ثامنا ـ الصاعد

ثامنا ـ الصاعد

قلت: عرفت السر السابع من أسرار الإنسان.. فما السر الثامن؟

قال: هو الصعود.. فكما أن الإنسان يمكن أن ينزل إلى الهاوية.. فإن الله تعالى برحمته وحكمته ولطفه وهبه القدرة على الترقي والترفع والصعود.

قلت: إلى أين؟

قال: إلى جميع الكمالات التي تحملها بذرة ذاته.. لقد خلق الله ذات الإنسان في أحسن تقويم.. وخلق لها القدرة على الترقي في ذلك التقويم الحسن الذي جبلها عليه.

قلت: فكيف اهتديت إلى هذا السر؟

قال: بعد أن امتلأت هما نتيجة ما رأيت من انحدار الإنسان وسقوطه، سرت في تلك المدينة العجيبة ـ التي فتح الله لي فيها من علوم الإنسان ما كان منغلقا ـ إلى البرية.. وكأني أفر من هذا الإنسان الذي لا يعرف إلا الانحدار..

وبينما أنا أسير لا أدري إلى أين رأيت شابا لم يتجاوز المراهقة إلا قليلا، أو لعله لا يزال مراهقا.. فقلت في نفسي: ويل لهذا الشاب المسكين.. وماذا ينتظره من جحيم هذه الحياة وحفرها.. ما أصعب أن ينجو الإنسان في هذا العالم..

ما قلت ذلك، حتى قصدني الشاب، وسلم علي بأدب، وقال: أرى ـ يا عم ـ أنك قد تهت عن طريق الجبل.. الطريق ليست من هنا.

قلت مستغربا: أي جبل؟.. أنا أسير فقط.. لست قاصدا أي جبل.

قال: عجيب ما أرى.. كيف تترك الجبل.. وتهيم على نفسك في هذه البراري التي لا تورثك إلا الغفلة.

قلت: لم أفهم ما تقصد.

قال: عمر الإنسان أضيق من أن يمضيه في السير الأفقي..

قلت: لم أفهم.. ما الذي ترمي إليه..

قال: لقد خلقنا الله لنسير السير العمودي، لا السير الأفقي.

قلت: وضح يا فتي.. فأنا لا علاقة لي بالهندسة..

قال: سأبدأ لك من الأول.. أجبني.. ما الذي قال الله لآدم وزوجه عندما أخرجهما من الجنة؟

قلت: لقد قال الله لهما ـ كما نص القرآن الكريم ـ :{ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } (طـه:123)

قال: فعندما هبط آدم.. ما الذي كان يشغل باله؟

قلت: لقد تعب آدم بعد هبوطه.. فبدل أن يأتيه الطعام جاهزا صار يبحث عنه بعناء.. وبعد أن كان يعيش في أجواء الجنة الصحية صار يعيش في أجواء الأرض التي تزرع فيه جميع الآلام.. لكن ذرية آدم تغلبوا بعد ذلك على كل تلك الصعاب بما أنتجوه من حضارة.

قال: همة دنية هي تلك التي تتحدث عنها.. وآدم أرفع شأنا من أن يفكر مثل هذا التفكير.

قلت: فأخبرني ما الذي كان يفكر فيه آدم حين هبط؟

قال: كان يفكر في الصعود.. من عوقب بالهبوط فإنه لا يحن إلا إلى الصعود.

قلت: صدقت.. ولكن إلى أين يصعد؟

قال: إلى المحل الرفيع الذي نزل منه.

قلت: الجنة.

قال: الجنة بجميع معانيها.. فالجنة ليست مطعما ولا فندقا فقط.

قلت: أهناك جنة أخرى غير جنة المطاعم والفنادق؟

قال: لن تظفر بجنة المطاعم والفنادق حتى تظفر بجنان كثيرة.. فلن يدخل جنة الآخرة من لم يدخل جنة الدنيا.

قلت: أهناك جنان في الدنيا؟

قال: أجل.. وأحمق هو من لم يفكر في الصعود إليها.

قلت: صدقت.. أحمق من لا يفكر في الصعود إلى الجنان.

قال: فهيا إذن إلى الجبل..

قلت: أراك تعود كل حين إلى الجبل.. فما شأنه؟

قال: لا يمكن أن تظفر بجنان الدنيا التي تؤهلك لجنان الآخرة إلا بعد أن ترقى هذا الجبل..

نظرت إلى الشاب، فوجدت فيه ما تعودت أن أجده في الورثة.. لقد كانت سيما محمد الوارث([1]) تبدو على ملامح وجهه.. فسألته: من أنت يا فتى.. ألست من الورثة؟

قال: أنا محمد.. وليس لي من هم في حياتي إلا البحث عن الورثة.. أو الدلالة على الورثة.

قلت: فأي سر للإنسان أجده عندك؟

قال: سر الصعود.. والترفع.. والعروج.

قلت: أيمكن أن نعرج؟

قال: كما يمكن أن نهبط يمكن أن نعرج.

قلت: أنا لا أراك إلا شابا مراهقا، وعهدي بالشباب والمراهقين عدم انشغالهم  بمثل هذه الأمور.. فهذه الأمور عندنا لا ينشغل بها إلا الكبار.

قال: إن لم أصعد الجبل وأنا في كامل قواي.. فمتى أصعده؟

قلت: عدت بنا إلى الجبل.

قال: لا يمكن أن تعرفه.. ولا أن تسير إليه.. ولا أن تتأدب بين يديه إلا إذا سرت في ذلك الجبل.

قلت: لقد ملأتني أشواقا إليه.. فهلم بنا إليه.

ظهر فرح عظيم على وجه الشاب.. ثم أخذ بيدي.. ولم نسر إلا قليلا حتى بدا لنا جبل في منتهى الجمال.. وكأن فنانا نابغة هو الذي صممه.

لقد كان بشكل طبقات مختلفة.. كل طبقة هي جنة من الجنان.. يحوي من جميع الثمار والألوان.

وقد عجبت إذ رأيت المياه تصعد إليه بقوة، فقلت للشاب: لكأني أرى بعيني حدائق بابل المعلقة([2]).. كيف تصعد المياه إلى هذا الجبل من غير مضخات.

قال: هناك مضخات أنت لا تراها.. هم يسمونها مضخات البركات.. وهي التي أشار إليها قوله تعالى :{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (لأعراف:96)

قلت: فكل أهل هذا الجبل من المؤمنين الأتقياء..

قال: لا يمكن أن يفكر في الصعود إلى هذا الجبل إلا المؤمنون الأتقياء.

قلت: لو أن قومي سمعوا به لهرعوا إليه.. ولتركوا تلك الجبال الكثيرة التي لا تمتلئ إلا بالصخور والجليد.

ثم التفت إليه، وقلت: كيف لم تلتفت الوكالات السياحية إلى هذا الجبل العجيب؟

قال: لقد سأل هذ الجبل ربه ألا يراه إلا المؤمنون.. وألاّ يسير عليه إلا المتقون.. ولذلك فقد حجب عن أنظار الغافلين.. ولهذا لا يمكن أن يعرفه أحد أو يهتم به إلا إذا فكر في السير إلى مولاه.

قلت: فهلم بنا نسير إليه.

قال: لا يصح أن تسير فيه قبل أن تعرف طبقاته.. ثم تحدد لنفسك الطبقة التي تتناسب معها.

قلت: ألكل طبقة أهلها؟

قال: أجل.. ألا ترى أن في كل طبقة بساتين تختلف عن الطبقة الأخرى؟

نظرت إلى الطبقات المختلفة.. فرأيتها كما وصف الشاب.. فقلت: إن هذا عجيب.. لم كان الأمر كذلك؟

قال: أنت تعلم أن الله خلق الإنسان من تربة مختلفة متنوعة.

قلت: ذلك صحيح.. وقد ورد في الحديث الإشارة إلى ذلك.

قال: فلذلك.. فإن همم الناس مختلفة.. والله تعالى هو الواسع.. ويمكن لكل تربة أن تسير إليه بحسبها.. فلا يصح أن نعبد الله ونحن خارجون عن طبيعتنا.

قلت: إن كان الأمر كذلك.. فحدثني عن كل طبقة.. وأنا سأختار ما يناسبني منها.

قال: أما الطبقة الأولى فللعلماء.

قلت: علماء الفيزياء، أم علماء الكيمياء؟

قال: جميع العلماء.. وجميع العلوم يمكنها أن تلج هذا الباب.. وأن تسكن هذه الطبقة بشرط واحد هو أن تعرف غاية غايات العلوم..

قلت: فما غاية غاياتها؟

قال: الله.. فلا يصح أن يسير أحد في هذا الجبل وهو لا يقصد الله.

قلت: فلم كان هؤلاء في أسفل الجبل.. ألم يكن الأولى بهم أن يكونوا في أعلاه؟

قال: لقد كانوا كذلك.. ولكنهم آثروا أن ينزلوا إلى أسفله لأنه لا يصح لأحد أن يسير في هذا الجبل دون أن يمر عليهم، ويتتلمذ على أيديهم.. فلا يصح لمن لم ينضبط بضوابط العلم أن يسير في هذا السبيل.. فالله لا يعبد بالجهل.

قلت: فما الطبقة التالية؟

قال: طبقة العباد..

قلت: فلم كانوا في هذه الطبقة؟

قال: من علم حقيقة العلم كان أول ما يخطر على باله عبادة ربه والسلوك إليه.

قلت: فما الطبقة التي تليها؟

قال: طبقة المتقين..

قلت: من المتقون؟

قال: هم أهل الورع..

قلت: أهم الذين يتحرون الحلال؟

قال: هم الذين ملأ خوف غضب الله قلوبهم.. فلذلك تجدهم يتورعون عن كل فتنة.. ويتهربون من كل شبهة.

قلت: فما الطبقة التي تليها؟

قال: طبقة الزهاد..

قلت: أعرفهم.. أولئك الذين رغبوا عن الدنيا التي رغب الناس فيها.

قال: هم رغبوا عن كل ما يحجبهم عن مولاهم.. سواء كان من الدنيا أو من غيرها.

قلت: فما الطبقة التي تليها؟

قال: طبقة الفتيان..

قلت: عجيب هذا.. وما علاقة أهل الفتوة بالسلوك؟

قال: أهل الفتوة هم الذين يسلكون إلى الله عبر الإحسان والمروءة وخدمة خلق الله.

قلت: فلم كانت لهم هذه المرتبة الرفيعة؟

قال: لأن الله برحمته ولطفه بهم جازاهم على إحسانهم للعباد بتلك المكانة.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (أنا وكافل اليتيم كهاتين فى الجنة) ، وأشار بالسبابة والوسطى ، وفرق بينهما قليلا([3]).

قلت: بلى..

قال: فهذا يدلك على مكانتهم.. فلا يمكن أن يعرف الله من لم يحسن إلى عباد الله.

قلت: فما الطبقة التي تليها؟

قال: المجاهدون في سبيل الله.

قلت: أولئك الذين يحملون السلاح.

قال: كل الأسلحة.. وأولها سلاح السلام.. فلا يمكن أن ينصر الله أحدا لم يحمل سلاح السلام.

قلت: أنا لا أعرف إلا السلاح الذي ينفث الرصاص القاتل.

قال: فأنت لا تعرف إذن قوله تعالى :{ فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } (الفرقان:52)

قلت: بأي سلاح أمر الله نبيه أن يجاهد؟

قال: بسلاح القرآن.. فليس في الدنيا سلاح يقهر عتو النفس وطغيانها ويقوم النفس ويرفعها مثل القرآن.

قلت: فما الفرق بين هؤلاء وبين الفتيان؟

قال: الفتيان يحسنون إلى الأجساد برعايتها وحفظها.. والمجاهدون يحسنون إلى الأرواح بدعوتها إلى الله وحفظها من المستبدين الذين يحولون بينها وبينه.

قلت: فما الطبقة التالية؟

قال: طبقة الصديقين.

قلت: فمن الصديقون؟

قال: العارفون.

قلت: ألم نمر عليهم في طبقة العلماء؟

قال: العلماء سائرون.. والعارفون واصلون..

قلت: فما الطبقة التي تليها؟

قال: ليس هناك طبقة تليها.. ألم تسمع قوله تعالى :{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} (النساء:69)؟

قلت: بلى.. فما فيها من العلم؟

قال: إلا ترى كيف جعل الله أول مرتبة تلي النبيين هي مرتبة الصديقين؟

قلت: بلى.. فلم كان الأمر كذلك؟

قال: لأن :{  إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)(لنجم:42).. وليس هناك غاية بعد غايات العارفين الصديقين.

قلت: لقد شوقتني إلى الصعود.. فهلم بنا نصعد.

قال: إلى أي طبقة؟

قلت: إلى علياها.. فلا يمكنني أن أرضى بأدناها، وأنا أستطيع أن أسير إلى أعلاها.

قال: إن كانت همتك كذلك.. فاحذر من الوقوف في أي طبقة.. فلا يمكن أن يصل أحد في هذا الطريق إلا ببذل نفسه في الصعود..

1 ـ العلماء

في سفح الجبل.. كانت هناك جنان كثيرة ممتلئة بأصناف الثمار.. وكان سكان هذه الطبقة لا يتركون شيئا إلا اهتموا به وفحصوه ودرسوه..

مررت عليهم، فلم يلتفت لي أحد منهم، فقد كان الكل مشغولا..

لكن حلقة اجتمع فيها نفر يظهر على سيماهم أنهم من طلبة العلم شدت انتباهي.. فرحت مع صاحبي الشاب محمد إليها.. وانضممنا إلى الجلوس..

فوجدنا شيخها كالشمس تلتف به هالة تلاميذه.. أخبرني محمد أن شيخها من قنوج بالهند.. وأنه رجل من العلماء الصالحين.. وأن اسمه الذي يعرفه الناس به في هذه الطبقة هو (صديق حسن خان)([4]

بدأ الشيخ حديثه كعادة علماء المسلمين وفضلائهم بحمد الله.. وكان حمده لله متناسبا مع وظيفته ومع طبقته..  لقد قال : الحمد لله الذي له الأسماء الحسنى، فاوت بحكمته بين المخلوقات، ورفع أهل العلم أعلى الدرجات، فقال :{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (المجادلة:11)

الحمد لله الذي جعل العلم ضياءً والقرآن نوراً، ورفع الذين أوتوا العلم درجات عليّة، وكان ذلك في الكتاب مسطوراً، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، وكفى بربك هادياً ونصيراً، نحمده تعالى حمداً كثيراً، ونشكره عز وجل وهو القائل :{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } (الإنسان:3)

الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، أحمده سبحانه وأشكره، رفع منار العلم وأشاد بالعلماء والمتعلمين.

ثم أعقب حمده هذا بدعائه، فقال: اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها.. لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، نستغفرك لذنوبنا، ونسألك رحمةً، اللهم زدنا علماً، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب.. اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً، الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار.. اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ورزقاً طيباً.. اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل.

أما بعد.. أيها الطلبة الطيبون.. لقد اختاركم الله لأشرف الأعمال وأجلها.. فأنتم طلبة العلم الذين وردت الأخبار الكثيرة في فضلهم.. أنتم الذين قال فيهم ربنا :{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ } (العنكبوت: 49)

وأنتم الذين قال فيهم ربنا :{ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (الأنعام: 97)

وأنتم الذين قال فيهم ربنا :{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:18). فشهد الله بنفسه على وحدانيته، وثنى بخيار خلقه، فذكر الملائكة أولا، والعلماء ثانيا، وفي هذا من التكريم والتشريف ما لا يعدله شيء.

وأنتم الذين قال فيهم ربنا :{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (المجادلة:11).. وهذا من باب ذكر الخاص بعد العام تنبيها على أهميته، فقد ذكر أهل العلم ضمن المؤمنين أولا، ثم أفردوا بالذكر، إشارة إلى عظيم فضلهم، وعلو مرتبتهم.

وأنتم الذين قال فيهم ربنا :{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } (فاطر:28) أي العالمين بالله عز وجل الذين قدروا الله حق قدره.

وأنتم الذين قال فيهم ربنا :{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر:9) فمن يتعلم ويعلم العلم الذي يقرب من الله والدار الآخرة لا يستوي هو ومن لا يعلم ذلك العلم.

وأنتم الذين قال فيهم ربنا :{ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سـبأ:6)

وأنتم الذين قال فيهم ربنا :{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(المجادلة:11)

وأنتم الذين قال فيهم نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وآله وسلم : (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)([5]

وقال: ( إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين وألهمه رشده)([6])  

وقال: ( أفضل العبادات الفقه، وأفضل الدين الورع)([7])  

وقال: (فضل العلم خير من فضل العبادة وخير دينكم الورع)([8])  

وقال: (قليل العلم خير من كثير العبادة وكفى بالمرء فقها إذا عبد الله وكفى بالمرء جهلا إذا عجب برأيه)([9])  

وقال: ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة)([10])  

وقال: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)([11])  

وقال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب)([12])  

وقال: (من جاء أجله وهو يطلب العلم لقي الله لم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة النبوة)([13])  

وقال: (لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله تعالى خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عملت به أو لم تعمل به خير لك من أن تصلي ألف ركعة)([14])  

وقال: ( العلم علمان : علم في القلب فذلك العلم النافع، وعلم في اللسان وذلك حجة الله على ابن آدم)([15])  

وقال: (إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله عز وجل)([16])  

وقال:( تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة لانه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة قائمة تقتص آثارهم ويقتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء)([17])

قام بعض الطلبة، وقال: لقد حدثتنا ـ شيخنا ـ عن العلم، ورغبتنا فيه.. ولكنا نجد من الكسالى المقعدين من يرضى من العلم بتكريره.. ولا نراه يحرص على العمل.. وليته يكتفي بذلك.. بل إنه لا يطلب العلم إلا لينال به من الشهرة والجال والمال والدنيا ما لا يناله أهل الدنيا أنفسهم.

قال الشيخ: فرتل على هؤلاء قوله تعالى :{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} (الأعراف)

ورتل عليهم قوله تعالى :{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (الجمعة:5)

وحدثهم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة، رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فماذا عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت، قال : كذبت، ولكنك قاتلت ليقال : جرئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال : كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأة القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، قال : فما عملت فيها قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار)([18]

وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 أفضل العلم العلم بالله، قليل العمل ينفع مع العلم، وكثير العمل لا ينفع مع الجهل)([19]

وبقوله:( العلماء ثلاثة : رجل عاش به الناس وعاش بعلمه، ورجل عاش به الناس وأهلك نفسه، ورجل عاش بعلمه ولم يعش به أحد غيره)([20])  

وبقوله:( إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة([21]) بالله)([22])  

وبقوله:( ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه ؟ من لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤيسهم من روح الله، ولا يؤمنهم مكر الله، ولا يدع القرآن رغبة إلى ما سواه، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه، ولا في علم ليس فيه تدبر)([23]

وبقوله:( العلم حياة الإسلام، وعماد الايمان، ومن علم علما أنمى الله له أجره إلى يوم القيامة، ومن تعلم علما فعمل به كان حقا على الله أن يعلمه ما لم يكن يعلم)([24]

وبقوله:(  العلم خير من العمل، وملاك الدين الورع، والعالم من يعمل بالعلم وإن كان قليلا)([25]

وبقوله:(  العلم علمان : فعلم ثابت في القلب فذاك العلم النافع، وعلم في اللسان فذاك حجة الله على عباده)([26]

وبقوله:( خير الناس أقرؤهم للقران، وأفقهم في دين الله واتقاهم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم)([27]

وبقوله:( من كتب عني علما أو حديثا لم يزل يكتب له الاجر ما بقي ذلك العلم والحديث)([28]

وبقوله:( إذا علم العالم فلم يعمل كان كالمصباح يضئ للناس ويحرق نفسه)([29])

وبقوله:( مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضئ للناس وتحرق نفسها)([30]

وبقوله:( أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه)([31]

وبقوله:( أكثر ما اتخوف على أمتي من بعدي رجل يتأول القرآن يضعه على غير مواضعه، ورجل يرى أنه أحق بهذا الامر من غيره)([32]

وبقوله:( إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)([33]

وبقوله:( إن الله تبارك وتعالى يبغض كل عالم بالدنيا جاهل بالآخرة)([34]

وبقوله:( إن الله تبارك وتعالى يسأل العبد عن فضل علمه كما يسأل عن فضل ماله) ([35])

وبقوله:( إن الله تبارك وتعالى يعافي الاميين يوم القيامة ما يعافي العلماء)([36])  

2 ـ العباد

بعد أن رأيت ما رأيت في جنان العلماء حنت نفسي لأرى جنان العباد.. فطلبت من محمد أن نسير إليها.. فسار بي، وطلب مني أن أتأدب بين أيديهم حتى لا أشغلهم عما هم فيه من ألوان العبادة..

كان أول من استقبلنا شاب يكاد يكون تربا لمحمد.. استقبلنا بقوله: مرحبا بكم في ديار العباد..

قلت: من أنت؟

قال: أنا محمد.. أنا مرشد العباد إلى ديار العُبَّاد.

قلت: مرحبا بك.. فمن العُبَّاد؟

قال([37]): هم من شغلهم تحصيل زادهم عن أهليهم وأولادهم ، ومال بهم ذكر المآل عن المال في معادهم، وصاحت بهم الدنيا فما أجابوا شغلا بمرادهم ، وتوسدوا أحزانهم بدلا عن وسادهم ، واتخذوا الليل مسلكا لجهادهم واجتهادهم ، وحرسوا جوارحهم من النار عن غيهم وفسادهم..

هم الذين حرموا راحة النوم أجفانهم ، ولفوا على الزفرات ضلوعهم.. أقبلت قلوبهم تراعي حق الحق ، فذهلت بذلك عن مناجاة الخلق.. فالأبدان بين أهل الدنيا تسعى ، والقلوب في رياض الملكوت ترعى.. نازلهم الخوف فصاروا والهين، وناجاهم الفكر فعادوا خائفين، وجن عليهم الليل فباتوا ساهرين ، وناداهم منادى الصلاح حى على الفلاح فقاموا متهجدين، وهبت عليهم ريح الأسحار فتيقظوا مستغفرين ، وقطعوا بند المجاهدة فأصبحوا واصلين ، فلما رجعوا وقت الفجر بالأجر نادى الهجر : يا خيبة النائمين.

ثم راح ينشد بصوت عذب:

لله قوم شروا من الله
أنفسهم
  فأتعبوها بذكر الله أزمانا

أما النهار فقد وافوا صيامهم

  وفي الظلام تراهم فيه رهبانا

أبدانهم أتعبت في الله أنفسهم

  وأنفس أتعبت في الله أبدانا

ذابت لحومهم خوف العذاب غدا

  وقطعوا الليل تسبيحا وقرآنا

قلت: فسر بي إليهم.. فما أشوقني إلى النظر إلى من يذكرني مرآه (الله).

سار بي إلى رجل كان وجهه كالشمس في رابعة النهار.. أو كالبدر في اكتماله.. رأيته راكعا خاشعا تقع الطير على ظهره.. فلا يلتفت لها.

سألت عنه، فقال لي: هذا الوارث.. هذا الذي ضبط حركاته بحركات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وضبط حاله حتى صار سنة تمشي..

قلت: فما يفعل؟

قال: هو يحيي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عبادته.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أعظم الناس عبادة([38])..

قلت: ما كان لي أن أتجاوز هذا دون أن أعلم سره.

انتظرت حتى انتهى من صلاته، ورحت أقول له: ما الذي هيجك إلى العبادة؟

فقال، وعيناه تغرورقان بالدموع: حبيبي وأسوتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد رزقني الله محبة عظيمة له.. ولذلك جعلته مثلي الأعلى.. فلم أتحرك حركة إلا ضبطتها بحركاته.. وقد أنالني الله بفضله من لذة ذلك ما لا تعدله أي لذة.

قلت: ألا تحدثك نفسك بالهبوط؟

قال: لقد جاهدتها بأسياف الرياضة حتى لم تعد تستحلي إلا الصعود.

قلت: إن الناس ينظرون إلى أمثالك، فيحزنون.

قال: لو عاينوا ما نحن فيه لجالدونا عليه، ونافسونا فيه.

قلت: لقد حدثتني أن أسوتك هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فحدثني عنه..

قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن يحاط به..

قلت: فحدثني عن عبادته.

قال: لقد وصفه شاعره ابن رواحة، فقال :

وفينا رسول الله يتلو كتابه

  إذا انشق معروف من الفجر ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا

  به موقنات أن ما قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

  إذا استثقلت بالكافرين المضاجع

وحدث عبد الله بن الشخير قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى ، من البكاء.

وعن عبد الله بن مسعود قال: صليّت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوءٍ. قلنا: ما هممت؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه([39]).

وعن حذيفة، قال: صليّت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة. قال: ثُمّ مضى فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوّذ تعوَّذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه([40]).

وعن أبي الدرداء قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره في يوم حار ، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر ، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وابن رواحة.

حدثنا بهذه الأحاديث، ثم استأذننا.. وانصرف لعبادة ربه..

3 ـ المتقون

بعد أن رأيت ما رأيت في جنان العباد حنت نفسي لأرى الطبقة التالية من الجبل.. فطلبت من محمد أن نسير إليها.. فسار بي، وطلب مني أن أتأدب بين أيديهم.. وأخبرني أن طبقتهم هي طبقة المتقين الذين يحاسبون أنفسهم على الأنفاس..

كان أول من استقبلنا شاب يكاد يكون تربا لمحمد.. استقبلنا بقوله: أنا محمد الأمين.. وسأكون دليلكم إلى ديار المتقين.

قلت: فمن المتقون؟

قال: هم الذين جعلوا بينهم وبين غضب الله جدرانا من الورع.. فلا يتحركون إلا بما يقتضيه الشرع.

قلت: فأين أجد علومهم.. وكيف أهتدي بهديهم.. وكيف أسلك سبيلهم؟

قال: أنت الآن في طبقتهم.. فسر، والزم الصمت لتلقن من أفواههم من حكم التقوى ما يرفعك الله به إلى درجات المتقين..

قلت: هل تدلني على شخص أسير إليه، أو علم أهتدي به؟

قال: ليس في أهل هذه الطبقة إلا المتقون، ولا يتحدث أهلها إلا عن التقوى، فسر وأعر سمعك لهم، وكن من { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} (الزمر)

بينما أنا أسير إذ وجدت رجلين يتحدثان..

قال أحدهما([41]) : لقد رغبتني في التقوى، وملأت قلبي شوقا لدرجاتها العالية، فصف لي المتقين كأني أنظر إليهم.

قال الآخر: يا همام؛ اتق الله وأحسن فـ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]

رأيت الرجل الأول لم يقنع بهذا الكلام، وصار يلح عليه، فقال الثاني: إن المتقين هم أهل الفضائل؛ منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع. غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم. نزلت أنفسهم منهم في البلاء، كالتي نزلت في الرخاء.. ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقا إلى الثواب، وخوفا من العقاب.

قال الأول: زدني..

قال الثاني: المتقون هم الذين عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم. فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون. وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذبون. قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة. صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة، يسرها لهم ربهم. أرادتهم الدنيا ولم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها.

قال الأول: فصف لي ليلهم.

قال الثاني: أما الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا، يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم. فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا، وظنوا أنها نصب أعينهم. وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفهم، وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم.

قال الأول: فصف لي نهارهم.

قال الثاني: وأما النهار فحلماء علماء، أبرار أتقياء، قد براهم الخوف بري القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض، ويقول: قد خولطوا! ولقد خالطهم أمر عظيم! لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير. فهم لانفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون.

قال الأول: فكيف حالهم إذا أثنى الناس عليهم؟

قال الثاني: إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم منــي بنفسي! اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمـون.

قال الأول: فزدني من علاماتهم ما يرفع همتي، ويملؤني شوقا لمنازلهم.

قال الثاني: من علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين، وحزما في لين، وإيمانا في يقين، وحرصا في علم، وعلما في حلم، وقصدا في غنى، وخشوعا في عبادة، وتجملا في فاقة، وصبرا في شدة، وطلبا في حلال، ونشاطا في هدى، وتحرجا عن طمع.. يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر. يبيت حذرا، ويصبح فرحا؛ حذرا لما حذر من الغفلة، وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة. إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب.

كان الأول يسمع بلهفة شديدة، وروحه تكاد تخرج شوقا وطمعا، ولم يلتفت الثاني إليه، بل راح يقول وهو مستغرق في عوالم لا أراها: قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل.. تراه قريبا أمله، قليلا زلله، خاشعا قلبه، قانعة نفسه، منزورا أكله، سهلا أمره، حريزا دينه، ميتة شهوته، مكظوما غيظه. الخير منه مأمول، والشر منه مأمون. إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين، وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين. يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه.

بعيدا فحشه، لينا قوله، غائبا منكره، حاضرا معروفه، مقبلا خيره، مدبرا شره. في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور. لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب. يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه. لا يضيع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكر، ولا ينابز بالالقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصائب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق.

إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له.

نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة. أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه. بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة. ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة.

ما وصل الثاني من حديثه لهذا الموضع حتى صاح الأول صيحة شديدة، كانت روحه فيها..

***

ما سرت إلا قليلا حتى رأيت قوما مجتمعين على مائدة طعام، قال أحدهم: يا قوم اتقوا الله، وإياكم أن تطعمونا شيئا مما حرم الله، فإن الحرام حجاب بين العباد وربهم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا..(51)} (المؤمنون)، وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} (البقرة)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)([42])  

قال آخر: وقد روي أنه تليت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا.. (168)} (البقرة)، فقام سعد، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عملا أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)([43]

قال آخر: وقد روينا فوق ذلك أن الأعمال لا تقبل إن أكل صاحبها حراما.. فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من اشترى ثوبا بعشرة دراهم في ثمنه درهم حرام لم يتقبل الله له صلاته ما كان عليه)([44]

قال آخر: ومثل ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادي: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك وزادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور.. وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء: لا لبيك لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور)([45]

قال آخر: بل ورد ذلك في كتاب الله، فقد قال تعالى :{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} (المائدة)

قال آخر: قد كان الصالحون شديدي الخوف على أنفسهم من هذه الآية، خافوا أن لا يكونوا من المتقين الذين يتقبل الله منهم، وقد قال بعضهم: (خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرتفع العمل، وذلك إذا عرفت الله عز وجل ولم تعرف الحق لم تنتفع، وإذا عرفت الحق ولم تعرف الله لم تنتفع، وإن عرفت الله وعرفت الحق ولم تخلص العمل لم تنتفع، وإن عرفت الله وعرفت الحق وأخلصت العمل ولم يكن على السنة لم تنتفع، وإن تمت الأربع ولم يكن الأكل من حلال لم تنتفع)

قال آخر: لقد قال لي بعض الصالحين: (لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك حلال أم حرام)، وقال لي آخر: (ذكروا لنا أن مَنْ صلّى وفي جوفه طعام حرام، أو على ظهره سلك من حرام لم تقبل صلاته)

قال آخر: لقد قال لي بعض الصالحين، وهو يعظني: يا مسكين إذا صمت فانظر عند من تفطر وطعام من تأكل، فإنّ العبد ليأكل الأكلة فيتقلب قلبه وينغل كما نغل الأديم، فلا يعود إلى حاله أبداً.

 قال آخر: وقد روينا عن سلفنا من الصالحين قولهم: (إنما حرموا مشاهدة الملكوت، وحجبوا عن الوصول بشيئين سوء الطعمة وأذى الخلق)

قال آخر: وحدثونا من آثار السلف أنّ الواعظ والمذكر كان إذا جلس للناس ونصب نفسه سئل أهل العلم عن مجالسته فكانوا يقولون : تفقدوا منه ثلاثاً، انظروا إلى صحة اعتقاده، وإلى غريزة عقله، وإلى طعمته، فإن كان معتقدا لبدعة فلا تجالسوه فإنه عن لسان الشيطان ينطق، وإن كان سيّء الطعمة فاعلموا أنه ينطق عن الهوى، وإن كان غير ممكن العقل فإنه يفسد بكلامه أكثر مما يصلح فلا تجالسوه.

قال آخر: وحدثنا بعضهم أن (المعدة حوض البدن، والعروق إليها واردة، فإذا صحت المعدة صدرت العروق إليها بالصحة، وإذا سقمت المعدة صدرت العروق إليها بالسقم.. ومثل الطعمة من الدين مثل الأساس من البنيان ؛ فإذا ثبت الأساس وقوي استقام البناء وارتفع، وإذا ضعف الأساس واعوج انهار البنيان ووقع، وقد قال اللّه تعالى :{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)} (التوبة)

***

تركتهم يتحدثون، ثم سرت قليلا، فرأيت رجلين يتحاوران أحدهما يبدو عليه الغنى والآخر تبدو عليه الفاقة..

قال الغني للفقير: ما تقول؟.. أترى أنه لا يصح الصدقة من المال الحرام؟

قال: أجل.. فقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)([46]

وقال: (ما تصدق عبد بصدقة من مال طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه.. الحديث)([47]

وقال: (لا يكتسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك فيه ولا يتصدق به فيتقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار.. إن الله لا يمحو السييء بالسيئ، ولكن يمحو السييء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث)([48]

 وقال: (من كسب مالا حراما فتصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه)([49]

وروي في الأثر أن (من أصاب مالا من مأثم فوصل به رحمه وتصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك جميعا ثم قذف به في نار جهنم)

وروي عن أبي الدرداء ويزيد بن ميسرة أنهما جعلا مثل من أصاب مالا من غير حله فتصدق به مثل من أخذ مال يتيم وكسا به أرملة.

وسئل ابن عباس عمن كان على عمل فكان يظلم ويأخذ الحرام، ثم تاب فهو يحج ويعتق ويتصدق منه فقال: (إن الخبيث لا يكفر الخبيث)

ومثل ذلك قال ابن مسعود: (إن الخبيث لا يكفر الخبيث، ولكن الطيب يكفر الخبيث)

وقال الحسن: (أيها المتصدق على المسكين ترحمه، ارحم من قد ظلمت)

***

تركتهما، ثم سرت حتى رأيت رجلا يخطب في قوم، وهو يقول لهم: اسمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال يتحدث عن هذا، ويحض عليه: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)([50])  

وورد في بعض روايات الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، فقال الرجل: وكيف لي بالعلم بذلك؟ قال: (إذا أردت أمرا فضع يدك على صدرك، فإن القلب يضطرب للحرام، ويسكن للحلال، وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة)([51])  

قالوا: هلا عرفتنا بالغرض الذي سقت من أجله هذه النصوص؟

قال: إن هذه النصوص جميعا تدعونا إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها، فإن الحلال المحض لا يحصل لمؤمن في قلبه منه ريب ولا قلق ولا اضطراب.. بل تسكن إليه النفس، ويطمئن به القلب.. وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق والاضطراب الموجب للشك.

إن هذا – أيها الجمع المبارك- هو المنهاج الذي اعتمد عليه المتقون في سلوكهم إلى الله، وهو القانون الذي ساسوا به حياتهم.. لقد قال بعضهم يعبر عنه: (يزعم الناس أن الورع شديد، وما ورد علي أمران إلا أخذت بأشدهما، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك).. وقال آخر: (ما شيء أهون من الورع: إذا رابك شيء فدعه)

لم تكن هذه الكلمات مجرد مراسيم نظرية.. بل كانت واقعا ملموسا عاشه الصالحون:

ومما يروى في هذا أن غلاما لبعض الصالحين كتب إليه من يقول له: (إن قصب السكر أصابته آفة فاشتر السكر فيما قبلك)، فاشتراه من رجل، فلم يأت عليه إلا قليل، فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ألفا، فأتى صاحب السكر فقال: (يا هذا، إن غلامي كان قد كتب إلى فلم أعلمك فأقلني فيما اشتريت منك)، فقال له الآخر: (قد أعلمتني الآن وقد طيبته لك)، فرجع فلم يحتمل قلبه فأتاه، فقال: (يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه، فأحب أن تسترد هذا البيع)، فما زال به حتى رده عليه.

وكان بعضهم إذا طلب المتاع ونفق وأرسل ليشتريه يقول لمن يشتري له: (أعلم من تشتري منه أن المتاع قد طلب)

وكان بعضهم قد بعث طعاما إلى البصرة مع رجل، وأمره أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه، فأتاه كتابه أني قدمت البصرة فوجدت الطعام منقصا فحبسته فزاد الطعام فازددت فيه كذا أو كذا، فكتب إليه يقول: (إنك قد خنتنا، وعملت بخلاف ما أمرناك به، فإذا أتاك كتابي فتصدق بجميع ذلك الثمن ثمن الطعام على فقراء البصرة، فليتني أسلم إذا فعلت ذلك)

ومن جنس هذا ما روي أنّ بعض الورعين وقع منه دينار، فانكبّ ليأخذه، فوجد دينارين فلم يعرف ديناره منها فتركهما معاً.

ويروى أن امرأة من المتعبدّات من أهل القلوب سألت الخواص عن تغير وجدته في قلبها فقال : عليك بالتفقد، فقالت : قد تفقدت فما وجدت شيئاً أعرفه، فأطرق ساعة، ثم قال: ألاّ تذكرين ليلة المشعل فقالت : بلى فقال : هذا التغير من ذلك، فذكرت أنها كانت تغزل فوق سطح لها فانقطع خيطها، فمر مشعل السلطان فغزلت في ضوئه خيطاً وأدخلت في غزلها، ونسجت منه قميصاً فلبسته قال : فنزعت القميص وباعته وتصدقت بثمنه، فرجع قلبها إلى الصفا.

وروي عن ذي النون المصري أنه لما سجن لم يأكل طعاماً ولم يشرب أياماً، فوجهت إليه امرأة يعرفها من العابدات بطعام إلى السجن وقالت : هذا من حلال، فلم يأكله فقالت له بعد ذلك، فقال : ذلك الطعام من حلال إلاّ أنه جاءني في طريق حرام فلم آكله فقالت : وكيف ذلك قال : جاءني في يد السجان وهو ظالم([52]) فلذلك لم آكله.

وروي أنه كان لطاووس بضاعة يتجر له فيها من التمر، فاشترى مضاربه ببضاعة أديماً من بعض أولياء السلطان وكتب إليه بذلك، وكتب إليه طاووس : أفسدت علينا مالنا، ما أحبّ أن أتلبس بشيء منه فبع الأديم باليمن، وتصدق بثمنه، ولا تدخل منه إلى الحرم درهماً واحداً، وأنا أستغفر اللّه من طعمة الفقراء، وأرجو أنْ أنجو كفافاً لا عليّ ولا لي.

وروي أنّ امرأة أهدت إلى بشر سلة عنب، فقالت : هذه من صنيعة أبي فردها بشر عليها، فقالت : سبحان اللّه تشك في كرم أبي وفي صحة ملكه وميراثي منه وشهادتك مكتوبة في كتاب الشراء، فقال : صدقت ملك أبيك ولكنك أفسدت الكرم، قالت : بماذا ؟ قال : سقيته من نهر طاهر – يعني طاهر صاحب المأمون –

ومن جنس هذا ما ما يفعله المتقون من التسامح في بعض حقوقهم خشية أنْ يستوفوا الحلال كله، فيقعون في الشبهة، وقد قالوا في هذا: (من استوعب الحلال حام حول الحرام)

وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المعنى في قوله 🙁 من يرتع حول الحمى يوشك أنْ يواقعه)([53])  

وأشار إليه قبل ذلك قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ..(90)} (النحل)، فقد فهم المتقون من هذه الآية أن العدل هو أنْ يأخذ المرء حقه كله ويعطي الحق كله، أما الإحسان فهو أنْ يترك بعض حقه، ويبذل فوق ما عليه من الحق ليكون محسناً.

وقد روي في هذا عن بعضهم أنه قال : أتيت بعض الورعين بدين له عليّ وكان خمسين درهماً، قال : ففتح يده فعددت فيها إلى تسع وأربعين درهماً فقبض يده، فقلت : هذا درهم قد بقي لك من حقك، قال : قد تركته لك إني أكره أنْ أستوعب مالي كله، فأقع بما ليس لي.

وكان بعضهم يقول: (من اتّقى من تسعة وتسعين شيئاً ولم يتّقِ من شيء واحد لم يكن من المتّقين، ومن تاب من تسعة وتسعين ذنباً ولم يتب من ذنب واحد لم يكن من التوّابين، ومن زهد في تسعة وتسعين شيئاً ولم يزهد في شيء واحد فليس من الزاهدين)

وكان آخر يقول: (إنما التقوى أن يتقي اللهّ العبد في مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أنْ يكون حراماً، يكون حجاباً بينه وبين الحرام)

***

تركت الرجل مع جمعه، ثم سرت، فلم ألبث أن رأيت جماعة كلهم يحملون معاول ومناجل وغيرها من أدوات العمل إلا واحدا منهم، فقد كان يحمل بدل ذلك مسبحة.. فاقتربت منهم، فسمعت صاحب المسبحة يقول لأصحابه: ألا ترون أنكم تضيعون ما طلب منكم من تحصيل التقوى بهذه المعاول والمناجل.. لقد ضمن الله رزقكم، فلم تسعون إليه، وتضيعون ما طلب منكم أن تسعوا فيه..

ألم تسمعوا قوله تعالى :{  وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} (هود)، وقوله :{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} (الذاريات)؟

ألم تسمعوا ما ورد في الآثار الصحيحة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: (قال الله: يا ابن آدم، تَفَرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى، وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك)([54]) ؟

ألم تسمعوا ما حدث به حَبَّة وسواء ابني خالد.. لقد قالا: أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعمل عملا أو يبني بناء فأعناه عليه، فلما فرغ دعا لنا وقال: (لا تيأسا من الرزق ما تهززت رءوسكما، فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة، ثم يعطيه الله ويرزقه)([55]) ؟

ألم تقرأوا ما ورد في بعض الكتب الإلهية.. لقد جاء فيها: (يقول الله تعالى: ابن آدم، خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني؛ فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء)؟

ألم تسمعوا ما قال الحكيم.. لقد قال: (اجتهادُكَ فيما ضَمِنَ لكَ وتقصيرُكَ فيما طَلَبَ منكَ دليلٌ على انْطماسِ البصيرةِ منْكَ)؟

بعد أن أنهى الرجل موعظته قال له رجل كان يحمل مسحاة: بورك فيك يا أخانا، فإنك لم تأل جهدا في نصحنا، ولكنا قوم بدأنا بما ذكرت، وقد آلينا على أنفسنا ألا نحرك جوارحنا إلا في عبادة الله.. فمن العار على الجوارح التي أبدع الله صنعها ألا تتحرك في طاعة مولاها.

ابتسم صاحب المسبحة، وقال: ولكن قولك يخالف فعلك.. كيف تقول ذلك، وأنا لا أرى في يدك مسبحة، بل أرى فيها مسحاة.. فهلا استبدلت المسحاة بالمسبحة حتى يطابق قولك فعلك.

قال الرجل: أرأيت إن أمرك الله أن تحمل المسحاة.. واعتبر ذلك من العبودية.. ألن تصبح المسحاة بذلك مسبحة؟

قال صاحب المسبحة: أجل.. ولكن دون إثبات ما تقول خرط القتاد..

قال الرجل: لقد وردت النصوص المقدسة الكثيرة تدعو إلى العمل، وتعتبره عبادة لا تقل عن أي عبادة.. بل ورد فيها ما يعتبر طالب الحلال كالمجاهد الصائم القائم..

لقد قال تعالى يقرن بين العمل والجهاد :{.. وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..(20)} (المزمل)

وفي الآثار الصحيحة الكثيرة ما يدل على الأجور العظيمة التي ينالها أصحاب المساحي والتي قد لا ينالها أصحابها المسابح.. لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في فضل إحياء الأرض:( ما من امرئ يحي أرضا فتشرب منها كبد حرى أو تصيب منها عافية إلا كتب الله تعالى له به جرا)([56])

وقال في أجر من أحيا أرضا ميتة: ( من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة )([57])

وقال في غرس الغرس:( ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له به صدقة )([58])، وقال:( ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغرس)([59])، وقال:( ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه([60]) أحد إلا كان له صدقة )([61]

قال آخر: ألم تسمع ما ورد في الآثار من أن (من سعى على عياله من حله فهو كالمجاهد في سبيل اللّه عزّ وجلّ، ومن طلب الدنيا حلالاً في عفاف كان في درجة الشهداء)

قال آخر: وقد قال لنا سلفنا من الصالحين: (إنّ أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنوبه، ومن أقام نفسه في مقام ذل في طلب الحلال، تساقطت عنه ذنوبه كما يتساقط ورق الشجر في الشتاء إذا يبس)

قال آخر: وكان بعض العلماء يقول لبعض المجاهدين: (أين أنت من عمل الأبطال: كسب الحلال والنفقة على العيال؟)

قال آخر: وكان الصالحون يرددون لنا كل حين قولهم: (لا تحقر دانقاً من حلال تكسبه تنفقه على نفسك وعيالك أو أخ من إخوانك، فلعله لا يصل إلى جوفك أو لا يصل إلى غيرك حتى يغفر لك)

لم يجد الرجل صاحب المسبحة بعد أن سمع كل هذا إلا أن قال: بورك فيكم.. ولكن ما أعمل بمسبحتي.

قال له صاحب المسحاة: ضعها مع مسابحنا.. فللمسبحة وقتها وللمسحاة وقتها.. والغافل من باع مسبحته بمسحاته، والعاجز من ضيع مسحاته لأجل مسبحته.

قال آخر: لقد ذكر لنا عن سلفنا من الصالحين أنهم كانوا يجعلون من مساحيهم وفؤوسهم مسابح تسبح الله.. فقد كانوا لا يهوون على الأرض بها إلا بصحبة ذكر الله، ولا يرفعونها إلا بذكر الله.

قال آخر: إنهم يستنون في ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المتقين، فقد كانوا في أعمالهم يذكرون الله، وقد ورد في الحديث عن أنس أن الأنصار والمهاجرين كانوا يرتجزون وينقلون التراب على متونهم يقولون:

نحن الذين بايعوا محمداً       على الإسلام ما بقينا أبداً

فيجيبهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :

اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة      فبارك فى الأنصار و المهاجرة([62])

***

تركتهم يبتسم بعضهم لبعض، وقد تحركوا جميعا إلى أعمالهم.. ثم سرت إلى أن رأيت رجلين مجتمعين، قال أحدهما لأخيه: لقد سمعت الآثار الكثيرة الواردة في فضل صلاة الجماعة، بل الدالة على وجوبها.. وسمعت مثلها الآثار الدالة على فضل أكل الحلال، بل على وجوبه.. وأنا محتار في الجمع بينهما.. فإني إن صليت في جماعة أضررت بعملي وطلبي للحلال، وإن طلبت الحلال أضررت بصلاة الجماعة.. فما تقول يا أخي؟

قال الثاني: لقد وقع لي ما وقع لك.. وقد ذهبت إلى الولي الصالح إبراهيم بن أدهم، فقال لي من غير أن أسأله: لقد حضر الساعة رجل قال لي: (أنا رجل أتكسب في السوق، فإذا عملت فاتتني الصلاة في جماعة فأيما أحبّ إليك أصلّي في جماعة أو أكتسب؟).. قلت: فما أجبته، فهذا ما جئتك من أجله.. فقال لي: لقد قلت له: (اكتسب من حلال وأنت في جماعة)

وقد علمت أن يوسف بن أسباط قال لشعيب بن حرب: (أشعرت أنّ الصلاة جماعة سنّة وأن كسب الحلال فريضة؟) قال : نعم.

وقد علمت أيضا أن إبراهيم بن أدهم كان يعمل هو وإخوانه في الحصاد في شهر رمضان، فكان يقول لهم : (انصحوا في عملكم بالنهار حتى تأكلوا حلالاً ولا تصلّوا بالليل، وإنّ لكم ثواب الصلاة في جماعة وأجر المصلّين بالليل)

ابتسم الأول، وقال: بورك فيك.. فقد أزحت عن قلبي غشاوة كدرت علي حياتي.

***

بقيت في طبقة المتقين مدة من الزمان إلى أن ملأ الله صدري ورعا، وشعرت أنه لا سعادة ولا لذة ولا راحة إلا في تقوى الله.. وقد صحت حينها بما قالها الشاعر الصالح:

ليس من يقطع طريقاً بطلا

   إنما من يتق اللّه البطل

فاتق اللّه فتقوى اللّه ما

   جاورت قلب امرئ إلا وصل

4 ـ الزهاد

بعد أن رأيت ما رأيت في جنان المتقين حنت نفسي لأرى الطبقة التالية من الجبل.. فطلبت من محمد أن نسير إليها.. فسار بي، وطلب مني أن أتأدب بين أيديهم.. وأخبرني أن طبقتهم هي طبقة الزهاد ([63]) .

وقد كان في استقبالنا شاب هو كمحمد خلقا وخلقا، وقد سألته عن الزهد، فقال: لقد ذكر بعض الصالحين الزهد، فقال: (ليس الزّهد في الدّنيا بتحريم الحلال وإضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد اللّه أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها، أرغب منك فيها لو لم تصبك)

وسئل آخر عنه، فقال: (أن لا يغلب الحلال شكره، ولا الحرام صبره)، أي لا يقصّر في شكر الحلال إذا أصابه، ويصبر عن الحرام إذا اشتهاه ولا يواقعه.

وذكره آخر، فقال: (الزّهد خلوّ القلب عمّا خلت منه اليد)

وذكره آخر، فقال : (الزّهد في الدّنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباءة)

وذكره آخر ، فقال: ( الزّهد هو الرّغبة عن حظوظ النّفس كلّها إلى ما هو خير منها، علما بأنّ المتروك حقير بالإضافة إلى المأخوذ)

وذكره آخر، فقال: (الزّهد هو انصراف الرّغبة عن الشّيء إلى ما هو خير منه، وشرط المرغوب عنه أن يكون مرغوبا بوجه من الوجوه، فمن رغب عن شيء ليس مرغوبا فيه، ولا مطلوبا في نفسه لم يسمّ زاهدا. كمن ترك التّراب لا يسمّى زاهدا وإنّه ليس الزّهد ترك المال وبذله على سبيل السّخاء والقوّة واستمالة القلوب فحسب، بل الزّهد أن يترك الدّنيا للعلم بحقارتها بالنّسبة إلى نفاسة الآخرة)

قلت: بورك فيك.. فقد اختصرت لي الطريق.. فهل أسير إلى الطبقة التالية؟

قال: لا.. لقد عرفت الزهد ولم تعرفه أهله.. ولا يمكنك أن تتحقق بالزهد ما لم تعرف الزهاد.

قلت: فأين أجدهم؟

قال: كل من في هذه الطبقة قوم امتلأوا بالزهد.. فسر بينهم، وتعلم على أيديهم.. لعل الله ينقل لك من أحوالهم ما يرفعك إلى درجاتهم.

***

ما سرت إلا قليلا حتى رأيت رجلا وقع في نفسي أن اسمه عثمان بن حنيف، وكان يقرأ رسالة أرسلها له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومما سمعته من رسالته قوله: (ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به، ويستضي ء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطِمريه، ومن طُعمه بقرصيه.. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولُباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيتَ مبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:

وحَسبُكَ داءً أن تَبيتَ ببِطنةٍ   وحوَلكَ أكبادٌ تَحِنُّ إلى القِدِّ

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أميرالمؤمنين، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون اُسوةً لهم في جشوبة العيش! وايم اللَّه – يميناً أستثني فيها بمشيئة اللَّه – لأروضنّ نفسي رياضةً تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغةً دموعها، أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرُك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض، ويأكل عليّ من زاده فيهجع؟! قرّت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، والسائمة المرعيّة)

سألت صاحبي عن الرسالة ومرسلها، فقال: هذه الرسالة نموذج عن زهد الحاكم العادل، وهي تدل على أثر الزهد في العدل، فلا يمكن أن يعدل من امتلأ حرصا وجشعا ورغبة في الدنيا.

***

ما سرت إلا قليلا حتى رأيت رجلا تبدو عليه سيما الزهاد يرفع يديه إلى السماء، وهو يردد بصوت خاشع:  ربّ ما أحرصني على ما زهّدتني فيه وحثثتني عليه! إن لم تُعنّي على دنياي بزهد، وعلى آخرتي بتقواي، هلكتُ.

ربّي، دعتني دواعي الدنيا؛ فأجبتُها سريعاً، وركنتُ إليها طائعاً. ودعتني دواعي الآخرة من الزهد والاجتهاد فكَبَوت لها، ولم اُسارع إليها مسارعتي إلى الحطام الهامد، والهشيم البائد، والسراب الذاهب عن قليل.

ربّ خوّفتَني وشوّقتَني واحتجبتَ عليّ فما خفتُك حقّ خوفك، وأخاف أن أكون قد تثبّطتُ عن السعي لك، وتهاونت بشي ء من احتجابك. اللهمّ فاجعل في هذه الدنيا سعيي لك وفي طاعتك، واملأ قلبي خوفك، وحوّل تثبيطي وتهاوني وتفريطي وكلّ ما أخافه من نفسي فَرَقاً منك، وصبراً على طاعتك، وعملاً به، يا ذا الجلال والاكرام.

واجعل جُنّتي من الخطايا حصينة، وحسناتي مضاعفة؛ فإنّك تضاعف لمن تشاء.

اللهمّ اجعل درجاتي في الجنان رفيعة، وأعوذ بك ربّي من رفيع المطعم والمشرب، وأعوذ بك من شرّ ما أعلم ومن شرّ ما لا أعلم، وأعوذ بك من الفواحش كلّها؛ ما ظهر منها وما بطن، وأعوذ بك ربّي أن أشتري الجهلَ بالعلم كما اشترى غيري، أو السَّفهَ بالحلم، أو الجزعَ بالصبر، أو الضلالةَ بالهدى، أو الكفرَ بالإيمان.. يا ربّ مُنَّ عليّ بذلك؛ فإنّك تتولّى الصالحين، ولا تُضيع أجر المحسنين، والحمد لله ربّ العالمين.

ثم أخذ ينشد بصوت عذب جميل ممتلئ بحشرجة الدموع:

إلهي لا تعذبني فإني

  مقر بالذي قد كان مني

وما لي حيلة إلا رجائي

   وعفوك إن عفوت، وحسن ظني

فكم من زلة لي في البرايا

   وأنت علي ذو فضل ومن

يظن الناس بي خيرا، وإني

   لشر الناس إن لم تعف عني

أجن بزهرة الدنيا جنونا

   وأفني العمر فيها بالتمني

وبين يدي محتبس ثقيل

   كأني قد دعيت له كأني

ولو أني صدقت الزهد فيها

   قلبت لأهلها ظهر المجن

سألت صاحبي عن الداعي والدعاء، فقال: هذا رجل من أهل الله امتلأ قلبه زهدا، وهو يسأله المزيد..

***

تركنا الرجل مع دموعه وأشعاره، وسرنا، فلم نلبث في سيرنا إلا قليلا حتى رأيت رجلا يخاطب ابنه قائلا([64]): بني..

أراك تحب عرسا ذات غدر

   أبت طلاقها الأكياس بتا

تنام الدهر ويحك في غطيط

   بها حتى إذا مت انتبهتا

فكم ذا أنت مخدوع وحتى

   متى لا ترعوي عنها وحتى

قال له ابنه: أعرف ذلك يا أبت.. وأنا الأنا بين يديك، فعلمني كيف أتخلص من شباك هذه الدنيا الخداعة الغرارة.

نظر الأب إلى ابنه مليا، ثم قال:

أبا بكر دعوتك لو أجبتا

   إلى ما فيه حظك إن عقلتا

إلى علم تكون به إماما

   مطاعا إن نهيت وإن أمرتا

فرأس العلم تقوى الله حقا

   وليس بأن يقال لقد رأستا

وضاقي ثوبك الإحسان لا أن

   ترى ثوب الإسادة قد لبستا

إذا ما لم يفدك العلم خيرا

   فخير منه أن لو قد جهلتا

وإن ألقاك فهمك في مهاو

   فليتك ثم ليتك ما فهمتا

ستجنى من ثمار العجز جهلا

   وتصغر في العيون إذا كبرنا

وتفقد إن جهلت وأنت باق

   وتواجد إن علمت وقد فقدن

وتذكر قولتي لك بعد حين

   وتغبطها إذا عنها شغلتا

لسوف تعض من ندم عليها

   وما تغني الندامة إن ندمتا

إذا أبصرت صحبك في سماء

   قد ارتفعوا عليك وقد سفلتا

فراجعها ودع عنك الهوينى

   فما بالبطء تدرك ما طلبنا

ولا تحفل بمالك واله عنه

   فليس المال إلا ما علمتا

وليس لجاهل في الناس معنى

   ولو ملك العراق له تأتى

سينطق عنك علمك في ندي

   ويكتب عنك يوما إن كتبتا

وما يغنيك تشييد المباني

   إذا بالجهل نفسك قد هدمتا

جعلت فو العلم جهلا

   لعمرك في القضية ما عدلتا

وبينهما بنص الوحي بون

   ستعلمه إذا طه قرأتا

لئن رفع الغنى لواء مال

   لأنت لواء علمك قد رفعتا

وإن جلس الغنى على الحشايا

   لأنت على الكواكب قد جلستا

وإن ركب الجياد مسومات

   لأنت مناهج التقوى ركبتا

وليس يضرك الإقتار شيئا

   إذا ما أنت ربك قد عرفتا

فماذا عنده لك من جميل

   إذا بفناء طاعته أنختا

فقابل بالقبول صحيح نصحي

   فإن أعرضت عنه فقد خسرتا

وإن راعيته قولا وفعلا

   وتاجرت الإله به ربحتا

فليست هذه الدنيا بشيء

   تسؤوك حقبة وتسر وقتا

وغايتها إذا فكرت فيها

   كفيئك أو كحلمك إن حلمتا

وتطعمك الطعام وعن قريب

   ستطعم منك ما منها طعمتا

وتعرى إن لبست لها ثيابا

   وتكسى إن ملابسها خلعتا

وتشهد كل يوم دفن خل

   كأنك لا تراد بما شهدتا

ولم تخلق لتعمرها ولكن

   لتعبرها فجد لما خلقتا

وإن هدمت فزدها أنت هدما

   وحصن أمر دينك ما استطعتا

ولا تحزن على ما فات منها

   إذا ما أنت في أخراك فزتا

فليس بنافع ما نلت فيها

   من الفاني إذا الباقي حرمتا

ولا تضحك مع السفهاء لهوا

   فإنك سوف تبكي إن ضحكتا

وكيف لك السرور وأنت رهن

   ولا تدري أتفدى أم غلقتا

وسل من ربك التوفيق فيها

   وأخلص في السؤال إذا سألتا

وناد إذا سجدت له اعترافا

   بما ناداه ذو النون بن متى

ولازم بابه قرعا عساه

   سيفتح بابه لك إن قرعتا

وأكثر ذكره في الأرض دأبا

   لتذكر في السماء إذا ذكرتا

ولا تقل الصبا فيه مجال

   وفكر كم صغير قد دفنتا

تركت الرجل مع ابنه يعظه، ثم استأنفت سيري في تلك الطبقة.. وقد رأيت فيها ما لا يمكن وصفه ولا الإحاطة به مما لا تسعه العبارة، ولا تكفي في الدلالة عليه الإشارة.

5 ـ الفتيان

بعد أن رأيت ما رأيت في جنان العباد حنت نفسي لأرى الطبقة التالية من الجبل.. فطلبت من محمد أن نسير إليها.. فسار بي، وطلب مني أن أتأدب بين أيديهم.. وأخبرني أن طبقتهم هي طبقة الفتوة، وأهلها هم الفتيان، فقلت متعجبا: الفتوة.. والفتيان.. ما كنت أحسب للفتوة محلا في هذا الجبل.

قال: إن لم يكن للفتيان محلا في هذا الجبل، فأين ترى يكون محلهم؟

 قلت: عهدي بالفتيان في المقاهي والأسواق يتصارعون تصارع الديكة.

قال: أولئك فتيان الشيطان.. أما هنا، فلن تجد إلا فتيان الرحمن.

قلت: ومن فتيان الرحمن؟

قال: منهم إبراهيم u ذلك الذي وصفه قومه، فقالوا :{ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)} (الأنبياء)

ومنهم أهل الكهف، أولئك الذين وصفهم ربهم، فقال :{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)} (الكهف)

وذكرهم، فقال :{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)} (الكهف)

قلت: فما سر فتوتهم؟

قال: شجاعة ومروءة ونبل..

قلت: شجاعة ومروءة ونبل!.. ما تقصد بهذا؟

قال: لقد اتفق من ذكر الفتوة وعاشها على أنها (منزلة الإحسان إلى الناس، وكف الأذى عنهم، واحتمال أذاهم.. فهي استعمال حسن الخلق معهم، فهي في الحقيقة نتيجة حسن الخلق واستعماله)([65]

واتفقوا على أنها (من أعظم خصال الخير جامعة كمال المروءة وحسن الخلق والإيثار على النفس واحتمال الأذى وبذل الندى وطلاقة الوجه والقوة على ذلك.. والصفح عن العثرات، ويكون خصما لربه على نفسه، وينصف من نفسه ولا ينتصف، ولا ينازع فقيرا ولا غنيا، ويستوي عنده المدح والذم والدعاء والطرد ولا يحتجب ولا يدخر ولا يعتذر ويظهر النعمة ويحقق المحبة سرا وعلنا)([66]

قلت: ما شاء الله.. ما كنت أحسب أن للفتوة كل هذه القيمة.

قال: ذلك أن المتصارعين حرفوا معناها، فحولوها من أخلاق زاكية إلى رسوم فارغة.. ثم حولوها إلى فتوة شيطانية لا علاقة لها بالإيمان، ولا بالإنسان.

قلت: فأين أتعلم علوم الفتيان؟.. وكيف أتخلق بأخلاقهم؟

قال: سر في جنان هذه الطبقة، فإنك لن تجد فيها إلا الفتيان.

***

ما سرت إلا قليلا حتى رأيت جمعا من الناس كلهم تبدو عليهم سيما الفتيان.. وبينما هم كذلك إذ دخل عليهم رجل غريب لا يبدو على وجهه ما يبدو على وجوههم.. فالتفتوا إليه، وكأنهم قد استغربوا وجوده بينهم، فقال: لا تنظروا إلي هكذا.. فأنا لم آت إلا لأتتلمذ على أيديكم.. لقد عضتني الدنيا بأنيابها وهجرتني مع أني لم أقصر في خدمتها، ولم آل جهدها في سبيل إرضائها.. وقد رأيت أن أسلك سبيل الفتيان.. أولئك الذين امتلأوا بالمروءة والنبل.. فقد علمت أنهم هم وحدهم الذين ضحكوا على الدنيا، وهم وحدهم من نجوا من غرورها، وهم وحدهم من عاشوا الإنسان وكرامة الإنسان وطهارة الإنسان.

قال أحدهم: سل ما بدا لك.

قال الرجل: ما الفتوة؟

قال أحدهم: لقد كان الإمام جعفر بن محمد الصادق سليل بيت النبوة من أوائل من تحدث عنها، وقد سئل عما سألت عنه، فقال للسائل:( ما تقول أنت؟) فقال:( إن أعطيت شكرت، وإن منعت صبرت)، فقال:( الكلاب عندنا كذلك)، فقال السائل:( يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما الفتوة عندكم؟)، فقال:( إن أعطينا آثرنا، وإن منعنا شكرنا)

قال آخر: وكان الفضيل بن عياض من الذين تحدثوا عنها، وقد أجاب عما سألت عنه، فقال: (الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان)

قال آخر: وقد سئل أحمد، فأجاب بقوله:(  ترك ما تهوى لما تخشى)

قال آخر: وسئل الجنيد عنها، فقال:( لا تنافر فقيرا ولا تعارض غنيا)

قال آخر: وسئل الحارث المحاسبي عنها، فقال:( الفتوة أن تنصف ولا تنتصف)

قال آخر: وسئل عمر بن عثمان المكي، فقال:( الفتوة حسن الخلق)

قال آخر: وسئل الدقاق عن كمال الفتوة، فقال:( هذا الخلق لا يكون كماله إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن كل أحد يقول يوم القيامة  نفسي نفسي، وهو يقول  أمتي أمتي)([67]

قال الرجل: فهلا حدثتموني من أخبار الفتيان ما يملؤني رغبة في سلوك سبيلهم.. وابدأوا لي بما روي عن تغافلهم عن عيوب الغير وأخطائهم.. فإن ذلك من خصال المروءة العظيمة.

قال أحدهم: لقد ذكروا من أخبار هذا الباب أن رجلا من الفتيان تزوج امرأة، فلما دخلت عليه رأى بها الجدري، فقال: اشتكيت عيني، ثم قال: عميت، فبعد عشرين سنة ماتت، ولم تعلم أنه بصير، فقيل له في ذلك، فقال:( كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها)، فقيل له:( سبقت الفتيان)

قال آخر: ومثل ذلك ما روي أن امرأة سألت حاتما عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة، فخجلت، فقال حاتم:( ارفعي صوتك)، فأوهمها أنه أصم، فسرت المرأة بذلك، وقالت:( إنه لم يسمع الصوت) فلقب بحاتم الأصم.

قال آخر: واستضاف رجل جماعة من الفتيان، فلما فرغوا من الطعام خرجت جارية تصب الماء على أيديهم، فانقبض واحد منهم، وقال:( ليس من الفتوة أن تصب النسوان الماء على أيدي الرجال)، فقال آخر منهم:( أنا منذ سنين أدخل إلى هذه الدار، ولم أعلم أن امرأة تصب الماء على أيدينا أو رجلا)

قال آخر: وقدم جماعة فتيان لزيارة فتى، فقال الرجل:( يا غلام قدم السفرة)، فلم يقدم، فقالها ثانياوثالثا فلم يقدم، فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا:( ليس من الفتوة أن يستخدم الرجل من يتعاصى عليه في تقديم السفرة كل هذا)، فقال الرجل:( لم أبطأت بالسفرة)، فقال الغلام:( كان عليها نمل، فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل، ولم يكن من الفتوة إلقاء النمل وطردهم عن الزاد، فلبثت حتى دب النمل)، فقالوا:( يا غلام مثلك يخدم الفتيان)

قال الرجل: فحدثوني عن تضحية الفتيان.

قال أحدهم: من ذلك ما يروى عن سيد الفتيان ومعلمهم الإمام جعفر الصادق.. فقد روي أن أن رجلا نام من الحاج في المدينة، ففقد هميانا فيه ألف دينار، فقام فزعا فوجد جعفر بن محمد، فعلق به وقال:( أخذت همياني)، فقال:( أي شيء كان فيه؟)، قال:( ألف دينار)، فأدخله داره، ووزن له ألف دينار، ثم إن الرجل وجد هميانه، فجاء إلى جعفر معتذرا بالمال، فأبى أن يقبله منه، وقال:( شيء أخرجته من يدي لا أسترده أبدا)، فقال الرجل للناس:( من هذا؟)، فقالوا:( هذا جعفر بن محمد)

قال آخر: ومن ذلك ما يروى عن أبي حامد بن خضرويه البلخي، وقد كان من كبار مشايخ خراسان، وقد صحب أبا تراب التخشبي.. وكان كبيراً في الفتوَّة.. ومما يروى عنه فيها أنه كان عليه سبمعمائة دينار، وغرماؤه عنده، فنظر إليهم. وقال: اللهم إنك جعلت الرهون وثيقة لأرباب الأموال، وأنت تأخذ عنهم وثيقَتَهم فأدّعنيِّ.. فدّق داقٌّ الباب وقال: أين غرماء أحمد؟ فقضي عنه، ثم خرجت روحه، ومات.

قال آخر: ومما يروى في هذا، أو هو قريب منه ما روي عن ذي النون المصري أنه قال: من أراد الظرف فعليه سقاة الماء ببغداد.. فقيل له: كيف هو؟ فقال: لما حُملت إلى الخلفية، فيما نُسب لى من الزندقة، رأيت سقاء عليه عمامة، وهو مترد بمنديل مصري، وبيده كيزان خزف رقاق، فقلت: هذا ساقي السلطان، فقالوا: لا، هذا ساقي العامة.. فأخذت الكوز وشربت.. وقلت لمن معي: أعطه ديناراً.. فلم يأخذه، وقال: أنت أسير، وليس من الفتوة أن آخذ منك شيئاً..

***

سرت في جنان الفتيان ما قدر الله لي أن أسير، وقد رأيت منهم الكثير، وتعلمت منهم من شؤون المروءة وعلومها وفنونها ما ينقضي دونه العجب.

6 ـ المجاهدون

بعد أن رأيت ما رأيت في جنان الفتيان حنت نفسي لأرى الطبقة التالية من الجبل.. فطلبت من محمد أن نسير إليها.. فسار بي، وطلب مني أن أتأدب بين أيديهم.. وأخبرني أن طبقتهم هي طبقة المجاهدين.. وعندما تعجبت من علو طبقتهم على طبقة الفتيان، قال: لأنهم سادة الفتيان.. فالفتى قد يضحي بماله أو جهده.. أما المجاهد فيضحي بماله ونفسه وكل شيء.

قلت: والزهاد؟

قال: الزهاد يزهدون في المتاع، أما المجاهدون فيزهدون في أنفسهم.. وشتان بين ما يزهد في الأشياء ومن يزهد في نفسه..

قلت: والعباد؟

قال: لقد أجاب بعض المجاهدين رجلا كان قد جاور الحرم، وترك الجهاد، تفضيلا للتفرغ للعبادة على التفرغ للجهاد، فقال([68]):

يا عابدَ الحرمين لو أبصرتَْنا

   لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ

مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه

   فنحورنُا بدمائِنا تَتَخْضَبُ

أوكان يتعبُ خيله في باطل

   فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ

ريحُ العبيرٍ لكم ونحنُ عبيرُنا

   رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ

ولقد أتانا من مقالِ نبيِنا

   قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ

لا يستوي غبارُ أهلِ الله في

   أنفِ أمرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ

هذا كتابُ الله ينطقُ بيننا

   ليسَ الشهيدُ بميتٍ لا يكذبُ

قلت: هذا الجواب لا يكفي.. فليس للشعراء في هذا الباب نصيب.

قال: إن أبيت هذا.. فقد قال تعالى يبين فضل المجاهدين في سبيله :{ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20)} (التوبة)، وقال :{ لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)} (النساء)، وقال :{ وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} (الحديد)، وقال:{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)} (المائدة)

وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (أفضل العمل: الإيمان باللّه، والجهاد في سبيله)([69]

وقال: (ألا أخبرك برأس الأمر كلّه وعموده وذروة سنامه؟.. رأس الأمر الإسلام، وعموده الصّلاة، وذروة سنامه الجهاد)([70]

وقال: ( إنّ في الجنّة مائة درجة أعدّها اللّه للمجاهدين في سبيل اللّه، ما بين الدّرجتين كما بين السّماء والأرض، فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس فإنّه أوسط الجنّة، وأعلى الجنّة، وفوقه عرش الرّحمن، ومنه تفجّر أنهار الجنّة)([71]

وسئل: أيّ العمل أفضل؟ فقال: (إيمان باللّه ورسوله)، قيل: ثمّ ماذا؟ قال: (الجهاد في سبيل اللّه) قيل: ثمّ ماذا؟ قال: (حجّ مبرور)([72]

وقال: (تكفّل اللّه لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلّا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنّة، أو أرجعه إلى منزله الّذي خرج منه بما نال من أجر، أو غنيمة، والّذي نفس محمّد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل اللّه إلّا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم. لونه لون دم، وريحه ريح مسك.. والّذي نفس محمّد بيده، لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل اللّه أبدا. ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عنّي، والّذي نفس محمّد بيده لوددت أن أغزو في سبيل اللّه فأقتل، ثمّ أغزو فأقتل، ثمّ أغزو فأقتل)([73]

وجاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول اللّه أيّ النّاس خير؟ قال: (رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشّعاب يعبد ربّه ويدع النّاس من شرّه)([74]

وجاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: دلّني على عمل يعدل الجهاد. قال: (لا أجده)، قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟) قال: ومن يستطيع ذلك؟)([75]

وقال: (مثل المجاهد في سبيل اللّه- واللّه أعلم بمن يجاهد في سبيله- كمثل الصّائم القائم، وتوكّل اللّه للمجاهد في سبيله بأن يتوفّاه أن يدخله الجنّة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة)([76]

وقال: (من آمن باللّه وبرسوله وأقام الصّلاة وصام رمضان كان حقّا على اللّه أن يدخله الجنّة. جاهد في سبيل اللّه أو جلس في أرضه الّتي ولد فيها)، فقالوا: يا رسول اللّه أفلا نبشّر النّاس؟ قال: (إنّ في الجنّة مائة درجة أعدّها اللّه للمجاهدين في سبيل اللّه. ما بين الدّرجتين كما بين السّماء والأرض. فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس، فإنّه أوسط الجنّة وأعلى الجنّة، ومنه تفجّر أنهار الجنّة)([77]

وقال: (لا يكلم أحد في سبيل اللّه واللّه أعلم بمن يكلم في سبيله، إلّا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب، اللّون لون دم والرّيح ريح مسك)([78]

وقال: (لغدوة في سبيل اللّه، أو روحة، خير من الدّنيا وما فيها)([79]

وقال: (لا يلج النّار رجل بكى من خشية اللّه، حتّى يعود اللّبن في الضّرع، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل اللّه ودخان جهنّم)([80]

وقال: (ما أحد يدخل الجنّة يحبّ أن يرجع إلى الدّنيا وله ما على الأرض من شيء إلّا الشّهيد يتمنّى أن يرجع إلى الدّنيا فيقتل عشر مرّات، لما يرى من الكرامة)([81]

وقال: (ما اغبرّتا قدما عبد في سبيل اللّه فتمسّه النّار)([82]

وقال: (من قاتل في سبيل اللّه فواق ناقة([83]) وجبت له الجنّة، ومن سأل اللّه القتل في سبيل اللّه صادقا من نفسه ثمّ مات أو قتل فإنّ له أجر شهيد، ومن جرح جرحا في سبيل اللّه أو نكب نكبة، فإنّها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزّعفران، وريحها ريح المسك، ومن خرج به خراج في سبيل اللّه، فإنّ عليه طابع الشّهداء)([84]

بعد أن ذكر لي محمد بعض ما ذكرته لك من النصوص المقدسة الدالة على فضل الجهاد، قلت: فكيف السبيل إلى سلوك سبيلهم؟

قال: سر في هذه الجنان، وسترى المجاهدين، وتعرف الجهاد الحقيقي الذي وردت جميع النصوص المقدسة بفضله.

***

سرت في تلك الجنان، وكان أول ما صادفته رجل جرح جراحا شديدة، قد أصابت مقاتله، وقد وقف بجنبه رجل آخر، وهذا بعض ما دار بينهما من حوار:

قال الأول: الحمد لله.. أنا أشعر براحة عظيمة.. فقد أديت ما أمرني الله به من جهاد الظلمة.. وأنا الآن في غاية الشوق إلى لقاء الله.

قال الثاني: بورك فيك – يا أخي – لقد رأيتك، ورأيت المواقف البطولية التي وقفتها، وأنت تنقذ ذلك الطفل وأمه من براثن الظالمين.

قال الأول: أنا لم أفعل إلا ما أمرني الله به.. لقد قال الله تعالى يعاتب المتخلفين عن نصرة المستضعفين :{ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} (النساء)، وقال :{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} (الحج)

قال الثاني: بورك فيك.. وأنا أعجبك من دقة حفظك لكلام ربك رغم ما نزل بك.

قال الأول: والله – يا أخي- ما تحركت إلا بتحريك الله.. وما حركني إلا ما قرأته لك من القرآن الكريم.. وأنا لم أخرج بطرا ولا لصا، بل خرجت لنصرة العدالة والحق في وجه أولئك الظلمة المستبدين الذي سفكوا الدماء واستحلوا الأعراض ونهبوا الأموال..

ومع ذلك، فإني لم أسفك ما سفكت من دماء الظلمة إلا وأنا ممتلئ حزنا عليهم.. وقد وددت أنهم كفوا عن ظلمهم وجنحوا للسلم لأجنح معهم إليه.. فأنا أعلم أن الإسلام دين الإسلام والمحبة والأخوة.. وأنه لا يكره شيئا كما يكره سفك الدماء.

بينما نحن كذلك إذا بامرأة مع ولدها يجثيان بين يديه يبكيان، قالت المرأة: اغفر لنا.. نحن الذين تسببنا لك فيما حصل لك.

ابتسم الرجل، وقال: غفر الله لكما.. أنا ما فعلت إلا ما أمرني الله به.. وما كان لي أن أتخلف عن نصرتكما ونصرة المستضعفين إني إذن للئيم.

قالت المرأة: ولكنك تموت.

ابتسم الرجل، وقال: الميت هو من لم يمت هذه الموتة الشريفة.. أما أنا فقد أخبرني الله بأني حي.. ألم تسمعي – أختاه- قوله تعالى :{ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)} (آل عمران)

قالت المرأة: وآلام الجراح التي أصابتك؟

قال: لقد وجدتها كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد قال يذكرها: (الشهيد لا يجد مس القتل إلا كما يجد أحدكم القَرْصَة يُقْرَصُهَا)([85])

قالت المرأة: والقرح الذي أصابك؟

قال: لقد ذكره الله، فقال :{ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)} (آل عمران)

قالت المرأة: ولكن مع ذلك لو بقيت في بيتك لما أصابك ما أصابك بسببنا.

قال: كيف تقولين ذلك.. أتريدين أن أكون من المخلفين الذين ذكرهم الله، فقال :{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) } (آل عمران)

قالت المرأة: ولكني ممتلئة حزنا على ما أصاب أهلك بسببي؟

قال: لا تقولي ذلك.. ألم تسمعي إلى قوله تعالى :{ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)} (التوبة)

قال ذلك، ثم ابتسم ابتسامة هادئة، وقال: ما شاء الله.. ماذا أرى.. من بجانبي.. مرحبا بكِ.. ما كنت أظن أنكِ بهذا الجمال.. صدق حبيبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: (يعطى الشهيد ثلاثا: أول دفعة من دمه تغفر له ذنوبه، وأول من يمسح التراب عن وجهه زوجته من الحور العين، وإذا وجب جنبه إلى الأرض وقع فى الجنة)([86])  

قال ذلك، ثم افتر ثغره عن ابتسامة عريضة، قبضت روحه خلالها.

لم تجد المرأة ومن حولها إلا أن يكبروا الله، وقد كبرت معهم بعد أن اقشعر جلدي لما رأيت..

***

تركتهم وسرت.. فوجدت رجلا يتحدث إلى طائفة من الناس يعظهم.. ومما لا أزال أحفظه قوله لهم: اسمعوا إلى وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب.. لقد كان يوصي أصحابه بقوله: (اغزوا باسم اللّه في سبيل اللّه فاقتلوا من كفر باللّه اغزوا ولا تغلّوا ولا تغذروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا) ([87])

إنكم – أيها المجاهدون في سبيل الله – لم تخرجوا من بيوتكم التي هدمت على رؤوسكم إلا لتقفوا في وجوه المستكبرين الذين ظلموكم.. فإياكم أن تتشبهوا بهم في ظلمهم، فيمحقكم الله، فإن موازين الله العادلة لا تفرق بين مسلم وكافر..

احرصوا على أن كلمة الله هي العليا.. وكلمة الله هي الحق والعدالة والخير والسلام..

احرصوا على أن تكون حربكم حرب الشرفاء الذين لا يحاربون حقدا ولا ظلما.. بل يحاربون بقلوب ممتلئة بالرحمة والسلام.

واعلموا – أيها المجاهدون- أن الله لا ينصر إلا من ينصر، ولا يرفع إلا من يرفع كلمته..

قال ذلك.. ثم سار مع جنوده إلى حيث لا أدري..

***

سرت في تلك الجنان، فرأيت رجلا شيخا كبيرا، وأمامه صبية وبعض نساء، وهو يرفع يديه إلى السماء، ويقول: يا رب.. لقد بغوا علينا وظلمونا.. ونحن نستنصرك.. فأرسل إلينا من جندك الذين ارتضيتهم من ينقذهم من براثن الذئاب الظلمة الطغاة.

ما قال ذلك حتى رأيت مجاهدا يدخل عليهم، وهو يقول: ابشر يا شيخ بنصر الله.. لقد نصرنا الله على أعدائه، وأنتم الآن أحرار.. فتحركوا في الأرض التي أمركم الله بالتحرك فيها بكل حرية، فلن يصيبكم بإذن الله أي أذى.

***

سرت في تلك الجنان فترة من الزمن، وقد رأيت فيها من مشاهد النبل والشجاعة والبطولة ما تمتلئ به أقطار النفس، ويعلم الله أنه لولا شوقي إلى مشاهدة غير هذه الطبقة لتمنيت أني رزقت الشهادة فيها.. فقد صارت الشهادة في عيني حلما لذيذا، ورغبة عارمة لا يقاومها شيء.

7 ـ الصديقون

بعد أن رأيت ما رأيت في جنان المجاهدين حنت نفسي لأرى الطبقة التالية من الجبل.. فطلبت من محمد أن نسير إليها.. فسار بي، وطلب مني أن أتأدب بين أيديهم.. وأخبرني أن طبقتهم هي طبقة الصديقين.. وأخبرني أنها أعلى طبقات هذا الجبل..

قلت: من الصديقون؟

قال: هم قوم لا يعرفون إلا الله، ولا يتحدثون إلا عن الله.. فمر عليهم، واستفد من أحوالهم، واعلم أن لكل كلمة من كلماتهم نورا قد يرفعك الله به من حضيض الأوحال إلى سموات الأبطال.

كان أول من رأيته في تلك الجنان شيخ كبير له لحية بيضاء زادته وقارا.. وقد أحاط به جمع من الشباب تلوح على سيماهم ملامح المتقين.

قال أحدهم: صف لنا – يا شيخنا- أولياء الله حتى نميزهم عن أولياء الشيطان.

قال الشيخ: أولياء الله لا يحبون ولا يبغضون إلا في الله، ولا يشتاقون ولا يحبون إلا لله، ولا يتوكلون ولا يعتمدون إلا على الله، إذا صفا مشرب معاملة الله لم ينالوا كدر المشارب، وإذا أينع لهم مذهب السلوك إلى الله لم يهتموا لضيق المذاهب، وإذا ظنوا أن الله عنهم راض لم يكترثوا بغضب غاضب، وإذا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم عاتب لم يشغل قلوبهم عتب عاتب.

لقد ذكرهم الله تعالى، وذكر فضلهم، والخصال التي استحقوا بها ذلك الفضل، فقال:{ أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63)} (يونس)، وقال :{ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} (فصلت)

ووصفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر فضلهم ومرتبتهم، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقبل على النّاس بوجهه، فقال: (يأيّها النّاس، اسمعوا واعقلوا، واعلموا أنّ لله عزّ وجلّ- عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشّهداء على مجالسهم وقربهم من اللّه)، فجاء رجل من الأعراب من قاصية النّاس وألوى بيده إلى نبىّ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبيّ اللّه! ناس من النّاس ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشّهداء على مجالسهم وقربهم من اللّه؟! انعتهم لنا، فسرّ وجه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لسؤال الأعرابيّ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (هم ناس من أفناء النّاس([88]) ونوازع القبائل([89])، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابّوا في اللّه، وتصافوا، يضع اللّه لهم يوم القيامة منابر من نور، ويجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا، يفزع النّاس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)([90]

وذكر صلى الله عليه وآله وسلم حرمتهم والطريق التي وصلوا بها إلى ولاية الله، فقال: (إنّ اللّه- تعالى- قال: من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به، وبصره الّذي يبصر به، ويده الّتي يبطش بها، ورجله الّتي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذ بي لأعيذنّه وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته)([91]

ووصفهم المسيح u، فقال: (هم الذين نطق بهم الكتاب وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب وبه علموا، وبهم قام الكتاب وبه قاموا، نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، وعاينوا أجل الدنيا حين عاين الناس عاجلها فأماتوا منها ماخشوا أن يميتهم، وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم، فصار دركهم منها فواتاً، وفرحهم بها حرماناً، ما عارضهم منها رفضوه، وما أشرف لهم بغير الحق وضعوه، خلقت الدنيا عندهم فلم يجددوها، وخربت فيما بينهم فلم يعمروها، وماتت في صدورهم فلم يحيوها، قدموها فبنوا بها آخرهم، أحيوا ذكر الموت، وأماتوا ذكر الحياة، يحبون اللّه، ويحبون ذكره، ويستضيئون بنوره، ويضيئون به، لهم خبر عجيب، وعندهم أعجب الخبر العجيب)

***

مررت على أحدهم، كان ساجدا قد بلل الأرض بدموعه، وكان يردد بصوت خاشع مختلط بحشرجة الدموع هذا الدعاء الممتلئ بالعرفان([92]): اللهمّ إنّي أسألك برحمتك التي وسعت كُلّ شيء، وبقوّتك التي قهرت بها كلّ شيء، وخضع لها كُلّ شيءٍ، وذلّ لها كلّ شيء، وبجبروتك التي غلبت بها كلّ شيء، وبعزّتك التي لا يقوم لها شيء، وبعظمتك التي ملأت أركان كلّ شيء، وبسلطانك الذي علا كلّ شيء، وبوجهك الباقي بعد فناء كلّ شيء، وبأسمائك التي غَلَبَت أركان كلّ شيء، وبعلمك الذي أحاط بكلّ شيء، وبنور وجهك الذي أضاء له كلّ شيء، يا نور يا قُدّوس، يا أوّل الأوّلين، ويا آخر الآخرين.

اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تُنزل النقم، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تغيِّر النِّعم، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تُنزل البلاء، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء، اللهمّ اغفر لي كلّ ذنب أذنبته، وكلّ خطيئةٍ أخطأتها.

اللهمّ إنّي أتقرّب إليك بذكرك، وأستشفع بك إلى نفسك، وأسألك بجودك أن تدنيني من قربك، وأن توزعني شكرك، وأن تُلهمني ذكرك.

اللهمّ إنّي أسألك سُؤال خاضعٍ مُتذلّل خاشع، أن تسامحني وترحمني، وتجعلني بقسمك راضياً قانعاً، وفي جميع الأحوال مُتواضعاً.

اللهمّ وأسألك سؤال من اشتدّت فاقته، وأنزل بك عند الشدائد حاجته، وعظم فيما عندك رغبته.

بعد أن انتهى من هذا الدعاء الرقيق رفع رأسه من السجود، فإذا وجه كالشمس، وهو أشبه الناس بصاحبك معلم السلام.. وقد سألت صاحبي عنه، فقال لي: هذا إمام الأئمة وسراج الدين وشمس الصديقين هذا علي الذي أعلى الله مقامه، فلا يعرفه ولا يرقى إليه إلا الصديقون.

***

تركناه في خشوعه ودعائه وصلاته.. وسرنا في ذلك الهزيع من الليل، فما هي إلا خطوات قليلة حتى سمعنا صوتا خافتا هو أقرب إلى الهمس.. يقول([93]):  لا يستقل به من دوني شيء.. ولا يصلح من دوني لشيء.. وأنا العزيز الذي لا يستطاع مجاورته، ولا ترام مداومته.. أظهرت الظاهر وأنا أظهر منه، فما يدركني قربه، ولا يهتدي إلي وجوده.. وأخفيت الباطن وأنا أخفي منه فما يقوم علي دليله ولا يصح إلي سبيله.

أنا أقرب إلى كل شيء من معرفته بنفسه فما تجاوزه إلي معرفته، ولا يعرفني أين تعرفت إليه نفسه.

لولاي ما أبصرت العيون مناظرها، ولا رجعت الأسماع بمسامعها.

لو أبديت لغة العز لخطفت الأفهام خطف المناجل، ودرست المعارف درس الرمال عصفت عليها الرياح العواصف.. ولو نطق ناطق العز لصمتت نواطق كل وصف، ورجعت إلى العدم مبالغ كل حرف.

أين من أعد معارفه للقائي لو أبديت له لسان الجبروت لأنكر ما عرف، ولمار مور السماء يوم تمور موراً.

سألت صاحبي عن الصوت، وصاحبه، وعن هذه الكلمات الغريبة التي ينطق بها، فقال: هذا رجل من أهل الله آلى على نفسه ألا يسمع إلا من الله، وألا يخاطب إلا الله، وقد أوقفه الله مواقف جليلة، وخاطبه مخاطبات رفيعة ممتلئة بالقداسة.

قلت: خاطبه.. أهو الكليم إذن؟

قال: تقدس الله أن لا يكلم إلا واحدا من خلقه.

قلت: ولكن الله ذكر أنه كلم موسى تكليما، واعتبر ذلك من مزاياه.. قال تعالى:{ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} (النساء)

 قال: ذلك تكليم الأنبياء، وهذا تكليم الأولياء.

قلت: ولكن الأنبياء يتلقون الوحي.

قال: والأولياء يتلقون الإلهام.. ألم تسمع قوله تعالى، وهو يخاطب أم موسى u؟

قلت: أجل.. فقد قال تعالى:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} (القصص)

قال: أترى أن أم موسى u أكرم على الله من أولياء أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟

لم أجد ما أجيبه به، فقلت: فمن الرجل؟

قال: هذا الرجل يقال له عبد الجبار النفري([94]).. ولا نعرف عنه إلا مواقفه مع ربه، ومخاطباته معه.

قلت: ذرنا نسمع شيئا منها.. فإني أشعر أن لحديثه من الحلاوة ما يملأ القلوب، وما تسمو به الأرواح.

عدنا إلى التنصت عليه، فسمعته يقول: يا عبد أنا الناطق وما نطقي النطق، وأنا الحي وما حياتي الحياة، أحلت العقول عني فوقفت في مبالغها، وأذهلت الأفكار عني فرجعت إلى متقلبها..

يا عبد أنا الحاكم الذي لا يحكم عليه، وأنا العالم الذي لا يطلع عليه.

يا عبد لولا صمودي ما صمدت ولولا دوامي ما دمت.

يا عبد اخرج من همك تخرج من حدك.

يا عبد لو لم أكتبك في العارفين قبل خلقك ما عرفتني في مشهود وجدك لنفسك.

يا عبد إن لم تعرف من أنت مني لم تستقر في معرفتي.

يا عبد إن لم تستقر في معرفتي لم تدر كيف تعمل لي.

يا عبد إن عرفت من أنت مني كنت من أهل المراتب.

يا عبد قف بين يدي في الدنيا وحدك أسكنك في قبرك وحدك، وأخرجك منه إلي وحدك، وتقف بين يدي في القيامة وحدك، وإذا كنت وحدك لم تر إلا وجهي، وإذا لم تر إلا وجهي فلا حساب ولا كتاب، وإذا لا حساب ولا كتاب فلا روع، وإذا لا روع فأنت من الشفعاء.

يا عبد أخلصتك لنفسي فإن أردت أن يعلم بك سواي فقد أشركت بي وإذا سمعت من سواي فقد أشركت بي، أنا ربك الذي سواك لنفسه واصطفاك لمحادثته وأشهدك مقام كل شيء منه لتعلم أن لا مقام لك في شيء من دونه، إنما مقامك رؤيته وإنما إفرادك حضرته.

***

تركنا الرجل في عالمه العلوي، وسرنا في تلك الجنان، ولم نسر إلا قليلا حتى رأينا رجلا يكاد يذوب من الشوق، وقد كان يميد كما يميد الشجر في اليوم العاصف.. اقتربت منه، فسمعته يردد بشوق عظيم هذه الأبيات الرقيقة:

زدني بفرطِ الحبِّ فيكَ تحيُّراً

  وارحمْ حشىً بلظي هواكَ تسعَّراً

وإذا سألتكَ أنْ أراكَ حقيقةً

  فاسمَحْ، ولا تجعلْ جوابي : لن تَرَى

يا قلبُ ! أنتَ وعدتَني في حُبّهمْ

  صبراً فحاذرْ أنْ تضيقَ وتضجرا

إنّ الغَرامَ هوَ الحَياة، فَمُتْ بِهِ

  صَبّاً، فحقّكَ أن تَموتَ، وتُعذَرَا

قُل لِلّذِينَ تقدّمُوا قَبْلي، ومَن

  بَعْدي، ومَن أضحى لأشجاني يَرَى ؛

عني خذوا، وبيَ اقْتدوا، وليَ اسْمعوا،

  وتحدَّثوا بصبابتي بينَ الورى

ولقدْ خلوتُ معَ الحبيبِ وبيننا

  سِرٌّ أرَقّ مِنَ النّسيمِ، إذا سرَى

وأباحَ طرفي نظرةً أمَّلتها

  فغدوتُ معروفاً وكنتُ منكَّراً

فدهشتُ بينَ جمالهِ وجلالهِ

  وغدا لسانُ الحالِ عني مخبراً

فأدِرْ لِحاظَكَ في مَحاسِن وَجْهِهِ،

  تَلْقَى جَميعَ الحُسْنِ، فيهِ، مُصَوَّرا

لوْ أنّ كُلّ الحُسْنِ يكمُلُ صُورَةً،

  ورآهُ كانَ مهلَّلاً ومكبَّراً

سألت صاحبي عن الرجل، فقال: ألا تعرفه؟

قلت: أعرف جمال المعاني التي يذكرها في شعره هذا.. ولكني لم أتشرف بمعرفته.

قال: هذا من نصبه العاشقون سلطانا لهم([95]).. إنه رجل بحث في جميع مدن العشق ورعاياه، فلم يجد أشرف من عشق الله ومحبته.. فأفنى كل عمره فيه.. وقد قال يذكر ذلك:

نشرتُ في موكبِ العشَّاقِ أعلامي

  وكانَ قبلي بُلى في الحبِّ أعلامي

وسِرْتُ فيهِ ولم أبْرَحْ بِدَوْلَتِهِ،

  حتى وَجَدْتُ مُلوكَ العِشقِ خُدّامي

ولمْ أزلْ منذُ أخذِ العهدِ في قدمي

  لكَعْبَةِ الحُسنِ، تجريدي وإحرامي

وقد رَماني هَواكُم في الغَرامِ إلى

  مقامِ حبٍّ شريفٍ شامخٍ سامِ

جهلتُ أهليَ فيهِ أهلَ نسبتهِ

  وهمْ أعزُّ أخلاَّئي وألزامي

قضيتُ فيهِ إلى حين انقضا أجلي

  شهري ودهري وساعاتي وأعوامي

ظنَّ العذولُ بأنًّ العذلَ يوقفني

  نامَ العذولُ وشوقي زائدُ نامِ

إن عامَ إنسانُ عَيني في مَدامِعِهِ،

  فقدْ أُمِدّ بإحْسانٍ وإنعامِ

يا سائقاً عيسَ أحبابي عسى مهلاً

  وسرْ رُوَيْداً، فقَلبي بينَ أنْعامِ

سَلَكْتُ كُلّ مَقامٍ في مَحَبّتِكُمْ

  وما تَرَكْتُ مَقاماً قَطّ قُدّامي

قلت: ألا تراه يدعي بقوله هذا ادعاءات كثيرة؟

قال: حاشا لأولياء الله وأصفيائه أن يدعوا دعوى بدون أن يكون لديهم برهانها.

قلت: ولكن سلاطين العاشقين الذين نشروا في مواكب العشق أعلامهم هم الأنبياء والأوصياء والورثة.. أولئك هم أقرب الخلق إلى الله، وأعظمهم محبة لله.

قال: وهذا لا يعارض ما ذكر هذا الولي..

قلت: فكيف يستقيم الأمران، وهما في الظاهر متعارضان؟

قال: التعارض في مقامات أهل الدنيا لانحصارها وضيقها.. أما أهل الله، فلا تعارض في مقاماتهم.. فالله هو الواسع الذي لا يحاط به، وهو العظيم الذي لا يقدر قدره..

***

تركنا الرجل يبث مواجيده وأشواقه لإلهه، وسرنا في تلك الجنان، وفي ذلك الهزيع من الليل المنار بنور الصديقين.. ولم نسر إلا قليلا حتى رأينا شابا يقف أمام جامع كبير، وهو ينشد بصوت عذب يخاطبنا كما يخاطب كل مار بذلك الجامع([96]):

ما لذة العيش إلا صحبة الفقراء

   هم السلاطين و السادات والأمراء

 فاصحبهم و تأدب في مجالسهم

   و خلي حظك مهما قدموك وراء

 و استغنم الوقت و احضر دائما معهم

   و اعلم بأن الرضاء يخص من حضرا

 و لازم الصمت إلا أن سئلت فقل

   لا علم عندي و كن بالجهل مستترا

 و لا ترى العيب إلا فيك معتقدا

   عيبا بدا بينا لكنه استترا

 و حط رأسك و استغفر بلا سبب

   و قم على قدم الإنصاف معتذرا

 و إن بدا منك عيب فاعترف و أقم

   وجه اعتذارك بما فيك منك جرى

 و قل عبيدكم أولى بصفحكم

   فسامحوا و خذوا بالرفق يا فقراء

 هم بالتفضل أولى و هو شيمتهم

   فلا تخف دركا منهم و لا ضررا

 و بالتفتي على الإخوان جد أبدا

   حسا و معنى و غض الطرف إن عثرا

 و راقب الشيخ في أحواله فعسى

   يرى عليك من استحسانه أثرا

 و قدم الجد و انهض عند خدمته

   عساه يرضى و حاذر أن تكن ضجرا

 ففي رضاه رضى الباري و طاعته

   يرضى عليك فكن من تركها حذرا

 متى أراهم و أنى لي برؤيتهم

   أو تسمع الأذن مني عنهم خبرا

 من لي و أنى لمثلي أن يزاحمهم

   على موارد لم آلف بها كدرا

 أحبهم و أداريهم و أوثرهم

   بمهجتي و خصوصا منهم نفرا

 قوم كرام السجايا حيثما جلسوا

   يبقى المكان على آثارهم عطرا

 يهدي التصوف من أخلاقهم ظرفا

   حسن التآلف منهم راقني نظرا

هم أهل ودي وأحبابي الذين علوا

   عمن يجر ذيول العز مفتخرا

لا زال شملي بهم في الله مجتمعا

   و ذنبنا فيه مغفورا و مغتفرا

ثم الصلاة على المختار سيدنا

   محمد خير من وفى و من نذر

سألت صاحبي عن المنشد، وسر إنشاده، وسر وقوفه على باب ذلك الجامع، فقال: في هذا الجامع مدرسة تخرج الصديقين.. وهذا المنشد يعلم كل داخل آداب الدخول في مدارس الصديقين.. فلا يصح الدخول على الصديقين إلا بصحبة الأدب..

عندما سمعت هذا شعرت بشوق عظيم يدفعني إلى دخول ذلك الجامع، والتعلم في مدرسته..

وقد وفقني الله فرأيت فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وقد رأيت فيه من السعادة ما لم أجده في أي محل من محال الدنيا.. وأغرب ما وجدته فيه معلمك (معلم السلام)

قلت: عجبا.. كيف ذلك؟ هل عرفت سره وحقيقته؟.. لطالما شغلت بالتعرف عليها.

قال: أجل لقد رزقني الله بعض علوم ذلك..

قلت: فهيا خبرني.. وأزل عني الغموض الذي لا طالما أرقني.

قال: لا.. لم يؤذن لي في الحديث عن ذلك.. فحسبك ما ذكرته لك.


([1])  هو بطل رسالة (النبي الإنسان) من هذه السلسلة.. ولا يخفى وجه الإشارة التي يحملها هذا الاسم.

([2])  حدائق بابل المعلقة: هي إحدى عجائب الدنيا السبع، وتقع بابل قُرب بغداد الحالية في العراق..

([3])  رواه البخاري.

([4]) أشير به إلى أبي الطيب المعروف بـ (صديق حسن خان) (1248 – 1307 هـ الموافق لـ 1832 – 1890 م)، وهو محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي.. ومن كتبه (حسن الاسوة في ما ثبت عن الله ورسوله في النسوة) و(فتح البيان في مقاصد القرآن) عشرة أجزاء في التفسير، و(لف القماط) في اللغة، و(حصول المأمول من علم الاصول) و(عون الباري) في الحديث، و(العلم الخفاق من علم الاشتقاق) و (العبرة مما جاء في الغزو والشهادة والهجرة)، و(أبجد العلوم).. وقد اخترناه هنا لأجل كتابه هذا.. ولا تخفى أهميته.. وننبه هنا كما نبهنا مرات كثيرة إلى أن ما نسوقه من حديث لا علاقة له بالشخصية التي نتحدث عنها.

([5])  رواه البخاري ومسلم.

([6])  رواه البزار والطبراني.

([7])  رواه الطبراني.

([8])  رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن.

([9]) رواه الطبراني.

([10]) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.

([11]) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

([12]) رواه ابن ماجه وغيره.

([13]) رواه الطبراني.

([14]) رواه ابن ماجه بإسناد حسن.

([15]) رواه الخطيب بإسناد حسن.

([16]) رواه الديلمي في مسنده وأبو عبدالرحمن السلمي في الأربعين التي له في التصوف والحكيم الترمذي في نوادر الأصول.

([17]) رواه ابن عبد البر في كتاب العلم.

([18]) رواه مسلم.

([19]) رواه الديلمي.

([20]) رواه الديلمي.

([21]) الغرة : أهل الغفلة الذين ركنوا إلى الدنيا.

([22]) رواه الديلمي.

([23]) رواه ابن لال في مكارم الخلاق.

([24]) رواه أبو الشيخ.

([25]) رواه أبو الشيخ.

([26]) رواه أبو نعيم.

([27]) رواه أحمد والطبراني في الكبير والبيهقي والخرائطي في مكارم الاخلاق.

([28]) رواه ابن عساكر في تاريخه.

([29]) رواه ابن قانع في معجمه.

([30]) رواه الطبراني في الكبير.

([31]) رواه ابن عدي والبيهقي.

([32]) رواه الطبراني في الأوسط.

([33]) رواه البخاري ومسلم.

([34]) رواه الحاكم في تاريخه.

([35]) رواه الطبراني في الأوسط.

([36]) رواه أبو نعيم في الحلية، والضياء.

([37]) هذه الكلمات منقولة بتصرف من كتاب (العبادة واجتهاد السلف فيها) للشيخ صلاح عبد الموجود.

([38]) انظر فصلا خاصا بعبادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رسالة (النبي الإنسان) من هذه السلسلة.

([39]) رواه البخاري ومسلم.

([40]) رواه مسلم، وسورة النساء في هذا الحديث مقدمة على آل عمران، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود.

([41])  سنسوق هنا بتصرف واختصار خطبة الإمام علي في وصف المتقين كما وردت في نهج البلاغة.

([42]) رواه مسلم.

([43]) رواه الطبراني.

([44]) رواه أحمد.

([45]) رواه الطبراني.

([46]) رواه مسلم.

([47]) رواه البخاري ومسلم.

([48]) رواه أحمد.

([49]) رواه ابن حبان.

([50]) رواه النسائي والترمذي وقال حسن صحيح.

([51]) رواه الطبراني.

([52]) وظيفة السجان ليست ظلما بحد ذاتها، ولكنها تكون كذلك إن كان السجان تابعا للظلمة، أو ساجنا للمظلومين.

([53]) رواه البخاري ومسلم.

([54]) رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب.

([55]) رواه أحمد.

([56]) رواه الطبراني في الكبير عن أم سلمة.

([57]) رواه أحمد والترمذي وابن حبان، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

([58]) رواه أحمد والترمذي.

([59]) رواه أحمد.

([60]) ولا يرزؤه: أي لا ينقصه ويأخذ منه.

([61]) رواه مسلم.

([62]) رواه البخاري.

([63]) تحدثنا في الفصل السابق عن الزهد وحقيقته وفضله، وسنكتفي هنا بذكر بعض ما ورد في التراث الإسلامي حوله.

([64]) ما نذكره من هذه المقتطفات الشعرية هو من قصيدة حكمية وعظية لأبي إسحاق الإلبيري، وهو من شعراء الأندلس الأفاضل.

([65]) مدارج السالكين:2/340.

([66]) فتاوى السبكي: 2/548.

([67]) مدارج السالكين:2/342.

([68]) أصل هذه الأبيات رواها الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال أملي عليَّ عبدُ الله بنُ المبارك هذه الأبياتَ بطرطوس، وودعتُه للخروج وأنشدها معي إلى الفضل بن عياض في سنة سبعين ومائة.

وقد طعن في صحة سندها، ونحن لم نوردها هنا إلا على المعنى الذي أردناه ولا يهمنا من نقلها، والشواهد الكثيرة من النصوص تدل على صحة المعاني الواردة فيها إذا كان الجهاد في محله الصحيح.

([69]) رواه البخاري ومسلم.

([70]) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

([71]) رواه البخاري.

([72]) رواه البخاري ومسلم.

([73]) رواه البخاري ومسلم.

([74]) رواه البخاري.

([75]) رواه البخاري.

([76]) رواه البخاري ومسلم.

([77]) رواه البخاري.

([78]) رواه البخاري ومسلم.

([79]) رواه البخاري ومسلم.

([80]) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي.

([81]) رواه البخاري.

([82]) رواه البخاري.

([83]) فواق ناقة: أي قدر مدة حلب الناقة.

([84]) رواه أبو داود واللفظ له. والترمذي والحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وله إسناد صحيح على شرط الشيخين مختصرا.

([85]) رواه النسائى والبيهقى.

([86]) رواه الدارقطنى فى الأفراد، والديلمى، والرافعى.

([87]) رواه مسلم.

([88]) أفناء الناس: أي لم يعلم ممن هو، الواحد فنء.

([89]) نوازع القبائل: جمع نازع ونزيع، وهو الغريب الذي نزع أهله وعشيرته، أي بعد وغاب.

([90]) رواه أحمد والطبراني بنحوه ورجاله وثقوا، وله شاهد جيد عنده، ورواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.

([91]) رواه البخاري.

([92]) هذا الدعاء الطويل والمهم من أدعية الإمام علي بن أبي طالب، رواه عنه كميل بن زياد النخعيّ، وقد روي أنه رآه ساجداً يدعو بهذا الدعاء في ليلة النصف من شعبان.. وهو من الأدعية الممتلئة بالمعاني العرفانية العظيمة الدالة على المقام العالي الذي كان عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو مقام الصديقية، الذي شهدت له به النصوص الكثيرة.

([93]) العبارات الحكيمة المذكورة هنا منقولة من كتاب (المواقف والمخاطبات) للنفري، ولا شك في المعاني السامية التي تتضمنها.. وهي معاني تتناسب مع الصديقية والولاية.. ونعتذر لتصرفنا في بعضها، وذلك للضرورة التي يقتضيها المنهج الذي اعتمدناه.

([94]) أشير به إلى العارف الكبير أبي عبد الله محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري (ت 354 هـ)، من كبار الصوفية.. ينسب إلى بلدة (نفر) بين الكوفة والبصرة..من كتبه (المواقف) و(المخاطبات) ومنهما اقتبسنا بعض المعاني الواردة هنا.

([95]) أشير به إلى عُمر بن علي بن مرشد بن علي الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، الملقب شرف الدين بن الفارض (576 – 632 هـ)، من شعراء الصوفية الكبار، يلقب بسلطان العاشقين.

([96]) هذه مقتطفات من قصيدة للشيخ أبى مدين، وقد ذكرناها هنا لما لها علاقة بآداب السلوك إلى مراتب الصديقين.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *