ثالثا ـ قيم

في اليوم الثالث من تلك الأيام العشرة المباركة، التقيت المستشرق الذي قطفت على يده ثمرة القيم من شجرة النبوة..
وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} (المائدة)
وسر قوله تعالى:{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)}(الإسراء)
وعرفت بها سر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما بعث لاتمم مكارم الاخلاق)([1])
فهذه النصوص المقدسة تخبر عن مقصد شريف من مقاصد الإسلام، وهو التزكية والتربية وبث القيم الرفيعة في النفوس والمجتمعات المسلمة، وهو هدف لم يتحقق إلا في الإسلام.. ولم أعرف برهان ذلك إلا في ذلك اليوم المبارك.
***
منذ وطئت قدماي أرض السربون كان لي شوق عظيم لأن ألتقي (آرثر جون آربري)([2]).. لقد كنت أشعر بأن بيننا صلات قرابة كثيرة..
فهو يهتم بالقيم الإنسانية الرفيعة، ويعتبرها الثمرة الكبرى لكل دين، بل يقيم الأديان على أساسها، وكنت مثله في ذلك.
وقد كانت القيم التي يبشر بها هي نفس القيم التي أشعر بأهميتها الكبرى في بناء الحياة الإنسانية.
وقد كان مع ذلك يتألم كثيرا لتخلف القيم عن المجتمعات المعاصرة التي باعت نفسها للشياطين الذين وضعوا لها دساتير تخالف دساتير الفطرة التي طبعت عليها.
في ذلك الصباح الجميل.. وفي حديقة من حدائق باريس تشتهر بأنواع جميلة من الأزهار.. تفوح بكل روائح العطر العذبة.. وتشرق منها جميع ألوان الابتسامة.. رأيته كراهب يجثو أمام زهرة من الزهرات يتأملها، ويغرق في تأمله.
كنت أعلم حبه للغة العربية.. فلذلك اقتربت منه، وأنشدته قول مسعود سماحة:
تمتعْ بأزهارِ هذي الحياة فإِن حياتكَ بعضُ الزمنْ
وخلِّ النضارَ وجمعَ النضار فما زاد نفسكَ غيرُ الكفنْ
التفت إلي، وقال: صدقت.. ولا فض فوك..
ثم نظر إلى الأزهار، وقال: صدق مسعود سماحة.. لقد عبر خير تعبير عن جمال الحياة التي تختزنها هذه الأزهار.
قلت: أراك غارقا في التأمل فيها.. فهل ترى فيها ما لا نرى؟
قال: ربما ترى فيها أنت ـ ما دمت تتذوق الشعر ـ ما أرى.. ولكن الكثير ممن ترى لا يرى ما نرى.
قلت: أنا لا أرى إلا زهرة تفوح بأريج العطر، وتملأ العين بثغرها الجميل المبتسم.
قال: إن هذه الزهرة التي تراها تختزن جميع القيم الكريمة..
ثم التفت إلى البشر الذين حوله، وقال: لقد كان في إمكان كل فرد من هؤلاء أن يكون كهذه الزهرة.. وكان في إمكان البشر جميعا أن يتحولوا إلى أزهار طيبة تفوح بأعذب ألحان العطر.. وكان في إمكان الأرض أن تصبح بذلك حقلا كبيرا وحديقة عظيمة وجنة من الجنان لا تقل عن جنان الآخرة..
قاطعته قائلا: فما الذي حال بينهم وبين أن يكونوا كذلك؟
قال: الشهوات التي ملأتهم بها الشياطين، والأنانية التي جعلتهم يدوسون كل زهرة، ويخنقون كل عطر.
قلت: فأنت يائس إذن من البشر.. سلمت نفسك لعالم الأزهار..
قال: لا.. لست يائسا.. لقد ترك رجل من البشر وطئت قدماه ثرى الأرض ذات يوم بذورا كثيرا لأزهار جميلة ظلت تتفتح في كل العصور.. لعلها في يوم من الأيام تستطيع أن تحول الأرض حديقة غناء..
قلت: تقصد المسيح.. لا شك أنك تقصده.
قال: المسيح ترك بذورا كثيرا لأزهار جميلة.. لكن المجرمين خنقوها في مهدها، لعلهم حافظوا على ألوانها وبعض روائحها، ولكنهم سقوها السم الزعاف، فلا يقترب منها أحد إلا أصابه من سمها.
قلت: فمن هذا الذي بقيت أزهاره سالمة لم تخنق؟
قال: محمد.
قلت: نبي المسلمين.
قال: نبي العالمين.. إنه النبي الوحيد الذي لا تزال بذور أزهاره حية عطرة جذابة يمكنها أن تحول الأرض جميعا حديقة غناء.
قلت: أنت مغرم باللغة والأدب.. وقد قرأت لك ترجمتك لمسرحية (مجنون ليلي) لأحمد شوقي.. فما الذي جعلك تربط بين تعاليم محمد، وبين الأزهار؟.. أو ما هو وجه الشبه بينهما؟
قال: انظر إلى هذه الزهرة الجميلة.. وأخبرني عن سر جمالها.
قلت: أنت تكلفني عنتا.. فالجمال ذوق من الصعب الحديث عن أسراره.
قال: أما أنا.. فقد حاولت أن أجعله علما.. وحاولت أن أبحث عن سر أسراره.
قلت: لم؟
قال: لأبحث عن كيفية تحويل البشر إلى أزهار.. لقد وجدت أثناء بحثي المضني سبعة أسرار.. فلما انتهيت من تحديدها رحت أبحث في الفلسفات وفي الأديان عمن عبقت تلك الأسرار السبعة من تعاليمه، وفي الأجيال التي تربت على تعاليمه، فلم أجد ذلك إلا في دين محمد.
قلت: فما هذه الأسرار السبعة.
قال: العفاف، والكرم، والنبل، والتضحية، والقوة، والأمانة، والصدق.. وقد رأيت من خلال بحثي عن سر الزهرية في الأزهار أنها كلها ترجع إلى العفاف.. أو كلها تنطلق من العفاف.. فالفرد العفيف مأوى لكل فضيلة، والمجتمع العفيف مأوى لكل القيم.
لقد صدق محمد عندما عبر عن ذلك، فقال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الاولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت)([3]).. فالحياء الذي أساس العفة.. هو الحاجز بين الإنسان وكل رذيلة، وهو الحامل لكل إنسان على كل فضيلة.
قلت: فهل ترى في هذه الأزهار ما تذكره من هذه الصفات؟
قال: لولا توفر الأزهار على هذه الصفات ما كانت أزهارا..
قلت: فحدثني عنها.
قال: حديثها طويل.. وسأختصره لك اختصارا.. ولكني لن أحدثك عن القيم التي جاء بها محمد حتى أحدثك عن القيم التي نشرتها شياطين الرذيلة في مجتمعاتنا.. فلا يظهر جمال النور إلا في الظلمة.
نظر إلى الأزهار بحزن، ثم قال: لقد خلق الله البشر مثل هذه الأزهار براءة وعذوبة وجمالا.. لقد كان عبير البشر الأزهار يسيح في الأرض، فيملأها بالجمال..
لكن المجرمين الذين استسلموا لأهوائهم راحوا يحولون من تلك الأزهار الجميلة أشواكا وسموما.. فصارت الأرض التي كانت جنة سجنا.. وصارت الأرض التي كانت مأوى الطيبة والعفاف ماخورا للخبث والرذيلة..
لقد صارت كما ذكر القرآن في (جاهلية)..
قلت: نعم.. لقد وصف القرآن قوم محمد بأنهم كانوا يعيشون جاهلية.
قال: كما وصف غيرهم بأنهم في جاهلية.. فالجاهلية في المفهوم القرآني لا تعني فترة زمنية.. ولا محلا مكانيا.. بل تعني قيما منحطة، ونظما جائرة، وأخلاقا منحرفة، وفكرا شيطانيا..
إن الجاهلية في المفهوم القرآني هي الكلمة البديلة عن كل ذلك..
لقد ذكر القرآن جاهلية التصور، فقال:{ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } (آل عمران:154)
وذكر جاهلية الحكم، فقال:{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50)
وذكر جاهلية التبرج، فقال:{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } (الأحزاب:33)
وذكر جاهلية العصبية والقومية والوطنية، فقال:{ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } (الفتح:26)
قلت: ولكن الجاهلية مشتقة من الجهل.. والجهل لا يعني إلا تخلف العلم.
قال: أعظم الجاهليات هي الجاهليات التي تحول من العلم حمارا تركبه لتنفذ به مآربها الخسيسة.. لا تحول العلم فقط.. بل تحول كل مسؤولية تناط بها.
وقد كان قومنا من هؤلاء..
أما رجال ديننا، فحولوا من الكتاب المقدس شبكة يصطادون بها أموال الناس وأعراضهم..
وأما رجال دنيانا، فحولوا من السلطات التي خولت لهم وسيلة لجر رعاياهم إلى مستنقعات الشياطين، لأنه لا يستقيم لهم الأمر إلا إذا عبدت رعيتهم الشياطين.
قلت: أراك متحاملا على رجال الدين ورجال الدنيا!؟
قال: لست متحاملا.. ولكنها الحقيقة التي عرفتها بعد كل تلك السنين..
لقد عرفت أن القيم النبيلة لم تكن في يوم من الأيام إلا في الإسلام.. وأنها لن تكون في يوم من الأيام إلا بالإسلام..
الإسلام وحده هو الإكسير الذي يقضي على كل سموم الجاهلية.
نظر إلي، ثم قال: قد تتهمني بالحياد.. وتخطئ في ذلك.. لأني لم أكن في يوم من الأيام مسلما، ولكني أحدثك عن جهود وبحوث امتدت بي إلى ما تراه من عمر.
لقد بدأت بالمسيحية.. بحكم كوني من أسرة مسيحية.. وأعجبت بالرهبان الذين مثلوا العفاف والمروءة والنبل ـ في نظري في ذلك الوقت ـ في أرقى درجاتها.. ولكني بعد ذلك عرفت أن سلوك الرهبان لم يزد الفجور إلا انتشارا، ولا الانحراف إلا رسوخا.
قلت: كيف ذلك؟
قال: حديث ذلك يطول.. فالجاهلية التي تغلغلت في جميع مناحي الحياة من الصعب جمع جميع تفاصيلها.. ولذلك سأحدثك عن بذرة خطيرة من بذور الجاهلية، وهي في نفس الوقت ثمرة من أخطر ثمارها.
لقد اعتبرها الإسلام حماية الفرد والمجتمع منها مقصدا من مقاصده، بل من ضروريات مقاصده.
قلت: تقصد حفظ العرض والنسل.
قال: أجل.. لقد قال محمد يبين خطورة هذا النوع من الانحراف: (من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة)([4])
وقد وضع الإسلام لأجل وقاية المجتمع لأجل تحقيق هذا المقصد منظومة كاملة من التشريعات.. لا يزال قومنا يسخرون منها ويضحكون مع أنه لا يمكن للبشر أن يتحولوا إلى أزهار من دونها.
قلت: لقد كنت تحدثني عن الرهبان..
قال: أجل.. لقد أراد الرهبان أن يصادموا الفطرة بموقفهم من المرأة، فصدمتهم.
لقد كان الرهبان..حسب ما استنتجت بعد ذلك سببا من أسباب الرذائل التي تعيشها مجتمعاتنا.
لقد كانوا ينشرون إيحاء عاما في المجتمع بأن المرأة مخلوق شيطانى دنس ينبغى الابتعاد عنه.. وكانوا يرون أن الزواج ضرورة غريزية حيوانية للعامة، ولكن السعيد الأتقى من استطاع أن يرتفع عنها ولا يتزوج([5]).
لقد قال أحد رجال الكنيسة لتلاميذه مرة: (إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائناً بشرياً، بل ولا كائنا وحشياً، وإنما الذى ترون هو الشيطان بذاته والذى تسمعون هو صفير الثعبان)([6])
وقد عبرت (رأى ستراتشى) إحدى المطالبات بحقوق المرأة فيما بين الحربين، عن موقف الرهبانية، فقالت: (يستفاد من النظرية التى أوصت بهذا التطاول عن المرأة أن الشهوة الجنسية هى أشنع الخطاياً جميعاً، وأنها كانت فى الحقيقة الخطيئة التى سببت سقوط الإنسان، وإن العفة الكاملة هى أعلى مثل فى الحياة وأنه يجب أن يلعن النساء لأنهن سبب الغواية، وكان يقال أن الشيطان مولع بالظهور فى شكل أنثى وأنه طالما زار النساك بهذه الصورة فى كهوفهم الجبلية وصفوة القول أن مجرد التفكير فى النساء كان خطراً وأن المرأة نفسها كان نحساً من النحوس)([7])
ومضت الأمور على ذلك حيناً طويلا: مباذل شنيعة بشعة فى الإمبراطورية الرومانية على اتساعها، ورهبانية واسعة الآفاق على حدود الصحارى، وفى داخل المدن، فراراً من الفساد.
لقد ذكر (ليكى) فى كتابه (تاريخ الأخلاق فى أوروبا) تأثير سلوك الرهبان السلبي في انتشار الرذائل، فقال: (كانت الدنيا فى ذلك الحين تتأرجح بين الرهبانية القصوى والفجور الأقصى، وإن المدن التى ظهر فيها أكبر الزهاد كانت أسبق المدن فى الخلاعة والفجور، وقد اجتمع فى هذا العصر الفجور والوهم اللذان هما عدوان لشرف الإنسان وكرامته)([8])
ويصور الكاتب النفور من المرأة وما يرتبط بها من علاقات فى ظل الرهبانية، فيقول: (وكانوا يفرون من ظل النساء، ويتأثمون من قربهن والاجتماع بهن، وكانوا يعتقدون أن مصادفتهن فى الطريق والتحدث إليهن، ولو كن أمهات أو أزواجاً وشقيقات تحيط أعمالهم وجهودهم الروحية)
وقال ترتوليان Tertulian، وهو أحد أقطاب المسيحية الأول وأئمتها، مبينا نظرية المسيحية فى المرأة: (إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، وإنها دافعة بالمرء إلى الشجرة الممنوعة، ناقضة لقانون الله. ومشوهة لصورة الله ـ أى الرجل ـ)
وقال كرائى سوستام Chry Sostem الذى يعد من كبار أولياء الديانة المسيحية فى شأن المرأة: (هى شر لابد منه، ووسوسة جبلية، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة، ورزء مطلى مموه)
لقد كانت هذه أقوالهم.. ولكن أفعالهم لم تكن كأقوالهم..
فالتاريخ يشهد في جميع فتراته على الفضائح الكثيرة التي كانت تنتشر داخل دور العبادة وبين الرهبان والراهبات.. ولا تزال مثل هذه الفضائح تنشرها الجرائد كل حين..
نظر إلي، وقال: لا تستغرب.. فمن يقرأ ما في الكتاب المقدس من نصوص تكاد تصور الرذيلة للعين، بل تكاد تجعلها شيئا مقدسا لا يستغرب أن يحصل كل ذلك.
ففي الكتاب المقدس نصوص كثيرة تبيح الرذيلة، بل تكاد تقدسها([9]).
فـ (البغاء) من الوظائف المحترمة في الكتاب المقدس، والبغيُّ شخصية مقبولة فيه، وإن كانت مُحتقَرة في المجتمع العبراني القديم، ففي سفر التكوين (38/14 ـ 19) ذكر أن يهودا عاشر عاهرةً نظير أجر، ولا يوجد في السياق ما يدل على أن هذا أمر مرفوض أخلاقياً، وقد اتضح فيما بعد أن العاهرة هي تامار زوجة ابنه الذي مات، وقد أنجبت من والد زوجها طفلين.
ويذكر سفر يشوع قصة العاهرة راحاب التي ساعدت العبرانيين على دخول أريحا (يشوع 2/1 ـ حتى نهاية السفر)، وترد في سفر الملوك الأول 3/16) ـ 27) قصة سليمان مع الأُمَّين اللتين تنازعتا طفلاً، وهما في القصة عاهرتان.
وتوجد في سفر القضاة (16/1) إشارة إلى زيارة شمشون لعاهرة في غزة.
ليس ذلك فقط.. بل إن إبراهيم ذلك النبي الذي اجتمعت الأمم على فضله يتحول في الكتاب المقدس إلى بائع لعرضه.. ففي العهد القديم إشارة صريحة إلى أن إبراهيم قد استفاد مالياً من العلاقة الجنسية لزوجته بفرعون مصر.
وإستير البطلة اليهودية التي يوجد في الكتاب المقدس سفر مسمَّى باسمها هي الأخرى عاهرة.
والإشارات والقصص في الكتاب المقدس كلها تدل على أن مهنة البغاء مهنة طبيعية، قد تكون وضيعة ولكنها، مع هذا، جزء من البناء الاجتماعي والأخلاقي.
وقد ورد في العهد القديم فقرات لا تُحرِّم البغاء في حد ذاته، وإنما تُحرِّم على العبرانيين أن يدعوا بناتهم يعملن بهذه المهنة: (لا تدنس ابنتك بتعريضها للزنى لئلا تزني الأرض وتمتلئ الأرض رذيلة) (لاويين 19/29)
وهناك فقرات تُحرِّم على الكهنة الزواج من عاهرات: (امرأة زانية أو مدنَّسة لا يأخذ ولا يأخذوا امرأة مطلقة من زوجها) (لاويين 21/7). وهي تحريمات ليست عامة أو مطلقة وإنما مقصورة على أفراد معيَّنين وتحت ظروف معيَّنة. ولذا، فإننا نجد إشارات عديدة في العهد القديم إلى عاهرات يقمن بوظيفتهن بشكل شبه عادي (أمثال 7/1. ـ 23، أشعياء 23/16، ملوك 22/38)([10])
طأطأت رأسي خجلا، فقال: ليت الأمر اقتصر على هذا.
قلت: أهناك ما هو أخطر من هذا؟
قال: أجل.. لقد تحولت الكنائس التي يأوي إليها الشاردون الذين غلبتهم شهواتهم لتملأهم بالعفاف محال لا تكتفي بالسكوت على الرذائل فقط.. بل تيسر الطريق إليها..
سأذكر لك شهادة رجل مسلم عاش في أمريكا مدة، واختلط ببعض كنائسها، وقد وصف بدقة ما رآه ([11])..
لقد قال يقدم لتلك الشهادة: إن كثيرين مممن لم يعيشوا بعض الوقت فى أوروبا أو أمريكا ـ أو ممن عاشوا هناك ولكنهم لم يتعمقوا وراء الظواهر ـ كثيراً ما تخدعهم كثرة الكنائس وانتشارها ـ وبخاصة فى الولايات المتحدة ـ حيث تقوم فى البلد الصغير الذى لا يتجاوز تعداده عشرة آلاف نسمة أكثر من عشرين كنيسة أحياناً.. وكثيراً ما تخدعهم كثرة مظاهر الاحتفالات الدينية والمراسم والأعياد الدينية.. وكثيراً ما تخدعهم كثرة الأحزاب التى تحمل أسماء (المسيحية).. ثم كثيراً ما يخدعهم ما يكتبه ويذيعه رجال الدين من كتب ومقالات وبحوث وإذاعات فى موضوعات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية البحتة أحياناً..
كثيراً ما يخدعهم هذا كله فيحسبون أن للدين شأناً فى أوروبا وأمريكا، وأن لرجال الدين أثراً فى الحياة الاجتماعية هناك.. وهذه نظرة سطحية لا تدرك حقيقة ما هو واقع هناك.
إن الكنيسة ـ بعد أن ذاقت مرارة الإهمال، ووحشة البعد عن الحياة الاجتماعية، بعد شرود الناس منها منذ عصر النهضة، وخاصة منذ عصر التنوير، ثم عصر الفلسفة الوضعية المادية ـ قد عادت تلهث وراء المجتمع، وتتعلق بأهداب الناس. لا لتقود المجتمع ولا لتنقل الناس إلى الدين. ولكن لتجرى وراء المجتمع، ولتتملق شهوات الناس!
عادت لتقيم فى الكنائس ـ بعد القداس ـ حفلات مختلطة للجنسين يشرب فيها النبيذ، وتدور حلقات الرقص، وتعرض فيها ألعاب التسلية، ويتخاصر فيها الفتيان والفتيات المخمورين، ويلتذون نشوة المخاصرة والعناق حتى الفجر.. كل أولئك لاجتذاب الشبان والشواب إلى الكنيسة!
لقد جربت الكنيسة حين وقفت ـ بالباطل ـ فى وجه ميول الناس الفطرية، كيف خرجوا عليها وداسوها وأهملوها، فعادت الآن تتجنب أن تقف ـ بالحق ـ فى وجه شهواتهم ونزواتهم، فيدوسوا عليها ويهملوها!
لقد عادت أوروبا إلى حياة الرومان القديمة التى تسمح للآلهة والأرباب أن تنطق بالرجز على ألسنة الكهان، وأن تكون مواسمها مواسم بهجة ولذة ومتاع.. وذلك دون أن يسمحوا لها بالتدخل فى شئون حياتهم أو توجيهها وجهة تنافى اللذة والمتاع.
بعد هذه المقدمة ذكر بعض مشاهداته في كنائس أمريكا، فقال: (إذا كانت الكنيسة مكاناً للعبادة فى العالم النصرانى ـ على تفاوت ـ فإنها فى أمريكا مكان لكل شىء إلا للعبادة، وإنه ليصعب عليك أن تفرق بينها وبين أى مكان آخر معد للهو والتسلية، أو ما يسمونه بلغتهم time (fun) good ومعظم قصادها إنما يعدونها تقليداً اجتماعياً وضرورياً، ومكاناً للقاء والأنس، ولتمضية (وقت طيب) وليس هذا شعور الجمهور وحده، ولكنه كذلك شعور سدنة الكنيسة ورعايتها.
ولمعظم الكنائس ناد يتألف من الجنسين ـ شباناً وشواب ـ ويجتهد راعى كل كنيسة أن يلحق بالكنيسة أكبر عدد ممكن، وبخاصة أن هناك تنافساً كبيراً بين الكنائس المختلفة بالمذاهب والنحل.
ولهذا تتسابق جميعاً فى الإعلان عن نفسها بالنشرات المكتوبة، وبالأنوار الملونة على الأبواب والجدران، للفت الأنظار، وبتقديم البرامج اللذيذة المشوقة، لجلب الجماهير، بنفس الطريقة التى تتبعها المتاجر، ودور العرض السينمائى والتمثيل.. وليس هناك من بأس فى استخدام أجمل فتيات المدينة وأرشقهن وأبرعهن فى الغناء والرقص والترويح.. تماماً كما تقف فتيات فى ثياب شديدة اللمعان والإثارة فى مداخل وطرقات دور السينما لجذب الأنظار..
وهذه ـ مثلاًـ محتويات إعلان عن حفلة كنيسة، كانت ملصقة فى قاعة اجتماع الطلبة فى إحدى الكليات،لجذب طلبة الكلية وطالباتها إلى كنيسة معينة فى المدينة الجامعية الصغيرة: (يوم الأحد ـ أول أكتوبر سنة 1950ـ فى الساعة السادسة مساء.. عشاء خفيف. ألعاب سحرية. ألغاز. مسابقات. تسلية. رقص)
وليس فى هذا أى غرابة. لأن راعى الكنيسة لا يحس أن عمله يختلف فى شئ عن مدير المسرح، أو المدير المتجر.. النجاح أولاً وقبل كل شئ.. ولا تهم الوسيلة.. وهذا النجاح يعود عليه بنتائجه الطيبة: المال، والجاه، فكلما كثر عدد الملتحقين بكنيسته عظم دخله وزاد كذلك احترامه ونفوذه فى البلدة. لأن الأمريكى بطبيعته يؤخذ بالضخامة فى الحجم والعدد. وهى مقياسه الأول فى الشعور والتقدير)([12])
قلت: علمت ما حصل للعفة.. فما حصل لغيرها؟
قال: لقد ذكرت لك أن العفاف هو الأساس الذي تقوم عليه القيم.. فمن ذهب العفاف عنه تملكته الشياطين، ولم يدر في أي واد من أوديتها يهلك.
ولهذا كان محمد يحذر من الوقوع في الفواحش.. وكان يقول: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعلمون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فان أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)([13])
التفت إلي، فرآني صامتا لا أجد كلمة أستطيع أن أرد بها على ما ذكره من فضائح الكنيسة.. فقال: ذلك عندنا.. معشر أتباع المسيح.. أو معشر عبدة المسيح..
أما عند اليهود.. فالأمر لا يختلف كثيرا.. ولا يستغرب ذلك من دين يمتلئ كتابه المقدس بكل تلك الرذائل الخلقية.
ولهذا كان من أهم الوظائف التي مارسها اليهود في المجتمعات التي حلوا فيها في جميع فترات التاريخ تجارة الرقيق الأبيض([14]).
نظر إلى الأزهار الجاثية أمامه بألم، ثم قال: ليت الأمر اقتصر على البغاء المجرد.. لقد حاول هؤلاء الذين لم ينالوا من أنبيائهم غير اللعنات أن يجعلوا الأرض جميعا ماخورا من مواخير الرذيلة.
لقد نقلوا فن الرذيلة إلى الجامعات والمدارس.. بل إلى المستشفيات والعيادات النفسية.. ليجعلوا الإنسان كائنا جنسيا لا هم له إلا إرواء شهواته.. وبأي السبل؟
قلت: أراك تلمح إلى فرويد!؟
قال: فرويد وغيره من الذين أرادو أن يمسحوا كل براءة لا زالت تطبع وجه البشرية.
قلت: ولكن ما علاقة فرويد وأوليائه باليهود؟
ابتسم، وقال: لم يكن فرويد إلا ثمرة من الثمار اليانعة التي أثمرتها شجرة اليهودية الملقحة ببراعم الوثنية.
قلت: نعم.. فرويد نبت بين اليهود.. ولكنه ليس واحدا منهم.. ولا ينبغي أن نتهم دينا من الأديان لانحراف فرد من أفراده.. وإلا لم يبق دين في الأرض.. بما فيها الإسلام.
قال: لقد كنت أقول قولك هذا إلى أن بان لي وجه الحق الذي حاول البعض ستره.
قلت: فما بان لك([15])؟
قال: لقد قرأت أقوال الكثير من المحللين الذين ربطوا بين فرويد واليهودية ([16]).. ولم أقتنع بكل ما قالوا إلى أن سمعت ما قال فرويد نفسه.
قلت: فما قال؟
قال: لقد رأيت فرويد يربط كثيرا بين التحليل النفسي وانتمائه اليهودي، فالمقاومة التي لاقاها التحليل النفسي كانت، في تَصوُّره، جزءاً من رفض الحضارة الغربية لكل ما هو يهودي، والتحليل النفسي في تصوره كان من إبداعه.. لقد قال: (لمدة عشر سنوات كنت أنا الشخص الوحيد الذي انشغل به ولا أحد يعرف أكثر مني ما هو التحليل النفسي)
وكان فرويد يتصور أن عالم الأغيار (غير اليهود) سيرفض التحليل النفسي بسبب يهوديته، ولذا كان يتصـور أنه لابد من إعطائه واجهة (مسيحية)، وكان هذا هو الدور المُوكَل ليونج ابن الراعي السويسري.
فكتب فرويد إلى كارل أبراهام خطاباً يحثه فيه على كسب مودته، (فيونج مسيحي وابن قسيس (ولذا فهو) يجد عناصر مقاومة داخلية شديدة تعوق اقترابه مني. ونحن لا غنى لنا إطلاقاً عن رفاقنا الآريين كافة، وإلا سقط التحليل النفسي ضحية معاداة اليهود)
وحينما اعترض أتباع فرويد على ترشيح يونج لرئاسة الجمعية الدولية قال لهم فرويد: (إن معظمكم من اليهود، ومن ثم فإنكم لن تستطيعوا ضم أصدقاء للفكر الجديد، على اليهود أن يَقنَعوا بدورهم المتواضع في تمهيد الطريق، فمن أشد الأمور أهمية بالنسبة لي أن أستطيع إيجاد روابط مع دنيا العلم. وها أنتم ترون أني أتقدم في السن وأشعر بالتعب من الهجوم المتواصل. إننا جميعاً (أي اليهود العاملين في حقل التحليل النفسي) في خطر)
ثم أمسـك فرويد بثنيـة سـترته، ومـضى يقول بطريقة مسرحية: (إنهم لن يتركوا لي سترة أغطي بها ظهري ولكن السويسريين (أي المسيحيين) سينقذوننا سينقذونني، وسينقذونكم جميعاً أيضاً)
وكان فرويد كثيراً ما يتباهى باليهودية وبانتمائه اليهودي، فكان يرى أن الشعب اليهودي قَدَّم التوراة للعالم، وأن اليهودية مصدر طاقة لكثير مما كتب.
وقد أكد أكثر من مرة أنه كان دائماً مخلصاً لشعبه (ولم أتظاهر بأنني شيء آخر: يهودي من مورافيا جاء أبواه من جاليشيا)
وحينما سأله صديق يهودي عما إذا كان من الواجب على اليهود أن يوجهوا أولادهم لاعتناق المسيحية، وهو أمر كان شائعاً بين اليهود آنـذاك، بل من المعروف أن بعـض أقـارب فرويد قد تَنصَّروا، رد قـائلاً: (اليهودية مصدر طاقة لا يمكن أن تُعوَّض بأي شيء آخر، (فاليهودي) عليه كيهـودي أن يكافح، ومن الواجـب أن يُنـمِّي في نفسـه كل هذا الكفاح، فلا تحرمه من هذه الميزة)
وقد انضم فرويد لجماعة (بناي بريت) عام 1895 وفيها ألقى أولى محاضراته عن تفسير الأحلام. وفي 6 مايو عام 1926 أقامت الجمعية حفلاً خاصاً بمناسبة بلوغه السبعين من عمره، ولم يَحضُر فرويد هذا الحفل وأناب عنه في حضوره طبيبه الخاص البروفسور لدفيج براون الذي ألقى كلمته والتي تضمنت قوله (.. إن كونكم يهوداً لأمر يوافقني كل الموافقة لأنني أنا نفسي يهودي. فقد بدا لي دائماً إنكار هذه الحقيقة ليس فقط أمراً غير خليق بصاحبه، بل هو عمل فيه حماقة أكيدة. إنني لتربطني باليهودية أمور كثيرة تجعل إغراء اليهودية واليهود أمراً لا سبيل إلى مقاومته، قوى انفعالية غامضة كثيرة كلما زادت قوتها تَعذَّر التعبير عنها في كلمات. بالإضافة إلى شعور واضح بالذاتية الداخلية، الخلوة الآمنة لتركيب عقلي مشترك. ثم بعد هذا كله كان إدراكي أنني مدين بالفضل لطبيعتي اليهودية فيما أملك من صفتين مميزتين لم يكن في وسعي الغناء عنهما خلال حياتي الشاقة: فلأني يهودي وجدت نفسي خلواً من التحيزات التي أضلت غيري دون استخدام ملكاتهم الذهنية، وكيهودي كنت مستعداً للانضمام إلى المعارضة وللتصرف دون موافقة الأغلبية الساحقة. وهكذا وجدت نفسي واحداً منكم أقوم بدوري في اهتماماتكم الإنسانية والقومية، واكتسبت أصدقاء من بينكم، وحثثت الأصدقاء القليلين الذين تبقوا على الانضمام إليكم)
ولكنه بعد خمسة أعوام نجده يكتب رداً على تهنئة حاخام فيينا له بمناسبة عيد ميلاده الخامس والسبعين يقول: (في مكان ما في أعماق روحي أشعر أني يهودي متعصب.. وأني شديد الدهشة أن أكتشف نفسي هكذا، رغم كل جهودي للوصول للموضوعية ولإنكار التحيز)، أي أن اليهودية التي جعلته خلواً من التحيزات في سن السبعين، جعلته غير قادر على إنكار التحيز في سن الخامس والسبعين.
بل إن فرويد كان يغازل الصهيونية ويظهر هذا في تباهيه بما يُسمَّى (الشعب اليهودي)، وكان يعرف تيودور هرتزل ويوليه الاحـترام ويشـير إليـه باعتـباره (الشـاعر والمحارب من أجل حقوق شعبنا)، وأرسل إليه أحد كتبه مع عبارة إهداء شخصي عليه، وكان أحد أبناء فرويد عضواً في جماعة قديما الصهيونية، كما كان هو نفسه عضواً فخرياً بها.
وقد كتب فرويد إلى إحدى تلميذاته من العاملات بالتحليل النفسي، وهي إشبيلر اين، بعد أن علم أنها توشك أن تضع طفلاً، يقول لها: (أود لو خرج الطفل ذكراً أن يصير صهيونياً متعصباً.. إننا يهود، وسـنظل يهوداً.. وسـيبقى الآخرون، على اسـتغلالهم لنا، دون أن يفهمونا، أو يقدرونا حق التقدير)([17])
قلت: أراك تريد أن تثبت لي بأن المنظومة الفرويدية (منظومة يهودية)، وأن التحليل النفسي (علم يهودي).. إن هذا هو نفس ما يدَّعيه الصهاينة وأعداء اليهود في آن واحد؟
قال: بل هو نفس ما يدعيه فرويد..بل هو نفس ما تبرزه الأدلة الكثيرة التي تبين النشأة الحقيقية لتلك النظرية التي لم يكن لها من هدف غير الإجهاز على البقية الباقية من البراءة الإنسانية.
ولتستوعب ذلك، وتقتنع به تحتاج إلى دراسة متمعنة للتلمود، وللقبَّالاه، باعتبارها من التراث المقدس لليهود([18]).
فأهم نقط التماثل بين المنظومة الفرويدية والمنظومة القبَّالية هي مركزية الجنس في كليهما، فقد سُمِّيت الفرويدية (النظرية الجنسية الشاملة) أي (الواحدية الجنسية)، وهي تسمية لها ما يبررها، فالجنس ـ حسب تصور فرويد ـ ليس وراء كل سقم نفسي وحسب، بل إن طاقته هـي المحرك أيضـاً لكل ما يَصدُر عنه من وجوه النشـاط من لحظة أن نُولَد، والجنس ليس مقصوراً على العلاقة الجنسية، ولكنه في واقع الأمر صورة مجازية تتخلل على نحو ما كل النشاط الإنساني، وضمن ذلك نشاط الإنسان العلمي والفني، وهذا لا يختلف كثيراً عن استخدام القبَّالاه للجنس كصورة مجازية أساسية في رؤيتها للعالم، فقد عزا التراث القبَّالي إلى الإله صفة الجنسية، فالتجليات النورانية العشرة (سفيروت) كان يتم التعبير عنها من خلال رموز وصور مجازية جنسية، وتُعدُّ الشخيناه (السفيروت العاشر) التعبير الأنثوي عن الإله.
وفي صدد ما جاء عن الجنس في التراث القبَّالي يذكر باكان أن هذا التراث يتضمن عشرة أسفار هي الفيض القدسي والسلطات الخفية للإله، وكل جزء منها مرتبط بجانب من الإله. وتاسع هذه الأسفار اسمه (يسود) أي الأساس، ومكان اليسود الأعضاء الجنسية لآدم قدمون أو الإنسان الأول وهو المايكروكوزم (العالم الأصغر) الذي يقابل الماكروكوزم (العالم الأكبر).
وقد وصف بعض الحاخامات القبَّالاه بأنها قامت بتجنيس الإله وتأليه الجنس، وهذا وصف دقيق أيضاً للمنظومة الفرويدية على الأقل في جانبها الاختزالي الشائع.
ومن نقاط الالتقاء بين الفكر القبَّالي والفكر الفرويدي المعرفة أو (داث)، فداث في التراث القبَّالي تَنتُج من اتحاد (حوخماه) أو الحكمة و(بيناه) أو الفهم. والحوخمـاه مفهـوم ذَكَري والبيـناه مفهـوم أنثوي، وبذا تكون داث النسل المقدَّس لاتحادهما الخفي.
غير أن المعرفة (داث) تُستخدَم أيضاً في التوراة بمعنى الاتصال الجنـسي، وأول اسـتخدام لهـا ورد في (تكوين 4: 1) بهـذا المعـنى، (وعرف آدم امرأته حواء فحبلت..)، وقد تكرر استخدام الكلمة بالمعنى نفسه في مناسبات متعددة بعد ذلك.
ويذكر باكان أن الزوهار يتحدث عن الاتصال الجنسي بوصفه (الكشف عن العرى)، ولما كانت كلمة بيناه التي تعني (الفهم) تعني في الوقت نفسه (الأم)، فإن الرجل الذي يخطئ جنسياً يكون في الوقت نفسه كأنه قد (كشف عن عرى الأم)
وفرويد يخال أنه وصل إلى الفهم (بيناه) بالكشف عن اللاشعور، أي الكشف عن عرى العقل في الإنسان. ويتضمن مفهوم الموقف الأوديبي خيال الأم العارية. والمعرفة (داث) في التراث القبَّالي تَنتُج من اتحاد الحكمة والفهم، والمعرفة (الاستبصار) عند أصحاب التحليل النفسي الفرويدي ثمرة اتحاد الشعور واللاشعور. وهذا الاتحاد في ذاته كما يقولون خبرة شهوية عميقة من حيث أنه يتناول الكشف عن الموقف الأوديبي، أي اكتشاف المرء عقدة أوديب داخل نفسه والكشف عنها ثم الكشف عما تنطوي عليه من خيال الأب والأم في العلاقة الجنسية، ومن حلول الطفل، خيالاً أيضاً، محل الأب في هذه العلاقة.
والعلاقة بين المعرفة والجنسية لها شواهد أخرى عند فرويد أيضاً، فقد ذكر في مجموعة مقالاته أن الطفل في سن الثالثة إلى الخامسة، حين تصل حياته الجنسية إلى قمتها الأولى، يبدأ يبدي من النشاط ما يمكن أن يُعزَى إلى رغبته في التقصي والمعرفة، كما أن الرغبة في المعرفة لدى الأطفال، فيما يرى فرويد، تتجه على نحو عنيف وفي فترة مبكرة إلى المشكلات الجنسية. بل إن التحليل الفرويدي ليمضي في هذا الاتجاه إلى مدى أبعد فيزعم أننا نكون أكثر دقة إذا قلنا إن هذه المشكلات (الجنسية) قد تكون أول ما ينبه رغبته في المعرفة عموماً.
ومن نقاط الالتقاء تلك المرتبطة بما جاء بالزوهار من نسبة الجنسية الثنائية للإنسان، فالإله ينطوي داخل نفسه على الشخيناه وهي مرادفه الأنثوي. وآدم الذي خُلق على مثال الإله كان ينطوي على مرادف أنثوي هو الضلع الذي خُلقت منه حواء، والفكر القبَّالي ينطوي على أن الذكر والأنثى قطبان لكيان واحد، كما أن الزوهار يتضمـن أن (الإلــه لا يبـارك مكاناً إلا حيـث يجتمــع فيــه رجل وامرأة، وأن الرجل لا يُسمَّى رجلاً إلا إذا اتصـل بامرأة، والرجل غير المتزوج ناقص وتعوزه نعمة الإله)
ويذهب فرويد إلى أن الإنسان يُولَد بتركيب جنسي ثنائي، وأن هذه الثنائية تنفصل فيما بعد، ولكن التحقيق في حياة الإنسان لا يصل إلى غايته إلا بعودة هذه الثنائية إلى الاتصال مرة أخرى في العلاقة الجنسية السوية.
وفي سفر براخوت في التلمود وردت آراء عن الأحلام تشبه كثيراً من آراء فرويد، فقد ورد في هذا السفر (إن المرء لا يرى في الحلم إلا ما توحي به أفكاره)، فالأحلام تعبير عن رغبة لدى الحالم وبالإمكان تفسيرها عن طريق اللـعب بالألفـاظ وهي ذات مدلول جنسي،وهي في أساسها تعبير رمزي،كما أنها تعبِّر عن الصراع بين دوافع (الخير) ودوافع (الشر) وهذه جميعاً تطابق ما قال فرويد عن الأحلام.
ومن المعالم البارزة في سفر براخوت أنه يستخدم الخيالات الجنسية ليرمز إلى المعرفة فيقول (إذا حلم إنسان بأنه يتصل بأمه جنسياً فله أن يتوقع الوصول إلى الفهم، وإذا حلم بأنه يتصل جنسياً بعذراء مخطوبة، فله أن يتوقع الوصول إلى معرفة التوراة، وإذا حلم شخص بأنه يتصل جنسياً بامرأة متزوجة فله أن يثق في أنه على موعد مع القدر بالنسبة لمستقبل العالم، بشرط ألا يكون على معرفة بها، وألا يكون قد فكَّر فيها أثناء المساء)
قلت: حدثتني عن بحثك في موقف المسيحية واليهودية من قيم العفاف والحرص على العرض والشرف.. ولكن المجتمعات ـ وخاصة المجتمعات الحديثة ـ لا يحكمها الدين وحده.. فهناك فلسفات ومذاهب وشيع.
قال: أجل.. لقد أمضيت في الاهتمام بهذا الجانب جزءا مهما من حياتي، وكان من أهم ما بحثت فيه البذور التي أنبتت أشجار الرذيلة في المجتمعات الغربية التي تتوهم أنها تعيش قمة قمم الحضارة مع أنها في حقيقتها لا تعدو نوعا من التطوير المخزي لحضارة سدوم وعمورية.
قلت: فماذا وجدت؟
قال: لقد أدت الثورة على الكنيسة التي لم تعرف كيف تمثل الدين تمثيلا صحيحا إلى ظهور فلسفات كثيرة لا هم لها إلا خلع اللباس الإنساني عن الإنسان، وإلباسه لباس البهيمية الغارقة في مستنقعات الشهوات.
لن أطيل الحديث عليك.. ولكني سأذكر لك ثلاثة من أعمدة الرذيلة التي قامت عليها مواخير الفساد التي تعج بها مجتمعاتنا: ماركس.. فرويد.. ودركايم([19]).. فهؤلاء الثلاثة وغيرهم كثير هم الذين تأسست عليهم الحضارة الغربية والقيم الغربية والانحرافات الغربية.
أما ماركس ـ صاحب التفسير المادى للتاريخ ـ فيبرز موقفه من العفاف في قوله: (إن (العفة) من فضائل المجتمع الإقطاعى البائد كقيمة موقوتة لابد أن توجد فى هذا الطور الاقتصادى.. لا كقيمة ذاتية ينبغى أن تتبع بصرف النظر عن الظروف الاقتصادية، لأنها مرتبطة بكيان (الإنسان) ذاته المتميز عن الحيوان)
أما فرويد، فقد عرفنا موقفه من قبل.. إنه لا يكتفى بتصوير الإنسان حيواناً، وإنما يصوره حيواناً ممسوخاً مشوهاً، ينبع كله من طاقة واحدة من طاقاته.. هى الطاقة الجنسية.
أما دوركايم، فيقول: (إن الأخلاقيين يتخذون واجبات المرء نحو نفسه أساساً للأخلاق، وكذا الأمر فما يتعلق بالدين، فإن الناس يرون أنه وليد الخواطر التى تثيرها القوى الطبيعية الكبرى أو بعض الشخصيات الفذة لدى الإنسان (يقصد الرسل والأنبياء والقديسين)، ولكن ليس من الممكن تطبيق هذه الطريقة على الظواهر الاجتماعية اللهم إلا إذا أردنا تشويه طبيعتها)([20])
أما الدين الذي كان يمكن أن يغرس وازع الفضيلة في النفس، فقد وقف هؤلاء الثلاثة، كما وقف غيرهم ممن هو تبع لهم، أو ممن كان مثلهم يحتقرونه ويزدرون به:
أما دركايم، فيقول إن الدين ليس فطرة!
وأما ماركس، فيقول: إن الدين أفيون الشعب، ويقول إنه مجموعة من الأساطير ابتدعها الإقطاعيون والرأسماليون لتخدير الجماهير الكادحة، وتلهيتها بنعيم الآخرة عن حياة الحرمان فى الأرض.
وأما فرويد، فيقول: إن الدين ناشئ من الكبت، من عقدة أوديب..
وراح هؤلاء الثلاثة الذين رضعنا فلسفاتهم مع حليب أمهاتنا يرمون بمعاولهم على الأخلاق:
أما دركايم، فراح يبشر بأن الجريمة ظاهرة سوية، والزواج ليس من الفطرة، والأخلاق شىء لا يمكن الحديث عنه ككيان ثابت، وإنما كل ذلك من صنع (العقل الجمعى) الذى لا يثبت على حال، وينتقل من النقيض إلى النقيض.
وأما ماركس، فراح يبشر بأن الأخلاق مجرد انعكاس للوضع الاقتصادى المتطور على الدوام، وليس قيمة ثابتة.
وأما فرويد، فراح يبشر بأن الأخلاق تتسم بطابع القسوة حتى فى صورتها الطبيعية العادية، وهى كبت ضار بكيان الإنسان.
لقد كانت هذه الأفكار الخطيرة هي البذور التي تلقفها جميع سدنة الرذيلة ليحولوا الحضارة الغربية إلى ناد من نوادي سدوم وعمورية.
قلت: أراك لا ترى من فلسفات هؤلاء إلا جانبها المظلم.
قال: لأنه لم يكن فيها أي نور.. لقد حملت جميع مصابيح الحقيقة لأبحث عن ذرة من النور في فلسفاتهم، فلم أجدها.
قلت: ولكن الحضارة الغربية بفضل فلسفاتهم وصلت إلى ما وصلت إليه من رقي مادي.
ابتسم بسخرية، وقال: نعم.. نسيت.. لقد وصلنا إلى صناعة السينما والتلفزيون والكمبيوتر والإنترنت..
قلت: أجل.. وغيرها كثير.
قال: ولكنا لم نستخدمها إلا في تمكين الرذائل والانحرافات.. لنجعل في كل بيت ماخورا من مواخير الرذيلة..
كان يمكننا بهذه الأجهزة ـ لو أنا التزمنا الهدي العظيم الذي جاء به محمد، وجاء به قبله الأنبياء ـ أن نحول البشر إلى زهور.. ونحول الأرض إلى حديقة.. ولكنا أبينا إلا أن نحولها إلى ما تراها.
لقد قال الدكتور (بلومر): (إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في معظم موضوعاتها، كما أن المراهقات من الفتيات يتعلمن الآداب الجنسية الضارة من الأفلام، وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب، والمغازلة، والإثارة الجنسية، والتدخين يتعلمها الشباب من خلال السينما، والتلفزيون)([21])
وقد أجرى بعضهم دراسة على (500) فيلم طويل تبين أن موضوع الحب والجريمة والجنس يشكل 72 بالمائة منها([22]).
أما الإنترنت التي استطاعت أن تصل العالم جميعا بعضه ببعض، لتحوله مجتمعا واحدا، بل أسرة واحدة، فقد مارست هي الأخرى الوظائف المنحطة التي مارسها قبلها التلفزيون والسينما.. بل إن ممارستها لها تفوق جميع الممارسات السابقة.
نظر إلى الأزهار بألم.. وقال: وهكذا قام المجرمون بخنق أزهار الفضيلة.. ليغرسوا بدلها شجرة الرذيلة..
لقد تعاون العلم مع التكنولوجيا مع الفلسفة ليملأوا النفوس العطشة بكل ما تبتغي من شهوات.. فانحط الأفراد، وانحطت الأسر، وانحط المجتمع.
قلت: حدثتني عن ضياع القيم في ظل الأديان والمذاهب والفلسفات.. فأين نجدها إذن؟
قال: في الإسلام.. لقد ذكرت لك أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي احتفظ بالقيم الإنسانية النبيلة، وأنه الوحيد الذي يستطيع أن يحول البشر إلى حقل كبير من الأزهار التي تفوح بأجمل ألوان العطر..
قلت: فحدثني عن قيم الإسلام.
قال: لقد ذكرت لك أن القيم النبيلة تجتمع في سبع.
قلت: أجل.. وقد ذكرت لي أن تلك السبع هي سر جمال الأزهار.
قال: وقد ذكرت لك أن أول سر من أسرار الأزهار (العفاف)؟
قلت: أجل.. فعليه تبني سائر القيم.
قال: نعم.. فهو يعني البراءة والطهر والصفاء.. ولا يمكن أن تكون الأزهار أزهارا من غير براءة ولا طهر ولا صفاء.
إن جمال محيا العفيف لا يختلف كثيرا عن جمال محيا أجمل زهرة من أزهار العالم..
ألا تعلم سر جمال يوسف؟.. لقد اعتبره القرآن رمزا للعفاف.. كما اعتبره المصريون والناس رمزا للجمال.. وفي ربط القرآن بينهما دليل على أن قمة الجمال لا تكون إلا مع قمة العفاف.
قلت: ولكن هذه الناحية لم تتحقق إلا في المسيحية.. فهي الدين الوحيد الذي يعتبر العفاف أصل أصوله..
قال: لعلك تقصد قول المسيح: (وسمعتم أنه قيل: لا تزن! أما أنا فأقول لكم: كل من ينظر إلى امرأة بقصد أن يشتهيها، فقد زنى بها في قلبه! فإن كانت عينك اليمنى فخا لك، فاقلعها وارمها عنك، فخير لك أن تفقد عضوا من أعضائك ولا يطرح جسدك كله في جهنم)(متى:5/ 27-29)
قلت: أجل..ألا ترى في هذا قمة العفاف؟
قال: بلى.. وهو يتفق تماما مع ما جاء في القرآن من الأمر بغض البصر والتشديد فيه، ففي القرآن:{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}(النور)
ففي هاتين الآيتين منظومة كاملة للعفاف.. فهي لا تأمر فقط بغض البصر، والذي قد يطيقه فرد من الناس، وتعجز عنه أمة منهم، ولكنه يوفر الجو المناسب للعفاف والبراءة والطهر.
نظر مليا إلى الزهرة الجميلة التي كانت سبب التقائنا، ثم قال: لا يمكن للبراءة والطهر أن تتم من خلال زهد يمارسه بعض الناس فقط..
الطهارة والبراءة والعفاف تقتضي منظومة كاملة.. وللأسف لم أجد في أي دين من الأديان ولا فلسفة من الفلسفات هذه المنظومة فيما عدا الإسلام.
قلت: إن من قومنا من يعتبرون موقف الإسلام من هذا.. ودعوته الملحة للعفاف نوعا من الكبت الذي لا ينسجم مع الفطرة السوية.. ففي الإنسان غرائز.. والمواقف السليم من الغرائز أن تطلق لا أن تحد([23]).
قال: أنت تذكرني بمواقف كثير من علماء النفس عندنا.. وموقفهم من الدين.. فقد ذكروا أن الدين يكبت النشاط الحيوي للإنسان، ويظل ينكّد عليه حياته نتيجة الشعور بالإثم، ذلك الشعور الذي يستولي على المتدينين خاصة، فيخيل لهم أن كل ما يصنعونه خطايا لا يطهرها إلا الامتناع عن ملذات الحياة.
ولهذا ظلت أوربا غارقة في الظلام طيلة تمسكها بالدين، فلما نبذت قيود الدين تحررت مشاعرها من الداخل، وانطلقت في عالم العمل والإنتاج.
قلت: أجل.. إنك تردد ما يقولونه بدقة.. أفلا ترى في هذا القول حجة كافية للرد على الإسلام في موقفه من العفاف؟
قال: إن الرد على هذا يحوجنا إلى التعرف على معنى (الكبت)، فإن هذه اللفظة كثيراً ما يساء فهمها واستخدامها في كلام المثقفين، فضلاً عن العوام والمقلدين.
قلت: الكبت على حسب ما أعرف.. على حسب ما يقولون.. هو الامتناع عن إتيان العمل الغريزي.
قال: لا.. ليس هو الكبت هو الامتناع.. وإلا لكان كل الإنسان حدثته نفسه بفاحشة من الفواحش، فلم يقع فيها مصابا بالكبت.
قلت: فما هو الكبت إذن؟
قال: الكبت في الحقيقة هو استقذار الدافع الغريزي في ذاته، وعدم اعتراف الإنسان بينه وبين نفسه أن هذا الدافع يجوز أن يخطر في باله أو يشغل تفكيره.
والكبت بهذا المعنى مسألة لا شعورية، والعمل الغريزي قد لا يكفي وحده لعلاجها.. فالذي يأتي هذا العمل، وفي شعوره أنه يرتكب قذارة لا تليق به، شخص يعاني الكبت حتى ولو فعل هذا عشرين مرة كل يوم.. لأن الصراع سيقوم في داخل نفسه كل مرة بين ما عمله وما كان يجب أن يعمله.
وهذا الشد والجذب في الشعور وفي اللاشعور هو الذي ينشئ العقد والاضطرابات النفسية.
قلت: هذا تفسيرك للكبت؟
قال: لا.. بل هذا تفسير علماء النفس أنفسهم.. بل هو تفسير فرويد نفسه الذي أنفق حياته العلمية كلها في هذه المباحث، وفي التنديد بالدين الذي يكبت نشاط البشرية. فهو يقول: (ويجب أن نفرق تفريقاً حاسماً بين هذا (الكبت الشعوري)، وبين عدم الإتيان بالعمل الغريزي، فهذا مجرد (تعليق للعمل)
قلت: فهل ترى هذا التفسير كافيا لدفع هذه الشبهة عن الإسلام؟
قال: هذه الشبهة لا تقع إلا من دين ينفر من الغرائز، ويدعو إلى كبتها.. والإسلام لم يفعل هذا.. بل ليس في أديان العالم ونظمه ما هو أصرح من الإسلام في الاعتراف بالدوافع الفطرية، وتنظيف مكانها في الفكر والشعور.. فالقرآن يقول:{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14)
ففي هذه الآية يجمع القرآن شهوات الأرض، ويقرر أنها أمر واقع مزين للناس، لا اعتراض عليه في ذاته، ولا إنكار على من يحس بهذه الشهوات.
قلت: فالإسلام إذن دين إباحي؟
قال: أنت تتصور أن أمر الغرائز إما أن يكون كبتا، وإما أن يكون إباحية؟
قلت: أنا أذكر ما يقولون.. فهل ترى أن هناك منطقة وسط بينهما؟
قال: أجل.. وقد وضع لها الإسلام منظومة من الشرائع والتوجيهات لا يكفي هذا المحل لسردها جميعا.
فالإسلام لا يبيح للبشر أن يهبطوا لعالم الحيوان بحجة مقاومة الكبت.. لأن هناك فرقاً هائلاً بين هذا وبين الكبت اللاشعوري، أي أن هناك فرقا بين استقذار هذه الشهوات في ذاتها، ومحاولة الامتناع عن الإحساس بها رغبة في التطهر والارتفاع.
وطريقة الإسلام في معاملة النفس الإنسانية هي الاعتراف بالدوافع الفطرية كلها من حيث المبدأ، وعدم كبتها في اللاشعور، ثم إباحة التنفيذ العملي لها في الحدود التي تعطي قسطاً معقولاً من المتاع، وتمنع وقوع الضرر سواء على فرد بعينه، أو على المجموع كله.
والضرر الذي يحدث للفرد من استغراقه في الشهوات، هو إفناء طاقته الحيوية قبل موعدها الطبيعي، واستعباد الشهوات له بحيث تصبح شغله الشاغل، وهمه المقيم، فتصبح بعد فترة عذاباً دائماً لا يهدأ، وجوعة دائمة لا تشبع ولا تستقر.
أما الضرر الذي يحدث للمجتمع، فهو استنفاد الطاقة الحيوية التي خلقها الله لأهداف شتى، في هدف واحد قريب، وإهمال الأهداف الأخرى الجديرة بالتحقيق، فضلاً عن تحطيم كيان الأسرة، وفك روابط المجتمع، وتحويله إلى جماعات متفرقة لا يجمعها رابط ولا هدف مشترك.
وفي هذه الحدود التي تمنع الضرر يبيح الإسلام الاستمتاع بطيبات الحياة، بل يدعو إليها دعوة صريحة فيقول مستنكراً على من حرمها:{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (لأعراف:32).. ويقول:{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } (القصص:77).. ويقول:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة:172).. ويقول:{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (لأعراف:31)
بل إن محمدا يذكر في حديث له أن الرجل يثاب على أداء ما تتطلبه هذه الغريزة زوجته، فيقول المسلمون متعجبين: (يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟)، فيرد عليهم: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)([24])
ولهذا.. فإنه يستحيل أن يحصل أي كبت في ظل الإسلام.. ذلك أن الإسلام يطلب من الشباب شيئا واحدا، وهو أن يضبط هذه الشهوات فقط دون أن يكبتها.. يضبطها في وعيه وبإرادته، وليس في لاشعوره، أي يعلق تنفيذها إلى الوقت المناسب، وليس تعليق التنفيذ كبتاً باعتراف فرويد، وليس فيه من إرهاق الأعصاب ما في الكبت، وليس يؤدي مثله إلى العقد والاضطرابات النفسية.
قلت: ولكن أولئك يعتبرون هذا نوعان من الحرمان، ولو كان حرمانا مؤقتا؟
قال: ليست في الدعوة إلى ضبط الشهوات أي تحكم.. لأنه لا يمكن أن تقوم أمة من الأمم، وهي لا تتحكم في شهواتها.. ولا تنظمها.. إنها تتحول بذلك إلى غابة لا يأمن فيها الإنسان على نفسه، ولا على عرضه..
التفت إلي، وقال: للأسف لم تعطنا حضارتنا أي كابح يجعل طاقات الأمة تتوجه نحو القيم الرفيعة لتوجه طاقتها فيها كما فعل الإسلام.. وهو دليل خطير على هزيمة الحضارة في هذا الجانب المهم من الحياة.
قلت: أيقنت هذا ووعيته.. فأخبرني عن التشريعات التي وضعها الإسلام ليحفظ بها الفرد والمجتمع من هذه الانحرافات الخطيرة التي وقعت فيها مجتمعاتنا.
قال: لا يمكن إحصاء ذلك في هذه الجلسة.. ولكني سأذكر لك أصول ما شرعه الإسلام في هذا الجانب الخطير.. والذي لم أجد مثيلا له في أي دين من الأديان، أومذهب من مذاهب الأخلاق.
أولا.. لقد بدأ الإسلام، فملأ النفس نفورا من الفواحش وهربا منها حتى صارت بالنسبة لها هي القذارة بعينها، ففي الحديث: (إذا زنى الرجل أخرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)([25])
وفي حديث آخر: (لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم الزنا فإذا فشا فيهم الزنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب)([26])
وفي حديث آخر: (إذا ظهر الزنا ظهر الفقر والمسكنة)([27])
ولهذا وصف القرآن المؤمنين بأنهم لا يقعون في مثل هذه الفواحش:{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } (الفرقان:68)
ولم يكتف الإسلام بتحريم الزنا، بل حرم كل ما يقرب منه، أو يؤدي إليه، ففي القرآن:{ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } (الأنعام:151).. وفيه:{ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } (الاسراء:32)
أنت ترى كيف أن القرآن يحذر من مجرد مقاربة الزنا، وهي مبالغة في التحرز، لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة، فالتحرز من المقاربة أضمن، فعند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضمان.
ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة، توقياً للوقوع فيه.. فيكره الاختلاط في غير ضرورة.. ويحرم الخلوة.. وينهى عن التبرج بالزينة.. ويحض على الزواج لمن استطاع.. ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع.. ويكره الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور.. وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد.. ويحض على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصنوا أنفسهم.. إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج، ليحفظ الجماعة الإسلامية من التردي والانحلال([28]).
ولم يكتف الإسلام بهذا.. بل وضع معه الكثير من التشريعات الرادعة التي تملأ النفس نفورا من هذا النوع من المعاصي..
ومن هذه العقوبات ما نص عليه القرآن بقوله:{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (النور:2)
قلت: إن قومي يؤلبون الخصومات على محمد بسبب هذا.
قال: أولئك جهلة أو منحرفون.. وهم لا يفهمون الإسلام.. ويتعجبون من مثل هذه التشريعات..
الإسلام يهتم بالإنسان، ويعتبره محور التشريعات والتنظيمات والحضارة.. فلذلك يتعامل مع النفس الإنسانية بجميع ما في هذه النفس من الرغبة والرهبة.
فيخاطب الرغبة بالحث على العفاف وبالإخبار بما في الجنة لمن صبر من الحور العين.. ويخاطب الرهبة بالعذاب الأليم.. وبأنواع الحدود التي شرعها.
نعم.. نحن في واقعنا اليوم نضحك على الحدود التي شرعها الإسلام في هذا الجانب.. ولكنا ننسى ما أدى إليه التساهل فيه من انتشار الأمراض، وانحلال الأسر، وتحطم المجتمعات.. وهو ما يفوق ذلك العقاب البسيط المحدود الذي وضعه الإسلام رادعا لا منتقما([29]).
قلت: عرفت السر الأول.. فحدثني عن السر الثاني.
قال: السر الثاني هو الكرم.. ألا ترى إلى هذه الأزهار الكريمة التي تجود بتلك الروائح الطيبة، ولا تبخل بها على أحد من الناس!؟
قلت: بلى.. فلم نر من الأزهار منذ اختلطنا بها إلا خيرا.
قال: وهكذا الإسلام.. وهكذا من يستنير بأشعة شمس محمد.. فإنك لن تجد عنده إلا الكرم..
الكرم أصل أصيل من أصول الإسلام.. وهو ما نفتقده نحن معشر البخلاء الذين لم نكتف بالشح بما لدينا، بل رحنا ننهب ثروات الشعوب وخيراتها نتلاعب بها كما نشاء.. وقد نجود عليهم ببعض فتاتها، ثم نزعم أننا نتصدق عليهم بذلك.
قلت: تلك حضارة الاستعمار.. والمسيحية لم تفعل هذا.
قال: المسيحية فعلت أخطر من هذا.. فقد راحت تبيع ما لا تملك..
قلت: ما تقصد؟
قال: ألم تكن الكنيسة تبيع صكوك الغفران!؟
طأطأت رأسي، فقال: أصدقك القول.. إن كل رجال الدين من كل الأديان التي عرفتها انقلبوا لصوصا.. وحولوا معابدهم إلى دور للعصابات.. لقد ذكر القرآن هذا.. ففيه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } (التوبة:34)
قلت: والإسلام!؟
قال: لقد بحثت في آداب العالم وقيمه.. فلم أجد دينا يحث على الكرم، ويربي أتباعه عليه، كما وجدت في الإسلام..
لقد وردت النصوص المقدسة الكثيرة التي تحث على الكرم، وتعتبره من الكمال، بل تعتبره من مقاييس الكمال، فقد اعتبر محمد: (السخاء خلق الله الأعظم)([30])، وذكر أن (السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة قريب من النار، والجاهل السخي أحب إلى الله من عابد بخيل)([31]).. وقال: (إن الله يدخل بلقمة الخبز، وقبضة التمر ومثله، مما ينفع المسكين ثلاثة الجنة: صاحب البيت الآمر به، والزوجة المصلحة، والخادم الذي يناوله المسكين)([32]).. وقال: (إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه بيمينه وشماله وبين يديه وورائه)([33]).. وقال: (ما من مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله، إلا استقبلته حجبة الجنة، كلهم يدعوه إلى ما عنده)([34]).. وقال: (كم من حوراء عيناء، ما كان مهرها، إلا قبضة من حنطة، أو مثلها من تمر)([35]).. وقال: (اليد العيا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة)([36]).. وقال: (لا حسد إلا في إثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)([37])
وأخبر أن الله يتقبل الصدقة، ويربيها لصاحبها، فقال: (إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد)([38])، وفي رواية: (إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي ولده، أو فصيله حتى يكون مثل أحد)([39]).. وقال: (إن العبد ليتصدق بالكسرة، تربو عند الله حتى تكون مثل أحد)([40])
وأخبر أن أحب الأعمال إلى الله الكرم، فقال: (أحب الأعمال إلى الله تعالى، من أطعم مسكينا من جوع، أو دفع عنه مغرما، أو كشف عنه كربا)([41]).. وقال: (أحب الأعمال إلى الله بعد الفرائض، إدخال السرور على المسلم)([42])
وأخبر عن حب الله للمكرمين، فقال: (إن أحب عباد الله إلى الله، من حبب إليه المعروف، وحبب إليه أفعاله)([43]).. وقال: (إن الله تعالى استخلص هذا الدين لنفسه، ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق، ألا فزينوا دينكم بهما)([44]).. وقال: (إن الله تعالى جواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها)([45])، وقال: (ما عظمت نعمة الله على عبد إلا اشتدت عليه مؤنة الناس، فمن لم يحتمل تلك المؤنة للناس فقد عرض تلك النعمة للزوال)([46])
وقال: (خلقان يحبهما الله، وخلقان يبغضهما الله، فأما اللذان يحبهما الله فالسخاء والسماحة، وأما اللذان يبغضهما الله تعالى، فسوء الخلق والبخل، وإذا أراد الله بعبد خيرا، استعمله على قضاء حوائج الناس)([47])
وأخبر أن الصدقة تقي صاحبها من النار، فقال: (ليتق أحدكم وجهه من النار ولو بشق تمرة)([48]).. وقال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة)([49])، وفي رواية: (اجعلوا بينكم وبين النار حجابا ولو بشق تمرة)([50])، وفي أخرى: (تصدقوا ولو بتمرة، فإنها تسد من الجائع، وتطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار)([51])، وفي حديث آخر قال: (تصدقوا فإن الصدقة فكاككم من النار)([52])، وقال: (إن الصدقة لتطفىء عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته)([53])، وقال: (من أطعم أخاه من الخبز حتى يشبعه، وسقاه من الماء حتى يرويه، بعده الله من النار سبع خنادق، كل خندق مسيرة سبعمائة عام)([54])
وفي حديث آخر يرسم الصورة التي تمثل ذلك بقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا ير إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة)([55])
وأخبر عن تأثير الكرم في الوقاية من نيران الدنيا، فقال: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا، هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أهل المنكر في الدنيا، هم أهل المنكر في الآخرة)([56])
بل ذكر ما هو أعظم من ذلك، فقال: (تسد الصدقة سبعين بابا من السوء)([57])، وقال: (الصدقة تمنع سبعين نوعا من أنواع البلاء، أهونها الجذام والبرص)([58])، وقال: (الصدقة تمنع ميتة السوء)([59])، وقال: (مناولة المسكين تقي ميتة السوء)([60])، وقال: (تداركوا الهموم والغموم بالصدقات، يكشف الله تعالى ضركم، وينصركم على عدوكم)([61])، وقال: (الصدقة على وجهها، واصطناع المعروف، وبر الوالدين، وصلة الرحم، تحول الشقاء سعادة، وتزيد في العمر، وتقي مصارع السوء)([62])
وأخبر عن عظم الغبن الذي يحيق بالبخلاء، فقال: (إعلموا أنه ليس منكم أحد، إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، مالك ما قدمت، ومال وارثك ما أخرت)([63])، وفي رواية: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله، فإن ماله ما تقدم، ومال وارثه، ما تأخر)([64])
وأخبر عن الجزاء المعد للكرماء في الدنيا قبل الآخرة، فقال: (إذا أراد الله بقوم نماء، رزقهم السماحة والعفاف، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعا فتح عليهم باب خيانة)([65])، وقال: (استعينوا على الرزق بالصدقة)([66])، وقال: (استنزلوا الرزق بالصدقة)([67])
وأخبر (أن ملكين ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا)([68])، وقال: (إن الله تعالى يقول يا ابن آدم أودع من كنزك عندي، ولا حرق، ولا سرق، ولا غرق، أوفيكه أحوج ماتكون إليه)([69])
وغيرها من النصوص الكثيرة التي جعلت الكرم من القيم النبيلة التي يتنافس فيها الأغنياء والفقراء على حد سواء.
ولم يكتف الإسلام بهذا.. بل شرع التشريعات الكثيرة التي تجعل من الكرم خلقا مفروضا.. لا مجرد تكرم يرتبط بقوة الإيمان وضعفه.
ولهذا، فإن الزكاة ـ التي تمثل شريعة من شرائع الكرم ـ ركن من أركان الإسلام.. والإسلام لم يكتف بها.. بل ربط الكثير من العبادات والكفارات بالصدقات.
قلت: فحدثني عن السر الثالث من أسرار زهرية الأزهار.
قال: المروءة.. المروءة هي السر الثالث من أسرار الأزهار.
قلت: لم أفهم علاقة المروءة بالأزهار.
قال: المروءة هي الترفع عن السفاسف.. والبحث عن المعالي.
قلت: عرفتها في البشر.. ولم أعرفها في الأزهار.
قال: ألا ترى الأزهار كيف تتنافس في ألوانها وأشكالها وعطورها.. بحيث تحاول كل زهرة أن تفوق غيرها!؟
قلت: ما تقوله صحيح..
قال: فإذا وصل البشر إلى هذه المرتبة من التعالي عن السفاسف، والبحث عن الرتبة النفيسة كانوا كالأزهار..
وقد بحثت في الأديان والمذاهب عن هذا النوع الشريف من أنواع التنافس، فلم أجده في الإسلام.
لقد ظهر في المجتمعات الإسلامية جماعات ليس لها من هم إلا التنافس في المروءة.. وقد أطلق على هؤلاء لقب (الفتيان)، وأطلق على سلوكهم (الفتوة)،
استنباطا لذلك مما ورد في القرآن من مدح الفتوة.. فقد ورد في وصف أهل الكهف:{ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً((الكهف:13)، وفيه عن قوم إبراهيم أنهم قالوا:{ سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ((الانبياء:60)
وقد عرف ابن القيم (الفتوة) باعتبارها منزلا من منازل السائرين، فقال: (حقيقتها هي منزلة الإحسان إلى الناس، وكف الأذى عنهم، واحتمال أذاهم، فهي استعمال حسن الخلق معهم، فهي في الحقيقة نتيجة حسن الخلق واستعماله)([70])
وعرفها السبكي، فقال: (والفتوة من أعظم خصال الخير جامعة كمال المروءة وحسن الخلق والإيثار على النفس واحتمال الأذى وبذل الندى وطلاقة الوجه والقوة على ذلك، حتى تكون فتوته على ذلك فتوة الفتيان والصفح عن العثرات ويكون خصما لربه على نفسه وينصف من نفسه ولا ينتصف ولا ينازع فقيرا ولا غنيا ويستوي عنده المدح والذم والدعاء والطرد ولا يحتجب ولا يدخر ولا يعتذر ويظهر النعمة ويحقق المحبة سرا وعلنا فإذا قوي على ذلك فهو الفتى وإذا اجتمع قوم على ذلك وتعاهدوا عليه فنعم ما هو)([71])
وقد ذكر ابن القيم أن أقدم من تكلم في الفتوة الإمام جعفر الصادق، فذكر عنه أنه سئل عن الفتوة فقال للسائل: (ما تقول أنت؟) فقال: (إن أعطيت شكرت وإن منعت صبرت)، فقال: (الكلاب عندنا كذلك)، فقال السائل: (يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما الفتوة عندكم؟)، فقال: (إن أعطينا آثرنا، وإن منعنا شكرنا)
وقال الفضيل بن عياض: (الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان)، وقال أحمد، وقد سئل عن الفتوة: ( ترك ما تهوى لما تخشى)، وسئل الجنيد عن الفتوة فقال: (لا تنافر فقيرا ولا تعارض غنيا)، وقال الحارث المحاسبي: (الفتوة أن تنصف ولا تنتصف)، وقال عمر بن عثمان المكي: (الفتوة حسن الخلق)
ويعبر الدقاق عن كمال الفتوة، فيقول: (هذا الخلق لا يكون كماله إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن كل أحد يقول يوم القيامة نفسي نفسي، وهو يقول أمتي أمتي)([72])
والحكايات والقصص الورادة عن هؤلاء الفتيان تبرز ناحية مهمة، وهي التنافس على الأخلاق العالية النبيلة، ووجود التنافس على الخير في المجتمع يرفع المجتمع إلى آفاق عالية من التحضر، ولهذا مر المجتمع الإسلامي بفترات يكاد يعدم فيها الفقر لكثرة من يتنافس على الرحمة بالفقراء وخدمتهم.
ومن تلك الحكايات، وهي متعلقة بجانب من الفتوة، وهو التغافل عن عيوب الغير وأخطائهم، أن رجلا من الفتيان تزوج امرأة، فلما دخلت عليه رأى بها الجدري، فقال: اشتكيت عيني، ثم قال: عميت، فبعد عشرين سنة ماتت، ولم تعلم أنه بصير، فقيل له في ذلك، فقال: (كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها)، فقيل له: (سبقت الفتيان)
ومثل ذلك أن امرأة سألت حاتما عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة، فخجلت، فقال حاتم: (ارفعي صوتك)، فأوهمها أنه أصم، فسرت المرأة بذلك، وقالت: (إنه لم يسمع الصوت) فلقب بحاتم الأصم)
واستضاف رجل جماعة من الفتيان، فلما فرغوا من الطعام خرجت جارية تصب الماء على أيديهم، فانقبض واحد منهم، وقال: (ليس من الفتوة أن تصب النسوان الماء على أيدي الرجال) فقال آخر منهم: (أنا منذ سنين أدخل إلى هذه الدار، ولم أعلم أن امرأة تصب الماء على أيدينا أو رجلا)
وقدم جماعة فتيان لزيارة فتى، فقال الرجل: (يا غلام قدم السفرة)، فلم يقدم، فقالها ثانياوثالثا فلم يقدم، فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: (ليس من الفتوة أن يستخدم الرجل من يتعاصى عليه في تقديم السفرة كل هذا)، فقال الرجل: (لم أبطأت بالسفرة)، فقال الغلام: (كان عليها نمل، فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل، ولم يكن من الفتوة إلقاء النمل وطردهم عن الزاد، فلبثت حتى دب النمل)، فقالوا: (يا غلام مثلك يخدم الفتيان)
قال ابن القيم: (ومن الفتوة التي لا تلحق ما يذكر أن رجلا نام من الحاج في المدينة، ففقد هميانا فيه ألف دينار، فقام فزعا فوجد جعفر بن محمد فعلق به وقال: (أخذت همياني)، فقال: (أي شيء كان فيه؟)، قال: (ألف دينار)، فأدخله داره، ووزن له ألف دينار، ثم إن الرجل وجد هميانه، فجاء إلى جعفر معتذرا بالمال، فأبى أن يقبله منه، وقال: (شيء أخرجته من يدي لا أسترده أبدا)، فقال الرجل للناس: (من هذا؟)، فقالوا: (هذا جعفر بن محمد)([73])
قلت: فحدثني عن السر الرابع من أسرار زهرية الأزهار.
قال: لن تكون الأزهار أزهارا حتى تمتلئ بمعاني التضحية والبذل والإيثار.
قلت: لم أفهم علاقة الأزهار بذلك..
قال: ألا ترى الزهرة تظل تمنحنا أريجها العطر إلى أن تذبل؟
قلت: بلى..
قال: فهي تبذل لنا ـ مع أنفاس عطرها ـ روحها.. هي كالشمعة تحرق لتضيء لنا.
قلت: فأين وجدت مثل هذا النبل؟
قال: لم أجده إلا في الإسلام.. وفي القيم التي ربى الإسلام عليها المسلمين.. إن التضحية بالنفس والمال والوقت في سبيل الله من أسمى أخلاق الإسلام، ومن أرفع واجباته.
قلت: في سبيل الله.. لا في سبيل الخلق.
قال: سبيل الله في الإسلام يراد به سبل الخلق.. وإنما اعتبر سبيلا لله حتى لا يطلب صاحبه عليه أجرا إلا الأجر الذي أعطاه الله له.
لقد قال القرآن في الأمر بالتضحية في سبيل نصرة المستضعفين:{ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75)
ويصف القرآن معنى آخر من معاني التضحية، فيقول:{ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9)
ففي هذه الآية إخبار عن الإيثار الذي تحلى به الأنصار لما قدم المهاجرون إليهم، بعد أن تركوا في بلادهم كل ما يلزم لنفقتهم، فوجدوا لهم إخوانا لهم اقتسموا معهم زادهم، بل آثروهم على أنفسهم.
وقد سبق ذكر الآية السابقة قوله:{ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر:8)، فأخبر بفضل المهاجرين الذي آثرهم الأنصار على أنفسهم ليبين أن ذلك الإيثار وتلك النفقات لم تذهب عبثا، بل وقعت في موقعها الصحيح، لأن الإنسان قد ينفق، ويؤثر ولكنه لا يسد خللا، لا يحقق مقصدا، لأنه رمى بنفقته في غير مواضعها، فعبثت بها الرياح.
وقد حفظت لنا كتب الحديث بعض ما فعله الأنصار مع المهاجرين، ففي الحديث: قال المهاجرون: (يا رسول اللّه ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم، أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم اللّه لهم)([74])
وظلوا هكذا حتى بعد أن فتح الله على المؤمنين، وقد روي أن محمدا دعا الأنصار أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: (لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها)، قال: (إما لا، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة)([75])
بل روي أكثر من ذلك، ففي الحديث: قالت الأنصار: (اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل)، فقال: (لا)، فقالوا: (أتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟) قالوا: (سمعنا وأطعنا)([76])
بل روي أكثر من ذلك، فقد كان الأنصار من حرصهم على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين أنه ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذا التكافل بصورة جميلة، فقال:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} (الانسان:8 ـ 9)
ففي هاتين الكريمتين إخبار عن إيثار هؤلاء المحاويج من المؤمنين غيرهم بالطعام مع حبهم له وحاجتهم إليه، ثم هم لا يطلبون على ذلك جزاء ولا شكورا.
وهو موقف يشبه كثيرا موقف النبي موسى عندما سقى للفتاتين، ثم أوى إلى الظل من غير أن يشعر نفسه أو يشعر غيره أنه فعل شيئا، قال:{ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ((القصص:24)
وهذه المواقف ـ في حقيقتها، وفي حقيقة الإسلام ـ ليست شيئا ثانويا مستحبا، وإنما هي واجب من واجب من واجبات الدين، فقد ورد في الحديث: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به)([77])، وقال: (أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله)([78])
بل نص القرآن على هذا في مواضع مختلفة بصيغ مشددة تدل على أن الأمر ليس موكولا لرغبات الناس، وإنما هو واجب من واجبات الدين، فلا يصح أن يموت الناس جوعا في نفس الوقت الذي تمتلئ يه خزائن الكثيرين، ولو دفعوا الزكاة.
قلت: فحدثني عن السر الخامس من أسرار زهرية الأزهار.
قال: السر الخامس هو (القوة)
قلت: ولكني أرى الأزهار ضعيفة تطؤها الأقدام، وتطحنها الأصابع.
قال: القوة في عيون الحقائق أرفع من أن تختصر في عضلات مفتولة، أو قامة متطاولة.
قلت: فما هي القوة؟
قال: لقد عبر محمد عن بعض مظانها، فقال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)([79])، وفي رواية أخرى: (أتحسبون أن الشدة في حمل الحجارة؟ إنما الشدة في أن يمتلئ أحدكم غيظا ثم يغلبه)([80])
قلت: فهل للأزهار مثل هذه القوة؟
قال: أجل.. ألا ترى المجرمين يدوسونها بأقدامهم، أو يذبحونها بأيديهم، أو يطحنونها بأصابعهم.. ولكنها لا تبخل بعطرها عليهم!؟
قلت: أجل.. أرى ذلك.
قال: فهذا مظهر من مظاهر القوة.
قلت: تقصد ما نسميه (قوة الشخصية)
قال: لقد جاء الإسلام بكل أنواع القوة.. وحث على كل أنواع القوة.. وأمر بأن تسخر كل ألوانها في صالح الخير والحق والجمال.
لقد قال القرآن آمرا بالأخذ بالقوة لحماية المستضعفين:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (الأنفال:60)
وأهم أنواع القوة التي حث الإسلام عليها، وأمر بها قوة النفس وترفعها وتعاليها بالحق الذي تملكه.
قلت: تقصد العزة؟
قال: العزة مظهر من مظاهر القوة، بل هي من أجلى مظاهرها، وقد وصف القرآن بها المؤمنين، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة:54)
وأخبر أنها خلق من أخلاق المؤمنين التي يجب أن يتحلوا بها ويحرصوا عليها فقال:{ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(المنافقون:8)، وقال:{ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }(آل عمران:139)
فهذه الآية تعلم المؤمنين إباء الضيم، والثورة على المذلةِ والهوان.
ولهذا وصف الله المؤمنين في الأجيال السابقة للإسلام بهذا الخلق، فقال:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} (آل عمران)
بل إن القرآن يسمي الله بـ (الْعَزِيزُ) ما يقرب من تسعين مرة، ليملأ أسماع المؤمنين بحديث العزة والقوة، فإذا ما سيطر عليهم اليقين بعزة ربهم تأبوا على الهوان حين يأتيهم من أي مخلوقٍ.
وقد علم القرآن المؤمنين الإقدام والاحتمال والثبات في مواطن اليأس موقنين أن الله معهم في تلك المواقف الشديدة.. { وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } (النساء:104).. { فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } (محمد:35)
قلت: أليس في هذا تناقضا مع دعوة الإسلام إلى السلام.. ففي الآية التي قرأتها نهي عن الدعوة إلى السَّلْمِ!؟
قال: فرق كبير بين السلم والسلام.. فالسلم هو الاستسلام لشروط الأعداء وكبرهم والتذلل لهم والتضعضع أمامهم.. أما السلام فهو تحقيق الأمن للنفوس والمجتمعات في ظلال العدل والحرية والإخاء والمساواة.
فإذا لم يحقق السلام هذه المطالب.. فليس هو بسلام.. والشدة في ذلك الحين قد تكون هي البلسم الذي يعيد للحياة صفاءها وسلامها.
ولهذا أخبر القرآن أن الفتنة أشد من القتل، فقال:{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } (البقرة:191)
قلت: فحدثني عن السر السادس من أسرار الأزهار.
قال: السر السادس هو (الأمانة)
قلت: تقصد رد الودائع..
قال: رد الودائع مظهر من مظاهر الأمانة.. أما الأمانة في ذاتها فإن لها من المظاهر عدد زبد البحر.
قلت: فما حدها الجامع؟
قال: لقد أناط الله بكل مخلوق في كل محل من المحال، وفي كل زمن من الأزمان وظيفة ألزمه بأدائها، فإذا أداها كما ينبغي من غير غش ولا خداع ولا خيانة ولا احتيال كان أمينا.
ألا ترى كيف أن ابنة الشيخ الصالح سمت موسى أمينا من غير أن تودعه أي وديعة، فقالت لأبيها:{ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } (القصص:26)؟
قلت: فكيف عرفت أمانته؟
قال: لقد كان الموقف الذي وقفه موسى يقتضي إعانة الفتاتين الضعيفتين، ولو قصر في ذلك كان خائنا..
نظرت إلى الأزهار، وقلت: فهل تحققت الأزهار بهذا؟
قال: أجل.. لقد أنيط بها أن تكون متعة للعين وراحة للنفس ولذة للشم.. وهي تؤدي كل ذلك بكل تفان من غير أي تقصير.
قلت: فما أمانة البشر؟
قال: لقد ذكر القرآن أن الله حمل البشر أمانة عظيمة عجزت السموات والأرض عن حملها، فقال:{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } (الأحزاب:72)
قلت: فما هذه الأمانة؟
قال: أمانة الخلافة.. لقد ذكر القرآن أن الله خلق الإنسان لأجل الخلافة.
قلت: فما الخلافة؟
قال: لها جهتان: جهة إلى الله تستدعي التسليم له ومحبته وطاعته المطلقة، وجهة إلى الخق تستدعي التعامل معهم وفق ما يقتضيه العدل والرحمة.
وقد ذكر القرآن الجهة الثانية، فقال عن داود:{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } (صّ:26)
قلت: لقد كان داود حاكما، وليس كل الناس كذلك.
قال: كل إنسان له حكم يرتبط به.. لقد ذكر محمد ذلك فقال: (كلكم مسئول عن رعيته، فالامام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)([81])
قلت: فكيف تزعم أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تحقق له هذا السر العظيم؟
قال: لأني لم أجد دينا يحرص على الأمانات مع كل الخلق من الأصدقاء والأعداء مثل الإسلام..
لقد قرأت الكتب المقدسة، فلم أجد نصا يقول لأتباعه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (المائدة:8)
ويقول لأتباعه، في أحوال شدتهم:{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } (لأنفال:58)
أتعلم ما تعني هذه الآية؟
قلت: ما تعني؟
قال: أي إذا خشيت من قوم نقض عهدهم، وأردت أن تلغي عهدك معهم، فلا تغدر بهم، بل أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك([82]).
إن الإسلام لا يجيز نقض العهد حتى في حالات الشدة انتهازا للفرصة.
قارن هذا بالعهود الكثيرة التي يقطعها قومنا على أنفسهم، ثم سرعان ما ينكثون بها، بل يغدرون في نكثهم.
قلت: فحدثني عن السر السابع.
قال: السر السابع هو (الصدق)
قلت: فما الصدق؟
قال: الصفاء والخلاص الذي لم يكدر بأي شائبة.. ألا ترى إلى هذه الأزهار التي تمتلئ صفاء ورقة وشفافية!؟
قلت: الصدق ممدوح في الشرائع جميعا.
قال: ولكني لم أجد دينا يحرص على الصدق ويملأ القلب به، بل يضعه في ذروة المقامات الرفيعة مثل الإسلام.. فهو الدين الوحيد الذي رفع الصدق إلى أعلى الدرجات، ونزل بالكذب إلى أخفض الدركات.
لقد قال محمد في الآثار التي يحدثها الصدق والكذب: (: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا)([83])
بل اعتبر الكذب وما يرتبط به من النفاق الذي توعد القرآن أهله بالدرك الأسفل من النار، ففي الحديث: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)([84])
***
ما وصل (آرثر جون آربري) من حديثه إلى هذا الموضع حتى امتلأت عيناه بدموع لم يملك حبسها.
قلت: ما الذي يبكيك؟
قال: يبكيني أمران:
أما أولهما، فنقض الكثير من المسلمين للعهود التي عهد إليهم بها نبيهم، وتركهم للقيم الرفيعة التي جاءهم بها طلبا لما عندنا، وهم يعلمون أنا لسنا على شيء.
وأما الثاني، فتكبرنا على محمد وعلى أمة محمد وعلى القيم التي جاء بها محمد.. وهو ما أحالنا إلى شريعة الغاب التي نحياها.
ثم ابتسم، وقال: أنا لست يائسا.. يوشك أن تعود البشرية إلى هذا الهدي العظيم.. ولكن بعد أن تصلى بنيران الأشواك التي نسجتها بأهوائها.
قلت: متى ذلك؟
قال: إذا تخلت عن كبريائها، وفخرها، وتطاولها.. حينذاك ستجد محمدا وهدي محمد أقرب إليها من نفسها.
قلت: أنا أعجب لك حضرة الأستاذ الفاضل كيف تحزن على البشرية، ولا تحزن على نفسك.
قال: لن أقول لك إلا ما قاله (اللورد هدلي)
قلت: تقصد قوله: (إنني أعتقد أن هناك آلافاً من الرجال والنساء أيضاً، مسلمون قلباً، ولكن خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ عن التغيير، تآمروا على منعهم من إظهار معتقداتهم)
قال: لقد صدق الرجل.. لقد صدق الرجل..
أردت أن أسأل، فتركني، ومضى، وقد
امتلأ قلبي بأنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
([1]) البخاري ومسلم.
([2]) هو Arthur John Arberry (1905-1969) ولد في مدينة بورتسموث بجنوب بريطانيا، التحق بجامعة كامبريدج لدراسة اللغات الكلاسيكية اللاتينية واليونانية، وشجعه أحد أساتذته (منس) على دراسة العربية والفارسية.
ارتحل إلى مصر لمواصلة دراسته للغة العربية. عاد إلى مصر ليعمل في كلية الآداب رئيساً لقسم الدراسات القديمة ( اليونانية واللاتينية) وزار فلسطين وسوريا ولبنان.. اهتم بالأدب العربي فترجم مسرحية (مجنون ليلي) لأحمد شوقي كما حقق كتاب (التعرف إلى أهل التصوف)، واصل اهتمامه بالتصوف وذلك بنشره كتاب (المواقف والمخاطبات) للنفري، وترجمه إلى الإنجليزية. (انظر: عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين: 5-8)
([3]) البخاري وغيره.
([4]) رواه الترمذي والحاكم وابن حبان.
([5]) انظر: جاهلية القرن العشرين، لمحمد قطب.
([6]) أشعة خاصة بنور الإسلام: 29.
([7]) تاريخ العالم: 1/297.
([8]) عن كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، لأبى الحسن الندوى.
([9]) انظر الأمثلة الكثيرة من الكتاب المقدس الدالة على ذلك في (الكلمات المقدسة)، فصل(الأدب)
([10]) انظر: الموسوعة اليهودية لعبد الوهاب المسيري.
([11]) هو سيد قطب، وقد ذكر ذلك في كتابيه: الإسلام ومشكلات الحضارة، وأمريكا التي رأيت.
([12]) من كتاب (أمريكا التي رأيت) لسيد قطب.
([13]) رواه مسلم.
([14]) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في (الموسوعة اليهودية) للمسيري.
([15]) انظر: الموسوعة اليهودية، البُعـــد اليهــودي في رؤيــــة فرويــــد The Jewish Dimension Of Freud’s World VIEW.
([16]) ذكر المسيري في (الموسوعة اليهودية) أن الكثير من مؤرخي الأفكار يذهبون إلى القول بأن التحليل النفسي ( علم يهودي ) يضرب بجذوره في طبيعة اليهود النفسية (وهذه مقولة أخذ بها النازيون وكثير من الصهاينة).
والمدافعون عن هذا الرأي (أ. روباك A.Roback ـ إيزيدور سادجر Sadger ـ إرنست جونز Jones)، وهم يسوقون قرائن عديدة من بينها أن اليهود دائمو التأمل في أسباب الظواهر، ويتضح هذا في مزامير داود وفي التلمود، وهذا التفسير يربط بين التحليل النفسي وبعض الصفات الأزلية الثابتة في طبيعة اليهود.
وهناك من يحاول أن يُدخل بُعداً تاريخياً فيذهب إلى القول بأن التحليل النفسي هو محاولة اليهودي أن يعالج عُصابه الناجم عن وجوده الدائم في المنفى.
وتذهب سوزان هاندلمان إلى أن فرويد إن هو إلا تعبير عن تقاليد الهرمنيوطيقا المهرطقة، وهو جزء من انتقام اليهودي من مجتمع الأغيار الذي اقتلعـه من مكانه، ولذا فاليهـودي يقـوم بتفكيك الحضارة الغربية المسيحية، تماماً كما قامت هذه الحضارة بتفكيكه.
وقد ذكر المسيري أن مثل هذه الأفكار تلاقي رواجاً غير عادي في بعض الأوساط في العالم العربي، وتُستخدَم في تدعيم الرأي القائل بوجود (مؤامرة يهودية) تعبِّر عن الجوهر اليهودي.
([17]) الخطاب مؤرخ في أغسطس 1913 ولكنه لم يُنشَر إلا عام 1982، الموسوعة اليهودية.
([18]) ذكر المسيري أنه اعتمد في هذا على كتاب صبري جرجس، وعلى دراسة باكان فرويد والتقاليد الصوفية اليهودية.
([19]) انظر فصل (اليهود الثلاثة) في كتاب (التطور والثبات فى حياة البشر) لمحمد قطب.
([20]) قواعد المنهج فى علم الاجتماع ص165.
([21]) بصمات على ولدي، طيبة اليحى.
([22]) هو د. حمود البدر، انظر: الحاجة إلى تنسيق وتكامل تربوي ص 14.
([23]) انظر: شبهات حول الإسلام، محمد قطب.
([24]) رواه مسلم.
([25])رواه أبو داود واللفظ له والترمذي والبيهقي.
([26]) رواه أحمد بسند حسن.
([27]) رواه البزار.
([28]) في ظلال القرآن، سيد قطب.
([29]) انظر التفاصيل المرتبطة بالحدود الشرعية والشبهات المثارة حولها في رسالة (عدالة للعالمين)
([30]) ابن النجار عن ابن عباس.
([31]) الترمذي والبيهقي.
([32]) الحاكم.
([33]) الشيخان.
([34]) أحمد، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم.
([35]) العقيلي في الضعفاء.
([36]) أحمد، والشيخان، وأبو داود، والترمذي.
([37]) أحمد، والشيخان، وابن ماجة.
([38]) الترمذي.
([39]) أحمد، وابن حبان في صحيحه.
([40]) الطبراني.
([41]) الطبراني.
([42]) الطبراني.
([43]) ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ.
([44]) الطبراني.
([45]) البيهقي، وأبو نعيم في الحلية.
([46]) ابن أبي الدنيا والبيهقي.
([47]) البيهقي.
([48]) أحمد.
([49]) الشيخان.
([50]) الطبراني.
([51]) الطبراني.
([52]) الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية.
([53]) الطبراني.
([54]) النسائي، والحاكم.
([55]) أحمد، والشيخان، والنسائي، وابن ماجة.
([56]) الحاكم.
([57]) الطبراني.
([58]) الخطيب.
([59]) القضاعي.
([60]) الطبراني والبيهقي.
([61]) الديلمي.
([62]) أبو نعيم في الحلية.
([63]) النسائي.
([64]) أحمد، والترمذي.
([65]) ابن عساكر، والطبراني.
([66]) الديلمي.
([67]) البيهقي.
([68]) الشيخان وغيرهما.
([69]) البيهقي.
([70]) مدارج السالكين:2/340.
([71]) فتاوى السبكي: 2/548.
([72]) مدارج السالكين:2/342.
([73]) مدارج السالكين:2/343.
([74]) أحمد.
([75]) البخاري.
([76]) البخاري.
([77]) البزار، والطبراني في الكبير عن أنس.
([78]) مسلم عن ابن عمر.
([79]) أحمد والبيهقي.
([80]) ابن أبي الدنيا في ذم الغضب.
([81]) البخاري ومسلم.
([82]) ابن كثير.
([83]) رواه البخاري ومسلم.
([84]) رواه البخاري.