ثامنا ـ المفكرون

ثامنا ـ المفكرون

فتحت دفتر الغريب على فصله الثامن، فوجدت عنوانه (المفكرون)، فقلت: أليس المفكرون هم العلماء؟

قال: لا يكون العالم عالما حتى يكون مفكرا.

قلت: فقد تحدثنا عن العلماء.

قال: أولئك هم الذين انصرف تفكيرهم إلى العمران.

قلت: والمفكرون؟

قال: من انصرف تفكيرهم إلى الإنسان.

قلت: تقصد العلماء بالعلوم الإنسانية.

قالت: يمكنك أن تقول ذلك، ويمكن أن يمزج هؤلاء بين علوم العمران وعلوم الإنسان.

قلت: فكيف يهتدي هؤلاء إلى الإسلام؟

قال: يهديهم الله بواسطة عقولهم التي لم يضيعوها.

قلت: أعلم أن الفكر يحتل في الإسلام منزلة رفيعة، فلا يعبد الله بأفضل من الفكر، بل إن الله تعالى حث العقول على استعمال الفكر للتعرف على حقيقة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال تعالى:{ قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ } (الأنعام:50)، وقال تعالى:{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (لأعراف:184)، وقال تعالى:{  بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:44)، وقال تعالى:{  قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سـبأ:46)، وقال تعالى:{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21)

قال: العبرة بالفكر الصادق.. لا بأي فكر.

قلت: ماذا تعني؟

قال: هناك من يفكر كما يفكر الشياطين.

قلت: تقصد أنه يستعمل عقله في الغواية والإضلال؟

قال: ويستعمله في الخداع والتمويه وتزييف الحقائق.

قلت: وهل يمكن للعقل أن يؤدي هذا الدور الرذيل؟

قال: العقل آلة مطيعة لصاحبها.. وهي تتحرك بتحركه، وتسكن بسكونه.

قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى إخبارا عن هذا النوع من المفكرين:{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)}(المدثر)

قال: هذه الآيات نزلت في ماركس وفرويد ودوركايم..

قاطعته قائلا: بل نزلت في الوليد بن المغيرة.

قال: لم يكن الوليد إلا وليدا مع هؤلاء.. أما هؤلاء، فهم الذين فكروا ودبروا، ثم راحوا يتلاعبون بإنسانية الإنسانية ويحولونها إلى أسفل سافلين.

قلت: عرفت خبر هؤلاء مع ضيوف آخرين.. فحدثني أنت عن خبر الذين قال فيهم الله تعالى:{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:191)

عبدالكريم جرمانيوس:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (عبدالكريم جرمانيوس)([1])، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا عالم من علماء المجر الكبار، وصفه العقاد بأنه (عشرة علماء في واحد)

وقد وُلد في بودابست، وتعلّم اللّغات الغربيّة: اليونانيّة، والّلاتينيّة، الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والإيطاليّة، والمجريّة، ومن اللّغات الشرقيّة: الفارسيّة والأورديّة، وأتقن العربيّة والتركيّة على أستاذيه: فامبيري، وغولد زيهر اللّذين ورث عنهما ولَعهما بالشرق الإسلاميّ، ثمّ تابع دراستهما بعد عام 1905م في جامعتي استانبول وفينّا. وصنّف كتاباً بالألمانيّة عن الأدب العثمانيّ (1906)، وآخر عن تاريخ أصناف الأتراك في القرن السابع عشر، فنال عليه جائزة مكّنته من قضاء فترة مديدة في لندن، حيث استكمل دراسته في المتحف البريطانيّ.

وفي عام 1912م عاد إلى بودابست، فعُيِّن أستاذاً للّغات العربيّة والتركيّة والفارسيّة، وتاريخ الإسلام وثقافته في المدرسة العليا الشرقيّة. ثمّ في القسم الشرقيّ من الجامعة الاقتصاديّة، ثمّ أستاذاً ورئيساً للقسم العربيّ في جامعة بودابست (1948)، وظلّ يقوم فيه بتدريس اللّغة العربيّة، وتاريخ الحضارة الإسلاميّة، والأدب العربي قديمه وحديثه، محاولاً إيجاد حلقات اتصال بين نهضات الأُمم الإسلاميّة الاجتماعيّة والسيكولوجيّة، حتّى أُحيل على التقاعد (1965).

وقد دعاه طاغور إلى الهند أستاذاً للتاريخ الإسلاميّ، فعلمه في جامعات دلهي، ولاهور، وحيدر آباد (1929ـ1932)، وهناك أشهر إسلامه في مسجد دلهي الأكبر، وألقى خطبة الجمعة، وتسمّى ب‍ (عبد الكريم)، وقدم القاهرة وتعمّق في دراسة الإسلام على شيوخ الأزهر، ثمّ قصد مكّة حاجّاً وزار قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وصنّف في حجّته كتابه: الله أكبر، وقد نُشر في عدّة لغات (1940)، وقام بتحرِّيات علميّة (1939ـ1941) في القاهرة والسعوديّة نشر نتائجها في مجلّدين: شوامخ الأدب العربي (1952)، ودراسات في التركيبات اللّغوية العربيّة (1954)

وربيع عام 1955 عاد ليقضي بضعة أشهر في القاهرة والإسكندريّة ودمشق بدعوة من الحكومة ليحاضر بالعربيّة عن الفكر العربيّ المعاصر، وعن صور من الأدب المجريّ، ثمّ رجع إلى الشرق العربيّ في شتاء 1958، لاستكمال مصادر كتابه الجديد عن أدبائه المعاصرين. والذي صدرت بعض فصوله، وفيها قصص الكتّاب المعاصرين. وقد انتخب عضواً في المجمع الإيطالي(1952)، ومراسلاً للمجمع اللّغويّ بالقاهرة (1956)، وفي المجمع العلميّ العراقي (1962)

وقد ترك تراثاً علميّاً زاخراً بالعمق والتنوّع، منه: قواعد اللّغة التركيّة (1925)، والثورة التركيّة، والقوميّة العربيّة (1928)، والأدب التركيّ الحديث (1931)، والتيّارات الحديثة في الإسلام (1932)، واكتشاف الجزيرة العربيّة وسوريا والعراق وغزوها (1940)، ونهضة الثقافة العربيّة (1944)، ودراسات في التركيبات اللّغويّة العربيّة (1954)، وابن الروميّ (1956)، وبين المفكِّرين (1958)، ونحو أنوار الشرق، ومنتخب الشعراء العرب (1961)، وفي الثقافة الإسلامية، وأدب المغرب (1964)، وكان يعدّ ثلاثة كتب عن: أدب الهجرة، والرحّالة العرب وابن بطّوطة، وتاريخ الأدب العربيّ.

وقد شرفني الله بالالتقاء به والحديث معه عن سر إسلامه، ومما ذكره لي قوله: (كان ذلك في عصر يوم مطير، وكنتُ ما أزال في سنّ المراهقة، عندما كنتُ أقلِّب صحائف مجلّة مصوّرة قديمة، تختلط فيها الأحداث الجارية مع قصص الخيال، مع وصف لبعض البلاد النائية؛ بقيت بعض الوقت أقلِّب الصحائف في غير اكتراث إلى أن وقعت عيني فجأة على صورة لوحة خشبيّة محفورة استرعت انتباهي، كانت الصورة لبيوت ذات سقوف مستوية تتخلّلها هنا وهناك قباب مستديرة ترتفع برفق إلى السماء المظلمة التي شقّ الهلال ظلمتها..

ملكت الصورة عليَّ خيالي.. وأحسستُ بشوق غلاّب لا يقاوم إلى معرفة ذلك النور الذي كان يُغالب الظّلام في اللّوحة.. بدأتُ أدرس اللّغة التركيّة، ومن ثمّ الفارسيّة فالعربيّة، وحاولتُ أن أتمكّن من هذه اللّغات الثلاث حتّى أستطيع خوض هذا العالم الروحيّ الذي نشر هذا الضوء الباهر على أرجاء البشريّة.

وفي إجازة صيف قدر الله أن أُسافر إلى البوسنة وهي أقرب بلد شرقيّ إلى بلادي. وما كدت أنزل أحد الفنادق حتّى سارعت إلى الخروج لمشاهدة المسلمين في واقع حياتهم.. وقد خرجت بانطباع مُخالف لما يُقال حول المسلمين.. وكان هذا هو أوّل لقاء لي مع المسلمين. ثمّ مرّت سنوات وسنوات في حياة حافلة بالأسفار والدراسات، وكان مع مرور الزّمن تتفتّح عيوني على آفاق عجيبة وجديدة.

ورغم تطوافي الواسع في دنيا الله، واستمتاعي بمشاهدة روائع الآثار في آسيا الصغرى وسوريا، وتعلّمي اللّغات العديدة وقراءاتي لآلاف الصفحات من كتب العلماء، رغم كلّ ذلك فقد ظلّت روحي ظمأى.

سكت قليلا يسترجع ذكرياته، ثم قال: أثناء وجودي في الهند، وفي ذات ليلة رأيت ـ فيما يرى النائم ـ كأنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخاطبني بصوت عطوف: لماذا الحيرة؟ إنّ الطريق المستقيم أمامك مأمون ممهّد مثل سطح الأرض، سرْ بخطى ثابتة وبقوّة الإيمان.. وفي يوم الجمعة التالية، وقع الحدث العظيم في مسجد الجمعة في دلهيّ.. حينما أشهرت إسلامي على رؤوس الأشهاد..

ابتسم، وقال: كان التأثّر والحماس يعمّان المكان، ولا أستطيع أن أتذكّر ماذا كان في ذلك الحين.. وقف الناس أمامي يتلقّفونني بالأحضان، كم من مسكين مجهد نظر إليَّ في ضراعة، يسألني الدعوات، ويريد تقبيل رأسي، فابتهلتُ إلى الله أن لا يدع هذه النفوس البريئة تنظر إليِّ وكأنِّي أرفع منها قدراً، فما أنا إلاّ حشرة من بين حشرات الأرض، أو تائه جادّ في البحث عن النور، لا حول لي ولا قوة، مثل غيري من المخلوقات التعيسة.. لقد خجلتُ أمام أنّات وآمال هؤلاء الناس الطيِّبين.. وفي اليوم التالي وما يليه كان الناس يفدون عليَّ في جماعات لتهنئتي، ونالني من محبّتهم وعواطفهم ما يكفيني زاداً مدى حياتي.

ومن أقواله التي قد تدلك على سر اعتناقه للإسلام قوله: (حَبّب لي الإسلام أنه دين الطهر والنظافة: نظافة الجسم والسلوك الاجتماعي والشعور الإنساني، ولا تستهن بالنظافة الجسمية فهي رمز ولها دلالتها)([2])

ومنها: (كم أَلفيت في قلوب المسلمين كنوزاً تفوق في قيمتها الذهب، فقد منحوني إحساس الحب والتآخي، ولقّنوني عمل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وعلى المسلمين أن يعضّوا بالنواجذ على القيم الخلقية التي يمتازون بها، ولا ينبهروا ببريق الغرب، لأنه ليس أكثر من بريقٍ خاوٍ زائف)([3])

ومنها: (لا يوجد في تعاليم الإسلام كلمة واحدة تعوق تقدم المسلم، أو تمنع زيادة حظه من الثروة أو القوة أو المعرفة.. وليس في تعاليم الإسلام ما لا يمكن تحقيقه عمليا، وهي معجزة عظيمة يتميز بها عن سواه، فالإسلام دين الذهن المستنير، وسيكون الإسلام معتقد الأحرار)

ومنها: (لقد تمنيت أن أعيش مائة عام، لأحقق كل ما أرجوه لخدمة لغة القرآن الكريم، فدراسة لغة الضاد تحتاج إلى قرن كامل من الترحال في دروب جمالها وثقافتها)([4])

مارتن لنجز:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (مارتن لنجز)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم لمفكر إنجليزي أشهر إسلامه على يد شيخ جزائري اسمه الشيخ أحمد العلوي، التقى به في سويسرا التي كان يعمل بها مدرساً، بعدها قام بتغيير اسمه من (مارتن لنجز) الى اسم (أبي بكر سراج الدين)

وقد التقيت به في رحلة لي إلى سويسرا، وقد كان أول سؤال سألته: كيف رحلت من (مارتن لنجز) الى (أبي بكر سراج الدين)؟

نظر إلي متعجبا من هذا السؤال، ثم قال: كنت أدين بالمسيحية، كما تدين بها أسرتي التي لا تعرف عن الدين شيئاً إلا أنها مسيحية بالوراثة.. وهكذا نشأت خالي النفس من أي عقيدة يؤمن بها حق الإيمان..

لكن.. وبعد حصولي على شهادة الـ (A-B) في الآداب الإنجليزية حيث كنت أدرس الأدب الإنجليزي في جامعة أكسفورد إنجلترا.. أخذت أنقب في كتب التراث عن الديانات المنتشرة في العالم لأقرأ عنها جميعاً.

وكان من أهم ما استوقفني دين الإسلام كشريعة لها منهاج يتفق مع المنطق والعقل، وآداب تستسيغها النفس والوجدان.

سكت قليلا، ثم قال: (لقد وجَدتُ في الإسلام ذاتي التي افتقدتها طوال حياتي، وأحسست وقتها أني إنسان لأول مرة، فهو دين يرجع بالإنسان إلى طبيعته حيث يتفق مع فطرة الإنسان)

ثم أردف قائلاً وقد امتلأت أساريره بابتسامة عذبة: (شاء الله لي أن أكون مسلماً، وعندما يشاء الله فلا رَادَّ لقضائه.. وهذا هو سبب إسلامي أولاً وقبل كل شيء)

قلت: هل هناك من العقول من ملأ عقلك بالفكر الذي هداك إلى الإسلام؟

قال: لابد من ذلك..

قلت: من هو؟

قال: إن ما أثر عليَّ، وجعلني أهتم بالإسلام هو كتب مؤلف كبير كان مثلي اعتنق الإسلام وأصبح من قمم المتصوفة، إنه الشيخ عبد الواحد يحيى.. لقد تأثرت بكتبه التي صنفها عن الإسلام، حتى أنني لم أقرأ كتباً من قبل في مثل عظمة كُتُبِه، مما دفعني لأن أسعى لمقابلة مَن كان سبباً في إسلامي، فجئت إلى مصر حيث كان يعيش فيها وقتئذ.

لقد استفدت منه كثيراً.. فقد كان بحق عالماً عاملاً بعلمه.. وأكثر ما تعلمته منه الزهد في الدنيا، وهو ما تسمونه أنتم (التصوف)

قلت: هل أنت متصوف؟

قال: نعم.. ولكن مفهومي للتصوف أنه ليس انعزالاً عن الدنيا، ولكنه أخذٌ بأسباب الحياة في الظاهر، والإعراض عنها بالقلب.

إن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لخص معنى التصوف كله في حديثه الشريف: (كُن في الدُّنيا كأنَّك غَريبٌ أو كعابر سبيل).. أو ما قاله في حديث شريف آخر: (إنَّما أنا والدنيا كَراكب استظل تحت شجرة ثمَّ راح وتركها).. هذا هو مفهوم التصوف الذي تعلمته من الشيخ عبد الواحد يحيى.

قلت: إلى أي شيء قَادَك التصوف؟

نظر إلى الأفق البعيد بعمق، ثم قال بكل هدوء: إلى العبودية الخالصة لله.

الدكتورحامد ماركوس:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (الدكتورحامد ماركوس)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم لعالم وصحفي ومؤلف ألماني.. وقد التقيت به في بلدي ألمانيا، وكان من حديثه لي عن سر إسلامه قوله: منذ طفولتي، وأنا أشعر بدافع في داخل نفسي لدراسة الإسلام ما وجدت الى ذلك سبيلا، وعنيت بقراءة نسخة مترجمة للقرآن في مكتبة المدينة التي نشأت فيها، وكانت هي الطبعة التي حصل منها جوته على معلوماته عن الإسلام.

أخذ مني الاعجاب كل مأخذ لما رأيته في هذا القرآن من أسلوب عقلي رائع، في نفس الوقت الذي يفرض فيه التعاليم الإسلامية، كما أدهشني تلك الروح الثابرة الوثابة العظيمة التي أثارتها وأذكتها هذه التعاليم في قلوب المسلمين الأوائل.

ثم أتيحت لي في برلين فرصة العمل مع المسلمين والاستمتاع الى الأحاديث الحماسية المثيرة التي كان يقدمها مؤسس أول جمعية اسلامية في برلين ومنشئ مسجد برلين، عن القرآن الكريم، وبعد سنوات من التعاون العملي مع هذه الشخصية الفذة لمست فيها ما يبذله من ذات نفسه وروحه، آمنت بالإسلام، اذ رأيت في مبادئه السامية والتي تعتبر القمة في تاريخ الفكــر البشري، ما يكمل آرائي شخصيا.

قلت: ما المبادئ التي أثارت اهتمامك، أو رأيت أنها تتوافق مع طريقة تفكيرك؟

قال: أولها الايمان بالله.. فهو عقيدة أصيلة في الإسلام، ولكن الإسلام في سبيل تقريرها لا يدعوا الى مبادئ أو عقائد تتنافى مع العلم الحديث، وعلى هذا فليس ثمت تناقض ما بين العقيدة من جانب وبين العلم من الجانب الآخــر، وهذه ولا شك ميزة عظيمة فريدة في نظر رجل أسهم بكل طاقته في البحث العلمي.

وميزة أخرى يمتاز بها الإسلام، تلك أنه ليس مجرد تعاليم نظرية صماء تسير على غير بصيرة وعلى هامش الحياة، انما هو يدعو الى نظام تطبيقي يصبغ حياة البشر، وقوانين الإسلام ليست بالتعاليم الجبرية التي تحتجز الحريات الشخصية، ولكنها توجيهات وارشادات تؤدي الى حرية فردية منظمة.

ومع توالي السنين كنت أزداد اقتناعا بما يتبين لي من الأدلة على أن الإسلام يسلك أقوم سبيل في الملائمة بين شخصية الفرد وشخصية الجماعة، ويربط بينهما برباط قوي متين.

إنه دين الاستقامة والتسامح، إنه دائم الدعوة الى الخير، يحض عليه ويرفع من شأنه في جميع الأحوال والمناسبات.

روجيه دوباكييه:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (روجيه دوباكييه)([5])، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم لمفكر سويسري اعتنق الإسلام، التقيت به في سويسرا، وقد سألته عن رحلته إلى الإسلام، فقال: نشأت في بيئة مسيحية بروتستانتية، غير أني لم أكن مهتما بها.. بل كنت متأثرا بالفلسفة الحديثة، ولا سيما الفلسفة الوجودية، ولهذا فقد كنت أعتقد أن الأديان مجرد معتقدات خرافية.

وعندما اشتغلت بالصحافة بدأت أسافر إلى أكثر من بلد.. فسافرت إلى السويد، وعملت بها مراسلاً صحفيّاً في نهاية الحرب العالمية الثانية لأكثر من خمس سنوات، لكني اكتشفت أن الناس تعساء، برغم التقدم والرخاء الذي يعيشون فيه، على حين اكتشفت عكس ذلك عندما سافرت إلى بعض الدول الإسلامية في الشرق، فقد وجدت المسلمين ـ رغم فقرهم الشديد ـ يشعرون بسعادة أكثر، وأن حياتهم لها معنى.. وهذه الملاحظة جعلتني أفكر مليّاً في معنى الحياة، وأتأملها من خلال هذين النموذجين.

لقد كنت أسأل نفسي: لماذا يشعر المسلمون بسعادة تغمر حياتهم برغم فقرهم وتخلفهم؟!.. ولماذا يشعر السويديون بالتعاسة والضيق برغم سعة العيش والرفاهية والتقدم الذي يعيشون فيه؟! حتى بلدي (سويسرا) كنت أشعر فيه بنفس ما شعرت به في السويد، برغم أنه بلد ذو رخاء، ومستوى المعيشة فيه مرتفع!

وأمام هذا كله وجدت نفسي في حاجة لأن أدرس ديانات الشرق.. وبدأت بدراسة الديانة الهندوكية فلم أقتنع كثيراً بها، حتى بدأت أدرس الدين الإسلامي فشدني إليه أنه لا يتعارض مع الديانات الأخرى، بل إنه يتسع لها جميعاً.. فهو خاتم الأديان..

وهذه حقيقة كانت تزداد يقيناً عندي باتساع قراءاتي، حتى رسخت في ذهني تماماً بعد ما اطلعت على مؤلفات الفيلسوف الفرنسي المعاصر رينيه جينو الذي اعتنق الإسلام.

لقد اكتشفت كما اكتشف الكثيرون ممن تأثروا بكتابات الفيلسوف الفرنسي الذي أسلم وتحولوا إلى الإسلام.. اكتشفت أن الإسلام يعطي معنى للحياة، على عكس الحضارة الغربية التي تسيطر عليها المادية، ولا تؤمن بالآخرة، وإنما تؤمن بهذه الدنيا فقط.

قلت: لقد كان فكر الفيلسوف الفرنسي رينيه جينو الذي أسلم، هو حاديك إلى الإسلام.

قال: يمكنك أن تقول ذلك.. بالإضافة إلى أني ـ كما ذكرت لك ـ تأثرت بزياراتي للدول الإسلامية، فبرغم الظروف المادية السيئة في تلك الدول فإن أهلها يتمتعون بقدر كبير من الإيمان الراسخ في نفوسهم، ولا توجد عندهم أزمات أخلاقية كالتي توجد بالغرب، وجعلت كثيراً من الشباب ينتحر أو يهرب من الحياة بتعاطي المخدرات، مما يعني في نظرهم أن الحياة ليس لها معنى أو قيمة.

قلت: فهل رأيت أن الإسلام هو الذي يقف خلف تلك السكينة النفسية التي يعيشها المسلمون؟

قال: أجل.. لقد تبينت أن الإسلام بمبادئه يَبسُط السكينة في النفس.. أما الحضارة المادية فتقود أصحابها إلى اليأس، لأنهم لا يؤمنون بأي شيء.. كما تبينت أن الأوربيين لم يدركوا حقيقة الإسلام، لأنهم يحكمون عليه بمقاييسهم المادية.

قلت: أهذا ما جذبك إلى الإسلام؟

قال: أول ما جذبني إلى الإسلام هو شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله.. فقد اكتشفت أن الإسلام دين متكامل، وكل شيء فيه مرتبط بالقرآن والسنة.. وفي اعتقادي أن الإنسان يمكن أن يتأمل في هذه الشهادة طيلة الحياة.

الشهادة تقول لا إله إلا الله.. وهذا يعني أنه ليس هناك حقيقة نهائية ودائمة سوى الله.. أما الفلسفة الحديثة فتقول إنه ليس هناك حقيقة سوى هذه الدنيا، ذلك ما تقوله الفلسفة الوجودية وغيرها..

وقد دهشت لأن الإسلام يعبر عن الحقيقة التي تناساها العلم والفلسفة الحديثة.

سكت قليلا، ثم قال: لقد تأثرتُ بالقرآن الكريم كثيراً عندما بدأت أدرسه، وتعلمتُ وحفظتُ بعض آياته.. والحمد لله فأنا أستطيع أن أقرأ فيه، وتستوقفني كثيراً الآية الكريمة التي يقول فيها الله تعالى:{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وقوله تعالى:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(البقرة:256)

سكت قليلا، ثم قال: والسنة النبوية الشريفة قرأتها أيضاً، وتأثرت بما فيها من حِكَم وبيان دقيق.

قلت: فكيف واجهت قومك وتحديت أعرافك ورحت تعلن إسلامك؟

قال: لمّا عُدتُ إلى سويسرا لم يكن هناك مبرر لأن أخفي إسلامي، لذلك فقد نشرتُ مقالات كثيرة عن الإسلام في (جورنال دى جنيف)، وصحيفة (جازيت دي لوزان)، وهي صحف غير إسلامية.. كما ترجمت بعض الكتب التي تتناول موضوعات إسلامية.. ودافعتُ في كتاباتي كلها عن قضايا الإسلام كمسلم وَجَدَ طريقه في دين الإسلام.

وأنا أحاول ـ الآن ـ أن أكثف كتاباتي عن الإسلام، وأشرح للقراء الغربيين ما يدور في العالم الإسلامي.. وأنا أركز على مسألة أن الإسلام يُقدم حُلولاً لمشاكل كثيرة وصلوا معها إلى طريق مسدود، في حين فتح الإسلام لها أبواباً كثيرة.

قلت: إن الكثير من قومنا يعتبرون الإسلام قومية لا أيديولوجية.. ويحكمون عليه على أساس ذلك.. و

قاطعني قائلا: أنا أختلف مع بعض الأشخاص الذين ينظرون إلى الإسلام باعتباره قومية ـ وهذا اعتقاد خاطىء لدى كثير من المسلمين.. إنهم يعتبرون الإسلام أيديولوجية وهو خطأ.. إنّما الإسلام طريق إلى الله، وأفضل طريقة للوصول إلى معرفة الله والتصالح والوئام بين الخالق والخلق.

قلت: إن البعض يذكر أن الإسلام دين تخلّف لا يقود إلى التقدم.

ابتسم، وقال: الحمد لله.. إن الإسلام ليس متقدماً بمعنى التقدم الذي يعيشون فيه ويقودهم إلى الهاوية.. والحمد لله.. إن الإسلام لم يتجه إلى هذا التقدم المادي الذي يقصدونه.. ولو كان كذلك لما أثار انتباهي ولا انتباه هؤلاء المفكرين الذين وجدوا فيه الخير والسعادة للبشرية، أمثال (رجاء غارودى) وغيره.

إن الإسلام يعبر عن شيء خالد، ومن السخف أن نقول إنه متخلف، ولذلك يجب تغييره أو استبداله.. إن التقدم الذي ينادون به قادهم إلى اليأس والضياع.. الحضارة والمدنية الحديثة تعبر عن صراع الإنسان مع المادة والحياة.. في حين يعبر الإسلام عن الحقيقة، ولذلك فلا داعي لأن يتجه الإسلام نحو التقدم بالمعنى الذي يريدونه، وهو الفوضى والدمار واليأس.

قلت: هناك من يفرق بين الإسلام كدين، والمسلمين كأشخاص.. فهل ذلك صحيح.. أم..

قاطعني قائلا، والابتسامة تملأه فمه: هناك قصة فيها رد على ذلك.. فأنا أعرف صديقاً منذ فترة اعتنق الإسلام في السادسة والعشرين من عمره اسمه محمد أسد([6])، كان يهوديّاً واعتنق الإسلام عام 1926، وألف كتاباً بعنوان (الطريق إلى مكة)، وأصبح من علماء الإسلام، وله مؤلفات أخرى كثيرة.. قابلته منذ فترة في باكستان حيث يعيش هناك.. وسألته نفس هذا السؤال: هل هناك فرق بين الإسلام كدين والمسلمين كأشخاص؟

فقال لي: إذا كنا قد اعتنقنا الإسلام فليس هذا بسبب المسلمين.. ولكن السبب أن الإسلام حقيقة لا ينكرها أحد.

ثم نظر إلي، وقال: صحيح أن هناك تدهورا في حال المسلمين.. ولكني أصارحك القول بأن التدهور في حال أصحاب الأديان الأخرى أكثر مما هو في المسلمين.. إن الإسلام آخر تعبير عن الرحمة الإلهية.. وما زال قادراً على العطاء.. عطاء كل ما يُخَلّص الإنسان من شقاء الحياة وآلامها ومتاعبها.. إن الإسلام يجدد الصلة بين المرء وربه التي قطعها إنسان اليوم.

حتى إذا كان المسلمون في حالة تدهور أو انهيار، فإن دينهم قادر على منحهم الحياة السعيدة المطمئنة التي تعينهم على التغلب على تلك الأزمات الأخلاقية التي يعيشها الغرب.

قلت: كيف تفسر ظاهرة الإقبال على اعتناق الإسلام من جانب الأوربيين؟

قال: السبب ـ كما قلت ـ الأزمة التي قادتهم إليها الحضارة والمدنية الحديثة.. لقد أصبح الأوربيون يعيشون في حالة يأس لأنهم لا يؤمنون بشيء، ولذلك فهم يبحثون عن معنى لحياتهم، وقد وجدوا هذا المعنى في الإسلام فأقبلوا عليه.

الكولونيل دونالدس روكويل:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (الكولونيل دونالدس روكويل)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم لكاتب أمريكي اعتنق الإسلام، وقد التقيت به في بعض المؤتمرات، وقد بادرني بالحديث عن الدوافع التي جعلته يختار الإسلام، فقال يعددها: ثمانية أمور في الإسلام دفعتني إليه دفعا لم أتمكن من التفلت منه.

قلت: فما أولها؟

قال: البساطة.. إن بساطة الإسلام، ومساجد المسلمين بجاذبيتها، وبما في أجوائها من روعة وجلال ووقار، وما يتميز به المسلمون المؤمنون من ثقة باعثة على اليقين تجعلهم يستجيبون لنداء الصلاة خمس مرات في اليوم، كل هذه الأمور ملكت علىَّ مشاعري منذ البداية…

قلت: فما الثاني؟

قال: ذلك الإدراك الناضج للحياة، والذي هو من ثمار السنة المحمدية التي تجمع بين الرأي السديد، والقدوة العملية، في أسلوب من التوجيه الحكيم في أمور كثيرة تدلل على واقعية هذا الدين، وحكمة أخَّاذة سديدة في أقوال محمد صلى الله عليه وآله وسلم،.. خُذْ مثلاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إعقلها وتوكل).. لقد قرر في هاتين الكلمتين نظاماً دينيّاً في أعمالنا المعتادة، فلم يطلب إلينا التصديق الأعمى بوجود قوى غيبية تحفظنا برغم تقصيرنا وإهمالنا، بل يدعونا إلى الثقة في الله، والرضا بإرادته في عاقبة أمرنا، إذا نحن طرقنا الأمور من أبوابها الصحيحة، وبذلنا في ذلك قصارى جهدنا.

قلت: فما الثالث؟

قال: سماحة الإسلام مع الأديان الأخرى ـ والذي هو نابع من اتساع الأفق الفكري ـ تجعله قريباً إلى قلوب أولئك الذين يتعشقون الحرية، فقد دعا محمد صلى الله عليه وآله وسلم  أتباعه إلى أن يحسنوا معاملة المؤمنين بالتوراة والإنجيل، وإلى الإيمان بأن إبراهيم وموسى وعيسى عليهم رُسُلٌ من عند الله الواحد الأحد.. هذه سماحة يمتاز بها الإسلام عن الأديان الأخرى.

قلت: فما الرابع؟

قال: التحرر الكامل من عبادة الأوثان، وهو دليل على سلامة دعائم العقيدة الإسلامية، وعلى نقائها، فالتعاليم الأصلية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يغيرها المشرعون بتعديلات أو إضافات، فها هو ذا القرآن الكريم على الحالة التي أنزل بها على محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهداية المشركين والكفار في بداية دعوته ظل ثابتاً راسخاً حتى الآن.

قلت: فما الخامس؟

قال: الاعتدال والتوسط في كل شئ.. فهما دعامتان أساسيتان في الإسلام، قد استحوذتا على كل إعجابي وتقديري.

لقد آمنت أن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان حريصاً على صحة قومه، فأمرهم بالتزام النظافة إلى أبعد الحدود، كما أمرهم بالصوم والسيطرة على الشهوات الجنسية.. وأذكر أنني كنت ـ عندما أقف في مساجد أسطنبول ودمشق وبيت المقدس والقاهرة وغيرها من المدن ـ أحس شعوراً عميقاً بقدرة الإسلام في بساطته، على الارتفاع بروح البشر إلى الآفاق العليا، بدون حاجة إلى زخارف أنيقة، أو تماثيل، أو صور، أو موسيقى، أو طقوس رسمية.. فالمسجد مكان للتأمل الهادئ، ونسيان الذات وفنائها، واندماجها في الحقيقة الكبرى، في ذكر الله الأحد:

قلت: فما السادس؟

قال: ديمقراطية الإسلام.. فقد أثار إعجابي تساوي الحقوق بين الملك صاحب السلطان، وبين الفقير المتسول داخل جدران المسجد، فهم يسجدون جميعاً لله، ليست هناك مقاعد تستأجر، ولا أماكن تحجز لفئة دون أخرى.

قلت: فما السابع؟

قال: لا يؤمن المسلم بوسيط بينه وبين ربه، بل يتجه رأساً إلى الله، خالق الخلق، وواهب الحياة، وهو لا يراه دون التجاء إلى صكوك غفران، أو إلى أحد لمنحه منحة الخلاص.

قلت: فما الثامن؟

قال: الأخوة العالمية الشاملة في الإسلام، بغض النظر عن اختلاف العنصر أو المذهب السياسي أو اللون أو الإقليم فقد ثبت ذلك عندي بكل يقين واقتناع مرات ومرات..

رينيه جينو:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (رينيه جينو)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا الاسم الأصلي للعالم والفيلسوف والحكيم عبدالواحد يحيي، الذي درس الأديان عامة، ثم اعتنق الإسلام، فأحدث إسلامه ضجة كبرى في أوربة وأمريكا، وكان سبباً في دخول الكثيرين إلى الإسلام.

وقد ألف الكثير من الكتب التي ساهمت مساهمة كبيرة في نشر الإسلام، منها (أزمة العالم الحديث) و(الشرق والغرب) و(الثقافة الإسلامية وأثرها في الغرب)، كما أصدر مجلة سماها (المعرفة)، وقد ترجمت كتبه إلى كثير من اللغات الحية.

وبسبب قدرة أفكاره على الاكتساح فقد حرَّمت الكنيسة قراءة كتبه.. ولكن ذلك لم يمنع من انتشار كتبه في جميع أرجاء العالم.

وممن تأثر بكتاباته الكاتب الفرنسي المشهور أندريه جيد الذي كتب يقول: (لقد علمتني كتب جينو الكثير، وإن آراءه لا تُنقَض)

قلت: أعرفه جيدا.. وأعرف احترام شيخ الأزهر عبد الحليم محمود له، فهل التقيت به؟

قال: أجل.. ولكن على عجل.. فلم يكن له من الوقت ما يحادثني فيه.

قلت: فما قال لك؟

قال: لقد أجابني عن سؤالي عن سبب إسلامه: (أردت أن أعتصم بنص لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلم أجد بعد دراسة عميقة، سوى القرآن).. وقال لي: (لقد ابتعدت أوربة عن طريق الله فغرقت في الانحلال والدمار الخلقي والإلحاد، ولولا علماء الإسلام لظل الغربيون يتخبطون في دياجير الجهل والظلام)

جان مونرو:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (جان مونرو)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم أستاذ الأدب الإنجليزي في الجامعة الامريكية ببيروت، والذي درس في جامعات (نورث كارولينا) و(لندن) و(تورنتو)، ووضع خمسة عشر كتاباً معظمها يدور حول المواضع التي يدرسها، فضلاً عن أنه كتب حول موضوعات متنوعة تتعلق بالحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط، وآخر كتبه هو (التجارة والإسلام في منطقة الشرق الأوسط)

وقد عاش بين المسلمين في لبنان عشرين عاماً بحكم عمله رئيساً لقسم الأدب الإنجليزي في الجامعة الأمريكية في بيروت.. عرف في أثنائها طبيعة وسلوك المسلمين، وتبين له خطأ التصوّر الذي كان يحمله معه عند ذهابه إلى لبنان، فقد كان يسيطر على مخيلته بعض الأضاليل والافتراءات على الإسلام والمسلمين، والتي كانت منتشرة بصورة كبيرة في الغرب، مثال ذلك أن الحرب المقدسة عند المسلمين هي العدوان على كل من لا يؤمن بعقيدتهم الإسلامية([7]).

لكنه بعد أن قرأ بإمعان التاريخ الإسلامي، اتضح له بجلاء أن الإسلام عقيدة متسامحة، ودين لا يُفرض على الآخرين بالإكراه.

قلت: فهل التقيت به؟

قال: أجل.. لقد التقيت به في بيروت، وكان من جوابه لي عن سر اعتناقه للإسلام قوله: أريد القول: إن حظّي كان كبيراً، لأن الفرصة قد أتاحت لي الدراسة، ولكن ليس بطريقة أكاديمية، وإنما عن طريق اتصالات الصداقة مع مجموعة من الناس الذين كانت مهمتهم تنوير الناطقين بالإنجليزية بحقيقة طبيعة العقيدة الإسلامية، فضلاً عن ذلك أنني قرأت كل ما وصلت إليه يداي، كما أنني ناقشتُ مع الذين أعمل معهم بعض القضايا التي يُثار الجدل حولها.. وبهذه الطريقة توصلت إلى طبيعة وحقيقة الإسلام، ليس على أنه نظام يجب دراسته ـ وهي الطريقة التي يتبعها معظم الغربيين في معرفة الإسلام ـ ولكن كعقيدة فعالة، ومنهج وطريق للحياة، وكنت في بداية الأمر مهتماً بهذه الأمور.. أمّا الآن فإنني أُكنُّ كل احترام وتقدير للإسلام وأتعاطف معه.

قلت: فما أثر الإسلام في حياتك؟

قال: إنني أعتقد أن تجربتي المشتركة مع المسلمين قد جعلتني أكثر تسامحاً من قبل.. كما أن تلك التجربة قد جعلتني مدركاً لبعض الأمور التي تحيط بي أكثر من الماضي.

بالإضافة إلى هذا، أصبحتُ متفهماً لوضع المرأة في الإسلام، على عكس ما يعتقد الغربيون ـ بصورة خاطئة ـ من أن المسلمين يعتبرون النساء كائنات دنيا ووضيعة، في حين أن الحقيقة أن النساء في ظل الإسلام يتمتعن بتلك الحقوق والامتيازات التي يجب أن يتمتعن بها، يكفي أن هناك سُوَراً عديدة في القرآن الكريم تثبت وجهة نظري هذه.

قلت: فما أهم الدروس التي تعلمتها من الإسلام؟

قال: كثيرة جدا.. لا يمكنني إحصاؤها..

ثم تأمل قليلا، وقال: لعل أهم درس تعلمته من الإسلام هو عدم الجدوى من التذمر من أمور هي فوق طاقتنا لتغييرها أو تبديلها، فالإنسان ليس قادراً على كل شيء، مع أنه يتمتع بصفات خارقة تميزه عن بقية المخلوقات، ولكن عليه إدراك ضرورة الإذعان إلى قوة خارج طاقته، وأن التذمر من ذلك يؤدي إلى الفشل والإخفاق والحزن، في حين أن الإنسان الذي يدرك مكانه الحقيقي في هذا الكون يكون هادئاً مطمئناً يشعر بالراحة مع نفسه وعالمه المحيط به.

سكت قليلا، ثو قال: إنَّ فَهمَ الإسلام لا يكون إلا بمعايشته، وما يؤخذ على الأوربيين هو أنهم لا يُعايشونه، لذلك فإنهم عندما يصلون إلى مرحلة التقييم الفكري للإسلام فإنهم يصلون إلى ذلك بواسطة طريقة أكاديمية، ولذلك فإن العديد من علماء الغرب الذين يعتنقون الإسلام يعتبرهم زملاؤهم شواذاً، لأن الأوربي العادي يعتبر الإسلام ديناً دخيلاً وغريباً أكثر من اعتباره عقيدة حيوية.

ميجيل بيرو:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (ميجيل بيرو)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم أستاذ جامعي إسباني كره الحرية المنفلتة في أوربا، والانحلال، وعدم الترابط الأسري، وكثرة الجرائم والانحرافات التي سادت المجتمعات الغربية، وأتيح له أن يقرأ عن وضع الإسلام لضوابط السلوك وللمعايير الأخلاقية في المعاملات.

وأتيح له بعد ذلك أن يلتقي بمجموعة من الإسبانيين المسلمين، وعن طريقهم أتيح له إمكانية قراءة ترجمة معاني القرآن بالأسبانية، فاستشعر بميل قوي تجاه الإسلام، فواصل قراءاته المكثفة عنه حتى اقتنع تماماً بتعاليمه ومنهاجه، بعدها قرر أن يشهر إسلامه، ويختار لنفسه اسم (نصر الدين)

قلت: فهل التقيته؟

قال: أجل.. لقد التقيت به في القاهرة التي كان يعمل أستاذا بجامعتها، وقد سألته عن سر إسلامه، فقال: لقد التقيت بمجموعة من الإسبانيين المسلمين، وعن طريقهم اُتيحت لي إمكانية قراءة ترجمة معاني القرآن، كما قرأت عن التراث العربي القديم فأُعجبت به، بعدها قررت أن يكون الإسلام ديني.

وقد قام أحد أصدقائي بترجمة كتاب (المحظورات) للشيخ (ياسين رشدي) واستفدت منه كثيراً، وسمعت صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في قراءة القرآن وأحببته كثيراً.

وبالرغم من القليل الذي عرفته عن الإسلام فإنني أتمنى من كل قلبي أن يهتدي إليه الناسُ أجمعون، وسأعمل على الدعوة إلى الإسلام، وسوف ابتدىء بعائلتي والمقربين إليَّ إن شاء الله.

سكت قليلا، ثم قال: إنني أحافظ على أداء الفروض في مواقيتها، وعلى صلاة الجمعة التي أشعر براحة نفسية كبيرة عند أدائها.. وإنني أعرف أهمية خطيب المسجد، والدور الكبير الذي يقوم به تجاه المسلمين، مثل مساعدتهم على فهم القرآن الكريم، وشرح الأحاديث النبوية، بجانب إرشادهم وتجميعهم على طريق الخير والصلاح.

وعند سؤالي له عن أحلامه المستقبلية قال: إنني حريص على تعلم اللغة العربية وإتقانها حتى يتسنى لي قراءة القرآن بلغته الأصلية، وبالتالي محاولة فهم معانيه، لأن ترجمته إلى اللغات المختلفة تؤدي إلى تضارب المعنى وعدم الوضوح.

وبهذه المناسبة أنبه إلى أن الكتب التي تُرجمت إلى الأسبانية عن الإسلام ليست دقيقة في مضمونها، خصوصاً بعد ما ترجم أحد الأسبان ـ وهو مسيحي يدعى (جان فونت) ـ معاني القرآن إلى الأسبانية بطريقة بعيدة كل البعد عن النص القرآني أو معناه، مما جعل الذين اطلعوا على هذه الترجمة من الأسبان يقولون: إن الإسلام دين غريب، ومما يدعو للأسف والأسى ما جاء في تلك الترجمة الأسبانية على يد ذلك المترجم، وعلى الأخص (سورة الناس) التي ترجمها إلى (سورة الرجال) وأخلَّ بمعناها وبمضمونها([8]).

وعن سؤال حول المسلمين في إسبانيا أجابني بقوله: بالرغم من أن المسيحية هي الديانة المنتشرة في إسبانيا، فإن حرية الأديان متاحة للجميع، ولكن الإسلام ـ كما في كثير من الدول الأوربية ـ يظل محدود الانتشار، ممّا يتطلب تنشيط حركة الدعوة الإسلامية ودعم أنشطتها ووضع كافة الإمكانيات في سبيلها.

فيلي بوتولو:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (فيلي بوتولو)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم لعالم نفس ألماني، وهو أستاذ علم النفس بجامعة (ميونيخ) بألمانيا الغربية، وقد اختار أن يسمى بعد إسلامه  باسم (أبي الحسن) لحبه لأبي الحسن الشاذلي.

وقد درس القرآن الكريم، وتعمق في دراسة التصوف الإسلامي بحكم تخصصه كباحث في الظواهر المختلفة في الأديان، وقد التقيت به وسألته عن سر إسلامه، وكان من جوابه لي قوله: إنني وجدتُ في الإسلام راحة نفسية، لم تفتقدها ألمانيا الغربية فحسب، وإنما تفتقدها أوربا كلها.

ثم قال لي: إن شعوري بانجذاب للإسلام كان منذ فترة طويلة، ولكن أراد الله تعالى أن يكون عملي كأستاذ لعلم النفس بجامعة (ميونيخ) مدخلاً لاعتناقي دين الإسلام.. فمن خلال عملي بدأت مرحلة البحث والدراسة حول الأديان كافة لمختلف دول العالم، والظواهر الغربية في كل الأديان.

وعند دراسة الإسلام شد انتباهي ما وجدته في القرآن أولاً، وفي كتب التصوف ثانياً، من شرح لأصول العقيدة ومناهج الإسلام، فعكفت على دراسة التصوف فترة غير قصيرة، حتى انتهيت إلى حقيقة مهمة وهي أن الإسلام يهتم بعلاج الإنسان ظاهراً وباطناً، فهو دين يدعو إلى نظافة الظاهر وطهارة الباطن، ويربي في الإنسان حب الأخوة والترابط والتآلف، بعكس ما نجده في المجتمعات الغربية، حيث يعيش كل إنسان في عالمه الخاص، لا تربطه بالمجتمع روابط روحية أو علاقات دينية، كما يحدث عند المسلمين.

وعرفت من خلال دراستي للتصوف أن المتصوفة يجتمعون لذكر الله، ويلتقون على حُبّه، ويسيرون في طريق النقاء الروحي والوجداني، ويتلون أوراداً معينة بعد كل صلاة، مما يجعلهم مشدودين دائماً إلى تعاليم السماء.

قلت: ألم تجد في مجتمع الكنيسة مثل هذا المجتمع؟

قال: من الصعب أن تجد في أوربا مجتمعاً يتسم بهذه الصفات، ولهذا وجدتُ نفسي مدفوعاً الى اعتناق الإسلام.. ولكنني رأيت من الضروري والضروري جداً ـ أن أظل مسلماً في السر لمدة عام كامل، لأنك إن أردت أن تدخل الإسلام في بلد كل وسائل الإعلام فيه موجهة ضد هذا الدين الحنيف، لكان ذلك صعباً جداً، ولكن بعد أن رسخت العقيدة في نفسي أعلنت إسلامي بصراحة، ولم أخش الذين يُحاربون الإسلام.

ثم اختتم قوله بحماس ـ وهو يشير بأصبعه إلى بعيد ـ: إنني أؤكد أنه بدون القرآن، وبدون التصوف الذي يُعَدُّ فرعاً من علم النفس الذي أدرسه في الجامعة لم يكن بمستطاعي أن أُغيرَ ديني ولذا فلقد غيرت ديني عن ثقة واقتناع تام.

قلت: فما أثر الإسلام فيك؟

قال: لقد تغيرت حياتي اليومية بعد الإسلام تماماً، وانتظمت انتظاماً عجيباً، فقد كانت في الماضي بلا هدف، أما الآن فقد أصبح لها معنى، ولها هدف ولها حلاوة.. لقد أصبحتُ أخاف الله في كل تصرفاتي، وأعرف أن لي ربّاً سوف يحاسبني فيما أفعله في أي وقت.

عبد الله كويليام:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (عبد الله كويليام)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم مفكر إنكليزي، ولد سنة 1856، وأسلم سنة 1887، وتلقب باسم: (الشيخ عبد الله كويليام). من آثاره: (العقيدة الإسلامية)، و(أحسن الأجوبة)

قلت: لا شك أنك لم تلتق به.

قال: لا شك في ذلك.. ولكني من خلال كتبه استطعت أن أتعرف على سر إسلامه، فمن مقولاته في كتبه: (من الوجه العلمي، بصرف النظر عن أنه كتاب موحى به، فالقرآن أبلغ كتاب في الشرق.. وهو حافل بالمنجزات السامية مليء بالاستعارات الباهرة)([9])

ومنها قوله: (أحكام القرآن ليست مقتصرة على الفرائض الأدبية والدينية.. إنه القانون العام للعالم الإسلامي، وهو قانون شامل للقوانين المدنية والتجارية والحربية والقضائية والجنائية والجزائية. ثم هو قانون ديني يدار على محوره كل أمر من الأمور الدينية إلى أمور الحياة الدنيوية، ومن حفظ النفس إلى صحة الأبدان، ومن حقوق الرعية إلى حقوق كل فرد، ومن منفعة الإنسان الذاتية إلى منفعة الهيئة الاجتماعية، ومن الفضيلة إلى الخطيئة، ومن القصاص في هذه الدنيا إلى القصاص في الآخرة.. وعلى ذلك فالقرآن يختلف ماديًا عن الكتب المسيحية المقدسة التي ليس فيها شيء من الأصول الدينية بل هي في الغالب مركبة من قصص وخرافات واختباط عظيم في الأمور التعبدية.. وهي غير معقولة وعديمة التأثير)([10])

ومنها قوله: (لقد عثرت في دائرة المعارف العامة على نبذة نصها كما يأتي (أن لغة القرآن معتبرة بأنها من أفصح ما جاء في اللغة العربية فإن ما فيه من محاسن الإنشاء وجمال البراعة جعله باقيًا بلا تقليد ودون مثيل. أما أحكامه العقلية فإنها نقية زكية إذا تأملها الإنسان بعين البصيرة لعاش عيشة هنية)([11])

ومنها قوله: (هذا القرآن الذي هو كتاب حكمة فمن أجال طرف اعتباره فيه وأمعن النظر في بدائع أساليبه وما فيها من الإعجاز رآه وقد مر عليه من الزمان ألف وثلاثمائة وعشرون سنة كأنه مقول في هذا العصر إذ هو مع سهولته بليغ ممتنع ومع إيجازه مفيد للمرام بالتمام. وكما أنه كان يرى مطابقًا للكلام في زمن ظهوره لهجة وأسلوبًا كذلك يرى موافقًا لأسلوب الكلام في كل زمن ولهجة، وكلما ترقّت صناعة الكتابة قدرت بلاغته وظهرت للعقول مزاياه. وبالجملة فإن فصاحته وبلاغته قد أعجزت مصاقع البلغاء وحيرت فصحاء الأولين والآخرين، وإذا عطفنا النظر إلى ما فيه من الأحكام وما اشتمل عليه من الحكم الجليلة نجده جامعًا لجميع ما يحتاجه البشر في حياته وكماله وتهذيب أخلاقه.. وكذا نراه ناهيًا عما ثبت بالتجارب العديدة خسرانه وقبحه من الأفعال ومساوئ الأخلاق.. وكم فيه ما عدا ذلك أيضًا ما يتعلق بسياسة المدن وعمارة الملك، وما يضمن للرعية الأمن والدعة من الأحكام الجليلة التي ظهرت منافعها العظيمة بالفعل والتجربة فضلاً عن القول)([12])

ومنها قوله: (إن من ضمن محاسن القرآن العديدة أمرين واضحين جدًا أحدهما علامة الخشوع والوقار التي تشاهد دائمًا على المسلمين عندما يتكلمون عن المولى ويشيرون إليه.. والثاني خلوّه من القصص والخرافات وذكر العيوب والسيئات وإلى آخره، الأمر الذي يؤسف عليه كثيرًا لوقوعه بكثرة فيما يسميه المسيحيون (العهد القديم)([13])

ومنها قوله: (كان محمد على أعظم ما يكون من كريم الطباع وشريف الأخلاق ومنتهى الحياء وشدة الإحساس.. وكان حائزًا لقوة إدراك عجيبة وذكاء مفرط وعواطف رقيقة شريفة. وكان على خلق عظيم وشيم مرضية مطبوعًا على الإحساس)([14]) ومنها قوله: (إن بعض كتاب هذا العصر الحاضر كادوا أن يعرفوا بأن الطعن والقدح والشتم والسب ليس بالحجة ولا البرهان فسلموا بذكر كثير من صفات النبي السامية وجليل أعماله الفاخرة)([15])

ومنها قوله: (ما اهتدى مئات الملايين إلى الإسلام إلا ببركة محمد الذي علمهم الركوع والسجود لله وأبقى لهم دستورًا لن يضلوا بعده أبدًا وهو القرآن الجامع لمصالح دنياهم ولخير أخراهم)([16])

ومنها قوله: (لما شرف محمد ساحة عالم الشهود بوجوده الذي هو الواسطة العظمى والوسيلة الكبرى إلى اعتلاء النوع الإنساني وترقيه في درجات المدنية أكمل ما يحتاجه البشر من اللوازم الضرورية على نهج مشروع وأوصل الخلق إلى أقصى مراتب السعادة بسرعة خارقة. ومن نظر بعين البصيرة في حال الأنام قبله عليه الصلاة والسلام وما كانوا عليه من الضلالة.. ونظر في حالهم بعد ذلك وما حصل لهم في عصره من الترقّي العظيم رأى بين الحالين فرقًا عظيمًا كما بين الثريا والثرى)([17])

ومنها قوله: (امتدت أنوار المدنية بعد محمد في قليل من الزمان ساطعة في أقطار الأرض من المشرق إلى المغرب حتى إن وصول أتباعه في ذلك الزمن اليسير إلى تلك المرتبة العلية من المدنية قد حيّر عقول أولي الألباب. وما السبب في ذلك إلا كون أوامره ونواهيه موافقة لموجب العقل ومطابقة لمقتضى الحكمة)([18])

ومنها قوله: (ليس بين الأديان أقرب للفهم من الدين الإسلامي للذين يفقهونه، كما أنه ليس بينها أثبت ولا أرفق منه. فهو بقاعدتيه: وحدانية الله والجزاء الآجل، يمنح القلوب حقوقها من السكينة والارتياح ويذهب بالإرادة المذهب الذي يلائمها وتحتاج إليه بدون أن تسوم العقل قيود هو بالطبع يأباها. وليس في الاكتشافات العلمية الحديثة، ولا في المسائل التي انتهى حلها والتي تحت الحلّ ما يغاير مثل هذه الحقائق الإسلامية الوضاءة والسهلة المأخذ. ولهذا فإن التوفيق الذي نبذل كل جهدنا معاشر المسيحيين لإيجاده بين العقل والاعتقاد في ديننا المسيحي هو سابق موجود في الديانة الإسلامية. وإنني بكلامي هذا عن الدين المسيحي إنما أشير إلى تلك الزيادات الموافقة وغير الموافقة التي أدخلت على نصرانية الإنجيل التي هي في الحقيقة كإسلام القرآن)

ومنها قوله: (إن الشريعة المحمدية تشمل الناس جميعًا في أحكامها، من أعظم ملك إلى أقلّ صعلوك فهي شريعة حيكت بأحكم وأعلم منوال شرعي لا يوجد مثله قط في العالم)([19])

ومنها قوله: (إن الأساس المهم والمبدأ العظيم في الإسلام هو الاعتقاد بإله واحد في وحدانيته ونبذ الخرافات بأي وجه كانت)([20])

ومنها قوله: (مهما ارتقى العقل في درجات الكمال فليرتقِ فإنه لا يخرج عن حدّ تلك الأحكام الجليلة، أعني الأحكام التي انطوت عليها الشريعة الإسلامية، فاتباعها في كل زمان ضروري لا محيص للعقل عنه)([21])

مارك شليفر:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (مارك شليفر)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم أستاذ لعلم الصحافة بجامعة (نيويورك)، وقد عمل فترة بالمغرب مراسلاً للإذاعة الأمريكية، ولعدد من المجلات في (نيويورك).. وقد اعتنق الإسلام، وقد سألته ـ في لقائي به عن سر اعتناقه للإسلام، فكان من جوابه لي قوله: لم أكن ملتزماً بدين معين، مع أنني أنتمي إلى أسرة مسيحية كاثوليكية.. وكانت فترة إقامتي بالمغرب مفتاح السعادة لي ولأسرتي، فقد رأيتُ عالماً جديداً يختلف كليةً عن العالم الذي تركته خلفي في الولايات المتحدة الأمريكية، وما لمسته عن كثب من جمال وروعة السلوك الإسلامي شدني إلى شريعة الحق.

لقد تعثرت قدمي في حفرة ذات يوم حينما خرجت لأول مرة إلى سُوق شعبي بمدينة الرباط، وعلى الفور وجدتُ عدداً من المغاربة يسارعون إليَّ لمساعدتي على النهوض، ويسألونني في لهفة عمّا إذا كنت قد أُصبت بسوء.

ومرضتُ ذات مرة، فوجدت عشرات من جيراني ومعارفي يأتون لزيارتي، ويحاول كل منهم أن يصنع لي شيئاً، فدهشت لهذا السلوك الإنساني الذي لم أجد له نظيراً في بلدي أمريكا، حيث الكل لا يهتم إلا بنفسه، وطابع الحياة المادية البحتة هناك يصبغهم جميعاً بالأنانية، ولهذا لايكترثون بما يصب الآخرين، فالمرء عندنا يكون محظوظاً إذا ساعده أحدٌ أو زاره أهله في أثناء مرضه، أو حتى سألوا عنه.

ولذا فإنني حين سألتهم عن الدافع الذي يحملهم على صنع كل هذا من أجلي بدون مقابل أجابوا جميعاً: إن هذا هو ما يفرضه عليهم دينهم الإسلامي، ويأمرهم به رسولهم العظيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: لقد كان سلوك المسلمين الطيب هو الذي جذبك إلى الإسلام إذن؟

قال: لقد كان ذلك دافعا.. ولم أكتف به.. بل رحت أبحث عن الحقيقة من مصادرها.. وبعد مناقشات طويلة واسعة مع عشرات من علماء الإسلام تعلمت خلالها الكثير من أمور الإسلام، ازداد إعجابي به أكثر، ومع مرور الوقت وجدت عقيدة التوحيد تملأ عقلي وقلبي.. ومن ثم انكببت أدرس ترجمة لمعاني القرآن الكريم، وأستوعب ما بها حتى وجدت نفسي تتوجه إلى الله أن يهديني إلى الطريق المستقيم.

وبينما أنا أقلب صفحات القرآن الكريم ذات يوم إذا بي أطالع تفسير الآيتين الكريمتين:{ لا تُدركُهُ الأبصارُ وهُوَ يُدرِكُ الأبصارَ وهوَ اللَّطيفُ الخبيرُ قد جاءَكُم بصائر من ربّكُم فَمَن أبصرَ فلِنفسهِ ومن عَمىَ فعليها وما أنا عليكُم بحفيظٍ } (الأنعام: 103ـ104)

عندئذ لم أتمالك نفسي، ووجدت الدموع تنهمر من عيني، ومن ثم أيقنت أن هذه إشارة صريحة من الله عز وجل ترشدني إلى الإسراع في اعتناق الدين الإسلامي الحنيف، واللحاق بركب الموحدين، وعلى الفور حزمت حقائبي، وسافرت إلى أمريكا حيث أشهرتُ إسلامي أنا وزوجتي وولدي بالمسجد الكبير في نيويورك.

ليوبولد فايس:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (ليوبولد فايس)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا هو الاسم الذي ولد به محمد أسد.

قلت: أعرفه.. لقد ولد سنة 1900، وتوفي سنة 1992م.. وهو صحفى نمساوى يهودى وُلِد بإقليم من أقاليم بولندا كان تابعا آنذاك للإمبراطورية النمساوية، وكان يسمى ليوبولد فايس، ثم دخل فى الإسلام سنة 1926م بعد أن رحل إلى الجزيرة العربية أيام الملك عبد العزيز آل سعود، ثم انتقل بعد ذلك إلى شبه القارة الهندية حيث توثقت بينه وبين العلامة إقبال عُرَى الصداقة، وظل يساعد فى إذكاء نهضة الإسلام فى تلك البلاد إلى أن انفصلت الباكستان عنها فانتقل إلى الإقامة فى الدولة المسلمة الجديدة واكتسب جنسيتها وأصبح مندوبها الدائم فى الأمم المتحدة حتى عام 1953م.

وقد ترك عدة كتب تُرْجِم بعضها إلى العربية، منها (الطريق إلى مكة)، و(الإسلام فى مفترق الطرق)، و(منهاج الحكم فى الإسلام)، وله ترجمة إنجليزية للفرآن الكريم.

