ثامنا ـ انتصارات

في اليوم الثامن..
بقيت أنتظر بولس كعادتي، لنذهب للتداريب التي بدأتها معه، وقد كنت أتصور مجيئه بنشاطه المعتاد، وبهمته العالية التي لا يؤثر فيها شيء، ولكنه لم يأت.
بعد مدة جاءني السائق، وقال لي: إن حضرة القس يعتذر إليك عن مجيئه اليوم، فلديه بعض الشؤون الخاصة، ولذا، فقد طلب مني أن أصطحبك حيث تشاء.
لم أشأ أن أرهق السائق معي، فلذلك أذنت له في الانصراف، وأخبرته بأني سأكتفي بالسير في شوارع المدينة.
لم يصعب علي حينها معرفة المحل الذي سأجد فيه بولس، إنه نفس المحل الذي تخفى فيه اليوم السابق..
ولكني لم أكن أعلم أن بولس يحمل هو الآخر أنوارا من أشعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توشك أن تضمه إلى دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم..
لقد كنت أتصوره يتسلل إلى القوم ليتجسس عليهم، ولعله يقتنص منهم ما يستخدمه سلاحا ضدهم، وهذا ما أكده لي صحبتي له لليومين التاليين لذلك اليوم.. ولكني عرفت بعد ذلك أن الرجل كان يلقي ما بقي لديه من قنابل، ليرفع بعدها الراية البيضاء.
في محل المستضعين اخترت مجلسا أتمكن فيه من سماع عبد القادر، ورؤية بولس، في نفس الوقت، من غير أن يلتفت أحد لذلك.
كان الجمع في ذلك اليوم قد تضاعف مقارنة بالأيام السابقة، وكانت تكسو وجوههم همة لم تكن تكسوها من قبل.
بدأ عبد القادر حديثه، فقال: لقد طلبتم مني الحديثة عن معجزة انتصار الإسلام في تلك البيئة وذلك الزمان.. إنها معجزة بكل المقاييس، وفي فترة قياسية نادرة، بل لم يحصل في التاريخ مثلها.
وهي درس بليغ لكل من يريد أن يخرج من كهوف الاستضعاف والذلة والمهانة.
لقد تحقق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما وعده الله به من نصرة كما قال تعالى:{ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40)
وهذه سنة الله مع عباده الذين ينصرونه من المرسلين وغيرهم، كما قال تعالى:{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} (الأنعام:34)، وقال تعالى:{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف:110)، وقال تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم:47)، وقال تعالى:{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر:51)
وسأذكر لكم نوعين من الجنود نصر الله بهما نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه الذين تترسوا بكل أنواع الأسلحة.
أما النوع الأول.. فهم جنود السماء.
وجنود السماء هم الملائكة الذين أمد الله بهم رسوله عندما احتاج إلى مدد يمد به جنوده من الصحابة
ففي الحديث: لما كان في يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف، بربه يقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام لاتعبد في الارض)، فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه.. فأنزل الله تعالى:{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (لأنفال:9)، فأمده الله تعالى بالملائكة([1]).
وقد ذكر الكثير ممن حضر غزوة بدر مشاهدتهم للملائكة ـ عليهم السلام ـ التي نزلت لتنصرهم، ومجموع هذه الروايات يفيد القطع بنزولهم كما وعد الله تعالى:
فعن علي قال: بينما أنا أمتح من قليب بدر جاءت ريح شديدة ما رأيت مثلها قط، ثم ذهبت، ثم جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح شديدة، قال: فكانت الريح الاولى جبريل صلى الله عليه وآله وسلم، نزل في ألف من الملائكة، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما هزم الله تعالى أعداءه حملني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فرسه، فجمزت بي، فلما جمزت خررت على عنقها فدعوت ربي فأمسكني، فلما استويت عليها طعنت بيدي هذه في القوم حتى خضبت هذا، وأشار إلى إبطه ([2]).
وعن ابن عباس عن رجل من بني غفار قال: حضرت أنا وابن عم لي بدرا، ونحن على شركنا، فإنا لفي جبل ننظر الوقعة على من تكون الدبرة فننتهب، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الجبل سمعنا فيها حمحمة وسمعنا فيها فارسا يقول: أقدم حيزوم، فأما صاحبي فانكشف قناع عليه، فمات، وأما أنا فكدت أهلك، ثم انتعشت بعد ذلك([3]).
وعن أبي رهم الغفاري عن ابن عم له قال: بينا أنا وابن عم على ماء ببدر فلما رأينا قلة من مع محمد وكثرة قريش قلنا: إذا التقت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد وأصحابه فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحابه، ونحن نقول: هؤلاء ربع قريش، فبينا نحن نمشي في الميسرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا فرفعنا أبصارنا إليها، فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا رجلا يقول لفرسه: أقدم حيزوم، وسمعناهم يقولون: رويدا تتام أمراكم.
فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جاءت أخرى مثل ذلك، فكانت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فإذا هم على الضعف من قريش، فمات ابن عمي، وأما أنا فتماسكت، وأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأسلمت.
وعن ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه، كضربة السوط، فاخضر ذلك الموضع أجمع، فجاء الانصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (صدقت، ذلك مدد من السماء الثالثة)([4])
وعن أبي سفيان بن الحارث قال: لقينا يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والارض([5]).
وعن سهيل بن حنيف قال: لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى رأس المشرك، فيقع رأسه قبل أن يصل إليه([6]).
وعن الربيع بن أنس قال: كان الناس يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوه بضرب فوق الاعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد احترق([7]).
عن سهيل بن عمرو قال: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والارض، معلمين، يقتلون ويأسرون ([8]).
وعن خارجة بن إبراهيم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل: من القائل يوم بدر من الملائكة: أقدم حيزوم؟ فقال جبريل: ما كل أهل السماء أعرف([9]).
وعن حكيم بن حزام قال: لقد رأيتنا يوم بدر، وقد وقع بوادي خلص بجاد من السماء قد سد الافق، فإذا الوادي يسيل نملا فوقع في نفسي أن هذا شئ أيد به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما كانت إلا الهزيمة، وهي الملائكة([10]).
وعن السائب بن أبي حبيش أنه كان يقول: والله ما أسرني أحد من الناس، فيقال: فمن؟ فيقول: لما انهزمت قريش انهزمت معها، فيدركني رجل أبيض طويل على فرس أبلق بين السماء والارض، فأوثقني رباطا، وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا، فنادى في العسكر: من أسر هذا؟ فليس أحد يزعم أنه أسرني، حتى انتهى بي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا بن أبي حبيش من أسرك؟)، فقلت: لا أعرفه، وكرهت أن أخبره بالذي رأيت، فقال: (أسرك ملك من الملائكة)([11])
وعن أبي بردة بن نيار قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر بثلاثة رؤوس، فقلت له: يا رسول الله، أما رأسان فقتلتهما، وأما الثالث فإني رأيت رجلا أبيض طويلا ضربه، فأخذت رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذاك فلان من الملائكة)([12])
وعن ابن عباس قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس يثبتونهم، فيقول: إني قد دنوت منهم وسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا، ليسوا بشئ، إلى غير ذلك من القول([13]).
وعن ابن جبير بن مطعم قال: رأيت قبل هزيمة القوم، والناس يقتتلون، مثل البجاد الاسود مبثوث، حتى امتلا الوادي، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم([14]).
وعن أبي واقد الليثي قال: إني لاتبع يوم بدر رجلا من المشركين لاضربه فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن غيري قتله([15]).
وعن أبي دارة قال: حدثني رجل من قومي من بني سعد بن بكر قال: إني لمنهزم يوم بدر إذ أبصرت رجلا بين يدي منهزما، فقلت: ألحقه، فأستأنس به، فتدلى من جرف ولحقته، فإذا رأسه قد زايله ساقطا، وما رأيت قربه أحدا([16]).
وقد كان هذا التنزل مبعث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعن عطية بن قيس قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قتال بدر جاء جبريل على فرس أنثى أحمر، عليه درعه، ومعه رمحه، فقال: يا محمد، إن الله بعثني إليك وأمرني ألا أفارقك حتى ترضى، هل رضيت؟ قال: (نعم، رضيت، فانصرف)([17])
وعن جابر قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة بدر إذ تبسم في صلاته، فلما قضى صلاته قلنا: يا رسول الله رأيناك تبسمت، قال: (مر بي ميكائيل وعلى جناحه أثر الغبار، وهو راجع من طلب القوم، فضحك إلي، فتبسمت إليه)([18])
وكما وعد المؤمنون بأن يمدوا بالملائكة، وحصل ما وعدوا به، فقد وعد الشيطان أولياءه من المشركين بأن يمدهم بقوته، ولكنه نكل وخالف.
فعن ابن عباس قال: أمد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف، فكان جبريل في خمسمائة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة، وجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم.
وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه ـ وكانت يده في يد رجل من المشركين ـ انتزع إبليس يده، ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة، ألست تزعم أنك جار لنا، فقال: إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب.
فذلك حين رأى الملائكة، فتشبث به الحارث بن هشام، وأسلم بعد ذلك، وهو يرى أنه سراقة لما سمع كلامه، فضرب الشيطان في صدر الحارث فسقط الحارث، وانطلق إبليس لا يلوي، حتى سقط في البحر، ورفع يديه وقال: يا رب، موعدك الذي وعدتني، اللهم إني أسألك نظرتك إياي.
وخاف أن يخلص إليه القتل، فقال أبو جهل: يا معشر الناس لا يهمنكم خذلان سراقة، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهمنكم قتل عتبة وشيبة، فإنهم قد عجلوا، فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه بالحبال، ولا ألفين رجلا منكم قتل رجلا منهم، ولكن خذوهم أخذا حتى نعرفهم سوء صنعيهم([19]).
ويروى أنهم رأوا سراقة بمكة بعد ذلك فقالوا له: يا سراقة أخرمت الصف، وأوقعت فينا الهزيمة، فقال: والله ما علمت بشئ من أمركم حتى كانت هزيمتكم، وما شهدت وما علمت، فما صدقوه حتى أسلموا، وسمعوا ما أنزل الله تعالى فيه، فعلموا أنه كان إبليس تمثل لهم.
أما النوع الثاني، فهو جنود الأرض..
وهم جنود كثيرون جدا.. فكل ما خلق الله من أشياء جند من جند الله { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } (المدثر: 31)
ومن هذه الجنود الريح.. وهي التي نصر الله بها هودا u على قومه، حين أرسل عليهم ريحا باردة كبرودة قلوبهم، في أيام مشؤومات كشؤم نفوسهم مقابلة لهم على تشاؤمهم من نبيهم u، وتحقيا لطلبهم، قال تعالى:{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} (فصلت:16)
وكانت الريح قد جاءتهم بصورة يحبونها فانتهضوا مستبشرين يصيحون هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، فأجابهم هود u بلسان العارف بربه:{ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الأحقاف:24)
وقد أمد الله نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بجند الريح يوم تحزبت الأحزاب تبغي استئصال شأفة المسلمين، قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } (الأحزاب:9)، فالريح من الجنود المرئية، وغيرها من الجنود غير المرئية.
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا النوع من الجند، فقال: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)([20])
وقد روي بأسانيد كثيرة كيفية ذلك:
فعن سعيد بن جبير قال: لما كان يوم الخندق أتى جبريل ومعه الريح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رأى جبريل: (ألا أبشروا) ثلاثا، فأرسل الله تعالى عليهم الريح، فهتكت القباب، وكفأت القدور، ودفنت الرجال، وقطعت الاوتاد، فانطلقوا لا يلوي أحد على أحد، وأنزل الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الأحزاب:9)([21])
وعن قتادة قال: بعث الله تعالى عليهم الريح والرعب كلما بنوا قطع الله أطنابه، وكلما ربطوا دابة قطع الله رباطها، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، حتى لقد ذكر لنا: أن سيد كل حي يقول: يا بني فلان، هلم إلي حتى إذا اجتمعوا عنده قال: (النجاة النجاة، أتيتم) لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب([22]).
قال البلاذري: ثم إن الله تعالى نصر المسلمين عليهم بالريح، وكانت ريحا صفراء فملأت عيونهم، فداخلهم الفشل والوهن وانهزم المشركون، وانصرفوا إلى معسكرهم، ودامت عليهم الريح، وغشيتهم الملائكة تطمس أبصارهم، فانصرفوا { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} (الأحزاب:25)
وقد ذكر شاهد عيان ما رآه من فعل الريح بهم، فعن حذيفة بن اليمان وقد قال له بعض جلسائه من التابعين: أما والله لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا([23])، فقال حذيفة: لا تتمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الاحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحا منها، وفي أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون:{ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ}(الأحزاب: 13)، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون، ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك.
فاستقبلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا رجلا، يقول: ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة ـ وفي لفظ: جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة ـ فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله.
فقال أبو بكر: يا رسول الله ابعث حذيفة، فقلت: دونك والله، فمر علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرطا لامرأتي ما يجاوز ركبتي، قال: فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال: (من هذا؟)، فقلت: حذيفة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حذيفة)، قال حذيفة: فتقاصرت للأرض، فقلت: بلى يا رسول الله، كراهية أن أقوم، قال: (قم)، فقمت، فقال: (إنه كائن في القوم خبر، فأتني بخبر القوم)
فقلت: والذي بعثك بالحق، ما قمت إلا حياء منك من البرد، قال: (لا بأس عليك من حر ولا برد حتى ترجع إلي)
قال: وأنا من أشد الناس فزعا وأشدهم قرا، فقلت: والله ما بي أن أقتل، ولكن أخشى أن أوسر، فقال: (إنك لن تؤسر)، قال: فخرجت، فقال: (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته)
قال: فوالله ما خلق الله تعالى في جوفي فزعا ولا قرا إلا خرج، فما أجد فيه شيئا، فمضيت كأنما أمشي في حمام، فلما وليت، دعاني فقال: (يا حذيفة، لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني)([24])
فقال حذيفة: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته، وحوله عصبة، قد تفرق عنه الاحزاب، وهو يقول: الرحيل الرحيل.
ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش، فوضعته في كبد القوس لأرميه في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تحدثن في القوم شيئا، حتى تأتيني)، فأمسكت ورددت سهمي.
فلما جلست فيهم أحس أبو سفيان أن قد دخل فيهم غيرهم، فقال: يأخذ كل رجل منكم بيد جليسه، فضربت بيدي على يد الذي عن يميني، فأخذت بيده، فقلت: من أنت؟ قال: معاوية بن أبي سفيان، ثم ضربت بيدي على يد الذي عن شمالي، فقلت: من أنت؟ قال: عمرو بن العاص، فعلت ذلك خشية أن يفطن بي، فبدرتهم بالمسألة، ثم تلبثت فيهم هنيهة.
وأتيت بني كنانة وقيسا، وقلت ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم دخلت في العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر، ونادى عامر بن علقمة بن علاثة: يا بني عامر، إن الريح قاتلتي وأنا على ظهر، وأخذتهم ريح شديدة، وصاح بأصحابه.
فلما رأى ذلك أصحابه جعلوا يقولون: يا بني عامر، الرحيل الرحيل، لا مقام لكم.
وإذا الريح في عسكر المشركين ما تجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إني لاسمع صوت الحجارة في رحالهم، وفرشهم والريح تضرب بها، فلما دنا الصبح نادوا: أين قريش؟ أين رؤوس الناس؟ فقالوا: أيهات، هذا الذي أتينا به البارحة، أين كنانة؟ فقالوا: أيهات، هذا الذي أتيتا به البارحة، أين قيس؟ أين أحلاس الخيل؟ فقالوا: أيهات، هذا الذي أتينا به البارحة.
فلما رأى ذلك أبو سفيان أمرهم بأن تحملوا فتحملوا، وإن الريح لتغلبهم على بعض أمتعتهم حتى رأيت أبا سفيان وثب على جمل له معقول، فجعل يستحثه ولا يستطيع أن يقوم، حتى حل بعد.
ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما انتصف بي الطريق، أو نحو ذلك إذا أنا بعشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين، قالوا: أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم بالجنود والريح.
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر، وجعلت أقرقف، فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده، وهو يصلي، فدنوت منه، فسدل علي من فضل شملته ـ وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزبه أمر صلى ـ فأخبرته خبر القوم، وأني تركتهم يرحلون، فلم أزل نائما حتى جاء الصبح فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قم يا نومان)([25])
ومن هؤلاء الجنود المطر..
فالمطر هو الذي نصر الله به عبده نوحا u حين صاح:{ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} (القمر: 10)، فأجابه ربه، فقال:{ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} (القمر:11)
وقد أنزل الله هذا الجند من المطر على المؤمنين في أول غزوة كانت فرقانا بين الحق والباطل، قال تعالى:{ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} (الأنفال:11)
فقد ذكر تعالى أنّه أنزل المطر على المؤمنين لأربعة أسباب: للتطهير من الحدث، ولإذهاب وسوسة الشيطان، ولتثبيت القلوب([26])، ولتلبيد الأرض الرملية في بدر لتثبت عليها أقدام المؤمنين في سيرهم.
وكان نزول المطر سبباً في إذهاب وسوسة الشيطان الذي أراد به تثبيط المؤمنين عن القتال بعد احتلامهم بالليل حيث كانوا يصلون مجنبين، فحين نزول المطر وجد الماء الذي اغتسلوا به من الجنابة، وأذهب الله بذلك رجز الشيطان.
قال ابن سعد: وكانت بنو عدي بن كعب مع النفير، فلما بلغوا ثنية لفت عدلوا في السحر إلى الساحل منصرفين إلى مكة، فصادفهم أبو سفيان بن حرب فقال: يا بني عدي، كيف رجعتم، لافي العير ولافي النفير؟ قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع ويقال: بل لقيهم بمر الظهران، ومضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل وبطن الوادي، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بينهم وبين الماء رحلة.
وغلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء، فظمئ المسلمون، وأصابهم ضيق شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس إليهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسول الله وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مخبتين، فأنزل الله تعالى تلك الليلة مطرا كثيرا فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهرهم الله به، وأذهب عنهم رجز الشيطان، ووطأ به الارض، وصلب الرمل، وثبت الاقدام، ومهد به المنزل، وربط به على قلوبهم، ولم يمنعهم من السير، وسال الوادي فشرب المؤمنون، وملأوا الاسقية، وسقوا الركاب، واغتسلوا من الجنابة.
وهو من جنود الله التي تثبت القلوب، وتعيد إلى النفس هدوءها، وإلى الجسد قوته، قال تعالى في ذكر نعمته على المؤمنين يوم بدر:{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ } (لأنفال: 11)
فقد أصاب المسلمين تلك الليلة نعاس ألقي عليهم فناموا، حتى أن أحدهم ذقنه بين يديه، وما يشعر حتى يقع على جنبه.
فعن علي قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح([27]).
وعن قتادة قال: كان النعاس أمنة من الله، وكان النعاس نعاسين: نعاس يوم بدر، ونعاس يوم أحد، وكانت ليلة الجمعة، وبين الفريقين قوز من الرمل([28]).
يقول سيد قطب مبينا سر هذا الجندي المؤثر من جنود الله: (ما قصة النعاس الذي غشي المسلمين قبل المعركة فهي قصة حالة نفسية عجيبة، لا تكون إلا بأمر الله وقدره وتدبيره.
لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلة في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه ولم يتخذوا له عدته، فإذا النعاس يغشاهم، ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم؛ والطمأنينة تفيض على قلوبهم، وهكذا كان يوم أحد، تكرر الفزع، وتكرر النعاس، وتكررت الطمأنينة)
ثم حدث عن نفسه، فقال: (وقد كنت أمر على هذه الآيات، وأقرأ أخبار هذا النعاس، فأدركه كحادث وقع، يعلم الله سره، ويحكي لنا خبره، ثم إذا بي أقع في شدة، وتمر عليّ لحظات من الضيق المكتوم، والتوجس القلق، في ساعة غروب، ثم تدركني سنة من النوم لا تتعدى بضع دقائق، وأصحوا إنساناً جديداً غير الذي كان، ساكن النفس، مطمئن القلب، مستغرقاً في الطمأنينة الواثقة العميقة.. كيف تم هذا؟ كيف وقع هذا التحول المفاجئ؟ لست أدري! ولكني بعدها أدرك قصة بدر وأُحد.. أدركها في هذه المرة بكياني كله لا بعقلي، وأستشعرها حية في حسي لا مجرد تصور، وأرى فيها يد الله وهي تعمل عملها الخفي المباشر، ويطمئن قلبي.
لقد كانت هذه الغشية، وهذه الطمأنينة، مدداً من أمداد الله للعصبة المسلمة يوم بدر)([29])
وهو جند من جند الله، وقد أنزله الله تعالى على من يتجرأ على حرب المؤمنين، قال تعالى:{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} (آل عمران:151)
وقال تعالى:{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (لأنفال:12)
وقال تعالى:{ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} (الأحزاب:26)
وقال تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر:2)
وقد ورد في السيرة الكثير من الأحداث التي أمد الله فيها المؤمنين بهذا النوع من الجند ليقضوا به على عدوهم:
فمن ذلك ما ذكره محمد بن عمر عن شيوخه، قال: لما تفرق المشركون عن الخندق خافت بنو قريظة خوفا شديدا، وقالوا: محمد يزحف الينا، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بقتالهم حتى جاءه جبرئيل يأمره به.
وكان ذلك الخوف هو سبب هزيمتهم من غير قتال.
ومن ذلك ما روي عن قتادة قال: بعث الله تعالى عليهم الريح والرعب كلما بنوا قطع الله أطنابه، وكلما ربطوا دابة قطع الله رباطها، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، حتى لقد ذكر لنا: أن سيد كل حي يقول: يا بني فلان، هلم إلي حتى إذا اجتمعوا عنده قال: (النجاة النجاة، أتيتم) لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب([30]).
ومن ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بنفر من بني النجار بالصورين فيهم حارثة بن النعمان قد صفوا عليهم السلاح فقال: (هل مر بكم أحد؟) قالوا: نعم، دحية الكلبي مر على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من استبرق وامرنا بحمل السلاح سلاحنا فأخذنا وصففنا، وقال لنا: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطلع عليكم الآن، قال حارثة بن النعمان: وكنا صفين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة ليزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم)([31])
ومن ذلك الرعب الذي قذفه الله تعالى في قلوب جواسيس المشركين في غزوة حنين، ففي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد انتهى إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوال، وبعث مالك بن عوف ثلاثة نفر من هوازن ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وأمرهم أن يتفرقوا في العسكر فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ويلكم ما شأنكم، فقالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، والله ما نقاتل أهل الارض، إن نقاتل إلا أهل السماوات وإن اطعتنا رجعت بقومك، فان الناس إن رأوا مثل الذي رأينا أصابهم مثل ما أصابنا.
فقال: أف لكم، أنتم أجبن أهل العسكر، فحبسهم عنده فرقا أن يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال: دلوني على رجل شجاع، فاجمعوا له على رجل، فخرج ثم رجع إليه قد أصابه كنحو ما أصاب من قبلة منهم، فقال: ما رأيت؟ قال: رأيت رجالا بيضا على خيل بلق، ما يطاق النظر إليهم، فو الله ما تماسكت أن أصابني ما ترى، فلم يثن ذلك مالكا عن وجهه([32]).
ومن ذلك ما روي من الرعب الذي أنزل يوم حنين:
فعن يزيد بن عامر السوائي وكان حضر يوم غزوة حنين، فسئل عن الرعب فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست، فيطن فيقول: أن كنا نجد في أجوافنا مثل هذا([33]).
وعن مالك بن أوس بن الحدثان قال: حدثني عدة من قومي شهدوا ذلك اليوم يقولون: (لقد رمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك الرمية من الحصى فما منا أحد إلا يشكو القذى في عينيه، ولقد كنا نجد في صدورنا خفقانا كوقع الحصى في الطاس ما يهدأ ذلك الخفقان، ولقد رأينا يومئذ رجالا بيضا، على خيل بلق، عليهم عمائم حمر، قد أرخوها بين أكتافهم، بين السماء والارض كتائب كتائب ما يليقون شيئا، ولا نستطيع أن نتاملهم من الرعب منهم)
وعن ربيعة بن أبزي قال: حدثنى نفر من قومي، حضروا يومئذ قالوا: كمنا لهم في المضايق والشعاب، ثم حملنا عليهم حملة، ركبنا أكتافهم حتى انتهينا إلى صاحب بغلة شهباء، وحوله رجال بيض حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا.
فانهزمنا، وركب المسلمون أكتافنا، وكانت إياها، وجعلنا نلتفت وإنا لننظر إليهم يكدوننا فتفرقت جماعتنا في كل وجه، وجعلت الرعدة تستخفنا حتى لحقنا بعلياء بلادنا، فان كنا ليحكى عنا الكلام ما ندري به، لما كان بنا من الرعب، وقذف الله تعالى الاسلام في قلوبنا.
وعن شيوخ من ثقيف أسلموا بعد ما كانوا حضروا ذلك اليوم قالوا: ما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طلبنا فيما نرى، ونحن مولون حتى إن الرجل ليدخل منا حصن الطائف وإنه ليظن أنه على أثره من رعب الهزيمة.
***
ما وصل عبد القادر من حديثه إلى هذا الموضع حتى ارتفعت تكبيرات الجماعة الملتفة حوله، وأعلن الكثير منهم إسلامه.
تقدم أحدهم، وقال: لقد نفخت فينا كلماتنا من روح العزة والهمة ما كنا نفتقده، وقد أيقنا أن النصر من الله، وأن من ينصر الله لا بد أن ينتصر لا محالة.
وقال آخر: لقد كان قومنا يسموننا منبوذين، وقد ظللنا دهرنا نعاني هذا النبذ، ولا نرى لنا من مخرج من هذا النبذ إلا أن نتمسك بالعزة التي يملؤنا بها هذا الدين.
وقال آخرون كلاما قريبا من هذا.
لم نجد أنا وبولس إلا أن ننصرف، ومعي بصيص جديد من النور،
اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
([1]) رواه ابن أبي شيبة والامام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم.
([2]) رواه أبو يعلى والحاكم والبيهقي.
([3]) رواه إسحاق وابن جرير.
([4]) رواه مسلم وابن مردويه.
([5]) رواه إبراهيم الحربي.
([6]) رواه الحاكم وصححه البيهقي وأبو نعيم.
([7]) رواه البيهقي.
([8]) رواه البيهقي وابن عساكر.
([9]) رواه البيهقى.
([10]) رواه البيهقي.
([11]) رواه البيهقي.
([12]) رواه محمد بن عمر الاسلمي والبيهقي.
([13]) رواه البيهقي.
([14]) رواه ابن راهويه وأبو نعيم والبيهقي بسند حسن.
([15]) رواه ابن إسحاق والبيهقي.
([16]) رواه أبو نعيم.
([17]) رواه ابن سعد وأبو الشيخ.
([18]) رواه أبو يعلى.
([19]) رواه الطبراني عن رفاعة بن رافع، وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه، عن ابن عباس.
([20]) رواه البخاري ومسلم.
([21]) رواه ابن سعد.
([22]) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
([23]) وفي رواية: فقال رجل: لو أدركت رسول الله r لقاتلت معه وأبليت.
([24]) وقد ورد في رواية أخرى ذكر سبب هذا الإرسال، وهو التفريق بين الأحزاب، فقد ورد فيها: فقلت: يا رسول الله مرني بما شئت، فقال r:« اذهب حتى تدخل بين ظهري القوم، فأت قريشا، فقل: يا معشر قريش، إنما يريد الناس إذا كان غدا أن يقولوا: أين قريش؟ أين قادة الناس؟ أين رؤوس الناس؟ فيقدموكم، فتصلوا القتال فيكون القتل فيكم، ثم ائت بني كنانة فقل: يا معشر بني كنانة، إنما يريد الناس إذ كان غدا أن يقولوا: أين بني كنانة؟ أين رماة الحدق فيقدموكم، فتصلوا القتال، فيكون القتل فيكم، ثم ائت قيسا فقل: يا معشر قيس، إنما يريد الناس إذا كان غدا أن يقولوا: أين قيس؟ أين أحلاس الخيل؟ أين الفرسان؟ فيقدموكم، فتصلوا القتال، فيكون القتل فيكم »
([25]) رواه الحاكم وصححه ابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طرق عن حذيفة ومسلم، وابن عساكر عن إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه، وابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي، وأبو نعيم مختصرا عن ابن عمر.
(([26]) أثبت العلم الحديث أن عضلات القلب عبارة عن ألياف عضلية في شكل خيوط طولية وعرضية تلف القلب، فإذا أفرزت مادة (الأدرينالين) عملت على ارتخاء عضلات القلب، وبالتالي ترتخي تلك الألياف والحبال العضلية، كما تعمل على ارتعاش الأطراف، وقد وجد أن من أسرع الوسائل لتخفيض مادة (الأدرينالين) هو أن يرش الجسم بالماء، فيربط على القلب بتلك الحبال العضلية بانقباض العضلات، ويزول الارتخاء، كما تثبت الأقدام من ارتعاشها، كما قال تعالى: ﴿.. وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ(11)﴾ (الأنفال:11)انظر: بينات الرسول، عبد المجيد الزنداني.
([27]) رواه أبو يعلى والبيهقي في الدلائل.
([28]) رواه عبد بن حميد.
([29]) في ظلال القرآن.
([30]) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
([31]) رواه الحاكم، والبيهقي وأبو نعيم.
([32]) رواه أبو نعيم والبيهقي.
([33]) رواه عبد بن حميد، والبيهقي.