) )  رواه ابن عبد البر في كتاب العلم قال المنذري: ورفعه غريب جدًّا.

([42])  استفدنا المعلومات الواردة هنا من كتاب: الأوقاف في العصر الحديث،  كيف نوجهها لدعم الجامعات وتنمية مواردها (دراسة فقهية)، د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح.

([43])  ينظر: معجم البلدان 3/417،  418.

([44])  مجلة الوعي الإسلامي عدد (382) ص37.

([45]) )  انظر: الوقف وبنية المكتبة العربية للدكتور يحيى محمود ساعاتي ص21.

([46])  انظر: الطب الإسلامي: عامل أساسي في خروج أوروبا من عصر الظلام، الدكتور عبد الرحيم حجازي، موقع: الإسلام ست.

([47])  الإحياء: 1/60.

([48])  جواهر القرآن: 45.

([49])  جواهر القرآن: 46.

([50])  جواهر القرآن: 47.

([51])  المعلومات العلمية الواردة هنا مقتبسة من محال مختلفة من كتابات (أنور الجندي)

([52])  ورد في مقال بعنوان (مستشرقون أعلنوا إسلامهم) قول مؤلفه ـ لم أجد اسمه ـ 🙁 ويطيب لي هنا أن أُثَـلثَ بثالثة الأثافي، قصة العالمة الألمانية زيغريد هونكة صاحبة الكتاب الشهير (شمس العرب تسطع على الغرب) والذي بينتْ فيه، كما هو معلوم، فضل حضارة المسلمين وتمدنهم على الغرب ونهضته الأخيرة بعد عصور الظلام التي غطتْ أوروبا في غطيطها قرونا طويلة.. زيغريد هونكة التي تَمَلّك حبُّ العرب وثقافتِهم ومجدِهم شَغاف قلبها بما لا يكاد أن يكون له مثيل بين الأوربيين وأحبتْ الإسلام لحبها لهم ولعلمها بأنه هو الذي أخرجهم بين الأمم خير أمة أخرجت للناس.

وقد حدثني بخبرها الدكتور علي الدفاّع عالم الرياضيات المعروف في جامعة البترول بالظهران بنفسه مشافهة قال: كنت في أحد المؤتمرات العلمية في أوربا وقد تحدثتُ إلى الدكتورة هونكة وكنت مطلعا على كتاباتها وإنصافها لعقيدتنا وحضارتنا ورأيتُها وقد كبِرتْ سِنُّها قلت لها: إن لي حلما جميلا أرجو له أن يتحقق!! فقالت لي: وما هذا الحلم.. قال فأجبتُها: بأن حياتك العلمية والثقافية الطويلة في الدفاع عن مآثر العرب والمسلمين وتاريخهم أرجو أن يكون لهذه الحياة الحافلة وهذه السيرة العلمية المميزة تكملة جميلة وأن تختم بأحسن ختام وذاك بأن تدخلي في الإسلام!! قال محدثي: وقد رأيتُ عينيها اغرورقتا بالدموع ثم قالت لي بالعربية الفصيحة:( بيني وبين ذلك قاب قوسين أو أدنى ) قال فما مر عام أو أكثر حتى سمعتُ خبر اعتناقها للإسلام وسمعتُ خبر وفاتها بعد ذلك بمدة رحمها الله..  

وعندما سُئلتْ في أحد المؤتمرات الإسلامية ما نصيحتها للمرأة العربية التي تريد طي الماضي وخلع الحجاب، قالت زيغريد هونكة:(..  لا ينبغي لها أن تتخذ المرأة الأوربية أو الأمريكية أو الروسية قدوة تحتذيها، أو أن تهتدي بفكر عقدي مهما كان مصدره، لأن في ذلك تمكينا جديدا للفكر الدخيل المؤدي إلى فقدها مقومات شخصيتها، وإنما ينبغي عليها أن تستمسك بهدي الإسلام الأصيل، وأن تسلك سبيل السابقات من السلف الصالح، اللاتي عشنه منطلقات من قانون الفطرة التي فُطرنَ عليها، وأن تلتمس العربيةُ لديهن المعايير والقيم التي عشن وفقا لها، وأن تكيف تلك المعايير والقيم مع متطلبات العصر الضرورية وأن تضع نصب عينيها رسالتها الخطيرة الممثلة في كونها أم جيل الغد العربي، الذي يجب أن ينشأ عصاميا يعتمد على نفسه )

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *