ثالثا ـ حصن القوة

ثالثا ـ حصن القوة

دخلنا الحصن الثالث، فرأينا على بابه مكتوبا بحروف تشبه عضلات قوية قوله تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُواللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } (لأنفال:60)

قلت للمعلم: هذه آية الأمر بالإعداد للجهاد.

قال: كل جهاد.. جهاد أعداء الجسم، وجهاد أعداء الروح.. وجهاد أعداء الأرض، وجهاد أعداء السماء.

قلت: ما تقصد؟

قال: القوة الحقيقية هي القوة التي ترهب عدوك، وتجعله لا يفكر ـ مجرد تفكير ـ في غزوك.

قلت: تقصد بالعدو المحاربين.

قال: من البشر وغيرهم.

قلت: ولكنا قد تحصنا بالحصون التي كنا فيها.

قال: لا يكفي أن تتحصن من البلاء، وأنت لا تزال ضعيفا مستضعفا، منحط القوى، منهار العزيمة، لأنك بذلك ستكون عليلا في وسط حصنك، ميتا في خلال حياتك.

قلت: ولهذا أمر الشرع بالإعداد؟

قال: ولهذا يطالبك الشرع بأن ترفع من من درجة مقاومتك، فقد يأتيك الأعداء من حيث لا تشعر، أو يأتيك الداء من حيث أمنته.

قلت: فالآية تشير إلى هذا المعنى؟

قال: بل تصرح به.. فكيف تعد السلاح من غير أن تعد اليد التي تحمل السلاح؟

قلت: فكيف يدرب هذا المستشفى قاصديه بهذه القوة؟

قال: بأمرين:

أما أولهما، فبالإيمان، فالإيمان يقهر البلاء قهرا، بل يجعله هباء أمام أعاصيره..

قلت: فهل يعلم الإيمان في هذا القسم؟

قال: لا.. يعلم في الأقسام الأولى التي زرناها، ويعلم في غيرها من مراكز السلام ومؤسساته.

قلت: وما الأمر الثاني؟

قال: هو تقوية أسلحة الجسم، وطاقاته التي يقاوم بها البلاء.. وإليه الإشارة بقوله تعالى:{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (البقرة:197)، فقد نزلت هذه الآيات آمرة بوجوب التزود في الحج لحفظ الصحة، فلا يمكن حفظ صحة الذي فرط فيما يتطلبه جسمه من غذاء.

***

رأيت ثلاثة أبواب داخل باحة هذا الحصن، فسألت المعلم عنها، فقال: هذا الركن من أركان الصحة والعافية يقوم على ثلاثة أركان لا بد منها.. بجميعها وردت النصوص.

قلت: فما هي؟

قال: هي التغذية، والرياضة، والراحة.. ولكل منها قسمه الخاص.

قلت: فهل في القرآن الكريم إشارة إلى هذه الأركان الثلاثة؟

قال: أجل.. فقد قال تعالى لأيوب u:{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (صّ:42 ـ 43)

قلت: أهاتان الآيتان تجتمع فيهما تلك الأركان؟

قال: أجل.. ففي الأمر بالركض بالرجل إشارة إلى ضرورة تحريك الجسم وترويضه، فالصحة لا تستقيم إلا بذلك.

وفي قوله:{ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } إشارة إلى ضرورة الغذاء والطهارة، زيادة على ما يكسبه المغتسل البارد من راحة نفسية.

وقوله:{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ } توفير لجو اجتماعي يأنس فيه أيوب u وينتفي عنه السقم.

قلت: ما أجمل هذه الإشارة !

قال: وهناك إشارة غيرها قد تكون أصرح منها.

قلت: ما هي؟

قال: قوله تعالى لمريم ـ عليها السلام ـ وهي في الكرب الذي حل بها([1]):{ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً } (مريم:25 ـ 26)

فقد أمرها الله تعالى بهز الجذع، فقال:{ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} (مريم:25)، وهويتطلب حركة رياضية معينة([2]).

ومما يزيد في تأكيد هذه الإشارة أن مريم ـ عليها السلام ـ كان يأتيها رزقها مهيئا رغدا من غير أن تتكلف أي حركة في سبيل الحصول عليه، كما قال تعالى:{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هو  مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(آل عمران:37)، فإيراد الأمر بتلك الحركة في القرآن الكريم دلالة على أهمية الرياضة الجسمية، وكونها ركنا من أركان الصحة.

وفي قوله تعالى:{ فَكُلِي وَاشْرَبِي } دليل على الركن الثاني من أركان الصحة، وهو التغذية الصحية السليمة، وفي ذكر الرطب الجني، وهو يتناسب مع حاجة الحامل دليل على أن هذه التغذية ينبغي أن تكون وفق ما تتطلبه الصحة، لا ما تتطلبه الشهوة.

وفي قوله تعالى:{ وَقَرِّي عَيْناً } دليل على مراعاة الراحة النفسية، لأن الحزن والأسف والتألم من أعظم أسباب العلل، ولهذا طمأنها الله تعالى فقال:{ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} (مريم:26)، فالله تعالى لم يترك مريم ـ عليها السلام ـ لوساوسها وكيفية مواجهتها لقومها، بل أخبرها بأنه قد عزلها عن مواجهة قومها ليتولى هو  تعالى بقدرته ذلك.

بل يشير إلى هذا قوله تعالى في تبشيره لها:{ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ }(آل عمران:45 ـ 46)، فالله تعالى ذكر محاسن هذا الولد الذي بشرها به لتمتلئ نفسها أملا وفرحا وسرورا.

التغذية

دخلنا القاعة الأولى، فقرأت لافتة كتب على بابها قوله تعالى:{ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (المائدة:88)

قلت للمعلم: أهذه قاعة التغذية؟

قال: أجل.. فالآية تشير إلى ذلك.. وهي تصرح بوجوب الأكل مما رزق الله.

قلت: لا ـ يا معلم ـ فهذا الأمر للإباحة، كما قال الأصوليون.

قال: لا.. الأصل في الأمر دلالته على الوجوب، وما كان لهم أن ينقلوا الأمر من الوجوب إلى الإباحة.

قلت: ولكنه أكل.. ولا أحد إلا ويأكل، فالطبيعة توجبه، ولا حاجة إلى إيجاب الشرع.

قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه)([3])    

قلت: بلى، فما فيه من الاستدلال؟

قال: إذا أكلت طعامك، ونويت فيه أداء الواجب الذي أمرك الله به، تكون قد تقربت إلى الله بأحب شيء إليه.. وإذا أكلته، ونويت فيه أداء الواجب الذي أمرك به طبعك، لمن تتقرب؟

قلت: إلى نفسي..

قال: وهي لن تزيدك من الله إلا بعدا.

قلت: لكن….؟!

قال: سأذكر لك دليلا آخر، قد يقوي ما ذكرت، ألم يأت النص المحرم لتحريم طيبات ما أحل الله؟

قلت: أجل.. فقد قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (المائدة:87)

قال: فهذا يصب في الدلالة على الوجوب.

قلت: لست أدري سر حرصك الشديد على هذا ـ يا معلم ـ فلا تخف فإن الناس يأكلون سواء قلت بالوجوب أو قلت بالإباحة، حتى لو قلت بالتحريم.. فسيجدون من الأعذار ما يبيح لهم الأكل.

قال: لا.. أنا لا أقصد هذا.. إن ما أقصده عظيم، فالنظرة الشرعية للغذاء تنطلق من هذا.. فالغذاء عبادة.

قلت: هذا صحيح، وقد قال بعض الصالحين يذكر نيته في أكله وشربه:(إني لأحتسب لله أكلتي وشربتي كما أحتسب نومتي وقومتي)

قال: وكونه كذلك يجعله مرتبطا بالأحكام الشرعية في جميع تفاصيله، ألستم في الصلاة تسألون عن الجزئيات والتفاصيل، وتحرصون عليها؟

قلت: أجل..

قال: فكذلك عبادة الطعام.. لها شروطها وأركانها وسننها ونواقضها.. هي لا تختلف في شيء عن سائر العبادات.

قلت: ولكني لا أرى في كتب الفقه هذا.

قال: هذا تقصير من الفقهاء.

قلت: لا.. هذا ميدان الأطباء، لا الفقهاء.. أو هو  بالأحرى ميدان علماء التغذية.

قال: لا.. الفقه يدخل في كل شيء.. أليس الفقه هو  الذي ينظم حياة المسلم؟

قلت: أجل..

قال: أليس المسلم إنسان له احتياجات مختلفة؟

قلت: أجل..

قال: فالغذاء من حاجاته..

قلت: ولكن الفقيه ليس له من الثقافة ما يفتي به في هذه المسائل.

قال: فليتعلم ما يفتي به في هذه المسائل.

قلت: وعلماء التغذية ماذا يفعلون؟

قال: هم يبحثون، والفقيه يتعلم منهم، أو فليتعاون الفقهاء وعلماء التغذية في هذا.

قلت: وما سر إقحام الفقه في هذه المسائل؟

قال: لأن الناس لا يفعلون في حياتهم إلا ما يفتيهم به الفقهاء.. ألم تر حرصهم على الأضاحي، وعلى تفاصيل ما يجوز منها، وما لا يجوز؟

قلت: هذا صحيح..

قال: ولكنهم قد يسيئون تغذية أنفسهم وأولادهم طوال العام، ولا يعتقدون أن للشرع أحكاما ترتبط بذلك.. ثم تشب أجيال سيئة الصحة، لأنها سيئة التغذية.

قلت: ولكن الفقيه ينطلق من الأدلة التفصيلية، وليس في هذا الباب من الأدلة التفصيلية ما يرجع إليه.

قال: ألستم تعتمدون في مسائل كثيرة، بل في أبواب من الفقه على آية واحدة، أو حديث واحد؟

قلت: أجل.. بل أحيانا لا نجد حديثا ولا آية.. فنكتفي بالرجوع إلى العموميات.

قال: فالنصوص الشرعية فيها الأدلة الكثيرة التي تفيض بما يمكن الاستفادة منه في هذا الباب، ولو زاوجتم بينها وبين ما يقول المختصون لأنشأتم في المجتمع ثقافة صحية يمارسها الناس في حياتهم كما يمارسون سائر العبادات.

قلت: فما نسميها؟ وفي أي باب ندخلها؟

قال: ذلك شأنكم.. ولا يهم التصنيف بقدر ما يهم الوعي.

***

 بينما نحن كذلك دخل رجل، وصاح في الجموع المتفرقة: الغذاء في المفهوم الشرعي الكامل الذي تحقق به الربانيون لا يعني ـ فقط ـ مجرد استجابة لشهوة الأكل والشرب المودعة في الإنسان، بل يعني ـ قبل ذلك ـ استجابة لأوامر الله.

قال له أحد المستمعين: كيف ذلك.. وما تقول في الزهاد والناسكين؟

قال: لقد استضافنا الله تعالى في أرضه، وعرض علينا صنوف رزقه، ومن البلادة أن نتكبر على هذا الأمر بدعوى الاستعلاء والتعفف أو الزهد والمسكنة.. ولهذا، فإن المسلم ينطلق في غذائه من العبودية لله، لا من مجرد إشباع شهواته ورغباته.

قال السائل: فهمنا هذا.. ولكن ما سر إيجاب الله علينا الغذاء؟

قال: من حكمة الله في هذه النشأة ـ التي تختفي فيها القدرة في ظلال الحكمة ـ أن جعل قوام حياة الإنسان، أو جسد الإنسان، أو مطيته التي يستقلها لأداء رسالته على الغذاء.

ولذلك وفر في هذه الأرض كل ما تتطلبه معيشة الإنسان من أسباب ووسائل.. ألم ينص القرآن الكريم على ذلك في مواضع كثيرة، فالله تعالى يقول:{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} (الأعراف:10)، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} (الحجر:20)

قال السائل: فما المعايش؟

قال: المعايش هي كل الوسائل التي وضعها الله في الأرض، ومكن منها الإنسان، ليعيش الحياة المستقرة التي توفر له الجو الذي يستطيع أن يؤدي فيه رسالته.

وقد بين الله تعالى التسلسل التاريخي الطويل الذي وصلت به الأرض إلى كونها صالحة للمعيشة، فقال تعالى:{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (فصلت:10)

***

 رأيت بابين داخل باحة القاعة، فسألت المعلم عنهما، فقال: هذان البابان يمثلان أركان الغذاء الصحي الذي أوجب الله على المؤمنين التغذي به.

قلت: فما هما؟

قال: الكفاية، والطيبة.

قلت: فما سر كونهما ركنين؟

قال: لا بد أن تتغذى غذاء يغطي حاجاتك، وإلا أصبت بسوء التغذية، ولا بد من أن يكون الغذاء صحيا، وإلا قتلك، وأصابك بالتسمم.

قلت: فهل تذكر لي مثالا يبين لي وجه الحصر في هذا؟

قال: أرأيت لو أن أحدكم أراد أن يسير مسافة طويلة، ثم وضع قطرات من البنزين في سيارته أيمكنه أن يصل إلى غايته؟

قلت: لا.. فستتوقف به سيارته أحوج ما يكون إليها.

قال: ولهذا أمرنا الله تعالى بأخذ كفايتنا من الزاد، فقال:{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة:197)

قلت: ما أرحم الله بعباده، فالآية تتحدث عن الحج، ومع ذلك تضم إليه الأمر بأخذ الزاد.

قال: وهذا يصب فيما ذكرنا من الوجوب.

قلت: فالثاني؟!

قال: أرأيت لو ملأها ببنزين لا يصلح لها، أو هو  مغشوش.. هل تسير به؟

قلت: لا.. ستتلف السيارة بهذا.

قال: فهذا وجه الانحصار في اعتبار هذين الركنين.. وهيا ندخل إلى القاعتين لنعرف بعض أصول ذلك.

كفاية الأغذية:

دخلنا القاعة الأولى من قاعات التغذية، وقد وجدنا مكتوبا على بابها قوله تعالى:{ هو  الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة:29)، وقد رسمت على جدرانها أصناف المآكل والمشارب، وكأنها تدعو إلى أكلها.

قلت: ما هذه القاعة؟

قال: هذه قاعة الكفاية.

قلت: ما الكفاية؟ وما حاجة التغذية إليها؟

قال: هي التعبد بمقتضى اسم الله الكافي، فقد ملأ الله تعالى الأرض بكل ما يحتاجه الإنسان من أصناف المآكل والمشارب، ونوعها بتنوع حاجات الإنسان، ولم يكتف بذلك، بل دعانا إلى أكلها..

قلت: أنحن في دار ضيافة أم في دار امتحان؟

قال: نحن في كلا الدارين.. فقد جعل الله تعالى هذه الدار دارا لعرض نماذج عن فضله، كما أنها الدار التي كلف فيها الخلق.. ولا تناقض بين الأمرين.

قلت: كيف هذا.. والتكليف قد يقتضي البلاء.

قال: والبلاء لا يتعارض مع الضيافة، بل حتى العقوبة نفسها لا تتعارض مع الضيافة.. ألم يأمر صلى الله عليه وآله وسلم بالإحسان إلى الأسير، ألم تر أن الله تعالى لما قدر على بني إسرائيل عقوبة التيه أدركهم برحمته ولطفهم، فوفر لهم في التيه أقواتهم وأرزاقهم التي لا تقوم حياتهم إلا بها، بل جعل فيها من اللذة ما يغريهم بأكلها مع أنهم في وسط العقوبة.

قلت: بلى، فقد قال تعالى ممتنا عليهم:{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (البقرة:57)

قال: فهذه الآية تدل على أنه لا يجوز معاقبة أي أحد بحرمانه من الأكل، فإن الله تعالى مع عقاب بني إسرائيل بالتيه وفر لهم فيه ما يكفيهم من الرزق.

قلت: أجل.. ولهذا مع تعدد العقوبات الشرعية، وتنوعها لا نرى عقوبة تمنع الإنسان حاجياته الأساسية.

قال: ولهذا لا يجوز أن يحرم أي إنسان أي طعام على نفسه، لأن الله تعالى هو  وحده المستأثر بالتحليل والتحريم.

قلت: ولكن الله تعالى قال:{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(آل عمران:93)، فقد روي أنه (مرض مرضاً شديداً، وطال سقمه فنذر للّه نذراً لئن شفاه اللّه من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها)

وقد أقره الله تعالى على ذلك، وأخبر أن بني إسائيل اتبعوه على ذلك قبل أن تنزل التوراة.

قال: صدقت، فاقرأ ما ورد بعدها.

قلت: جاء قوله تعالى:{ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران:94، 95)

قال: فقد أمر الله  تعالى باتباع ملة إبراهيم u، وهي الملة التي لا تحرم إلا ما حرم الله.. ألم تقرأ نهي الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن تحريم ما أحل الله له؟

قلت: بلى.. فقد قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(التحريم:1)

وقد نزلت في تحريمه صلى الله عليه وآله وسلم العسل على نفسه كما هو معروف([4]).

قال: بل نهى الله تعالى هذه المة جميعا عن تحريم ما أحل الله من الطيبات، ألم يقل الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(المائدة:87)؟

قلت: بلى، وقد ورد في الحديث أن نفرا من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:(ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)([5]

قال: فهذه النصوص كلها تدل على تحريم الامتناع عن أكل ما خلق الله إلا ما نزل الشرع بتحريمه، أو حكم الطب بضرره.

قلت: ولكن من الزهاد من اشتد في هذا الباب.

قال: الزهد مقام من مقامات الدين العالية، وقد حقيقته وميادينه في كنوز الفقراء.. ولكن الكفاية في الغذاء لا تتعارض معه.

قلت: ولكن من الزهاد من اشتد، فحرم الخبز على نفسه.

قال: هيا نقترب من ذلك الرجل، ومن يجلس إليه، فهم يتحدثون عن هذا.

الكفاية والزهد:

رأيت رجلا تظهر عليها مظاهر النعمة ممزوجة بوقار العلماء، وبين يديه شباب لا يدل مظهرهم على أنهم من هذا العصر، سألت المعلم عنه، وعنهم، فقال: هذا ابن الجوزي..

قلت: أبو الفرج عبد الرحمن.. العالم الخطيب.. !؟

قال: أجل هو  هو.. بعلمه وحكمته.

قلت: نحن نقول في تعابيرنا:(هو هو بشحمه ولحمه..)

قال: لا.. الإنسان علم وحكمة، لا شحم ولحم.

قلت: فما الذي جاء به إلى هنا من عهده البعيد؟

قال: جاء ليرد على بعض الشبه التي بثها بعض الزهاد، والتي تزهد في الضروريات التي يتضرر الإنسان بتركها.

قلت: فما علاقتها بالكفاية؟

قال: لأن من الزهاد من تصور كمال الزهد في التعفف عن المطاعم التي خلقها الله تعالى، والتي تتناسب مع احتياجات أجسامنا.

اقتربنا منه، فسمعته يقول([6]): تأملت أحوال الزهاد فرأيت أكثرها منحرفاً عن الشريعة بين جهل بالشرع، وابتداع بالرأي‏.‏

سأله سائل: نراك قد اشتددت عليهم، فما أساس هذا الانحراف الذي وقعوا فيه؟

قال: هم يستدلون بآيات لا يفهمون معناها وبأحاديث لها أسباب وجمهورها لا يثبت‏.. ومن ذلك أنهم سمعوا في القرآن الكريم قوله تعالى:{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْو وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (الأنعام:32)، وقوله تعالى:{ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْو وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوكَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت:64) وغيرها من الآيات.

وسمعوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(للدنيا أهون على الله من شاة ميتة على أهلها) وغيره من الأحاديث.. فراحوا يبالغون في هجرها من غير بحث عن حقيقتها‏.‏

سأل سائل: فما حقيقتها؟

قال: إذا بحثنا عن الدنيا رأينا هذه الأرض البسيطة التي جعلت قراراً للخلق تخرج منها أقواتهم ويدفن فيها أمواتهم.. ومثل هذا لا يذم لموضع المصلحة فيه‏.‏

ورأينا ما عليها من ماء وزرع وحيوان كله لمصالح الآدمي، وفيه حفظ لسبب بقائه‏.. وما كان سبباً لبقاء العارف العابد يمدح ولا يذم‏.‏

فبان لنا أن الذم إنما هو  لأفعال الجاهل أو العاصي في الدنيا‏.. فإنه إذا اقتنى المال المباح وأدى زكاته لم يلم‏.‏

وأما المطعم فالمراد منه تقوية هذا البدن لخدمة الله عز وجل وحق على ذي الناقة أن يكرمها لتحمله‏.‏

وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل ما وجد، فإن وجد اللحم أكله، ويأكل لحم الدجاج، وأحب الأشياء إليه الحلوى والعسل وما نقل عنه أنه امتنع من مباح‏.‏

وجيء علي  بفالوذج فأكل منه، وقال‏:‏ ما هذا؟ قالوا‏:‏ يوم النوروز فقال‏:‏ نوروزنا كل يوم‏.‏

وإنما يكره الأكل فوق الشبع واللبس على وجه الاختيال والبطر‏.‏

قال له بعض الحاضرين: ولكن.. ألم تسمع بما يروى عن..

قاطعه غاضبا، وقال: أقول لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وتقول: فلان وفلان.. ألم تسمع ما نقل عن أحمد أنه قال له المروزي‏:‏ ما تقول في النكاح فقال‏:‏ سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال‏:‏ فقد قال إبراهيم‏، قال‏:‏ فصاح بي وقال‏:‏ جئتنا ببنيات الطريق.

فالمحقق لا يهوله اسم معظم.. كما قال رجل لعلي بن أبي طالب ‏:‏ أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على الباطل، فقال له:( إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله)..

ولعمري إنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام، فإذا نقل عنهم شيء فسمعه جاهل بالشرع قبله لتعظيمهم في نفسه‏.. كما ينقل عن أبي يزيد  أنه قال:(تعنتت علي نفسي فحلفت لا أشرب الماء سنة‏) ، وهذا إذا صح عنه كان خطأ قبيحاً وزلة فاحشة، لأن الماء ينفذ الأغذية إلى البدن ولا يقوم مقامه شيء‏، فإذا لم يشرب فقد سعى في أذى بدنه‏.‏

وهو ـ يالإضافة إلى ذلك ـ خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان يستعذب له الماء.

أفترى هذا فعل من يعلم أن نفسه ليست له، وأنه لا يجوز التصرف فيها إلا عن إذن مالكها‏.‏

وكذلك ينقلون عن بعض الصوفية أنه قال‏:‏ سرت إلى مكة على طريق التوكل حافياً، فكانت الشوكة تدخل في رجلي فأحكها بالأرض ولا أرفعها، وكان علي مسح فكانت عيني إذا آلمتنبي أدلكها بالمسح فذهبت إحدى عيني‏.‏

وأمثال هذا كثير.. وربما حملها القصاص على الكرامات وعظموها عند العوام، فيخايل لهم أن فاعل هذا أعلى مرتبة من الشافعي وأحمد‏.‏

سأله سائل: إن الوعاظ ـ عندنا ـ يذكرون هؤلاء، فتكاد قلوبنا تنشق شوقا إليهم، وتعظيما لهم.

قال: لا.. لعمري إن هذا من أعظم الذنوب وأقبح العيوب، لأن الله تعالى قال:{ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}(النساء:29)‏

صحت فيه من بعيد: يا إمام، ما سبب هذا التفريط، وقبل ذلك ما بدايته؟

التفت إلي، وقال: لقد نقل عن قدماء هذه الأمة بدايات هذا التفريط وكان سببه من وجهين‏: أحدهما‏:‏ الجهل بالعلم، والثاني‏:‏ قرب العهد بالرهبانية‏.‏. فكم قد زوق قاص مجلسه بذكر أقوام خرجوا إلى السياحة بلا زاد ولا ماء وهولا يعلم أن هذا من أقبح الأفعال، وأن الله تعالى لا يجرب عليه‏.. فربما سمعه جاهل من التائبين فخرج فمات في الطريق فصار للقائل نصيب من إثمه‏.‏

قلت: لقد عهدناك يا إمام محبا للصالحين معظما للأولياء، فكيف تتجرأ على هذا النقد الشديد، والإنكار العظيم؟

قال: لا.. لسنا من المنكرين.. ولكنا لا نتبع إلا ما صح.. والصالحون هم الذين يتبعون الشرع ولا يتعبدون بآرائهم‏.. ألم تسمع ما ورد في الحديث:(لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات:{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ }(الحديد:27))([7]

وكم يحثون على الفقر حتى حملوا خلقاً على إخراج أموالهم، ثم آل بهم الأمر إما إلى التسخط عند الحاجة، وإما إلى التعرض بسؤال الناس‏.‏

وكم تأذى مسلم بأمرهم الناس بالتقلل‏!‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( ثلث طعام وثلث شراب وثلث نفس)([8])، فما قنعوا حتى أمروا بالمبالغة في التقلل، فحكى بعضهم: أن فيهم من كان يزن قوته بكربة رطبة، ففي كل ليلة يذهب من رطوبتها قليل، وكنت أنا ممن اقتدى بقوله في الصبا، فضاق المعي وأوجب ذلك مرض سنين‏.‏

أفترى هذا شيئاً تقتضيه الحكمة أو ندب إليه الشرع‏؟

قلت: لا..

قال: إنما مطية الآدمي قواه فإذا سعى في تقليلها ضعف عن العبادة‏..

قلت: ولكنهم كانوا يحرصون على الحلال المحض.. ألم تسمع ما ورد في النصوص من فضل الحلال المحض؟

قال: صحيح ذلك.. ولكن لا تقولن‏:‏ الحصول على الحلال المحض مستحيل، لذلك وجب الزهد تجنباً للشبهات، فإن المؤمن حسبه أن يتحرى في كسبه هو  الحلال، ولا عليه من الأصول التي نبتت من هذه الأموال‏.‏

أفتريد حلالاً على معنى أن الحبة من الذهب لم تنتقل – مذ خرجت من المعدن على وجه لا يجوز‏.. فهذا شيء لم ينظر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: ولكنهم نظروا في ذلك.. وبسببه شددوا على أنفسهم.

قال: فهو المرجع أم هم !؟.. وهل هم أكثر ورعا منه.. أو ليس قد سمعت أن الصدقة عليه حرام، فلما تصدق على بريرة بلحم فأهدته جاز له أكل تلك العين لتغير الوصف‏.‏

صاح صائح: ولكن يا إمام، ألم تقرأ النصوص التي وردت في الجوع؟

قال: لا يهولنك ما تسمعه من الأحاديث التي تحث على الجوع، فإن المراد بها، إما الحث على الصوم، وإما النهي عن مقاومة الشبع‏.. فأما تنقيص المطعم على الدوام فمؤثر في القوى فلا يجوز‏.‏

واسمع مني بلا محاباة‏: لا تحتجن علي بأسماء الرجال، فتقول‏:‏ قال بشر وقال إبراهيم بن أدهم فإن من احتج بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أقوى .. لأن لأفعال أولئك وجوهاً نحملها عليهم بحسن الظن‏.‏

واسمع مني ما لا أحابي فيه أحدا: لقد رأينا وسمعنا من العوام أنهم يمدحون الشخص فيقولون‏:‏ لا ينام الليل، ولا يفطر النهار، ولا يعرف زوجة، ولا يذوق من شهوات الدنيا شيئاً، قد نحل جسمه ودق عظمه حتى إنه يصلي قاعداً فهو خير من العلماء الذي يأكلون ويتمتعون‏.‏

صاح صائح من الحاضرين: نحن نسمع كثيرا عن أمثال هؤلاء، ونحن لهم.

قال: لو فقه هؤلاء لعلموا أن الدنيا لواجتمعت في لقمة، فتناولها عالم يفتي عن الله ويخبر بشريعته كانت فتوى واحدة منه يرشد بها إلى الله تعالى خيراً وأفضل من عبادة ذلك العابد باقي عمره‏.‏

وقد قال ابن عباس‏:‏ فقيه واحد أشد على إبليس من ألف عابد‏.‏

ومن سمع هذا الكلام فلا يظنن أنني أمدح من لا يعمل بعلمه‏.. وإنما أمدح العالمين بالعلم وهم أعلم بمصالح أنفسهم‏.‏

فقد كان فيهم من يصلح على خشن العيش ‏.. وكان فيهم من يستعمل رقيق العيش‏.. ولا ينبغي أن يطالب الإنسان بما يقوى عليه غيره فيضعف هو  عنه‏، فإن الإنسان أعرف بصلاح نفسه‏.. وقد قالت رابعة‏:‏ إن كان صلاح قلبك في الفالوذج فكله‏.‏

قلت: الله.. ما أجمل قول رابعة. 

انصرف مغضبا، وهويقول: ألم يرقك من حديثي إلا هذا.. عجبا لكم، ولهممكم.

أركان الغذاء الصحي:

قلت للمعلم: فهمت هذا، وأيقنته، ولكنا لا نزال إلى الآن في حيز الإجمال، فالتفاصيل الفقهية تستدعي التفصيل في أنواع الحاجات.

قال: ما تقصد؟

قلت: الفقهاء إذا تحدثوا عن الصلاة مثلا تحدثوا عن أركانها وسننها وما يجوز فيها وما لا يجوز، وإن تحدثوا في الزكاة تحدثوا عن وعائها، ومقدار الزكاة ومصارفها، وهكذا.

قال: فالغذاء الصحي الواجب له أركانه التي لا يتم إلا بها، ولا يجوز لأحد من الناس أن يخل بها إلا إذا قعدت به الضرورة عن ذلك.

قلت: فما هي هذه الأركان؟

قال: لقد تكفل بالبحث في هذا علماء التغذية وفقهاء آتاهم الله فهما في كتابه، وهم يعقدون في هذه القاعة مجالس دورية تبحث في هذا الشأن، فهيا لنزور بعضها.

قال: لا.. فذلك يطول.. ولكنا سنكتفي بأصول لهذه التفاصيل.

سرنا في القاعة، فرأينا منصة قد جلس فيها علماء من تخصصات مختلفة، وقد علقوا خلفهم صورا وجداول مختلفة.

الطاقة:

اقتربنا منهم، فسمعنا أحدهم يقول: المقاصد الشرعية التي يهدف الغذاء إلى تحقيقها تقوم على الحفاظ على سلامة الجسم وقوته داخليا وخارجيا، فليس المقصد في الشريعة من الغذاء هو  مجرد تلبية دواعي الشهوة، بل المقصد الحقيقي هو  الحفاظ على ما أو تيه الإنسان من طاقات.

 سأله سائل، فقال: وهل هناك فرق بين تلبية دواعي الشهوة، وبين قوى البدن، ألم يجعل الله الشهوة صيدا يصطاد به الجسم غذاءه؟

قال: هذا صحيح.. ولكن الشهوة قد تخطئ، وقد يبالغ فيها.. فينصرف صاحبها عن المقاصد الأصلية للغذاء إلى أشياء لا تنفع صحته، بل تضرها.

قال السائل: لم أفهم هذا.. فلا أرى تعارضا بين الشهوة والعافية إلا إذا كان الطعام محرما.

قال: سأضرب لك مثالا.. ألستم تبالغون في أكل السكريات؟

قال السائل: ومن قال بتحريمها؟

قال: أنا لا أقول لك: إنها محرمة، ولكني أقول: إن الإفراط فيها له عواقب وخيمة على الصحة، فأكل السكر يؤدي إلى إدمان الجسم عليه جسديا ونفسيا.. وقد ورد في بعض الإحصائيات أن الفرد الأمريكي يستهلك أكثر من 150 باوند من السكر خلال السنة([9]).

وليس هذا غريبا، فعلبة من الكولا تحتوي على 10 ملاعق شاي من السكر، وواحد كوب من صودا البرتقال يحتوي على 13 ملعقة شاى من السكر.. والألبان ذات النكهات تحتوى على 5 ملاعق شاي من السكر بالنسبة لمقاس 6 أو نس، وواحدة كرة من الأيس كريم يحتوى على 11ملعقة شاي من السكر.

قال السائل: وما الضرر في هذا؟

قال: بالإضافة إلى الضرر المرتبط بالإسراف، والضرر المرتبط بحرمان الجسم من حاجياته الأساسية لأجل حاجات فرعية، فقد نص الخبراء على الأضرار الكثيرة التي يحملها هذا النوع من الشهوة([10])، فالسكر الأبيض مكرر بطريقة لا يمكن للجسم هضمه، كما أن له أثره على الجسم كالمواد المدمنة، فإن السكر يمشي في دم الإنسان، ويعطي ردات فعل تجعل الجسم يرغب في زيادة السكر، بالإضافة إلى أنه يؤثر في إضعاف جهاز المناعة، حيث يؤدي إلى إنقاص في عدد كريات الدم البيضاء، والتي تقوم بدورها في محاربة البكتيريا.. ونقص المناعة يؤدي أيضا إلى أمراض مزمنة مثل آلام المفاصل وأمراض القلب والسرطان.

كما يسبب السكر التقلبات المزاجية، وهشاشة العظام وكسل الجسم والسمنة والسكري.

كما أن استهلاك الأطعمة والمشروبات الغنية بالسكر، مثل المربى والبسكويت والحلوى والمرطبات، يؤثر سلباً في مستويات الطاقة، فهي ترفع بسرعة مستوى السكر في الدم مما يدفع الجسم إلى الإفراط في التعويض عن ذلك، فتنجم لاحقاً مشاكل في انخفاض مستوى السكر في الدم وانخفاض مستوى الطاقة العقلية والجسدية. وعلى المدى الطويل، قد يتلف السكر المواد المغذية التي تؤدي دوراً أساسياً في توليد الطاقة في الجسم.

وبالإضافة إلى هذا كله، فقد اتضح أن المحليات الصناعية مثل السكريين تسبب بعض أمراض السرطان.. وقد بين الدكتور البروفيسور (ريتشارد وارتمان)  في جامعة (MIT) أن الأشخاص الذين يتناولون معدل 4-5 حبوب من المحليات البديلة الإصطناعية، تكون سببا كافيا حيث تؤثر على تركيب خلايا المخ، فمن الممكن أن يؤدي إلى تقلب المزاج، والتهيج الجلدي، والقلق النفسي، والكابة، والصداع، والإصابة بإرتفاع في ضغط الدم، كما يزيد من شهية الأكل.

قال السائل: فأنت تحرم إذن كل السكريات؟

قال: لا.. أنا لم أقل هذا.. فالسكريات جزء أساسي من غذاء الإنسان، لأنها المصدر الرئيسي للطاقة، وهي في صورتها الصحيحة تلعب دورا هاما في المحافظة على صحة الإنسان وحيويته.

قال الفقيه: ولهذا ورد في النصوص الحث على كثير من المطاعم المرتبطة بها، فالله تعالى ذكر التمر والعسل وكثيرا من الفواكه في القرآن الكريم، وهي من المصادر الصحيحة للسكريات.

وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأهمية هذا العنصر في التغذية ـ يبدأ فطوره على التمر قبل أن يصلي.

قال الخبير: هذا كلام مهم جدا.. لأن الصائم يعتمد على ما يوجد بجسمه من سكر، وخاصة المخزون منه في الكبد، والسكر الموجود في طعام السحور يكفي 6 ساعات، وبعد ذلك يبدأ الإمداد من المخزون الموجود بالكبد، ومن هنا فإن الصائم إذا أفطر على التمر أو الرطب، وهي تحتوي على سكريات أحادية، فإنها تصل سريعاً إلى الكبد، والدم الذي يصل بدوره إلى الأعضاء وخاصة المخ، أما الذي يملأ معدته بالطعام والشراب، فيحتاج لمدة من ساعتين إلى ثلاثة ساعات حتى تمتص أمعاؤه السكر.

قال الخبير: وليس الأمر قاصرا على السكريات، فللدهون التي تضيفونها لأطعمتكم من المخاطر ما لا يقل عن مخاطر السكر.

قال السائل: نحن نضيف الدهون للطعام لجعله كريمي الملمس ونكهته مميزه للأكل.. فهل ترى حرمتها، وتخليص الطعام من لذتها؟

قال: لا.. الفقهاء هم الذين يتحدثون بناء على ما أقوله على التحليل والتحريم، ولكني أقول: إن الجسم يحتاج ـ في الحقيقة ـ إلى الدهون لبناء جدار الخلايا في الجسم، وتنظيم الهرمونات، ومنع الجلد والشعر من الجفاف، ولكن المفتاح هو  أكل الدهون الصحيحة.

قال السائل: وهل هناك دهون خاطئة؟

قال: أجل.. هناك دهون مباركة كالتي نص عليها قوله تعالى:{ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}(المؤمنون:20)، ونسميها الدهون الأحادية غير المشبعة، وهي توجد في الخضروات والمكسرات مثل الكانولا والسمسم وزيت الزيتون.

ومنها دهون مشبعة، وهي الخطيرة، وتوجد في النارجين وفي دهون الحيوانات ومنتجات الحليب، فإن هدرجت الدهون تسبب تضيقا في الشرايين مما يؤدي إلى أمراض القلب.

قال السائل: فالدهون من الأغذية التي تجتاجها أجسامنا إذن؟

قال: أجل.. ولكن بشرط أن تكون من الدهون النافعة لا الضارة.. فهي من المركبات العضوية التي تقوم بتزويد الجسم بالطاقة الحرارية التي تبلغ ضعف الطاقة المأخوذة من السكريات.. كما تكمن أهمية الدهون في احتوائها على الأحماض الدهنية التي يحتاجها الجسم ولا يستطيع تصنيعها والتي تدخل في بناء الخلايا وتركيبها.. وتحتوي الدهون بالإضافة إلى ذلك الفيتامينات الذائبة في الدهون، والتي تقوم بدور عامل في بناء أنسجة الجسم مثل شبكة العين والعظام، وفي المحافظة على نضارة الجلد وتماسكه.

قال السائل: فالدهون والسكريات تشتركان إذن في تزويد الجسم بما يعطيه الطاقة اللازمة؟

قال: أجل.. هذا صحيح.

قال الفقيه: ولعله لأجل هذا قرن بينهما في القرآن الكريم فالله تعالى يقول:{ وَهُوالَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}(الأنعام:99)

فقد قرن في الآية بين التمر والعنب اللذان يعتبران من المصادر الصحية للسكريات، بالزيتون والذي يعتبر من أهم وأصح مصادر الدهون([11]).

وفي آية أخرى يقول تعالى:{ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(النحل:11)

وفي آية أخرى يجمع بين التمر والعنب، فيقول تعالى:{ وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً}(عبس:29)

وفي آية أخرى يجمع بين التين والزيتون، فيقول تعالى:{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}(التين:1)

بناء الجسم وصيانته:

سأل سائل: قد عرفنا أغذية الطاقة ووجه الحاجة إليها، فما الركن الثاني من أركان الغذاء الصحي؟

قال الخبير: الأغذية المتكفلة ببناء الجسم، ألا ترون الجسم يكبر بعد صغر، ويصح بعد بلاء، ويرمم نفسه بعد عطب؟

قالوا: بلى.. فما سر ذلك؟

قال: أغذية جعل الله فيها من القوى ما يقوم بهذه الأدوار جميعا.

قالوا: فما هي؟

قال: ثلاثة مواد أساسية تتواجد في أغلب الأطعمة، أناط الله بها هذا الدور.

قالوا: فما أولها؟

قال: أولها ما يسمى بالبروتينات، وهي عبارة عن مركبات عضوية تتكون من جزيئات كبيرة تتفكك، وتفضي إلى وحدات مفردة اسمها الأحماض الآمينية.

وهذه الأحماض أساسية في الجسم للمكونات التركيبية للعديد من الأنسجة مثل العضلات والهرمونات والأنزيمات الهضمية.. وفي الظروف القصوى، مثل الجوع أو الحاجة إلى بعض الطاقة فإنه يمكن استخدام الأحماض الأمينية لتوفير الطاقة، حيث يطلق البروتين 4 كيلووحدة حرارية من الطاقة لكل غرام من البروتين المحروق.

قالوا: فما الثاني؟

قال: الفيتامينات.. وهي مجموعة من المركبات العضوية المعقدة في تركيبها، ويتطلبها جسم الإنسان بكميات قليلة نسبيا، وهي ضرورية لصيانة نموالجسم ووقايته من الأمراض.

قالوا: فما الثالث؟

قال: العناصر المعدنية.. وهي تشكل 4 بالمائة من وزن الإنسان، ويتطلب الجسم بعض العناصر بكميات كبيرة نسبيا، وتسمى العناصر الكبرى، ويتطلب الجسم بعضا منها، ولكن بكميات صغيرة نسبيا وتسمى العناصر الصغرى أو النزرة.

وهي جميعا تلعب دورا هاما في تنشيط التفاعلات الحيوية داخل الجسم، وفي تنظيم سوائل الجسم وتنظيم التوازن الحامضي – القاعدي فيه.

طيبة الغذاء:

دخلنا القاعة الثانية من قاعات التغذية، وقد كتب على بابها قوله تعالى:{ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ }(الأعراف:157)

قلت للمعلم: هذه قاعة الغذاء الطيب؟

قال: أجل، فالطعام الطيب هو الطعام المبارك فيه، وهوالذي لا تستقيم الحياة الطيبة إلا به.

قلت: ولهذا أمرنا الله أن ننتقيه في صدقاتنا، فلا نتصدق إلا منه، كما قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (البقرة:267)

قال: أتدري الأسرار الصحية المودعة في هذه الآية؟

قلت: وما علاقة هذه الآية بالأسرار الصحية؟

قال: إن الله تعالى علم شح الأغنياء بأموالهم الجيدة، وطعامهم الطيب، فلذلك قد يتساهلون في إعطاء الفقراء من الخبيث الذي يمتلئ مضرة إقناعا لأنفسهم بكرمهم، فنهاهم الله تعالى عن ذلك.

قلت: أجل.. فقد روي في الحديث أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أتي بضب، فلم يأكله ولم ينه عنه قلت: يا رسول اللّه نطعمه المساكين؟ قال:(لا تطعموهم مما لا تأكلون)([12]

قال: ولذلك ورد في النصوص الأمر بالبحث عن الجودة والطيبة، مهما كلف ذلك من ثمن.

قلت: أين ذلك؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى:{ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً}(الكهف:19)

قلت: فما محل الشاهد من الآية؟

قال: لقد بعث هؤلاء الفتية بكل ما عندهم من مال طلبا لأزكى الطعام وأطيبه.

قلت: الطعام الزكي هو  الطعام الحلال.

قال: والطعام الحلال هو  الطعام الذي لا ضرر فيه، فالله لم يطعمنا سموما تقتلنا، بل أطعمنا ما تنتفع به أجسامنا وتزكوبه أرواحنا.

قلت: أيمكن أن يكون الطعام سما؟

قال: لا يكون السم إلا في الطعام.

قلت: كيف ذلك؟

قال: هذه القاعة من هذا الحصن متخصصة في هذا.. فهي تبحث عن كل ما يضر بالطعام لتحذر منه وتنبه إلى مخاطره.

قلت: ففيها خبراء تغذية إذن؟

قال: وفيها فقهاء أيضا.

قلت: فقهاء !.. أتحولوا هم أيضا إلى خبراء؟

قال: الخبراء يبحثون.. والفقهاء يفتون على أساس ما يجتهده الخبراء.. وهم في تشددهم لا يقلون عن الخبراء.

قلت: فلم لم يكتف الناس بالخبراء؟

قال: ألم تعلم أن الغذاء عبادة، والعبادة لا يفتي فيها إلا الفقهاء.

***

رأيت بابين داخل هذه القاعة، سألت المعلم عنهما، فقال: أما الباب الأول، فيبحث في سلامة الغذاء.. وأما الباب الثاني، فيبحث في سلامة التغذية.

قلت: فما الفرق بينهما؟

قال: الغذاء هو  الطعام الذي نتناوله، والتغذية هي إيصال الغذاء إلى أفواهنا وأجهزتنا.

قلت: فهمت سر كون الغذاء مسموما، ولكني لم أفهم سر التسميم في التغذية.

قال: قد تأكل طعاما طيبا، ولكنك تأكله في غير مواقيته، وبغير أسلوب الأكل الصحيح، فينقلب مضرة وسموما.

قلت: وهل أشارت النصوص إلى كلا الأمرين؟

قال: أجل.. وسنرى ذلك في كلا القاعتين.

سلامة الغذاء:

دخلنا القاعة الأولى، وقد كتب على بابها قوله تعالى:{ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} (البقرة:259)

قلت: أي قاعة هذه.. وما علاقة الآية بها؟

قال: هذه قاعة (سلامة الغذاء)، وهي مختصة بحفظ الغذاء من كل ما يتسبب في فساده، وللآية علاقة كبيرة بهذا، فالله تعالى يرشدنامن خلالها إلى أن الطعام قد يتغير ويستحيل، ويصبح لا منفعة فيه.

قلت: أجل.. فقد ذكر المفسرون أن هذ كان معه عنب وتين وعصير، فوجده لم يغير منه شيء، لا العصير استحال، ولا التين حمض، ولا أنتن، ولا العنب نقص.

قال: والله تعالى لم يذكر هذا على سبيل الحكاية فقط، بل ذكره لنعبر منه إلى طعامنا، فنحفظه ونحافظ عليه.

قلت: أتقصد أن في الآية حكما تشريعيا؟

قال: كل القرآن الكريم تشريع.

قلت: وفيه عقيدة..

قال: عقيدته تشريع، وتشريعه عقيدة.. ألم تسمع قوله تعالى وهو يصف أنهار الجنة؟

قلت: بلى، فقد قال تعالى:{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هو  خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}(محمد:15)

قال: فهذه الآية تحتوي على أسرار هذا الباب وتشريعاته.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد أخبر تعالى عن الجودة العالية التي يحتوي عليها نعيم الجنة، فأنهارها غير آسنة، ولبنها لم يتغير طعمه، وخمرها لا تحتوي على أي مواد ضارة، وعسلها مصفى، وفيها إلى جانب ذلك الثمرات المتنوعة.. وهذه جميعا شروط لا تتم سلامة الأغذية إلا بها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: سيضرب لك خبراء هذه القاعة وفقهاؤها الأمثلة على ذلك.

***

سرت مع المعلم في أرجاء القاعة الممتلئة بالخبراء والفقهاء، اقتربت من رجل يتكلم بحماسة، وقد علق خلفه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من غشنا فليس منا)([13])، فسمعته يقول: أتدرون لم قال صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث؟

قال أحدهم: أجل، فقد مر صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم على رجل يبيع طعاما، فوضع صلى الله عليه وآله وسلم كفه الشريفة أسفل منه، فوجده مبلولا، فسأل البائع عن ذلك فقال: أصابته السماء (أي المطر)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من غشنا فليس منا)([14]

قال: أتدرون لم نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر؟

قال أحدهم: أجل.. لأن ظاهره يغري المشتري، ولكن باطنه المجهول يؤذيه.

قال: إذا عرفتم هذا، فاعلموا أن الغذاء من أكثر المواد عرضة للفساد، وذلك لما يحتويه من الرطوبة والعناصر الغذائية اللازمة لنمو الأحياء الدقيقة، فلذلك يتطلب تخزينا جيدا، وفي ظروف جيدة.. ويتطلب إلى جانب ذلك الحفاظ على أصالته وعدم تدنيسها بما لا يتوافق معه.

قالوا: فاشرح لنا هذا.. أو بين لنا كيف نتقيه؟

قال: ليتني أستطيع أن أفعل ذلك.

قالوا: وما الذي منعك منه؟

قال: إن ابتغاء الخبيث من الكسب جر الخبث إلى الطعام، ولا يمكن إحصاء تفاصيل ذلك.

قالوا: فاضرب لنا أمثلة تنبهنا.

قال: سأضرب لكم أربعة أمثلة.

قالوا: فما المثال الأول؟

قال: أتعرفون الخميرة؟

قالوا: ومن لا يعرفها.. هي الوسيط الذي نستعمله في أغذية كثيرة.

قال: ألا تعلمون أن من أنواعها ما يؤدي إلى السرطان؟

قالوا: نعوذ بالله منه، فكيف ذلك؟

قال: لقد نشر الكاتب رونالد كوتسيش في جريدة (East West) عام1984مقالة تساءل فيها:(لماذا تؤدي الخميرة المتعارف عليها إلى بعض الأمراض؟)، ثم أجاب:(من المعروف عندما تخمر الخميرة تتفجر جزيئات الخبز، فإن الجيزيئات التي تنتج تكون مماثلة للجزيئات المسببة للسرطان)

ورجوعا إلى الباحث الفرنسي Jean Glaude Vincent وجد أن الطاقة البيولوجية التي تصدر من العجينة المخمرة مماثلة للتي تسبب الخلايا السرطانية.

وهناك باحثان ألماني وفرنسي وجدا أن السرعة في تخمر العجينة ترسل إشارات إلكترونية إلى الجسم  لينبه بحدوث رد على هذه الإنفجارات وهو من مسببات السرطان.

ومن المؤسف أن الكثير من أنواع الخبز يطلق عليه الخبز الصحي والأسمر الكامل والبيتا ورقائق الخبز المالح وجميعها تستخدم فيها الخميرة السريعة الصناعية.

قالوا: أفتأمرنا بترك الخمائر، أو تحرمها علينا؟

قال الفقيه: كل ما ثبب ضرره ثبت تحريمه، ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم:( لا ضرر ولا ضرار)

قالوا: فما البديل لذلك.. فهي من طعامنا الذي لا بد لنا منه؟

قال الخبير: إن العجينة البلدي أفضل من هذ الخمائر، فهي صحية وطرية ولذيذة.. فإذا لم نجد العجينة المخمرة طبيعيا، فيمكن صناعة الخبز في المنزل.

قالوا: فما المثال الثاني؟

قال: الماء..

قالوا: ذلك ما لا يمكن تعويضه، فما الذي حصل له؟.. وهل يدخل الغش في الماء؟

قال: أجل.. فقد ذكرت بعض الدارسات على أن حوالى مليون أمريكي يشربون المياه التي تحتوي على بعض المواد الكيميائية المؤدية إلى السرطان، مثل مادة الزرنيخ والذي هو  عنصر إشعاعي غازي، ومادة الكلور، لذلك يقترح وضع إعادة تصفية الماء بطريقة الأسموزية أو الكربون لتنظيف الماء.

وذلك لأن الاوساخ والصداء الموجود في الانابيب والسخانات تذوب في الماء الذي يمر فيها، وقد أثبتت البحوث والدراسات أن المواد الكيمائية الموجودة في البلاستيك تذوب في القوارير مع الماء الموجودة فيها.

قالوا: فهل تنصحنا بحفر آبار في بيوتنا لنشرب منها عذبا؟

قال: ومن قال بأن مياه آباركم عذبة؟ ألستم تملؤون جوف الأرض بالقاذورات التي تتسرب إلى المياه الجوفية، فتلطخها وتملأها بالعلل.

قالوا: أفتنصحنا بالصوم عن الماء؟

قال: لا.. وما كنتم لتطيقون.. ولكني أنصحكم بالاستماع إلى أصدقاء المياه لتكسبوا مياه طاهرة وصحة سليمة.

قالوا: فما المثال الثالث؟

قال: الملح..

قال أحدهم: ذلك مما لا مناص لنا منه.. فالملح ضروري لتنظيم جسم الإنسان، وهو يدخل في اتصال الأعضاء وبناء العضلات.. كما يساعد في تنظيم نظام المناعة ويمنع نمو البكتيريا الضارة والفيروسات والفطريات والطفيليات ويعمل على زيادة ثبات النظام المعوي.

قال: ذلك صحيح..  فالملح أحد العناصر المهمة لحياة الإنسان والحيوان وحتى النبات، فهو يعمل على موازنة كمية الماء بالجسم والخلايا التي يتكون منها أعضاء الجسم، وهو مهم لعملية التمثيل الغذائي في الخلية.. لذا فإن تناول الملح وبكميات معتدلة ضروري جداً للبقاء على قيد الحياة.

ولكن هذه المنافع لا تتحقق إلا في النافع منه.

قالوا: أهناك ملح ضار؟

قال: أجل.. ففي أسواقكم اليوم نوعان من الأملاح: أحدهما متواجد ومنتشر بكثرة،  ومعلب بشكل أنيق وهوملح مكرر مضاف إليه الإيودين.. والثاني قد لايكون معبأ بعلب أنيقة، وهوملح البحر.

قالوا: فما الفرق بينهما؟

قال: للإجابة على هذا السؤال لابد من معرفة مكونات كل نوع من هذين النوعين:

أما النوع الأول، وهوالملح المكرر الأنيق، فإنه يتكون من  99،9 بالمائة من كلوريد الصوديوم و0.1 بالمائة إيودين البوتاسيوم أو الكالسيوم، وتضاف إليه مادة الإيودين لتعزيز نقص الإيودين في هذا النوع من الملح، وهي في الحقيقة مجرد سد نقص لهذه المادة في الملح المكرر.. كما يضاف إليه مادة سليكيت الأمونيوم للمحافظة على إنسيابية الملح وعدم تكتله، ومما هو  معروف أن مادة سيليكيت الأمونيوم مادة مضرة بالصحة.

أما الملح البحري: فيتكون من95 بالمائة من كلوريد الصوديوم و5 بالمائة معادن أخرى منها المنغنيز والكالسيوم والفوسفور والإيودين (من مصدره الطبيعي)، إضافة الى أكثر من 70 عنصرا معدنيا آخر.

فمن الفرق بين هذه المكونات يتضح لنا الفرق الشاسع بين هذين النوعين من الملح، فالملح المكرر هو  ملح لا يحتوي على أكثر من مادة واحدة هي كلوريد الصوديوم، وهو فقير من المعادن الأخرى الضرورية لحياة الخلية، لذا نرى شركات إنتاج هذا النوع من الملح تحاول سد العجز الكبير للمعادن بإضافة الإيودين به والدعاية لهذه الإضافة وكأنها ميزة إضافية، وهي في الحقيقة ليست أكثر من محاولة سد العجز الكبير بشيء صغير جداً.

وفي مقابل ذلك، فإن الملح البحري يحتوي ـ إضافة إلى الإيودين ـ على معادن كثيرة جداً، وبصورة متوازنة كما خلقها الله لنا في الطبيعة ومتوافقة مع حياة الإنسان.

وفي المقابل، فإن ملح البحر يحوي إضافة إلى الإيودين على مايقارب 80 معدنا يحتاجها الجسم للحفاظ على حيويته، ولإتمام عملية التمثيل الغذائي بأفضل أداء، ولوعلمنا أن 27بالمائة من الملح الموجود بالجسم في العظام وذلك لنقصها في الدم الناتج عن عدم كفاية مانتناوله من ملح متكامل.

  كما أن الشخص الذي ينتاول الملح المكرر عادة ما يحدث له شراهة في تناول الملح لأن الجسم لا يشعر بالكفاية من المعادن المحلية الأخرى، وبذلك يتراكم كلوريد الصوديوم بالجسم مسبباً مشاكل للكليتين.

فالفرد البالغ يحتاج ما بين 2-3 غ في اليوم الواحد، لكن معدلات استهلاكه تصل إلى 18 غ يومياً، وهذه الزيادة تسبب إرهاقا وتعبا للكلى، ويسبب تمادي ذلك ضعف كفائتها.

وتظهر أعراض زيادة الملح على شكل توترات عصبية وعضلية ونفسية وصداع  مستمر وشعور بالقلق  والكآبة والضيق والضجر، وفي نفس الوقت يتفاقم نقص المعادن الأخرى بالجسم مسبباً مشاكل صحية في مناطق أخرى بالجسم.. وخاصة منها العظام.

قالوا: فبم تنصحنا؟

قال: لأجل هذا ينصح بأفضل أنواع الملح غير المكرر مثل: ملح البحر (sea salt)، الميسو(Miso) الصويا، الجماشيوgomashio، وعدم إستخدام الملح المكرر لما يسبب من أضرار على الجسم([15]).

قالوا: فما المثال الرابع؟

قال: حلوى الأطفال..

قالوا: فما بها؟ إن أطفالنا لا يسكتون إلا بها..

قال: ألا تسكتوهم إلا بقتلهم؟.. ألا تعلمون أن حلوى الأطفال كالشوكولاته والبسكويت ورقائق البطاطس الجاهزة وغيرها من المقرمشات التي يلتهمها أطفالكم بشراهة ضارة بصحتهم؟

قالوا: أصحيح ذلك؟

قال: أجل.. فالدراسات الكثيرة تثبت ذلك، وآخرها دراسة بريطانية قامت بها في مطلع هذا العام (جمعية الشراكة بين الأطباء والمرضى) على ثمانمائة طفل بريطاني، وكشفت هذه الدراسة أن 25 بالمائة من هؤلاء الأطفال يعيشون على الحلويات ورقائق البطاطس الجاهزة، و75 بالمائة منهم ليست لديهم أية فكرة حول كمية الفواكه والخضر التي تحتاجها أجسامهم، كما اعترف مائتان منهم أنهم أثناء ذهابهم إلى المدرسة لا يتناولون فطورا منزليا، بل يتناولون بدلا منه حلويات ورقائق بطاطس جاهزة.

كما أشارت دراسة بريطانية أخرى تمت على ألف وسبعمائة فتى وفتاة تتراوح أعمارهم بين الرابعة والثامنة عشرة كانت بعنوان (التغذية وأنظمة الطعام العامة) إلى أن حوالي 80 بالمائة منهم يتغذون على الأطعمة الجاهزة، مثل: رقائق البطاطس المقلية، والبسكويت، والشكولاته. كما أن مستوى الملح في أطعمتهم هو  ضعف المستوى المقبول صحيا، بالإضافة إلى أن الأطفال يستهلكون كثيرا من الأملاح المعدنية المضافة.

وأوضحت الدراسة أن واحدا من بين كل خمسة من الذين شملهم البحث لم يتناولوا الفواكه على الإطلاق خلال فترة إجرائه التي استغرقت أسبوعا، وقد حذرت تلك الدراسة من أن تناول الصغار لمثل تلك الأطعمة قد يسبب لهم مشاكل صحية خطيرة في المستقبل؛ حيث إن الغذاء غير الصحي أحد أهم أسباب ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض السرطان والقلب والشرايين.

وفي بحث أجرته هيئة المواد الغذائية ببريطانيا توصلت في نتائجه إلى أنه مقابل كل طعام صحي واحد يتناوله الأطفال من الأسواق، يوجد عشرة تصنف على أنها كوارث غذائية!!

قالوا: فبم تنصحنا؟

قال: بم نصح به الناصحون من علماء التغذية؟

قالوا: فبم نصحوا؟

قال: أن تمنعوا جميع أفراد الأسرة ـ وخصوصًا الأطفال ـ من شراء أو تناول هذه المأكولات والمشروبات الغازية؛ وأقصر سبيل إلى ذلك عدم تعويدهم عليها منذ الصغر، وأن تغرسوا فيهم العلم بكونها مضرة ومسببة للأمراض، وأن الفاكهة والخضار ضروريان لبناء أجسامهم ووقايتها من الأمراض.

ولا تكتفوا بذلك بل يجب إعداد وجبات سريعة وخفيفة في المنزل؛ لتحل محل تلك المأكولات.

وفي الأخير لا تغتروا بما هو  مدون على عبوات تلك الأغذية من قبيل: غني بالكالسيوم، أو غني بفيتامين سي، أو مواد مصرح بها، أو مواد صحية، فقد أُثبت عدم صدق هذه العبارات.

وأول ذلك كله: أن تجنبوا أطفالكم أخطار الإشهارات التلفزيوينة، فقد أكدت دراسة علمية أُجريت في إحدى الجامعات المصرية على إعلانات التلفزيون المصري أن هذه الإعلانات تربي المجتمع على الشراهة والتبذير والعنف والتفاخر وثقافة الاستهلاك، فإن الإعلام لا يكف عن تقديم إعلانات تسعى لترويج مثل هذه المنتجات حتى أنهم في بعض الأحيان يستخدمون أشخاصا يقومون بتمثيل دور الأطباء يتحدثون عن تلك المنتجات، موهمين المستهلكين بأن الأطباء ينصحون بها.

***

اقتربنا من رجل آخر، عليه سيما الفقهاء يحدث جمعا من الناس، فسمعته يقول: لقد وردت النصوص تحرم كل ما فيه ضرر بالصحة، فالنبات المأكول حلال كله ما لم يعرض له عارض من سرقة أو نجاسة وما لم يثبت ضرره لسمية فيه، أو لكونه مسكراً أو مفتراً، كما قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُومُبِينٌ}(البقرة:168)

أما المصدر الحيواني للغذاء فقد حرم النص القرآني تناول الميتة والدم ولحم الخنزير، وجاء في السنة تحريم أكل الحيوانات المفترسة كالوحوش من أسد ونمر وذئب وفهد (وكل ماله ناب مفترس من السباع) ومثلها الطيور الجارحة، أي ذوات المخلب من الطير كالصقر والباز والنسر.

كما حرمت النصوص لحوم الكلاب، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(الكلب خبيث ثمنه)([16]

كما حرمت الضفادع للنهي عن قتلها كما يحرم أكل حشرات الأرض كالثعبان والعقرب والفأرة وغيرها، وكل ذلك لما تحمله هذه الحيوانات من أنواع العلل..

سلامة التغذية:

دخلنا القاعة الثانية، وقد كتب على بابها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(سم اللَّه وكل بيمينك وكل مما يليك)([17]

قلت: هذه القاعة مختصة بسلامة التغذية؟

قال: أجل، ففيها يدرب على الطريقة المثلى للتغذية من المواقيت والهيئات.

مواقيت الغذاء:

قلت: أللتغذية مواقيت؟

قال: أجل.. ألم نعرف أن الغذاء عبادة؟

قلت: أجل..

قال: فقد شرع الله للعبادات مواقيت معلومة، فقال في الصلاة:{ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}(النساء:103)، وقال في الحج:{ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ }(البقرة:189)، وقال في الصيام:{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}(البقرة:185)

قلت: هذه شعائر تعبدية.

قال: ويقاس عليها شعائر الغذاء الصحي، فالله تعالى أعلم بمصالح أرواحنا وأجسادنا منا.

قلت: كيف ذلك؟

قال: سأضرب لك مثالا.. أتعرف الحديث الذي يأمر فيه صلى الله عليه وآله وسلم بصيام الأيام البيض.

قلت: أجل.. وقد ورد تحديدها في بعض النصوص، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا صمت من الشهر ثلاثاً فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة)([18]

والأيام بالبيض هي الليالي التي يكون القمر فيها من أول الليل إلى آخره.. وقد سميت كذلك لأن لياليها بيضاء من شدة ضوء القمر عند اكتماله.. ولأنها أشبهت بالنهار لشدة ضوئها واكتماله..

ولكن ما علاقة هذا بهذا الباب؟

ربت على كتفي أحد الخبراء المتواجدين في القاعة، وقال: كيف تقول هذا؟.. لقد ظهرت في الأعوام الأخيرة أبحاث علمية كثيرة مفادها أن القمر عندما يكون بدرا، أي في الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، يزداد التهيج العصبي والتوتر النفسي إلى درجة بالغة.. فالدكتور ليبر عالم النفس بميامي في الولايات المتحدة يقول:(إن هناك علاقة قوية بين العدوان البشري والدورة القمرية وخاصة بينه وبين مدمني الكحول، والميالين إلى الحوادث وذوي النـزعات الإجرامية، وأولئك الذين يعانون من عدم الاستقرار العقلي والعاطفي)

ويشرح ليبر نظريته قائلا:(إن جسم الإنسان مثل سطح الأرض يتكون من 80  بالمائة من الماء والباقي هو  المواد الصلبة).. ومن ثم فهو يعتقد بأن قوة جاذبية القمر التي تسبب المد والجزر في البحار والمحيطات تسبب أيضا هذا المد في أجسامنا عندما يبلغ القمر أوج اكتماله في أيام البيض.

ويقول الدكتور ليبر في كتابه (التأثير القمري) إنه نبه شرطة ميامي، كما طلب وضع أخصائي التحليل النفسي في مستشفى جاكسون التذكاري في حالة طوارئ تحسبا للأحداث التي ستقع نتيجة الاضطرابات في السلوك الإنساني، والمتأثرة بزيادة جاذبية القمر.. ويقول الدكتور ليبر:(إن ما حديث كان جحيما انفتح، فقد تضاعفت الجريمة في الأسابيع الثلاثة الأولى من يناير 1973، كما وردت أنباء عن جرائم أخرى غريبة وجرائم ليس لها أي دافع).. وأصبح من المعروف أن للقمر في دورته تأثيرا على السلوك الإنساني وعلى الحالة المزاجية.

وهناك حالات تسمى (الجنون القمري) حيث يبلغ الاضطراب في السلوك الإنساني أقصى مداه في الأيام التي يكون القمر فيها بدرا([19]).

قلت: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما أحكمه وما أعلمه بأسرار النفس وأسرار تكوينها وأخلاطها وهرموناتها.

قال: فلذلك كان من الحكمة الرجوع إلى هديه صلى الله عليه وآله وسلم للتعرف على مواقيت الغذاء وكيفياتها.

قلت: أفي السنة كل ذلك؟

قال: أجل.. وقد توصل نفر مجتهدون من قومك إلى كثير من ذلك.

قلت: فهل سنعرف تفاصيل ذلك؟

قال: لا.. ذلك يطول، ولكنا سنكتفي بالتعرف على وجبة مهمة ورد في النصوص الحث عليها مطلقا في الإفطار والصيام.

قلت: ما هي؟

قال: الفطور الصباحي.

قلت: ولكن الصائم لا يجوز له أن يفطر في الصباح.

قال: لقد عوض الفطور بالنسبة له بالسحور، ألم ترد النصوص الآمرة به؟

قلت: بلى، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(تسحروا فإن في السحور بركة)([20])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)([21])  

قال: ألم يأمر صلى الله عليه وآله وسلم بتأخير السحور حتى يقارب الفجر؟

قلت: بلى، فعن زيد بن ثابت  قال: تسحرنا مع رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم ثم قمنا إلى الصلاة. قيل: كم كان بينهما؟ قال: قدر خمسون آية([22])

قال:  أتدري ما سر هذا الاهتمام بالسحور؟

قلت: ما سره؟

ربت على كتفي بعض الخبراء، وقال:.. لأهمية الفطور، ألا تعلم أهميته؟

قلت: فما تقولون؟

قال: بالرغم من أن الوجبات التقليدية تلعب دورا مهما في تزويد الجسم بالغذاء الضروري، فإن علماء التغذية يصنفون الفطور بأنه الوجبة الأهم، والأساس السليم في العادات الغذائية الصحية ويوصون به.

وقد أظهرت الدراسات أن تناول الافطار يرتبط بتحسن القدرة على التحمل في أول النهار والقدرة على الاستيعاب الدراسي أو القيام بالواجب في العمل.

ويساعد الافطار على سد النقص في مستويات جلوكوز الدم، وهذا أمر هام حيث أن الدماغ ذاته ليس لديه احتياطات من الجلوكوز، ويجب تعويض النقص الحاصل من الجلوكوز في الدماغ بصورة مستمرة.

وقد اكتشف الباحثون أن الاطفال الذين لا يتناولون وجبة الفطور يواجهون مشكلة في التركيز في المدرسة ويصابون بالأعياء وعدم الانتباه في فترة الظهيرة، وقد تم ربط هذه المعضلات السلوكية بانخفاض مستوى السكر في الدم، والذي لا يتم سد النقص فيه من خلال وجبة الفطور مما يسمح بالاعياء والاجهاد والتعب والضيق لأن يحدث.. وهذه السلوكيات لها تأثير سلبي على التحصيل العلمي.

قلت: أصدقك القول، فإني أسمع الكثرين يذكرون تقصيرهم في حق الفطور.

قال: ليسوا وحدهم، فالملايين في أرجاء المعمورة يتخطون هذه الوجبة الهامة.. وكمثال على ذلك فإن امرأة من كل أربعة نساء في الفئة العمرية بين 25-34 سنة تتجاوز تناول وجبة الفطور بانتظام.

قلت: عرفت الفطور، فهل نستطيع أن نستنبط من النصوص وجبات أخرى؟

قاطعني أحدهم، وهويقول: ستة..

قلت: وما ستة؟

قال: ستة وجبات..

قلت: لم أفهم.. من أنت أو لا؟

قال لي المعلم: هذا رجل من عصرك حاول أن يستخلص من القرآن الكريم قوانين التغذية، وقد أداه اجتهاده إلى أن عدد الوجبات الصحية ستة([23]).

التفت إليه، وقلت: كيف عرفت ذلك؟

قال: لقد تبيت ذلك من خلال شيفرة قرآنية مبنية على الإعجاز العددي للقرآن الكريم، بالإضافة إلى ضرورة تناول كل مادة غذائية خلال وقت محدد في النهار حدده الله سبحانه وتعالى في الشيفرة القرآنية التي توزع كل هذه الأغذية والأطعمة والمأكولات والاشربة القرآنية لتناولها في وقت محدد من اليوم والليلة ولا يجوز تجاوزها ضمن ستة من الوجبات.

قلت: فما الغرض من ذلك؟

قال: ليعاد توازن النظام الهرموني والنظام العصبي في الجسم، وهما النظامان الاساسيان اللذان يسيطران على الجسم وعلى مليارات من تفاعلاته الحيوية، كما أن تطبيق نظام الغذاء الميزان يعيد توازن الساعة البيولوجية الداخلية في الجسم الإنسان.

قلت: ولكن.. لماذا كانت عدد الوجبات ستة، وليست ثلاثة ولا أربعة؟

قال: لقد اكتشفت ذلك من خلال شيفرة قرآنية تتعلق بعدد أمر { كلوا } في القرآن الكريم، ومن خلال لوحة عظيمة مساحتها تبلغ حوالي 6 متر مربع، قمت من خلالها إلى تقسيم القرآن كاملا إلى 240 جزء، ومن خلال هذا التقسيم استطعت الوصول إلى عدد الوجبات المقررة يوميا، وخلال الفترة المطلوبة التي توزع فيها الأطعمة والمأكولات والأشربة حسب الشيفرة القرآنية الأولى، ما أكد لي صحة عدد الوجبات من خلال أمر كلوا في القرآن الكريم.

قلت: فهل ترى من سر لهذا الرقم؟

قال: رقم ستة مملوء بالمفاجآت، فكل أساس يجب أن يبنى على ستة، فقد اكتشف العلماء أن جزئ الجلوكوز، وهو الجزئ الأولي الذي تصنع منه كافة أنواع الكربوهيدرات والبروتينات والدهون وغيرها من المركبات الأساسية في الجسم، هو  مركب سداسي، وكذلك العسل الذي هو  شفاء للناس بإعادة بناء الاساس الفطري الذي بنى الله سبحانه أجسامهم عليه يخرج من خلايا نحل سداسية أيضا.. وهكذا.

أردت أن أسأله، فانصرف، لقد كانت الأشغال الكثيرة التي التزم بها تحول بينه وبين الجلوس معي.

فجأة ربتت على كتفي يد أخرى، التفت فإذا بوجه أعرفه([24]) يقول: خمسة.

قلت: أعرفك، فماذا تريد بالخمسة؟

قال: خمس وجبات نستطيع استنابطها من السنة.

قلت: كيف ذلك؟ وكيف نوفق بينك وبين من يقول بالستة؟

قال لي المعلم: هؤلاء مجتهدون.. وهم يختلفون.. ولكنهم سيتحدون.

قلت: كيف يتحدون؟

قال: هذه بحوث جديدة، وهي محاولات لاستنباط هذا العلم من النصوص، وستزيد الأيام هذا البحث نضجا، وسنرى فتوحا كثيرة يفتحها الله على البشر ببركة رجوعهم إلى كلام الله، وإلى هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

هيئة التغذية:

قلت: عرفت مواقيت الغذاء، فما هيئته؟

قال: هي الطريقة التي تأكل بها، ألم يعلمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف نأكل؟

قلت: أجل.. لقد ورد من ذلك في السنة الكثير.

قال: فلا يمكن أن يستفيد جسمك من غذائك إلا إذا تأدبت بتلك الآداب.

قلت: آداب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو الآداب التي يصفها الخبراء؟

قال: وهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا سيد الخبراء؟.. وهل الخبراء إلا تلاميذ بسطاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينقلون هديه أو يقيسون عليه؟

قلت: فما يقولون؟

قال: هيا لنستمع لبعضهم، فهذه القاعة مخصصة لذلك.

اقتربنا من بعضهم، فسمعناه يقول، وكأنه يخاطب عدوا يتربص به: لن يبارك لك في أكلك.. كل ما شئت أن تأكل.. املأ بطنك بما شئت من شهوات.. أنت لا تزيد معدتك إلا ألما وثقلا.. ولا تزيد جسدك إلا جوعا وظمأ..

التفت للمعلم مستغربا، وقلت: من هذا.. ما به منزعج هكذا.

أشار لي المعلم أن أسكت، فرأيته قد هدأ بعض الهدوء، وقال: أنا لا ألومك.. بل أنصحك، يحزنني ما أراك عليه.. فأنت تؤذي جهازك الهضمي، وتصيبه بالعطب.

انظر جيدا لأسنانك، وهي تمضغ  الطعام، أنت تخفق في المضغ الجيد، بسبب الأكل بسرعة وشراهة.. ألا تعلم أن المضغ يؤدي دوراً مهماً في عملية الهضم.. ويمكن أن يؤدي الإخفاق في المضغ جيداً الى تعطيل الهضم والتخفيف من فاعلية العناصر الأخرى في العملية الهضمية؟

ألا تعلم أن الهضم إن كان بطيئاً جداً، قد يتخمر الطعام غير المهضوم في الجهاز الهضمي، مما يؤدي الى الازعاج وسوء امتصاص المواد المغذية؟

وأنت بالإضافة إلى ذلك تتناول وجبات كبيرة لا يستطيع الجهاز الهضمي إنجاز الكثير دفعة واحدة.. لذا، كلما تناولت وجبة أكبر، تضاءلت قدرة الجهاز الهضمي على هضمها جيداً.

وأنت مع ذلك تشرب كميات كبيرة من السوائل مع الوجبات.. ألا تعلم أن شرب الكثير من السوائل مع الوجبات يخفف الافرازات (الحمض، والإنزيمات الهضمية والصفراء) المسؤولة عن عملية الهضم.. والواقع أن تخفيف هذه الافرازات يعطل فاعليتها ويعيق عملية الهضم؟

وأنت بعد ذلك تتأخر في تناول وجباتك، لتنام بعدها، وهذا يؤدي إلى مشاكل هضمية كثيرة.

تركناه في حديثه، ثم انصرفنا إلى آخر أكثر هدوءا، فسمعناه يقول: من أخطر عوارض الهضم السيء الافتقاد الى الطاقة.. فالطعام المهضوم بطريقة غير فعالة ينتقل بكميات أقل الى الدورة الدموية، ويبقى بالتالي جزء كبير منه عالقاً في الجهاز الهضمي بدل نقله الى خلايا الجسم لتوليد الطاقة.

ومن عوارضه النقص الغذائي.. فالفيتامينات والمعادن الأساسية للحياة تأتي عبر الغذاء، وبالتالي فإن سوء الهضم وامتصاص الطعام قد يؤدي الى نقص غذائي، يمكن أن يسبب عواقب طويلة الأمد، بدءاً من الوهن الى ازدياد خطر التعرض لأمراض مثل مرض القلب والسرطان.

ومن عواقبه انزعاج هضمي.. فإن كان الجهاز الهضمي غير فعال، فإن الطعام غير المهضوم أو المهضوم جزئياً يمكن أن يتخمر في الأمعاء.. وقد يؤدي ذلك الى مشاكل في توليد ريح البطن ـ انتفاخ وتجشؤ ـ إضافة الى انزعاج في المعدة.

ومن عوارضه الغثيان وانتفاخ البطن والتجشؤ المفرط، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل قد تجشأ عنده:(اقصر من جشائك، فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا في الآخرة)([25]

ومن عوارضه التهاب غشاء المعدة الرغوي، أو قرحة في المعدة أو الجزء الأول من الأمعاء الدقيقة المعروف بالمعي الاثنا عشري.. ومن العوامل المسهمة في ذلك المضغ غير الملائم للطعام أو استهلاك وجبات كبيرة.

ترتيب الأغذية:

بينما كنت مستغرقا في سماع الرجل، وهو يرغي ويزبد حول سوء الهضم وأسبابه، أمسك بيدي رجل بحنان، وقال: صدق الرجل في كل ما قاله، وسيطول بك المقام لو استمعت لكل كلامه، فاكتف بما قاله، واسمع مني هذه النصيحة القرآنية الغالية.

قلت: انصح.. فالقرآن الكريم خير من نصح.

قال: إذا أكلت فاكهة ولحما أو أي غذاء، فابدأ بالفاكهة أو لا([26]).

غضبت، وقلت: أتهزأ به، أم أنك تمتحنني.. في أي سورة هذا؟.. أم أنك أخذت من قرآن الشيطان الذي يشيعه الدجالون؟

قال: لا تغضب.. هذه إشارة قرآنية جليلة، وقد بحثت فيها، فرأيت مناسبتها للصحة.

قلت: ومن أين استنبطت ذلك؟

قال: من قوله تعالى عند ذكر الجنة:{ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}(الطور:22) وقوله في موضع آخر محافظا على نفس الترتيب:{ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} (الواقعة:20 ـ 21)

ويؤيد هذا من السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة، فإن لم يجد تمرا فليفطر على الماء فإنه طهور)([27]).

قلت: عرفت إشارة القرآن الكريم، فما الحقيقة الصحية التي تخدمها؟

قال: من المتفق عليه بين علماء التغذية أن تناول الفاكهة قبل الوجبة الغذائية له فوائد صحية جيدة، فالفاكهة تحوي سكاكر بسيطة سهلة الهضم وسريعة الامتصاص، فالأمعاء تمتص هذه السكاكر بمدة قصيرة تقدر بالدقائق، فيرتوي الجسم، وتزول أعراض الجوع ونقص السكر، في حين أن الذي يملأ معدته مباشرة بالطعام المتنوع يحتاج إلى ما يقارب ثلاثة ساعات حتى تمتص أمعاؤه ما يكون في غذائه من سكر، وتبقى عنده أعراض الجوع لفترة أطول.. فالسكاكر البسيطة بالإضافة إلى أنها سهلة الهضم والإمتصاص فإنها مصدر الطاقة الأساسي لخلايا الجسد المختلفة.

ومن هذه الخلايا التي  تستفيد إستفادة سريعة من السكاكر البسيطة خلايا جدر الأمعاء والزغابات المعوية حيث تنشط بسرعة عندما تصلها السكاكر الموجودة بالفاكهة، وتستعد للقيام بوظيفتها على أتم وجه في امتصاص مختلف أنواع الطعام، والتي يأكلها الشخص بعد الفاكهة.

***

قال الرجل هذا، وانصرف من غير أن ينتظر مني كلمة شكر واحدة، فخطرت على بالي فكرة تعميم ما قاله، والبحث في القرآن الكريم جميعا، وفي السنة المطهرة، لنرى الترتيب الذي ورد فيه ذكر الأغذية، ونقارنه بما يقوله العلم في ذلك، خاصة، وأن النص ورد بالدعوة إلى مراعاة ترتيب ما في القرآن الكريم من أشياء، كما ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن، فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا، وهو يقرأ قوله تعالى:{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة:158)، ثم قال:(أبدأ بما بدأ الله به)([28]

ما استتممت هذا الخاطر حتى وقف بجانبي صاحب الوجبات الستة([29])، وقال: هو  نفس الخاطر الذي خطر ببالي.

قلت: أي خاطر؟..  وهل اطلعت على ما في خاطري؟

قال: أليس المؤمنون إخوة؟ أليست الأرواح جنود مجندة؟

قلت: بلى.

قال: فكيف لا تتوارد خواطرنا على موضوع واحد؟

قلت: أي موضوع؟

قال: ترتيب الأغذية في القرآن الكريم..

قلت: أجل.. كنت أفكر في هذا.

قال: لقد بحثت فيه بحثا مستفيضا، ووصلت ـ بحمد الله ومنته ـ إلى نتائج مذهلة.

قلت: فإلام وصلت؟

قال: لقد اكتشفت وجود علاقات ثابتة ومحددة لبعض الأغذية مع بعضها بعضها، بحيث لا يجوز أن تؤخذ قبل أغذية أو أشربة أخرى.

قلت: لقد عرفت مع أخينا السابق سر الترتيب بين الفاكهة واللحم وغيره من الوجبات.

قال: ليس ذلك فقط.. بل الترتيب يسري في أشياء كثيرة يمكن أن تؤسس لعلم كامل.

قلت: فاضرب لي أمثلة على ما اكتشفته.

قال: لقد ورد أمر كلوا واشربوا في القرآن الكريم عددا من المرات، وفي كل المرات هذه كان يرد أمر كلوا قبل اشربوا، وليس هناك في موضع واحد في القرآن الكريم أمر اشربوا قبل أمر كلوا أبدا، حتى في قصة الرجل الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه ذكر طعامه قبل شرابه، كما قال تعالى: { فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} (البقرة:259)

قلت: فماذا استنتجت من هذا؟

قال: استنتجت قاعدة ذهبية في أسس علم التغذية والطاقة القرآني، وهي أنه لا يجوز الشرب قبل الأكل صحيا وطاقيا وغذائيا، وعممت ذلك أساسا في كل وجبة من الوجبات.. وقد ظهرت لي نتائج جيدة بعد تجربة ذلك.

قلت: فاذكر لي مثالا آخر.

قال: لقد اكتشفت أن هناك علاقات بين الأغذية والأطعمة والأشربة بحيث لا يجوز أخذ بعضها قبل بعضها الآخر، ومن أمثلة ذلك اللبن والخل والعسل.. ألا تعلم نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن انتباذ العسل واللبن؟

قلت: بلى، فقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينقعا ليلة كاملة مع بعضهما.

قال: لقد قرأت هذا الحديث، ورجعت إلى القرآن الكريم لأرى هل جمع العسل واللبن معا.

قلت: لقد جمع الله تعالى بينهما، فقد قال تعالى:{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ}(النحل:66)، فهذا هو  اللبن، ثم قال تعالى بعدها قريبا من هذه الآية:{  وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(النحل:69) وهذا هو  العسل.

قال: ولكنه فصل بينهما بفاصل لم تقرأه.

قلت: تقصد قوله تعالى في الآية التي تتوسط الآيتين:{ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(النحل:67)

قال: أجل، فقد فصل الله تعالى بذكر السكر، وقد قال بعض المفسرين: إن السكر هو  الخمر، ولكن هناك من قال بأن السكر هو  الخل، وهوالأرجح، فما من شئ يتسكر، فلا يذهب بالعقل ويبقى زرقا حسنا إلا الخل.

قلت: ترجيحك صحيح، وقد كان في نفسي شيء من اعتبار السكر خمرا، فكشفته كشف الله كربك.

قال: وما سبب هذا الكرب الذي عانيته بسبب ذلك التفسير؟

قلت: لقد كنت أقول: بأن هذه الآيات في معرض امتنان، فكيف يمن الله علينا بما يؤذينا؟.. حتى عرفت أنه الخل.

قال: والخل رزق حسن([30])، ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم:(نعم الإدام الخل)([31])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( اللهم بارك في الخلِّ فإنَّه كان إدام الأنبياء قبلي)([32]) ؟

قلت: لقد ورد هذا الجمع بهذا الفاصل في موضع آخر من القرآن الكريم، فقد قال تعالى في وصف أنهار الجنة:{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هو  خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}(محمد:15)

قال: أجل، فقد ذكر الله تعالى اللبن أو لا، كما حدث في سورة النحل، ثم ذكر خمر الجنة، وهوخمر يتخمر ولا يسكر أبدا، فقد قال الله تعالى فيه:{ يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ }(الشعراء: 44 ـ 46)، ومعنى الغول أنها لا تغتال عقولهم، ولا هي تسكرها، ولا يصيبهما منها مرض ولا صداع، ثم نرى الله تعالى بعد ذكر أنهار اللبن والخمر الذي لا يسكر يذكر أنهار العسل تماما بنفس الترتيب الذي ورد في سورة النحل.

قلت: هذا مثال جميل، فهل اكتشفت أمثلة أخرى؟

قال: لا.. لم أكتشف أمثلة.. بل اكتشفت علما قائما بذاته.

قلت: كيف هذا؟

قال: بعد هذا الاكتشاف، بدأت دراسة كل مادة غذائية في القرآن الكريم على حدة، ومتى تذكر مفردة، ومتى تذكر مجتمعة مع غذاء آخر، وإذا ذكرت مع غذاء آخر هل هي قبله أم بعده دائما أم هي قبله أحيانا وبعده أحيانا أخرى، كما أنني قست مواقع هذه الأغذية حسب شيفرتنا القرآنية حسب الوحدة الزمنية التي حصلنا عليها من الشيفرة، فاكتشفت بذلك كثيرا من النقاط الإعجازية الذهبية في قواعد التغذية القرآنية.

قلت: فاضرب لي أمثلة أخرى على ما اكتشفت؟

قال: لا.. سأشوقك إلى بعض ما اكتشفت، أما التفاصيل، فلا يمكن أن تعرفها هنا.

قلت: فشوقني.. فقد نصحك من شوقك إلى الخير.

قال: من ذلك أني اكتشفت لماذا علينا أن نأكل الفواكه في النهار، ولا نأكلها في الليل.. ولماذا علينا ألا نأكل القمح في الصباح.. ولماذا علينا ألا نأكل التمر والعنب عند العصر.. ولماذا إذا أكلنا رمانا يجب أن يكون هذا الرمان آخر ما نأكل.. ولماذا علينا أن نشرب الخل بعد اللبن.. ولماذا علينا أن نشرب العسل بعد الخل.. ولماذا علينا أن نأكل القمح في بداية الطعام.. ولماذا علينا أن نأكل التمر قبل العنب في معظم الأحيان.. ولماذا جعل ترتيب هذه الأطعمة بهذا التسلسل في سور الرحمن، الفواكه فالنخل فالحب فالريحان، كما قال تعالى:{ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُوالْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرحمن: 10 ـ 13)

الرياضة

دخلنا القاعة الثانية من قاعات حصن القوة، فقرأت لافتة كتب على بابها قوله تعالى:{ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أو لِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:95)

قلت للمعلم: ما هذه القاعة؟.. وما علاقة الآية بها؟

قال: هذه قاعة الرياضة، وهي الركن الثاني من الأركان التي تنتظم بها قوى الجسم، فالجسم الذي يتغذى لا بد له من الحركة التي تحول من ذلك الغذاء طاقة حية ينتفع بها الإنسان.

قلت: فما علاقة الآية بذلك؟

قال: هذه الآية تنهى عن الكسل والقعود والتثاقل إلى الأرض، فالقعود يعني الكسل، كما أن الجهاد يعني بذل المجاهد كل طاقاته، واستخدامها، لا تركها معطلة لا ينتفع بها، ولا ينفع.

قلت: أتفهم من الجهاد هذا المعنى؟

قال: لا يصح الجهاد إلا بعد هذا المعنى، فلا يمكن أن نرسل للمعركة جنودا يقعد بهم ضعفهم عن السير، وتقعد بهم طاقتهم عن الحركة.

ولهذا استعاذ صلى الله عليه وآله وسلم من الكسل، فقال:(اللهم إني أعوذ بك من الكسل، وسوء الكبر، وأعوذ بك من عذاب القبر)([33])

وربط في دعاء آخر بين العجز والكسل والجبن، فقال:(اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر وفتنة الدجال)([34])، فكل هذه الأدواء يتولد بعضها من بعض.

قلت: فهل تدعو لفقه الرياضة كما دعوت لفقه الغذاء؟

قال: أجل.. فللرياضة فقهها الذي لا يختلف عن فقه الغذاء، ومن الخطأ عدم الاهتمام به.

قلت: لقد وجدت في النصوص ما تستلهم به المعاني الكثيرة التي يمكن أن يؤسس عليها فقه الغذاء، فمن أين يتأسس فقه الرياضة؟

قال: فقه الرياضة أيسر.

قلت: كيف؟

قال: لأنه لا يجوز لك أن تأكل في صلاتك، بينما يجوز لك أن تمارس الرياضة فيها.

قلت: ما الذي تقوله؟

الرياضة والصلاة:

قال: لقد ربط الشرع أكثر العبادات وأهمها بالحركات البدنية التي لا تختلف عن أنواع الرياضات، زيادة على ما فيها من توجه لله، يجعل منها رياضة نفسية وجسدية متكاملة.

قلت: أعلم ما في الصلاة من حركات قد تشبه حركات الرياضيين، ولكنها شيء مختلف تماما.

أشار إلى رجل، قد وضع صورا لأشكال حركات الصلاة، وهو يقوم بشرحها، وقال: هيا لنزور ذلك الرجل، فهو خبير رياضي يدرك أسرار الحركات وآثارها، ويجمع بين الرياضة والطب، لنسمع ما يقول، { وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}(فاطر:14)

اقتربنا منه، فسمعته يقول([35]): أترون هذه الحركات الكثيرة التي يفعلها المصلي من رفع لليدين وركوع وسجود وجلوس وقيام وتسليم وغيره..

قالوا: نعرفها، ونمارسها بحمد الله ومنته.

قال: فهذه الحركات لا تختلف عن الكثير من التمارين الرياضية التي ينصح الأطباء الناس – وخاصة مرضاهم – بممارستها، ذلك لأنهم يدركون أهميتها لصحة الإنسان ويعلمون الكثير عن فوائدها.

فهي غذاء للجسم والعقل معًا، وتمد الإنسان بالطاقة اللازمة للقيام بمختلف الأعمال، وهي وقاية وعلاج؛ وهذه الفوائد وغيرها يمكن للإنسان أن يحصل عليها لو حافظ على الصلاة، وبذلك فهو لا يحتاج إلى نصيحة الأطباء بممارسة التمارين، لأنه يمارسها فعلاً ما دامت هذه التمارين تشبه حركات الصلاة.

قالوا: فما فوائد الصلاة البدنية؟ ومن تشمل؟

قال: هي كثيرة، وهي تشمل جميع فئات الناس.

قالوا: فاذكر لنا منها ما تطمئن به قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا.

قال: منها تحسين عمل القلب، وتوسيع الشرايين والأوردة، وإنعاش الخلايا، وتنشيط الجهاز الهضمي، ومكافحة الإمساك، وإزالة العصبية والأرق، وزيادة المناعة ضد الأمراض والالتهابات المفصلية، وتقوية العضلات وزيادة مرونة المفاصل، وإزالة التوتر والتيبس في العضلات والمفاصل، وتقوية الأوتار والأربطة وزيادة مرونتها، وتقوية سائر الجسم وتحريره من الرخاوة، واكتساب اللياقة البدنية والذهنية، وزيادة القوة والحيوية والنشاط، وإصلاح العيوب الجسمية وتشوهات القوام، والوقاية منها، وتقوية ملكة التركيز، وتقوية الحافظة، وإكساب الصفات الإرادية كالشجاعة والجرأة، وإكساب الصفات الخُلقية كالنظام والتعاون والصدق والإخلاص.. وما شابه ذلك.

قالوا: لقد ذكرت لنا قائمة كبيرة من فوائد الصلاة، فما علاقة الصلاة بالرياضة، فنحن في قاعة الرياضة؟

قال: كل ما ذكرناه ثمرة من ثمار الرياضة، فالصلاة تشكل للرياضيين أساسًا كبيرًا للإعداد البدني العام، وتسهم كثيرًا في عمليات التهيئة البدنية والنفسية للاعبين ليتقبلوا المزيد من الجهد خصوصًا قبل خوض المباريات والمنافسات.

والصلاة وسيلة تعويضية لما يسببه العمل المهني من عيوب قوامية وتعب بدني، كما أنها تساعد على النمو المتزن لجميع أجزاء الجسم، ووسيلة للراحة الإيجابية والمحافظة على الصحة.

وهي تؤمِّن لمفاصل الجسم كافة، صغيرها وكبيرها، حركة انسيابية سهلة من دون إجهاد، وتؤمِّن معها إدامة أدائها السليم مع بناء قدرتها على تحمل الضغط العضلي اليومي.

وحركات الإيمان والعبادة تديم للعضلات مرونتها وصحة نسيجها، وتشد عضلات الظهر وعضلات البطن فتقي الإنسان من الإصابة بتوسع البطن أو تصلب الظهر وتقوسه.

وفي حركات الصلاة إدامة للأوعية الدموية المغذية لنسيج الدماغ مما يمكنه من إنجاز وظائفه بشكل متكامل عندما يبلغ الإنسان سن الشيخوخة.

والصلاة تساعد الإنسان على التأقلم مع الحركات الفجائية التي قد يتعرض لها كما يحدث عندما يقف فجأة بعد جلوس طويل مما يؤدي في بعض الأحيان إلى انخفاض الضغط، وأحيانًا إلى الإغماء.. فالمداومون على الصلاة قلما يشتكون من هذه الحالة. وكذلك قلما يشتكي المصلون من نوبات الغثيان أو الدوار.

والصلاة عامل مقوٍ، ومهدئ للأعصاب، وتجعل لدى المصلي مقدرة على التحكم والسيطرة على انفعالاته ومواجهة المواقف الصعبة بواقعية وهدوء، وهي أيضًا حافز على بلوغ الأهداف بصبر وثبات.

وهذه الفوائد لجميع فئات الناس: رجالاً ونساء، شيوخًا وشبابًا وأطفالاً، وهي بحق فوائد عاجلة للمصلي تعود على نفسه وبدنه، فضلاً عن تلك المنافع والأجر العظيم الذي وعده الله به في الآخرة.

قالوا: الله.. إنا نمارس الرياضة في أثناء عبوديتنا لله، ونحن لا نشعر.

قال: أتعلمون الأسرار الصحية المودعة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(علموا الصبي الصلاة لسبع سنين واضربوه عليها ابن عشر سنين)([36])

قالوا: فما فيه من الصحة؟

قال([37]): لقد قمت بأبحاث في هذا، وتوصلت ـ انطلاقا منها ـ إلى نظرية جديدة عن صحة الظهر انطلاقا من ذلك الحديث.

قالوا: فما هي، وكيف توصلت إليها؟

قال: لقد اكتشفت أنه إذا بدأ الإنسان في تليين أسفل ظهره في سن مبكرة، واستمر في هذا التمرين وحافظ عليه أثناء الكبر فإن فرصته في الإصابة بالآلام الشديدة والانزلاقات الغضروفية في أسفل الظهر ستتقلص بشكل كبير.