قال: فلا تحتاج إلى أن نتحدث عنه إذن؟

قلت: لا.. بل أحتاج إلى ذلك.. فليس الخبر كالعيان.. فهل التقيت به؟

قال: أجل.. لقد التقيت به في باكستان، وقد سألته عن طريقه للإسلام، فسرد لي أكثر ما ذكره في كتابه (الطريق إلي مكة)([22])

لقد بدأ بأفغانستان شتاء 1926.. قال: كنت فى طريقى راكبا من هرات لكابول بصحبة إبراهيم، ودليل أفغانى الجنسية، نسير خلال جبال مدفونة مغطاة بالجليد، ووديان وطرق فى (هندو- كش) فى وسط أفغانستان، كان الطقس باردا والجليد يتألق، وتقف على كل الجوانب جبال بيضاء، وأخرى سوداء.

كنت حزينا، وفى نفس الوقت بشكل غريب كنت سعيدا هذا اليوم!أما حزنى، فقد كان لأن من كنت أعيش معهم فى الشهور السابقة، كانوا محجوبين ببلادة، عن حقيقة النور، والقوة، والتقدم، الذى يعطيه لهم إيمانهم، وفى نفس الوقت كانت سعادتى، بأن هذه الحقيقة والنور، والقوة والتقدم، فى متناول يدى تقريبا الآن، وأمام عينى، كهذه الجبال الشامخة البضاء والسوداء التى أمامى.

بدأ حصانى يعرج وكأن شيئا فى حافره، ووجدت أن الحدوة الحديدية أصبحت معلقة فقط بمسمارين.

 سألت رفيقنا الأفغانى، هل هناك قرية قريبة نجد فيها حدادا؟

فقال: نعم، قرية (ديهزانجى) التي تقع على بعد أقل من ثلاثة أميال، يوجد بها حداد هناك، وبها قصر حاكم (هزرجات)

وهكذا اتجهنا إلى هذه القرية، وتمهلنا فى المسير حتى لا نرهق الحصان.. لقد كان حاكم المنطقة قصير القامة، وكان مرح الطلعة، ودودا، وكان سعيدا أن يستضيف أجنبيا عنده فى قصره البعيد عن العمران، والمتواضع. وقد كان هذا الحاكم قريبا للملك (أمان الله)، ومن المقربين له.. وقد كان من أكثر من قابلت تواضعا فى أفغانستان، وقد أصر على بقائى فى ضيافته ليومين.

وفى مساء اليوم الثانى، جلسنا كالعادة لعشاء دسم، وبعد العشاء حضر رجل من القرية ليطربنا بأغان شعبية، مصطحبا قيثارة بثلاث أوتار، وكان يغنى بلغة الباشتو التى لم أفهمها، ولكن بعض الكلمات الفارسية كانت تخللها بوضوح، فى الغرفة الدافئة المغطاة بالسجاجيد، بينما وميض الثلج البارد يظهر من خلال النوافذ. أتذكر أنه كان يغنى عن المعركة بين داوود وجالوت، وبدأها بنغمة متواضعة، ثم تدرجت إلى بعض العنف، وانتهت بروح الإنتصار.

وبعد أن انتهت، قال الحاكم: إن داوود كان شابا، ولكن إيمانه كان قويا…

ولم أتمالك من التعليق، فقلت: كذلك أنتم.. كثيرون، ولكن إيمانكم ضعيف.

نظر إلى المضيف بدهشة، وارتباك لما تطوعت وذكرته، فأسرعت لأوضح قولى، وأخذ توضيحى شكل سيل من الأسئلة.. لقد قلت: لماذا فقدتم أنتم المسلمون ثقتكم بأنفسكم، التى فى القديم ساعدت على نشر الإيمان بالإسلام فى أقل من مائة عام، من الجزيرة العربية غربا إلى المحيط الأطلسى، وشرقا فى العمق إلى الصين، والآن تستسلمون بضعف إلى الأفكار والعادات الغربية؟.. لماذا لا تستطيعون أنتم يا من كان أباؤكم الأوائل أناروا العالم بعلمهم وفنهم، بينما كانت أوروبا تغض فى بربرية وجهل مدقع، فلتعملوا من الآن على أن تعودوا لإيمانكم الخلاق؟.. كيف أن هذا الأتاتورك التافه، الذى ينكر كل قيم الإسلام قد أصبح عندكم رمزا لإحياء الإسلام؟

استمر  مضيفى فى صمته، وبدأ الجليد ينهمر فى الخارج، ومرة ثانية غمرنى الشعور المزدوج بالحزن والسعادة، الذى انتابنى حينما اقتربت من (ديهزانجى).. لقد أحسست بالفخار لما قد كان، وبالخجل لما عليه أبناء حضارة عظيمة.

قلت لمضيفي: هل لك أن تدلنى كيف أن الإيمان الذى دلكم عليه نبيكم، وكل هذا الوضوح والبساطة، قد دفنت تحت أنقاض الثرثرة المتحزلقة، والشجار بين علمائكم؟.. كيف أن أمراءكم والإقطاعيين يعيشون فى رفاهية، بينما إخوانهم من المسلمين، يذوقون الفاقة والفقر المدقع، فى حين أن نبيكم يقول أنه (لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع)؟.. هل لك أن تشرح لى كيف نبذتم النساء خلفكم، بينما نساء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته كن يشاركن الرجال فى أمورهم الهامة؟.. كيف وصل الحال بكم أنتم المسلمين إلى الجهل والأمية، فى حين يقول نبيكم أن (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، و(فضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر النجوم)؟

ظل مضيفى يحملق فى دون كلام، وابتدأت أشعر أن ملحوظاتى قد أحبطته، أما الرجل ذو القيثارة الذي كان لا يعرف الفارسية بدرجة تجعله يتتبع كلامى، فقد أخذ يتعجب من هذا الغريب الذى يتكلم بهذه النغمة مع الحاكم.

وفى النهاية، أخذ الحاكم رداءه المصنوع من جلد الغنم وتدثر به، كما يكون قد أحس بالبرد!وهمس لى: (لكنك أنت مسلم)

أخذنى الضحك، وأجبت: لا، أنا لست مسلما، ولكنى ألممت ببعض القيم فى الإسلام التى تجعلنى أغضب فى بعض الأحيان،  كيف أنكم أنتم أيها المسلمون تضيعونها، اعذرنى إذا كنت قد أسأت فى الكلام، أنا لا أتكلم معك كعدو.

لكن مضيفى هز رأسه قائلا: (لا.. فكما قلت لك، أنت مسلم، ولكنك لا تعرف نفسك.. لماذا لا تنطق الآن، وهنا بالشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وتصبح مسلما فى حقيقة الأمر، فإنك مسلم قلبيا.. قلها يا أخى، قلها الآن، وسأصطحبك غدا لكابول لملاقاة الأمير، الذى سيستقبلك بذراعين مفتوحتين كشخص مثلنا، سيمنحك منازل وحدائق وأغنام، وسيحبك، قلها يا أخى..)

قلت: إذا قلت ذلك، سيكون نتيجة لأن عقلى قد استراح، وليس نتيجة لأن الأمير منحنى المنازل والحدائق.

لكن مضيفى أصر قائلا: أنت تعرف كثيرا عن الإسلام ز ربما أكثر من بعض المسلمين، ما هو الذى ما زلت تريد أن تعرفه؟

قلت: المسألة ليست مسألة فهم، إنها مسألة إقتناع، الإقتناع بأن القرآن الكريم هو فعلا كلمة الله، وليس مجرد كلمات من شخص نابه ذكى ذو عقلية متفوقة.

لكن كلمات صديقى الأفغانى أخذت تراودنى ولم تتركنى لشهور عدة.

أكملت رحلتى عبر أفغانستان عائدا مرة ثانية إلى هرات التى كنت قد ابتدأت منها، وكنا نقترب من الشتاء عام 1926، وهكذا تركت هرات فى المرحلة الأولى لطريق العودة للوطن، مستقلا القطار من الحدود الأفغانية إلى (ماف) فى التركستان الروسية، ثم إلى سمرقند، ثم إلى بخارى ثم إلى طشقند.. ومن ثم مارا بسهول التركمان إلى جبال الأورال، ثم موسكو.

وهالنى الدعاية والمعلقات التى تهاجم الدين والألوهية أينما أحل أو أرتحل([23])، وسأتوقف عن ذكرها لأنها مقززة.

وبشعور بالراحة، عبرت الحدود البولندية بعد أسابيع أمضيتها فى آسيا، وروسيا الأوروبية، واتجهت مباشرة لفرانكوفرت حيث الجريدة التى أعمل بها حيث استلمت عملى.

لم يمض وقت طويل حتى اكتشفت أنه أثناء غيابى، أصبح اسمى مشهورا، وأنى الآن أعتبر من المراسلين المرموقين فى وسط أوروبا، فبعض مقالاتى ـ خصوصا تلك التى تناولت النفسية الدينية المعقدة للإيرانيين ـ والتى قد جاءت نتيجة لملاحظات علماء شرقيين بارزين، واستقبلت أكثر من أنها معارف عابرة.

ونتيجة لأهمية هذا الإنجاز، فقد دعيت لإلقاء مجموعة من المحاضرات فى أكاديمية الجغرافيا السياسية ببرلين – حيث قيل لى أنه لم يسبق أن حدث من قبل أن شخصا فى حداثة السن مثلى ـ حيث كنت حينئذ فى السادسة والعشرين ـ قد منح هذا الإمتياز، كما قمت بتدبيج مقالات أخرى عامة بتصريح من مجلة (فرانكفورت زيتنج)، فى صحف أخرى ؛ وقد أعيد طبع إحدى المقالات كما أعلم ثلاثون مرة تقريبا، وبمعنى آخر، فإن رحلاتى الإيرانية قد أثمرت.

وفى هذا الوقت تزوجت (إلسا).. فالسنتان اللتان أمضيتهما فى الخارج، لم يضعفا من حبنا البعض، بل زادته قوة، وبسعادة غامرة لم أشعر بها من قبل، استقبلت تعليقاتها على الفرق الكبير فى السن بيننا.

قالت: ولكن كيف تتزوجنى؟، بدأت فى النقاش معى، قالت: أنت لم تصل بعد للست والعشرين عاما، وأنا فوق الأربعين، ألا تفكر فى ذلك، حينما تصل للثلاثين، سأكون أنا فى الخامسة والأربعون، وحينما تصل أنت للأربعين، سأكون امرأة عجوزا.

أخذت فى الضحك، وقلت: وما فى ذلك؟، إننى لا أرى مستقبلا بدونك.

وأخيرا سلمت للأمر.

لم أبالغ حينما قلت لها: إننى لا أرى مستقبلا بدونك.. جمالها.. ورقتها الفطرية، جذبتنى إليها بحيث لا أرى أى امرأة أخرى ؛ وحساسيتها فى فهم ماذا أريد من الحياة أضاء أمالى، ورغباتى، وأصبحت من الصلابة بمكان وأكثر إدراكا، وطغت على تفكيرى فى ماذا أعمل ؟

فى أحد المناسبات – بعد حوالى أسبوع من زواجنا، أبدت لى هذه الملاحظة، لقد قالت لي: كم أنت غريب الأطوار عن كل الناس؟ يجب عليك أن تخفض من الروحانيات فى الدين.. أنت صوفى النزعة.. حساس فى صوفيتك.. تشير بأصابعك إلى ما حولك فى الحياة، ولك رؤية متعمقة روحانية فيما يدور حولك يوميا من أشياء، بينما تمر مثل هذه الأشياء على الآخرين بلا اكتراث.. ولكنك حينما تتجه إلى الدين، فكلك تركيز.. مع الناس الآخرين فالوضع بالعكس تماما..

لكن إلسا لم تكن فى حيرة، فهى تعلم عما أبحث حينما أتكلم معها عن الإسلام ؛ وبالرغم من أنها لم تكن فى نفس درجتى من الإضطراب، إلا أن حبها لى جعلها تشاركنى تساؤلاتى.

كثيرا ما كنا نقرأ القرآن سويا، ونتناقش أفكاره ؛ وكانت إلسا كما كنت أنا، معجبين بالتماسك الداخلى بين تعاليمه الأخلاقية، وإرشاداته العملية. فاستنادا إلى القرآن الكريم، فالله لم يدع الإنسان إلى أن يتضرع إليه معصوب العينين، بل لابد له أن يعمل عقله ؛ لم يتنح الله بعيدا عن الإنسان، بل هو أقرب إليه من حبل الوريد ؛ لم يخط الله خطا فاصلا بين الإيمان والسلوك الإجتماعى.

والشئ الذى يعتبر فى غاية الأهمية، أن الإسلام لم يبدأ  من بديهية أن الحياة محملة بالصراع بين الروح والجسد، وأن النجاة هى فى تحرير الإنسان من قيود الجسد.. كل مظهر من مظاهر أنكار الحياة، وتحقير الإنسان لنفسه، أدانها الإسلام فى أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. مثل ما ورد في حديث الثلاثة الذين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من رغب عن سنتى فليس منى)

فالإنسان مطالب بأن يعيش حياته كاملة وبشكل إيجابى، فما منحت غرائزه إلا لتؤدى ثمرتها، ولكن ليستخدمها بطهر وأخلاق وفى محلها الصحيح. ومن التعاليم للإنسان: أنه ليس لك فقط أن تعيش حياتك، بل المفروض عليك أن تعيشها بكل أبعادها.

صورة متكاملة للإسلام تنبثق فى ذهنى وبشكلها النهائى وبتحديد، مما أدهشنى،  أحيانا كانت تتشكل فى عملية من الممكن أن أسميها تفاعلات ذهنية،  وبدون وعى منى، فقد بدأت تتجمع من أجزاء متفرقة ومنتظمة، فإذا وضعت هذه المتناثرات بعضها إلى بعض، رأيت نظاما هندسيا دقيقا، أخذ ذهنى يجمعه فى السنوات الأربع الماضية، لأرى بناء كل عناصره متناسقة منسجمة، تتجمع لتتمم وتعاضد بعضها البعض، لا شئ فيه ينقصه، ولا شئ يزيد عن متطلباته متزن وهادئ، يعطى الإنطباع بأن مسلمات الإسلام كلها فى وضعها الصحيح.

منذ ثلاثة عشر قرنا مضت([24])،  وقف رجل يقول : (ما أنا إلا رجل هالك، ولكن الذى خلق الكون أوحى إلى أن أحمل رسالته لكم، حتى تعيشوا منسجمين مع كل خلقه، وقد أمرنى بأن أذكركم بوجوده إلها له كل القدرة وكل العلم، وقد وضع لكم منهاجا للسلوك الصحيح، إذا قبلتموه فلتتبعونى.. هذا كان هو الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه كانت رسالته.

النظام الإجتماعى الذى أعلنه، كان من البساطة التى تربط مفرداته بالعظمة الحقيقية، بدأ بالتسليم بأن الإنسان كائن حى له متطلبات حيوية، وهذه المتطلبات تخضع للحل والحرمة اللذان يقرهما الله سبحانه وتعالى، وأن الإنسان اجتماعى بطبعه يجتاج إلى مجتمع يحيط به، ولكى يحقق إحتياجاته الثقافية والأخلاقية والطبيعية، فلابد أن يعتمد كل على الآخر.

إن ازدهار القوام الروحى للإنسان ـ وهو هدف كل الأديان ـ يعتمد عما إذا كان يتلقى دعما وتشجيعا وحماية له ممن حوله.

هذا التكافل الإجتماعى يظهر سبب اهتمام الإسلام بالنواحى العامة الإقتصادية والسياسية، ولا ينفصل عنها، ولتنظيم علاقات إنسانية بطريقة عملية بحيث لو قابل أى فرد بعض العقبات، يجد التشجيع اللازم لتنمية شخصيته:  هذا، ولا شئ آخر، يبدو أنه هو مفهوم الإسلام للوظيفة الحقيقة للمجتمع.

وهكذا كان من الطبيعى أن التشريع الذى أتى به سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم خلال ثلاثة وعشرون عاما من مبعثه لا يرتبط فقط بالنواحى الروحية، بل يمتد ليشمل الإطار لكل الأفراد وللمجتمع أيضا. يشمل ليس فقط مفهوم النقاء الفردى، ولكن يتضمن المجتمع العادل الذى يؤدى هذا النقاء إليه، كذلك يتضمن الخطوط العريضة للمجتمع السياسى، أما التفاصيل فمتروكة للتطورات التى تحدث مع الزمن المتغير، كما يحدد حقوق الأفراد وواجباتهم نحو المجتمع اذى يعيشون فيه آخذا بعين الإعتبار حقيقة ما يجد من أمور.

الشريعة الإسلامية تتضمن كل مناحى الحياة، أخلاقية، طبيعية، فردية، اجتماعية، العلاقة بين الجسد والروح والعقل، الجنس، الإقتصاد، كل ذلك جنبا إلى جنب، مع اللاهوت والعبادة، كل أمر من الأمور له وضعه فى تعليمات النبى صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شئ يخص الحياة ينظر إليه على أنه تافه ليخرج من دائرة التصور الدينى.. ليس حتى مثل هذه القضايا الدنيوية، كالتجارة، والميراث، وحق الملكية، وامتلاك الأراضى.

كل مفردات الشريعة وضعت للانتفاع المتساوى بين أفراد المجتمع، بدون تمييز بين مكان المولد والأعراق والجنس أو ولاء اجتماعى سابق.. لا منافع خاصة حجزت لمؤسس المجتمع أو أحفاده.. لا توجد طبقات عليا وطبقات دنيا فى المفهوم الإجتماعى، ليست من مفردات القاموس الإسلامى ؛ ولا أثر لها فى الشريعة الغراء.. كل الحقوق والواجبات والفرص، موزعة بين أفراد المجتمع المؤمن بالتساوى.

لا يوجد كهنة بين الله والإنسان، لأن الله يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، لا ولاء  إلا لله ورسوله، وبأمر من الله للوالدين، وللمجتمع المسلم المنوط بتحقيق مملكة الله على الأرض ؛ وبذلك فلا يجوز الذى يعلى كلمة (بلادى أو أمتى)، ولتوضيح هذا المفهوم، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى أكثر من مناسبة، قال بوضوح : (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)

كل المنظمات قبل الإسلام.. حتى الدينية أو شبه الدينية.. كانت تنهج المفهوم الضيق للعصبية القبلية والعشائرية، فمثلا الملوك المتألهين، الفراعنة فى مصر، لا يفكرون إلا فى أضيق الحدود التى يعيش فيها المصريون ؛ وحتى إله بنى إسرائيل فهو إله فقط للشعب المختار، بالعكس فالمفاهيم المستقاة من القرآن الكريم ترفض رفضا باتا التمسك بالعشيرة أو القبيلة.

الإسلام افترض مجتمعا سياسيا بعيدا عن الإنقسامات العرقية والقبلية، وفى هذا المجال فإن الإسلام والنصرانية يتفقان فى الدعوة العالمية بعيدا عن القبلية، وفى حين أن النصرانية قد حددت نفسها فى مفهوم (اعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)، إلا أن مفهوم الإسلام أوسع من ذلك، فقد دعا كل الأمم أن يكون الولاء لله فقط.

وبذلك.. لتحقيق ما لم تحققه النصرانية.. فقد أضاف الإسلام منظورا آخر فى تطوير الإنسان.. لقد دعا إلى مجتمع مفتوح عقائديا، بالمقارنة مع المجتمعات المغلقة التى نشأت فى الماضى عرقيا وجغرافيا.

لقد أعطت رسالة الإسلام تصورا ومنحت البشرية حضارة لا مكان فيها للقومية، لا مصالح شخصية، لا طبقية، لا كنيسة، لا كهنة، لا طبقة نبلاء متوارثة، فى الحقيقة، لا شئ متوارث على الإطلاق ([25]).

روجيه جارودي:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (روجيه جارودي)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم المفكر الفرنسي المعروف، وأحد كبار زعماء الحزب الشيوعي الفرنسي، سابقًا، وهو رجل تتميز ثقافته بالعمق والشمولية، والرغبة الجادة في البحث عن الحق مهما كان الثمن الذي يكلفه.

وقد أتيح له منذ مطلع الأربعينات أن يحتك بالفكر الإسلامي والحياة الإسلامية، وقد ازداد هذا الاحتكاك بمرور الوقت، وتمخض عن اهتزاز قناعاته المادية وتحوله بالتدريج إلى خط الإيمان، الأمر الذي انتهى به إلى فصله من الحزب الشيوعي الفرنسي، كما قاده في نهاية الأمر (أواخر السبعينات) إلى اعتناق الإسلام، حيث تسمى بـ(رجاء جارودي).

وقد كتب العديد من المؤلفات منها: (حوار الحضارات)، (منعطف الاشتراكية الكبير)، (البديل)، (واقعية بلا ضفاف)، وبعد إسلامه أنجز سيرة ذاتية خصبة وعددًا من المؤلفات، أبرزها: (وعود الإسلام)، فضلاً عن العديد من المحاضرات التي ألقاها في أكثر من بلد.

قلت: لا شك أنك التقيت به، فقد كان له ـ مثلك ـ رحلات كثيرة، وهو يحضر المؤتمرات والندوات، ولا يقصر في ذلك.

قال: أجل.. لقد التقيت به مرات عديدة.. وفي كل مرة كنت أسمع شيئا جديدا، ولم أكن السائل بل كنت المستمع المتنصت.

في أحد تلك المؤتمرات سأله بعضهم قائلا: نسمع كلاما كثيرا عن الإسلام.. فما هو الإسلام؟

التفت روجيه إلى السائل، وقال: (إن الإسلام لم يعد ذلك (الكافر) في زمن الصليبيين أو الـ (إرهابي) في حرب التحرير الجزائرية، ولم يعد ذلك الأثر في المتحف الذي يتفحصه المستشرق بعين العالم الاختصاصي بعاديات الحضارات، انطلاقًا من الحكم السبقي بامتيازية الغرب.. بل لم يعد أكثر من هذا، ذلك الانفجار العلمي المذهل الذي كان، عند الخروج من العصور الوسطى قد فتح الطريق ببساطة لعلومنا (الحديثة).. إنما الإسلام هو تلك الرؤية لله وللعالم وللإنسان، التي تنيط بالعلوم وبالفنون وبكل إنسان وبكل مجتمع مشروع بناء عالم إلهي وإنساني لا انفصام فيه باقتضاء البعدين الأعظمين، المفارقة والجماعة، التسامي والأمة)([26])

ثم استغرق في خشوع عظيم، وقال: (إن الله أكبر من أعظم الملوك، وإليه وحده يدان بالإجلال المطلق، فها هنا المبدأ بحق لا يجوز التصرف فيه، بالصمود في وجه كل طغيان وبمعارضة كل سلطة، الأساس الإلهي للمساواة بين جميع الناس من وراء أي تسلسل في المراتب الاجتماعية)([27])

ثم قال: (بفضل مبدأي الإسلام الأساسيين: مبدأ السلطة لله وحده وهو الذي يجعل كل سيادة اجتماعية نسبية، ومبدأ الشورى الذي يستبعد أية وساطة بين الله والشعب، يزال، في آن واحد، أي استبداد مطلق يضفي القداسة على السلطة، ويصبو إلى أن يجعل من القائد إلهًا على الأرض)([28])

في مؤتمر آخر سأله بعضهم عن موقفه من الجهاد في الإسلام، فقال: (إن الجهاد الأكبر في الإسلام هو كفاح ضد الذات، ضد الميول التي تجذب الإنسان بعيدًا عن مركزه. وهو ما يقوده، باجتذابه نحو رغبات جزئية، إلى أن يصطنع لنفسه (أوثانًا) وبالنتيجة يمنع عن الاعتراف بوحدانية الله. والانتصار على هذه (الوثنية) الداخلية أصعب كثيرًا أيضًا من الانتصار على المشركين في الخارج. ومازلنا نجد اليوم في هذا درسًا عظيمًا لكثير من (الثوريين) الذين يطمعون بتغيير كل شيء إلا أنفسهم. كما كان، فيما مضى، شأن الكثير من (الصليبيين)، الذين كانوا في القدس وفي أسبانيا (المراد استردادها)، أو ضد هنود أمريكا، يريدون أن يفرضوا على الآخرين مسيحية يهزؤون منها بكل عمل من أعمالهم)([29])

وعندما سئل عن سر انتشار الإسلام بقوة تفوق انتشار المسيحية، قال: (حدثني مبشر في كميرون وهو يائس فقال: (إن بعثاتنا تقدم المسيحية على نحو كما لو أن الله لم يظهر في صورة إنسان وإنما ظهر في صورة غربي). فكيف ندهش أمام تقدم الإسلام المذهل في أفريقية السوداء في عصر الاستقلال إعرابًا عن رفض المستعمر؟)([30])

وفي أحد المؤتمرات النسوية سألته بعض النساء عن موقف الإسلام من المرأة، فقال: (إن القرآن، من وجهة نظر اللاهوتية، لا يحدّد بين الرجل والمرأة علاقة من التبعية الميتافيزيقية: فالمرأة في القرآن توأم وشريكة للرجل لأن الله خلق البشر ككل شي:{ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذريات:49) والقرآن لا يحمّل المرأة المسؤولية الأولى للخطيئة)([31])

(إذا نحن قارنّا قواعد القرآن بقواعد جميع المجتمعات السابقة فإنها تسجل تقدّمًا لا مراء فيه ولا سيما بالنسبة لأثينا ولروما حيث كانت المرأة قاصرة بصورة ثابتة)([32])

(في القرآن تستطيع المرأة التصرف بما تملك وهو حق لم يعترف لها به في معظم التشريعات الغربية ولا سيما في فرنسا إلا في القرن التاسع عشر والعشرون. أما في الإرث فصحيح أن للأنثى نصف ما لذكر، إلا أنه بالمقابل تقع جميع الالتزامات وخاصة أعباء مساعدة أعضاء الأسرة الآخرين على عاتق الذكر. المرأة معفاة من كل ذلك. والقرآن يعطي المرأة حق طلب الطلاق وهو ما لم تحصل عليه المرأة في الغرب إلا بعد ثلاثة عشر قرنا)([33])

(في القرآن إقرار بتعدّد الزوجات. إلا أن هذا التعدد لم يؤسسه هو، كان موجودًا من قبل (وهو موجود كذلك في التوراة وفي الأناجيل)، وقد فرض عليه، على العكس، حدودًا مثل العدل التام بين مختلف الزوجات في الإنفاق والمحبة والمعاشرة الجنسية، وهي قواعد إذا ما جرى تطبيقها بحرفيّتها تجعل تعدد الزوجات مستحيلاً)([34])

(يحسن ألا ننسى بأن جميع ألوان الرّقّة في الحب والشفافية فيه.. على نحو ما ظهر في الغرب لدى شعراء التروبادور.. وفي قصائد دانتي.. من أصول عربية إسلامية)([35])

روبرت بيرجوزيف:

من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (روبرت بيرجوزيف)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا اسم لأستاذ سابق للفلسفة بالجامعات الفرنسية، وله العديد من الكتب في مجال الفلسفة والتوحيد، وقد اعتنق الإسلام بعد دراسة جادة مضنية أوصلته إلى اقتناع كامل به كدين قائم على التوحيد.

قلت: هل التقيت به؟

قال: أجل.. لقد من الله علي بذلك، وكان من جوابه لي عن سر إسلامه قوله: بلا شك أن الإسلام ـ وهو دين العلم والمعرفة ـ يدعو معتنقيه إلى التزود بالعلم به، ولا غَروَ في ذلك، فإن أول آية من القرآن الكريم هي قوله تعالى لرسوله الكريم:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } (العلق:1)، والنبي الكريم يقول: (اطلبوا العِلمَ ولو كان في الصين)

قلت: فما علاقة هذا بإسلامك؟

قال:  من تجاربي الشخصية وصلت إلى إيمان لا يتزعزع بأن الفرد الذي يخلص في أبحاثه للحصول على العلم في أي فرع من فروعه لخدمة المجتمع، ولخير البشرية جمعاء، فإن الله سبحانه وتعالى سيجازيه خير الجزاء على كل ما يقدمه من خير لمجتمعه، فالله يقول في سورة الزلزلة:{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } (الزلزلة:7)، وبالنسبة لي فإنني لم أكتف بدراستي الخاصة في الفلسفة، بل إنني حاولت في شتى فروع المعرفة، وخاصة في إثبات وحدانية الله خالق كل شيء، ومدبر كل شيء في هذا الكون، الذي تهدده الحضارة المادية الإلحادية التي تكاد تقضي على كل ما توارثته الأجيال الماضية والحاضرة من تقدم وازدهار. فسلاح العلم وحده لا يُستخدم إلا في الخير والبناء، لا في الدمار والخراب، وذلك هو الأمل لأبناء البشرية جمعاء للوصول إلى الحقيقة الكبرى، وإلى خلاص العالم من مشاكله.

فالعلم والبحث كانا سبباً في انبثاق إشراقة الأمل ونور الحق، وإنارة الطريق أمامي.. ليهديني ربي إلى الصراط المستقيم، ويرشدني إلى بر الامان، وينقذني من العذاب الشديد الذي كنت أعانيه نتيجة الصراع العنيف الذي كان يدور في نفسي، ولا ريب في هذا الكلام، فإنني أعتقد بأن الإسلام ـوهو شريعة الله والحق ـ معناه السلام، بكل ما تحتويه هذه الكلمة من معانٍ كبيرة، وأولها السلام بين الشخص ونفسه.

فالنفس ـ وهي الأمارة بالسوء ـ لا تستطيع أن تسيطر عليها وتوجهها إلى خير الفرد والمجتمع، إلا الشريعة الإسلامية ومبادئها السمحاء.

فالشهادة تعني أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. تعني أن الناس جميعاً متساوون، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى..

واتصال العبد مباشرة بخالقه خمس مرات يوميّاً ـ في صلاته ـ زادٌ يومي يُذَكّرَهُ بوجود الخالق، ويدعوه إلى إتباع ما دَعَا إليه، واجتناب ما نَهى عنه.. { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } (آل عمران:110)

والزكاة تُوحدُ بين القلوب، وتقضي على الحقد والبغض والحسد، فتقرب بين المسلمين وتجعلهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.

وصيام رمضان يعتبر تدريباً للنفس لكبح جماحها..

وخروج الفرد من زينة الدنيا في الحج يذكره بيوم الحشر والحساب..

فهذه المباديء تستطيع إقامة المجتمع المثالي الذي ظللت أبحث عنه منذ نشأتي..

ولذا فإنني أدعو كل إنسان أن يبحث عن حقيقة الإسلام ومبادئه المختلفة، ولا يتأثر بالادعاءات الكاذبة التي يرددها المغرضون وأصحاب الأغراض الشخصية، فالطريق مفتوح أمام كل إنسان للنظر في كتاب الله وسنة رسوله، وليحكم بعد ذلك بما يمليه عليه ضميره.

قلت: فماذا فعلت بعد إسلامك؟

قال: أول ما فعلته بعد اعتناقي للإسلام، هو محاولة زيارة الدول الإسلامية لدراسة أحوال معيشتهم، والتعرف عليهم، ولقد سعدت كثيراً بزيارة المملكة العربية السعودية، والكويت، ومصر وغيرها، وكنت دائماً أحس بالبيئة الإسلامية التي أفتقدها ويفتقدها كل مسلم يعيش في بلاد الغرب.

قلت: فهل تنوي خدمة الإسلام بما تعلمته من علوم؟

قال: لا بد من ذلك.. إنني الآن أقوم بمحاولة إعداد كتاب باللغة الفرنسية عن الشريعة الإسلامية، وتاريخ الإسلام والمسلمين، ودور علماء المسلمين الاوائل في العلوم والفنون المختلفة.

قال ذلك، ثم توجه لبعض المستمعين من المسلمين يقول: أود أن أطلب من المسلمين أن يفتخروا بأنهم مسلمون، وأن يكونوا خير مثل لهذه الشريعة الخالدة، وأن يكونوا جديرين بأن يحملوا هذه العقيدة.

وأحب أن أذكر هنا مثلاً يبين لهم أهمية تمسكهم بدينهم دون التأثر بما يجري من حولهم، وهو أن أصحاب الأعمال هنا يفضلون المسلمين المتمسكين بدينهم، نظراً لأنهم يكونون على خُلُق طَيّبٍ، وإخلاص تام للأعمال التي يقومون بها، فضلاً عن أن سلوكهم الاجتماعي يجبر الجميع على احترامهم وتقديرهم، واحترام وتقدير عقيدتهم.

كما أطلب من الدول الإسلامية ـ وخاصة مصر ـ أن تتحمل المسئولية الكبرى لخدمة الإسلام والمسلمين في العالم أجمع، كأن تهتم مثلاً بتوزيع المطبوعات الإسلامية التي تتناول الأسس والمبادىء الإسلامية بالأسلوب العلمي المبسط، وباللغات المختلفة.. وأن تهتم بالقرآن الكريم وترجمته للشعوب غير الناطقة بالعربية، والاهتمام أيضاً بأسطوانات وتسجيلات تعليم الصلاة للمسلمين في الدول الغربية بصفة عامة، وفي فرنسا بصفة خاصة، حتى يمكننا ـ نحن الأوربيين ـ دراسة هذا الدين الحنيف.. كما يمكننا نحن الذين أسلمنا أن نُعَرّف إخواننا غير المسلمين به، ولكل طالب علم ومعرفة، والله يهدي من يشاء من عباده.


([1])  انظر: مقالة عنه من كتاب الإسلام والغرب، الوجه الآخر – حسن السعيد.

([2])  النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، د. محمد رجب البيومي: 2 / 421.

([3])  هؤلاء المثقفون اختاروا الإسلام، محمد عثمان ص 35.

([4])  هؤلاء المثقفون اختاروا الإسلام، محمد عثمان ص 36.

([5])  انظر: اللواء الإسلامي: من حديث أجراه محمد صبره ورضا عكاشه في إحدى أعدادها الأسبوعية.

([6])  سنتحدث عنه في هذا الفصل.

([7])  انظر تفاصيل الرد على الشبهات المرتبطة بهذا في رسالة (سلام للعالمين)، ورسالة (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.

([8])  نتعجب من هيئات الرقابة على المصاحف في الدول الإسلامية من اهتمامها الشديد بالنسخ العربية مع الإهمال الشديد للترجمات المختلفة، وكأنها لا تمت بصلة للقرآن.

([9])  العقيدة الإسلامية، ص 119 – 120.

([10])  العقيدة الإسلامية، ص 122 – 123.

([11])  العقيدة الإسلامية، ص 138.

([12])  العقيدة الإسلامية، ص 139 – 140.

([13])  أحسن الأجوبة عن سؤال أحد علماء أوروبة، ص 23 – 26.

([14])  العقيدة الإسلامية، ص 96 – 97.

([15])  العقيدة الإسلامية، ص 113 – 114.

([16])  العقيدة الإسلامية، ص 38 (عن لوزون في خطبته المذكورة ).

([17])  أحسن الأجوبة عن سؤال أحد علماء أوروبا، ص 21 – 22.

([18])  أحسن الأجوبة عن سؤال أحد علماء أوروبا، ص 22- 23.

([19])  العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 62، ( عن لوازون في خطبته المذكورة)

([20])  العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 123، ( عن كتاب شكوى وارن هاسنتج، لادماند بورك )

([21])  العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 129 –  30.

([22])  ما نذكره هنا منقول من كتابه (الطريق إلى مكة) من صفحة 295 إلى 311 بتصرف يقتضيه المقام.

([23])  كتب ذلك في عهود الشيوعية.

([24])  بناء على الوقت الذي يؤرخ له المؤلف.

([25])  انظر: الإسلام والغرب، الوجه الآخر، حسن السعيد.

([26])  دعوة الإسلام، ص 22.

([27])  دعوة الإسلام، ص 31.

([28])  دعوة الإسلام، ص 36.

([29])  دعوة الإسلام، ص 45.

([30])  حوار الحضارات، ص 267.

([31])  وعود الإسلام، ص 78.

([32])  وعود الإسلام، ص 78.

([33])  وعود الإسلام، ص 78-79.

([34])  وعود الإسلام، ص 80.

([35])  وعود الإسلام، ص 79.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *