ثامنا ـ العالم

في اليوم الثامن، قام رجل منا، وقال: سأحدثكم اليوم أنا عن حديثي.. فاسمعوني.. وأرجو أن تصبروا على ما سأذكره لكم من مآس.. فأنا لا أذكرها لكم إلا لأنفس عن صدري بعض تلك الآلام التي تنهشه، وأطفئ تلك الحرائق العظيمة التي تملأ قلبي بالخراب..
أنا رجل كتب له أن يكون ضحية لأفكار سوداوية كثيرة جعلته تلميذا للإجرام وأستاذا من أساتذته.. ولم أكن وحدي في ذلك.. لقد كنت في أمة من الناس لا تفكر إلا بالعقل الذي أفكر به، ولا تمارس من الأساليب إلا ما أمارسه من الأساليب.
ليس عند هذا الحد تقف قصتي.. هناك جوانب مشرقة جميلة ختمت بها.. ولأجلها جئت إلى هذه البلاد.. ولكن الله قدر أن أصلى ببعض النيران التي كنت أصليها غيري.. وأنا راض بذلك، مطمئن له.. لأني على حسب ما ذكر لي النور والطهر والسلام لن ألقى في حياتي إلا ثمار ما غرسته فيها.
ولكني مع ذلك متأسف أسفا لا يمكن أن يكون له حد.. لأني ما أتيت هنا إلا لأستبدل تلك الثياب الدموية التي ولدت بها ونشأت عليها وسرت في حياتي جميعا وأنا ألبسها.. بثياب أخرى ممتلئة بالطهر والسلام والصفاء.. ثياب قد تكفر تلك الجرائم الكثيرة التي ارتكبتها كما ارتكبها أسلافي في حق الإنسانية.
قلنا: من أنت؟
قال: لقد تسميت بأسماء كثيرة.. فمن أسمائي نيرون.. ومنها شارون.. ومنها هتلر.. ومنها نابليون.. ومنها بوش.. ومنها أسماء كثيرة ستعرفونها عند سردي لقصتي..
قلنا: فمن أي البلاد أنت؟
قال: من كل تلك البلاد التي تصدر الإجرام، وتتعامل مع البشر كما تتعامل مع الحشرات.
قلنا: فمتى ولدت؟
قال: من قديم.. من زمن طويل.. لا أذكر اليوم بالضبط.. ولكني أذكر أنه في اليوم الذي بدأت أميز فيه قدمت لي آلاف القرابين البشرية.. وعمدت بالسباحة في دمائها..
في ذلك الحين جاء الكاهن ورتل علي آيات كثيرة من الكتاب المقدس.. كانت أول مرة أسمع فيها بالكتاب القدس.. سأقرأ عليكم أول ما طرق سمعي منها.. ولعلكم تعذروني في ذلك التوجه المؤلم الذي توجهت إليه في حياتي.. وكيف لا أتوجه إليه.. وقد بدأ الكاهن حياتي بأن أسمعني هذه النصوص الممتلئة بالقداسة:
لقد أسمعني من سفر (حزقيال: 9 : 5) قول الرب:( اعْبُرُوا فِي الْمَدِينَةِ خَلْفَهُ وَاقْتُلُوا. لاَ تَتَرََّأفْ عُيُونُكُمْ وَلاَ تَعْفُوا. أَهْلِكُوا الشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ وَالطِّفْلَ وَالنِّسَاءَ. وَلَكِنْ لاَ تَقْرَبُوا مِنْ أَيِّ إِنْسَانٍ عَلَيْهِ السِّمَةُ، وَابْتَدِئُوا مِنْ َقْدِسِي. فَابْتَدَأُوا يُهْلِكُونَ الرِّجَالَ وَالشُّيُوخَ الْمَوْجُودِينَ أَمَامَ الْهَيْكَلِ. وَقَالَ لَهُمْ: نَجِّسُوا الْهَيْكَلَ وَامْلَأُوا سَاحَاتِهِ بِالْقَتْلَى، ثُمَّ اخْرُجُوا. فَانْدَفَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَشَرَعُوا يَقْتُلُون)
وأسمعني من سفر (العدد: 31 : 1 ):( وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: انْتَقِمْ مِنَ الْمِدْيَانِيِّينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَعْدَهَا تَمُوتُ وَتَنْضَمُّ إِلَى قَوْمِكَ. فَقَالَ مُوسَى لِلشَّعْبِ: جَهِّزُوا مِنْكُمْ رِجَالاً مُجَنَّدِينَ لِمُحَارَبَةِ الْمِدْيَانِيِّينَ وَالانْتِقَامِ لِلرَّبِّ مِنْهُمْ.. فَحَارَبُوا الْمِدْيَانِيِّينَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ وَقَتَلُوا كُلَّ ذَكَرٍ؛ وَقَتَلُوا مَعَهُمْ مُلُوكَهُمُ الْخَمْسَةَ: أَوِيَ وَرَاقِمَ وَصُورَ وَحُورَ وَرَابِعَ، كَمَا قَتَلُوا بَلْعَامَ بْنَ بَعُورَ بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَسَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ نِسَاءَ الْمِدْيَانِيِّينَ وَأَطْفَالَهُمْ، وَغَنِمُوا جَمِيعَ بَهَائِمِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَسَائِرَ أَمْلاَكِهِمْ، وَأَحْرَقُوا مُدُنَهُمْ كُلَّهَا بِمَسَاكِنِهَا وَحُصُونِهَا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى كُلِّ الْغَنَائِمِ وَالأَسْلاَبِ مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ.. فَخَرَجَ مُوسَى وَأَلِعَازَارُ وَكُلُّ قَادَةِ إِسْرَائِيلَ لاِسْتِقْبَالِهِمْ إِلَى خَارِجِ الْمُخَيَّمِ، فَأَبْدَى مُوسَى سَخَطَهُ عَلَى قَادَةِ الْجَيْشِ مِنْ رُؤَسَاءِ الأُلُوفِ وَرُؤَسَاءِ الْمِئَاتِ الْقَادِمِينَ مِنَ الْحَرْبِ، وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا اسْتَحْيَيْتُمُ النِّسَاءَ؟ إِنَّهُنَّ بِاتِّبَاعِهِنَّ نَصِيحَةَ بَلْعَامَ أَغْوَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِعِبَادَةِ فَغُورَ، وَكُنَّ سَبَبَ خِيَانَةٍ لِلرَّبِّ، فَتَفَشَّى الْوَبَأُ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ. فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ، وَاقْتُلُوا أَيْضاً كُلَّ امْرَأَةٍ ضَاجَعَتْ رَجُلاً، وَلَكِنِ اسْتَحْيَوْا لَكُمْ كُلَّ عَذْرَاءَ لَمْ تُضَاجِعْ رَجُلاً)
وأسمعني من سفر (يشوع: 6 : 16):( قَالَ يَشُوعُ لِلشَّعْبِ: اهْتِفُوا، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ وَهَبَكُمُ الْمَدِينَةَ. وَاجْعَلُوا الْمَدِينَةَ وَكُلَّ مَا فِيهَا مُحَرَّماً لِلرَّبِّ.. أَمَّا كُلُّ غَنَائِمِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَآنِيَةِ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ، فَتُخَصَّصُ لِلرَّبِّ وَتُحْفَظُ فِى خِزَانَتِهِ. فَهَتَفَ الشَّعْبُ، وَنَفَخَ الْكَهَنَةُ فِي الأَبْوَاقِ. وَكَانَ هُتَافُ الشَّعْبِ لَدَى سَمَاعِهِمْ صَوْتَ نَفْخِ الأَبْوَاقِ عَظِيماً، فَانْهَارَ السُّورُ فِي مَوْضِعِهِ. فَانْدَفَعَ الشَّعْبُ نَحْوَ الْمَدِينَةِ كُلٌّ إِلَى وِجْهَتِهِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا. وَدَمَّرُوا الْمَدِينَةَ وَقَضَوْا بِحَدِّ السَّيْفِ عَلَى كُلِّ مَنْ فِيهَا مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَأَطْفَالٍ وَشُيُوخٍ حَتَّى الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْحَمِيرِ)
وأسمعني من سفر (هوشع: 13 : 16 ) قول الرب 🙁 تجازى السامرة لأنها تمردت على إلهها، بالسيف يسقطون، تحطم أطفالهم، والحوامل تشق)
وأسمعني من سفر (إشعيا: 13 : 16) قول الرب 🙁 وتحطم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نساؤهم)
وأسمعني من سفر (التثنية:20 : 10) قول الرب 🙁 حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها الى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب الهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا)
وأسمعني قول بولس في رسالته إلى العبرانيين (12 : 29):( لأن إلهنا ناراً آكلة)
وأسمعني ما جاء في مزمور (94 : 1):( يا إله النقمات : يا رب. يا إله النقمات)
وأسمعني من سفر (الخروج: 3/18-21) قول الرب لموسى 🙁 تدخل أَنْتَ وَشُيُوخُ إِسْرَائِيلَ أَمَامَ مَلِكِ مِصْرَ وَتَقُولُ لَهُ: إِنَّ الرَّبَّ إِلَهَ الْعِبْرَانِيِّينَ قَدْ تَفَقَّدَنَا، فَدَعْنَا نَمْضِي مَسِيرَةَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْبَرِّيَّةِ وَنُقَدِّمُ ذَبَائِحَ لِلرَّبِّ إِلَهِنَا. وَلَكِنَّنِي عَالِمٌ أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ لَنْ يُطْلِقَكُمْ مَا لَمْ تُرْغِمْهُ يَدٌ قَوِيَّةٌ. فَأَمُدُّ يَدِي وأَضْرِبُ مِصْرَ بِجَمِيعِ وَيْلاَتِي الَّتِي أَصْنَعُهَا فِيهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُطْلِقُكُمْ. وَأَجْعَلُ هَذَا الشَّعْبَ يَحْظَى بِرِضَى الْمِصْرِيِّينَ، فَلاَ تَخْرُجُونَ فَارِغِينَ حِينَ تَمْضُونَ، بَلْ تَطْلُبُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْ جَارَتِهَا أَوْ نَزِيلَةِ بَيْتِهَا جَوَاهِرَ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ وَثِيَاباً تُلْبِسُونَهَا بَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ فَتَغْنَمُونَ ذَلِكَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ)
وأسمعني من سفر (الخروج: 12/34-36):( فَصَرَّ الشَّعْبُ فِي ثِيَابِهِمْ مَعَاجِنَهُمْ وَعَجِينَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْتَمِرَ، وَحَمَلُوهَا عَلَى أَكْتَافِهِمْ، وَطَلَبُوا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ آنِيَةَ فِضَّةٍ وَذَهَباً وَثِيَاباً بِحَسَبِ قَوْلِ مُوسَى. وَجَعَلَ الرَّبُّ الشَّعْبَ يَحْظَى بِرِضَى الْمِصْرِيِّينَ، فَأَعْطَوْهُمْ كُلَّ مَا طَلَبُوهُ، فَغَنِمُوا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ)
وأسمعني من سفر (التثنية 20 : 16 ):( أما مُدُنُ الشُّعُوبِ الَّتِي يَهَبُهَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ لَكُمْ مِيرَاثاً فَلاَ تَسْتَبْقُوا فِيهَا نَسَمَةً حَيَّةً، بَلْ دَمِّرُوهَا عَنْ بِكْرَةِ أَبِيهَا، كَمُدُنِ الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ كَمَا أَمَرَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ)
وأسمعني من سفر (صموئيل الأول: 15 : 3 ):( وَقَالَ صَمُوئِيلُ لِشَاوُلَ: أَنَا الَّذِي أَرْسَلَنِي الرَّبُّ لأُنَصِّبَكَ مَلِكاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، فَاسْمَعِ الآنَ كَلاَمَ الرَّبِّ. هَذَا مَا يَقُولُهُ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنِّي مُزْمِعٌ أَنْ أُعَاقِبَ عَمَالِيقَ جَزَاءَ مَا ارْتَكَبَهُ فِي حَقِّ الإِسْرَائِيلِيِّينَ حِينَ تَصَدَّى لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ. فَاذْهَبِ الآنَ وَهَاجِمْ عَمَالِيقَ وَاقْضِ عَلَى كُلِّ مَالَهُ. لاَ تَعْفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بَلِ اقْتُلْهُمْ جَمِيعاً رِجَالاً وَنِسَاءً، وَأَطْفَالاً وَرُضَّعاً، بَقَراً وَغَنَماً، جِمَالاً وَحَمِيراً)
قلنا: فما أورثتك هذه الآيات المقدسة؟
قال: لقد أورثتني سبعة خلال.. كانت حياتي كلها ممتلئة بها.. إلى أن لقيت النور والسلام والصفاء..
***
قلنا: فما أولها؟
قال: حب الحروب..
قلنا: حب الحروب!؟
قال: أجل.. لقد صرت عاشقا للحروب.. لا يرتاح لي جفن إلا إذا سمعت أصوات المدافع والرصاص.. حتى أني.. وإلى فترة قريبة.. كنت آتي بالمتفجرات لأنام على أصواتها.. لقد كانت أصوات المتفجرات هي الصوت الذي يملؤني بالراحة والطمأنينة.
قلنا: ولكن الحروب لا تجلب إلا الدماء؟
قال: وقد كنت أحب الدماء.. بل لم يكن حبي للمتفجرات إلا لكون المتفجرات هي السبب الأكبر لكثرة الدماء..
لقد حضرت الحرب العالمية الأولى، وتلذذت بدماء القتلى الذين بلغ عددهم (22) مليونا.. بالإضافة إلى أعداد كثيرة من الجرحى سالت منهم دماء كثيرة لكني لم أكن أكتفي بها.. لم يكن يكفيني إلا دماء القتلى.
لذلك، وبعد سنوات قليلة شاركت في الحرب العالمية الثانية والتهمت دماء ما يزيد على (70) مليونا.
ليس هذا فقط ما شربت من دماء.. هناك دماء كثيرة.. كثيرة جدا.. أكثر مما تتصورون..
لقد شربت مع صديقتي المفضلة بريطانيا العظمى دماء أكثر من عشرين مليونا من دماء الصينيين الذين رفضوا أن يضعوا التاج على رأس هذه الصديقة المفضلة..
وعندما اندلعت الحرب العنيفة في الهند الصينية بين شطري فيتنام واستمرت لمدة ثلاثين عاماً، شربت دماء أكثر من ثلاثة ملايين ومائتي ألف قتيل (3.200.000) بين مدني وعسكري، وسبعة ملايين وأربعمائة وثلاثة وخمسين ألف جريح (7.453.000) بين مدني وعسكري، وأربعمائة ألف عاجز (400.000).
وعندما ألقى الطيران الأميركي من سنة 1961 إلى سنة 1972م زهاء ستة ملايين وسبعمائة وسبعة وعشرين ألف طن من القنابل (6.727.000) على منطقة الهند الصينية شربت دماء كثيرة.. كثيرة جدا.. لا يمكن إحصاؤها.
وعندما ألقت الطائرات الأميركية واحد وسبعين مليون لتراً من المواد الكيمياوية السامة على منطقة في جنوب فيتنام توازي مساحة إيرلندا الشمالية شربت دماء كثيرة.. كثيرة جدا.. لا يمكن إحصاؤها.
وهكذا في كل الحروب التي كانت تشتعل في أي منطقة من مناطق العالم.. كنت أسرع، وأحمل ملعقتي وجميع الوسائل التي أبدعنا في صناعتها لأغترف من تلك الدماء ما يملؤني بالمسرة.
قلنا: عرفنا الأول.. فما الثاني؟
قال: الاستعلاء.. الكبرياء.. التضخم..
قلنا: ما علاقة هذا بالدماء، وبحبك للدماء.. وبالكتاب المقدس بعد ذلك؟
قال: كل ذلك مترابط.. كل ذلك سلسلة يؤدي بعضها إلى بعض.. ربما يوجد في السلسلة بعض الخيوط الخفية.. لكن الحقيقة هي أن كل هذه الحلقات مترابطة تشكل جميعا سلسلة واحدة.
قلنا: فأظهر لنا ما خفي من هذه الخطوط.
قال: أنتم تعلمون أن الكتاب المقدس يعتبر اليهود شعب الله المختار.. وأنهم جنس أرقى من غيرهم من الأجناس؟
قلنا: نعلم ذلك.
قال: ولذلك أتاح الرب لهذا الشعب ـ على حسب الكتاب المقدس ـ أن يبيد كل الأغيار.. ويقضي عليهم بلا رأفة ولا رحمة.
قلنا: ذلك صحيح.. وما قرأته من الكتاب المقدس يدل عليه.. ولكن ذلك ـ على حسب الكتاب المقدس ـ خاص باليهود، فكيف انتقل إلى غيرهم؟
قال: ألا تعرفون المنطق؟
قلنا: نعرفه.
قال: فمنطقوا هذه القضية لتعرفوا الحلقة المفقودة.
قلنا: منطق لنا أنت.
قال: لقد أعطتني المقدمات التي ذكرتها لكم نتيجة مهمة.. كانت حياتي وحروبي كلها متوجهة إليها.
قلنا: ما هي؟
قال: الاستعلاء.. لقد صرت أشعر ـ بأسباب كثيرة ـ أنني من الجنس الأعلى.. من الدم الأرقى.. وقد أشعرني هذا الشعور بأن غيري أغيار.. وانطلاقا من تلك المقدمات رحت بكل ما أوتيت من قوة أسعى لمحو الغير واستئصاله والتلاعب به..
ولست وحدي في ذلك.. كل تاريخنا كان يمثلني.. كان يمثل وقاحتي وكبريائي وتضخمي.
لقد ذكر بعضهم هذا الاستنتاج، فقال في مقاله بعنوان (الأنجلوسكسونية عقده المحورية وفلسفة التفوق):( كانت مطاردة مهاجري أوروبا للهنود الحمر في العالم الجديد الأمريكي مشابهة لما جاءت به التوراة في مطاردة العبريين القدماء للكنعانيين في فلسطين حسب إدعائهم، وقد أوجد التشابه في هذه التجربة قناعة وفلسفة ووجدانا متشابها ومشتركا بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية في العصر الحديث)
سكت قليلا، ثم قال: لكني لشراهتي للدماء لم يكفني الاستعلاء الذي عمقه في نفسي البعد الديني.. ولذلك رحت أبحث في العلوم والفلسفات عما يعمق هذا الاستعلاء الذي امتلأت به نفسي.
قلنا: فهل وجدت فيها ما يرضيك؟
قال: أجل.. فما أسهل أن تطوعوا العلم لما تشاءون.. فقط عرفوا الباحثين ما تريدون أن تستنتجوه.. وأنيلوهم ما يملأ نفوسهم الشرهة.. وسترونهم يخضعون لكم كل الخضوع، ويفيدونكم بكل ما تريدون.
قلنا: فحدثنا عن النتائج التي خرج بها هؤلاء الباحثون.
قال([1]): لقد اعتبر هؤلاء الباحثون ـ بوحي منا ـ الأساس البيولوجي العرْقي أساساً وحيداً وأكيداً لتصنيف البشر.. وتم المزج بين هذه النظرية شبه العلمية، ونظرية أخرى شبه علمية وهي الداروينية الاجتماعية، وكانت الثمرة هي النظرية الغربية في التفاوت بين الأعراق ذات الطابع الدارويني.
وهذه النظرية (شبه العلمية!؟) تُقسِّم الجنس البشري بأسره إلى أعراق.. لكلٍ منها سماته التي يمكن تحديدها علمياً.. ومن ثم يمكن تصنيف البشر إلى أعراق راقية عليا.. وهم على الخصوص الآريون([2])، وبخاصة النورديون.. وأعراق دنيا: وهم الزنوج والعرب واليهود.
قلنا: واليهود!؟.. ألم تكن تزعم أنهم شعب الله المختار؟
قال: لقد كانت كبرياؤهم هي السبب في وضعهم في هذا المحل.. لقد حفروا حفرة الكبرياء في العقيدة المسيحية.. فسقطوا في تلك الحفرة.. وأسقطوا معهم كثيرا من الشعوب.
قلنا: فما نتيجة هذا التفريق بين الأدنى والأعلى؟
قال: لقد اعتبر هؤلاء الباحثون بوحي منا العنصر الآري الأبيض متفوقا على كل الشعوب الأخرى.. وهذا التفوق ليس له جانت نظري فقط.. بل له جانت عملي خطير.
قلنا: ما هو؟
قال: لقد أعطوا هذا العرق المختار من الحقوق ما يتجاوز أية منظومات قيمية، وأي حديث عن المساواة.
وقد ذهب هؤلاء الباحثون إلى أبعد من ذلك حين أثبتوا ـ بالوسائل الشبيهة بوسائل العلم ـ أن التزاوج بين أعضاء الأجناس المختلفة يؤدي إلى تدهور العرْق الأسمى الذي يجب أن يحتفـظ بنفسـه قوياً نقياً حتى يضـمن لنفسه البقاء والتماسك العضوي.
وقد كان من الطبيعي بعد هذا أن يصنف أعضاء الأجناس الأدنى باعتبارهم غير نافعين من منظور المطلق العرْقي لأنهم خطر على تماسك العرْق وعلى تجانسه، وعدم التماسك يؤذي المصلحة العليا للدولة، لأن التماسك يؤدي إلى زيادة الكفاءة الإنتاجية، وإلى زيادة قوة الدولة في مقدرتها على البقاء والانتشار والهيمنة.
لقد أثمرت هذه الأفكار كثيرا من المرارات الذي صلي بشر كثير بنارها:
منها أن ذات الدولة تعاظمت.. بل تحولت إلى مقدس.. بل إلى إله.. لا يجوز مسه بأي حال من الأحوال.. بل أصبح الدفاع عن مصلحة الدولة القومية.. ظالمة كانت أم مظلومة.. مسألة لا تقبل النقاش، لا تخضع لأي معيارية.. واعتبر الانحراف عن هذا الهدف النهائي المطلق خيانة العظمى.. وليس لها من عقوبة إلا الإعدام.
ومنها أن مؤسسات بيروقراطية قوية.. حكومية وغير حكومية.. تولت كثيراً من الوظائف التي كانت تتولاها الأسرة في الماضي، وتقوم بعملية الاختيار بالنيابة عن الإنسان الفرد، الأمر الذي زاد في ضمور الحس الخلقي وانكماش رقعة الحياة الخاصة.
وهذه المؤسسات البديلة صارت ترى نفسها ذاتاً مطلقةً تُعبِّر عن مصلحة الدولة.. والتي هي بدورها تُعبِّر عن إرادة الشعب.. وقد جعلت جل همها أن تنفِّذ المطلوب منها تنفيذه بأقل التكاليف وأكثر الوسائل كفاءة، دون أن تأخذ أية اعتبارات خُلقية.
ومنها تزايد معدلات التجريد في المجتمع.. لاشك أنكم لا تعرفون هذا المصطلح.. إنه لا يعني ذلك الذي يريده الصوفية من التجرد لله.. بل هو يعني التجرد لتلك المؤسسات التي لا تعرف القيم ولا تؤمن بها.
لقد نجحت عمليات التجريد المتزايدة في جعل القيمة الأخلاقية شيئاً بعيداً للغاية لا علاقة له بفعل الإنسان المباشر.. سأضرب لكم مثلاً على ذلك من صناعة الأسلحة الكيماوية الفتاكة.. ففي صناعة هذا النوع من الأسلحة الخطيرة ـ كما في غيرها كثير ـ تُقسَّم عملية إنتاج المبيد البشري إلى عـدة وظائف صـغيرة، كل وظيفة تُشـكِّل حلقة تؤدي إلى ما بعـدها وحسب.. ولأنها مجرد حلقة، فهي محايدة تماماً ولا معنى لها، إذ لا يوجد أي مضمون خلقي لعملية إضافة محلول لآخر.. ومن ثم، تظل النهاية الأخلاقية، والتي هي حرق البشر وإبادتهم بعيدة للغاية.. والعامل أو الموظف المسئول عن هذه الحلقة سيبذل قصارى جهده في أداء عمله الموكل إليه دون أية أعباء أخلاقية، ومن ثم تستمر الآلة الجهنمية في الدوران من خلال الحلقات والتروس، ولا يتحمل أي شخص مسئولية إبادة البشر، إذ أن مسئولية العامل أو الموظف مسئولية فنية وليست مسئولية أخلاقية.
أستطيع أن أقول لكم بأن ما تم إنجازه في الحضارة الغربية الحديثة هو القضاء على الشخصية التقليدية ذات الولاء لمطلق خُلقي ثابت يتجاوز عالم المادة والتاريخ، وحلَّت محلها الشخصية الحركية المتغيرة والمتقلبة مع حركة المادة، والتي لا ولاء عندها لأية ثوابت أو مطلقات والمتحررة من أية قيم أو غائية، فهي تعيش في عالم الواحدية المادية المعقم من القيم المتجاوزة.
هذه الشخصية يمكن أن تتبدَّى من خلال إمبريالية داروينية مليئة باليقينية العلمية توظِّف الكون والإنسان لصالحها، ويمكن لها أن تتبدَّى من خلال إذعان أداتي فتصبح شخصية نمطية تعاقدية برجماتية ذات بُعد واحد، تستبطن تماماً النماذج السائدة في المجتمع والتي تروجها الأجهزة الأمنية للمجتمع وضمن ذلك الإعلام، وهي شخصية نسبية هزيلة مهتزة لا تثق في ذاتها ولا رؤيتها ولا هويتها ولا منظوماتها، ولذا يتحدد تَوجُّهها حسب ما يصدر لها من أوامر تأتي لها من عل، ويتحدد ولاؤها استناداً إلى المصلحة المادية المتغيرة التي يتم تعريفها مدنياً وقومياً وعلمياً وموضوعياً من خلال الجهات المسئولة واللجان المتخصصة والسوبرمن، ومن ثم يمكنها أن تطيع الأوامر البرانية وتنفذ التعليمات بدقة متناهية. وهي شخصية ذات عقل أداتي لا تفكر في الغايات وإنما في الوسائل والإجراءات وحسب، وفي أحسن السبل لإنجاز ما أوكل لها من مهام دون تساؤل عن مضمونها الأخلاقي أو هدفها الإنساني.
وحينما ظهر هذا النوع من الشخصية، أصبح من الممكن أن تقرر الدولة وأعضاء النخبة إبادة عناصر تراها غير نافعة في المجتمع أو في وطـن آخـر أو قارة بأسرها.
ولم يعـد هذا ـ بهذه الاعتبارات ـ جريمة، إذ لا توجـد قوانين مطلـقة خارجـة عن الدولـة، أو هـي ـ بتعبير آخر ـ جريمة قانونية مشروعة تكتسب مشروعيتها من أن الدولة توافق عليها وتباركها، بل تشـجع عليهـقال:، وتضرب على يـد كـل من يعارضها أو يحجم عن اقترافها.
لقد أثمر كل هذا وجود مؤسسات متخصصة لتنفيذ الجريمة، وهي مؤسسات بيروقراطية منفصلة عن القيمة، تتجاوز الخير والشر، ولا تسأل عن السبب وإنما عن الوسيلة، والعاملون في مثل هذه المؤسـسات لا يتخذون قرار قتل الأطفال، على سبيل المثال، بأنفسهم، ولا ينفذون جريمة القتل بأيديهم فاللجان المتخصصة التي تضم السوبرمن تجتمع على أعلى مستوى وتناقش المسألة بطريقة علمية وبيروقراطية وفي لغة محايدة وتتخذ القرارات في ضوء ما تراه هي الصالح العام. ثم يصدر الأمر في نهاية الأمر، لا بالقتل أو التصفية الجسدية وإنما بالقيام بعمليات (التطهير العرْقي) أو (الحل النهائي) أو خدمة (مصلحة الدولة العليا). ثم يُقسَّم القرار إلى مئات التفاصيل التي يقوم بها آلاف الموظفين التنفيذيين من الجنود والعمال والفلاحين والمهنيين الذين لن يشعروا بهذا الطفل الذي سيُقتَل في غابات فيتنام أو في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين أو في معسكرات الاعتقال النازية.
قلنا: والضمير الخلقي.. ألا يمكن أن يتكلم؟
قال: ربما.. ولكن هذه الحضارة اللعينة عملت الإنسان كيف يسكت ضميره.. لقد أعطته من الآليات ما يجعله قادراً على إسكات حسه الخُلقي.. فالإنسان الحديث أصبح بوسعه، بحسه العملي، ومن خلال الحسابات الرشيدة والتسويغ العلمي الموضوعي المحايد الصارم والنسبية الكاملة التي تجعل الأمور متساوية، تبرير أي شيء وقبول أي وضع، فتمكن التضحية بالجزء في سبيل الكل، والأقلية في سـبيل الأغلبية، والمرضى في سـبيل الأصـحاء، والعجزة في سبيل الشباب. ومع سيطرة حب البقاء، باعتبار أن البقاء قيمة مطلقـة، فإن الجميـع يمـكن أن يتعـاونوا مع الدولـة من قبيل تقليل الخسائر.. إذ لا توجد قيم مطلقة أو مرجعية متجاوزة يمكن للفرد أن يؤمن بها ويموت من أجلها ويحاكم البشر والأمم كافة من منظورها.. ثم تتكفل المؤسسات الإعلاميـة للدولـة بتصفيـة كل ما تبقى من أحاسيس إنسانية أو أخلاقية متخلفة.
قلنا: إن ما تطرحه من فلسفة خطير.. فهل وقع في تاريخنا ما يؤكد ذلك؟
قال: ليس ما أطرحه فلسفة.. هو واقع.. واقع مرير عشته.. لقد شربت من الدماء تحت ظل الاستعلاء ما لم أشرب مثله في حياتي جميعا.
لقد حَوَّلنا أنفسنا.. نحن الإنسان الغربي.. إلى سوبرمان له حقوق مطلقة تتجاوز الخير والشر، ومن أهمها حق الاستيلاء على العالم وتحويله إلى مجال حيوي لحركتنا ونشاطنا، وتحويل العالم بأسره إلى مادة خام، طبيعية أو بشرية.
ومن هذا المنطلق اعتبرنا شعوب آسيا وإفريقيا الصفراء والسوداء المتخلفة مجرد مادة بشرية تُوظَّف في خدمتنا، كما اعتبرنا العالم مجرد مادة طبيعية تُوظَّف في خدمة دول أوربا وشعوبها البيضاء المتقدمة، واعتبرنا الكرة الأرضية مجرد مجال حيوي لنا نصدِّر مشاكلنا له.. بل لم تفرق الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية الشاملة في نهاية الأمر بين شعوب آسيا وأفريقيا وشعوب العالم الغربي، فالجميع مادة بشرية، نافعة أو غير نافعة، ضرورية أو فائضة.. فكان العمال يُنظر لهم باعتبارهم مادة بشـرية نافعة، ومصدراً لفائض القيمة، أما المتعـطلون فهم مادة بشرية فائضة. وصُنِّف المجرمـون (وفي مرحلة أخرى، المعوقـون والمسـنون) مادةً بشريةً غير نافعة. وهذه المادة يجب أن ( تُعالج)، وكانت الوسيلة الأساسية للمعالجة هي تصدير المادة البشرية الفائضة إلى مكان آخر لتحويلها إلى مادة نافعة إن أمكن (مع عدم استبعاد ( الحلول الأخرى ) إن استلزم الأمر)
قلنا: فما الثالث؟
قال: الاستعباد.
قلنا: الاستعباد !؟.. لقد ألغت أمتنا الاستعباد.. ذلك الذي شرعه الإسلام([3]).
نظر إلينا بحزن، وقال: لا شك أنكم لا زلتم خاضعين لتلك المخدرات التي خدرنا بها قومنا.
قلنا: ما تقول؟
قال: لقد أخطأتم خطأين.. أما الخطأ الأول، فهو إلغاء أمتنا للاستعباد.. وأما الخطأ الثاني، فتشريع الإسلام له..
قلنا: هذا ما نعلمه.. ويعلمه كل الناس.
قال: لقد كنت أقول ذلك.. ولكني عندما عرفت الحقيقة من مصدرها عرفت أن قومنا أقسى قلوبا من يقوموا بعمل جليل كإلغاء الرق، وعرفت أن الإسلام أعظم رحمة من أن يشرعه.
قلنا: كيف؟.. لقد ورد في النصوص المقدسة للمسلمين الكثير من النصوص التي تتحدث عن الرق.
قال: قارنوا تلك النصوص بما أسمعني الكاهن من النصوص.
لقد قرأت في كتاب المسلمين، فلم أجد حرفا واحدا يدعو إلى استعباد الإنسان للإنسان.. بل وجدته جميعا يدعو إلى تحرير الرقاب، وإلغاء الرق، ويعتبر ذلك من قمم العبودية.. لقد قرأت فيه :{ فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ } (البلد:10 ـ 13)
وقرأت فيه ترتيبه الكفارات على الذنوب التي تعم بها البلوى على تحرير الرقاب..
وقرأت فيه الأمر بالإحسان إلى الرقيق والتعامل الإنساني معهم..
لكن الكاهن الذي لقنني الكتاب المقدس لم يلقني كلمة واحدة تحوي هذه المعاني الجليلة.. بل عكس ذلك لم أجد في الكتاب المقدس إلا أمر الرقيق بالخضوع التام لأسيادهم..
لقد لقنني ما ورد في ( أفسس 6 عدد5):( أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما للمسيح)
ولقنني ما في (لوقا:12 عدد45):( ولكن أن قال ذلك العبد في قلبه سيدي يبطئ قدومه.فيبتدئ يضرب الغلمان والجواري ويأكل ويشرب ويسكر)
ولقنني ما في (لوقا 12 عدد47):( وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيضرب كثيرا)
ولقنني ما في (خروج:20 عدد17):( لا تشته بيت قريبك..لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك)
ثم علمني ـ بتفصيل ممل ـ ما ورد في سفر التثنية من الشريعة التي أوحى بها الرب إلى موسى فيما يتعلق بالسبي والنساء السراري.. ولا يزال يعلق بذهني إلى الآن ما جاء في (التثنية 21 عدد10-14):( إذا خرجت لمحاربة أعدائك ودفعهم الرب إلهك إلى يدك وسبيت منهم سبيا ورأيت في السبي امرأة جميلة الصورة والتصقت بها واتخذتها لك زوجة (12) فحين تدخلها إلى بيتك تحلق رأسها وتقلم أظفارها وتنزع ثياب سبيها عنها وتقعد في بيتك وتبكي أباها وأمها شهرا من الزمان ثم بعد ذلك تدخل عليها وتتزوج بها فتكون لك زوجة. وان لم تسرّ بها فأطلقها لنفسها. لا تبعها بيعا بفضة ولا تسترقها من أجل انك قد أذللتها)
ثم أخبرني بخبر رحبعام الذي لم يكتف بثماني عشر زوجة، بل ضم إليها ستين سرية، فصار مجموع نسائه وسراريه بعد تزوجه بمعكة بنت أبشالوم تسعة عشر زوجة وأكثر من ستين سرية، ولا أدري هل زاد عن ذلك بعد زواجه بمعكة أم اكتفى بهذا؟
لقد جاء في سفر (أخبار الأيام الثاني: 11 عدد21 ) خبره 🙁 وأحب رحبعام معكة بنت ابشالوم أكثر من جميع نسائه وسراريه لأنه اتخذ ثمانية عشر امرأة وستين سرية وولد ثمانية وعشرين ابنا وستين ابنة)
لقد لقنني جميع هذه النصوص.. ولم يلقني معها أي نص يدعو إلى تحرير الرقاب والإحسان إليهم واعتبار ذلك من التقرب إلى الله.. لم أجد أي شيء من هذا.
هذا على مستوى النصوص المقدسة..
أما على مستوى الواقع.. فقد قدر الله أن أقرأ رحلة كرستيان سنوك الهولندي.. لا شك أنكم لا تعرفونه.. إنه أحد الرحّالة الأوربيين، في القرن التاسع عشر الميلادي، نال شهادة الدكتوراه سنة (1880م) من جامعة ليدن، وزار الجزيرة العربية، ودخل مكة وبقي في الحجاز سنة (1882م) ستة أشهر، وكتب حوادث رحلته هذه بالألمانية، وتكلم في هذه الرحلة عن الرق الذي رآه وشاهده في الحجاز، ومع أنه ليس هو الرق بجميع آدابه الإسلامية إلا أنه قال عنه:( إن الذي يدخل سوق الرقيق بتصورات أوروبية وفي ذهنه كابينة العم توم (Uncle Tom –Cabin) – وهي إشارة إلى الرقيق الذي كان يُرسل إلى العالم الجديد – سيأخذ انطباعاً سيئاً، وسوف يغادر السوق وهو مشمئز من سوء المنظر، وهذا الانطباع الأولي هو انطباع خاطئ، ومع الأسف فإن معظم المستشرقين الرحّالة لم يصوّروا لنا إلا انطباعاتهم الأولية، وهذا هو مصدر الخطأ لديهم)
إلى أن قال: ( وعلى العموم فإن الرقيق في العالم الإسلامي لا يختلف كثيراً عن الخدم والعُمّال في المجتمع الأوروبي، وإن الذي يعرف الظروف المحليّة يعرف هذا تماماً، ويعلم كذلك أن إلغاء الرقيق يعني ثورة اجتماعية في الجزيرة العربية. وهناك العديد من الأوربيين الذين يعرفون جيداً شؤون الشرق، لا يريدون أن يقولوا ذلك بصراحة؛ لئلا يتهم هؤلاء بأنهم ضد الاتجاه السائد عموماً، الداعي إلى تحرير الرقيق نهائياً، وبأنهم ضد الاتجاه المبني على مشاعر إنسانية نبيلة)
ثم يقول 🙁 إن خدعة ما يُسمى حركة تحرير الرقيق، ليس سَبَبُها اهتماماً شعبياً لغاية شريفة، ولكنه لعبة خطرة مزيّفة، يقوم بها رجال السياسة الكبار، لأغراض غير إنسانية، وذلك من أجل أن يتخذ العالم المسيحي موقفاً عدائياً خاطئاً ومزيَّفاً ضدّ الإسلام)([4])
في ذلك الوقت.. وقبله.. والذي نعم فيه الرقيق في بلاد الإسلام بما لا ينعم به الأحرار عندنا.. كان قومنا يجوبون العالم ليسترقوا الأحرار.. ويحملون معهم شعار القداسة، وهم يسترقون أحرار العالم.
لقد اعتبر البرتغاليون اقتناص الأفارقة من الشواطىء الإفريقية وبيعهم عملاً مقدساً، إذ تم بعد اختطافهم اقتيادهم إلى أوربا وتعميدهم، ثم جرى بيعهم وتسخيرهم للعمل في ضياع الأمراء الإقطاعيين.
وقد كان نطر الأوربيين إلى هذا الأمر نظرة عادية طبيعية، فالمسيحية إنقاذ لأرواح هؤلاء الزنوج أما أجسادهم فتبقى في الرق، ومرسوم سنة 1455 البابوي اعتبر غير النصارى كفاراً ينبغي إذلالهم واسترقاقهم، وهكذا تطلع البرتغاليون إلى الأفارقة نظرة السيد للعبد، وجرى القنص والاختطاف باسم المسيح والقديسين، ولم يفكر الأوربيون في هذا الوقت بتنصير السود أو بتحريرهم، وإنما كان جل اهتمامهم اختطافهم وتسخيرهم في أشق الأعمال وفي إعمار واستغلال العالم الجديد.
لقد نقل لنا أحد المعاصرين للحملات البرتغالية صورة حية لما فعله البرتغاليون بالأفارقة عندما اشتبكوا معهم، ووضح لنا كيف أن عمليات القنص قد تمت باسم المسيح والقديسين والقديسات، فقال: (كان رجالنا يهتفون (القديسة ياجور، القديس جورج)، ويسقطون عليهم فيقتلون أو يخطفون كل من تقع عليه أيديهم، وقد تشاهد هناك أمهات يهربن بأطفالهن، وأزواجاً يفرون بزوجاتهم، وكل منهم يبذل قصاراه للنجاة، يقفز بعضهم في البحر ويرى بعضهم أن يختبىء في أركان أخصاصهم، وخبأ البعض أطفالهم تحت الشجيرات، حيث كان رجالنا يعثرون عليهم. والله الذي يمنح كل إنسان ما يستحق من جزاء، وهب رجالنا آخر الأمر النصر على أعدائهم، تعويضاً لهم على ما بذلوه من عناء في خدمته أخذوا مئة وخمسة وستين بين رجال ونساء وأطفال ولم يحسب القتلى في هذا العدد)
وازدادت بمرور الوقت شراسة الحملات البرتغالية واتسع نطاقها وتنافست الدول الأوربية في جلب الرقيق من إفريقيا ودخلت الميدان إلى جانب البرتغال وهولندا وإنجلترا ثم فرنسا، ونجح هؤلاء في تفريغ القارة من سكانها، فبينما حققت كل من أوربا وآسيا زيادة طبيعية لا بأس بها، ظل عدد سكان القارة الإفريقية مستمراً عند المائة مليون نسمة.
لقد جرى نقل الأفارقة من قراهم إلى المزارع الكبيرة التي يملكها الأوربيون من أوربا والأمريكتين أو حتى في مورشيوس ورينون وسيشل، وقد تنافست الدول الأوربية في عمليات الاسترقاق والاختطاف وازدهرت المدن والموانىء الأوربية إلى درجة كبيرة ومن بينها ليفربول وبيستول ونانت وبوردو وإشبيلية.
ولم تقتصر تجارة الرقيق على القراصنة والمغامرين، بل تورط فيها الملوك والأمراء ورجال السياسة والدين لقد جاء في تقرير خاص بعام 1862: (تفوق أعداد الناس المتورطين في تجارة الرقيق وكمية الأموال الموظفة بها طاقتنا عن التقدير وتعتبر مدينة نيويورك حتى الأيام الأخيرة من عام 1862 الميناء الرئيسي في العالم لهذه التجارة الآثمة بيد أن مدينتي بورتلاند وبوسطن تأتيان وحدهما في المرتبة الثانية من ذلك التصنيف)
وقد بلغت أرباح تجارة الرقيق أرقاماً خيالية، وقد قام جون هوكنر على سبيل المثال بثلاث رحلات إلى غرب إفريقيا في ستينات القرن السادس عشر واختطف أفارقة وباعهم للإسبان من أمريكا وأغرت أرباحه الطائلة ملكة برطانيا إليزابيت الأولى، فأرسلت في طلبه وعرضت عليه رغبتها في مشاركته في هذه التجارة الآثمة فوافق من فوره وقدمت لهذا الغرض سفينة تحمل اسم (المسيح) أو (يسوع) وبالفعل أبحر هوكنر على ظهر السفينة الكبيرة (يسوع) لاختطاف وسرقة المزيد من الأفارقة، وعاد إلى إنجلترا بإيرادات هائلة جعلت الملكة إليزابيت تمنحه لقب فارس، واختار هوكنر أن يكون شعار النبالة الخاص به على شكل إفريقي مقيد بالسلاسل الأمر الذي يفضح الطبيعة السادية العدوانية للرجل الأوربي الأبيض.
وشهدت هذه القرون استنزافاً لموارد إفريقيا البشرية والمادية.. وكمثال مقرب لذلك ما قام به الملك ليوبولد الثاني حتى 1906 من جمعه حوالي (20) مليون دولار من المطاط والعاج، ويقدر البلجيكيون أن حجم رأس المال الأجنبي المتدفق إلى الكونغو بين عام 1887، 1953 قد بلغ (5700) مليون جنيه كما حقق اتحاد كانتجا أرباحاً سنوية وصلت إلى (27) مليون جنيه في العام الواحد، ونزح رأس المال الأجنبي المصادر الطبيعية الإفريقية كالفوسفات والذهب والبترول الزنك والنحاس والحديد والبوكسايت والقصدير ورواسب التبر)
وهكذا فقد جرى قنص الأفارقة منذ القرن الخامس عشر الميلادي باسم المسيح وتم نقل وبيع الأفارقة في أقاصي الأرض وأدانيها باسم المسيح، ورغم تعميد هؤلاء الأفارقة وإدخالهم في المسيحية غصباً وبمجرد وصولهم إلى موانيء الشحن والتفريغ فإن عبوديتهم ظلت قائمة، وادعى المسيحيون الأوربيون أن المسيحية قد خلصت أرواحهم فقط.. أما أجسادهم فتبقى في الرق، ولذلك لم تأخذ الرحمة أو الشفقة قلب الرجل الأبيض فسخر السود في إدارة الطواحين والآلات وفي جر العربات وشق الطرق وحفر المناجم وحمل الأثقال وما إلى ذلك من أعمال شاقة.
نظر إلينا، وقال: كيف تقارنون بين الإسلام وهؤلاء.. إن الإسلام يجعل من أعظم الجرائم استرقاق الأحرار.. لقد قال محمد 🙁 ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته : رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره)([5])
قلنا: دعنا من الإسلام.. وحدثنا عن الاستعباد الذي عانت منه البشرية في مراحل كثيرة من تاريخها.
قال: لقد بحثت في التواريخ([6])، فوجدت أن معاملة السيد لرقيقه اتسمت في جميع فترات التاريخ.. ما عدا في تلك الفترة المقدسة التي ظهرت كفلتة في تاريخ البشرية.. بالقسوة والجبروت ومجافاة الإحساس الإنساني والمشاعر الآدمية، حيث كان يتعامل معهم كما يتعامل مع الأثاث والأدوات والآلات الجامدة.
ولم يكن للرقيق أدنى حق إنساني، بل كان لمالكه تمام الحرية في إبقائه على قيد الحياة، أو تجويعه وتعذيبه والتنكيل به.
وقد منعت أكثر القوانين الزواج بالرقيق، وكثيرًا ما عاقبت الطرفين المتزوجين بالحرق في النار معًا وهم أحياء، في حين كانت تسمح للرجال أن يقضوا شهواتهم مع من يشاءون من النساء الرقيق.
وقد بولغ في إجبار الرقيق على أداء أشق الأعمال، تحت ضربات السياط الملهبة، وكان جزاء من يمتنع عن ذلك تعليقه من رجليه، ووضع الأجسام الثقيلة في يديه، وضربه أو كيّ مواضع حساسة من جسمه، وقد يعمدون إلى ملء فمه وأذنيه بالزيت المغلي، أو قطع لسانه وأعضائه والتمثيل به، أو قتله بأفظع الصور.
هذا عند القدماء.. في ذلك التاريخ الغابر..
قلنا: ذلك جبروت القدماء.. وقد تغير الأمر كثيرا عند الأمم الحديثة..
قال: تقصدون الأمم والشعوب والدول التي عايشت النهضة الأوروبية.. منذ أواسط القرن الخامس عشر الميلادي، وحتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي؟
قلنا: أجل.. لقد اختلف الأمر فيها كثيرا..
قال: صحيح ذلك.. لقد وضعت كل دولة من تلك الدول وضعت ـ في زمن ما يُسمى عصر المدنية والنهضة ـ قانونًا خاصًا يرتقي بأحوال الرقيق ويفصل حدود معاملتهم، وعرف هذا القانون بالقانون الأسود، لكونه مختصًا بمعالجة أحوال الأرقاء السود وبيان الأحكام المتعلقة بهم. إلا أن تلك القوانين لم تحدث تغيرات جذرية في الطريقة التي يعامل بها الرقيق:
لقد كان من مقتضى القانون الأسود الفرنسي، أن الزنجي إذا اعتدى على أحد الأحرار أو ارتكب جريمة السرقة، عوقب بالقتل، أو بعقاب بدني آخر شديد.
أما إذا أبق ـ أي هرب ـ الرَّقيق من سيده مرة أو مرتين، فإن القانون يسمح للسيد بقطع أذني رقيقه وكيّه بالحديد المحميّ في النار، فإذا أبق الثالثة قُتل.
وكان قتل الرَّقيق الآبق معمولاًً به أيضًا في إنجلترا، حيث نصّ القانون الأسود فيها على أن من أبق من الرَّقيق وتمادى في إباقه قُتل.
وكان غير مسموح للملونين، أن يحضروا في فرنسا لطلب العلم والثقافة.
وظل الحال في فرنسا على الوصف السابق حتى قيام الثورة الفرنسية في سنة 1789م حيث لم تجرؤ على إلغاء الرق، بل منحت صفة المواطنة لكل مقيم على أرضها مهما كان لونه أو عرقه، وفي عام 1791م أصدر مجلس الثورة الفرنسي قرارًا بإلغاء الرق في جميع المستعمرات الفرنسية، ومساواة جميع من فيها في الحقوق والواجبات مع تمتعهم بالجنسية الفرنسية.
لكن حين تولى نابليون الحكم، لاحظ انخفاض صادرات المستعمرات الفرنسية التي تعتمد على اليد العاملة الزنجية، فأصدر قرارًا عام 1802م بالعودة إلى استرقاق الزنوج، فثار الزنوج في المستعمرات وقاوموا مدة ثلاث سنوات فقضى نابليون على ثورتهم وأعادهم إلى الرق.
وفي عام 1884م صدر قرار في فرنسا بإلغاء الرق في المستعمرات الفرنسية ـ مرة أخرى ـ تماشيًا مع قرارات مشابهة اتخذتها قبل فترة وجيزة كل من بريطانيا ثم البرتغال، فتبعتها هولندا والدنمارك عام 1860م.
هذا في فرنسا.. أما في أمريكا، ففي العصر الأول من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية كان كثير من سكانها ـ وبخاصة أهل الجنوب ـ يملكون الرقيق، إذ كان تجار الرقيق من أهل الجنوب يقومون بحملات منظمة ومسلحة إلى القارة الإفريقية ويختطفون الرجال والنساء في مداهمات وغارات مفاجئة على قراهم ومساكنهم، ويجلبونهم قسرًا إلى المدن الأمريكية ـ وبخاصة الجنوبية ـ ليبيعوهم في أسواق الرقيق.
وكانت معاملة هؤلاء المختطفين المغصوبين في منتهى الفظاعة والقسوة والهمجية، وكان من مقتضى القانون الأسود الأمريكي أن للسيد كل الحق في الإبقاء على رقيقه حيًا أو إماتته، بل صرّح قانونهم بأنه ليس للرقيق روح ولا عقل وأن حياته محصورة في ذراعيه، كما أنه ليس له حق الخروج إلى الشوارع ـ وقت شدة الحرّ ـ إلابتصريح قانوني، وإذا شوهد أكثر من سبعة أرقاء مجتمعين في شارع واحد، كان لكل رجل أبيض الحق في إلقاء القبض عليهم وجلدهم، ولو كان خروجهم إلى الشارع بتصريح قانوني، وكان القانون أيضًا يجيز للسيد رهن رقيقه وإجارته وبيعه، بل والمقامرة عليه.
وظل الأمر على هذا الحال حتى شهر يناير من عام 1863م حين أصدر أبراهام لنكولن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية إعلانًا بتحرير الرَّقيق في ولايات الجنوب الأمريكي، وكان هذا القرار من أسباب اغتياله عام 1865م.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وقّعت الدول المشتركة في عصبة الأمم عام 1926م اتفاقية تقضي بملاحقة تجارة الرق والمعاقبة عليها، والعمل على إلغاء الرقيق بجميع صوره، وفي عام 1948م أصدرت هيئة الأمم المتحدة إعلانًا عالميًا تضمن حظر الرِّق وتجارة الرقيق، وقد التزمت بهذا الإعلان أكثر دول العالم.
قلنا: ها قد انتهت المأساة أخيرا.. وعادت للإنسان حريته.
ابتسم، وقال: عن أي حرية تتحدثون؟.. ليس هناك مع المصارعين شيء اسمه (حرية).. إن الذي يحمل في عقله وقلبه وروحه وجميع لطائفه جميع أنواع الكبرياء يستحيل أن يترك لغيره فرصة يتنعم فيها بحريته.
إن قومنا لم يعلنوا انتهاء عصر الرقيق إلا بعد أن رأوا الرقيق المحدود لا يكفي.. فراحوا يسترقون الشعوب.
قلنا: يسترقون الشعوب؟
قال: أجل.. هم يسترقون الشعوب المستضعفة، ويمكننون لأنظمة الاستبداد فيها أن تتولى مهمة استرقاق شعوبها.. ليحولوا من جميع العالم سوق نخاسة.
قلنا: نراك متشائما؟
قال: هذه هي الحقيقة التي عشتها، وكنت في يوم من الأيام أحد فصولها..
أنا.. وكثير من قومي ـ إن لم أقل كل قومي ـ كنا ننظر إلى تلك الشعوب السمراء أو السوداء نظرة ممتلئة بالاحتقار.. وكيف لا نكون كذلك، ونحن لم نكن نتغذى إلا على الأفكار التي تملؤنا بالعنصرية.
أذكر أنا كنا في الذكرى السنوية للقديس نقولا التي يحتفل بها الأوربيون في غرب أوربا.. كان يمثل لنا القديس الطيب في صورة كاهن أبيض على جواد أبيض يوزع الصدقات، بينما خادمه بطرس الأسود الذي يحمل الحقيقة السوداء ينشر الخوف والرعب ويخطف الأطفال الأشقياء، وفي اللحظة التي يهم فيها العبد بإمساك الطفل يتبعه القديس ويمنع الاعتداء عليه وسط تهليل وتصفيق الحاضرين وصيحاتهم.
هذه النظرة العنصرية لها أصولها ـ كما تعلمون في الكتاب المقدس ـ فقد ورد في العهد القديم أن نوحاً سكر يوماً ثم تعرى ونام في خبائه، فاتفق أن ابنه حاماً أبصره على هذه الحال فلما استيقظ نوح وعلم أن حاماً قد أبصره عارياً دعا عليه ولعن نسله الذين هم كنعان.. اسمعوا هذه الكلمات المقدسة من سفر التكوين (9 من 18 : 27):( كان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساماً وحاماً ويافث وحام وهو أبو كنعان. هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح. ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض.. وابتدأ نوح يكون فلاحاً وغرس كرماً. وشرب من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجاً. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء. فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير، فقال ملعون كنعان عبد العبيد يكون لأخوته، وقال مبارك الرب إله سام وليكن كنعان عبداً لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبداً لهم)
وتفرعت عن حكاية العهد القديم حكايات وأساطير انتشرت في أجزاء متفرقة من العالم وكلها تعلي الرجل الأبيض وتحط من الأسود، بينما تعترف هذه الحكايات للرجل الأبيض بالنقاء والطهارة لا تعترف بأن الأسود من البشر وإذا اعترفت فإن لونه الأسود لا بد أن يكون آية غضب الله عليه.
وجاء في إحدى الأساطير التي اختلقها الرجل الأبيض، أن الله قد خلق الخلق سوداً كلهم وهيأ لهم جميعاً الفرصة لكي يتطهروا فاغتسل البيض وابيضت أجسامهم، أما الزنوج فلم ينظفوا إلا راحات أيديهم.
وتذهب قصة أخرى إلى أن من أساء العمل صار أسود، وأعطي قليلاً من اللباس، ومن كان أقل منه سواءاً كان أسمر اللون وكان أكثر حظاً من الملابس، أما من أحسن فقد ظل أبيض اللون وأعطي وفرة من الملابس.
وتذهب أسطورة ثالثة إلى أن الله رأى ثلاثة زنوج يبكون، ولكي ينفى عنهم الحزن سمح لهم أن يغتسلوا ليصيروا ذوي بشرة بيضاء، فلم يفعل ذلك إلا واحد منهم دون أخويه الآخرين.. وهذا صار أبيض اللون جميل المنظر، فأكلت الغيرة قلب أحد أخويه، ولكن الماء قد نفذ فمسح بدنه بتربة الأرض الحمراء فصار لونه أحمر أما الثالث فلم يستطع إلا غسل راحتي يديه وقدميه وهي الأجزاء الوحيدة في جسمه التي أصبحت بيضاء.
قلنا: ولكن.. قد سمعنا أن في إنجيل متى (6/25):( سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين)
ضحك ضحكة عالية وقال: واقرأوا في نفس الإنجيل (إنجيل متى 25/ 29):( كل من له يعطي فيزداد ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه والعبد البطال اطرحوه إلى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان)
قلت: لكن أكثر قومنا الآن لا يعرفون الإنجيل.. وفي حال معرفتهم له لا يسمعون إلا ما قرأناه لك.
قال: إن ذلك النص لا يكفي لا يكفي تلك النظرة المملوءة بالاستعلاء.. لعلكم قرأتم ما ذكره سيمونز في كتابه (لون البشرة وأثره في العلاقات الإنسانية).. لقد ذكر أن نظرة الأوربي الأبيض إلى الإفريقي الأسود تتلخص في أن ( لون الزنجي الأسود يدل على سخافة عقله.. الزنوج شهوانيون ولأجسامهم رائحة نتنة.. الزنوج سطحيون ومتعلقون بالحلي وأدوات الزينة.. الزنوج عراة وبدائيون ومعادون للحضارة المدنية.. الزنوج وثنيون متعددو الآلهة ويجب إدخالهم في المسيحية غصباً)
قلنا: فما الرابع؟
قال: هو نتيجة لكل ما سبق.. وهو نتيجة تلك القراءات المقدسة للكتاب المقدس.
قلنا: ما هو؟
قال: الاستعمار..
قلنا: لقد كان يلقن لنا بأن الاستعمار ما هو إلا نوع من الانتشار الذي لا يقصد منه إلا التعمير.
قال: صدقوا في هذا التعبير.
قلنا: فلم تنظر إليه إذن نظرة تشاؤمية؟
قال: لأن التعمير فيه ليس للمستعمرات وإنما للمستعمرين.. فلم تكن المستعمرات المسكينة تجني من قدوم تلك الجحافل من الجيوش سوى الخراب والدمار والاستعباد والإبادة.
قلنا: فحدثنا عن قصتك مع الاستعمار([7]).
قال: في البدء كانت الإمبراطورية الرومانية أكبر دولة استعماريةٍ في التاريخ القديم، فقد بدأت توسُّعَهَا فيما وراء البحار نحو عام 264ق.م.. وفي أوج مجدها، كانت الإمبراطورية الرومانية تمتد من شمالي بريطانيا إلى البحر الأحمر والخليج العربيّ.. ولكن القدر لم يهمل هذه الامبراطورية، فقد قضي عليها، وكان من رحمة الله بعباده أن قضي عليها.
بعد قرون طوال.. وبعد أن أحس المارد الروماني الذي يسكننا أنه أصبح له من القوة ما يعيد به مجد روما بدأ الاستعمار من جديد.
بدأت البرتغال وأسبانيا في القرن الخامس عشر الميلادي بإرسال مستكشفين للبحث عن طرق بحرية جديدة إلى الهند والشرق الأقصى، حيث كان المسلمون يهيمنون على الطرق البرية ويسيطرون على التجارة بين آسيا وأوروبا.. وكان الأوروبيون يطمحون إلى السيطرة على تلك التجارة، فقد نجحت البرتغال في السيطرة على البرازيل، وأنشأت مراكز تجاريةً في كل من غربي إفريقيا والهند وجنوب شرقي آسيا..كما نجحت أسبانيا في السيطرة على أجزاء مما يعرف اليوم بالولايات المتحدة، واحتلت معظم أجزاء أمريكا اللاتينية.
وفي القرن السابع عشر الميلادي، انتزع الهولنديون والبريطانيون التجارة الآسيوية من البرتغاليين، وذلك بعد أن نجحوا في احتلال جزر الهند الشرقية الهولندية (إندونيسيا) وأصبح للإنجليز نفوذٌ قويُّ في الهند، وتمكَّن الهولنديون والبريطانيون والفرنسيون من احتلال بعض المناطق في أمريكا اللاتينية.
بالإضافة إلى ذلك، احتل عددٌ من المهاجرين البريطانيين والفرنسيين بعض المناطق في كندا، كما أنَّ الهولنديين والبريطانيين والفرنسيين ادَّعوا ملكية بعض أجزاء من الولايات المتحدة.. وفي نهاية المطاف، تمكن الإنجليز من إنشاء ثلاث عشرة مستعمرة في تلك البلاد، ودخل البريطانيون والفرنسيون في صراع ٍ على أمريكا الشمالية سُمّي حروب الهنود والفرنسيين الأربع، واستمر ذلك الصراع من عام 1689م حتى 1763م. وفي آخر تلك الحروب، انتصرت بريطانيا ونجحت في احتلال معظم الممتلكات الفرنسية في أمريكا الشمالية.
لم يتطوَّر الاستعمار الأوروبي في بداية القرن التاسع عشر مع أنَّ بريطانيا ضَمَّت عددًا من المستعمرات في أستراليا، وقد كانت نيوساوث ويلز أول مستعمرة أسترالية تم تأسيسها في القرن الثامن عشر.. وكان معظم المستوطنين الأوائل من السجناء الذين أُبعدوا إلى أستراليا عقابًا لهم. وقد أوقف إرسال السجناء إلى تلك المناطق في منتصف القرن التاسع عشر، وبحلول ذلك التاريخ، أُنشئت مستعمراتٌ جديدة في كوينزلاند وفان ديمنزلاند (تسمانيا حالياً)، وغربي أستراليا وجنوبيها، وفكتوريا. أما نيوزيلندا، فإنها لم تصبح مستعمرة بريطانية إلا عام 1840م.
لم تهدأ النفوس الثائرة بعد كل هذا.. فقد ساعدت الثورة الصناعية وظهور القومية الأوروبية، على تطور الاستعمار في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في كلٍّ من إفريقيا وآسيا، ففي هاتين القارتين، سعت الدول الصناعية إلى الحصول على المواد الخام لمصانعها، والأسواق لمنتجاتها الصناعية، كما سعت إلى هاتين القارتين بوصفهما مناطق استثمار جديدة، وللبحث عن أقطار جديدة تقويها في منافستها للأقطار الأوروبية الأخرى.
فاقتسم إفريقيا كلٌّ من بلجيكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا والبرتغال وأسبانيا، ولم يبق من المناطق الإفريقية مستقلة إلا إثيوبيا وليبيريا.. أما بريطانيا، فقد سيطرت بدورها على الهند وبورما وما يُعرف الآن بماليزيا.. كما احتلت فرنسا الهند الصينية، وكانت الهند الصينية الفرنسية تضم كلاّ من كمبوديا ولاوس وفيتنام، وتوسَّع الهولنديون في الهند الصينية الشرقية. أما الولايات المتحدة، فقد احتلت الفلبين.. وكان هناك تنافسٌ كبير بين فرنسا وألمانيا وبريطانيا وأسبانيا والولايات المتحدة للسيطرة على جزر المحيط الهادئ.
وفي نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أنشأت اليابان إمبراطوريةً ضمَّت كوريا وتايوان، وخلال الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945م)، وسَّعت اليابان إمبراطوريتها على حساب بعض المستعمرات الصغيرة التي كانت تسيطر عليها دول غربية. إلا أنَّ هذه الإمبراطورية سقطت بعد أن هُزمت اليابان عام 1945م. وتحولت هذه المناطق مرةً أخرى إلى مستعمرات غربية.
قلنا: نعرف تاريخ الاستعمار.. فما جرائمه التي تدينه من أجلها؟
قال: كثيرة.. الاستعلاء لا يولد إلا الخبث.. وقد كان المستعمرون ممتلئون إلى أذقانهم كبرا واستعلاء.. ولهذا راحوا يفرضون أسلوب حياتهم على المستعمرات، فقد كانوا يؤمنون بتدنّي مستوى ثقافة المناطق المُستعمَرة قياسًا إلى ثقافتهم.. بل حاول بعض هؤلاء الحكام أن يُغيّروا من ديانة المناطق التي يَستعمِرونها، كما عَمَدوا إلى جعل لغتهم الأجنبية اللغة الرسمية في تلك المستعمرات. وفي عدد من الحالات، حاول الحكام المستعمرون أن يحلوا ثقافتهم الخاصة محلَّ الثقافة المحلية.
أما السياسة الاقتصادية التي مارسها الاستعمار، فقد كانت ممتلئة بالجشع.. ففيما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر الميلاديين، ظهر نظام اقتصادي في أوروبا يُدعى المركنتالية (أي النزعة التجارية).. وفي ظلِّ هذا النظام، قامت القوى الأوروبية بتشكيل اقتصاد المناطق المستعمرة حسب حاجاتها التجارية.. فعلى سبيل المثال، سنَّت بريطانيا عددًا من القوانين في القرن السابع عشر لتقوية سيطرتها على اقتصاد مستعمراتها الثلاث عشرة في أمريكا الشمالية. وقد كان بعض هذه القوانين يحصر التجارة بين المستعمرات البريطانية مع التجار البريطانيين فقط،كما كانت تشترط استخدام سفنٍ بريطانية فقط. أما القوانين الأخرى، فقد قلّصت من الصناعة في المستعمرات لأنَّ البريطانيين كانوا يريدون أن تعتمد المستعمرات على السلع المصنَّعة في بريطانيا. ولتشجيع الأمريكيين على تصدير السلع التي تحتاج إليها بريطانيا، عمد البريطانيون إلى إعطاء امتيازات تجارية لهذه الصادرات للتجار الأمريكيين. وقد أدارت القوى الأوروبية الأخرى تجارتها بالطريقة نفسها.
قلنا: لقد ذكرت أن الاستعمار كان وليدا لتلك القراءات التي سمعتها من الكاهن؟
قال: أجل.. لقد كانت تلك القراءات سر كل أنواع البلادء.. لقد امتزجت تلك النصوص مع ما امتلأت به نفوسنا من صراع وأحقاد لنملأ العالم بكل أنواع البلاء.
قلنا: ولكنا نرى أن المبشرين من قومنا يذهبون لمناطق المستعمرات ليملأوها بالبشارة؟
قال: صدقتم.. إنهم يذهبون لتلك المناطق ليقولوا لهم بكل وقاحة: دعوا ملككم الأرضي ليأخذه المستعمر، وتنالوا بدله ملكوت السماء..
بل كان لهم فوق هذا دور أخطر بكثير.. يقول الدكتور والتر رودني: (قد كانت البعثات المسيحية جزءاً من قوى الاستعمار إلى حد كبير، مثلها في ذلك مثل المكتشفين والتجار والجنود، وربما يكون هناك مجال للمجادلة حول ما إذا كانت البعثات التبشيرية في مستعمرة ما هي التي جلبت قوى الاستعمار الأخرى أم أن العكس هو الصحيح، ولكن ليس هناك شك في حقيقة أن البعثات (التبشيرية) كانت أدوات الاستعمار من الناحية العملية، وقد كان جونستون المغامر الإمبريالي بكره تلك البعثات (التبشيرية) لكنه قال في الثناء عليها: (كل موقع لبعثة تبشيرية هو تدريب على الاستعمار)
وقد علق سيمونز على دور البعثات التبشيرية في إفريقيا بالقول: (جاء الرجل الأبيض إلى إفريقيا وبيده الإنجيل، وأصبح الإنجيل بيد الزنجي)
إن هذا الأسلوب يذكرنا بالمناديل القرمزية..
قالوا: ما المناديل القرمزية؟
قال: لقد ذكر ايستبان مونتجو، وهو إفريقي هرب من مزرعة كوبيه في القرن التاسع عشر أن شعبه قد وقع في حبائل الرق بواسطة اللون الأحمر، حيث جاء البيض بمناديل قرمزية، وأخذوا يلوحون بها من سفنهم، فاستثارت هذه المناديل السود وصعدوا إلى السفن الأوربية ليحصلوا على هذه المناديل القرمزية فوقعوا في الرق.
وهكذا فعل المبشرون.. إنهم حين يقيمون الكنائس الجميلة وسط الحدائق الخضراء المحاطة بالأشجار الباسقة لا يقصدون بذلك خدمة الرب، وإنما خدمة القوى الاستعمارية التي ارتأت وقف الاسترقاق، واستعمار القارة لضرورات اقتصادية بحتة، فأرادت توجيه ضربتها الأخيرة القاصمة وهي الاستحواذ على الأرض والثروات الطبيعية وتقزيم الإفريقي وتفريغه من إفريقيته وثقافته وتراثه.
وقد شهد مطلع القرن التاسع عشر بداية التدفق الاستعماري للقارة الإفريقية، وهو نفس التاريخ الذي شهد تدفق الإرساليات التنصيرية إلى القارة، ومن هذه البعثات التنصيرية جمعية الآباء البيض التي تأسست في كل من نيجيريا والجزائر سنة 1868 ثم امتدت إلى منطقة البحيرات 1878 وإلى غرب إفريقيا 1885 ومنها جمعية شهودة يهوه، وجمعية برلين التنصيرية، وجمعية لندن التنصيرية، وجمعية آباء الكنيسة الإنجليزية.. بالإضافة إلى جمعيات الرومان الكاثوليك.. وغيرها.
سكت قليلا، ثم قال: هناك جريمة أخرى ما رسناها بكل وقاحة، وهي قريبة من الاستعمار.
قلنا: ما هي؟
قال: النفي.. الإخراج من الأرض.. الإبعاد عنها..
قلنا: ما تعني؟
قال: لقد كان من الأساليب التي مارسناه مع من نعتبرهم حشرات وأوباشا وهباء هو النفي والإخراج من الأرض.. لقد بدأنا، فنقلنا الساخطين سياسياً ودينياً (البيوريتان) إلى أمريكا، ونقلنا المجرمين والفاشلين في تحقيق الحراك الاجتماعي في أوطانهم إلى أمريكا وأستراليا. وتبعتها عمليات نقل أخرى تهدف جميعاً إلى تحقيق صالح السوبرمن.. الإنسان الغربي..
منها نقْل سـكان أفريقيا إلى الأمريكتين لتحـويلهم إلى مادة اسـتعمالية رخيصة.
ومنها نقْل جيوش أوربا إلى كل أنحاء العالم، وذلك للهيمنة عليها وتحويلها إلى مادة بشرية وطبيعية تُوظَّف لصالح الغرب.
ومنها نقْل الفائض البشري من أوربا إلى جيوب استيطانية غربية في كل أنحاء العالم، لتكون ركائز للجيوش الغربية والحضارة الغربية.
ومنها نقْل كثير من أعضاء الأقليات إلى بلاد أخرى.. نقل الصينيين إلى ماليزيا.. ونقل الهنود إلى عدة أماكن.. ونقل اليهود إلى الأرجنتين.. كل ذلك كشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني، إذ أن هذه الأقليات تشكل جيوباً استيطانية داخل البلاد التي تستقر فيها.
ومنها نقْل كثير من العناصر المقاتلة من آسيا وإفريقيا وتحويلهم إلى جنود مرتزقة في الجيوش الغربية الاستعمارية، مثل الهنود في الجيوش البريطانية.. وفي الحرب العالمية الأولى، تم تهجير 132 ألفاً من مختلف أقطار المغرب لسد الفراغ الناجم عن تجنيد الفرنسيين، بالإضافة إلى تجنيد بعضهم مباشرةً للقتال.
وفي هذا الإطار المعرفي، تمت عملية الاستيطان الصهيونية التي هي في جوهرها تصدير لإحدى مشاكل أوربا الاجتماعية.. تلك المعضلة التي تسمى المسألة اليهودية.. إلى الشرق، فيهود أوربا هم مجرد مادة، أو فائض بشري لا نفع له داخل أوربا يمكن توظيفه في خدمتها في فلسطين، والعرب أيضاً مادة أو كتلة بشـرية تـقف ضد هـذه المصالح الغربية، وفلسطين كذلك مادة، فهي ليست وطناً وإنما هي جزء لا يتجزأ من الطبيعة/المادة تُطلَق عليه كلمة (الأرض). فتم نقل العرب من فلسطين ونُقل اليهود إليها، وتمت إعادة صياغة كل شيء بما يتلاءم مع مصالح الإنسان الغربي.
لقد تمت ـ نتيجة لهذا أيضا ـ عمليات نقل ضخمة بعد الحرب العالمية الأولى، فنُقل سكان يونانيون من تركيا إلى اليونان، وسكان أتراك من اليونان إلى تركيا، كما نُقل سكان ألمان من بروسيا الشرقية بعد ضمها إلى بولندا.
وهذه العمليات هي التي أوحت لهتلر بعمليات نقل اليهود خارج الرايخ.. بل إنه في السنين الأخيرة من حكم الرايخ طوَّر هملر جنرال بلان أوست لنقل 31 مليوناً (غير ألمان) من أوربا الشرقية وتوطين ألمان بدلاً منهم.
قلنا: فما الخامس؟
قال: الإبادة.. القتل.. أو ما نسميه بلغتنا التي هذبنا بها الجريمة (التطهير)
قلنا: ما تعني؟
قال: لقد ساهمت كل تلك الأفكار.. المقدسة.. والعلمية.. والفلسفية.. وغيرها، في نزع القداسة عن البشر كافة، وتحويلهم إلى مادة ليست لها قيمة مطلقة، ولا علاقة لها بأية قيم.
وهذا ما يسر عمليات الإبادة الضخمة التي سالت فيها دماء كثيرة.. دماء لا يمكن إحصاؤها..
في أمريكا الشمالية.. كانت العقيدة التطهرية هي عقيدة المستوطنين البيض، فهي أولى الأيديولوجيات الإمبريالية الإبادية التي كانت تغطيها ديباجات دينية كثيفة.. حيث كان هؤلاء المتطهرون يشيرون إلى هذا الوطن الجديد باعتباره (صهيون الجديدة) أو (الأرض العذراء) فهي (أرض بلا شعب)، وكان المستوطنون يشيرون إلى أنفسهم باعتبارهم (عبرانيين)، وللسكان الأصليين باعتبارهم (كنعانيين) أو (عماليق) وكلها مصطلحات توراتية إبادية، استخدمها معظم المستوطنين البيض فيما بعد في كل أرجاء العالم.
وكان كل هذا يعني إبادة السكان الأصليين حتى يمكن للمستوطنين البيض الاستقرار في الأرض الخالية الجديدة..
قلنا: فهل تم بعض هذا؟
قال: بل تم الكثير منه.. لقد تم إنجاز هذا من خلال القتل المباشر، أو من خلال نقل الأمراض المختلفة كأن تُترَك أغطية مصابة بالجدري([8]) كي يأخذها الهـنود، فينتشر الوباء بينهـم ويتم إبادتهم تماماً..وكانت الحكومة البريطانية في عصر الملك جورج الثالث تعطي مكافأة مالية لكل من يحضر فروة رأس هندي قرينة على قتله.
واستمرت هذه التقاليد الغربية الإبادية بعد استقلال أمريكا، بل تصاعدت بعد عام 1830 حين أصدر الرئيس جاكسون قانون ترحيل الهنود، والذي تم بمقتضاه تجميع خمسين ألفاً من هنود الشيروكي من جورجيا وترحيلهم أثناء فصل الشتاء سيراً على الأقدام إلى معسكر اعتقال خُصِّص لهم في أوكلاهوما، وقد مات أغلبهم في الطريق.. وهذا شكل من أشكال الإبادة عن طريق التهجير، فهو ـ شكلاً ـ نقل من مكان لآخر ولكنه حقيقة نقل من هذا العالم للعالم الآخر.
وقد وصلت العملية الإبادية إلى قمتها في معركة ونديد ني Wounded Knee (الركبة الجريحة) عام 1890.. وكانت الثمرة النهائية لعمليات الإبادة هذه أنه لم يبق سوى نصف مليون من مجموع السكان الأصليين الذي كان يُقـدر بنحو 6.5 مليون عـام 1500 لدى وصول الإنسان الأبيض، أي أنه تمت إبادة سـتة مليون مواطن أصلي.. وهو رقم سحري لا يذكره أحد هذه الأيام، إذا لم نحـسب نسبة التزايد الطبيعي([9]).
وقد تكرر نفس النمط في أستراليا التي كان يبلغ عدد سكانها الأصليين 2 مليون عند استيطان البيض للقارة في عام 1788، ولم يبق منهم سوى 300 ألف. ولا تزال عملية إبادة السكان الأصليين مستمرة في البرازيل وأماكن أخرى، وإن كان بشكل أقل منهجية وخارج نطاق الدولة.
وترتبط بالتجربة الاستيطانية في أمريكا الشمالية عمليات نقل ملايين الأفارقة السود للأمريكتين لتحويلهم إلى عمالة رخيصة، وقد تم نقل عشرة ملايين تقريباً، ومع هذا يجب أن تعلموا أن كل أسير كان يقابله بوجه عام عشرة أموات كانوا يلقون حتفـهم إما بسبب الإنهاك والإرهاق وسوء الأحوال الصحية، أو من خلال إلقائهم في البحر لإصابتهم بالمرض.
وكانت أعمال السـخرة الاسـتعمارية في أفريقيا ذاتهـا لا تقل قسوة، ففي كتابه رحلة إلى الكونغو (1927)، يُبيِّن أندريه جيد كيف أن بناء السكة الحديد بين برازفيل والبوانت السوداء.. وهي مساحة طولها 140 كيلو متر.. احتاجت إلى سبعة عشر ألف جثة.. ويمكن أن تعلموا هنا أيضاً أن حفر قنال السويس بنفس الطريقة وتحت نفس الظروف وبنفس التكلفة البشرية.
وقد ورد في إحدى الدراسات أن عدد المواطنين الأوربيين الذين لهم علاقة بعمليات التطهير العرْقي والإبادة داخل أوربا، إما كضحايا أو كجزارين، يصل إلى مائة مليون، فإذا أضفنا إلى هذا عدد المتورطين في عمليات القمع والإبادة الاستعمارية في الكونغو وفلسطين والجزائر وفيتنام وغيرها من البلدان فإن العدد حتماً سوف يتضاعف.
سكت قليلا، ثم قال: أرجو أن تملكوا أنفسكم.. فسأذكر لكم نموذجا قريبا رأيته وعشته من عمليات الإبادة المنظمة.. إنه الإبادة النازية..
قلنا: الكل ينكر على النازية([10])؟
قال: أصدقكم القول.. لم تكن النازية سوى اللحظة التي تبلور فيها النموذج الغربي للإبادة وأفصح عن نفسه بشكل فاضح، دون زخارف أو ديباجات.. ولذا أذهلت الجميع.
لقد كنت في ذلك الحين أشرب الدماء مع النازيين.. وكان النازيون ـ حينها ـ يُدركون تماما أن نظامهم النازي وممارساته الإبادية هما ثمرة طبيعية للتشكيل الحضاري الإمبريالي الغربي الحديث.
لقد عشت مع هتلر، وعرفت من صحبته موقفه من أولى تجارب الإنسان الغربي الاستعمارية الاستيطانية، أي تجربته في أمريكا الشمالية.. لقد كان يعتبرها تجربة مثالية أوحت له بكثير من أفكاره التي وضعها موضع التنفيذ فيما بعد([11]).
ولعل أكبر دليل على أن الإبادة تضرب بجذورها في حضارتنا المتعفة بالدماء، وأنها لم تكن مقصورة على النازيين، ما لاحظتموه من فكر وسلوك الحلفاء، أعداء النازيين الذين قاموا بمحاكمتهم بعد الحرب:
فإرنست همنجواي، الكاتب الأمريكي، كان يُطالب بتعقيم الألمان بشكل جماعي للقضاء على العنصر الألماني..
وفي عام 1940 قال تشرشل: إنه ينوي تجويع ألمانيا وتدمير المدن الألمانية وحرقها وحرق غاباتها..
وقد عبَّر كليفتون فاديمان([12]) عن هذا الموقف الإبادي بشكل متبلور.. فقد شن حملة كراهية ضارية ضد الألمان تشبه في كثير من الوجوه الحملة التي شنها الغرب ضد العرب في الستينيات، والتي يشنها ضد المسلمين والإسلام في الوقت الحاضر.. لقد جعل الهدف حملته (إضرام الكراهية لا ضد القيادة النازية وحسب، وإنما ضد الألمان ككل.. فالطريقة الوحيدة لأن يفهم الألمان ما نقول هو قتلهم.. فالعدوان النازي لا تقوم به عصابة صغيرة.. وإنما هـو التعبير النهـائي عن أعمق غرائز الشعب الألماني، فهتلر هو تَجسُّد لقوى أكبر منه، والهرطقة التي ينادي بها هتلر عمرها 2000 عام)، ومثل هذا الحديث لا يختلف كثيراً عن الحديث عن عبء الرجل الأبيض وعن الخطر الإسلامي ومن قبله الخطر الأصفر.
وقد اشترك بعض الزعماء والكُتَّاب اليهود في هذه الحملة، فصرح فلاديمير جابوتنسـكي عـام 1934 بأن مصلحـة اليهود تتطلب الإبادة النهائية لألمانيا، فالشعب الألمـاني بأسره يُشكِّل تهديداً لنا.
سكت قليلا، ثم قال: لا شك أنكم قرأتم كتاب الكاتب الأمريكي تيودور كاوفمان بعنوان (لابد من إبادة ألمانيا).. إنه من أهم الكتب المحرضة على الإبادة، وقد استفادت منه آلة الدعاية النازية، وبيَّنت أبعاد المؤامرة الإبادية ضد الألمان، وهو ما شكَّل تبريراً لفكرة الإبادة النازية نفسها.
لقد ورد في هذا الكتاب أن كل الألمان، مهما كان توجههم السياسي (حتى لو كانوا معـادين للنازيـة، أو شـيوعيين، أو حتى محبين لليهود) لا يستحقون الحياة، ولذا لابد من تجنيد آلاف الأطباء بعد الحرب ليقوموا بتعقيمهم حتى يتسنى إبادة الجنس الألماني تماماً خلال ستين عاماً!
وكان هناك أحاديث كثيرة عن ضرورة هدم ألمانيا، وعن تحويل ألمانيا إلى بلد رعوية، أي هدم كل صناعاتها ومؤسساتها الحديثة.
ولم يكن كل هذا مجرد كلام..
لقد نجحت غارات الحلفاء على المدن الألمانية في إبادة مئات الألوف من المدنيين من الرجال والأطفال والنساء والعجائز وتحطيم كل أشكال الحضارة والحياة.. وقد بلغ عدد ضحايا الغارات على مدينة درسدن الألمانية وحـدها 200 ألف قتـيل.
كما اسـتمرت النزعة الإبادية بعد الحرب،فقامت قوات الحلفاء بوضع مئات الألوف من الجنود الألمان في معسكرات اعتقال وتم إهمالهم عن عمد، فتم تصنيفهم على أساس أنهم DEFS([13]) أي (قوات معادية تم نزع سلاحها) بدلاً من تصنيفهم (أسرى حرب)
وإعادة التصنيف هذه لم تكن تعني سوى حرمانهم من المعاملة الإنسانية التي تنص عليها اتفاقيات جنيف الخاصة بأسرى الحرب، وبالفعل قضى 793.239 جندي ألماني نحبهم في معسـكرات الاعتـقال الأمريكية عام 1945،كما قضى 167 ألف نحبهم في معسكرات الاعتقال الفرنسية نتيجةً للجوع والمرض والأحوال الصحية السـيئة، وفي الوقت ذاته كان يوجد 13.5 مليون طرد طعام في مخازن الصليب الأحمر، تعمدت سلطات الحلفاء عدم توزيعها عليهم.
ولم تقتصر الإبادة على التصفية الجسدية بل كانت هناك إبادة ثقافية، فقد قام الحلفاء بما سُمِّي (عملية نزع الصبغة النازية عن ألمانيا) للقضاء على النازيين في الحياة العامة، فأُقيمت 545 محكمة دائمة على الأقل يتبعها طاقم من الفنيين والسكرتارية عددهم اثنان وعشرون ألفاً.
وقام الأمريكيون بتغطية ثلاثة عشر مليون حالة (أي معظم الذكور الألمان البالغين)، وتم توجيـه الاتهـام إلى ثلاثة مـلايين وسبعمائة ألف، أُجريت لهم محاكمات عاجلة، وأدين تسعمائة وثلاثون ألفاً منهم، وصدرت أحكام بشأنهم من بينها 169.282حكماً بتهمة ارتكاب جرائم نازية لا مجرد التعاون مع النظام النازي. وأصـدر البريطانيـون 22.296 حكـماً والفرنسـيون 17.353 حكماً، والروس ثمانية عشر ألف حكم. وبحـلول عـام 1945، كان قد تم طرد 141 ألف ألماني من وظائفهم، من بينهم معظم المدرسين في منطقة الاحتلال الأمريكية، وزُج بعدد أكبر من هؤلاء في السجن.
وتظهر نفس النزعة الإبادية في استجابة الحلفاء لليابان، فقبل اكتشاف القنبلة الذرية، كان الجنرال الأمريكي كورتيس لي ماي يقوم بتحطيم مدن اليابان الواحدة تلو الأخرى بشكل منهجي لم يسبق له مثيل في التاريخ.. فخلال عشرة أيام في مارس 1945، قامت الطائرات الأمريكية بطلعات جوية بلغ عددها 11.600، تم خلالها إغراق 32 ميل مربع من أكبر أربع مدن يابانية بالقنابل، وهو ما أدَّى إلى محو هذه المساحات وكل ما عليها من الوجود وتسببت في مقتل150.000. أما الغارات الجوية على طوكيو يوم 25 مايو 1945، فتسببت في اندلاع عاصفة نارية ضخمة حتى أن قائدي الطائرات المقاتلة كانوا يشمون رائحة لحم البشر المحترق وهم على ارتفاع آلاف الأقدام. وأدَّت هذه الغارات إلى مقتل الآلاف وتشريد مليون شخص على الأقل.
وكانت عملية الإبادة من الشمول لدرجة أن الجنرال جروفز المسئول عن مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية كان يخشى ألا يجد أي هدف سليم يمكن أن يُلقي عليه بقنابله ويدمره.
ورغم أن الولايات المتحدة كانت تعرف أن اليابانيين كانوا قد بدأوا يفكرون بشكل جاد في إنهاء الحرب، فقد رأى الجنرال جروفز ضرورة استخدام القنبلة مهما كان الأمر ـ بعد أن تم إنفاق 2 بليون دولار في تطويرها وهو ما يُعادل 26 بليون دولار بحسابات اليوم ـ كما أن ترومان كان يشعر بعدم الثقة في نفسه أمام تشرشل وستالين، ولذا كان يود أن يذهب للاجتماع بهم وهو في موقع قوة، خصوصاً وأن الدب الروسي كان قد بدأ في التضخم. ومن ثم، كان لابد من إلقاء القنبلة الذرية بغـض النـظر عن عـدد الضحـايا أو حـجم التدمـير. وكان الجـنرال جروفـز ( محظوظاً ) (كما تقول بعض الدراسات) إذ وجد ضالته المنشودة في هيروشيما التي كان يقطنها 280 ألف نسمة، ووجد أنها محاطة بتلال يمكن أن تُحوِّل المدينة إلى جهنم حقيقية بعد الانفجار إذ أنها ستركز الحرارة، وبالفعل قُتل فور وقوع الانفجار 70 ألف مدني ومات 130 ألف آخرون بعد عدة شهور متأثرين بحروقهم من الإشعاع.
وكأن هيروشيما لم تكن كافية، فأُلقيت قنبـلة أخرى على ناجازاكي، أدَّت هي الأخـرى إلى مقـتل 70 ألـف آخرين، غير مئات الألوف الآخرين الذين لقوا مصرعهم فيما بعد، فما بين ألمانيـا واليابـان تم إبـادة وإصـابة حوالي مليوني شخص معظمهم من المدنيين.
ومثل هذا كان يقوم به النظام السـتاليني ضد الشعوب الإسلامية المسالمة في الخانات التركية، والتي أصبحت الجمهوريات السوفيتية الإسلامية:
لقد كان عدد شعب التتار وحده يساوي عدد سكان روسيا، أما الآن فهو لا يُكوِّن سوى نسبة مئوية ضئيلة، ومصيره بهذا لا يختلف كثيراً عن مصير السكان الأصليين في أستراليا وأمريكا الشمالية.
وقد استمر النظام الستاليني في عمليات الإبادة المنهجية والمنظمة لأعدائه الطبقيين مثل الكولاك الذين قاوموا تحويل مزارعهم إلى مزارع جماعية، بل تم إبادة كثير من أعضاء الحزب الشيوعي ممن عارضوا الديكتاتور.
وكانت الإبادة تأخذ أشكالاً مختلفة مثل الإعدام والعمل في معسكرات السخرة. وقد بلغ عدد الضحايا 20 مليون، مات منهم 12 مليون على الأقل في معسكرات الجولاج: هذا حسب التقديرات المحافظة، أما أعداء النظام الستاليني فيقولون إن عدد الضحايا بلغ 50 مليوناً! وبعد حوالي نصف قرن لا تزال عمليات الإبادة والتطهير العرْقي على قدم وساق في البوسنة والهرسك والشيشان ولا تزال بعض الدول الغربية تراقب هذا بحياد غير عادي.
قلنا: فحدثنا عن الإبادة النازية التي اعتبرتها النموذج الأمثل الذي تجلت فيه دموية قومنا.
قال: لا شك أنكم تعرفون الغجر([14])؟
قلنا: وكيف لا نعرفهم.. ما بهم؟
قال: لقد كانوا من الشعوب التي شملتهم عنصريتنا وكبرياؤنا.. فرحنا نبيدهم بكل ما أتاحت لنا وسائلنا من قدرات على الإبادة.
قلنا: لم نكن نعلم أن الإبادة مست هذا الشعب المسالم.. لقد كنا نتصورها خاصة باليهود([15])؟
قال: ذلك من تلاعبنا وتلاعب إعلامنا بالحقائق.. فنحن لم نشهر إبادة اليهود حبا لليهود، وإنما لنوظفهم في إبادة شعوب أخرى واستغلال شعوب أخرى.. أما الغجر.. فلم نر لهم أي وظيفة، فلذلك لم نسقط عليهم أي دمعة.
قلنا: فحدثنا عن إبادة هذا الشعب الطيب.
قال: لقد كانت إبادة الغجر مُدرجة في برنامج ألمانيا النازية.. وكان لدى شرطة إقليم بافاريا الألماني منذ عام 1899 قسمٌ خاص بشئون الغجر يتلقى نسخاً من قرارات المحاكم المكلّفة بالبت في المخالفات التي يرتكبها الغجر.. ثم تحوَّل هذا القسم عام 1929 إلى مركز وطني مقره ميونيـخ، وحُظر على الغـجر منذ ذلك التاريخ التنقل بدون تصريح الشرطة، وكان الغجر الذين يزيد أعمارهم على السادسة عشرة ولا يعملون يُجبرون على العمل لمدة سنتين في مركز من مراكز التأهيل.. وابتداءً من عام 1933، وهو تاريخ وصول هتلر إلى الحكم، زادت تلك القيود شدة وصرامة، وطُرد الغجر الذين لا يحملون الجنسية الألمانية، وزُجّ بالباقين في المعتقلات بحجة أنهم (غير اجتماعيين)
ثم بدأ الاهتمام بالبحث في الخصائص العِرقية للغجر، فأعلن الدكتور هانز جلوبكه ـ أحد المساهمين في صياغة قوانين نورمبرج ـ عام 1936 ـ أن الدم الذي يجري في عروق الغجر (دم أجنبي)، ثم صنَّفهم الأستاذ هانز ف. حينثر في فئة مستقلة تمثل مزيجاً عرْقياً غير محدَّد (إذ لم يستطع نفي أصلهم الآري).. وبلغت الخصائص العرْقية لدى الغجر من الأهمية درجة أهلتها لأن تصلح موضوعاً لرسالة دكتوراه، ومما قالته إيفا جوستين مساعدة الدكتور ريتّر في قسم الأبحاث العِرقية بوزارة الصحة (عند مناقشة رسالتها) إن الدم الغجري (يُشكِّل خطراً بالغاً على صفاء الجنس الألماني)
ووجَّه طبيب يُدعَى الدكتور بورتشي مذكرة إلى هتلر يقترح فيها فرض الأشغال الشاقة على الغجر وتعقيمـهم بالجملة نظراً لأنهم (يُشكِّلون خطراً على نقاء دم الفلاحين الألمان)
وفي 14 ديسمبر عام 1936، صدر قرار أدى إلى تفاقم أوضاع الغجر إذ وصمهم بأنهم (مجرمون معتادون على الإجرام)، وفي نهاية عام 1937 وخلال عام 1938 شُنت حملات اعتقال جماعية عديدة ضد الغجر، وخُصِّص لهم جناح في معتقل بوخنولد، وكانت قوائم الوفيات في كثير من المعسكرات تحوي أسماء غجرية يُذكَر منها: ماوتهاوسن وجوسن وداوتمرجن وناتلزفايلر وفلوسنبورج. وفي رافنسبروك، راحت كثيرات من نساء الغجر ضحايا لتجارب أطباء الشرطة العسكرية الهتلرية الإس. إس. (ss).
وفي عام 1938، أصدر هملر بنفسه أمراً بنقل مقر المركز الوطني لشئون الغجر إلى برلين، وفي السنة نفسها اعتُقل ثلاثمائة غجري كان قد استقر بهم المقام في قرية مانفويرت حيث كانوا يملكون الحقول والكروم. وقد أمر هملر بتصنيف الغجر في الفئات التالية: غجري صرف (Z)، وخلاسي يغلب عليه العرْق الغجري (ZM+)، وخلاسي يغلب عليه العرْق الآري (ZM-)، وخلاسي يتساوى فيه العرْقان الغجري والآري (ZM).
قلنا: فكيف تمت محاولات إبادة هذا الشعب؟
قال: هناك أساليب مختلفة لذلك.. منها إزالة القدرة على الإنجـاب.. ومنها اخـتطاف الأطفال.. ومنها الإبادة عن طريق الزج في المعتقـلات.. ومنها الإبادة عن طريق الإفناء.
لقد عُقِّمت في مستشفى برسلدورف – لبيرنفلد نساء غجريات متزوجات من غير الغجر، ومات بعضهن على أثر تعقيمهن وهنَّ حوامل، وفي رافنسبروك، قام أطباء الإس. إس. بتعقيم مائة وعشرين فتاة غجرية صغيرة.
وكان من أمثلة الإبادة الجماعية عن طريق الاعتقال ترحيل خمسة آلاف غجري من ألمانيا إلى جيتو لودز في بولندا، وكانت ظروف المعيشة في هذا الجيتـو من الفظاعـة بحيث لم ينج أحد من هؤلاء الغجر من الهلاك.
ومع ذلك فإن الطريقة التي كان يؤثرها النازيون هي طريقة الإفناء المباشر، وقد اتخذ قرار إبادة الغجر بالإفناء في ربيع عام 1941 عندما شُكِّل ما عُرف باسم (فرق الإعدام)، ولكي يتحقق ذلك كان يتعيَّن جمع الغجر في أماكن محددة، فمنذ صدور قرار هملر في 8 ديسمبر 1938، كانت أماكن سكنى الغجر قد أصبحت معروفة لدى الشرطة، ثم جاء قرار 17 نوفمبر 1939 ليحظر عليهم ترك منازلهم أو ليضعهم تحت طائلة الحبس في معسكرات الاعتقال، ورُحل ثلاثون ألف غجري إلى بولندا فلاقوا حتفهم في معتقلات الموت في بلزك وتربلينكا وسوبيبور ومايدانك، شأنهم شأن آلاف آخرين رُحلوا من بلجيكا وهولندا وفرنسا إلى معتقل أوشفيتس.
ويروي هويس، قائد المعتقل، في مذكراته أنه كان بين المعتقلين شيوخ يناهزون المائة سنة من العمر ونساء حوامل وأعداد كبيرة من الأطفال، كذلك يروي بعض السجناء الذين نجوا من الهلاك، كما يسرد كولكا وكرواس في كتابهما المعنون مصنع الموت، قصة مذبحة الغجر الرهيبة التي وقعت في ليلة 31 يوليه عام 1944.
وفي بولندا، كان الغجر يُقتلون في معسكرات الموت أو يُعدمون في البراري.. وامتد نطاق القتل إلى الاتحاد السوفيتي عندما اندلعت نيران الحرب بين الألمان والسوفييت، فكانت فرق الإعدام التابعة للإس. إس. تسير مع الجيوش الألمانية، وكانت القبور الجماعية تملأ مناطق البلطيق وأوكرانيا والقرم.. وفي ليلة 24 ديسمبر 1941 أُعدم رمياً بالرصاص في سيمفيروبول ثمانمائة غجري من الرجال والنساء والأطفال.. وحينما زحفت الجيوش النازية، كان الغجر يُعتقلون أو يُرحلون إلى المعسكرات أو يُقتلون.. وفي يوغسلافيا، كان الغجر واليهود يُعدمون في غابة باجنيس.
قلنا: فقد أبيد كم كبير من هذا الشعب على حسب ما تذكر؟
قال: لا يمكن تصور عدد من أبيدوا.. لأنه من الصعب تقدير عدد الغجر الذين كانوا يعيشون في أوربا قبل الحرب العالمية الثانية وعدد ضحايا هذه الحرب.. لكن يتبيَّن من تقارير فرق الإعدام أن عدد الضحايا في روسيا وأوكرانيا والقرم بلغ ثلاثمائة ألف غجري، بينما تُقدر السلطات اليوغسلافية عدد القتلى من الغجر بثمانية وعشرين ألفاً في الصرب وحدها. أما عدد الضحايا في بولندا، فمن الصعب تقديره وإن كان المؤرخ تيننباوم يؤكد أن الشعب الغجري فقد على الأقل خمسمائة ألف من أبنائه. هذا، مع العلم بأن الشعب الغجري شعب عريق وكثير النسل.
وعلى كل حال، ومهما اختلفت النسب، فإن نسبة من أُبيد من الغجر إلى عددهم الكلي يفوق نسبة من أُبيد من اليهود.
قلنا: فحدثنا عن إبادة اليهود.. أم أنك تنكرها؟
قال: لا يمكنني أن أنكر الجريمة.. لأن من أنكر الجريمة كان مصرا عليها.. ولكني أنكر أن تتخذ الجريمة ذريعة لجريمة.
قلنا: ما تقصد؟
قال: أنتم تعلمون ما يفعله قومنا بذلك الشعب المسالم الذي طرد من أرضه من أجل أن يسكنها اليهود.. وليس لهم من مبرر لذلك إلا أن هذا الشعب تعرض لجريمة.. وما دام قد تعرض لجريمة، فلا بد أن يدفع شعب آخر لا علاقة له بالجريمة الثمن.
سكت قليلا، ثم قال: إن هؤلاء الذي زجوا بهذا الشعب في تلك الأرض الطيبة المقدسة لينجسوها لم يفعلوا إلا ما كان يود هتلر فعله.. ولكن الأمر قصر به.. فراح يسرع إلى حل الإبادة.
لقد كان جوهر الفكر النازي، متمثلاً في كتابات أدولف هتلر وغيره من المفكرين النازيين، لا يختلف كثيراً عن فكر سير آرثر بلفور صاحب الوعد المشهور وغيره من الساسة والمفكرين الاستعماريين.. فكلٌ من هتلر وبلفور يدور داخل الإطار الإمبريالي العِرقي المبني على الإيمان بالتفاوت بين الأعراق، وعلى حل مشـاكل أوربا عن طريق تصـديرها.. وكلاهما يؤمن بفكرة الشـعب العضوي، وكلاهما يرى في اليهود عنصراً غير مرغوب فيه ويؤكد، من ثم، ضرورة وضع حل نهائي للمسألة اليهودية في أوربا، وكلاهما لا يلتزم بأية منظومة أخلاقية سوى منظومة المنفعة المادية ومنظومة الصراع الداروينية، وقد تم الحل النهائي في حالة بلفور بنقل اليهود خارج إنجلترا وأوربا إلى فلسطين.
وقد حاول هتلر، في بداية الأمر، أن يحل مسألته اليهودية بشكل نهائي أيضاً، بالطرق الاستعمارية السلمية البلفورية التقليدية، أي التخلص من الفائض البشري اليهودي عن طريق تصديره إلى رقعة أخرى خارج ألمانيا. وكان هتلر يدرك أن النقل هو جزء من المنظومة الغربية وطريقة حلها للمشاكل. فقد أشار (في أغسطس 1940) إلى أنه تم إفراغ بروسيا الشرقية من سكانها الألمان بعد الحرب العالمية الأولى، وتساءل عن وجه الضرر في نقل 600 ألف يهودي من أراضي الرايخ (وكان هناك مشروع نازي ترانسـفيري أكبر وهـو نقل 31 مليـون غير ألماني من شرق أوربا، وهي عبارة بلفورية لا تختلف عن تلك العبارة التي وردت في وعد بلفور حيث تمت الإشارة لسكان فلسطين العرب على أنهم (الجماعات غير اليهودية)
وداخل هذا التصور البلفوري الغربي تحرَّك هتلر لتنفيذ خطته، حيث قام بشحن عشرة آلاف يهودي وأرسلهم عبر الحدود إلى بولندا في 28 أكتوبر 1938، ولكن الحدود البولندية كانت موصـدة دونهـم، فبولندا هي الأخرى كانت تود الدفاع عن مصالحها المادية.
واسـتمرت المحاولات النازية التي تستهدف تهجير اليهـود حتى نهاية الحكم النازي، فبُذلت المحاولة تلو الأخرى لتوطينهم في سوريا وإكوادور وتم تشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين.. وكان هناك مشروع صهيوني نازي يُسمَّى (مشروع مدغشقر) يهدف إلى تأسيس دولة يهودية في تلك الجزيرة الأفريقية، ولكن معظم هذه المشروعات فشلت، ولم تُطرح بدائل أخرى، فالمجال الاستعماري الحيوي لألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، كان محدوداً.
في ذلك الحين لم تكن الدول الغربية ـ التي تتباكى حتى الآن على ضحايا الإبادة ـ ترحب بالمهاجرين اليهود أو غيرهم.
وكان هتلر يسمي خطة النقل هذه (الحل الشامل) و(الحل النهائي)، ولكن هذا الحل النهائي البلفوري لم يكن متاحاً لهتلر، ولذا لم يكن أمـامه سوى استبعاد اليهود بطريقة غير بلفورية، وتتميَّز بكونها أكثر حدة ومنهجية وتبلوراً وسوقية، ومع هذا يميل كثير من العلماء إلى القول بأن (الحل النهائي النازي للمسألة اليهودية) ظل ذا طابع بلفوري حتى النهاية، أي حل نهائي من خلال التهجير القسري إما إلى المستعمرات في آسيا وأفريقيا أو إلى معسكرات العمل والسخرة في ألمانيا، التي لم تكن الأوضاع فيها تختلف كثيراً عن الأوضاع السائدة في المستعمرات.
قلنا: فحدثنا عن تلك الأعداد الضخمة من اليهود التي أبادها النازيون.
قال: أنا لم أحضر تلك العمليات بالدقة التي وصفت بها.. ولكن لي أصدقاء كثيرين حضروا.. وقد أخبروني أخبارا مختلفة.. وأنا لا أستطيع أن أصدقهم جميعا، ولا أن أكذبهم جميعا.. فقد تعلمت من النور والسلام والصفاء عندما التقيت به أنه من الجريمة أن نتهم المجرم بما لم يرتكبه من الجرائم.
كل ما أعلمه من ذلك أنه عندما أقيمت معسكرات الاعتقال في ألمانيا عام 1933 بعد استيلاء النازيين على الحكم، كان البوليس السري الألماني (جستابو) يقوم بالقبض على خصوم الحكومة النازية واحتجازهم في هذه المعسكرات، وحين عظم نفوذ الجستابو وأُعطي الحرية المطلقة في التصرف، أصبحت عمليات القبض تتم على نطاق واسع، فقُبض على جماعات بأكملها ثم أُرسلت إلى معسكرات الاعتقال.
ولم تكن هذه العمليات موجهة ضد اليهود بالذات، وإنما كان يُعتقل كل من يشكل خطراً على الدولة الجديدة بغض النظر عن دينه أو جنسيته.. وقد وقعت أول حادثة موجهة ضد اليهود في نوفمبر 1938 عندما وُضع عشرون ألف يهودي في هذه المعسكرات في داخاو وبوخنوالد.. ومن معسكرات الاعتقال الشهيرة الأخرى، معسكر برجن بلسن.
ومما أعلمه بدقة في هذا أنه أُقيمت ستة معسكرات للاعتقال والإبادة في بولندا، وقد أُرسل إلى هذه المعسكرات كثير من الضحايا اليهود والغجر والسلاف وغيرهم، من كل أنحاء أوربا.. وقد ذكر لي أن كل معسكر كان مزوداً بأدوات متنوعة للإبادة مثل فرق إطلاق النيران، وأدشاش المياه التي تطلق الغاز، والمحارق([16]).
ومما أعلمه بدقة أن معسكرات الاعتقال لم تكن مخصصة لليهود وحدهم، وإنما كانت أداة من أدوات النظام النازي تُستخدَم لتحقيق أهدافه القومية، بل إن عدد ضحاياها من غير اليهود يفوق عدد ضحاياها من اليهود.
سكت قليلا، ثم قال: لماذا يلام النازيون وحدهم على معتقلات الإبادة.. الكل مارس الاعتقال.. والكل مارس الإبادة..
لا شك أنكم تعلمون أنه منذ بداية التشكيل الحضاري الغربي الحديث أصبحت معسكرات الاعتقال والإبادة نمطاً متكرراً، حيث تم نقل سكان أمريكا الأصليين الهنود الحمر إلى معسكرات اعتقال منعزلة تمهيداً لإبادتهم بشكل مباشر أو غير مباشر.. وكانت عملية النقل ذات طابع إبادي. وكان السود، الذين يجري اصطيادهم في أفريقيا ونقلهم إلى أمريكا، يتم وضعهم في معسكرات أيضاً، ويسكنون في مساكن هي أقرب ما تكون إلى معسكرات السخرة.. وفي الحرب العالمية الثانية، وضعت الولايات المتحدة الغالبية الساحقة من المواطنين الأمريكيين من أصل ياباني في معسكرات مماثلة.. وفي جنوب أفريقيا قامت حكومة التفرقة اللونية (الأبارتهايد) البيضاء بوضع المواطنين الأصليين في معازل جماعية..
قلنا: والنازية.. ماذا فعلت؟
قال: في النازية التي تمثل قمة الإنسانية بمفهومنا الغربي.. تبدَّى الموقف الحيادي الدارويني في موقف النازيين من العلم، وزعمهم انفصاله عن القيمة وعن الغائية الإنسانية، في واحد من أهم المفاهيم الطبية (العلمية المحايدة) في القرن التاسع عشر، وهو مفهوم (الصحة العرْقية)، الذي ينطلق من ضرورة الحفاظ على وحدة الشعب العضوي وعلى بقائه (فهما سر تفوقه ورقيه) عن طريق التخلص من العناصر الضارة أو غير النافعة (التي تُعدُّ تعبيراً عن انهيار العرْق وانحطاطه)؛ وثمة كتابات عديدة بجميع اللغات الأوربية في هذا الموضوع. ومن أهم المفاهيم المرتبطة بالصحة العرْقية مفهوم اليوثينيجيا euthenesia أو ما يُسمَّى (القتل الرحيم)، أي التخلص من المعوقين وغيرهم (مثل المرضى بأمراض مزمنة)
سكت قليلا، ثم قال: أذكر جيدا أنه في تلك الأيام التي صارت الدماء فيها كالأمطار.. بل كالسيول والأنهار.. أصدرت النخبة النازية عدة قوانين لضمان الصحة العرْقية، فوضعوا البشر تحت تصنيفات مختلفة.. يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
أما القسم الأول، فهم المستهلكون الذين لا نفع اقتصادي لهم.. مثل المعتوهين والمتخلفين عقلياً والمصابين بانفصام الشخصية والأطفال المعوقين والأفراد المتقدمين في السن والمصابين بالسل، والمرضى الميئوس من شفائهم.. وكان يُضَم لهؤلاء الجنود الألمان الذين أصيبوا أثناء العمليات العسكرية، فعلاجهم كان يُشكِّل عبئاً على ميزانية الدولة.
وأما الثاني، فهم المنحلون، وهم الشيوعيون والشواذ جنسياً وعدد كبير من أعداء المجتمع الذين يتسمون بالسلوك غير الاجتماعي، مثل مدمني الكحول والعاهرات والمجرمين ومدمني المخدرات ومن لا مأوى لهم.
وأما الثالث، فهم أعضاء الأجناس الدنيا مثل السلاف والغجر واليهود والأقزام، فهم غرباء داخل الفولك الألماني ولا يوجد مبرر قوي لوجودهم إلا باعتبارهم مادة خاماً تُوظَّف لصالح الجنس الآري الأرقى، خاصةً أن بعضهم،مثل البولنديين، يشغلون المجال الحيوي لألمانيا.
وفي 14 يوليه 1933.. أي في اليوم التالي لتوقيع المعاهدة مع الفاتيكان، أصدر النازيون قانوناً يُسمَّى (قانون التعقيم) لمنع بعض القطاعات البشرية مثل المعوقين والمرضى النفسيين والمرضى بالصرع والعمى الوراثي والصمم الوراثي والتشوه الخلقي والإدمان المتطرف للكحول من التكاثر، وبالفعل، تم تعقيم أربعمائة ألف مواطن ألماني..
وفي عام 1935، صدر قانون بمنع العلاقات الجنسية بين اليهود وأعضاء الأعراق غير الراقية من جهة والألمان من جهة أخرى، وذلك للحفاظ على النقاء العرْقي.
بعدها أُعلن عام 1939 عاماً يراعي فيه المواطن واجب التمتع بصحة جيدة، وطُلب من كل طبيب أو داية أن تُبلغ عن أي مولود جديد معوق، وبدأت عملية القتل الموضوعي (أو العلمي أو المحايد) لهؤلاء الذين لا يمكن شفاؤهم مثل المعوقين وغيرهم تحت عنوان مشروع عنه (تي فور T4)، وظهرت وثائق تبين أنه قُتل سبعون ألف معوق وعاجز يأكلون ولا ينتجون.. كانوا حينها يسمونهم (آكلون غير نافعين).. والذين كانوا يُشكِّلون عبئاً على الاقتصاد الوطني ويعوقون التقدم حسب رؤيتنا الاستعلائية.. وقد تمت إبادتهم بمقتضى برنامج (تجنب العدوى والقضاء على الجراثيم).. أي برنامج إبادة المجرمين والمتخلفين وربما المسنين.
وقد أدَّى ذلك ـ كما جاء في إحدى الدراسات العلمية الألمانية الرصينة ـ إلى توفير 239.067.020 كيلو جراماً من المربى في العام.
أذكر أن لجنة ـ في ذلك الحين ـ كانت قد أُنشئت للعلاج العلمي للأمراض الوراثية الخطيرة أوصت بقتل الأطفال المشوهين، وكان هؤلاء وغيرهم يُرسلون إلى مستشفيات، فكانوا يوضعون في عنابر خاصة ثم يتم الإجهاز عليهم عن طريق أفران غاز مخبأة على هيئة أدشاش، ومحارق لحرق الجثث، وقد طُبِّق المعيار نفسه، بعض الوقت، على الجنود الألمان الجرحى في الحرب، إذ أن عملية علاجهم كانت ستُكلف الدولة الكثير، ثم طُبِّقت عمليات الإبادة هذه بصورة أوسع على أسرى الحرب.
وقد صُنِّف اليهود ـ حينها ـ باعتبارهم مرضى، وذلك نظراً لعدم نقائهم العرْقي، ومن ثم أصبح من الضروري إبادتهم، شأنهم شأن العناصر الألمانية غير النافعة. ومن جهة أخرى، تم توسيع نطاق برنامج القتل المحايد أو العلمي ليضم المجرمين كافة، يهوداً وغير يهود.. وكان اليهود يُعتبرون أيضاً ذوي استعداد إجرامي طبيعي بسبب اختلاط خصائصهم الوراثية. ولذا، طُبق البرنامج على اليهود الموجودين في المستشفيات جميعاً.
ومن أهم تجليات الحياد العلمي الذي اتسمت به عمليات الإبادة، تلك التجارب العلمية التي كان النازيون يجرونها على خنازير التجارب البشرية وهي تجارب منفصلة تماماً عن أية منظومات قيمية:
لقد كان النازيون يختارون بعض العناصر التي لها أهمية تجريبية خاصة لإجراء التجارب عليها، وكان هذا يتم بسهولة ويسر وسلاسة؛ لأن البشر تحولوا إلى مادة محايدة في عقول القائمين على هذه التجارب.
ومما أذكر من ذلك أن الطبيب هانس إيسيل كان يقوم بعمليات استئصال دون تخدير ليدرس أثرها، وأُجريت تجارب أخرى على نزلاء معسكرات الاعتقال لا تقل رهبة عن تجارب إيسيل.. وكان بعضهم يُطلَق عليه الرصاص لاختبار فعاليته في الحرب، وعُرّض آخرون لغازات سامة في عمليات اختبارية.. وكان البعض يوضعون في غرفة مفرغة من الهواء لمعرفة المدة التي يستطيع الإنسان خلالها أن يظل حياً وهو على ارتفاعات عالية أو بدون أوكسجين.. وكان الأوكسجين يُقلل تدريجياً ويخفض الضغط، فتزداد آلام خنازير التجارب البشرية شيئاً فشيئاً حتى تصبح آلاماً لا يمكن احتمالها حتى تنفجر رئاتهم.. كما كان الضغط الداخلي على أغشية طبلات الآذان يسبب لهم عذاباً يوصلهم إلى حد الجنون.
وكان الدكتور راشر، وهو عالم نازي آخر، شمولياً في أبحاثه إلى درجة عالية، فقام بتزويد غرف الضغط في النهاية بمبردات تجبر عيناته على مواجهة شروط أقرب ما تكون إلى الارتفاعات العالية.
وكان هذا الدكتور مسئولاً عن الكثير من تجارب التجميد التي يتعرض فيها الأشخاص إلى البرد الشديد المستمر حتى الموت، وكان الهدف معرفة مدة مقاومتهم، وبقائهم أحياء، وما الذي يمكن صنعه لإطالة حياة الطيارين الذين يسقطون في مياه متجمدة.. وكان بعض نزلاء داخاو ضمن ضحايا راشر أو ضمن خنازير تجارية.. فكان يتم غمر الضحايا في وعاء ضخم، أو كانوا يُتركون عُراة في الخارج طوال الليالي الثلجية.
وفي أواخر شتاء عام 1943، حدثت موجة برد شديدة، فتُرك بعض السجناء عراة في الخلاء أربع عشرة ساعة، تجمدت خلالها أطرافهم وسطوح أجسامهم الخارجية وانخفضت درجة حرارتهم الداخلية، وكان أسلوب العمل هو تجميد السجناء تدريجياً مع متابعة النبض والتنفس ودرجة الحرارة وضغط الدم وغير ذلك.
وكانت هناك تجارب أخرى من بينها تدفئة أشخاص مثلجين.. وبناءً على تقرير راشر، أُجريت أكثر من أربعمائة تجربة على ثلاثمائة ضحية، وقد مات من هؤلاء زهاء تسعين شخصاً نتيجةً لمعالجتهم، وجُنَّ عددٌ ممن بقى، أما الآخرون، فقد قُتلوا لكيلا يتحولوا إلى شهود مزعجين فيما بعد.. وقد توصل راشر إلى حقائق علمية جديدة تتحدى كثيراً من المقولات العلمية السائدة في عصره، وأُجريت بالطبع تجارب لا حصر لها على نزلاء أحياء في معسكرات الاعتقال، من بينها الحقن بالسم أو بالهواء أو البكتريا، معظمها مؤلم وكلها قاتلة، كما أُجريت تجارب زرع الغرغرينا في الجروح وترقيع العظام وتجارب التعقيم.
وفي الإطار التجريبي نفسه كان يتم اختيار التوائم وإرسالهم إلى الطبيب النازي الشهير الدكتور منجل لإجراء تجارب علمية فريدة عليهم، لا يمكن للعلماء الآخرين القيام بها نظراً لعدم توفر العينات اللازمة. فكان يفصل التوأمين ويضعهما في غرفتين منفصلتين، ثم يعذب أحدهما أحياناً ليدرس أثر عملية التعذيب على الآخر، بل كان يقتل أحدهما لدراسة أثر هذه العملية على الآخر.. لقد قال بريمو ليفي يذكر ذلك: (إن ألمانيا النازية هي المكان الوحيد الذي كان بوسع العلماء أن يدرسوا فيه جثتى توأمين قُتلا في نفس اللحظة)
وقد أجرى بعض العلماء تجارب على أمخاخ الضحايا، وقد اختار د. برجر، التابع لإدارة الإس. إس. عدداً من العينات البشرية (79 يهودياً ـ بولنديان ـ 4 آسيويين ـ 30 يهودية) تم إرسالهم لمعسكر أوشفيتس ثم قتلهم بناء على طلب عالم التشريح الأستاذ الدكتور هيرت الذي أبدى رغبة علمية حقيقية في تكوين مجموعة كاملة وممثلة من الهياكل العظمية اليهودية.. كما كان مهتماً بدراسة أثر الغازات الخانقة على الإنسان.. أما الدكتور برجر نفسه فكان مهتماً بالآسيويين وجماجمهم، وكان يحاول أن يكوِّن مجموعته الخاصة.
أذكر أنه ورد إلى علم البروفسور هاليروفوردن أنباء عن إبادة بعض العناصر البشرية (التي لا تستحق الحياة)، فقال للموظف المسئول بشكل تلقائي: إن كنتم ستقتلون كل هؤلاء، فلماذا لا تعطوننا أمخاخهم حتى يمكن استخدامها؟، فسأله: كم تريد؟ فأجاب: عدد لا يحصى، كلما زاد العدد كان أفضل. ويقول البروفسور المذكور إنه أعطاهم بعد ذلك الأحماض اللازمة والقوارير الخاصة بحفظ الأمخاخ. وكم كانت فرحة البروفسور حينما وجد أمخاخ معوقين عقليين (في غاية الجمال) و(أمخاخ أطفال مصابة بأمراض الطفولة أو تشوهات خلقية)، وقد لاحظ أحد العاملين في مركز من مراكز البحوث أن عدد أمخاخ الأطفال المتوفرة لإجراء التجارب أخذت تتزايد بشكل ملحوظ، ونتيجةً لهذا تم الحصول على مواد مهمة تلقي الضوء على أمراض المخ.
وإلى جوار المادة البشرية الاستعمالية النافعة التي تُجرى عليها التجارب وتُدرس بعناية وموضوعية وحياد، كانت هناك المادة التي لا يُرجى منها نفع أو ضر، وكان أمثال هؤلاء يُبادون ببساطة شديدة من خلال عمليات التصفية الجسدية السريعة، التي تقوم بها جماعات خاصة أو فرق متنقلة تقف وراء خطوط الجيوش الألمانية.. وكانت طريقة الإبادة هذه سريعة وغير مكلفة إذ كانت تُقام مقابر جماعية يُلقى فيها بالضحايا بعد أن يحفروها بأنفسهم.. كما كانت الإبادة تتم أحياناً بواسطة سيارات مجهزة بحجرة غاز يتم التخلص فيها من الضحايا دون حاجة إلى نقلهم إلى معسكرات الإبادة، وقد تم التخلص بهذه الطريقة من جرحى الحرب الألمان ممن لا يُرجى لهم شفاء أو ستتكلف عملية تمريضهم الكثير، كما تمت إبادة أعداد كبيرة من أعضاء النخبة الثقافية البولندية، والفائض السكاني الروسي.
حتى بعد قرار الإبادة على طريقة التصفية الجسدية، كان ديدن النازيين دائماً هو الحرص الكامل على ممتلكات الدولة وخدمة مصالحها، ولذا كان يتم تجريد الضحايا من أية مواد نافعة حتى من الحشوات الذهبية التي في أسنانهم، وقد ساهم هذا في تحسين ميزان المدفوعات الألماني.
وقد كانت عملية التوظيف عميقة إلى الحد الذي لا يتصور و فقد كانت البقايا البشرية (مثل الشعر) تُستخدَم في حشو المراتب، ويُقال إنها كانت مريحة للغاية وزهيدة الأسعار، ولم يكن الرماد البشري يُستخدَم كشكل من أشكال السماد وحسب، وإنما كمادة عازلة أيضاً، وكانت العظام البشرية تُطحن وتُستخدَم في أغراض صناعية مفيدة مختلفة. بل يُقال إن بعض الأنواع الفاخرة من الصابون صُنعت من الشحومات البشرية.
قلنا: فما مدى صحة ما يشاع من أن الإبادة المنظمة قضت على ستة ملايين يهودي؟
قال: قد يكون ذلك صحيحا.. وقد لا يكون صحيحا.. فأنا لم أحص العدد بالضبط، لأني كنت مهتما بشرب دماء القتلى من غير اهتمام بأعراقهم ولا دياناتهم.. كانت الدماء متشابهة بالنسبة لي.. فلم أكن أميز بين يهودي وغير يهودي.
لكن الذي أعلمه أن عدد ضحايا الحرب كان ما بين خمسة وثلاثين مليوناً وخمسين مليون، وأن الاتحاد السوفيتي خسر في الحرب العالمية الثانية ما بين سبعة عشر وعشرين مليوناً بين مدنيين وعسكريين، وخسر البولنديون نحو خمسة ملايين بعضهم من اليهود، وخسر الصينيون ما يزيد على عشرة ملايين ماتوا جوعاً أو قتلاً على يد الاحتلال الياباني.
والذي أعمله كذلك.. وهو مما يخص المنهج الذي ذكر به ذلك العدد الضخم.. هو أن أهم معسكرات الاعتقال.. هو معتقل أوشفيتس.. والذي اشتهر بأن عدد ضحاياه هو أربعة ملايين، منهم مليون ونصف مليون يهودي، والباقون غير يهود.. لم يكن له سند يمكن الوثوق به.
فالسند الأساسي لإبادة هذه الملايين في أوشفيتس هي اعترافات رودولف هس أثناء محاكمات نورمبرج، وقد ثبت أن كثيراً من أدلة الاتهامات في محاكمات نورمبرج هي في معظمها اعترافات يدين خلالها المتهمون أنفسهم، بعد أن ظلوا في الأسر عامين أو يزيد تعرضوا فيها للتعذيب والامتهان.. وقد استُبعد عدد كبير من الوثائق والشهادات التي كان من شأنها تحطيم الأساطير التي حاول الحلفاء نسجها.. وهناك من البحوث ما يشير إلى أن العدد الإجمالي لا يمكن أن يزيد على 1.6 مليون، وأنهم قضوا حتفهم لا من خلال أفران الغاز وإنما بسبب الجوع والمرض، والموت أثناء التعذيب، والانتحار.. وفي عام 1994 تم تغيير اللافتة الموضوعة على المعسكر، فبعد أن كانت اللافتة القديمة تتحدث عن مقتل أربعة ملايين رجل وامرأة وطفل أصبحت اللافتة الجديدة تتحدث عن مليون ونصف فقط.
قال ذلك، ثم فجأة صار يضحك ضحكات هستيرية، ثم قال: أتعلمون ما تختزنه خزائن المجرمين من أسلحة الإبادة؟
ثم أجاب نفسه قائلا: إنها أكثر.. أكثر… أكثر بكثير من مخازن الخبز.. والماء.. والهواء..
إن البشر العاشق للدماء اليوم من القنابل الذرية والهيدروجينية ما يكفي لتدمير الأرض كلها (12) مرة ونصف!
وكان في حوزة الاتحاد السوفييتي عام 1974م (1520) صاروخاً عابر القارات، و (270) صاروخاً نووياً خاصاً بالغواصات، و (700) صاروخاً متوسطة المدى، و (200) صاروخاً قصيرة المدى!!
أما أميركا فقد كان لديها (1054) صاروخاً عابر القارات، و (544) صاروخاً خاصاً بالغواصات، و (1000) من الصواريخ المتوسطة المدى، و(1000) من الصواريخ القصيرة المدى.
وقد ذكر معهد الدراسات الاستراتيجية بلندن، في دراسة نشرها عام 1972م: أن المخزون النووي لكل شخص على وجه الأرض يبلغ خمسة عشر طناً من مادة (ت. ن. ت.) في حين أن مخزون المواد الغذائية لا يزيد عن نصف طن للشخص الواحد.
ويضيف التقرير: إن حجم الإنفاقات العسكرية في العالم يساوي الدخل القومي لدول العالم الثالث، وأن الدول المتخلفة تنفق ما بين 30 و 60 بالمائة من مزانيتها على السلاح.
والأغرب من كل ذلك هو هذا الاختراع الجديد: (قنبلة النيترون) والتي لا تصيب العمارات والمصانع والآلات بأي سوء يذكر، ولكنها تفني الإنسان والأحياء وتسلبهم الحياة في لحظات قصيرة.
وهناك سلاح سام رهيب كيماوي بيولوجي، يستخرج من جرثومة اسمها: Ghlostridium Botulinus، وهي تسبب عادة تسمماً غذائياً مميتاً، ويكفي ما مقداره 8 أونس أي حوالي (225) غراماً لقتل كل سكان العالم.
أما مادة (ال – اس – دي L. S. D.) فيكفي أن نضع منها كيلوغراماً واحداً في خزان مياه لتعطيل سكان مدينة بأسرها بالتأثير على الأجسام والعقول معاً.. يقول الدكتور (جرودن تيلور) البريطاني:(لقد أوصى الجنرالات الأميركان باستعمال (ال – اس – دي L. S. D.) في الحرب، لأنها تؤثر على عزيمة وإرادة المقاومة عند الأعداء مدعين -أي الجنرالات الأميركان- أن هذا السلاح هو سلاح إنساني لا يسبب إراقة الدماء)
وتقول بعض المصادر: (إن الولايات المتحدة الأميركية تملك كمية مخزون من غازات الأعصاب القاتلة تكفي لإبادة سكان العالم جميعاً.. حتى ولو كان عددهم أكثر مما هو الآن بثلاثين مرة، وأن روسيا تملك قدرة تفوق قدرة العالم الغربي بسبع أو ثمان مرات في مجال الأسلحة الكيماوية والجرثومية)
قلنا: فما السادس؟
قال: الإرهاب([17])..
قلنا: ذلك الذي رمي به المسلمون.. وذلك الذي نحن تحت أسره.
قال: أجل.. ولو أني أشك في مدى مصداقية الإرهاب على الإسلام أو على المسلمين..
قلنا: فهل كنت أرهابيا؟
قال: أكثر مما يمكن أن تتصوروا.. ولم تكن تلك النصوص المقدسة وحدها هي السبب في تحويلي إلى إرهابي.. وإنما أخبار تلك البطولات الكثيرة التي أخبرني بها الكاهن..
وأولها خبر شمشون([18]) العظيم.. والذي خصص له الكتاب المقدس أربع سور كاملة في سفر القضاة تبدأ من التباشير التي سبقت مولده، وتنتهي بوفاته.. لقد كانت قصته بالنسبة لي نموذجا للبطولة التي يريدها الرب..
بعدها أخبرني الكاهن عن تلك البطولات العظيمة التي قام بها حملة الصليب الذين ذهبوا إلى بلاد المسلمين ليطهروها من الرجس، ويملأوها ببركات المسيح.. لقد حدثني عما ذكره ستيفن رنسيمان في كتابه (تاريخ الحروب الصليبية) عن أحداث اليوم الأول من دخول الصليبيين القدس، فقال : ( وفي الصباح الباكر من اليوم التالي اقتحم باب المسجد ثلة من الصليبيين، فأجهزت على جميع اللاجئين إليه، وحينما توجه قائد القوة ريموند اجيل في الضحى لزيارة ساحة المعبد أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه وتركت مذبحة بيت المقدس أثرا عميقا في جميع العالم، وليس معروفا بالضبط عدد ضحاياها غير أنها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود بل إن كثير من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث)
ووصف لي بانفعال ما ذكره كثير من المؤرخين من أحداث المذبحة البطولية التي حدثت في القدس يوم دخول الصليبيين إليها، وكيف أنهم كانوا يزهون بانفسهم لأن ركب خيولهم كانت تخوض في دماء المسلمين التي سالت في الشوارع.. بل قد كان من وسائل الترفيه لدى الصليبيين أن يشووا أطفال المسلمين كما تشوى النعاج.
ووصف لي ما فعل ريتشارد قلب الأسد في الحملة الصليبية الثالثة عند احتلاله لعكا بأسرى المسلمين فقد ذبح 2700 أسير من أسرى المسلمين الذين كانوا في حامية عكا، وقد لقيت زوجات وأطفال الأسرى مصرعهم الى جوارهم.
وحدثني بما رواه ابن الاثير.. ذلك المؤرخ الإسلامي الثقة.. في تاريخه عن دخول الصليبين للقدس في الحروب الصليبية فقال:( ملك الفرنج القدس نهار يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان، وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في البلدة أسبوعا يقتلون فيه المسلمين، واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود، فاعتصموا به، وقاتلوا فيه ثلاثة أيام وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف)
وحدثني بما ذكره غوستاف لوبون في كتابه (الحضارة العربية) نقلا عن روايات رهبان ومؤرخين رافقوا الحملة الصليبية على القدس ما حدث حين دخول الصليبيين للمدينة المقدسة من مجازر دموية:
ومن ذلك قول الراهب (روبرت)، وهو شاهد عيان لما حدث في بيت المقدس واصفا سلوك قومه ( كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، وذلك كاللبؤات التي خطفت صغارها ! كانوا يذبحون الأولاد والشباب ويقطعونهم إربا إربا، وكانوا يشنقون أناسا كثيرين بحبل واحد بغية السرعة، وكان قومنا يقبضون كل شيء يجدونه، فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعا ذهبية فيا للشره وحب الذهب وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث)([19])
وحكى لي عن كاهن أبوس ( ريموند داجميل ) قوله شامتا:(حدث ما هو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسرار القدس وبروجها، فقد قطعت رؤوس بعضهم فكان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم وبقرت بطون بعضهم فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار وحرق بعضهم في النار، فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا)([20]).
وقال واصفا مذبحة مسجد عمر:( لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك، وكانت الأيدي المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها، فإذا اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها.. ولم يكتف الفرسان الصليبيون الأتقياء (!) بذلك، فعقدوا مؤتمرا أجمعوا فيه على إبادة جميع سكان القدس من المسلمين واليهود و خوارج النصارى الذين كان عددهم ستين ألفا فأفنوهم على بكرة أبيهم في ثمانية أيام، ولم يستبقوا منهم امرأة و لا ولدا و لا شيخا)
يقول : ( وعمل الصليبيون مثل ذلك في مدن المسلمين التي اجتاحوها ففي المعرة قتلوا جميع من كان فيها من المسلمين اللاجئين في الجوامع و المختبئين في السراديب فأهلكوا صبرا ما يزيد على مائة ألف إنسان في أكثر الروايات، وكانت المعرة من أعظم مدن الشام بعدد السكان بعد أن فر إليها الناس بعد سقوط أنطاكية وغيرها بيد الصليبيين)([21])
بعدها قدر الله لي أن ألتقي رجلا حدثني بتفصيل عن محاكم التفتيش.. وما رآه فيها من المشاهد مما تقشعر له الأبدان.
قلنا: ما محاكم التفتيش؟
قال: هي هيئات أنشأتها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية للقبض على من تسميهم المهرطقين([22]) المارقين، ومحاكمتهم([23]).. وقد أقيمت هذه المحاكم في كثير من أجزاء أوروبا، لكن محكمة التفتيش الأسبانية كانت هي الأكثر شهرة.
لقد بدأت هذه المحاكم الإسبانية فى القرن الثالث عشر لإرهاب (الهراطقة) الخارجين عن الكنيسة.. وقد حصل أشنع فصولها بعد سقوط غرناطة ووقوع المسلمين فريسة لمحتال نقض كل العهود والمواثيق التى وقعت فى عام 1491م بين أبى عبد الله الصغير وفرديناند، والتى اشترط فيها المسلمون أن يوافق عليها البابا، ويقسم على ذلك، ولكن هيهات.. فهؤلاء لا عهد لهم ولا ذمة([24]).
وكيف يكون لهم عهد أو ذمة، وهم تلاميذ تلك الحكايات الطويلة الممتلئة بالخيانات، والتي يعج بها وبأبطالها الكتاب المقدس؟
لقد هدفت تلك المحاكم المقدسة إلى تنصير المسلمين بإشراف السلطات الكنسية، وبأبشع الوسائل، وبما أن المسلمين لم يقبلوا التنصير، فقد بدأ القتل والتنكيل فيهم، فثاروا فى غرناطة وريفها، فمزقهم الإسبان بلا رحمة، وفى عام 1501م أصدر الملكان الصليبيان مرسوما خلاصته:( إنه لما كان الرب قد اختارهما لتطير غرناطة من الكفرة (يعنيان المسلمين)، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها ويعاقب المخالفون بالموت أو مصادرة الأموال)، فهاجرت جموع المسلمين إلى المغرب لينجوا بدينهم، ومن بقى من المسلمين أخفى إسلامه، وأظهر تنصره، فبدأت محاكم التفتيش نشاطها الوحشى المروع، فحين التبليغ عن مسلم يخفى إسلانه يزج به فى السجون، وكانت السجون وحشية رهيبة مظلمة عميقة تغص بالحشرات والجرذان ويصفد فيها المتهمون بالأغلال بعد مصادرة أموالهم لتدفع نفقات سجنهم.
قلنا: فحدثنا عما أخبرك الرجل من مشاهداته.
قال: لقد كان ذلك الرجل كولنيلا.. وسر معرفته لأسرار تلك المحاكم هو أنه عند احتلال نابليون إسبانيا بعد قيام الثروة الفرنسية حاول إلغاء محاكم التفتيش، لكن رهبان (الجزويت) أصحاب هذه المحاكم استمروا فى القتل والتعذيب، فشمل ذلك الجنود الفرنسيين المختطفيين.. فأرسل المريشال (سولت) الحاكم العسكرى المدنى صاحبي هذا امدريد الكولونيل (ليمونكى) مع ألف جندى وأربعمائة مدفع، وهاجم دير الديوان، وبعد تفتيش الدير لم يعثروا على شىء، فقرر الكولونيل فحص الأرض، وحينئذ نظر الرهبان إلى بعضهم البعض نظرات قلقة، وأمر الكولونيل جنده برفع الأيسطة فرفعوها، ثم أمر بأن يصبوا الماء فى كل غرفة على حدة، فإذا بالماء يتسرب إلى أسفل إحدى الغرف، فعرف أن هناك بابا يفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة وضعت بجوار رجل مكتب الرئيس.. فتح الباب، واصفرت وجوه الرهبان، وظهر سلم يؤدى إلى باطن الأرض.
لقد ذكر لي ذلك الكولونيل مشاهداته، فقال:( فإذا نحن فى غرفة كبيرة مربعة، وهى عندهم قاعة المجكمة، وفى وسطها عمود من رخام به حلقة حديدية ضخمة ربطت بسلاسل كانت الفرائس تربط بها رهن المحاكمة وأمام ذلك العمود عرش (الدينونة) وهو عبارة عن دكة يجلس عليها رئيس محكمة التفتيش، وإلى جواره مقاعد أخرى أقل ارتفاعا لبقية القضاة، ثم توجهنا إلى آلات التعذيب وتمزيق الأجساد البشرية، وقد امتدت تلك الغرف مسافات كبيرة تحت الأرض، وقد رأيت بها ما يستفز نفسى ويدعونى إلى التقزز ما حييت، رأينا غرفا صغيرة فى حجم الإنسان، بعضها عمودى، وبعضها رأسى فيبقى سجين العمودية واقفا فيها على رجليه مدة سجنه حتى يقضى عليه، ويبقى سجين الأفقية ممددا بها حتى الموت، وتبقى الجثة بالسجن الضيق حتى تبلى ويتساقط اللحم عن العظم، ولتصريف الروائح الكريهة المنبثقة من الأجداث البالية تفتح كوة صغيرة إلى الخارج، وقد عثرنا على عدة هياكل بشرية لا زالت فى أغلالها سجينة، والسجناء كانوا رجال ونساء وأطفال وشيوخا ما بين الرابعة عشر إلى السبعين، وكان السجناء عراة زيادة فى النكاية بهم، وانتقلنا إلى الغرف الأخرى، فرأينا ما تقشعر لهوله الأبدان عثرنا على آلات لتكسير العظام وسحق الجسم، وعثرنا على صندوق فى حجم الرأس تماما يوضع فيه رأس المعذب بعد أن يربط بالسلاسل قى يديه وقدميه فلا يقوى على الحركة، فيقطر الماء البارد على رأسه من أعلى الصندوق نقطة نقطة، وقد جن الكثيرون من هذا اللون من العذاب، وعثرنا على آلة تسمى السيدة الجميلة، وهى عبارة عن تابوت تنام فيه صورة فتاة جميلة مصنوعة على هيئة الإستعداد لعناق من ينام معها وقد برزت من جوانبها عدة سكاكين حادة وكانوا يطرحون الشاب المعذب فوق هذه الصورة ثم يطبقون عليه باب التابوت بسكاكينه وخناجره فإذا أغلق الباب مزق الشاب إربا، كما عثرنا على آلة لسل اللسان ولتمزيق أثداء النساء وسحبها من الصدور بواسطة كلاليب فظيعة ومجالد من الحديد الشائك لضرب المعذبين العراة حتى يتناثر اللجم من العظم)
ومن أنواع التعذيب التي حدثني عنها هذا الكولنيل: ملأ البطن بالماء حتى الاختناق، وربط يدى المتهم وراء ظهره، وربطه بحبل حول راحتيه وبطنه ورفعه وخفضه معلقا سواء بمفرده أو مع أثقال تربط به، والأسياخ المحمية، وتمزيق الأرجل، وفسخ الفك، وكانت أغلب الأحكام بالإحراق، وهو الحكم الذى كان غالبا عند الأحبار الذين يشهدون تنفيذه مع الملكين الكاثوليكيين فى (حفلات الإحراق)
بعد قدر الله لي أن ألتقي ببعض الجنود الذين ساروا إلى بلاد العالم الإسلامي.. وكان منهم جندي إيطالي، أخبرني عن الأناشيد العذبة التي كانوا يهزجون بها عند ذهابهم لاحتلال ليبيا.. وكان منها 🙁 يا أماه صل صلاتك ولا تبكى بل اضحكى وتأملى ألا تعلمين أن إيطاليا تدعونى وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحا مسرورا لأبذل دمى فى سبيل سحق الأمة الملعونة، ولأحارب الأمة الإسلامية، سأقاتل لمحو القرآن، وإن لم أرجع فلا تبكى على ولدك، وإن سألك أحد عن عدم حزنك على فأجيبيه إنه مات فى محاربة الإسلام)
بعدها حدثني هذا الجندي الذي شهد هذه الحرب عن بعض مشاهداته، فقال:( شنق الإيطاليون في هذه الحرب أكثر من عشرين ألفاً، وكان نحو من (1200) امرأة من نساء الأشراف قد فررن إلى الصحراء قبل وصول الجيش الإيطالي، فأرسلوا قوة في أثرهن وسحبوهن إلى بلدة (الكفرة) حيث خلا بهن ضباط الجيش الطلياني، وأنزلوا المعرات بسبعين أسرة شريفة من أشراف (الكفرة) اللواتي كانت الشمس لا ترى وجوههن من الصون والعفاف، وقتل قائد الطليان شيوخ تلك البلدة الذين احتجوا على هتك أعراض السيدات المذكورات، وقال ذلك القائد الذي أشرف على تنفيذ أمر الإعدام: (ليأت محمد هذا نبيكم البدوي، الذي أمركم بالجهاد، وينقذكم من أيدينا)
وحدثني المراسل النمساوي (هرمان دنول)، قال: (قَتَلَ الطليان في غير ميدان الحرب كل عربي زاد عمره على (14) سنة، وأحرقوا في (26 أكتوبر سنة 1911م) حياً كاملاًخلف بنك روما، بعد أن ذبحوا أكثر سكانه، وكان من بينهم النساء والشيوخ والأطفال)
وقال لي آخر، وهو مدني كان شاهد عيان: ( رجوت طبيبين عسكريين من أطباء المستشفى أن ينقلوا بعض المرضى المصابين المطروحين على الأرض تحت حرارة الشمس فلم يفعلا، فلجأت إلى راهب من كبار جمعية الصليب الأحمر، وهو الأب (يوسف فيلاكو)، وعرضت عليه الأمر، وأخبرت شاباً فرنسياً أيضاً بذلك، لكن الأب حول نظره عني ونصح الشاب بأن لا يزعج نفسه بشأن عربي في سكرات الموت وقال: (دعه يموت)
بعدها قدر الله أن ألتقي بـ (برتولومي دي لاس كازاس)([25]) صاحب كتاب (وثائق إبادة هنود القارة الأمريكية على أيدي المسيحيين الأسبان)([26]).. لعلكم تعرفونه.. إنه ذلك الكتاب المليء بالدماء.. وفيه رواية شاهد عيان لإبادة ملايين البشر في الأمريكتين.
لقد ذكر لي هذا الكاتب الناقم كيف كان المسيحيون الإسبان يسمون المجازر عقابا وتأديبا لبسط الهيبة وترويع الناس، وذكر لي أن أول ما كانوا يفعلونه عندما يدخلون قرية أو مدينة هو ارتكاب مجزرة مخيفة فيها.. مجزرة ترتجف منها أوصال هذه النعاج المرهفة.
وذكر لي أنه كثيرا ما كان يقف القاتل والمبشر في محل واحد.. أما القاتل، فهو يذبح ضحيته أو يحرقها أو يطعمها للكلاب.. أما المبشر الواقف أمامه فهو حريص على أن لا تلفظ الضحية أنفاسها قبل أن يتكرم عليها بالعماد، فيركض إليها لاهثا يجرجر أذيال جبته وغلاظته وثقل دمه لينصرها بعد أن نضج جسدها بالنار أو اغتسلت بدمها، أو التهمت الكلاب نصف أحشائها.
وذكر لي كيف كان المسيحيون الإسبان يتفننون ويبتدعون ويتسلون بعذاب البشر وقتلهم.. ذكر لي كانوا يجرون الرضيع من بين يدي أمه ويلوحون به في الهواء، ثم يخبطون رأسه بالصخر أو بجذوع الشجر، أو يقذفون به إلى أبعد ما يستطيعون.. وإذا جاعت كلابهم قطعوا لها أطراف أول طفل هندي يلقونه، ورموه إلى أشداقها ثم أتبعوها بباقي الجسد.. وكانوا يقتلون الطفل ويشوونه من أجل أن يأكلوا لحم كفيه وقدميه قائلين: (إنها أشهى لحم الإنسان)
وذكر لي أن أحدا لا يعلم كم عدد الهنود الذين أبادهم الأسبان المسيحيين، ثمة من يقول انه مائتا مليون، ومنهم من يقول انهم أكثر.. أما لاس كازاس فيعتقد أنهم مليار من البشر، ومهما كان الرقم فقد كانت تنبض بحياتهم قارة أكبر من أوروبا بسبعة عشر مرة، وها قد صاروا الآن أثرا بعد عين.
وذكر لي كيف كانوا يدخلون على القرى فلا يتركون طفلا أو حاملا أو امرأة تلد إلا ويبقرون بطونهم ويقطعون أوصالهم كما يقطعون الخراف في الحظيرة، وكانوا يراهنون على من يشق رجلا بطعنة سكين، أو يقطع رأسه أو يدلق أحشاءه بضربة سيف.
وذكر لي كيف كانوا ينتزعون الرضع من أمهاتهم ويمسكونهم من أقدامهم ويرطمون رؤوسهم بالصخور، أو يلقون بهم في الأنهار ضاحكين ساخرين. وحين يسقط في الماء يقولون: (عجبا إنه يختلج).. وكيف كانوا يسفدون الطفل وأمه بالسيف وينصبون مشانق طويلة، ينظمونها مجموعة مجموعة، كل مجموعة ثلاث عشر مشنوقا، ثم يشعلون النار ويحرقونهم أحياء.. وهناك من كان يربط الأجساد بالقش اليابس ويشعل فيها النار.
وذكر لي أنه كان لديهم فنون كثيرة للتعذيب.. فبعضهم كان يلتقط الأحياء فيقطع أيديهم قطعا ناقصا لتبدو كأنها معلقة بأجسادهم، ثم يقول لهم: ( هيا احملوا الرسائل) أي : هيا أذيعوا الخبر بين أولئك الذين هربوا إلى الغابات.. أما أسياد الهنود ونبلاؤهم فكانوا يقتلون بأن تصنع لهم مشواة من القضبان يضعون فوقها المذراة، ثم يربط هؤلاء المساكين بها، وتوقد تحتهم نار هادئة من أجل أن يحتضروا ببطء وسط العذاب والألم والأنين.
وذكر لي من مشاهداته أنه شاهد مرة أربعة من هؤلاء الأسياد فوق المشواة، وبما أنهم كانوا يصرخون صراخا شديدا أزعج مفوض الشرطة الأسبانية الذي كان نائما، فقد وضعوا في حلوقهم قطعا من الخشب أخرستهم، ثم أضرموا النار الهادئة تحتهم.
قال لي يصف تلك المشاهد التي رآها بنفسه، والتي أودع بعضها في كتابه الذي أشرت إليه 🙁 رأيت ذلك بنفسي، ورأيت فظائع ارتكبها المسيحيون أبشع منها.. أما الذين هربوا إلى الغابات وذرى الجبال بعيدا عن هذه الوحوش الضارية فقد روض لهم المسيحيون كلابا سلوقية شرسة لحقت بهم، وكانت كلما رأت واحدا منهم انقضت عليه ومزقته وافترسته كما تفترس الخنزير. وحين كان الهنود يقتلون مسيحيا دفاعا عن أنفسهم كان المسيحيون يبيدون مائة منهم لأنهم يعتقدون أن حياة المسيحي بحياة مائة هندي أحمر)
هذا بعض ما ذكره لي (برتولومي دي لاس كازاس).. وقد ذكر لي غيره ـ وقد أراني بعض الصورة لما رافق إكتشاف جزيرة هايتى على يد الإسبان ـ وكانت المادة العلمية تحتها ما يلى: ( وانشغل ضباط إسبان (خلفاء المستكشف صاحب الحملة) باكتشاف جزيرة هاييتى وإحتلالها وكانت ما تزال أرض مجهولة، وقد تولى هذه المهمة كل من دينغو فلاسكيز وبانفليو دونارفيز فأبديا من ضروب الوحشية ما لم يسبق له مثيل متفنيين فى تعذيب سكان الجزيرة بقطع أناملهم وفقء عيونهم وصب الزيت المغلى والرصاص المذاب فى جراحهم أو بإحراقهم أحياء على مرأى ومسمع من الأسرى ليعترفوا بمخابىء الذهب وليهتدو إلى دين المحبة!!)
و قد حاول أحد الرهبان إقناع الزعيم (هايتهاى) باعتناق الدين وكان مربوطا إلى المحرقة، فقال له إنه إذا تعمد يذهب إلى الجنة، فسأله الزعيم الهندى قائلا: وهل فى الجنة إسبان؟ فأجابه: نعم ماداموا يعبدون إله الحق!، فما كان من الزعيم الهندى إلا قال: أنا لا أريد أن أذهب إلى مكان أصادف فيه أبناء هذه الأمة المتوحشة!!
ومن أمثلة ما فعله هؤلاء فى أطفال الإنكا والمايا والأزتيك أن قابل مسيحيون هندية وكانت تحمل بين ذراعيها طفلا تقوم بإرضاعه وبما أن الكلب الذى كان يرافقهم كان جائعا فقد انتزعوا الطفل من بين ذراعى أمه ورموه للكلب الذى أخذ ينهشه على مرأى من أمه.
وعندما كان بين السجناء بضع نساء وضعن حديثا، فإنهم ما إن كان الاطفال الذين ولدوا حديثا يأخذون فى الصراخ يمسكونهم من سيقانهم ويصرعونهم فى الصخور.
وذكر لي أنه عند وصول الجنود إلى القرية بعد الإفطار على العشب راودت الإسبان فكرة جديدة، وهى التحقق مما إذا كانت سيوفهم قاطعة بالدرجة التى تبدو بها.. فجأة يستل الإسبانى سيفه وسرعان ما يحذو المائة الآخرون حذوه ويشرعون فى تمزيق أحشاء وذبح هذه الشياة من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ الذين كانو جالسين مطمئنين يتفرجون فى عجب على الجياد والإسبان.. وفى ثوان معدودة لم يبق أحد من هؤلاء على قيد الحياة حتى سال الدم فى كل مكان كما لو أنه قد جرى ذبح قطيع كامل من الأبقار.
وقد وصل الحد فى أمريكا فى عهد هجرة الأيرلانديين البرتستانت أن صدر قانون يجيز إبادة الهنود الحمر فى كل مكان يتواجدوا فيه، لأن أمربكا كانت هى أرض الميعاد وفق تفسير البروتستانت للكتاب المقدس وقتها.
لم يكن هذا السلوك الإرهابي قاصرا على أمريكا.. لقد مارس الإنجليز إبادة شاملة كاملة فى حق السكان الأصليين لأستراليا..
لقد قال لي القس فرانزغريس: ( إن االأمم النصرانية وأكثر من ذلك تاريخ الكنيسة بالذات مضرج بالدماء ة ملطخ، ولربما أكثر تضرخا ووحشة من أى شعب وثنى أخر فى العالم القديم، إن أمما ذوات حضارات زاهية باهرة قد أزيلت وأبيدت ومحيت ببساطة وسهولة من الوجود، وكل ذلك بإسم النصرانية)
قلنا: الحمد لله.. لقد انتهى كل ذلك بظهور هذه الحضارة الممتلئة بالسلام.
ضحك ضحكة عالية، وقال: هل تسمعون بالمدرسة العسكرية في نورث بينينج بجيورجيا؟
قلنا: لا.. ما بها؟
قال: لقد كنت أحد ضباط هذه المدرسة وأحد أساتذتها.. ونحن نقوم فيها بتدريب الضباط ورجال الشرطة في بلدان أمريكا اللاتينية المتحالفة مع الولايات المتحدة..
إن هدف هذه المدرسة الأوحد هو تدريب الضباط والشرطة على استخدام وسائل القمع.. وقد اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية بأن الكتب الدراسية المقررة في هذه المدرسة، مازالت حتى بين عامي 1982 ـ 1991، توصي باستخدام التعذيب، والإعدامات بدون محاكمة، والشانتاج، وبشكل أكثر عمومية، استخدام كل أساليب العنف بغية الحصول على المعلومات من المعارضين وأعضاء الميليشيا السياسية، أو العاملين في صفوف حرب الغوار.
ووفقا للسلطات العسكرية، فقد أجرى تعديل على مناهج المدرسة منذ عام 1992 وبشكل سري، وكان على الرأي العام الأمريكي أن ينتظر حتى عام 1996، ليعرف حقيقة المناهج وحقيقة هذه المدرسة، وذلك بعد تحقيق أجراه الكونغرس عن دور المخابرات المركزية الأمريكية في غواتيمالا.
ولقد قامت هذه المدرسة منذ تأسيسها عام 1946، بتدريب 60 ألف طالب من اثني عشر بلدا، وكان مقر المدرسة في البداية في باناما ثم نقلت عام 1984 إلى نورث بينينج.. وقد بلغت المدرسة ذروة مجدها في أعوام الستينات، حيث كانت الولايات المتحدة منغمسة بعمق في دعم الانظمة المعادية للشيوعية في أمريكا اللاتينية، حيث واجهت مقاومة أحزاب سياسية أو ميليشيات مسلحة فجرت حروب الغوار، وقد أصبح عدد من هؤلاء الضباط بعد أن أصبحوا جلادين مشهورين، رؤساء دول، من بينهم نورييغا الجنرال البانامي، وقد شكلوا طبقتهم الخاصة، باعتبارهم تلقوا تعليمهم في منع العصيان والقدرة على انتزاع المعلومات من المتهمين.
وتتألف الكتب التعليمية المجرمة هذه، والتي أصبحت معروفة بفضل البنتاغون والصحافة الأمريكية من سبعة كتب، مكتوبة باللغة الاسبانية.
بعض فصول هذه الكتب تحمل العناوين التالية 🙁 معالجة مصادر المعلومات، التجسس المضاد، الارهاب وحرب العصابات في المدن)، في هذه الفصول يجري تنبيه الطلبة المتدربين على أن التعاون مع مخبر محتمل سوف يصبح أسهل بكثير فيما لو جرى احتجاز والديه أو أقربائه، واعتقاله، وتعذيبه، واقتلاع الخوف من قلبه، واغداق المكافآت عليه في سبيل القضاء على عدو، وتهديده بالسجن والاعدام، والتظاهر بتنفيذ ذلك أو استخدام ما يسمى سيروم الحقيقة.. كل هذه الاجراءات قد تؤدي إلى نفس النتيجة، ويجب أن لا يتردد الضابط الذي يعالج هذا الامر في تقديم الهدايا، مقابل المعلومات التي يقدمها المتعامل، والتي تقود إلى اعتقال أو أسر أو موت أعضاء حرب الغوار. الذين تطلق عليهم الحكومات دائما اسم المجرمين.
قلنا: فما السابع([27])؟
قال: العولمة([28])..
قلنا: أليست العولمة شيئا طيبا؟.. فكيف تجعله خبيثا؟
قال: هي طيبة عندما تصدر من الطيبين.. ولكنها تمتلئ بالخبث إن صدرت من الخبثاء.
قلنا: ما تعني؟
قال: العولمة هي توجيه العالم وجهة معينة تلغي كل الخصوصيات..
قلنا: وما الضرر في ذلك؟.. ما الضرر على من ملك زمام الحضارة أن يعممها على غيره؟
قال: عندما يتفق أهل العالم على البحث على السلام والجمال والنور والصفاء تمتلئ العولمة بكل هذه المعاني السامية.. ولكنه عندما يصبح زمام العالم بيد الحمير والأسود والخنافس، فإن البشر المسكين سيتحول في ظل هذا المسخ إلى حمير وأسود وخنافس.. بل يفرض عليه أن يصير حميرا وأسودا وخنافس.
قلنا: فحدثنا عنها..
قال: هي قديمة قدم الإنسان.. لقد كانت كثير من الشعوب المتمردة الممتلئة بالصراع تحلم بأن تفرض نفسها على غيرها.. وتنعت غيرها بالبربرية والبدائية والتخلف.. ولكن الوسائل لم تكن تتيح لها هذا النوع من السيطرة.. فلذلك استبدلتها بالاستعمار والاسترقاق والإبادة..
لكن الظروف تهيأت في هذا العصر.. وخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية عام 1961م، ثم سقوط الاتحاد السوفيتي سياسياً واقتصادياً عام 1991م، وما أعقبه من انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالتربع على عرش الصدارة في العالم المعاصر وانفرادها بقيادته السياسية والاقتصادية والعسكرية([29]).
قلنا: فقد صارت أمريكا إذن هي أستاذ العالم الذي يفرض عليه ما يريد؟
قال: ليتها قبلت بهذا الدور.. إذن لكانت من أهل السلام.
قلنا: فما الذي عملت؟
قال: لقد راحت مع إخوانها وأخواتها ممن امتلأوا بالصراع يستعملون كل أنواع السياط ليفرضوا على العالم نمطا معينا من الحياة.. يجعل العالم كله عبيدا لسيد واحد هو عين ذلك السيد الذي لا تزال دماء عبيده تسيل على أرضه.
قلنا: دعنا من هذا التشاؤم.. لقد سمعنا بأن العولمة تبشر بالازدهار الاقتصادي والتنمية والرفاهية لكل الأمم والعيش الرغيد للناس كلهم، والانتعاش،ونشر التقنية الحديثة، وتسهيل الحصول على المعلومات والأفكار عبر الاستفادة من الثورة المعلوماتية الحديثة، وإيجاد فرص للانطلاق للأسواق الخارجية، وتدفق الاستثمارات الأجنبية التي تتمتع بكفاءة عالية، وبالتالي ينتعش الاقتصاد الوطني والقومي.
ضحك ضحكة عالية، وقال: ألا تعرفون قومنا؟.. ألم تدركوا بعد ما جبلوا عليه من التلاعب على الحقائق؟
لقد ذكرتم الازدهار الاقتصادي والتنمية.. وسأذكر لكم ما قامت به الشركات الجشعة لتحقق هذا الازدهار والتنمية..
لاشك أنكم تعرفون النمور الآسيوية.. كأندونيسيا وماليزيا.. إن هذه الدول لم تستطع تحقيق المصالح الاقتصادية المطلوبة لشعوبها بسبب بسيط هو أن الشركات المتعددة الجنسيات أرسلت أحد المستثمرين الأجانب.. وهو أحد رموز العولمة.. الملياردير (جورج سورش) ليتلاعب بالبورصة مما أدى إلى ضرب التجارة التنموية وإحباطها.
لقد أدلى جورج سوروش نفسه بشهادة لاذعة أمام الكونغرس الأميركي قال فيها:( بدلا من أن تتصرف أسواق المال مثل البندول، فإنها تصرفت مثل كرة التهديم المعدنية، وراحت تقوض دولة تلو الأخرى، وعليه فإنّ استخلاصنا الأخير بأن أسواق المال سوف تواصل تقريب العالم بعضه إلى بعض هو استخلاص مثير للجدل والخلاف)
إنّ هذه الشركات تعد الأرض كلها سوقًا كبيراً لها، بما فيها ومن فيها، بحيث تتنافس في اقتسام هذه الأراضي دون أي اعتبار لقيم أو أخلاق، وهي نادراً ما تدخل في شكل استثمارات مباشرة طويلة الأمد، وإنما تدخل بما يعرف بالأموال الطائرة، في استثمارات قصيرة الأجل وسريعة الفوائد والتي تحقق لها عوائد هائلة، دون أن يكون لذلك مردود على التنمية المحلية.. وإن حدث وقدمت استثمارات مباشرة، فإنّها قبل ذلك تأخذ ما يكفيها من التسهيلات والضمانات السياسية والاقتصادية التي لا تحظى بها رؤوس الأموال المحلية، وهو ما يعرقل الاقتصاد المحلي، زيادة على ذلك، فإن معظم أنشطتها تقتصر على السلع الاستهلاكية ذات العائد الأسرع نتيجة للنمط الاستهلاكي السائد.
لقد أدى تطور هذه الشركات وتضخمها إلى تعميق العولمة اقتصادياً، وتعدد أنشطتها في كل المجالات: الاستثمار والإنتاج والنقل والتوزيع والمضاربة، ووصل الأمر إلى أنّها قد صارت تؤثر في القرار السياسي والبعد الثقافي والمعرفي، وفي ظل العولمة استطاعت هذه الشركات الاستفادة من فروق الأسعار، من نسبة الضرائب، من مستوى الأجور لتركيز الإنتاج في المكان الأرخص وبعد ذلك ينقل الإنتاج إلى المكان الذي يكون فيه مستوى الأسعار أعلى ويتم تسويقه هناك.
أضيفوا إلى هذا أن هذه العولمة المجنونة ركزت الثروة المالية في يد قلة من الناس أو قلة من الدول، فـ 358 ملياردير في العالم يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه أكثر من نصف سكان العالم، و 20 بالمائة من دول العالم تستحوذ على 85 بالمائة من الناتج العالمي الإجمالي، وعلى 84 بالمائة من التجارة العالمية، ويمتلك سكانها 85 بالمائة من المدخرات العالمية.. ونكتشف من هذا أنّ 5،19 بالمائة من الاستثمار المباشر و08 بالمائة من التجارة الدولية تنحصر في منطقة من العالم يعيش فيها 82 بالمائة فقط من سكان العالم.
أضيفوا إلى هذا سيطرة الشركات العملاقة عملياً على الاقتصاد العالمي.. إنّ خمس دول ـ الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا ـ تتوزع فيما بينها 172 شركة من أصل مائتي شركة من الشركات العالمية العملاقة.. وهناك 350 شركة كبرى لتلك الدول تستأثر بما نسبته 40 بالمائة من التجارة الدولية.. وقد بلغت الحصة المئوية لأكبر عشر شركات في قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية 86 بالمائة من السوق العالمي، وبلغت هذه النسبة 85 بالمائة من قطاع المبيدات، وما يقرب من 70 بالمائة من قطاع الحاسبات و60 بالمائة في قطاع الأدوية البيطرية، و35 بالمائة من قطاع الأدوية الصيدلانية، و34 بالمائة في قطاع البذور التجارية.
أضيفوا إلى هذا تعميق التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين الناس، بل بين المواطنين في الدولة الواحدة، واختزال طاقات شعوب العالم إلى طاقة دفع لماكينة الحياة البراجماتية الاستهلاكية للقوى الرأسمالية والسياسة الغربية المسيطرة.. لقد كان أولئك المدافعونالأغبياء عن العولمة يراهنون على أن العولمة ستؤدي إلى ارتفاع مستوى دخل الفرد على المستوى العالمي، وبالتالي تخف ظاهرة الفقر التي تعاني منها كثير من دول العالم، لكن الحقائق والأرقام، تكشفت عن واقع مؤلم مختلف، ففي الوقت الذي ازداد معدل دخل الفرد، فإنّه صاحب هذه الزيادة اتساع في الهوة الشاسعة بين مستوى الدخل في الدول الغنية والدول الفقيرة، فمازال دخل أكثر من مليارين إنسان لا يزيد على 60 دولاراً في الشهر، ما يعني أن خطر الفقر مازال يطل برأسه القبيح على دول كثيرة في العالم.
أضيفوا إلى هذا استئثار قلة من سكان الدولة الواحدة بالقسم الأكبر من الدخل الوطني والثروة المحلية، في الوقت الذي يعيش أغلبية السكان حياة القلة والشقاء ويوضح ذلك أن عشرين بالمائة من الفرنسيين يتصرفون فيما يقرب من سبعين بالمائة من الثروة الوطنية، وعشرين بالمائة من الفرنسيين لا ينالون من الدخل الوطني سوى نسبة ستة بالمائة.
أضيفوا إلى هذا النمو المطرد للبطالة، وانخفاض الأجور وما يرتبط بها من تقليص في قدرة المستهلكين واتساع دائرة المحرومين، وقد دلت الإحصائيات على حقائق خطيرة، ففي العالم (800) مليون شخص يعانون من البطالة وهذا الرقم في ازدياد، وفي السنوات العشرة الأخيرة عملت 500 شركة من أكبر الشركات العالمية على تسريح أربعمائة ألف عامل – في المتوسط- كل سنة، على الرغم من ارتفاع أرباح هذه الشركات بصورة هائلة، فإحدى هذه الشركات منحت للمساهمين فيها مبلغ خمسة مليون دولار لكل منهم(60) والشركات الأمريكية تسرِّح مليونين من العمال.
ونتيجة لذلك ظهرت عدائية كثير من منظمات المجتمع المدني الغربية، وخاصة في الولايات المتحدة للعولمة، وخاصة المنظمات العمالية، واتحادات الشغل التي تراقب أثر عولمة الاقتصاد على معدلات أجور العمال، وعلى نسبة البطالة في الغرب.
إنّ الفقر الناتج عن البطالة حتما يقود إلى اتساع دائرة الجريمة فالعولمة تسمح وبيسر للعصابات بأنّ تشكل شبكة دولية عبر (الإنترنت) وتمكن المتهربين من دفع الضرائب من نقل أموالهم إلكترونيا إلى أمكنة أخرى، فمن روسيا وحدها وصل إلى العالم الغربي منذ عام 1990م خمسون مليار دولار بطريقة غير شرعية، ويقدر خبراء الأمن أن ثروة منظمات المافيا في النمسا وحدها تتجاوز تسعة عشر مليار دولار، كل هذا يجري على حساب الدولة التي بدأت تئن تحت ضائقة الفقر لتقلص الضرائب وهروبها، وهذا يعني ضعف الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية التي تقدمها الدولة، وتتضاعف حدة مشكلة الفقر،وتصبح أشدّ خطورة،وبالنتيجة فإنّ شرعية هذه الدولة واستقرارها يصبحان مهددان.
أضيفوا إلى هذا فرض السياسات الاقتصادية والزراعية على دول العالم – وخاصة النامية – بهدف تعطيل التنمية الاقتصادية، وإبقائها سوقاً استهلاكية رائجة للمنتجات الغربية، وتسليم إرادتها السياسية للقوى الحاكمة في أمريكا.. ففي بعض الدول انخفضت معدلات النمو عام 98م بأكثر من 100 بالمائة وارتفعت معدلات البطالة بنسبة خطيرة أدت إلى حدوث مشكلات اجتماعية عديدة من أهمها زيادة نسبة الفقر والأمية.
أضيفوا إلى هذا إضعاف قوة موارد الثروة المالية العربية المتمثلة في النفط، حيث تم إضعاف أهميته كسلعة حينما تم استثناؤه من السلع التي تخضع لحرية التجارة الدولية – أسوة بتجارة المعلومات- من تخفيض الضرائب والقيود الجمركية المفروضة عليه من الدول المستهلكة، فما زالت هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ترفض اعتبار النفط والمشتقات البتروكيماوية من السلع التي يجب تحريرها من القيود الجمركية والضرائب الباهضة التي تفرضها الدول المستهلكة، وبذلك تجني هذه الدول الأرباح الهائلة من وراء ذلك، وهي تعادل ثلاثة أمثال العائدات إلى الدول المنتجة في الوقت الحاضر، بل أصدر الكونجرس الأمريكي تشريعاً يقضي بفرض العقوبات على دول في منظمة أوبيك إذا شاركت في رفع أسعار النفط أو تثبيتها.
أضيفوا إلى هذا ظهور عملية الإغراق التي ترتبط بالسعر، وذلك بأن تطرح في الأسواق سلع مستوردة بأسعار تقل كثيراً عن سعر المثيل في السوق المحلي، أو عن سعر المثيل في سوق الدولة المنتجة لهذه السلعة وتصدرها، أو انخفاض سعر البيع عن سعر تكلفة الإنتاج، ويتم تداولها لفترة زمنية، بهدف استرداد نفقاتها وتحقيق الربح، تلك هي الحالات الثلاث التي تعتبر فيها السلع المستوردة بمثابة سلع أو واردات إغراق.
وهذه المشكلة ظهرت مع دخول العولمة وإلغاء التعرفة الجمركية، أو الحد منها على بعض السلع، حيث كان قديماً لا يمكن حدوث ذلك لأن الدول كانت تتحكم في سعر السلعة بزيادة سعر الجمارك، مما يؤدي إلى زيادة سعر المنتج المستورد عن المنتج المحلي أو على الأقل يساويه في الثمن، ولكن مع فتح الأسواق أمام التجارة العالمية، فإننا سنشهد حالات إغراق كثيرة، وكذلك تجاوزات لا نضمن إلى أي مدى ستصل عواقبها.
سكت قليلا، ثم راح يخاطب نفسه، ويقول: لم نكتف بكل هذا.. أنت ـ يا نفسي ـ تعلمين جشعي وحرصي.. فلذلك لم أكتف بأكل كل تلك الأموال.. أنا لا تكفيني الأموال.. مثلما لا تكتفيني الدماء..
قلنا: فما فعلت.. أو ما فعل قومنا بعد كل هذا؟
قال: لقد رحنا نفرض سيطرتنا السياسية على الأنظمة الحاكمة والشعوب التابعة لها، والتحكم في مركز القرار السياسي وصناعته في دول العالم لخدمة مصالحنا على حساب مصالح الشعوب وثرواتها الوطنية والقومية وثقافتها ومعتقداتها الدينية.. لقد قال أحد زملائي في الإجرام (جون بوتنغ)، وقد كان رئيس المدراء التنفيذيين في بنك بنسلفانيا 🙁 في العولمة نحن نقرر من الذي سيعيش ونحن نقرر من الذي سيموت)
لم نكتف بكل هذا، بل رحنا نخطط للتدخل العسكري وإعلان الحرب في أية بقعة من العالم تفكر بالخروج على سيطرتنا.. يقول صموئيل هنتنغتون في دراسته المسماة (المصالح الأمريكية ومتغيرات الأمن) 🙁 إنّ الغرب بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بحاجة ماسّة إلى عدو جديد يوحد دوله وشعوبه، وإن الحرب لن تتوقف، حتى لو سكت السلاح وأُبرمت المعاهدات، ذلك أن حرباً حضاريةً قادمةً ستستمر بين المعسكر الغربي الذي تتزعمه أمريكا وطرف آخر، قد يكون عالم الإسلام أو الصين)
ولم نكتف بكل هذا.. بل رحنا نفرض ثقافتنا بكل تشوهاتها وصراعاتها على العالم أجمع.. إنّ ثقافتنا تريد من العالم أجمع أن يعتمد المعايير المادية النفعية الغربية،كأساس لتطوره، وكقيمة اجتماعية وأخلاقية، وبهذا فإنّ ما تبقى يجب أن يسقط، وما تبقى هنا هو ليست خصوصية قومية، بل مفهوم الخصوصية نفسه، وليس تاريخا بعينه بل فكرة التاريخ، وليس هوية بعينها وإنما كل الهويات،وليس منظومة قيمية بل فكرة القيمة وليس نوعا بشريا، وإنّما فكرة الإنسان المطلق نفسه.
لقد دعا دافايد روشكويف (أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كولومبيا والمسئول السابق في حكومة الرئيس الأمريكي كلينتون) الولايات المتحدة إلى استغلال الثورة المعلوماتية الكونية للترويج للثقافة والقيم الأمريكية على حساب الثقافات الأخرى، لأنّ الأمريكان أكثر الأمم عدلاً وتسامحاً وهم النموذج الأفضل للمستقبل، والأقدر على قيادة العالم.
ويقول شتراوس هوب في كتابه(توازن الغد):( إنّ المهمة الأساسية لأمريكا توحيد الكرة الأرضية تحت قيادتها، واستمرار هيمنة الثقافة الغربية، وهذه المهمة التي لا بد من إنجازها بسرعة في مواجهة نمور آسيا وأيّ قوى أخرى لا تنتمي للحضارة الغربية)
يقول ناعوم تشومسكي: (إنّ العولمة الثقافية ليست سوى نقلة نوعية في تاريخ الإعلام، تعزز سيطرة المركز الأمريكي على الأطراف، أي على العالم كله)
ويقول بلقيزر: (العولمة ـ كما يدعي روادها ـ هي انتقال من مرحلة الثقافة الوطنية إلى ثقافة عليا جديدة عالمية، وهي في حقيقتها اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات الأخرى، وهي اختراق تقني يستخدم وسائل النقل والاتصال لهدر سيادة الثقافات الأخرى للشعوب، وفرض الثقافة الغربية)
قلنا: ولكن.. لا نرى لقومنا أي أسلحة ثقافية يوجهونها نحو شعوب العالم.
ضحك، وقال: لقد تطورت الأسلحة.. فلم تعد تجدي الأسلحة القديمة.. لقد صار الإعلام هو وسيلة هذا العصر.. الوسيلة التي تفرض بها ما تريد على من تريد.
وقد هيمنت شركاتنا على الإعلام في العالم أجمع.. فمعظم مواد وتجهيزات الصناعة التقليدية من الورق، والحبر، وآلات الطباعة، وآلات التصوير بيد الدول المصنعة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
وجميع مواد وتجهيزات الاتصال الحديثة بيد المجموعة نفسها ويتحكم فيها كلياً مركز واحد للهيمنة، وجميع وسائل تجهيزات المعلومات والحاسوب، وغزو الفضاء.
وفوق ذلك كلهما تشاهدونه من التفوق الأمريكي في صناعة الأفلام والموسيقى، وتمتعها بسوق خارجية ضخمة في ظل انتشار التلفزيون، والأقمار الصناعة،وقنوات الفضاء التي أدخلت البث التلفزيوني إلى كل بيت في العالم.
تشير إحصاءات منظمة اليونسكو عن الوطن العربي إلي أنّ شبكات التليفزيون العربية تستورد ما بين ثلث إجمالي البث كما في سوريا ونصف هذا الإجمالي كما في تونس والجزائر، أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد علي نصف إجمالي المواد المبثوثة إذ تبلغ 58,5 بالمائة وتبلغ البرامج الأجنبية في لبنان 69 بالمائة من مجموع البرامج الثقافية، ولا تكتفي بذلك، بل وغالب هذه البرامج يبث من غير ترجمة، وثلثا برامج الأطفال تبث بلغة أجنبية من غير ترجمة في معظمها.
قلنا: إن ما تذكره جميل.. فهو لا يدل إلا على النشاط العظيم التي تبديه شعوبنا في هذه المجالات.
قال: ولكنه نشاط مخرب.. إن عملاءنا الذين يروجون العولمة يحاولون جادين تعميم الفلسفة المادية والفكر الغربي العلماني ليصبح العالم جزءاً من المنظومة العلمانية العالمية التي تتميّز بخصائص معينة وتظهر بثقافة واحدة، تتجاوز السلام بكل أبعاده الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والخلقية.
إنّ العولمة تمجِّد ثقافة الاستهلاك التي استخدمت كأداة قوية فاعلة في إطلاق شهوات الاستهلاك إلى أقصى عنان، ومن ثمَّ تشويه التقاليد والأعراف السائدة في العالم الإسلامي.
وهي تشيع ما يسمى بأدب الجنس وثقافة العنف التي من شأنها تنشئة أجيال كاملة تؤمن بالعنف كأسلوب للحياة وكظاهرة عادية وطبيعية، وما يترتّب على ذلك من انتشار الرذيلة والجريمة والعنف.
في دراسة أعدها مركز دراسات المرأة والطفل بالقاهرة على1472 فتاه، وسيدة مصرية..تبين أنّ الأفلام التي يشاهدنها:85 بالمائة أفلاماً جنس، 75 بالمائة بها مشاهد جنسية، 85 بالمائة أفلام عنف وحروب،23 بالمائة أفلام فضاء، 68 بالمائة أفلاماً عاطفية قديمة وحديثة، 21 بالمائة أفلاما أخرى،6 بالمائة فقط من عينة البحث يشاهدن نشرات الأخبار وبرامج ثقافية وترفيهية،ولم يذكرنّ الأفلام العلمية، لأنها لم تنل منهن أي اهتمام يذكر.
كما أثبتت الدراسات الحديثة أن شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) أكبر قوة دافعة للعولمة المدوية لصناعة الجنس.ويرى معهد فوريستر للأبحاث (كيمبردج ماساشوسيتس) أنّ صناعة البورنو على شبكة المعلومات الدولية تبلغ نحو مليار دولار سنويا من حيث القيمة، وأنّها مرشحة للتعاظم.. فشبكة المعلومات الدولية تزيل بضربة واحدة، أكبر عقبتين تعترضان بيع الصور والخدمات الجنسية: الخجل والجهل..فالأمر لا يحتاج أكثر من أن يلقي نظرة على (دليل الجنس في العالم)، وهو موقع على شبكة معلومات الدولية ليجد عروضاً مفصّلة عن المواخير ووكالات تأجير المرافقات والنوادي الليلية في مئات المدن الكبرى حول العالم، وتتيح شبكة معلومات الدولية أيضا للناس تجاوز الرقابة المحلية والحصول على صور يرغبونها من أي مكان في أرجاء المعمورة.
ليس ذلك فقط.. فمن آثار عولمة الثقافة انتشار نوعية مميزة من الثقافة المادية والمعنوية الأمريكية حيث سيطرت الثقافة الأمريكية الشعبية على أذواق البشر، فأصبحت موسيقى وغناء مايكل جاكسون، وتليفزيون رامبو، وسينما دالاس هي الآليات والنماذج السائدة في مختلف أنحاء العالم، وأصبحت اللغة الإنجليزية ذات اللكنة الأمريكية هي اللغة السائدة.
ليس ذلك فقط.. فمن آثار العولمة الثقافية انتشار الأزياء والمنتجات الأمريكية، لأنّ هذه السلع تحمل في طياتها ثقافة مغايرة تسحق ثقافات الأمم المستوردة لها.
بعد أن حدثنا صاحبنا الثامن بما حدثنا به من المآسي مما ذكرت لك الكثير منه سألناه عن التقائه بمن وصفه بالنور والسلام والصفاء، فابتسم ابتسامة هادئة امتلأت لها أسارير وجهه إشراقا، ثم قال: لا أزال أذكر ذلك اليوم جيدا.. إنه يوم مميز في حياتي وقفت فيه على حافة بين الموت والحياة.. لم يكن بيني وبين الموت حينها إلا كلمة واحدة، أو إشارة واحدة، ولكن الله قدر أن يمد في عمري لأسمع من الكلمات، وأرى من الأنوار، ما جعل لحياتي معنى جديدا لم أكن أراه، ولم أكن أشعر به، بل لم أكن أتصور أن له وجودا في هذه الحياة.
قلنا: فلم لم تتبع هذا النور والسلام والصفاء؟
قال: ذلك لشقائي.. لقد كان أمامي وبين يدي.. ولكن جبال الكبرياء التي سيطرت على كل لطائفي منعتني من اتباعه، بل حرضتني على خلافه.
قلنا: ما اسم هذا الرحل الذي رضيت الموت من أجل لقائه؟
قال: لقد ذكر لي أنه أسماء كثيرة بدأت بمحمد، وانتهت بمرتضى مطهّري ([30]).
قلنا: فحدثنا عن حديثك معه.
قلنا: فأين هو الآن؟
قال: لقد قدم إلى هذه البلاد لدرء الفتنة التي تريد أن تستأصلها.. وقد جئت على أثره أبحث عنه.. ولكن الله قدر أن لا ألقاه.. بل ألقى بدله الموت الذي أذقته للملايين.
قلنا: فحدثنا عن حديثك معه.
أشرق وجهه بابتسامة عذبه، ثم قال: في ذلك اليوم قدر الله أن أسير إلى بعض بلاد المسلمين في مهمة من مهمات الدماء التي لم أكن أسير إلا من أجلها.
ولكني.. وأنا أمر في زقاق من أزقة المسلمين.. رأيت جمعا من الناس ملتفا حول رجل منهم.. كان ذلك الرجل هو النور والسلام والصفاء..
لقد كان أول ما شدني إليه آية من القرآن تقول :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات:13)
سألته عنها، فذكر لي أن هذه الآية تذكر ركنا أساسيا من أركان العلاقات التي أمر الله أن تحكم العالم.
قلت له: لكن العلاقات التي أراها تحكم العالم هي علاقات الكراهية والحروب والاستعمار والاستغلال والاستعباد والإبادة..
قال: تلك علاقات الشياطين التي نفختها في أجواء بني آدم.. أما العلاقات التي أمر الله أن تقوم على الأرض، فيستحيل أن تفوح منها روائح الدماء..
لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال مخبرا عن خوف الملائكة من أن تسيل دماء بني آدم في غير حق :{ وَإِذْ قَالَ رَبُكَ لِلمَلاَئِكَةِ إِني جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحنُ نُسَبِحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِي أَعلَمُ مَا لاَ تَعلَمُونَ } (البقرة: 30)
وذكر قصة أول دم سال على الأرض، فقال :{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)} (المائدة)
وقد عقب الله على هذه القصة بالتشديد في أمر الدماء.. ووضع الشرائع التي تحفظ الدماء أي دماء من كل من يتعرض لها.. قال تعالى :{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} (المائدة)
قلت: أعرف تلك القصة..
قاطعني، وقال: هي ليست مجرد قصة.. إنها مبادئ عظيمة سار بها أهل الله في كل الأزمنة.. وفي كل البلاد.. كلهم يصيحون بما صاح به ابن آدم الأول..
لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا المذهب، وحث على اتباعه، فقال: (إنها ستكون فتنة يكون المضطجع فيها خيراً من الجالس، والجالس خيراً من القائم، والقائم خيراً من الماشي، والماشي خيراً من الساعي) قال الراوي: يا رسول الله ما تأمرني؟ قال:( من كانت له إبلٌ فليحلق بإبله، ومن كانت له غنمُ فليحلق بغنمه، ومن كانت له أرضٌ فليحلق بأرضه)، قيل : فمن لم يكن له شيء من ذلك؟ قال : (فليعمد إلى سيفه فليضرب بجدِّه على حرَّة، ثم لينجو ما استطاع النجاء)
قال سعد: قلت: يا رسول الله أرأيت إن دخل عليَّ بيتي وبسط يده ليقتلني! قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كن كابن آدم) وتلا :{ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ.. } (المائدة:28)([31])
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ؛ القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فاكسروا قسيَّكم، واقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دُخِل ـ يعني على أحد منكم ـ فليكن كخير ابنيْ آدم)
وفي حديث آخر عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( يا أبا ذر!) قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ـ وذكر الحديث ـ وقال فيه : (كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف؟) قلت : الله ورسوله أعلم، أو قال ما خار الله لي ورسوله، قال: ( عليك بالصبر ) ـ أو قال تصبر ـ ثم قال : ( يا أبا ذر ! ) قلت : لبيك وسعديك، قال : ( كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم؟) قلت : ما خار الله لي ورسوله، قال:( عليك بمن أنت منه): قلت: يا رسول الله، أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي ؟ قال : ( شاركت القوم إذن )، قلت: فما تأمرني ؟ قال: (إن خشيت أ يبهرك شعاع السيف، فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه)([32])
قلت: أرى كل هذه الأحاديث تدل على مذهب ابن آدم الأول.. فما مذهبه؟.. وما سر الاهتمام به؟
قال: أما مذهبه فهو السلام.. وأما سر الاهتمام به، فهو أنه يمثل الفطرة السليمة الأصلية التي فطر الله خلقه عليها.. لكن الشياطين ونفوسهم المدنس بدنس الأهواء أبت إلا أن تغرقهم في مستنقعات الدماء.
قلت: ولكني أرى من المسلمين من يحمل أسلحة ومتفجرات.. ويرميها على من يستحق ومن لا يستحق.
قال: هو كابن آدم الثاني.. لا كابن آدم الأول.
قلت: هو يزعم أنه أخذ هذه التعاليم من القرآن.
قال: من أي موضع؟.. لقد ذكر الله النماذج الكاملة التي انتصر فيها الإنسان، وانتصرت فيها الحقائق، فلم يذكر قطرة دم واحدة، لقد قال الله تعالى يذكر هؤلاء الرجال الأفاضل :{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ(9)قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(10)قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(11)وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ(12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ(13)وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ(14)} (إبراهيم)
انظر.. إن ما جاء به الرُّسل هو البينات.. وموقف الأقوام أنهم ردُّوا أيديهم في أفواههم، وقالوا :{ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ }
وكان جواب الرُّسل :{ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأتِيَكُم بِسُلطَانٍ إِلاَّ بِإِذنِ اللهِ وَعَلى اللهِ فَليَتَوكَّلِ المُؤمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَد هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيتُمُوُنَا }
فاك ردُّ الذين كفروا لرسلهم :{ لَنُخرِجَنَّكُم مِن أَرضِنَا أَو لَتَعُدُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوحَى إِلَيهِم رَبُّهُم لَنُهلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}
انظر.. هل أسال هؤلاء الأفاضل قطرة دم واحدة، وهم يبلغون دين الله للبشرية.
لقد ذكر الله النماذج التفصيلية لهذا..
فذكر عن نوح u أنه كان صريحاً جداً في دعوته حين أعلن لقومه طريقته، قال تعالى:{ وَاتلُ عَلَيهِم نَبأَ نُوحٍ إِذ قَالَ لِقَومِهِ يَا قَومِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيكُم مَّقَامي وَتَذكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلتُ فَأَجمِعُوا أَمرَكُم وَ شُرَكَاءَكُم ثُمَّ لاَ يَكُن أَمرُكُم عَلَيكُم غَمَّةً ثُمَّ اقضُوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونِ } (يونس: 71 )
واضح هنا أن الذي كبر على قوم نوح لم يكن قيام نوح بعمل انقلابي أو عدواني، وإنما كان ذنبه هو مقامه وتذكيره بآيات الله. ولهذا قال : إن كان هذا العمل جريمة في نظركم فإني أتحمل تبعة عملي :{ فَأَجمِعُوا أَمرَكُم وَشُرَكَاءَكُم ثُمَّ لاَ يَكُن أَمرُكُم عَلَيكُم غَمَّةً ثُمَّ اقضُوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونِ } (يونس:71 )
ومعنى هذا أن نوحاً u استمر في دعوته الطويلة استمراراً سلمياً بحيث أنه رفض قومه هذه الدعوة وحاولوا أن ينالوا منه لم يعزم على قتالهم إنما عزم على الصبر إلى أن يقتل هو.
ونفس هذا الأسلوب انتهجه هود u من بعده، قال تعالى :{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} (الأعراف)
انظر.. هناك عرَّض نوح نفسه للموت، أما هنا فإن هوداً ينصح ويبيِّن.. وهذا يعني أنه مازال يأمل بإيمان قومه.
ومن هذه المقارنة البسيطة، نعلم نجاح الدعوات لا يمكن أن يكون إلا عن طريق التبليغ الكامل لآيات الله، سواء أقبلها الناس أم لم يقبلوها، مادامت في مرحلة التكوين.. لأن الذي لا يقبل الرأي عن طريق الإقناع، قد تتمكن أن ترغمه على رأيك بالقوة، إلا أنه سينقض عليك حتماً متى سنحت له الفرصة ليثبت لك أنه لم يؤمن بفكرتك.
وهذا نفسه ما حصل مع موسى u قال تعالى :{ وَلَقَد أَرسَلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)} (غافر)
بعد هذه المحاورة يتدخل مؤمن من آل فرعون ليوضح أهداف موسى u ويجعل منها التهمة الموجهة إليه، ويثبت أن تلك التهمة لا يجوز أن تؤدي به إلى القتل :{ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا.. (29)} (غافر)
لقد وضَّح الرجل المؤمن أهداف موسى u ودافع عنها، واستطاع أن يؤكد للملأ المجتمعين أمام فرعون أن التهمة الموجهة لموسى u لا يجوز أن تكون تهمة ! لأنها دعوة واضحة وأهداف سامية يدعو الناس إليها، ثم وضَّح هذه الأهداف بأنها انتقال من عبادة فرعون إلى عبادة الله.
فلو أن لموسى ذنباً غير قوله (ربي الله)، لما دخل الرجل المؤمن الميدان ليدافع عن موسى أمام أعظم طاغية على وجه الأرض.
ولو نظرت في قوله تعالى على لسان فرعون :{.. ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)} (غافر) لوجدت فيها معانٍ كثيرة ترشدنا إلى أهمية دعوة موسى السِّلميَّة، وترينا تأثيرها في نفوس الناس عامة، وفي نفس فرعون بصورة خاصة.. فلو أن فرعون استطاع أن يوجه تهمة القتل لموسى أو أنه استطاع أن يثبت أن لموسى ذنباً يدينه لما احتاج إلى أن يقول: (ذروني أقتل موسى)، أي أنه لما احتاج أن يلتمس رضا بطانته وموافقتها على تنفيذ حكم القتل على موسى.
ولكن موقف موسى u البعيد عن كل التهم، دفع فرعون، مع غطرسته، أن يستشير بطانته في هذا الموضوع الذي أصبح خطيراً، لأنه واجه الضمير الإنساني ودخل إلى أعماقه على مشهد من فرعون وبطانته.
ففرعون، هذا الذي جُرِّد من كل مسوِّغ للقيام ضدِّ موسى لم يجد شيئاً يتَّهمه به، لذلك اضطر أن يواجه الحق بالباطل صراحة، فقد فُهِمَ من كلام فرعون على موسى أن آراء موسى وأفكاره خطيرة لأن مثل هذه الآراء قادرة على تغيير نظامه.
ومادام يبغي تغيير الأوضاع، فإن فرعون لا ينظر إليه بأنه يريد تغيير هذه الأوضاع بالقوة، وإنما ينظر لموسى بأنه قادر على تغيير هذه الأوضاع لأنه لا يجد في نظامه قوة تستطيع أن تواجه الأفكار التي يبيِّنها، وكذلك لا تستطيع مواجهة ضمائر الناس وعقولهم، التي كادت أن تقنع بأفكار موسى الربانية تاركة نظام فرعون الفاسد وراءها ظهرياً. لذا وجد فرعون أن استمرار هذه الأفكار يعني انهياراً لنظامه ودينه وبالتالي سقوطاً لحكمه، لذا طلب فرعون قتل موسى قبل أن يبلغ ذروة أهدافه.
إن الإحساس بقوة الحجة في نفوس الناس هو الذي حمل فرعون ويحمل كل الذين يخافون على نظمهم في كل مكان وزمان من قوة الحجة أكثر من خوفهم من قوة السلاح، بل إنهم يتمنون أن يحاربهم الدعاة ليبطشوا بهم دون تردد.
وإننا نرى أن كل الطواغيت عندما يريدون أن يحكموا على أي داعية يلجؤون إلى اتهامه بالإرهاب أو الاغتيال، فهم يفتشون دائماً في سجله التاريخي لعلهم يجدون فيه ما يدنيه.
وفرعون نفسه لم ينسَ أن يرجع إلى سجل موسى التاريخي علَّه يتمكن من العثور على شيء يدينه به، فلم ينس أن يلوح أمام الناس بفعلة موسى حيث قال :{ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)} (الشعراء)
يريد بهذا أن القتل حدث من موسى من الوكز، أي أن القتل حدث خطأ، وأن هذا الأمر ليس له علاقة بالحادث الجديد وهو الدَّعوة الجديدة التي هي موضع النزاع.
وهذا نفسه ما حصل مع شعيب u.. قال تعالى يحكي قصته مع من أرسل إليهم :{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} (الأعراف)
انظر.. إن هذا التهديد من الملأ المستكبرين من قوم شعيب لشعيب بالإخراج من قريتهم أو الرجوع إلى ملَّة قومه، لم يكن إلا بسبب مفارقته لهذه الملة أو إعلانه لهذه المفارقة، ولهذا كان جواب شعيب حاسماً إذ قال بكلِّ قوة وجرأة :{ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا }
وهكذا كان المسيح u.. قال تعالى عنه :{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} (آل عمران)
هكذا كانت دعوة المسيح u.. جاء بالآية من ربه وشهد هو والحواريون بأنهم مسلمون ومؤمنون بما أنزل الله، فمكر الكافرون، ومكر الله، والله خير الماكرين.
قلت: أنا لا يعنيني كل من ذكرت من الأنبياء.. أنا لا يعنيني إلا محمد.. ألا ترى أنه كان مختلفا عنهم؟
قال: لا.. ذلك يستحيل.. إن مجرد حكاية القرآن لتلك الأخبار كاف في تقرير الحقائق التي تحملها قصصهم.. لقد قال الله تعالى بعد ذكره للأنبياء ـ عليهم السلام ـ يخاطب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.. ويخاطب جميع هذه الأمة بخطابه :{ أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} (الأنعام)
بالإضافة إلى هذا.. فقد تجلى السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي علاقاته في منتهى كماله..
لقد عبر الله تعالى عن هذا.. فقال :{ فَإِن تَوَلَّيتُم فَاعلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ } (المائدة:92)
وقبل أن يتكون المجتمع الإسلامي المتميز لم يأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بشيء من أعمال العنف بالقتال أو القتل.. وإنما كان ذلك حين تكوَّن المجتمع المستقبل المتميز الذي خضع لحكام الإسلام وسيطر على المجتمع فنفَّذ أمر الله بهم وعليهم رعاية لما يقتضيه الحق والعدل.
سكت قليلا، فقلت: لقد ذكرت لي أن الآية تتحدث عن أساس من أسس العلاقات الدولية في الإسلام.. فهل وضع الإسلام لهذه العلاقات أسسا غير ما وضعه قومنا.
قال: قومك وضعوا للعالم علاقات أهلكته وتريد أن تبيده..
قلت: والإسلام؟
قال: الإسلام هو الوحيد الذي وضع العلاقات التي تحفظ السلام في العالم.
قلت: على ما تتأسس هذه العلاقات؟
قال: على أربعة أسس: التعارف، والتدافع، والتعايش، والشهادة.
قلت: فحدثني عن الأساس الأول.
قال: لقد عبر القرآن الكريم عن هذا الأساس، فقال ـ وهو يقرر الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الاجتماعية ـ :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات:13)
فهذه الآية الكريمة تقرر أن العلاقة التي ينبغي أن تربط البشر فيما بينهم هي علاقة التآلف المؤسسة على التعارف([33]).. وانطلاقا من هذا، فإن الإسلام لم يعتبر المخالفة في العرق واللون بين البشر في أيّ شيء، فكلّ الناس عند الله عزّ وجلّ، وفي نظر نظام الإسلام وقانونه، سواسية، لا فرق بين عربي وأعجمي، وبين تركي وأوروبي، أو بين أسود وأبيض، وبين أصفر وأحمر، إلاّ بالتقوى التي هي العمل بطاعة الله سبحانه وتعالى، رجاء رحمته ورضوانه، ومخافة عصيانه وعقابه..
ولذلك، فإنّ التمييز العنصري القائم على العرق واللون مما حرّمه الإسلام، واعتبره عصبية جاهلية منتنة.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)([34]).. وقال صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 من قاتل تحت راية عمّيّة، يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فَقِتْلَةٌ جاهلية)([35])
بالإضافة إلى هذا، فإن الإسلام أمر بحفظ ما أودع الله في البشر من تنوع.. فلذلك لم يقم المسلمون بأي نوع من أنواع الإبادة.. بل لم يخطر لهم ذلك على بال.
قلنا: عرفنا الأساس الأول.. فما الأساس الثاني؟
قال: لقد ذكر لي صاحبي أنه (التدافع)([36])..
قلنا: ما التدافع؟.. وما علاقته بالعلاقات العالمية؟
قال: لقد سألته عنه فقال: لقد عبر الله عنه، فقال :{ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} (البقرة).. وعبر عنه في موضع آخر، فقال، وهو يبرر سر الإذن بالقتال :{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} (الحج)
قلت له: أليس التدافع هو نفسه (صراع الحضارات) الذي جاء به (صامويل فلبس هنتنجتون)([37])؟
قال: الإسلام لا يأتي بالصراع ولا يدعو إلى الصراع..
قلت: فما الفرق بينهما؟
قال: أخبرني أولا عن مرادهم بصراع الحضارات.
قلت: لقد عبر عنه (صامويل فلبس هنتنجتون)، فقال:( إن شعور الانتماء إلى حضارة معينة سوف يكون له شأن متزايد في المستقبل، وسوف يصوغ العالم إلى حد كبير التفاعل بين حضارات ست أو سبع هي الحضارات التالية: الحضارة الغربية، والحضارة الكونفوشيوسية، والحضارة اليابانية، والحضارة الإسلامية، والحضارة الأرثوذكسية، والحضارة اللاتينية ـ الأمريكية، وربما الحضارة الأفريقية.. والصراعات المهمة القادمة سوف تقوم على طول الخطوط الثقافية التي تفصل بين هذه الحضارات )
وهو يرى انطلاقا من هذا أنَّ الفروق بين الحضارات هي فروق أساسية تتلخص في التاريخ واللغة والثقافة، وأهم الفروق هو الدين.. فالدين مركزي في العالم الحديث، وربما كان هو القوة المركزية التي تحرك الناس وتحشدهم، وهذه الفروق الثقافية ليست قابلة للتبديل أو الحلول الوسط، ومع تحديد العلاقات المختلطة بمقياس ديني أو إثني فستنشأ تحالفات في صورة متزايدة تستغل الدين المشترك والهوية الحضارية المشتركة، وبناءً على ذلك سيحدث صدام بين الحضارات.
ولما كان هناك صدام عسكري يمتد عمره قروناً بين الغرب والإسلام فإنه ليس من المرجح أن ينحسر، وإذا أضفنا إلى ذلك التفاعل العنيف بين الحضارة الغربية والحضارة الكونفوشيوسية فإنه من الممكن أن ينشأ تحالف بين الحضارتين الإسلامية والكونفوشيوسية يهدد الحضارة الغربية، ويبشر بظهور صدام حضارات بين الغرب والبقية THE WEST AND THE REST على حد تعبيره، وبناءً على ذلك فإنه يخاطب الساسة الغربيين محذراً: ( على الغرب أن يحد من توسيع القوة العسكرية لحضارات معادية محتملة، خصوصاً الكونفوشيوسية والإسلام)
التفت إلي، وقال: هذا هو صراع الحضارات.. فما التدافع؟
قال: اللص لا يتصور الناس إلا لصوصا.. ولا يتعامل معهم إلا بمنطق اللصوصية.
قلت: لم أفهم.. ما مرادك من هذا؟
قال: التدافع سنة إلهية كونية قامت عليها حكمة الوجود الثنائي في الخلائق.. فالموجودات كلها متقابلة مزدوجة، كما قال تعالى :{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (الذاريات: 49)
وبما أن الأمر هكذا.. فإن منطق أهل السلام يستدعي التعامل السلمي مع هذه الزوجية.
والتعامل السلمي يقتضي التعرف على أسباب التدافع ومصادره.. وعلى صوره ومستوياته.. وعلى غاياته وأهدافه.
قلت: فحدثني عن أسباب التدافع ومصادره.
قال: يقوم التدافع أساساً على حكمة الله في اختلاف الناس كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } (هود: 118)، حيث يبيّن القرآن أن الاختلاف بين البشر، وهو أهم عنصر به يتحقق الغرض من وجود الإنسان، ليس مناقضاً لطبيعته الإنسانية ولكنه معارض لوجوده في المجتمع مع ضرورته، لأنه يفضي إلى التنازع والتدافع، فيقتضي تهذيبه بالضوابط.
ويقرر القرآن أن مصدر التدافع هو الإنسان نفسه التي ألهمها الله فجورها وتقواها.. أي أنه مصدر داخلي، وليس خارجياً، لذلك يربط القرآن تدافع المجتمع بتدافع النفس ويجعل من ذلك سنة مطردة، فمتى تغيّر ما في النفس غيّر الله تعالى ما في المجتمع من حال قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } (الرعد: 11)
وهذا يدل على أن الإنسان نفسه هو المحرك لهذه السنة، ويكون فعل الله تعالى مطرداً مع فعله، الأمر الذي يقطع الحجة على الأمم في انحطاطها، ويدفعها إلى المشاركة الفاعلة في صياغة العولمة وتشكيلها وتفسيرها، لا أن تتخلف بحجة أن ذلك هو قضاء الله وقدره.
قلت: فحدثني عن صور التدافع ومستوياته.
قال: صور التدافع كثيرة.. ولكنها تتجلى في ثلاثة مستوياته رئيسة..
أما أولها، فهو التدافع في إطار النفس الإنسانية، وهذا هو الأساس والمصدر، وينشأ بسببه صراع داخلي في النفس بين نوازع الخير التي يباركها الله تعالى ونوازع الشر التي يولّدها الشيطان.. وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الصراع بأساليب مختلفة وعرضه بصورة متعددة.. قال تعالى عن النفس الإنسانية:{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } (الشمس: 8-10)
وينظم القرآن هذا المستوى من التدافع بمحاربة ما يسميه بـ (هوى النفس)، قال تعالى: { وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } (ص:26)، وقال :{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } (النازعات: 40-41)
وأما الثاني، فهو التدافع في ظل المجتمع الواحد، وهو مستوى تابع للأول، وبه ينشأ صراع بين الناس ولو كانوا تحت مظلة الإيمان، ولذلك ينظمه الشرع ببيان الحقوق ووضع الحدود.. وقد وضع القرآن الكريم مبادئ مختلفة حلاً لهذا المستوى من التدافع، بوصفه مبدأً للشورى، ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأجمع هذه المبادئ هو مبدأ تحقيق العدل.. كما قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (النحل: 90)
ومن أهم صوره: العدالة الاجتماعيّة في توزيع الثروة والتوازن بين الحقوق والواجبات، ودفع المظالم والطغيان.. أو كما عبر عن ذلك ابن مسكويه بقوله: (إن العدالة موجودة في ثلاثة مواضع: أحدها قسمة الأموال والكرامات، والثاني قسمة المعاملات الإرادية، كالبيع والشراء والمعاوضات، والثالث قسمة الأشياء التي وقع فيها ظلم وتعد)([38])
والعدل مطلوب في الإسلام، ولو مع الأعداء، كما يقرره قوله تعالى :{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (المائدة: 8)
وأما الثالث، فهو التدافع الحضاري بين الأمم أو الشعوب المختلفة، والذي يشار إليه بـ (الصراع) أو (صدام الحضارات)، وهو في الواقع ليس صداماً في جميع الأحوال، وإنما ينقلب صراعاً وصداماً عندما يخرج عن ضوابط القانون الشرعي أو الفطري الذي تتحاكم إليه الأمم لتنظيم العلاقات بينهم.
ويتخذ هذا المستوى من التدافع صوراً مختلفة.. وله تجليات متعددة مثل: الكفر والإيمان، الحق والباطل، القوي والضعيف، العدل والظلم، الاستكبار والاستضعاف.. وهو تابع بصورة أساسية للمبدأ الأول من التدافع، أي اختلاف الناس الذي يشير إليه قوله تعالى :{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } (يونس: 99)
وهذا المستوى هو الأهم في هذه المستويات كلها في نظر القرآن، لأن به تتميز المواقع وتتحدد الدرجات في الدارين، وهي الغاية من قوله تعالى :{ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } (الأنبياء: 35)
والأصل في هذا النوع من التدافع كما يقرر الإسلام هو أن يكون بالحسنى، كما يشير إليه قوله تعالى :{ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (فصلت: 34)، وقوله: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } (المؤمنون: 96)
وقد يكون التدافع بالمواجهة المسلحة لدفع الظلم والطغيان، ليحق الله الحق ويبطل الباطل، ويحصل النصر والتمكين، وهو ما يشير إليه قوله تعالى :{ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (الحج: 40)
ويرسم القرآن الكريم لتنظيم هذا المستوى من التدافع قواعد عامة، يمكن اعتبارها (أسس السلام في النظام الدولي)
منها تكريم الإنسان مطلقاً بصرف النظر عمّا يدين به من اعتقاد..
ومنها جعل التعارف الغاية من تفريق الناس إلى شعوب وقبائل..
ومنها تحريم البدء بالعدوان كما يقرره قوله تعالى :{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } (البقرة: 190)
ومنها الوفاء بالعهد، كما قال تعالى :{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } (النحل: 91)
وغيرها من المبادئ التي تحفظ السلام العالمي.
قلت: فحدثني عن الغاية من التدافع.
قال: إن غاية التدافع في القرآن الكريم هو الاتّجاه نحو التوازن بإحداث التغيير، لذلك فهو تابع لسنة الحركة الشاملة للوجود كله.. فالكون كله خاضع لسنة التغيير بطريقة أو أخرى، قال تعالى :{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ } (القصص: 88)، وقال تعالى :{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } (الرحمن: 26-27)
فصور التدافع متعددة ولكن غايتها واحدة هي إيجاد توازن بشكل ما، مثل إظهار الحق الذي هو غاية التدافع بين الحق والباطل، ومثله التدافع بين القوة والضعف، والغنى والفقر، والسالب والموجب.
وأهم ملحظ في مسألة التغيير الاجتماعي من الوجهة القرآنية هو أنه مهمة جماعية ترتبط بها أسباب رقي الأمم أو انحطاطها، وجعل الله كل ذلك موقوفاً على فعل الإنسان وحركته، كما قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } (الرعد: 11).. فالإنسان هو الذي يبدأ في التغيير، وفعل الله يطرد وينعكس مع فعله.
قلنا: عرفنا الأساس الثاني.. فما الأساس الثالث؟
قال: لقد ذكر لي صاحبي أنه (التعايش)..
قلنا: ما التعايش؟.. وما علاقته بالعلاقات العالمية؟
قال: التعايش هو أن يعيش البشر جميعا ـ مهما كانت ألوانهم وأديانهم ـ في تآلف وأخوة ومودة..
لقد ذكر الله ذلك، فقال :{ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} (الممتحنة)
قلنا: عرفنا الأساس الثالث.. فما الأساس الرابع؟
قال: لقد ذكر لي صاحبي أنه (الشهادة)([39])..
قلنا: ما الشهادة؟.. وما علاقته بالعلاقات العالمية؟
قال: لقد سألته عنه فقال: لقد عبر الله عنه، فقال :{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( (الحج:78)، فهذه الآية تبين سر الشهادة وشروطها وكيفية تحقيقها.
قلت: فما سر الشهادة؟
قال: لقد كان الصالحون يذكرون أربع مراحل لسير السالكين: أولها السير من النفس إلى الله، وهي رحلة البحث عن الله.
وثانيها: سير الإنسان من الله في الله، بحثا عن معرفة الله.
وثالثها: سير الإنسان مع الله إلى خلق الله.
ورابعها: سير الإنسان مع الله بين خلق الله، لإنقاذ خلق الله.
قلت: فأي سير منها يحقق الشهادة التي هي وظيفة الأمة ووظيفة ساستها.
قال: هي المرحلة الأخيرة من سير السالكين.. وهي رحلتهم لإنقاذ خلق الله من عبودية الشيطان.
قلت: أهي الرحلة التي تسير فيها الجيوش التي تفتح أقطار الأرض، وتجعلها بأيدي المسلمين؟
قال: لا.. ليست هذه هي الشهادة.. الشهادة أخطر من هذا.. والأمة التي يحكمها الإسلام لا تبحث عن الاستيلاء على الأراضي، وإنما تبحث عن الاستيلاء على العقول والقلوب.
وقد نصت النصوص القطعية على حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يُجبر على تركه إلى غيره، ولا يُضغط عليه ليتحول منه إلى الإسلام.
ولم تذكر النصوص المقدسة هذه الأحكام من باب التوجيه فقط، بل ورد في النصوص ما يحيلها أمرا عمليا سواء من الناحية النفسية أو من الناحية التشريعية.. فالإكراه لا يجوز مطلقا بأي صفة كانت، فقد ورد قوله تعالى:) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ((البقرة:272) في سياق ذكر الصدقات ونحوها من أنواع النفقات والصلات، وقد روى سعيد بن جبير مرسلا في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:) لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم( فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام.
وروى ابن عباس أنه قال: كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بني قريظة والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب أولئك.
وبما أن مثل هذا الأمر لا تكفي فيه التشريعات الدينية، بقدر ما تؤسسه القناعة الإيمانية والتوجيه التربوي، وردت النصوص القرآنية الكثيرة تخبر أن الإيمان نعمة من الله يهبه لمن شاء من عباده، وأن الإكراه لا ينتج المؤمنين، بل قد ينتج المنافقين.
فلهذا تعمق النصوص في نفوس المؤمنين أن إكراه الناس على الإيمان تدخل في المشيئة الإلهية التي شاءت هذا الاختلاف، قال تعالى: ) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( (يونس:99)، قال ابن عباس:كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حريصا على إيمان جميع الناس، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول([40]).
وهي تخبرنا أن تبين الحق والضلال والرشد والغي كاف وحده للدلالة على الإيمان، فلا حاجة لوسيلة أخرى، قال تعالى: ) لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي((البقرة: 256) وكأن هذه الآية تحث المؤمن على أن يكون نموذجا للرشد، فذلك وحده كاف للهداية إلى الحق.
وهي تخبر أن الهداية نعمة إلهية يهبها الله تعالى لمن يشاء من عباده، فهو الذي يشرح لها الصدور، قال تعالى ) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ((النساء:272)، وقال تعالى: )إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ((الكهف:56)، وقال تعالى:) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ((يونس:100)
وهي تخبر أن الهداية مصلحة شخصية، والضلال مضرة شخصية، ودور المؤمن هو الدعوة للمصلحة والتنفير من المضرة، لا الإلزام بذلك، قال تعالى:)قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيل(ٍ(يونس:108)وقال تعالى: )إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ((الزمر:41)
وهي تخبر أن دور المؤمن هو الدعوة لا السيطرة على من يدعوه أو إكراهه، قال تعالى: ) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ( (عبس:21)
وهي تخبر أن الإيمان والكفر حرية شخصية تتبع مشيئة صاحبها لا الإلزام الخارجي، قال تعالى: ) وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا((الكهف:29)
قلت: عرفت هذا ووعيته.. ولكني لا أزال أتساءل عن سر الشهادة التي هي وظيفة هذه الأمة نحو سائر الأمم.
قال: الشهادة تتحقق بأن تكون الأمة نموذجا صالحا تهتدي بهديها الأمم، بل تحن لسلوك سبيلها.
قلت: فكيف تتحقق هذه الشهادة في منتهى كمالها؟
قال: بأربع وظائف كبرى تشترك الأمة مع أولي أمرها في تحقيقها.
قلت: فما أولها؟
قال: القوة.
قلت: تقصد امتلاك الأمة لأنواع أسلحة الدمار الشامل.
قال: أقصد امتلاك الأمة لأنواع ما يتطلبه السلام الشامل.
قلت: فما يتطلب السلام الشامل؟
قال: يتطلب تحقق الإنسان والمجتمع والأمة بأرفع مراتب الكمال الممكن.
قلت: في أي مجال؟
قال: في كل المجالات: المعرفية، والخلقية، والمرافقية.
قلت: فما الوظيفة الثانية التي تتطلبها الشهادة؟
قال: العدل.
قلت: العدل مع الرعية؟
قال: لا.. العدل مع العالم.. فالعدل الحقيقي لا يعرف تنوع المكاييل، ولا يفرق بين الأمم.. قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( (المائدة:8)، أي لا يحملنكم بُغْض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقا كان أو عدوًا.
قلت: ولكن كيف تؤمرون بهذا، وأنتم تؤمرون في نفس الوقت ببغض الكافر؟
قال: لقد أمرنا ببغض كفره، لا ببغض لحمه ودمه وروحه.
قلت: فما الفرق بينهما؟
قال: الفرق بينهما عظيم.. هو كالفرق بين بغض الطبيب لمريضه، وبغضه لمرضه.. فهل ترى من فرق بينهما؟
قلت: لا شك في ذلك.. فالطبيب إن أبغض المريض منعه نصحه، بل لعله يحب استمرار المرض به.. أما إن أبغض مرضه، فإنه يتوسل بكل ما لديه من صنوف العلاج ليريحه من علته.
قال: فكذلك أمرنا أن نفعل.. وبذلك يكون العدل.. فالعدل ينطلق من منابع النفس الطاهرة، وليس مجرد طلاء يتلاعب به القضاة والمحامون في محاكمكم.
لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يقرر هذا:( دعوة المظلوم ـ وإن كان كافرًا ـ ليس دونها حجاب)([41])
قلت: فما الوظيفة الثالثة التي تجعل من هذه الأمة شهودا عدولا على الأمم من حولنا؟
قال: الرخاء.
قلت: هل الإسلام يأمر بالترف؟
قال: الترف رخاء الطغاة المتجبرين.. والرخاء ترف العبيد المتواضعين.
قلت: فكيف يكون وظيفة من وظائف الشهادة؟
قال: كيف يستطيع مدرب النمور والأسود أن يتسلط على قوى السبعية في النمر والأسد ليوجهها إلى اللعب واللهو.. فيجعل من ذلك الذي يخافه الناس على نفوسهم وسيلة رزقه التي يحافظ بها على حياته؟
قلت: ما أسهل ذلك لقد عرف شهوات النمر والأسد، فراح يتلاعب به من خلالها.
قال: فكذلك من يحيط بكم من الأقوام، استعبدتهم الدنيا.. فلا يقادون بمثل نظرهم إليهم.. أو نظرهم لمن يملكها.
قلت: فما الوظيفة الرابعة من وظائف الشهادة؟
قال: السماحة.
قال: ما السماحة؟
قال: هي التطبيق الإيماني لقوله تعالى:{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(البقرة:256)
إن هذه الآية صريحة بأنه لا إكراه ولا قهر في اعتناق الدين، وإنما ذلك متروك لعقل الإنسان وتفكيره غير المأسور لتعصب أو هوى أو تقليد أو حظ نفس.. فمن شرح الله صدره للإسلام دخله، ومن ختم على سمعه وبصره، ترك وشأنه دون قسر على الدين.
ولهذا اعتبر الإكراه على الإسلام من الذنوب.. واعتبر المكره على الإسلام غير مسلم.. لأن الإسلام لا يكون إلا عن قناعة.
وقد روي في سبب نزول الآية السابقة أن المرأة التي كانت لا يعيش لها ولد تجعل على نفسها إن عاش أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا ( أي لا ندعهم يعتنقون اليهودية)، فنزلت الآية تنهاهم عن ذلك([42]).
انظر..
رغم أن محاولات الإكراه كانت من آباء يريدون حماية أبنائهم من التبعية لأعدائهم المحاربين الذين يخالفونهم في دينهم وقوميتهم، ورغم الظروف الخاصة التي دخل بها الأبناء دين اليهودية وهم صغار، ورغم ما كان يسود العالم كله حينذاك من موجات الاضطهاد للمخالفين في المذهب، فضلاً عن الدين، كما كان في مذهب الدولة الرومانية التي خيَّرت رعاياها حينًا بين التنصر والقتل، فلما تبنت المذهب الملكاني أقامت المذابح لكل مَن لا يدين به من المسيحيين من اليعاقبة وغيرهم.
رغم كل هذا، رفض القرآن الإكراه ([43])..
لقد قال القرآن في آية أخرى:{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)}(يونس)
ويذكر القرآن عن نوح، وهو نبي من الأنبياء العظام.. وقد أمر القرآن بالاقتداء بالأنبياء:{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (هود:28)
وقال:{ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (الزمر:41)
وقال:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (الشورى:6)
وقال:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (قّ:45)
وقال:{ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية:22)
وقال:{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (الأنعام:107)
وقد قصرت الآيات دعوة الرسول والذين معه على البلاغ:{ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} (المائدة:99).. { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ } (الشورى: من الآية48)
ففي هذه الآيات تصريح بأن دور محمد والذين معه مقصور على التبليغ لا أزيد من ذلك، وأنه أُرسل مبلغاً، ولم يُرسل حفيظاً عليهم، مسؤولاً عن إيمانهم وطاعتهم، حتى يمنعهم عن الإعراض، ويتعب نفسه لإقبالهم عليه.
وهذا الوعي يجعل المسلم يعامل الآخر بما تتطلبه الأخلاق والقيم من غير أن يؤثر فيه ما يرى عليه الآخر من انحراف عن منهجه.
***
بعد أن حدثنا صاحبنا عن أحاديث صاحبه.. سألناه: فكيف بدا لك أن تفارقه؟
قال: لقد ذكرت لكم
أنه سمع نبأ الفتنة التي تريد أن تستأصل المسلمين.. فجاء لينقذ إخوانه منها.. ولم
أجد بعد أن فارقني إلا أن أبحث عنه.. ولكن قدر الله أبى إلا أن يضعني في هذه
الحفرة التي كنت حفرت مثلها كثيرا لكل من توهمتهم أعداء لي.
([1]) انظر (الموسوعة اليهودية) للمسيري.
([2])كلمة آريانAryan، أي (آري)، مشتقة من اللغة السنسكريتية ومعناها (سيِّد)، وقد استُخدم المصطلح في بداية الأمر للإشارة إلى مجموعة من اللغات الإيرانية ثم الهندية الأوربية، إذ طرح العالم الألماني ماكس مولر (1823 ـ 1900 ) نظرية مفادها أن هناك جنساً يُسمَّى (آرياس) كان يتحدث اللغة الهندية الأوربية التي تفرعت عنها اللغات الهندية الأوربية الأخرى جميعاً ابتداءً بالهندوستانية وانتهاء بالإنجليزية.
كما استُخدم المصطلح للإشارة إلى الشعوب الهندية الأوربية التي انتشرت في جنوب آسيا وشمال الهند في العصور القديمة. وكان جوزيف جوبينو (1816 ـ1882) من أهم المفكرين الذين أشاعوا هذه الفكرة، فكان عادةً ما يضع الآريين مقابل الساميين، وكان ثمة تَرادُف مُفترَض بين الآرية والهيلينية مقابل السامية.
وقام المفكرون العرْقيون الغربيون بتطوير المفهوم فذهبوا إلى أن هذا الجنس الآري انتشر من شمال الهند وإيران عبر الإستبس، إلى أوربا، وهو جنس يتسم ـ حسب نظريتهم ـ بالجمال والذكاء والشجاعة وعمق التفكير والمقدرة على التنظيم السياسي، وبأنه المؤسس الحقيقي للحضارة وبتفوقه على الساميين والصفر والسود. ونبه هيوستون سـتيوارت تشـامبرلين (1855 ـ 1927) إلى أن النورديين هم أرقى الآريين، فهم الجنس السيد، أما اليهود والسود والعرب فيشغلون أدنى درجات السلم العرْقي. انظر (الموسوعة اليهودية) للمسيري.
([3]) انظر بتفصيل الموقف الإسلامي من الرق، والمعاملات الرحيمة التي شرعها تجاه الرقيق في رسالة (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.. ونحب أن نذكر هنا فقط بأن ما حصل في التاريخ الإسلامي من مآس حول الرقيق لا يتحمله الإسلام الإلهي، وإنما هو نتاج للإسلام البشري الذي اجتمع على تأسيسه الحكام الظلمة وعلماء السوء.
([4])صفحات من تاريخ مكّة، سنوك هو رخونية، وترجمة د. على الشيوخ، طبع دارة الملك عبد العزيز: (1419هـ):2/323، 326، 330
([5]) رواه ابن ماجة.
([6]) انظر: الموسوعة العربية العالمية، بتصرف.
([7]) انظر: الموسوعة العربية العالمية، وكتاب (الاستعمار و التنصير في إفريقيا السوداء)، لعبد العزيز الكحلوت.
([8]) يذكر المؤرخون أنه في عام 1763 أمر القائد الأمريكي (البريطاني الأصل) جفري أهرست برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري إلى الهنود الحمر بهدف نشر المرض بينهم مما أدى إلى انتشار الوباء الذي نتج عنه موت الملايين من الهنود، ونتج عن ذلك شبه إفناء للسكان الأصليين في القارة الأمريكية.
وقد كانت هذه الحادثة أول وأكبر استخدام لأسلحة الدمار الشامل بشكلها الشامل ضد الهنود الحمر، حتى أن القنابل النووية التي أطلقت بعد ذلك بما يزيد عن قرن ونيف على هيروشيما وناكازاكي لم تكن اكثر فتكا من جرثومة الجدري المستخدمة ضد الهنود، حيث قتل من اليابانيين 5% من عدد ضحايا الهنود في تلك المجزرة.
([9])يُقدر البعض أن العدد الفعلي الذي تم إبادته منذ القرن السادس عشر حتى بداية القرن العشرين قد يصل إلى عشرات الملايين.
([10])كلمة «نازي» مأخوذة بالاختصار والتصرف (بهدف التهكم) من العبارة الألمانية «ناشيونال سوشياليستيش دويتش أربايتربارتي National Sozialistische Deutsche Arbeiterpartei» (NSDAP)، أي «الاشتراكية القومية»، وهي حركة عرْقية داروينية شمولية، قادها هتلر وهيْمنت على مقاليد الحكم في ألمانيا، وعلى المجتمـع الألماني بأسـره. والحركة النازية هي حركة سياسية وفكرية، ضمن حركات سياسية فكرية أخرى تحمل نفس السمات، ظهرت داخل التشكيل الحضاري الغربي بعد الحرب العالمية الأولى. كانت النواة الأساسية للحركة النازية هي حزب صغير يُسمَّى «حزب العمال الألمان» أُسِّس في جو البطالة والثورة الاجتماعية عام 1918 بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وإذلالها على يد الدول الغربية المنتصرة. وكان المنظِّر الأساسي للحزب هو جوتفريد فيدر الذي نادى بعقيدة لها صبغة قومية قوية وطابع اشـتراكي، تدعـو إلى ملكية الدولة للأرض وتأميم البنوك. وكان من أوائل من انضم لعضوية هذا الحزب محاربون قدامى مثل رودولف هس وهرمان جورنج، ومثقفون محبطون مثل ألفريد روزنبرج و ب.ج. جوبلز وهتلر نفسه، وشخصيات أخرى مثل يوليوس سترايخر. وقد ازدادت عضوية الحزب لأنه توجه إلى المخاوف الكامنة لدى قطاعات كبيرة من الألمان من الشيوعيين والبلاشفة، وإلى حنقها على معاهدة فرساي التي أذلت ألمانيا وحولتها إلى ما يشبه المستعمرة، وعلى جمهورية وايمار المتخاذلة التي قبلت هذا الوضع، وإلى إحساس الجماهير بالضياع في المجتمع الحديث وإحساسهم بالقلق وعدم الطمأنينة نتيجة تآكل المجتمع التقليدي. ورغم أن الحـزب كان يُسمَّى «حزب العمال»، فإنه لم يضم كثيراً من العمال بين أعضائه، ولم ينضم له من العمال سوى العاطلين عن العمل. وأُعيد تنظيم الحزب عام 1920 وسُمِّي «حزب العمال الألماني الاشتراكي القومي» وترأسه هتلر الذي حصل على تأييد لودندورف (بطل الحرب العالمية الأولى) وعديد من رجال الصناعة الذين رأوا أن بإمكان هتلر تقويض دعائم النظام السياسي القائم، الذي لم يكن يسمح لهم باتباع سياسة رأسمالية حرة تماماً، كما أنهم رأوا أن وجوده يمثل الفرصة الوحيدة أمامهم لوقف تقدم الشيوعيين. وقد تزايد نفوذ الحزب مع اتساع نطاق الكساد الاقتصادي. وحل كتاب هتلر كفاحي محل برنامج جوتفريد فيدر (الذي تحول إلى مجرد ناطق بلسان هتلر)، كما تراجع الخطاب الاشتراكي وحل محله خطابٌ نازيٌ أكثر تبلوراً ومادية. (انظر: الموسوعة اليهودية، للمسيري)
([11]) وكأدلة على ذلك يذكر المؤرخ جون تولاند أن هتلر، في أحاديثه الخاصة مع أعضاء الحلقة المقرَّبة إليه، كثيراً ما كان يعبِّر عن إعجابه بالمستوطنين الأمريكيين وطريقة معالجتهم لقضية الهنود الحمر. فقد قاموا بمحاولة ترويضهم عن طريق الأسر، أما هؤلاء الذين رفضوا الرضوخ فكان يتم إبادتهم من خلال التجويع أو القتال غير المتكافئ.
ويقول يواقيم فست إن حروب هتلر القارية المستمرة كانت محاكاة للنموذج الاستعماري الغربي في أمريكا الشمالية. وبالفعل صرح هتلر في إحدى خطبه بأنه حين قام كورتيز وبيزارو (وهما من أوائل القواد الاستعماريين الإسبان) بغزو أمريكا الوسطى والولايات الشمالية من أمريكا الجنوبية، فهم لم يفعلوا ذلك انطلاقاً من أي سند قانوني وإنما من الإحساس الداخلي المطلق بالتفوق. فاستيطان الإنسان الأبيض لأمريكا الشمالية، كما أكد هتلر، لم يكن له أي سند ديموقراطي أو دولي، وإنما كان ينبع من الإيمان بتفوق الجنس الأبيض. ولذا في مجال تبريره للحرب الشرسة التي شنها على شرق أوربا قال هتلر: ( إن هناك واجباً واحداً: أن نؤلمن هذه البلاد من خلال هجرة الألمان الاستيطانية وأن ننظر إلى السكان الأصليين باعتبارهم هنوداً حمراً)
وأكد هتلر أن الحرب التي تخوضها ألمانيا ضد عناصر المقاومة في شرق أوربا لا تختلف كثيراً عن كفـاح البيـض في أمريكـا الشـمالية ضــد الهنود الحمر. ومن هنا كان هتلر يشير إلى أوربا الشرقية باعتبارها أرضاً عذراء وصحراء مهجورة.
وقد بيَّن ألفريد روزنبرج، أثنـاء محاكمته في نورمبرج، هـذه العلاقة العضـوية بين العنصـرية النازية والمشـروع الغربي الإمبريالي، فأشار مثلاً إلى أنه تعرَّف لأول مرة على مصطلح (الإنسان الأعلى) (السوبرمان) في كتاب عن الاستعماري الإنجليزي كتشنر، وأن مصطلح (الجنس المتفوق) أو (الجنس السيد) مأخوذ من كتابات العالم الأمريكي الأنثروبولوجي ماديسون جرانت والعالم الفرنسي لابوج، وأن رؤيته العرْقية هي نتيجة أربعمائة عام من البحوث العلمية الغربية، فالنازية – كما أكد روزنبرج لمحاكميه – جزء من الحضارة الغربية. (انظر: الموسوعة اليهودية، للمسيري)
([12]) كان محرر مجلة النيو يوركر، وهي من أهم المجلات الأمريكية، ورئيس إحدى الوكالات الأدبية التي أنشأتها الحكومة الأمريكية إبَّان الحرب بغرض الحرب النفسية.
([13]) وهي اختصار عبارة (ديس آرميد إنيمي فورسيز disarmed enemy forces).
([14]) الغجر مجموعةٌ متجوِّلةٌ من الناس عاش أسلافهم أصلاً في الهند، ويعيشون اليوم في كل جزء من العالم تقريباً. وقد استقر بعضهم، ولكن الكثيرين مازالوا رُحَّلا.. ولايعرف عدد الغجر لأنهم منتظمون في جماعات صغيرة، ويتجنبون الاتصال بالجهات الرسمية. وتتراوح تقديرات أعداد الغجر في كلِّ أنحاء العالم بين مليون وستة ملايين. وتعيش أكبر أعداد الغجر في أوروبا الشرقية. وتوجد مجموعات كثيرة منهم تشمل الكالي في أسبانيا، والمانوش في فرنسا، والسنتْ في ألمانيا. وقبائل رُوم هي الجماعة الأكبر من الغجر، وتعيش في كلِّ أنحاء العالم تقريباً. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)
([15])ارتبطت عبارة (الإبادة النازية) بكلمة (اليهود) حتى يستقر في الأذهان أن النازيين لم يبيدوا سوى اليهود. وقد ساعد الإعلام الغربي والصهيوني على ترسيخ هذه الفكرة حتى أصبح دور الضحية حكراً على اليهود. بل تطور الأمر إلى حد أنه إذا ما أراد باحث أن يبيِّن أن الإبادة النازية لم تكن مقصورة على اليهود، وإنما هي ظاهرة شاملة ممتدة تشمل الغجر والسلاف والبولنديين وغيرهم، فإنه يصبح هدفاً لهجوم شرس. (انظر: الموسوعة اليهودية، للمسيري)
([16])يذكر المسيري أن الكثير من الباحثين يثير الشكوك حول وجود أفران الغاز أصلاً وقد صدرت عدة دراسات موثقة في هذا الشأن.
كما تُثار الشكوك حول استخدام غاز زايكلون بي Zyclon B. في أفران الغاز. إذ تشير معظم الدراسات إلى أن استخدام مثل هذا الغاز يتطلب احتياطات فنية عالية، مكلفة للغاية (يجب أن تكون الغرفة محكمة تماماً ـ لابد من تهويتها لمدة عشر ساعات بعد استخدامها ـ يجب أن تكون المفاصل مصنوعة من الإسبستوس أو التيفلون). ومثل هذه الاحتياطات لم تكن متوفرة للألمان تحت ظروف الحرب، وهو ما يعني استحالة استخدامه على نطاق واسع. وقد ورد كل هذا في تقرير ليوشتر Leuchter Report، الذي كان يعمل مستشاراً لولاية ميسوري وكان متخصصاً في مثل هذه الأمور (ومما له دلالته أن كثيراً من حكومات الولايات المتحدة، التي كانت تستخدم هذا الغاز في عمليات إعدام المجرمين، قررت الاستغناء عنه، بسبب تكلفته العالية).
وثمة نظرية تذهب إلى أن غُرف الغاز الموجودة إنما كانت غُرف غاز لتعقيم الخارجين والداخلين إلى المعسكر. أما المقابر الجماعية فهي مقابر الآلاف الذين لقوا حتفهم بعد انتشار الأوبئة كالملاريا والتيفود، وهو أمر مُتوقَّع في ظل ظروف الحرب وفقر الرعاية الصحية. ويرى أنصار هذه النظرية أن الإبادة لم تكن عملية منظمة مقصودة تمت دفعة واحدة، وإنما تمت نتيجةً لعناصر مختلفة فرضت نفسها بسبب ظروف الحرب مثل سوء التغذية والأوبئة وغيرها، وأن من أُبيدوا بطريقة منهجية منظمة أعداد صغيرة جداً، وهي قضية خلافية. (انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري)
([17]) نقصد بالإرهاب ـ هنا ـ وهو ما صار يفهم به في الكثير من المجامع: هو العنف المستعمل تحت مظلة دين، أو القصد منه تبليغ فكرة أو نظام له علاقة بالدين.
([18])شمشون Samson اسم عبري، وهو تصغير لكلمة (شمس)، وهو اسم لشخص يُشار إليه أحياناً بأنه آخر القضاة، فقد كان قاضياً من قبيلة دان مدة عشرين سنة، (لكن من الكتب ما يشير إلى صموئيل أيضاً باعتباره آخر القضاة)
وتشير قصته منذ البداية إلى اجتبائه، فأمه كانت عاقراً مثل سارة ثم جاء ملاك الرب (كما في قصة إبراهيم أيضاً)، فعرف أبواه قبل ولادته أنه سيصبح من المنذورين أي شخصاً يُكرس حياته للعبادة وينذرها للرب، فيمتنع عن شرب الخمر أو حلق رأسه أو لمس جلد ميت. وقد اشتهر شمشون بقوته الجسدية الخارقة.
وقد ذكرنا قصته بالتفصيل وما تحويه من الدلالات في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.
([19])الحضارة العربية، ص325.
([20])الحضارة العربية، ص326.
([21])الحضارة العربية، ص396.
([22]) الهرطقة مصطلح كنسي يشير إلى رأي، أو فكرة مبتدعة، تتعارض مع معتقدات الكنيسة، أو النظام المرتبط بها. وقد كانت الكنيسة في وقت من الأوقات تعاقب المهرطقين بالنفي والتعذيب أو حتى بالموت.. وتقوم الكنائس الآن أحيانًا بطرد المهرطقين. (الموسوعة العربية العالمية)
([23])ومبرر هذه المحاكم هو أن تعاليم الكنيسة كانت تعد أساسًا للقانون والنظام ابتداءً من عهد حكم الإمبراطور الروماني قسطنطين، من عام 306م إلى عام 337م.. ولذلك كان الخروج على تعاليم الكنيسة جريمة ضد الدولة، وحاول الحكام المدنيون لمئات من السنين استئصال الهرطقة.
وخلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين ثارت جماعات معينة من الرومان الكاثوليك ضد كنيستهم. وبعد أن رفض بعض الحكام المدنيين أو عجزوا عن معاقبة المهرطقين، تولت الكنيسة هذه المهمة.
في عام 1231م، أنشأ البابا جريجوري التاسع محكمة خاصة للتحقيق مع المتهمين، وإجبار المارقين على تغيير معتقداتهم. وفي عام 1542م، تولت لجنة الكرادلة التابعة للمكتب البابوي عملية التحقيق. وعمل رهبان من الدومينيكان والفرنسيسكان قضاة في تلك الهيئات.
وقد كثرت محاكم التفتيش في فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وأسبانيا. ونظرًا لأن المحققين كانوا يقومون بأعمالهم سرًا فكثيرًا ما أساءوا استخدام سلطاتهم وعُذّب بعض المتهمين، وحُكم على المارقين الذين رفضوا تغيير معتقداتهم بالموت حرقًا. وفي القرن السادس عشر الميلادي حوّل قادة الكاثوليك نشاط محاكم التفتيش لأنصار المذهب البروتستانتي.
يدين أتباع الكاثوليكية حاليًا محاكم التفتيش لأنها انتهكت قواعد العدالة الحديثة. ولكن لم ينتقد إلا عدد قليل من الناس أساليب محاكم التفتيش أثناء فترة القرون الوسطى. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)
وقد ذكر الأستاذ الإمام محمد عبده في كتاب (الإسلام والنصرانية ): أن الكنيسة الأسبانية غضبت لانتشار فلسفة ابن رشد وأفكاره، وخصوصًا بين اليهود، فصبت جام غضبها على اليهود والمسلمين معًا، فحكمت بطرد كل يهودي لا يقبل المعمودية، وأباحت له أن يبيع من العقار والمنقول ما يشاء بشرط ألا يأخذ معه ذهبًا ولا فضة، وإنما يأخذ الأثمان عروضًا وحوالات. وهكذا خرج اليهود من أسبانيا تاركين أملاكهم لينجوا بأرواحهم، وربما اغتالهم الجوع ومشقة السفر، مع العدم والفقر.
وحكمت الكنيسة كذلك سنة 1052م على المسلمين (أعداء الله !) بطردهم من إشبيلية وما حولها إذا لم يقبلوا المعمودية، بشرط ألا يذهبوا في طريق يؤدي إلى بلاد إسلامية ومن خالف ذلك فجزاؤه القتل. (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ص36 – 37 -الطبعة الثامنة).
ولم يكن اضطهادها موجهًا إلى الوثنيين والمخالفين في الدين فحسب بل موجهًا إلى المسيحيين الذين لهم رأي أو مذهب يخالف مذهب الحكام، أو مذهب الكنيسة المعتمدة لديهم.
والذين قرأوا تاريخ المسيحية يعرفون ماذا جرى للعالم المصري (آريوس) وأتباعه الذين عارضوا القول بألوهية المسيح، في مجمع نيقية المشهور (325م) وكيف قرر هذا المجمع ـ بعد أن طرد من أعضائه كل المعارضين ـ وهم الأكثرية ـ إدانة (آريوس) وإحراق كتاباته، وتحريم اقتنائها، وعزل أنصاره من كل الوظائف، ونفيهم، والحكم بالإعدام على كل من أخفى شيئًا من كتابات (آريوس) ومن أيَّد مذهبه.
وباستمرار الاضطهاد للداعين إلى التوحيد اختفوا تمامًا من المجتمعات المسيحية، ولم يبق لدعوتهم أثر.
ولما ظهر مذهب البروتستانت في أوروبا ـ على يد (لوثر) وغيره ـ قاومت الكنيسة الكاثوليكية أتباع هذا المذهب بكل ما أوتيت من قوة، وعرف تاريخ الاضطهاد مذابح بشرية رهيبة، من أهمها مذبحة باريس (في 24 أغسطس عام 1572م) التي دعا فيها الكاثوليك البروتستانت ضيوفًا عليهم في باريس للبحث في تسوية تقرب بين وجهات النظر، فما كان من المضيفين إلا أن سطوا على ضيوفهم تحت جنح الليل، فقتلوهم خيانة وهم نيام ! فلما طلع الصباح على باريس كانت شوارعها تجري بدماء هؤلاء الضحايا ! وانهالت التهاني على (تشارلس التاسع) بغير حساب من البابا، ومن ملوك الكاثوليك وعظمائهم.
والعجيب أن البروتستانت لما قويت شوكتهم، قاموا بدور القسوة نفسه مع الكاثوليك، ولم يكونوا أقل وحشية منهم. (انظر (المسيحية) للدكتور أحمد شلبي ص51 – 52).
لقد قال (لوثر) لأتباعه: (من استطاع منكم فليقتل، فليخنق، فليذبح، سرًا أو علانية، اقتلوا واخنقوا، واذبحوا، ما طاب لكم، هؤلاء الفلاحين الثائرين) (الأيديولوجية الانقلابية ص710).
ويذكر (فيدهام) أن هذه الحروب كانت مليئة بالفظائع: لأن رجال اللاهوت (الطيبين) كانوا مستعدين دائمًا أن يضعوا الزيت على النار، وأن يحيوا وحشية الجنود عندما يساورهم أي تردد أو ضعف، فقد يكون الجنود قساة، ولكنهم كانوا يميلون في بعض الأحيان إلى الرحمة، أما رجال اللاهوت فاعتبروا الاعتدال والرحمة نوعًا من الخيانة! (الأيديولوجية الانقلابية ص716)
([24])مما جاء فى المعاهدة:(.. تأمين الصغير والكبير فى النفس والأهل والمال إبقاء الناس فى أماكنهم ودورهم ورباعهم وإقامة شريعتهم على ما كانت، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كما كانت، وألا يدخل نصرانى دار المسلم، ولا يغصبوا أحدا وألا يؤخذ أحد بذنب غيره، وألا يكزه من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم، ولا ينظر نصرانى على دور المسلمين، ولا يدخل مسجدا من مساجدهم، ويسير فى بلاد النصارى أمنا فى نفسه وماله، ولا يمنع مؤذن ولا مصلى ولا صائم ولا غيره فى أمور دينه)، ومع قسم فرديناند وإيزابيلا على كل هذا إلا أن الأيمان والعهود لم تكن عند ملكى النصارى سوى ستار للغدر والخيانة، وقد نقضت كل هذه الشروط ولم يتردد المؤرخ الغربى(بروسكوت) أن يصفها بأنها أفضل مادة لتقدير الغدر الإسبانى، فنقض الإسبان هذه المعاهدة بندا بندا، فمنعو المسلمين من النطق بالعربية فى الأندلس، وفرضوا إجلاء المسلمسن الموجودين فيها وحرق ما بقى منهم، وزاد الكردينال (أكزيمينيس) على ذلك، فأمر بجمع كل ما يستطيع من كتب المسلمين وفيها من العلوم ما لا يقدر بثمن بل هى خلاصة ما تبقى من الفكر الإنسانى وأحرقها، يقول غوستاف لوبون متحسرا على فعلة أكزيمينيس:( ظن رئيس الأساقفة أكزيمينيس أنه بحرقه مؤخرا ما قدر على جمعه من كتب أعدائه العرب (أى ثمانين ألف كتاب) محا ذكراهم من الأندلس إلى الأبد فما درى أن ما تركه العرب من الأثار التى تملأ بلاد اسيانية يكفى لتخليد اسمهم إلى الأبد)
([25])ولد (برتولومي دي لاس كازاس) عام 1474 م في قشتالة الأسبانية، من أسرة اشتهرت بالتجارة البحرية. وكان والده قد رافق كولومبوس في رحلته الثانية إلى العالم الجديد عام 1493 م أي في السنة التالية لسقوط غرناطة وسقوط الأقنعة عن وجوه الملوك الأسبان والكنيسة الغربية. ثم عاد أبوه مع كولومبوس بصحبة عبد هندي فتعرف برتولومي على هذا العبد القادم من بلاد الهند الجديدة. بذلك بدأت قصته مع بلاد الهند وأهلها وهو ما يزال صبيا في قشتاله يشاهد ما يرتكبه الأسبان من فضائع بالمسلمين وما يريقونه من دمهم وإنسانيتهم في العالم الجديد. لقد جرى كل الدمين بالخبر اليقين أمام عيني هذا الراهب الثائر على أخلاق أمته ورجال كنيستها، وبعثات تبشيرها : دم المسلمين ودم الهنود، سكان القارة الأمريكية.
([26]) هذا الكتاب من تأليف المطران برتولومي دي لاس كازاس. ترجمة سميرة عزمي الزين. من منشورات المعهد الدولي للدراسات الإنسانية.
ومما يدل على أهمية الكتاب ما قاله المؤرخ الفرنسي الشهير (مارسيل باتييون) عن مؤلف الكتاب (برتولومي دي لاس كازاس): إنه أهم شخصية في تاريخ القارة الأمريكية بعد مكتشفها (كر يستوف كولومبوس) وأنه ربما كان الشخصية التاريخية التي تستأهل الاهتمام في عصر اجتياح المسيحيين الأسبان لهذه البلاد.. ولولا هذا المطران الكاهن الثائر على مسيحية عصره وما ارتكبه من فظائع ومذابح في القارة الأمريكية لضاع جزء كبير من تاريخ البشرية.. فإذا كان كولومبوس قد اكتشف لنا القارة، فان برتولومي هو الشاهد الوحيد الباقي على أنه كانت في هذه القارة عشرات الملايين من البشر الذين أفناهم الغزاة بوحشية لا يستطيع أن يقف أمامها لا مستنكرا لها، شاكا في إنسانية البشر الذين ارتكبوها)
([27])استفدنا الكثير من المعلومات الواردة في هذا المطلب من كتاب (العولمة) للدكتور: صالح الرقب- الجامعة الإسلامية، الطبعة الأولى:1423هـ-2003، بالإضافة إلى مصادر الأخرى..
([28])العولمة: الكلمة بهذه الصيغة الصرفية لم ترد في كلام العرب، وهي تدل على تحويل الشيء إلى وضعية أخرى، ومعناها: وضع الشيء على مستوى العالم، وقد قرر مجمع اللغة العربية بالقاهرة إجازة استعمال العولمة بمعنى جعل الشيء عالمياً.
وهي في أصلها ترجمة لكلمةMondialisation الفرنسية، بمعنى جعل الشيء على مستوى عالمي، والكلمة الفرنسية المذكورة إنّما هي ترجمة) Globalisation الإنجليزية التي ظهرت أولاً في الولايات المتحدة الأمريكية، بمعنى تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل الكل. فهي إذا مصطلح يعني جعل العالم عالمًا واحدًا، موجهًا توجيهًا واحدًا في إطار حضارة واحدة، ولذلك قد تسمى الكونية أو الكوكبة.
ومن خلال المعنى اللغوي نعرف أن العولمة إذا صدرت من بلد أو جماعة فإنها تعني: تعميم نمط من الأنماط التي تخص ذلك البلد أو تلك الجماعة، وجعله يشمل الجميع أي العالم كله.
وقد جاء في المعجم العالم الجديد ويبستر أنّ العولمة Globalisation هي: إكسابُ الشيء طابعَ العالمية،وبخاصة جعل نطاق الشيء، أو تطبيقه عالمياً.
وقد أطلق على العولمة بعض الكتاب والمفكرين النظام العالمي الجديد New World Order- وهذا المصطلح استخدمه الرئيس الأمريكي جورج بوش- الأب- في خطاب وجهه للأمة الأمريكية بمناسبة إرساله القوات الأمريكية إلى الخليج (بعد أسبوع واحد من نشوب الأزمة في أغسطس 1990م) وفي معرض حديثه عن هذا القرار، تحدّث عن فكرة :عصر جديد، وحقبة للحرية، وزمن للسلام لكل الشعوب. وبعد ذلك بأقل من شهر أشار إلى إقامة (نظام عالمي جديد) يكون متحرراً من الإرهاب، وأكثر أمنا في طلب السلام، عصر تستطيع فيه كل أمم العالم أن تنعم بالرخاء وتعيش في تناغم.
وربّما يوحي هذا الإطلاق- النظام العالمي الجديد- بأن اللفظة ذات مضامين سياسية بحتة، ولكن في الحقيقة تشمل مضامين سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وتربوية، بمعنى آخر تشمل مضامين تتعلق بكل جوانب الحياة الإنسانية.
ومن أحسان تعاريف العولمة هو أنها (منظومة من المبادئ السياسية والاقتصادية، ومن المفاهيم الاجتماعية والثقافية، ومن الأنظمة الإعلامية والمعلوماتية، ومن أنماط السلوك ومناهج الحياة، يُراد بها إكراه العالم كلِّه على الاندماج فيها، وتبنّيها، والعمل بها، والعيش في إطارها)
([29]) يذكر الباحثون أن هناك أربعة عناصر أساسية أدت إلى بروز العولمة.. أولها تحرير التجارة الدولية.. حيث حصل في هذا العصر.. وفي هذه الفترة بالذات تكامل الاقتصاديات المتقدمة والنامية في سوق عالمية واحدة، مفتوحة لكافة القوى الاقتصادية في العالم وخاضعة لمبدأ التنافس الحر.
وثانيها تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة.. حيث حدثت تطورات هامة خلال السنوات الأخيرة تمثلت في ظهور أدوات ومنتجات مالية مستحدثة ومتعددة، إضافة إلى أنظمة الحاسب الآلي ووسائل الاتصال والتي كفلت سرعة انتشار هذه المنتجات،وتحوّلت أنشطة البنوك التقليدية إلى بنوك شاملة، تعتمد إلى حد كبير على إيراداتها من العمولات المكتسبة من الصفقات الاستثمارية من خارج موازنتها.
وثالثها الثورة المعرفية، وتتمثًل في التقدم العلمي والتكنولوجي،وهو ميزة بارزة للعصر الراهن،وهذا التقدم العلمي جعل العالم أكثر اندماجاً، كما سهّل حركة الأموال والسلع والخدمات،وإلى حد ما حركة الأفراد، ومن ثمّ برزت ظاهرة العولمة، والجدير بالذكر أنّ صناعة تقنية المعلومات تترّكز في عدد محدود، ومن الدول المتقدمة أو الصناعية دون غيرها.
ورابعها تعاظم دور الشركات متعددة الجنسيات: هذا العصر بأنّه عصر العولمة فمن الأصح وصفه بأنه عصر الشركات متعددة الجنسيات باعتبارها العامل الأهم لهذه العولمة.ويرجع تأثير هذه الشركات كقوة كبرى مؤثرة وراء التحولات في النشاط الاقتصادي العالمي.
.
([30]) مرتضى مطهّري (1920 – 1979) عالم وفيلسوف إسلامي، العضو المؤسس في شورى الثورة الإسلامية في إيران إبان الأيام الأخيرة من سقوط نظام الشاه، ومن المنظرین جمهوریة الإسلامیة الإیرانیة.. صاحب المؤلفات التأصيلية والعقائدية والفلسفية الإسلامية، وأحد أبرز تلامذة المفسر والفيلسوف الإسلامي محمد حسين الطباطبائي وروح الله الخمینی.
([31]) رواه البخاري ومسلم بألفاظ مختلفة.
([32]) رواه ابن ماجة.
([33]) استفدنا الكثير من المادة العلمية في هذا المطلب من مقال مهم للسيد أحمد إدريس المشهداني بعنوان (مفهوم التسامح بين الإسلام والغرب)
([34]) رواه أبو داود.
([35])رواه مسلم.
([36]) استفدنا هنا من مقال مهم بعنوان: العولمة والعالمية في ضوء سنن الله الكونية، إبراهيم شوقار، مجلة التجديد / الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، السنة السابعة / جمادى الآخرة 1424هـ العدد الرابع عشر.
([37])هو صامويل فلبس هنتنجتون (Samuel Phillips Huntington) (ولد 18 أبريل 1927) أستاذ علوم سياسية اشتهر بتحليله للعلاقة بين العسكر والحكومة المدنية، وبحوثه في انقلابات الدول، ثم أطروحته بأن اللاعبين السياسيين المركزيين في القرن الحادي والعشرين سيكونوا الحضارات وليس الدول القومية. مؤخراً استحوذ على الانتباه لتحليله للمخاطر على الولايات المتحدة التي تشكلها الهجرة المعاصرة. وهو أستاذ بجامعة هارفارد. برز اسم هنتنجتون أول مرة في الستينات بنشره بحث بعنوان (النظام السياسي في مجتمعات متغيرة)، وهو العمل الذي تحدى النظرة التقليدية لمنظري التحديث والتي كانت تقول بأن التقدم الإقتصادي و الإجتماعي سيؤدوا إلى قيام ديمقراطيات مستقرة في المستعمرات حديثة الإستقلال.
في 1993، هنتنجتون أشعل نقاشاً مستعراً حول العالم في العلاقات الدولية بنشره في مجلة فورين أفيرز (العلاقات الخارجية) مقالاً شديد الأهمية والتأثير بعنوان (صراع الحضارات) وهذه المقالة تناقضت مع نظرية سياسية أخرى متعلقة بديناميكية السياسة الجغرافية بعد الحرب الباردة لصاحبها فرانسيس فوكوياما في كتابة (نهاية التاريخ) لاحقاً قام هنتنگتون بتوسيع مقالته إلى كتاب، صدر في 1996، بعنوان (صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي) المقالة والكتاب عرضا وجهة نظره أن صراعات ما بعد الحرب الباردة ستحدث أكثر وأعنف مايكون على أسس ثقافية (غالباً حضارية، مثل الحضارات الغربية، الإسلامية، الصينية، الهندوكية..) بدلاً من الأسس العقائدية كما كان الحال خلال الحرب الباردة ومعظم القرن العشرين. هذا التصنيف الثقافي سيصف العالم بطريقة أفضل من النظرة التقليدية للدول المختلفة ذات السيادة.
وخلص إلى القول بأنه لكي نفهم النزاع في عصرنا وفي المستقبل، الخلافات الثقافية يجب أن تُفهم، والثقافة (بدلاً من الدولة) يجب أن يتم القبول بها كطرف وموقع للحروب.. لذلك فقد حذر أن الأمم الغربية قد تفقد زعامتها إذا فشلت في فهم الضبيعة غير القابلة للتوفيق للإحتقانات المتنامية حالياً (انظر: الموسوعة الحرة)
([38])تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق،ص125.
([39]) تحدثنا عنها في محال مختلفة من رسائل السلام، وما نذكره هنا مختصر ملخص من رسالة (مفاتيح المدائن)
(1) القرطبي:3/337.
([41]) رواه أحمد.
([42]) رواه أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن حيان في صحيحه، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم أنها نزلت في ذلك، انظر: ابن كثير:1/310.
([43]) غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، يوسف القرضاوي، بتصرف.