ثامنا ـ التنوع

في اليوم الثامن، صاح السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا المساء.. سيساق إلى الموت (النّفس الزّكيّة)([1]).. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح لجميع السجناء بتوديعه والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن.. ومن يخترقها فسيتحمل مسؤولية خرقه.
بمجرد أن فتحت أبواب الزنازن أسرع السجناء إلى ساحة السجن حيث سبقهم النّفس الزّكيّة.. والبسمة على شفتيه.. والسرور باد على وجهه.
لقد تذكرت بمرآه صورة سميه المجاهد البطل (النّفس الزّكيّة)..
تذكرت تلك اللحظات المريرة التي تم فيها استشاهده.. بل تلك اللحظة التي أظهر فيها من الثبات ما أظهره على أرض المعركة..
***
بعد أن التفت جموع السجناء بالنّفس الزّكيّة نظر إليهم نظرة ملؤها الحنان، وقال: لقد حدثكم صاحبي عن المساواة.. وأنا لا أجد إلا أن أحدثكم عن التنوع.. فلا يمكن لشريعة أن تحفظ العدل وهي لا تحترم التنوع الذي أودعه الله في خلقه.
لقد عبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الركن من أركان العدالة، فقال 🙁 أنزلوا الناس منازلهم)([2])
وعبر عنه، فقال:(ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا) ([3])
وروي في تطبيق هذا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل بيتا من بيوته، فدخل عليه أصحابه حتى امتلأ المجلس، فجاء جرير بن عبد الله البجلي، فلم يجد مكانا فقعد على الباب فلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رداءه وقدمه إليه ليجلس عليه، وقال له:( اجلس على هذا)، فأخذ جرير الرداء، ووضعه على وجهه، وجعل يقبله ويبكي، متأثرا من إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، ثم لفه ورده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاكرا مقدرا، وقال: ما كنت لأجلس على ثوبك يا رسول الله، أكرمك الله يا رسول الله كما أكرمتني، فنظر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يمينا وشمالا ثم قال : (إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه)([4])
وعبر عنه عندما أمر بالتجاوز عن عثرات أهل الفضل وذوي الهيئات، وتَقبُّل أعذارهم للحفاظ على منزلتهم وشأنهم إلا في حدود الله عز وجل وحقوق الناس، فقال 🙁 أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)([5])
وروي في تطبيقه وصيته صلى الله عليه وآله وسلم بالأنصار الذين حازوا الخير والفضل كله بإيوائهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته، وحبه، وحب كل من هاجر إليهم ومؤاثرته على أنفسهم.. لقد أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: (أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزا عن مسيئهم)([6])
قال رجل منا: أنت ـ بكلامك هذا ـ تنسف كل ما أراد صاحبك الذي حدثنا عن المساواة أن يقنعنا به؟
قال النفس الزكية: لا ـ يا أخي ـ كلامي يكمل كلامه ولا ينسفه.. لقد خشيت أن تفهموا من المساواة ما فهمها الشيوعيون، فتنحرفوا عما تتطلبه الفطرة السليمة من ضرورة التنوع والاختلاف..
قال الرجل: وما فعل الشيوعيون؟
قال النفس الزكية: لقد تصوروا أن أي تمييز بين البشر ـ مهما دفعت إليه الضرورة والفطرة ـ نوعا من أنواع الطبقية.. وتصوروا أن محو هذا النوع من الطبقية من شأنه أن يضع حداً لما ذخر به تاريخ البشرية من ألوان الصراع، لأن مرد تلك الألوان إلى التناقض الطبقي الذي نتج عن انقسام المجتمع إلى مالكين ومعدمين، فإذا ماقامت الشيوعية، وحولت المجتمع إلى طبقة واحدة، زال التناقض الطبقي، واختفت كل ألوان الصراع، وساد – حسبها- الوئام والسلام إلى الأبد.
قال الرجل: هذا جيد.
قال النفس الزكية: هو جيد من حيث عالم المثل.. لا من حيث الواقع.. والحياة لا تقوم إلا على الواقع الذي تدعو إليه الفطرة السليمة.. أما المثل المجردة فإنها سرعان ما تصطدم بصخرة الواقع.
قال الرجل: ومع ذلك يظل ما قاله الشيوعيون سليما، ولم يوجد من دعا إلى هذه المثل كدعوتهم.
قال النفس الزكية: ليس الشأن في الدعوة للمثل.. ولكن الشأن في أن نعيش المثل.. فهل طبق الشيوعيون ما دعوا إليه؟
سكت الرجل، فقال النفس الزكية: لقد أثبت التطبيق العملي([7]) في البلدان الاشتراكية نفسها أن إزالة الملكية الخاصة، وتأميم وسائل الإنتاج، لم يقض على التركيب الطبقي، إذ أن تركيباً طبقياً من نوع آخر قد برز إلى الوجود على أساس آخر، كان ذلك التركيب هو (الجهاز الحزبي والسياسي).
لقد كان هذا التركيب يتمتع بالإمكانيات والصلاحيات التي تفوق سائر الإمكانيات التي حصلت عليها أكثر الطبقات على مر التاريخ.. فقد كسب رجال الحزب الشيوعي سلطة مطلقة على جميع الممتلكات ووسائل الإنتاج المؤممة في البلاد، كما كسبوا مركزاً سياسياً يتيح لهم الانتفاع بتلك الممتلكات، والتصرف بها تبعاً لمصالحهم الخاصة. وتمتد امتيازاتهم من إدارة الدولة والمؤسسات الصناعية ووسائل الإنتاج إلى كل نواحي الحياة، كما تنعكس أيضاً في التناقضات الشديدة بين أجور العمال ورواتبهم الضخمة.
ولذلك، فإن صراعاً من نوع آخر قد برز إلى الوجود بين الطبقات البديلة ذاتها، صراعاً يفوق إلى حدٍ كبير العنف الذي عرفته الماركسية لأشكال التناقض الطبقي في التاريخ.
وعلى سبيل المثال، فقد شملت عمليات التطهير تسعة وزراء من أعضاء الوزارة الأحد عشر الذين كانوا يديرون دفة الحكم في الاتحاد السوفياتي عام 1936، واكتسحت ثلاثة وأربعين أميناً من أمناء سر منظمة الحزب المركزية الذين كان يبلغ عددهم ثلاثة وخمسين أميناً، وثلاثة من مارشالات الجيش السوفياتي الخمسة، و60% تقريباً من مجموع جنرالات السوفييت، وجميع أعضاء المكتب السياسي الذي أنشأه لينين بعد الثورة، باستثناء ستالين، كما أدت عمليات التطهير إلى طرد مايزيد على مليونين من أعضاء الحزب عام 1939 من أصل مليونين ونصف وكذلك سبعين عضواً من أعضاء مجلس الحزب الثمانين. وبذلك كاد الحزب الشيوعي المطرود يوازي الحزب الشيوعي نفسه.
قال الرجل: صدقت في هذا.. لقد قدر الله لي أن أعيش في البلاد التي كانت تحمل راية الشيوعية.. وقد رأيت بعيني كيف أن الحكومة الشيوعية نفسها كيف بدأت تتراجع عن مبادئها.. ففي المرحلة الثانية من عهد ستالين كان النظام في حاجة إلى زيادة الإنتاج، ومن ثم أعلن ستالين أنه من أراد من العمال ـ بعد وحدة العمل الإجبارية الأولى ـ أن يقوم بوحدة ثانية إضافية فسيكون له عليها أجر إضافي يستطيع به أن يحسن أحواله المعيشية فيشتري أنواعاً من الطعام أفخر، أو كميات أكبر، وأنواعاً من الملابس أرقى مما توفره وحدة العمل الإجبارية.
ثم رأيت كيف أن الدولة حين احتاجت إلى زيادة الإنتاج لم تجد وسيلة إليه إلا إثارة الحافز الفردي والالتجاء إليه، ولو كانت ترى ـ أو تعتقد في دخيلة نفسها ـ أنه يمكن زيادة الإنتاج دون الالتجاء للحافز الفردي لفعلت، خاصة وهي تملك الحديد والنار وتستخدمهما ـ بإسراف ـ في جميع المجالات، ذلك أن الالتجاء للحافز الفردي ـ أيا تكن مبرراته التي تلقى أمام الناس ـ هو تراجع عن أصل من أصول النظرية، وهو الأصل القائل بأن الملكية الفردية ليست شيئاً فطرياً وأن الأصل في الناس هو الملكية الجماعية!
قال النفس الزكية: ولهذا، فإن الإسلام اعترف بالتنوع، وتعاملت تشريعاته مع البشر على أساسه، فلا يمكن أن يقوم العدل من غير مراعاة للفوارق التي فرق الله بها بين عباده.
قال الرجل: ولكن هذا التعامل سيوقع الإسلام لا محالة في مأزق لا فكاك له منه.
قال النفس الزكية: وما هو؟
قال الرجل: إن هذا سيجعله يتبنى كل ما تبناه العنصريون.. فهم لم يقولوا بما يقولون به إلا انطلاقا من رؤية ما جعل في العباد من أنواع الفوارق.
قال النفس الزكية: لا.. لقد ميز الإسلام بين أنواع التنوع.. وتعامل مع كل نوع بحسبه.
قلنا: فما أنواع التنوع؟.. وكيف تعامل معها الإسلام؟
قال النفس الزكية: هناك نوعان من التنوع.. هناك التنوع الفطري الجبلي الذي جعله الله في عباده من غير اختيار منهم.. وهناك التنوع الذي نشأ بسبب الكسب والاختيار..
قلنا: فحدثنا عن التنوع الأول.. ما تريد به؟
قال: ألا ترون أن الله خلق لكل شيء خصائصه التي تفرد بها عن غيره؟
قلنا: بلى..
قال: ألا ترون من العدل أن يعامل كل شيء بما تتطلبه طبيعته من معاملة؟
قلنا: كيف ذلك؟
قال: أنتم تعلمون أن النبات والحيوان كلاهما كائنات حية..
قلنا: صحيح.
قال: ولكنا مع ذلك.. ومع اعتقادنا لتساويهما في الحياة نتعامل معهما معاملات مختلفة.. ونستفيد منهما بأساليب مختلفة.
قال رجل منا: ذلك صحيح.. بل نحن نعتبر كل صنف من النبات والحيوان صنفا قائما بذاته، فنتعامل معه بحسب ما تتطلبه طبيعته من متطلبات.. فنحن نحرق الشوك في الوقت الذي نضع فيه الورود في أحسن موضع من منازلنا.
قال: فهذا هو التنوع الفطري.
قال الرجل: إن ما تقوله هو نفس ما يدعيه أصحاب التمييز العنصري.. إنهم يعتقدون أن من البشر أزهارا ينبغي وضعها فوق الرؤوس، وأن منهم أشواكا ينبغي أن تداس بالأقدام.
قال: لا.. الإسلام لا يقول بهذا.. ولا يقول بالتفريق بين الخلق.. فهم كلهم عباد الله متساوون في عبوديتهم لله.. ولكنه ـ مع هذا الاعتقاد ـ يتعامل مع كل صنف منهم بحسب ما وهب له من القوى والطاقات.. فالله لا يكلف النفوس إلا ما تسع وتطيق..
انظر مثلا إلى القرآن الكريم كيف اعتبر أصحاب العاهات كغيرهم من الناس.. فـ { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)} (النور)
وهم في وجوب إبلاغ الدعوة لهم ـ كسائر الناس.. قال تعالى :{ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)} (عبس)
ولكنهم ـ مع هذا ـ رفع عنهم القلم فيما لا يطيقون من التكاليف.. قال تعالى :{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)} (التوبة)، وقال تعالى :{ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} (الفتح)
ومع هذا.. فإن الله برحمته يكتب لهم من الأجر والجزاء ما يكتبه للأصحاء.. وقد ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله، قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة، فقال:( إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم حبسهم المرض)، وفي رواية:(إلا شركوكم في الأجر)([8])
وعن أنس، قال : رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:( إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا، إلا وهم معنا ؛ حبسهم العذر)([9])
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الله يكتب للمعذور أجر عمله وهو في حياته العادية، فقال 🙁 إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)([10])
ويقاس على هذا كل ما ورد في النصوص من أنواع المفاضلات.. فهي في الحقيقة مفاضلات تكليف لا مفاضلات جزاء..
سأضرب لكم في هذا مثالا مهما.. كثيرا ما اتخذه الشياطين وسيلة لإثارة الشبهات والفتن..
إنه في معاملة الإسلام للمرأة.. لاشك أن الشبهات المثارة في هذا الباب تعرفونها وتحفظوها([11]).
قال رجل منا: أجل.. فقد فرق الإسلام بين الرجل والمرأة في نواح كثيرة.. وهي بالنسبة لنا مواضع شبهة.
قال آخر: لقد أعطى الإسلام المرأة نصف ما أعطى الرجل في الميراث..
قال آخر: ليس ذلك فقط.. بل لم يعتبر شهادتها نصف شهادة الرجل في كثير من المحال..
قال آخر: بل منعها من كثير من الوظائف التي أتاحها للرجال.
قال النفس الزكية: رويدكم.. أنا أعرف هذه الشبه، وأعرف من يثيرها.. إنهم قوم لا قيمة عندهم للمرأة ولا كرامة.. فهم يهينونها كل أصناف الإهانات.. ثم يستخدمونها بعد ذلك حربا على الدين الوحيد الذي حفظ لها كرامتها وعزتها وحقوقها.
قلنا: دعنا من الحديث العام.. وحدثنا عن الأدلة.. فلا تقبل الدعاوى من غير أدلتها.
قال: ليس لي الوقت الكافي لأحدثكم عن تفاصيل فضل الله على النساء.. ولكني سأبين لكم أسرار التفريق بين الرجل والمرأة في المواضع التي ذكرتم..
سأضرب لكم ـ مثلا على ذلك ـ يقرب لكم المسألة..
ففي الميراث تأخذ الأم في العادة نصف نصيب الأب.. قد تتصورون أن الذكر بذلك أفضل من الأنثى.. وأن الأمر برعاية الأب أكثر من الأمر برعاية الأب..
هذا خطأ.. فقد ورد في النصوص الحث على بر الأم أكثر من بر الأب.. ففي الحديث أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال : يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال : أمك. قال: ثم من؟ قال : أمك. قال : ثم من؟ قال : أمك. قال : ثم من؟ قال : ثم أبوك([12]).
انظروا كيف اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بر الأم مقدما على بر الأب..
قلنا: ما دام الأمر كذلك.. فلم أنقص نصيبها في الميراث؟
قال: لأن الميراث مرتبط بالنواحي المالية.. والعدالة تقتضي أن تصرف الأموال لمن يحتاج إليها.. وبما أن الأب أحوج إلى المال من الأم، فقد أعطي أكثر منها في بعض الأحوال.. لأن نفقتها واجبة عليه.
ومع ذلك، فإن هذا ليس عاما، فالميت إذا ترك أولاداً وأباً وأماً.. فإن أبويه يرث كل واحد منهما سدس التركة، دون تفريق بين ذكورة الأب وأنوثة الأم، كما قال تعالى :{ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُما السُّدُسُ.. (11)} (النساء)
وسر ذلك أن الأب في هذه الحالة عادة يكون كبير السن، ويكون له من الأولاد والأحفاد من ينفق عليه، فاستوى هو والأم في الميراث بسبب ذلك.
قال رجل منا: فما تقول فيما ورد في القرآن من أن :{.. لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ.. (11)} (النساء)؟
قال النفس الزكية: هو نفس ما قلت في الأم([13]).. فعلى الذكر من الأعباء ما ليس على الأنثى.. والعدالة تقتضي أن يعطى من تقع عليه الأعباء..
فعلى الرجل في بداية حياته الزوجية أن يدفع المهر لزوجته، قال تعالى :{ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً..(4)} (النساء)
وعلى الرجل بعد الزواج أن ينفق على المرأة، وإن كانت تمتلك من الأموال ما لا يمتلكه هو، فليس من حقه أن يطالبها بالنفقة على نفسها فضلاً عن أن يطالبها بالنفقة عليه ؛ لأن الإسلام ميزها وحفظ مالها، ولم يوجب عليها أن تنفق منه.
والرجل ـ فوق هذا ـ مكلف بالنفقة على الأقرباء وغيرهم ممن تجب عليه نفقتهم، حيث يقوم بالأعباء العائلية والإلتزامات الإجتماعية التى يقوم بها المورث باعتباره جزءاً منه، أو امتداداً له، أو عاصباً من عصبته.
وهذه الأسباب وغيرها تجعلنا ننظر إلى المال أو الثروة نظرة أكثر موضوعية، وهى أن الثروة أو المال أو الملك مفهوم أعم من مفهوم الدخل.. فالدخل هو المال الوارد إلى الثروة، وليس هو نفس الثروة ؛ حيث تمثل الثروة المقدار المتبقى من الواردات والنفقات.. وبهذا الإعتبار نجد أن الإسلام أعطى المرأة فى بعض الحالات نصف الرجل فى الدخل الوارد، وكفل لها الاحتفاظ بهذا الدخل دون أن ينقص سوى من حق الله كالزكاة، أما الرجل فأعطاه الله الدخل الأكبر وطلب منه أن ينفق على زوجته وأبنائه ووالديه، ومن تلزمه نفقتهم من قريب وخادم وما استحدث فى عصرنا هذا من الإيجارات والفواتير المختلفة ؛ مما يجعلنا نجزم أن الله فضل المرأة على الرجل فى الثروة ؛ حيث كفل لها حفظ مالها، ولم يطالبها بأى شكل من أشكال النفقات.
قال رجل منا: وعينا هذا.. ولكن ما تقول فيما ورد في القرآن من أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل..
ابتسم النفس الزكية، وقال: أرايتم لو أن طبيبا ذكر القدرات الجسمية للرجل والمرأة.. فذكر من بينها قوة عضلات الرجل مقارنة بقوة عضلات المرأة.. وأنه لذلك يمكنه أن يتحمل من الجهد البدني ما لا تتحمله المرأة.. هل تراكم توافقونه على ذلك، وترونه ناصحا.. أم أنكم تؤلبون عليه الخصومة، وتعتبرونه محتقرا للمرأة؟
قلنا: بل نراه ناصحا.. فهذه حقيقة نراها بأم أعيننا.
قال: ومع ذلك يمكنكم أن تقولوا بأن من النساء من يفوق الرجال قوة.
قلنا: ذلك صحيح.. ولكنه في حكم الشاذ.. والشاذ لا يقاس عليه.
قال رجل منا: أما إن قلت ذلك.. فقد كنت في يوم من الأيام مع طبيب ملحد.. وقد سمعنا قارئا يقرأ قوله تعالى :{ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } (البقرة :282).. وقد تعجبت إذ رأيت الطبيب ينصرف بكليته إلى الآية.. ثم يسأل عنها.. ثم سرعان ما يعلن إسلامه.
وعندما سألته عن سر هذا التغير المفاجئ أخبرني بأنه ـ بعد بحوث طويلة ـ اكتشف هذه الحقيقة ([14])..
قال الرجل: فما تقول فيما قاله محمد من أن (المرأة كالضلع إن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها استمتعت بها على عوج)([15])
قال النفس الزكية: أقول فيه ما قال الشوكاني.. فقد قال تعليقا على هذا الحديث 🙁 الحديث فيه الإرشاد إلى ملاطفة النساء والصبر على ما لا يستقيم من أخلاقهن، والتنبيه على أنهن خلقن على تلك الصفة التي لا يفيد معها التأديب ولا ينجع عندها النصح، فلم يبق إلا الصبر والمحاسنة وترك التأنيب والمخاشنة)([16])
قال الرجل: ما يعني الشوكاني بقوله هذا؟
قال النفس الزكية: في هذا الحديث يخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرجال عن طبيعة النساء حتى لا يخطئوا في التعامل معهن([17]).. فمن من أكبر أسباب المشاكل العائلية تعامل الرجل مع المرأة وكأنها رجل، وتعامل المرأة مع الرجل بهذا المنظار، مع أن لكل منهما أسلوب تفكيره الخاص الذي قد يتناقض مع أسلوب الآخر، تناقضا تحتاج إليه الحياة لاستمرارها، كما تحتاج الذرة إلى الجمع بين تناقضات إلكتروناتها وبروتوناتها.
قال الرجل: أنت تقصد أن هذا الحديث لا يحمل أي ذم للمرأة؟
قال النفس الزكية: هو لا يحمل أي ذم للمرأة.. بل هو كقول القائل : إن القوس منحني الشكل، فليس في ذلك أي ذم للقوس، بل هو وصف له، ودليل على جماله، ولو وصف بالاستقامة لكان وصفا لغير القوس.
فكذلك المرأة تقتضي منها طبيعتها، وفطرتها الأنثوية والعاطفة التي جبلت عليها أن تميل معها حيث تميل، فلذلك أرشد الرجل لأن يميل لميلها مراعيا طبيعتها، كمن يسير في منعرجات ومنحنيات يحتاج إلى السير كما تقتضي تلك المنحنيات والمنعرجات، وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:
هي الضلع العوجاء لست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
تجمع ضعفا واقتدارا على الفـتى أليس عجيبا ضعفها واقتدارها
وقد رأيت من خلال الواقع والتجربة أن لهذه المعرفة دورا كبيرا في حل الكثير من الخلافات الزوجية، بل في الوقاية من وقوعها..
قلنا: نراك خرجت بالحديث عن المرأة عن التنوع؟
قال النفس الزكية: لا.. لم أخرج.. هذا نموذج عن تعامل الإسلام مع التنوع الفطري..
لقد انتشر بين الناس، ولفترة طويلة ما يسمى بالمساواة بين الرجل والمرأة.. وهذا خطأ كبير.. نتج عنه خطر كبير.. فالمرأة التي نريد أن نساويها بالرجل سنقضي على خصائصها وشخصيتها لتتحول بعد ذلك إلى مسخ.. فلا هي رجل.. ولا هي امرأة..
قال الرجل: أما إن قلت ذلك.. فقد صدقت.. ولم يكن قصدي من سؤالك إلا الوصول إلى هذا.. وقد كنت طبيبا، ورأيت من الفروق بين الرجل والمرأة ما يؤيد ما ذكرت.
قلنا: حدثتنا عن التنوع الأول.. فحدثنا عن التنوع الثاني.. ما تريد به؟
قال: التنوع الثاني لا يرتبط بالفطرة.. وإنما يرتبط بالكسب.. والعاقل هو الذي يحترم اختيار الإنسان ما دام هذا الاختيار لا يضر بمصالح الآخرين.
قلنا: ما تعني؟
قال: لقد ورد في الحديث ما يوضح هذا المعنى.. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقال الذين في أعلاها: لا ندعهم يصعدون فيؤذونا، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)([18])
قلنا: فهمنا الحديث لكنا لم نفهم قصدك منه.
قال: في هذا الحديث يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الحياة تقتضي التنوع.. فإن كان في السفينة طبقتين.. فلابد أن يحل بعض الركاب في أسفلها وبعضهم في أعلاها.. فلا يمكن أن يجتمع الجميع في طبقة واحدة..
وهكذا الحياة .. لا بد أن يتنوع الناس فيها.. فمن الناس من ينصرف للعلوم.. ومنهم من ينصرف للصناعات.. ومنهم من ينصرف للمكاسب.. وكل ذلك محترم.. ولا حرج فيه.. لقد أشار القرآن إلى هذا، فقال :{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} (الأنعام)
ولكن الحرج في أن يظلم بعضهم بعضا، أو يبغي بعضهم على بعض، أو يتكبر بعضهم على بعض، أو يستغل بعضهم قدراته ليضرب بها غيره..
قال رجل منا: نعم.. الإسلام احترم التنوع الكسبي المرتبط بالمعايش والأرزاق.. ولكنه لم يحترمه فيما يرتبط بالأفكار والمذاهب والملل والنحل.
ابتسم النفس الزكية، وقال: بل لم يوجد في دين الدنيا احترم كل ذلك كما فعل الإسلام.. اسمع إلى القرآن الكريم وهو يقرر الجهاد في سبيل الله في سبيل حماية المعتقدات المختلفة.. قال تعالى :{.. وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} (الحج)
قال الرجل: ولكن الإسلام يفرق بين الناس على أساس أديانهم.. ألم تر في القرآن هذه العبارة :{ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)} (القلم).. وهذه العبارة :{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} (ص).. وهذه العبارة :{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} (الجاثية).. وغيرها من العبارات التي توحي بالتفرقة بين الناس على أساس أفكارهم وسلوكهم؟
قال النفس الزكية: صدق الله العظيم.. بل فوق ذلك فإن القرآن الكريم أخبر أن الله تعالى لا يقبل إلا الإسلام، قال تعالى:{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} (آل عمران)
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 تجيء الأعمال يوم القيامة، فتجيء الصلاة فتقول : يا رب، أنا الصلاة. فيقول: إنك على خير.. فتجيء الصدقة فتقول: يا رب، أنا الصدقة. فيقول: إنك على خير.. ثم يجيء الصيام فيقول: أي يا رب، أنا الصيام. فيقول: إنك على خير.. ثم تجيء الأعمال، كل ذلك يقول الله تعالى: إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول: يا رب، أنت السلام وأنا الإسلام.. فيقول الله تعالى: إنك على خير، بك اليوم آخذ وبك أعطي)، قال الله في كتابه:{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} (آل عمران)([19])
قال الرجل: فالإسلام لا يحترم التنوع المكتسب إذن؟
قال النفس الزكية: فرق بين احترامك لرأي الآخر، وبين تخطئتك له.. فتخظئتك له لا تعني إلا نصيحتك له.. ألا ترى أن الأستاذ عندما يمتحن تلاميذه يسألهم.. ثم يحترمهم في أن يترك لكل واحد منهم الفرصة في أن يجيب الإجابة التي يشاء.. ويحترم نفسه بعد ذلك حينما يضع لكل واحد منهم العلامة التي يستحقها.. أم أنك تريد من الأستاذ أن يسوي بين المخطئ والمصيب.. وبين المجد والهازل؟
قال الرجل: ولكن الأمر مختلف.
قال النفس الزكية: لا.. ليس مختلفا.. لقد وضع الله كل وسائل الهداية للخلق.. وأعطاهم من العقول ما يعون به الحقائق.. ثم ترك لهم الفرصة في الكسب الذي يبغونه.. وبعد ذلك أخبر أنه سيحاسبهم على أساس ذلك الكسب.
قال الرجل: ولكن ذلك سيلغي التنوع الفكري والديني؟
قال النفس الزكية: كل هدف الإسلام أن يرى البشر جميعا الحقائق بأعينهم ليؤمنوا بها.. ويدخلوا في دين الله أفواجا.
قال الرجل: فالإسلام يلغي التنوع إذن.. ولا يقر به.
قال النفس الزكية: التنوع الذي يريده الإسلام هو التنوع الصحيح.. لا التنوع الزائف.. هل ترى الأستاذ النصوح يود أن يكون في تلاميذه المقصر والجاهل بحجة احترام التنوع في تلاميذه.
قال الرجل: لا..
قال النفس الزكية: فما التنوع الذي يريده الأستاذ من تلاميذه؟
قال الرجل: هو تنوع المواهب والتخصصات والقدرات.
قال النفس الزكية: فهذا هو التنوع الإيجابي الذي يريده الإسلام من البشر.. لكن التنوع الآخر لا يرضاه..
قال الرجل: تقصد أن المسلم يضيق بالآخر.
قال النفس الزكية: المسلم النصوح يحزن للآخر.. ويأسف له.. ويتمنى من كل قلبه أن يعرض عن جهله ليقبل على الله بكليته.. لقد كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحال ورثته.. لقد ذكر الله ذلك، فقال :{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} (الكهف)، وقال :{ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } (فاطر:8)، وقال :{ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} (النحل:127)، وقال :{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } (الشعراء:3)
قال الرجل: ألا ترى أن هذا الحزن والضيق يلجئه إلى استعمال العنف في سبيل إلجاء الآخر إلى الإسلام؟
قال النفس الزكية: لا يمكن أن يدخل الناس الإسلام بالعنف.. فالإسلام حب.. والحب لا يفرض بالعنف.. ومن يفعل ذلك يخرج الناس من الإسلام، ولا يدخلهم فيه..
لقد حصل في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان في بني النضير ـ وهم من اليهود ـ أناس من أبناء الأنصار قد تهوّدُوا([20]) بسبب تربيتهم بين ظهراني اليهود، فأراد أهلوهم المسلمون منعهم من الرحيل معهم فأنزل الله عزوجل :{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} (البقرة)
قال الرجل: فهل احترم المسلمون هذا؟
قال النفس الزكية: أجلهم.. وما كان لهم إلا أن يحترموا.. والتاريخ أكبر شاهد على ذلك([21])..
انظروا – مثلا – إلى العهد الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أعقاب غزوة تبوك عام 9 هـ لنصارى نجران، ذلك العهد الذي يمثل قمة من قمم العدل والسماحة والحرية، والذي لم يفرض عليهم فيه سوى جزية عينية متواضعة.. لقد جاء فيه: (ولنجران وحاشيتهم جوار الله.. ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين.. ولا يُؤاخذ أحد منهم بظلم آخر.. وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبداً، حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم)([22]).. وقد دخل يهود نجران في هذا الصلح([23]).
ومن العهود التي كتبها صلى الله عليه وآله وسلم لعدد من التجمعات اليهودية في شمال الجزيرة، بعد غزوة خيبر ( 7 هـ ) والسنين التي تلتها؛ عهده إلى بني جنبة بمقنة القريبة من أيلة على خليج العقبة.. وقد جاء فيه: (أما بعد، فقد نزل علي رسلكم راجعين إلى قريتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون لكم ذمة الله وذمة رسوله، وإن رسول الله غافر لكم سيئاتكم وكل ذنوبكم، لا ظلم عليكم ولا عدى، وإن رسول الله جاركم مما منع منه نفسه.. وإن عليكم ريع ما أخرجت نخلكم وصادت عروككم (مراكبكم) واغتزل نساؤكم، وإنكم برئتم بعد من كل جزية أو سخرة، فإن سمعتم وأطعتم فإن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكرم كريمكم ويعفو عن مسيئكم، وأن ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل رسول الله..)
وكتب لجماعة أخرى من اليهود تدعى (بني غاديا): (.. إن لهم الذمة وعليهم الجزية ولا عداء)
كما كتب لبني عريض كتاباً آخر يحدد فيه ما عليهم أن يدفعوا للمسلمين لقاء حمايتهم لهم وعدم ظلمهم إياهم.
وكتب لأهل جرباء وأذرح من اليهود: (إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ إليه من المسلمين)([24])
وبذلك تمكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من تحويل هذه التجمعات اليهودية إلى جماعات من المواطنين في الدولة الإسلامية يدفعون لها ما تفرضه عليهم من ضرائب نقدية أو عينية، ويحتمون بقوتها وسلطانها، ويتمتعون بعدلها وسماحتها.
ولقد ظل اليهود ـ والنصارى بطبيعة الحال ـ كمواطنين وليسوا كتلاً سياسية أو عسكرية ـ يمارسون حقوقهم في إطار الدولة الإسلامية لا يمسسهم أحد بسوء، وعاد بعضهم إلى المدينة، بدليل ما ورد عن عدد منهم في سيرة ابن هشام ، وفي مغازي الواقدي.
وهناك الكثير من الروايات والنصوص التاريخية التي تدل على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح، حتى إنه أوصى عامله معاذ بن جبل بـ (أن لا يفتن اليهود عن يهوديتهم)، وعلى هذا النحو عومل يهود البحرين؛ إذ لم يُكلّفوا إلا بدفع الجزية، وبقوا متمسكين بدين آبائهم.
***
ما وصل (النّفس الزّكيّة) من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاء السجان، ومعه مجموعة من الجنود، ثم أخذوا بيده، وساروا به إلى مقصلة الإعدام.. وفي فمه ابتسامة عذبة ذكرتني بابتسامة سميه النّفس الزّكيّة وهو يواجه سيوف الفئة الباغية..
أراد بعضنا أن يتدخل ليمنعهم.. فأشار إلينا بأن نتوقف، وقال: أستودعكم الله أيها الإخوان الأفاضل.. لا أريد منكم وأنا متوجه للقاء ربي الذي طالما اشتقت إليه إلا أن تتأملوا في المعاني العظيمة التي جاء بها الإسلام.. فهي وحدها الكفيلة بإخراج البشرية من كل الظلمات الشيطانية لتزج بها في كل الأنوار المقدسة.
قال ذلك، ثم سار بخطا وقورة إلى المقصلة.. وتمتم بالشهادتين، ثم أسلم نفسه مبتسما لله.
بمجرد أن فاضت
روحه إلى باريها كبر جميع السجناء بمذاهبهم وطوائفهم وأديانهم.. وقد صحت معهم
بالتكبير دون شعور.. وقد تنزلت علي حينها أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس
محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
([1]) أشير به إلى محمد النفس الزكية بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ،ولد بالمدينة المنورة سنة 100 هـ كان كثير الصوم والصلاة، شديد القوة.
أمام الواقع المأساوي الذي أصاب الأمة، وأمام الإلحاح الشديد من الأنصار بإعلان الثورة، خرج محمد النفس الزكية من مخبئه في أول رجب سنة 145هـ، وفاجأ الناس والوالي العباسي بالظهور، وقد حرص – كعادة أهل البيت -على أن تكون ثورته سلمية فمنع أصحابه من سفك الدماء والتعذيب والتنكيل محدّداً أهدافه بحرب الطاغية المنصور، وإقامة دولة الله، وقد قال في الخطبة التي ضمنها أهداف خروجه: (..اللهم إنهم قد أحلّوا حرامك، وحرّموا حلالك، وآمنوا من أخفت، وأخافوا من آمنت، اللهم فأحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا… أيها الناس إني والله ما خرجت من بين أظهركم، وأنتم عندي أهل قوة ولا شدة، ولكني اخترتكم لنفسي، والله ما جئت هذه وفي الأرض مصر يُعبد فيه الله إلا وقد أخذ لي منه البيعة)
وقد وقف بجانبه الكثير من العلماء، ومنهم « مالك بن أنس » الذي أصدر فتوى تجيز للناس التحرّر من بيعة المنصور إلى مبايعة النفس الزكية، وقد برّر ذلك قائلاً: « إنما بايعتم مُكرَهين، وليس على كل مكره يمين ».. وكان لهذه الفتوى أثرها في إقبال الناس.
وقد أرسل إخوته وأبناءه إلى الأمصار الإسلامية لأخذ البيعة: ابنه الحسن إلى اليمن، علي إلى مصر، وعبدالله إلى خراسان، وأخوه موسى إلى الجزيرة، ويحيى إلى الري وطبرستان، وإدريس إلى المغرب، وإبراهيم إلى البصرة..
استشهد عند أحجار الزيت موضع قرب المدينة على يد جيش أبي جعفر المنصور، واحتزوا رأسه، وقبر بالبقيع. وكان عمره خمسا وأربعين سنة.
([2]) رواه أبو داود وغيره.
([3]) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، ورواه أحمد بلفظ مقارب.
([4]) رواه الطبراني في الأوسط والكبير.
([5]) رواه أبو داود.
([6]) رواه البخاري ومسلم.
([7]) انظر: الإسلام بين كينز وماركس وحقوق الإنسان في الإسلام، الدكتورة نعيمة شومان.
([8]) رواه مسلم.
([9]) رواه البخاري.
([10]) رواه مسلم.
([11]) انظر الرد المفصل عن الشبهات المثارة في هذا الباب في رسالة (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.
([12]) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لهما : (أمك ، ثم أمك ، ثم أباك ، ثم أدناك أدناك)، زاد ابن حبان: قال 🙁 فيرون أن للأم ثلثي البر)
([13]) رجعنا في هذا إلى مقال بعنوان: الرد على شبه المتنصرين في الميراث، إعداد أحمد حسين خليل حسن، كلية الدراسات الإسلامية – جامعة الأزهر.. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
([14]) ففي دراسة حديثة قام بها علماء في (سيدني ـ أستراليا) ونشرت نتائجها على شبكة CNN وشبكة BBC الإخبارية بعنوان الدراسة: Pregnancy does cause memory loss, study says (الحمل يجعل الذاكرة أقل، الدراسة تقول ذلك). أثبتت الدراسة أن الحمل يتسبب بضعف ذاكرة النساء، وأن هذه الحالة تستمر لفترة ما بعد الولادة أحياناً حيث يتسبب الحمل في تناقص طفيف في عدد خلايا الذاكرة لدماغ الأم الحامل.
قالت جوليا هنري، وهي إحدى العاملات على البحث من جامعة نيوساوث ويلز بسيدني، لشبكة CNN : (ما وجدناه هو أن المجهود الذهني المرتبط بتذكر تفاصيل جديدة أو أداء مهام متعددة المراحل، يصاب باضطراب9 وأضافت: (قد تعجز المرأة الحامل مثلاً عن تذكّر رقم جديد، لكنها ستستعيد بسهولة الأرقام القديمة التي كانت تطلبها على الدوام) وقالت هنري: إنها قامت، مساعدة الدكتور بيتر ريندل، بوضع هذه الدراسة بالاعتماد على تحليل 12 بحثا شمل مسحاً لقدرات النساء الذهنية قبل الولادة وبعدها.
ولفتت إلى أن النتائج تشير إلى احتمال استمرار حالة الاضطراب هذه بعد الولادة لعام كامل أحياناً، دون أن تؤكد بأن الوضع يتحسن بعد تلك الفترة بسبب الحاجة إلى المزيد من الأبحاث.. غير أن الدراسة لم تحدد أسباب هذه الظاهرة، نظراً للحاجة إلى إجراء المزيد من الفحوصات المخبرية المعمقة، وإن كانت قد استعرضت مجموعة من السيناريوهات المحتملة، وفي مقدمتها تبدل هرمونات الجسد والتغيّر السريع في نمط العيش.
([15]) رواه الترمذي، وقال:حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه وإسناده جيد.
([16]) نيل الأوطار:6/358.
([17]) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في (العلاج الشرعي للخلافات الزوجية) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)
([18]) رواه أحمد والبخاري والترمذي.
([19]) رواه أحمد.
([20]) روى أبو داود في سبب تهودهم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مُقْلاة، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّده، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لاندع أبنائنا فأنزل الله عزوجل:{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} (البقرة)
([21]) نقلنا المعلومات التاريخية الواردة هنا من مقال بعنوان (شهادة التاريخ)، بقلم أ. د. عماد الدين خليل.. من موقع (الإسلام اليوم)
([22]) رواه محمد بن سعد في كتاب (الطبقات الكبرى)، والبلاذري.
([23]) البلاذري : فتوح البلدان.
([24]) ابن سعد : الطبقات 1/2/28 ـ 30.