ثامنا ـ تطرف

في مساء اليوم الثامن.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (بات روبرتسون)([1]).. وهو في أصله قسيس إنجيلي يمتلئ بغضا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من أخمص قدمه إلى مفرق رأسه، وكأن بغض كل من يبغض محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد عجن عجنا محكما، ثم شكل منه قالبه.. ولكنه جاء في ذلك المساء بوجه غير الذي ذهب به.
لقد كنت أعرف هذا الرجل من قبل.. وهو مع كونه قسيسا إلا أنه كان متفتحا إلى درجة التطرف في تفتحه.. فهو يريد ألا ينضبط بأي ضابط، أو يلتزم بأي قانون، ولكنه يقع تحت ضغط قوانين كثيرة تفرض عليه فرضا.. ثم يحاول أن ينقلب عليها، ولكنه يقع في انقلاب على نفسه وعلى من يحيط به، فلهذا كان مشوشا غاية التشويش.. ولهذا كان يبدو كمن يسبح عكس التيار، فتتقلب به الأمواج كما يحلو لها.
في بدء حياته لم تكن له علاقة بالدين ولا بالكنيسة.. بل كان يبغض كل ما يرتبط بالدين من وصايا وتشريعات معتبرا أنها من قوانين الكبت التي أراد بها الإنسان أن يضيق بها على حياته.
ولكنه.. وبسبب دراسة كلف بها في حياته الجامعية عن (بولس وأثره في المسيحية) تأثر ببولس تأثرا شديدا.. وانخرط في الكنيسة بسبب ذلك التأثر.
ولكن اهتمامه بالمسيح لا يعدل اهتمامه ببولس.. ولعل حبه لبولس يفوق حبه للمسيح.. فهو يعتبره المصحح الأول للمسيحية.. بل يكاد يعتبره المؤسس لها.. وهو يتصور أن أكبر ما جعل للمسيحية كل ذلك التأثير هو ما وصمه بها بولس من تفتح.. ويتصور في نفس الوقت أن أكبر ما حال بين سائر الأديان وبين الوصول للدرجات التي وصلت لها المسيحية هو عدم وجود (بولس) فيها.
بمجرد دخوله ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟
نظر إليهم بغضب شديد، وقال: لا يمكن لأولئك الصعاليك أن يفهموني، أو يفهموا المنطق الذي أفكر به.. ولهذا من المستحيل أن تكون هناك نتائج إيجابية مع أمثال هؤلاء..
ثم توجه إلى الجماعة قائلا: إنكم في تعاملكم معهم كمن يريد أن يبني قصورا على رمال شاطئ عظيم الأمواج.
ثم التفت إلى الجماعة، وقال: لا أرى أن تضيعوا وقتكم بسماع شريط الأحداث، فلن يرضيكم ما وقع من أحداث.
قال رجل من الجماعة: لا يهمنا أن نرضى أو لا نرضى، المهم هو أن نعرف الأسلوب الذي يفكر به هؤلاء.. فلا يمكن أن نواجه خصما لا نعرفه.
قال بات روبرتسون: ولكنكم قد تحترقون.. أو قد يجرفكم تيارهم.. فالسباحة في وجههم خطيرة..
ثم قال بينه وبين نفسه: سلوني أنا.. أنا الذي رفضت الكل، ولم يستطع أحد أن يستوعبني كاد هؤلاء الصعاليك أن يجرفوني إلى مستنقعاتهم.
لم تلتفت الجماعة إلى قوله.. بل ابتدر أخي.. ووضع القرص في القارئ.. وبدأ شريط الأحداث:
رأينا بات روبرتسون يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: هل تعرفون محمدا؟
قال رجل من الجمع: إن كان لديك حديث عنه، فحدثنا به.. فما أحلى الحديث عن محمد.
قال بات روبرتسون: نعم.. صدقت.. فكلكم تحبون التطرف.. فلذلك تحبون الحديث عن أعظم متطرف في الدنيا.
قال رجل من الجماعة: أمحمد متطرف؟
قال بات روبرتسون: إن لم يكن محمد متطرفا، فليس هناك متطرف في الدنيا.
ثم أضاف يقول: (لم يكن محمد إلا مجرد متطرف.. ذو عيون متوحشة تتحرك عبثا من الجنون) ([2])
هنا ظهر الحكيم كما يظهر شعاع الشمس مخترقا الظلمات، وصاح: ما الذي تقصد بالتطرف، فلعل لك تصورا للتطرف قد نوافقك عليه، وقد نتفق معك بسببه في كون محمد صلى الله عليه وآله وسلم متطرفا؟.. وحينذاك سيكون التطرف معنى جميلا.. لأنا لا نعرف خلقا تخلق به محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا كان خلقا جميلا.
قال بات روبرتسون: التطرف هو التطرف.. وليس للتطرف معنى غير التطرف.
قال الحكيم: أراك تفسر الماء بالماء.. فهلا عدلت إلى كلام واضح مفهوم؟
قال بات روبرتسون: كلامي واضح مفهوم، وأحسب الجميع يفهمه.
قال الحكيم: ما دام الأمر كذلك، فوضح لنا سر تطرف محمد، أو بين لنا دلائل تطرف محمد.. فلا يمكن أن نلقي الدعاوى من غير بينات تدل عليها.
قال بات روبرتسون: أكبر دليل على تطرف محمد هو هؤلاء المتطرفون من أتباع محمد.. والذين يملؤون الدنيا.. أم أنك لا تراهم؟
قال الحكيم: فإذا كان الاستدلال بهذا الشكل، فلا شك أن المسيح u والذي نقدره غاية التقدير، ونحترمه غاية الاحترام، ونستغفر الله من كل إساء تمسه كان قاتلا وإرهابيا وظالما وفاحشا ومتفحشا.
غضب بات روبرتسون، وصاح: كيف ترمي قمة النبل والسلام والعفة والطهارة بهذا.. أم أنك لم تقرأ الإنجيل؟
قال الحكيم: لقد اتبعت منهجك في الاستدلال.. فأنت استدللت على تطرف محمد بوجود المتطرفين من أتباعه، فرحت أطبق هذا المنهج على المسيح وأتباع المسيح.. ولن تجد في العالم.. ولن تجد في جميع دفاتر المؤرخين قوما أساءوا إلى نبيهم كما أساء أتباع المسيح إلى المسيح.. فهم الإرهاببون الذين استعمروا العالم.. وهم اللصوص الذين استولوا على خيراته.. وهم الذين نشروا الرذيلة بكل معانيها، وبكل أصنافها.. فهل تستدل بهؤلاء على المسيح؟
قال بات روبرتسون: المسيح نعرفه من خلال الإنجيل.. لا من خلال من يردد اسم المسيح.. والمسيح منه بريء.
قال الحكيم: ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم نعرفه من خلال سيرته وسنته والكتاب الذي جاء به..
سكت بات روبرتسون، فقال الحكيم: أرى أنك صاحب شبهة تريد أن تبحث عن الحقيقة المرتبطة بها.
قال بات روبرتسون: وما الشبهة التي تراها علقت بعقلي؟
قال الحكيم: لقد رأيت سلوك المسلمين، فرحت تتصور أن هذا السلوك لم يستفده هؤلاء إلا من محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال بات روبرتسون: نعم.. كما نتعرف على الأستاذ من خلال تلاميذه، نتعرف على محمد من خلال أتباعه.. من خلال من يذكرون أنهم في حياتهم جميعا يمارسون سنته، ويتبعون هديه.
قال الحكيم: ولكن التلاميذ قد ينحرفون عن منهج أستاذهم، أو قد يفهمون أستاذهم خطأ.. فلذلك نحتاج إلى الرجوع إلى الأستاذ نفسه.
قال بات روبرتسون: وكيف نرجع إلى محمد، وقد طواه الثرى([3])؟
قال الحكيم: لقد كان لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ورثة أوفياء لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة من حياته إلا سجلوها.. فلذلك ـ نحن المسلمين ـ لا نرى محمدا إلا كما يرى بعضنا بعضا، فهو حي بيننا نعيش معه، ونسمع كلامه، ونتنعم بهديه.
قال بات روبرتسون: ولذلك حكمت على نبيكم من خلالكم.
قال الحكيم: ذلك خطأ، فنحن مع حبنا لنبينا وتعظيمنا له لا نرقى لأن نمثله.. محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يمثله إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
سكت الحكيم قليلا، ثم قال: دعنا من هذا الجدل.. ولنعتبر ما ذكرته صحيحا.. ولا نريد منك إلا أن تثبته.
قال بات روبرتسون: لن يكلفني عنتا إثباتي لما ادعيته، فكل شيء يدل عليه.. يكفيك فقط أن تقارن بين المسيحية وبين الإسلام لترى التطرف في الإسلام وفي محمد في أرقى درجاته.
ففي الفكر والعقيدة ترى المسيحية دين المحبة.. تبشر بإله محب أرسل ابنه الوحيد ليفدي البشرية من الخطيئة.. بينما محمد يبشر بإله منتقم جبار يكوي كل من خالفه بكل نيران الألم.
وفي السلوك نرى المسيحية دينا بسيطا لا يكلفك إلا بالإيمان، بينما نرى الإسلام دين تكاليف شديدة تبدأ من استيقاظك المبكر مع غسق الفجر.. وتنتهي بليل طويل من القيام، ونهار طويل من الصيام.. وحياة منضبطة بقوانين كثيرة تخنقها حنقا.
وفي المواقف نرى المسيحية تدع ما لقيصر لقيصر وما لله.. بينما نرى الإسلام ينازع الساسة والاقتصاديين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس.. وكل شيء، ليطبعه بطابعه الخاص.
وفي الحياة، نرى المسيحية مع الحياة، فلا تحرم أي متعة من متع الحياة.. بينما نرى الإسلام يملأ حياة الناس بالضيق، فلا يتمنون إلا الموت.
التفت إلى الجمع، وقال: ألا يكفي كل هذا ليجعل الإسلام دين التطرف الأكبر في العالم، ويجعل محمدا الذي جاء بهذا الدين أكبر متطرف في العالم.. بل على مدار التاريخ.
قال الحكيم: هل انتهيت من حديثك.. أم لك مزيد أدلة؟
قال بات روبرتسون: ألا يكفي كل ما ذكرته!؟
قال الحكيم: فدعني أجيبك إذن.
قال بات روبرتسون: لا يمكنك أن تجيبني.. فما ذكرته حقائق لا تقبل الجدل.
قال الحكيم: فأنت متطرف إذن من حيث لا تشعر.. إن التطرف هو أن تشعر بأنك وحدك على الحق، وأن الحق وحده معك.. فإن كنت تشعر بهذا، فلا يمكنني أن أناقشك.
قال بات روبرتسون: لا.. بل أنا متفتح غاية التفتح.
قالت الجماعة: ما دمت كذلك، فدعه يدافع عن نبيه وعن دينه.
قال بات روبرتسون: قل ما شئت.. وأنا أعلم أنك في كل ما تذكره لن تستيطيع أن تفند هذه الحقائق.. فالحقائق لا يمكن أن تفند.
قال الحكيم: لقد ذكرت أربعة نواح.. وأحسنت في ذكرها.. فهي الأسواق التي تعرض فيها بضاعة التطرف.. وقد ذكرت لي بضاعة المسيحية، وما أسأت فهمه من بضاعة الإسلام.. ولهذا سأصحح لك الحقائق التي يعرضها الإسلام في تلك الأسواق.
التفت الحكيم إلى الأشجار الجميلة التي كانت تزين ساحة الحرية، ثم قال: أرأيت لو طلبت من رسام مبدع أن يرسم هذه الأشجار، أو من أديب بليغ أن يصفها، فقام كلاهما بكل ما أوتيا من قوة إبداعية، فرسم الأول، ووصف الثاني.. هل يمكن أحد من الناس أن ينتقدهما، فيقول لهما: أنتما متطرفان بدائيان.. لأنكما رسمتما أشجارا، ولم ترسما ناطحات سحاب، أو سيارات أو طائرات؟
قال بات روبرتسون: لن يقول ذلك أحد إلا إذا كان مسلما متطرفا، فيمكن أن يقوله.
قال الحكيم: ولكنك تقول ذلك الآن.
قال بات روبرتسون: أنا لست مسلما، فكيف عرفت أني أقوله؟
قال الحكيم: لقد زعمت بأن العقيدة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقيدة متطرفة.. واعتبرت أن سبب تطرفها هو كونها لا تتحدث عن الله الذي أرسل ابنه الوحيد ليصلب من أجل خطايا البشرية.
قال بات روبرتسون: فما الغرابة في هذا؟
قال الحكيم: لأن العقيدة التي جاء بها الإسلام عقيدة منطقية تصف الكون وحقائق الكون، والأشجار التي يحويها الكون كما هي.. ولكن عقيدتكم التي تفخر بها علينا لا تحوي أي منطق، ولا يدل عليها أي دليل، فأنتم تفرضونها على الكون فرضا.
قال بات روبرتسون: لم أفهم ما الذي تقصده؟
قال الحكيم: أرأيت النار.. والأشواك.. والزلازل.. والبراكين.. والآلام.. والأمراض.. والموت..
قال بات روبرتسون: ومن لم ير كل ذلك.. إلا إذا كان مسلما متطرفا؟
قال الحكيم: فمن خلق كل ذلك؟
قال بات روبرتسون: الله.. الله هو الذي خلق كل ذلك.
قال الحكيم: فالله إذن خلق الأزهار الجميلة، والطيور المغردة.. وخلق بجانبها البراكين والزلازل.. لنعرفه معرفة شاملة كاملة.. فنرجو خيره، ونخاف الآلام التي قد تصيبنا من عقوبته.. فرحتم أنتم تختصرون الله فيما تحبون، أو فيما تملي عليكم شهواتكم.
وأنتم تشبهون في ذلك مجرما أخذ صورة مشوهة عن القاضي.. فقيل له: إنه قاض رحيم محب ودود.. لا يلقي المجرمين إلا بابتسامته العريضة وجنانه الفسيحة.. فراح ذلك المجرم يتطرف في جرائمه لا يقف في وجهه شيء..
قال بات روبرتسون: فهل فعلنا نحن ذلك؟
قال الحكيم: بل لم تفعلوا إلا ذلك.. أنتم تشجعون على الرذيلة والانحراف، وتسمون كل ذلك محبة..
بينما الإسلام يتعامل مع الحقائق كما هي.. ويصف الله بما وصف به نفسه، فهو رحيم ودود.. وهو كذلك شديد العقاب، قال تعالى:{ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} (الحجر)
قال بات روبرتسون: فأنت تقر بأن ربكم يعذب.
قال الحكيم: لست أنا الذي يقر بذلك.. بل كل شيء يقر بذلك.. ولكنه عذاب رحيم لا عذاب منتقم..
امتلأ بات روبرتسون ضحكا، ثم قال: وهل رأيت رحيما يعذب؟
قال الحكيم: أرأيت لو أن أحدهم أراد أن يضرب ما تعارف عليه الناس من قوانين الأكل والشرب عرض الحائط.. فراح يأكل المعادن والزجاج.. وراح يشرب أنواع السوائل التي لا تنسجم مع جسم الإنسان.
قال بات روبرتسون: فمصير هذا الموت المؤكد.
قال الحكيم: فإن ظفر بطبيب حكيم أجرى له عملية جراحية تطهر بطنه من الأوزار التي سببها له فمه.. هل تعتبر ذلك الطبيب قاسيا بإجرائه لتلك العملية؟
قال بات روبرتسون: كلا.. بل هو طبيب رحيم أنقذه من الموت المؤكد؟
قال الحكيم: فهذا هو تصورنا نحن المسلمين لإلهنا، فهو إن عاقب لا يعاقب طلبا للعقوبة.. وإنما يعاقب من منطلق الرحمة([4]).. إن قرآننا يقول:{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (لأعراف:156)
ولهذا يربط القرآن الكريم بين ملك الله الذي يعني تدبير الله للأشياء وبين رحمته تعالى، كما قال تعالى:{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} (الفرقان:26)
ولذلك ورد في القرآن الكريم الإخبار عن سعة الرحمة الإلهية وشمولها باعتبار الكون مؤسسا عليها إنشاء وتدبيرا، قال تعالى:{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ }(الأعراف:من: 156)، وقال تعالى:{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (الأنعام:147)
فالآيتان الكريمتان صريحتان في سعة الرحمة الإلهية وشمولها لكل شيء، ولم يرد في القرآن الكريم اقتران السعة بشيء من صفات الله إلا في صفتي الرحمة والعلم.
قال بات روبرتسون: ولكنا نسمع بأن لإلهكم نارا عظيمة يعذب بها.. فهل ترى تلك النار أتون رحمة؟
قال الحكيم: أتسمح لسلاطينك ووزرائك أن يتخذوا سجونا، ثم لا ترى من حق الله أن يتخذ سجنا..
ثم أضاف: أرأيت إلى تعابيرك عن الله.. إنك تتصور بأن معارفنا هي التي تنتج الحقائق.. لا الحقائق الموجودة على أرض الواقع هي التي تنتج المعرفة.
قال بات روبرتسون: لم أفهم..
قال الحكيم: العقيدة علم بما في الكون من حقائق واقعية.. ولذلك لا ينبغي أن نحتال على تشويهها بأي صورة من صور التشويه، حتى بما نتصوره تشويها يحسنها.. فهو في حقيقته تشويه يسيء إليها.
التفت الحكيم إلى الطريق، وأشار إلى علامة مرور، مكتوب عليها (قف)، وقال: هل ترى هذه العلامة؟
قال بات روبرتسون: وكيف لا أراها.. إلا إذا كنت متطرفا مسلما؟
قال الحكيم: فقد كتب عليها (قف).. فما تعني هذه الكلمة؟
قال بات روبرتسون: هي تأمر السيارات المارة بأن تقف في هذا المحل.
قال الحكيم: ألا ترى بأنها تحد بذلك من حرية المارة؟
قال بات روبرتسون: لا.. بل هي تنظم سير المارة.. ولولا هذه اللافتة التي أبدعتها حضارتنا المستلهمة من تعاليم المسيح لاختلطت الطريق بأهلها.
قال الحكيم: ما دمتم لم تعتبروا أنفسكم متطرفين، وأنتم تحدون من حرية المارة بمثل هذه اللافتات، فلم تعتبرون اللافتات الربانية التي تنظم السير إلى الله من التطرف؟.. أم أنكم تريدون أن تختلط الطريق إلى الله بالمشعوذين والخرافيين والدجالين والمهووسين.
قال بات روبرتسون: ما علاقة ما تقوله بما نحن فيه؟
قال الحكيم: لقد فخرت على محمد بالمسيح.. وزعمت أن محمدا ضيق حياة الناس بما وضع من قوانين السلوك.. بينما لم يفعل المسيح شيئا من ذلك.
قال بات روبرتسون: ذلك صحيح.. ففي المسيحية يكفيك الإيمان.
قال الحكيم: لقد ولد ذلك وجود طوائف كثيرة ممتلئة بالتطرف.. لاشك أنك تعرف الرهبان الذين وضعوا من قوانين السلوك ما صارعوا به الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
لقد روى المؤرخون من ذلك العجائب([5])..
لقد حدثوا عن الراهب ماكاريوس أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائما نحو قنطار من حديد.
وكان صاحبه الراهب يوسيبيس يحمل نحو قنطارين من حديد.. وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح …
ورووا أن الراهب يوحنا عبد ثلاث سنين قائما على رجل واحدة، ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدة، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة.
وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائما، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام.. وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش.
وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح ويتأثمون من غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأنقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس، وقد حدث الراهب اتهينس أن الراهب أنتونى لم يقترف إثم غسل الرجلين طوال عمره، وكان الراهب أبرا هام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين عاماً، وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمان متلهفاً: وأسفاه، لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات.
أما القديس كولمبان فقد (كانت السناجب تجثم على كتفيه فتدخل في قلنسوته وتخرج منها، وهو ساكن)
وفوق هذا كله.. فقد كان الرهبان يتجولون في البلاد ويختطفون الأطفال ويهبونهم إلى الصحراء والأديار، وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم ويربونهم تربية رهبانية، والحكومة لا تملك من الأمر شيئا، والجمهور والدهماء يؤيدونهم ويحبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتهم ويختارون الرهبانية ويهتفون باسمها، وعرف كبار الرهبان ومشاهير التاريخ النصراني بالمهارة في التهريب، حتى روي أن الأمهات كن يسترن أولادهن في البيوت إذا رأين الراهب (أمبروز) وأصبح الآباء والأولياء لا يملكون من أولادهم شيئا، وانتقل نفوذهم وولايتهم إلى الرهبان والقسوس.
فكان الرهبان الذين تفيض قلوبهم حنانا ورحمة، وعيونهم من الدمع، تقسو قلوبهم وتجمد عيونهم على الآباء والأمهات والأولاد، فيخلفون الأمهات ثكالى، والأزواج أيامى، والأولاد يتامى، عالة يتكففون الناس، ويتوجهون قاصدين الصحراء، همهم الوحيد أن ينقذوا أنفسهم في الآخرة، لا يبالون ماتوا أو عاشوا، وحكي (ليكي) من ذلك حكايات تدمع العين وتحزن القلب.
التفت الحكيم إلى بات روبرتسون، وقال: هل حدث ذلك في التاريخ فعلا؟
سكت بات روبرتسون، فأجاب الحكيم نفسه: نعم.. ولا يمكنك إلا أن تقول:(نعم).. فلندع هؤلاء الذين طواهم التاريخ.. ولنذهب إلى المسلمين في جميع مراحل التاريخ.. ولننظر أثر علامة (قف).. و(سر) التي تركها محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد ولدت تلك العلامات التي سماها العلماء أحكاما شرعية حياة منضبطة منظمة صالحة صحية لا يمكنك أن تقارنها بأي حياة لأي متدين في أي دين.
أخرج سواكا من جيبه، ثم قال: في الوقت الذي كان الرهبان فيه يتبارون في الهرب من كل ما تتطلبه النظافة من متطلبات أمرنا نبينا بهذه الآلة العجيبة التي تجمع بين كونها فرشاة أسنان، كأنعم ما تكون الفرشاة.. وبين أحسن معجون للأسنان لم ير العالم مثله بعد في عالم الصناعة([6]).
فهل ترى متطرفا ذلك الذي يحض أتباعه على النظافة والطهارة والجمال؟
قال بات روبرتسون: ولكن تعاليم الإسلام تعاليم شديدة حتى ما تعتبره طهارة منها فيه شدة وتكلف وتطرف.
قال الحكيم: إن جميع تعاليم الإسلام محكومة بضابطين كلاهما يحرسانها من التطرف، وسأحدثك عنهما باختصار، وإلا فإن التفاصيل التي ترتبط بهما لا يمكن استيعابها في هذا المجلس.
قال رجل من القوم: فما هما؟
قال الحكيم: اليسر والمقاصدية، وقد أشار إليهما مجتمعين قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة:6)
ففي هذه الآية الكريمة ذكر الله رفع الحرج عن عباده، وهو يدل على التيسير، ثم علل السر في تلك التكاليف التي قدر يراها البعض تكاليف شاقة، بأنها تكاليف ذات مقاصد شريفة تصب في مصلحة الإنسان، وهو ما يرفع المشقة في فعلها، لأن أي إنسان يسترخص أي جهد يبذله إذا ما كان فيه مصلحة له.
وقد جمع كلتا الناحيتين قوله صلى الله عليه وآله وسلم في تعليل النهي عن الصلاة وقت النعاس:(إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعسٌ لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه)([7])
قال رجل من القوم: فحدثنا عن الضابط الأول؟
قال الحكيم: جميع الشرائع التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم تتصف باليسر.. بل إنه إذا وقع العسر في أمر من الأوامر، أو نهي من النواهي رفع التكليف به.. وفي ذلك قال العلماء (إذا ضاق الأمر اتسع)، و(المشقة تجلب التيسير)
ضحك بات روبرتسون، وقال: المشقة تجلب التيسير!؟.. ما هذا؟
قال الحكيم: هذه القاعدة الأصولية تنص على أن الأحكام التي ينشأ عن تطبيقها حرج على المكلف ومشقة في نفسه أو ماله، فإن الشرع قد أجاز له عدم القيام بها.
قال بات روبرتسون: فهي من وضع الفقهاء إذن لا من إرشاد نبيكم وتعليمه!؟
قال الحكيم: ما كان لفقهائنا أن يتجرأوا، فيضيفوا إلى الدين حرفا من غير أن يجدوا له دليلا من النصوص..
نعم.. هم ليسوا معصومين في استنباطاتهم، ولكنهم مع هذه القاعدة على الخصوص، ومع القواعد التي تشبهها معصومون في هذا الاستنباط، لأنهم يستندون فيه إلى الدلائل القطعية التي لا يرقى إليها شك..
لقد قال الله تعالى يقرر هذه القاعدة:{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (البقرة:185)، وقال:{ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (المائدة:6)، وقال:{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78)
ومثل ذلك ما ورد في الأحاديث، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(بعثت بالحنيفية السمحة)([8])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)([9])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله شرع الدين فجعله سهلا سمحا واسعا ولم يجعله ضيقا)([10])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره)([11])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بهم العسر)([12])
وقد مارس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذي تنسبه إلى التطرف ـ هذا السلوك في أوسع مجالاته، وفي كل مجالاته، ففي الحديث:(ما خير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين، إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما)([13])
التفت إلى الجمع، وقال: سأسرد لكم بعض الأحداث التي وقعت في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تدل على مدى تيسيره صلى الله عليه وآله وسلم على أمته، ومدى حرصه على رفع الحرج عنها.
لقد حدث بعض أصحابه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا في المسجد، وأصحابه معه، إذ جاء أعرابي، فبال في المسجد، فقال أصحابه: مه، مه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تزرموه، دعوه)، ثم دعاه، فقال له:(إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء ـ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ إنما هي لقراءة القرآن، وذكر الله، والصلاة)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل من القوم:(قم فائتنا بدلو من ماء)، فشنه عليه، فأتاه بدلو من ماء، فشنه عليه([14]).
التفت إلى الجمع، وقال: هل رأيتم مثل هذه البساطة والتيسير والرفق.. رجل يبول في مسجده المقدس الذي هو من أشرف مساجد الدنيا، فلا يزيد على أن يعلمه ويوجهه من غير أن يعنفه أو يوبخه.
وحدث صحابي آخر قال: كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلوات، فكانت صلاته قصداً([15])وخطبته قصداً([16]).
وحدث آخر قال: قدمت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سابع سبعة، أو تاسع تسعة، فأذن لنا، فدخلنا، فقلنا: يا رسول الله أتيناك لتدعو لنا بخير، فدعا لنا بخير، وأمر بنا فأنزلنا، وأمر لنا بشئ من تمر والشان إذ ذاك دون، فلبثنا بها أياما شهدنا بها الجمعة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقام متوكئا على قوس أو عصا، فحمد الله، وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم قال:(أيها الناس إنكم لن تطيقوا، ولن تفعلوا، كل ما أمرتم ولكن سددوا وأبشروا)([17])
ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يتشدد مع المتشددين، بل يخبر بهلاكهم في تشددهم، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(هلك المتنطعون([18])، قالها ثلاثاً([19]).
وشبه صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء المتنطعين المتشددين بالمنبت([20])، فقال:(إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فان المنبت لا أرضا قطع ولاظهرا أبقى)([21])
وبما أن الحماسة كانت تتقد في قلوب بعض أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم، فتدفعهم إلى المبالغة في الأعمال والتشدد فيها حرصا على مرضاة الله تعالى، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصحح لهم ذلك، ويأمرهم بالتوسط والاعتدال، ويخبرهم بأن الله يحب أن تؤتى رخصه بقدر ما يحب أن تؤتى عزائمه([22]).
ومما يروى في ذلك أن معاذا أم قومه ليلة في صلاة العشاء بعد ما صلاها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فافتتح سورة البقرة، فتنحى رجل من خلفه وصلى وحده، فقال له: نافقت، ثم ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الرجل: يا رسول الله إنك أخرت العشاء، وإن معاذا صلى معك ثم أمنا، وافتتح سورة البقرة، وإنما نحن أصحاب نواضح نعمل بأيدينا، فلما رأيت ذلك تأخرت وصليت، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أفتان أنت يا معاذ؟ اقرأ سورة كذا، اقرأ سورة كذا)([23])
ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل بيته، فوجد امرأة، فقال: من هذه؟ قالوا: هذه فلانة وذكروا من صلاتها، قال:(مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله([24])حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه)([25])
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد، فإذا حبلٌ ممدودٌ بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟، قالوا: هذا حبلٌ لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد)([26])
وحدث بعض أصحابه قال: خرجت ذات يوم لحاجة، وإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمشي بين يدي، فأخذ بيدي، فانطلقنا نمشي جميعاً، فإذا نحن برجل يصلي يكثر الركوع والسجود فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(أتراه يرائي؟)، فقلت: الله ورسوله أعلم، فترك يده من يدي، ثم جمع يديه، فجعل يصوبهما ويرفعهما ويقول:(عليكم هدياً قاصداً عليكم هدياً قاصداً عليكم هدياً قاصداً، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه)([27])
وحدث آخر قال: ذكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مولى لبني عبد المطلب يصلي ولا ينام، ويصوم ولا يفطر، فقال:(أنا أصلى، وأنام، وأصوم وأفطر، ولكل عمل شرة ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى السنة فقد اهتدى، ومن تكن إلى غير ذلك فقد ضل)
وروي أن ثلاثة رهطٍ جاءوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال: أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم فقال:(انتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)([28])
وروي أنه: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب إذا هو برجلٍ قائمٍ، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه)([29])
وحدث بعض أصحابه عن نفسه قال: أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار، ولأقومن الليل ما عشت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت الذي تقول ذلك؟ فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: فإنك لا تستطيع ذلك؛ فصم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيامٍ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يومين، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أعدل الصيام ـ وفي رواية: هو أفضل الصيام ـ فقلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أفضل من ذلك، قال عبد الله: ولأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب إلي من أهلي ومالي([30]).
قال رجل من القوم: حدثتنا عن الضابط الأول.. فحدثنا عن الثاني.
قال الحكيم: جميع الشرائع التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم تتصف بالمقاصدية.
أرسل بات روبرتسون ضحكة عالية، ثم قال: المقاصدية!؟.. ما المقاصدية؟
قال الحكيم: إن الله الحكيم الذي لم يخلق العبث لم يشرع العبث.. ولذلك فإن من مزايا الشريعة أن كل شيء فيها مفهوم الغاية واضح المقصد، يفهمه كل ذي عقل ببساطة ويسر، فيستحيل أن يقول العقل شيئا، ويقول الشرع خلافه.
قال بات روبرتسون: أتتيه علي بشريعتكم.. كل دين يقول أهله هذا.
قال الحكيم: فأنبئني عن الحكمة من الشرائع التي وردت في العهد القديم، والتي تختص بالمرأة الحائض.. لاشك أنك تعرفها، ولا شك أنك تعرف كثرتها.
سكت بات روبرتسون، فقال الحكيم: سأقرأ عليك بعض النصوص التي تدل عليها.. لقد جاء في (سفر اللاويين:15: 19 -27) هذ النص.. واسمح لي أن أقرأه لك بطوله.. (وإذا حاضت المرأة فسبعة أيام تكون في طمثها، وكل من يلمسها يكون نجسا إلى المساء. كل ما تنام عليه في أثناء حيضها أو تجلس عليه يكون نجسا، وكل من يلمس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء. وكل من مس متاعا تجلس عليه، يغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء. وكل من يلمس شيئا كان موجودا على الفراش أو على المتاع الذي تجلس عليه يكون نجسا إلى المساء. وإن عاشرها رجل وأصابه شيء من طمثها، يكون نجسا سبعة أيام. وكل فراش ينام عليه يصبح نجسا. إذا نزف دم امرأة فترة طويلة في غير أوان طمثها، أو استمر الحيض بعد موعده، تكون كل أيام نزفها نجسة كما في أثناء طمثها. كل ما تنام عليه في أثناء نزفها يكون نجسا كفراش طمثها، وكل ما تجلس عليه من متاع يكون نجسا كنجاسة طمثها. وأي شخص يلمسهن يكون نجسا، فيغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء)
التفت الحكيم إلى بات روبرتسون، وقال: أرأيت هذه التفاصيل المشددة التي تجعل المرأة الحائض كالكلب العقور يخشى الكل من الاقتراب منه.. تخيل المرأة يأتيها الطمث لمدة سبعة أيام تكون فيها نجسة ومنبوذة من الآخرين، ثم تستمر بعد فترة نجاستها أسبوعا آخر، أى نصف شهر، وهذا يعنى نصف سنة.. أي أنها ستظل نصف عمرها نجسة منبوذة.
ليس هذا فقط هو كل شريعة التوراة المرتبطة بالحائض.. هناك تكاليف أخطر.. اسمع..: (وفي اليوم الثامن تأخذ لنفسها يمامتين أو فرخي حمام وتأتي بهما الى الكاهن الى باب خيمة الاجتماع. فيعمل الكاهن الواحد ذبيحة خطية والآخر محرقة ويكفر عنها الكاهن أمام الرب من سيل نجاستها) (اللاويين (15: 29 -30)
هل ترى هذا حكما معقولا.. إن المرأة في العادة تستحي من علم أي أحد بحيضها، فكيف تفعل هذا أمام الناس، وأمام الكاهن.. ثم ما جريمتها حتى تصبح نجسة.. ولماذا ترتبط أكثر أحكام التوراة بالحمام والكباش والشواء!؟
ومثل ذلك أحكام النفاس في الكتاب المقدس.. اسمع:« إذا حملت امرأة وولدت ذكرا، تظل الأم في حالة نجاسة سبعة أيام، كما في أيام فترة الحيض… وعلى المرأة أن تبقى ثلاثة وثلاثين يوما أخرى إلى أن تطهر من نزيفها، فلا تمس أي شيء مقدس، ولا تحضر إلى المقدس، إلى أن تتم أيام تطهيرها. وإن ولدت أنثى فإنها تظل في حالة نجاسة مدة أسبوعين كما في فترة الحيض، وتبقى ستة وستين يوما حتى تتطهر من نزيفها) (اللاويين: 12: 1 -5)
ألا ترى الجور الذي تحمله هذه النصوص على الإناث؟.. ألا ترى كيف تجعل مدة طهارة المرأة في حال كون المولود أنثى ضعف طهارة كون المولود ذكرا!؟
التفت الحكيم إلى الجمع، وقال: إن هذه التعاليم جميعا تخلو منها شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسبب بسيط، وهو أن هذه الشريعة شريعة مقاصدية تلاحظ علل الأحكام وأغراضها، ولهذا ذكر تعالى حكم الحائض وعلته بقوله:{ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222)
انظر.. الآية الكريمة تكتفي بتحريم إتيان الحائض، وتعلل ذلك بعلة معقولة لم تزدها الأيام إلا قوة.. لقد اعتبرت الأذى مقصورا على محله، ولم تتعداه إلى غيره.
لقد ورد في الحديث أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تعالى الآية السابقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه([31]).
التفت الحكيم إلى بات روبرتسون، وقال: هذا مجرد نموذج عن المفارقة الكبرى بين تشريعات الإسلام، وتشريعات اليهودية والمسيحية.. ومثلها سائر الديانات..
الإسلام ينطلق في كل تشريع من المقاصد التي تجتمع جميعا بتفاصيلها وفروعها لتخدم الإنسان فردا ومجتمعا وفق نظام دقيق وتشريعات محكمة..
حتى ما يظهر أنه جوانب تعبدية محضة فإن الشريعة تربطها بالمقاصد التي تخدم الإنسان، وتخدم الإنسانية، لقد قال الله تعالى في الصلاة مبينا دورها التربوي النفسي:{ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت:45)، وقال:{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة:45)
وأما خدمتها للإنسانية، فقد شرع الله للمسلمين أن يصلوا جماعة في المسجد ليؤلف ذلك بين قلوبهم ويزيد المودة بينهم، قال تعالى:{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} (النور)
وهكذا الأمر بالنسبة للصيام، فقد قال تعالى معللا الحكمة منه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183)
وهكذا الأمر بالنسبة للتشريعات المرتبطة بالطهارة، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة:6)
أما في جوانب المعاملات المختلفة، فإن الشريعة تنطلق فيها من رعاية المصالح التي تحفظ الحقوق، وترعى الحرمات، وتسد كل منافذ الخلل التي قد يتسرب منها الجور، أو تنتشر منها القسوة.. فالشريعة رحمة كلها عدالة كلها.
التفت الحكيم إلى الطريق، وأشار إلى شرطي كان يقف في الطريق، وقال: أرأيت إلى هذا الشرطي الهادئ الوديع المسالم؟
قال بات روبرتسون: وكيف لا أراه.. إلا إذا كنت متطرفا مسلما؟
قال الحكيم: فهل ستراه يظل على هدوئه ووداعته ومسالمته إن رأى من يخالف القانون أو يعتدي على المارة؟
قال بات روبرتسون: لا.. بل سينقلب حينها وحشا كاسرا.
قال الحكيم: تقصد أنه عند ملاقاته للصوص والمجرمين ينقلب من الاعتدال إلى التطرف.
قال بات روبرتسون: لا.. بل يظل معتدلا.. بل إنه لو بقي في مكانه لم يحرك ساكنا إن رأى المجرمين كان شريكا لهم في جرائمهم.
قال الحكيم: فإن اضظره ذلك السلوك العنيف إلى استعمال السلاح.
قال بات روبرتسون: لا حرج عليه في استعماله ما دام أعداء السلام يستعملونه.
قال الحكيم: فقد أقررت إذن بجميع القوانين التي تحكم على المواقف بكونها معتدلة أو متطرفة.
قال بات روبرتسون: لم أفهم ما الذي تقصده؟
قال الحكيم: لقد فخرت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمقولة المسيح:(دع ما لقيصر لقيصر)..
قال بات روبرتسون: أجل فعلت ذلك.. ولا أزال مصرا عليه.
قال الحكيم: فإذا قال هذا الشرطي (دع ما للص للص).. و(دع ما للمجرم للمجرم) هل تقبل منه ذلك؟
قال بات روبرتسون: المسيح ذكر قيصرا ولم يذكر المجرمين.
قال الحكيم: فإذا تحول المجرمون إلى قياصرة.. أو تحول القياصرة إلى مجرمين..
قال بات روبرتسون: فأنت تزعم بأن محمدا وأتباعه شرطة.. أو يمارسون وظائف الشرطة.
قال الحكيم: إن كانت وظيفة الشرطة هي حفظ الأمن والسلام والحريات من أن تنتهك أو تخترق، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وجميع أمته كلفوا بأن يكونوا شرطة يحفظون السلام في العالم لحفظ المستضعفين من بطش المستكبرين.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، وسماه شهادة، فقال:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } (البقرة:143)
فمن معاني الشهادة هذه الوظيفة الخطيرة التي انتدب لها كل مؤمن، بل كل حر في العالم.. فلا يمكن للحر أن يرى اللصوص ثم يسكت عليهم، أو يرى المجرمين، ثم يغض الطرف عنهم.
قال بات روبرتسون: فهذا هو الذي جعل الإسلام دين سيف إذن؟
قال الحكيم: الأصل في استعمال السيف في الإسلام الحرمة.. فالمسلم لا يسل سيفه إلا للضرورة القصوى التي استدعت ذلك.
قال بات روبرتسون: فلماذا سل الإسلام سيفه إذن على الأمم؟
قال الحكيم: الإسلام لم يسل سيفه على أي أمة من الأمم.
قال بات روبرتسون: فأنت لا تقرأ التاريخ إذن.
قال الحكيم: الإسلام يمثله كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهدي الورثة الذين حافظوا على صفاء الشريعة ونقائها.. وأما من عدا ذلك، فلا يمثل إلا نفسه.. فكما لا يمثل ملوك أوروبا المسيح.. فكذلك لا يمثل حكام المسلمين محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.
سكت قليلا، ثم قال: ما دمت قد قارنت بين المسيحية والإسلام.. فسأضرب لك مثلين عن شعبين، وكيف تعامل معهم قومك، وكيف تعامل معهم قومي.
أما أولهما، فمصر.. لقد قال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يوصينا بمصر، وبأهل مصر:(إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا)([32])، وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط([33])، فاستوصوا بأهلها خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا)([34])
ومنذ أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الوصية، وأهل مصر ينعمون بسماحة الإسلام ورحمة الإسلام، فلم تمتد إليهم يد تؤذيهم، ولا لسان يجرحهم، بل تحول المصريون إلى حماة للإسلام، ومدافعين عنه، بل أصبحت مصر بعد فترة وجيزة عاصمة الإسلام.
قارن هذا بما فعله أهل دينك بالمصريين الذين لم يفرحوا بشيء كفرحهم بالفتح الإسلامي.
قال رجل من القوم: هذا هو النموذج الأول.. ونحسب كل الأدلة معك فيه، فلا يزال الأقباط المصريون أكبر شاهد على مدى تسامح الإسلام مع المصريين في جميع فترات تاريخه، فحدثنا عن النموذج الثاني.
قال الحكيم: النموذج الثاني هم اليهود..
هنا انتفض بات روبرتسون انتفاضة شديدة، فقد كان يحن لليهود أكبر من حنينه للمسيح نفسه، وقال: أتذكر اليهود.. وتنسى ما فعل نبيكم باليهود([35]).
قال الحكيم: لن أتحدث عن موقف قومك من اليهود، فأنت أدرى الناس به.. ولكني سأحدثك عن موقف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم..
ولو تأملت المعاهدات التي صدرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجدتها عين التسامح والموادعة والمساواة، ومن هذه المعاهدات إعلان دستور المدينة الذي اشتمل على سبع وأربعين فقرة، ومما ورد فيها من الحديث عن اليهود: (إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين).. و(وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه([36])وأهل بيته).. و(إن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم)([37]) .. و(إذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصلحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين).. و(إن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره).. و(إنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([38])
وقد حافظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما اقتضته هذه المعاهدة إلى أن خانوها بأنفسهم، فلقوا إثم خيانتها([39])..
لقد كانت أفواه اليهود في ذلك الوقت تلقي بسمومها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.. ومع ذلك لم يكن المسلمون ولا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقابلونهم إلا بالجدال بالتي هي أحسن، أو غض الطرف عما يقولون.
فعند ما قتل أحد الصحابة في أحد أحياء اليهود في خيبر رضي صلى الله عليه وآله وسلم وقبل يمين اليهود إذ أقسموا أنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله، فعن بشير بن يسار قال: (زعم أن رجلًا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر، فتفرقوا فيها فوجدوا قتيلًا، وقالوا للذي وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا وما علمنا قاتلًا، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلًا، قال: الكُبرَ الكبرَ، فقال لهم: تأتون البينة على من قتله؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُطَّلَّ دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة([40]).
التفت إلى بات روبرتسون، وقال: هل رأيت نبلا كهذا النبل، أو كرما كهذا الكرم([41]).. لقد فعل ذلك مع كونه في موضع قوة، يستطيع أن يفرض بها ما يشاء على من يشاء.
سكت الحكيم قليلا، ثم قال: وهذه المواقف المملوءة بالتسامح والرحمة واللطف كانت هي القاسم المشترك في جميع معاملات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع جميع أصناف الخلق.
حدث بعض الصحابة، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله، وكأني بغصن من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرفعته عن ظهره، وعلي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)، فأخذ سهيل يده فقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال:(اكتب باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة)، فأمسك بيده فقال: لقد ظلمناك إن كنت رسولًا، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال:(اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنا رسول الله)، قال فكتب، فبينما نحن كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أمانًا)، فقالوا: لا، فخلى سبيلهم، فأنزل الله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الفتح:24)([42])
التفت إلى بات روبرتسون، وقال: لقد كان بإمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأسرهم أو أن يقتلهم، ولكن سماحته أبت عليه ذلك.
وعندما أظفر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه الذين استعملوا كل الأساليب القذرة لحربه ماذا قال لهم؟
سكت الجمع، فقال: لقد قال لهم : (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟)، قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: (فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته:{ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} اذهبوا فأنتم الطلقاء)
قال بات روبرتسون: ولكن الإسلام الذي تزعم أنه أبدى تسامحا عجيبا في معاملة غير المسلمين كان شديد القسوة على المسلمين العصاة.. قارن ما وضع الإسلام من حدود شديدة بما حصل من المسيح مع تلك المرأة الخاطئة([43]).
قال الحكيم: إن الحدود في الإسلام ليست إلا نوعا من الروادع التي تحفظ المجتمع من السقوط في حمأة الرذيلة، أوحمأة اللاأمن.. وهي مجرد إجراء من الإجراء لا أنها كل الشريعة كما يتوهم المتوهمون..
إن جميع العقوبات التي وضعها الإسلام للردع عن الجريمة لا تعدو سبع عقوبات، وكلها تمس طهارة المجتمع الذي جاءت تشريعات الإسلام لتحافظ على طهارته، وهي الحرابة (قطع الطريق)، والردة، والبغي، والزنا، والقذف، والسرقة، وشرب الخمر.
وكل هذه الحدود لا تنفذ إلا بعد شروط شديدة، ومن السهل رفعها بأي شبهة من الشبهات.
سأضرب لك مثالا على ذلك بحد الزنا.. هذا الحد الذي شرعه الله لتطهير المجتمع من الانحراف.
فهذا الحد في الشريعة لم يأمر به الإسلام إلا بعد أن امتلأ المجتمع نظافة وطهارة، ثم لم يأمر بتنفيذه إلا في ظل ضوابط شديدة تكاد تحيل وقوعه إلا بالنسبة لجريء على قيم المجتمع غير مبال بتخريبها.
لقد قال تعالى يذكر البينة التي على أساسها يقوم الحد:{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:4)
إن البينة التي ذكرتها هذه الآية الكريمة لا يمكن تحققها إلا في إنسان وقح لا يراعي لنفسه، ولا للمجتمع أي حرمة.
ولهذا يندر أن يقع مثل هذا.. بل لم يثبت مثل هذا، فلم نسمع في تاريخ المسلمين أن أُقيم حد الزنا بتوافر أربعة شهود.
سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثالا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم فيه بأن امرأة وقعت في الزنا، وهي محصنة، ومع ذلك لم يقم عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحد، ولم يعمل علمه في إقامة الحد عليها، روي أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشريك بن سمحاء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(البينة أو حدِّ في ظهرك)، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البيّنة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:(البيّنة وإلا حد في ظهرك)، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) } (النور)، فانصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل إليها فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:(إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟)، ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها، وقالوا: إنها موجبة، قال ابن عباس: فتلكّأت، ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الإليتين خدلّج الساقين فهو لشريك بن سمحاء)، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن)([44])
سكت قليلا، ثم قال: وفوق ذلك، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحث على الستر، وعلى عدم تتبع عورات المسلمين، ويخبر عن الجزاء العظيم المعد لذلك، وذلك ما يمنع من استيفاء الأركان التي يقام بها الحد.. فالحد لا يقام إلا بالشهود، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من ستر أخاه المسلم في الدنيا، ستره الله في الدنيا والآخرة)([45])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من رأى عورة فسترها، كان كمن استحيا موؤودة من قبرها)([46])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته)([47])
قال بات روبرتسون: فأنت بهذه النصوص التي تنقلها تكاد تلغي أهم ما يطلبه أولئك المتطرفون الذين يريدون تطبيق الشريعة.
قال الحكيم: إن كان تطبيق الشريعة في تصورهم هو مجرد تطبيق الحدود، فقد أساءوا فهم الشريعة.. فالحدود في الشريعة زواجر لا انتقام.. وهي في ذلك كأسلحة الردع التي تخزنها الدول في مخازنها، لا لتنتقم بها، وإنما لتحافظ بها على سلطتها ومهابتها.
ولهذا ورد في الحديث (تعافوا الحدود بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب)([48])
وقد ذكر ابن مسعود هيئة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند إقامة بعض الحدود، فقال: (إني لأذكر أول رجل قطعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى بسارق، فأمر بقطعه، وكأنما أسف([49])وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا رسول الله، كأنك كرهت قطعه؟ قال: (وما يمنعني؟ لا تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم! إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد إلا أن يقيمه، إن الله عفو يحب العفو:{ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (النور:22)
بل كان الرجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعترف بأنه أتى ما يوجب الحد، فلا يسأله عن هذا الحد: ما هو؟ وكيف اقترفه؟ بل يعتبر اعترافه هذا ـ الذي قد يعرضه للعقوبة ـ توبة من ذنبه، وندماً على ما فرط منه، فهو كفارة له، فقد روى أبو داود في باب (في الرجل يعترف بحد ولا يسميه) عن أبي أمامة: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقمه علي. قال: (توضأت حين أقبلت)؟ قال: نعم. قال: (هل صليت معنا حين صلينا)؟ قال: نعم. قال: (اذهب، فإن الله تعالى قد عفا عنك)([50])
التفت الحكيم إلى الحاضرين، وقال لبات روبرتسون: أترى هؤلاء الحاضرين؟
قال الحكيم: أعمى أنا.. أو متطرف أنا.. إن لم أكن أراهم.
قال الحكيم: أنت ترى بأن لكل واحد من هؤلاء حياته الخاصة، وأسلوب تفكيره، وما يحب، وما يبغض.. وكل هؤلاء لا يحب لأحد من الناس أن يتدخل في خصوصياته.
قال بات روبرتسون: نعم.. ما علاقة هذا بما نحن فيه؟
قال الحكيم: ألست ترى بأن أخطر تطرف هو أن نفرض على الناس أسلوبا معينا في الحياة؟
قال بات روبرتسون: أجل.. وذلك ما فعله الإسلام.
قال الحكيم: بل ذلك ما يريد قومك أن يفرضوه بكل الطرق، ثم يعتبرون من يقع أسيرا للأنماط التي يريدون فرضها للحياة وللأحياء حرا.. ويعتبرون المتحرر منها متطرفا.
قال بات روبرتسون: لم أفهم ما الذي تقصده؟
قال الحكيم: لقد سمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العصر الذي نحن فيه عصر استبداد، فقال:(تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عضوضا فتكون ما شاء الله، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم ملكا جبرية ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)([51])
أتدري ما الفرق بين الملك العضوض، والملك الجبرية؟
قال بات روبرتسون: لا.. هذه المصلطحات لم تدخل دوائر معارفنا بعد.
قال الحكيم: هذه المصظلحات هي التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لينبه العامة والخاصة في كل الأحقاب إلى البحث عن الحياة الحرة التي لا يتسلط عليها أهل الملك العضوض، ولا أهل الملك الجبري.
قال بات روبرتسون: فمن هما؟
قال الحكيم: أهل الملك العضوض هم الذين ابتليت بهم البشرية في أكثر عهودها، وهو ملك يقوم على الجباية.. ودور الحاكم فيه أن يسلب أموال رعيته، فإن لم يكن لها أموال عضها ليمص بعض دمائها.
وأما أهل الملك الجبري، فهم الذين لا يكتفون بسلب الرعية أموالها، وإنما يسلبون منها حريتها، فيفرضون عليها كيف تفكر، وكيف تعيش، وما تأكل، وما تلبس.
قال بات روبرتسون: فأي بشر هم الذين ابتلوا بهذا النوع من الحكم؟
قال الحكيم: قومي وقومك.. قومي ببعدهم عن الإسلام، وقومك بانحرافهم عن الفهم الصحيح لحقيقة الإنسان، وما تتطلبه حياة الإنسان.
طأطأ بات روبرتسون، وقال: في هذه الناحية أنت محق.. أنا أشعر بأن ساسة قومي متطرفون في سلوكهم مع الرعية.. ولكن هل تسمي ذلك استبدادا؟.. أنا لا أفهم الاستبداد إلا بقوانين الطوارئ التي تفرض عليكم كل حين.
قال الحكيم: أخطر استبداد أن لا يترك لك المستبد إلا خيارا واحدا هو الخيار الذي يختاره لك.. وقومك يمارسون هذا.. ولعلك أنت أيضا تمارسه من حيث تشعر، ومن حيث لا تشعر.
قال بات روبرتسون: لم أفهم..
قال الحكيم: ربما تكون لك.. أو كانت لك قناة إعلامية.. فرحت تملؤها بالإشهارات عن أصناف المأكولات والمشمومات والملبوسات.. وأنت لا يهمك ما يحويه ذلك من مضار ومنافع.. ولكن يهمك الكسب الذي ينال قناتك لتظل تؤدي رسالتها.
سكت قليلا، ثم قال: ليس هذا فقط.. بل لعلك كنت تشهر لأصناف السجائر..
قاطعه بات روبرتسون، وقال: فلنفرض حصول ذلك.. ألسنا نضع أسفل الإشهار عبارة (مضر بالصحة)
ابتسم الحكيم، وقال: وما تجدي تلك العبارة..
قال بات روبرتسون: يراها ناس فينفرون من السجائر.. فيحقق الإشهار عكس هدفه.
قال الحكيم: فضعوا نفس الإعلان في كل ما تشهرونه.. فأنت تشهرون كل شيء حتى الخنا والفجور تدعون إليه صباح مساء.. لتجعلوا حياة الناس موضوعة في قالب حديدي ختم عليه الشيطان لا يستطيعون منه فكاكا.
قال بات روبرتسون: ولكن الإسلام حين يقيد الناس بتلك التوجيهات يملؤها بالضيق.
قال الحكيم: لقد ذكرت لك أن الإسلام يتيح لكل إنسان حياته الحرة النظيفة.. فهو لا يتدخل في كل ما يستجم به الناس من أصناف اللهو واللعب بشرط واحد، وهو أن لا تكون مضرة بهم أو بمجتمعهم أو بحقيقتهم الإنسانية ووظيفتهم التي أرسلوا للأرض من أجلها.
سكت قليلا، ثم قال: لعل السبب في حكمك على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتطرف هو ما تراه من بعض المسلمين من عبوس وتجهم، ويعتبرون ذلك دينا.
قال بات روبرتسون: ذلك صحيح.. ألا تعتبر ذلك كافيا في الحكم بالتطرف؟
قال الحكيم: لقد ذكرت لك أنه لا يحكم على أحد إلا من خلال تصرفاته.. ولذلك، فلنرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما تنص عليه كتب السنة والسيرة لنرى مدى صدق ارتباط ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد حدث زيد بن ثابت وقد طُلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّ فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، قال:(فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟)([52])
فقد كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بحسب هذا الحديث ـ لا يختلف عن حياة سائر الناس، فلا تكلف فيها ولا تطرف.
وقالت عائشة تذكر موقفا من المواقف التي عاشتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان عندي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسودة بنت زمعة فصنعت حريرة، وهي دقيق يطبخ بلبن أو دسم، وجئت به، فقلت لسودة: كلي، فقالت: لا أحبه، فقلت: والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك، فقالت: ما أنا بذائقته، فأخذت بيدي من الصحفة شيئاً منه فلطخت به وجهها، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركبتيه لتستقيد مني، فتناولت من الصفحة شيئاً فمسحت به وجهي! وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضحك([53]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يمازح أصحابه، ويتطلف معهم في مزاحه، ومما روي في ذلك أن عجوزا قصدته، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم:(يا أم فلان، إنّ الجنة لا يدخلها عجوز!)، فبكت المرأة، لأنها أخذت الكلام على ظاهره، فأفهمها صلى الله عليه وآله وسلم أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزاً، بل شابة حسناء، وتلا عليها قول الله تعالى في نساء الجنة:{ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرباً أتراباً } (الواقعة: 35 ـ37)([54])
وجاء رجل يسأله أن يحمله على بعير، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم:(لا أحملك إلا على ولد الناقة!) فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة؟! ـ انصرف ذهنه إلى الحُوار الصغير ـ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(وهل تلد الإبل إلا النوق؟)([55])
ويروى أن أم أيمن جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: إن زوجي يدعوك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( ومن هو؟.. أهوالذي بعينه بياض([56])؟)، قالت: والله ما بعينه بياض! فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(بلى إنّ بعينه بياضاً)، فقالت: لا، والله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من أحد إلا بعينه بياض)([57])
قال بات روبرتسون: ولكن الإسلام مع ذلك يحرم الغناء.. مع أن النفس الشريفة ترغب فيه.
قال بات روبرتسون: النفس الشريفة والنفس الخبيثة ترغب فيه.. فلذلك أباح الإسلام ما تطلبه النفس الطيبة، ونهى عما تطلبه النفس الخبيثة.
لقد تعامل الإسلام مع الغناء كما تعامل مع الطعام والشراب وكل شيء.. فأباح الطيبات وحرم الخبائث.. وهو لم يحرمها لأجل ما فيها من متعة، وإنما حرمها لأجل ما فيها من ضرر.. فالإسلام لا يضاد الرغبات التي لا تعقب ألما..
لقد نص الله تعالى على قاعدة هذا، فقال:{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (لأعراف:32)
قال بات روبرتسون: ولكن الفقهاء يخالفونك في كل ذلك؟
قال الحكيم: ديننا نأخذه من نبينا قبل أن نأخذه من أقوال الفقهاء.. بل إن أقوال الفقهاء نحاكمها إلى أحاديث نبينا، فإن وافقته قبلناها، وإلا رفضناها.
***
بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (نيقتاس البيزنطي) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..
التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.
أما أنا..
فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه
وآله وسلم.
([1]) أشير هنا إلى قسيس إنجيلي يُدعى (بات روبرتسون)، وهو معروف باهتماماته السياسية، وتأييده المطلق لإسرائيل، وهو يمتلك عددا من المؤسسات الإعلامية، من بينها ( نادي الـ 700 ) وهو برنامج تلفزيوني يصل إلى عشرات الملايين في الولايات المتحدة، إضافة إلى محطة (البث النصراني) الفضائية التي تصل إلى 90 دولة في العالم بأكثر من 50 لغة، ومنها إذاعة الشرق الأوسط المتخصصة في التنصير في منطقة العالم العربي، وقد سعى إلى الترشيح لمنصب الرئيس الأمريكي عام 1988م، ويقف خلف إنشاء أقوى تحالف سياسي ديني في الحزب الجمهوري وهو التحالف النصراني، وهو يملك جامعة أصولية هي جامعة (بجينت pegent ) وقد ألقى كلاما قبيحا في برنامج ( هانتي وكولمز hannity & colmes ) والذي بثته قناة ( FOX NEWS ) حيث قال:( كان ـ أي محمد ـ مجرد متطرف ذو عيون متوحشة تتحرك عبثا من الجنون).. وقوله هذا هو الذي جعلنا نختاره لهذا الفصل.
([2]) الكلام بين قوسين للقسيس (بات روبرتسون)، وقد ذكره في برنامج ( هانتي وكولمز hannity & colmes ) والذي بثته قناة ( FOX NEWS )
([3]) ذكرنا هذا مراعاة للجانب الفني، أما الحقيقة، فهي أن أجساد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ لا يأكلها التراب، وقد ورد في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، فقال رجل: يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ ـ يعنى بليت ـ فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) رواه أحمد والدارمي وابن ماجة والنسائي.. وغيرهم.
([4]) ولهذا يرد في القرآن الكريم ارتباط العذاب باسم الرحمن.. كما قال تعالى على لسان إبراهيم u:{ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} (مريم:45)
فقد ذكر إبراهيم u الرحمن، ولم يقل الجبار ولا القهار، للدلالة على أن العذاب لا يتنافى مع الرحمة الإلهية، كما لا يتنافى الكي أو الحقنة أو الدواء المر إذا وضعت في مواضعها التي تقتضيها حكمة الجسم مع رحمة الطبيب.
ولذلك قال تعالى: { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} (يّـس:23)، فقد نسب إرادة الضر إلى الرحمن ليدل على أن هذا الضرر في حقيقته رحمة، اقتضاه التدبير الإلهي.
ومثل ذلك قوله تعالى:{ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} (مريم:69)، وقال تعالى:{ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً} (مريم:75)
انظر التفاصيل الدالة على هذا في رسالة (أسرار الأقدار)
([5]) انظر: قصة الحضارة 14: 365.
([6]) فالسواك من السنن التي وردت بها النصوص الكثيرة، بل ربطه صلى الله عليه وآله وسلم بالعبادات، فقال:( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة)( البخاري ومسلم)، وفي رواية:« عند كل وضوء »
([7]) رواه البخاري ومسلم.
([8]) رواه أحمد والديلمي.
([9]) رواه الطبراني في الأوسط.
([10]) رواه الطبراني.
([11]) رواه أحمد.
([12]) رواه ابن مردويه.
([13]) رواه البخاري ومسلم.
([14]) رواه مسلم.
([15])أي بين الطول والقصر.
([16])رواه مسلم.
([17]) رواه أبو نعيم وأبو يعلى وابن عساكر.
([18])المتنطعون: المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد.
([19]) رواه مسلم.
([20]) يقال للرجل إذا انقطع به في سفره وعطبت راحلته: قد انبت، من البت: القطع، وهو مطاوع بت يقال: بته وأبته. (النهاية: 1/92)
([21]) رواه البزار، وفي رواية عن عبد الله بن عمرو قال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فان المنبت لا بلغ بعدا، ولا أبقى ظهرا، واعمل عمل امرئ يظن أن لا يموت إلا هرما، واحذر حذر امرئ يحسب أنه يموت غدا) رواها ابن عساكر.
([22]) وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، إن الله بعثني بالحنيفية السمحة دين ابراهيم، ثم قرأ:{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(الحج:78)) رواه الحاكم.
([23]) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية:( اقرأ والشمس وضحاها، والضحى، والليل إذا يغشى، وسبح اسم ربك الأعلى)
([24]) ومعنى لا يمل الله أي: لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم، ويعاملكم معاملة المال حتى تملوا فتتركوا، فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم.
([25]) رواه البخاري ومسلم.
([26]) رواه البخاري ومسلم.
([27]) رواه أحمد ورجاله موثقون.
([28]) رواه البخاري ومسلم.
([29]) رواه البخاري.
([30])رواه البخاري ومسلم.
([31]) رواه مسلم.
([32]) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
([33])القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما ، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به (شرح مسلم 16 / 97 )
([34]) رواه مسلم.
([35]) سنرى التفاصيل المرتبطة باليهود وعلاقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم في فصل (حروب) من هذه الرسالة.
([36])لا يهلك غيرها.
([37])هذه النفقة في الحرب خاصة، شرط عليهم المعاونة له على عدوه، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يسهم لليهود إذا غزوا مع المسلمين لهذا الشرط الذي شرط عليهم من النفقة، ولولا هذا لم يكن لهم في غنائم المسلمين سهم.
([38]) هذه المعاهدة ورد ذكرها في كتاب الأموال لأبي عبيد ص 292 – 295 والأموال لابن زنجويه 2 / 466 – 470 وسيرة ابن هشام 2 / 92 والروض الأنف 4 / 293 ومجموعة الوثائق السياسية من ص 41 – 50.
([39]) انظر تفاصيل الخيانة وآثارها في فصل (حروب) من هذه الرسالة.
([40]) رواه البخاري.
([41])قال القرطبي في المفهم: فعل صلى الله عليه وآله وسلم ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق، وقال القاضي عياض: هذا الحديث أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ جميع الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين وإن اختلفوا في صور الأخذ به.
قال النووي عند شرحه لهذا الحديث: وفي هذا دليل لصحة يمين الكافر والفاسق واليهودي (انظر: شرح مسلم 11 / 147)
([42]) رواه أحمد والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
([43]) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في سائر الرسائل، وخاصة (رحمة للعالمين)
([44]) رواه البخاري.
([45]) رواه أحمد.
([46]) رواه البخاري في الأدب، وأبو داود والحاكم.
([47]) رواه ابن ماجة.
([48]) رواه أبو داود والحاكم والنسائي.
([49])أي بدا عليه الأسى.
([50]) رواه أبو داود.
([51]) رواه أحمد.
([52]) ) البيهقي.
([53]) ) أبو يعلى.
([54]) ) الترمذي.
([55]) ) الترمذي.
([56]) ) أراد به البياض المحيط بالحدقة.
([57]) ) ابن أبي الدنيا.