قالوا: أهذا صحيح؟ وكيف توصلت إل هذا؟

قال: آلام أسفل الظهر من المشاكل الشائعة في البالغين، وغالبًا ما تظهر بسبب فقدان الليونة من الرباط الطولي الخلفي في الظهر، وكذلك النسيج الليفي الذي يشكل الطبقات الخارجية من القرص الغضروفي، وعندما تفقد هذه الأنسجة القدرة على التمغط، فإنها تتمزق عند حصول حركة خاطئة تساعد على تهتكها.. والحركة التي تضع ضغطًا على هذه الأنسجة هي ثني الظهر للأمام والركب مفردة.

وهذا التمزق نادر جدًا في الأطفال لأن أنسجتهم مرنة وتتمغط عند الانحناء.

وقد قادني هذا إلى فرضية تنص على أنه لو حافظنا على ميزة مرونة الرباط والغضاريف الموجودة في الأطفال، فهل سيقلل هذا من نسبة الإصابة بآلام أسفل الظهر والانزلاقات الغضروفية في الكبار، أم لا؟

قالوا: فما عملت لإثبات هذه الفرضية؟

قال: لإثبات مدى صحة هذا أُجريت بحثا ميدانيا على 188 من البالغين، وقد تم سؤالهم إذا كانوا يشتكون من آلام أسفل الظهر أو عرق النسا، وعن شدة الألم إن وجد، ثم سئلوا عن صلاتهم متى انتظموا فيها، ولم يقطعوها؟

قالوا: فما كانت نتيجة ذلك؟

قال: لقد أثبتت النتائج بشكل قاطع وملحوظ صحة هذه الفرضية واكتسب الطب هذه النظرية حيث أن 2،6 بالمائة فقط ممن يصلون قبل سن العاشرة قد عانوا من آلام قوية أسفل الظهر، بينما 70 بالمائة ممن لا يصلون إطلاقاً يعانون من آلام قوية والتفاصيل.

قالوا: وهل قبلت هذه النظرية؟

قال: أجل.. لقد قبلت هذه الدراسة ونوقشت في المؤتمر القطري العالمي الثاني للأطفال في الدوحة في إبريل سنة 2000م وفي المؤتمر الدولي السادس لجراحة الظهر، والذي عقد في أنقرة من الرابع إلى السادس من سبتمبر عام 2002م، وذلك بإشراف نخبة من أطباء الظهر العالميين، كما نشرت في مجلة الظهر الأوروبية.

قالوا: فما هو  التفسير العملي الذي أعطيته لذلك؟

قال: يتمتع الأطفال بلياقة كبيرة مقارنة بالبالغين، وسبب هذه اللياقة هو  أن أنسجتهم مرنة، وإذا ما حافظنا على هذه الخاصية من الطفولة، فإنه من المنطقي أن تظل هذه الأنسجة مرنة، فتقاوم الحركات الشديدة، أما إذا أهملت أو بمعنى أصح إذا حرمت من التمرين المستمر، فإنها ستتيبس عند الكبر، فإذا تعرضت لشد قوي بسبب حركات شديدة، فإنها قد تتمزق، وهذا يسبب آلامًا مبرحة.

فإذا بدأ الأولاد بالركوع مرات عديدة كل يوم ابتداءً من سن السابعة وعلى الأكثر سن العاشرة، فإن الأربطة الطولية خلف الفقرات وألياف الغضروف الخلفية تحافظ على ليونتها فيصعب تمزقها في الكبر، ويبقى الغضروف آمنًا بين الفقرات، وهكذا تتقلص مشكلة صعبة تعاني منها فئة كبيرة من الناس.

قالوا: ما شاء الله.. بارك الله لك في هذا الجهد.

قال: ليس هذا فحسب، ألا تعلمون الأسرار الصحية المودعة في دعوته صلى الله عليه وآله وسلم إلى صلاة الجماعة في المسجد، وبيانه أن في كثرة الخطا إلى المساجد الأجر الكبير، وأنه كلما كانت المسافة التي يقطعها المصلي أبعد كلما كان الأجر الذي يناله من الله أعظم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى، فأبعدهم.. والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام)([38]

قالوا: علمنا ما في ذلك من الأجر، فما في ذلك من الصحة؟

قال([39]): لما كانت آلة الذهاب إلى المسجد هي المشي على القدمين، فإن كل مسلم مأمور أن يذهب إلى المسجد في كل يوم خمسة مرات، فكل مسلم يستغرق ذهابه إلى المسجد والعودة منه على أقل تقدير خمسة دقائق، فبعملية حسابية بسيطة نجد أن كل مسلم يمشي كل يوم ما لا يقل عن 25 دقيقة كأقل تقدير.

وقد جاءت الأبحاث العلمية بنتائج ودراسات تبين فوائد المشي الصحية، وأصبح الأطباء يدعون الناس إلى المشي كل يوم نصف ساعة للمحافظة على صحة الجسم.

فقد نص باحثون في جامعة إلينوي الأميركية على أن التمارين المعتدلة البسيطة مثل المشي نصف ساعة يوميا، يساعد في تقليل ضغط الدم الشرياني إلى حدوده الطبيعية، وخاصة عند الأميركيين الأفارقة.

وأكد الباحثون أنه ليس بالضرورة أن تكون التمارين قاسية وعنيفة لتحقيق الفوائد الصحية، بل يكفي ممارسة رياضة معتدلة للمحافظة على سلامة الجسم والتخلص من ارتفاع الضغط، وأشاروا إلى أن 40 مليون شخص في الولايات المتحدة يعانون من ارتفاع ضغط الدم الشرياني التي تزيد قراءاته الانقباضي والانبساطي عن 140/90 مليمتر زئبق، 40 بالمائة منهم من الأميركيين الأفارقة.

وقام الباحثون في الدراسة التي استمرت ستة أشهر بمتابعة 40 شخصا من الأميركيين الأفارقة المصابين بارتفاع ضغط الدم تراوحت أعمارهم بين 35 و59 عاما، إذ أعطوهم مقياسا لمسافة السير عند مشيهم ثلاثين دقيقة أو 1.5 ميل يوميا إضافة إلى نشاطاتهم العادية، أي ما يصل إلى 10 آلاف خطوة أو ما بين 3.5 و4 أميال يوميا.

وينصح الأطباء هؤلاء المرضى بالمشي والحركة في حياتهم العادية كاستخدام الدرج بدلا من المصاعد الكهربائية، ووقف السيارات في أماكن بعيدة عن العمل والمنزل، وتقليل الملح في غذائهم، وحذروا من أن ترك هذه الحالة دون علاج قد يؤدي إلى الإصابة بمشكلات في البصر وأمراض القلب والسكتات وقصور الكلى.

وكانت دراسة سابقة عن آثار المشي في ضغط الدم العالي أجريت على 15 سيدة في سن اليأس، وأوضحت الدراسة أن السيدات اللاتي مشين مسافة ثلاثة كيلومترات أو حوالي 1.9 ميلا يوميا، أظهرن انخفاضا في قراءات ضغط الدم الانقباضي بحوالي 11 نقطة بعد مرور 24 أسبوعا، كما أن المشي يقليل نسبة الدهون، فالمشي لمسافة ميل يساعد على حرق 60 سعرة حرارية، وإذا ما زاد الإنسان سرعته وخطوته أثناء المشي بمعدل 25 ميل خلال 30 دقيقة، فإن الجسم سوف يحرق 200 سعرة حرارية([40]).

قالوا: ما شاء الله.. أكل هذا نجنيه من مشينا لعبادة الله؟

قال: ليس ذلك فقط، بل اكتشف العلماء أن  المشي يفيد في تحسين أداء القلب والمحافظة على صحته وخفض الكولسترول وخفض ضغط الدم وتحسين التمثيل الغذائي والاستفادة من العناصر الغذائية، إذ تشير الدراسات إلى أن معدل التمثيل الغذائي يكون بطيئا لدى الإنسان البدين الذي لا يمارس الحركة، بينما التمثيل الغذائي يكون سريعاً لدى من يمارس الحركة أو الرياضة ويقوي العظام ويحافظ على صحة المفاصل ويقوي العضلات ويخفف من حدة التوتر النفسي، إذ أن الرياضة بشكل عام تساعد على إفراز هرمون الإندروفين الذي يمنح الإنسان الشعور بالراحة والسعادة.

ورياضة المشي بذلك تخفف من حدة التوتر والشعور بالاضطرابات الناجمة عن ضغوط الحياة اليومية التي لا تنتهي، وعن طريق مزاولة الأنشطة الرياضية بما في ذلك رياضة المشي يحصل الإنسان على مفهوم الذات من الناحية الايجابية حيث يشعر بالسعادة والسرور والنظرة المتفائلة عن شخصيته وذاته.

قال بعضهم: ولكن.. أليس في المشي ضررا على المفاصل؟

قال: لقد اكتشفوا أن المشي من أقل التمارين الرياضية ضرراً على المفاصل، والأقل في احتمالات الإصابة خلال التمارين.

فالمشي من التمارين التي يحرق فيها الأكسجين (أيروبك)، وهو بالتالي يفيد القلب والرئتين ويحسن من الدورة الدموية.

كما أن المشي من الرياضات المتوسطة الإجهاد التي تساعد الناس على المحافظة على لياقتهم ورشاقتهم بحرق الطاقة الزائدة، ويقوي العضلات والجهاز الدوري ويحسن من استخدام الأكسجين والطاقة في الجسم.

ولذلك يقلل من المخاطر المرتبطة بالسمنة والسكري وسرطان الثدي وسرطان القولون وأمراض القلب.

كما يعتبر المشي مشابهاً لتمارين حمل الأثقال، فالمشي بقامة مستقيمة متزنة يقوي العضلات في الأرجل والبطن والظهر، ويقوي العظام ويقلل من إصابتها بالهشاشة.

ويفيد المشي في التخلص من الضغوط النفسية والقلق والإجهاد اليومي، ويحسن من الوضع النفسي ومن تجاوب الجهاز العصبي، وهذا ناتج من المركبات التي يفرزها الجسم خلال المشي.

ويساعد المشي على التخلص من الوزن الزائد، وهذا بالطبع يعتمد على مدة المشي وسرعته (مقدار الجهد المبذول). فالشخص الذي يمشي بمعدل 4 كم/ ساعة يحرق ما بين 200 – 250 سعراً حرارياً في الساعة (22 – 28 جرام من الدهون)

وأكدت مقالة نشرت في مجلة B.M.T الشهيرة أنه للوقاية من مرض شرايين القلب والجلطة القلبية يجب على الإنسان أن يمارس نوعا من أنواع الرياضة البدنية كالمشي السريع، أو الجري، أو السباحة لمدة 20 – 30 دقيقة مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل.

رياضات مسنونة:

تركنا الرجل يشرح للمجتمعين حوله فوائد الصلاة الرياضية والصحية، وسرت مع المعلم في أرجاء القاعة، فلاح لي من نافذة القاعة رجال يمارسون رياضات مختلفة، سألت المعلم عنهم، فقال: كما أن الرياضة ترتبط بحياتنا التعبدية والعادية، فإن لها بالإضافة إلى ذلك شعائرها الخاصة.

قلت: ما أكثر الشعائر الرياضية التي نمارسها في عصرنا.

قال: تقصد الكرة؟

قلت: أي كرة تقصد، فالكرات كثيرة منها الطائرة ومنها الزاحفة ومنها..

قال: وهل تحسبون أنفسكم تمارسون الرياضة بممارستها؟

قلت: أجل.. فهي أكثر الرياضات شعبية، يمارسها العالم أجمع.

قال: يمارسونها بعيونهم، لا بأرجلهم.

قلت: هذا صحيح.

قال: ثلة من أنصاف العرايا يجرون، تلهث وراءهم عيون الملايين، يخادعون أنفسهم.. ثم تمتلئ قلوبهم صراعا.

قلت: وأيديهم، فكم من المباريات التي سالت من أجلها الدماء.

قال: وأموالكم وأموال المستضعفين المغلوبين على أمرهم.. ألستم تضعون ميزانيات الرياضة في أيدي هذه الثلة؟

قلت: أجل.. إرضاء لملايين الأيدي المصفقة.

قال: ثم لا تبنون للمستضعفين ملعبا واحدا يحركون فيه أرجلهم.

قلت: دعنا من هؤلاء.. وأخبرنا ماذا يفعل هؤلاء؟

قال: هيا لنزورهم.. لنعرف ماذا يصنعون؟

المسابقة:

خرجنا من القاعة إلى ساحة جميلة مزدانة بأعشاب تونق خضرة وتمتلئ جمالا، فوجدنا قوما يتسابقون، وهم يسبحون ويكبرون، فتقدمت من أحدهم، وقلت: أهذه مباراة رسمية؟

قال: ماذا تقصد؟

قلت: أقصد أن جهة ما نظمتها.

قال: نعم.. فهذا السباق سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نحيي هذه السنة.

قلت: ماذا تقصد؟ أهذا السباق نظمته السنة؟

قال: أجل.. ولم ينظمه الإغريق ولا الرومان الذين تستنون بهم.

قلت: اعرف ما تقول ـ يا رجل ـ فليس من السهولة أن تنسب تصرفاتك إلى السنة.

قال: لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يشجع الصحابة  على مثل هذه المسابقات، فعندما قفل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غزوة تبوك قالت الانصار: السباق. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(إن شئتم)([41])

وفي الحديث أن رجلا من الأنصار كان لا يُسبق شداً قال: فجعل يقول: ألا مُسابق إلى المدينة، هل من مسابق؟ فجعل يُعيد ذلك، قال: فلما سمعت كلامه قلتُ: أما تكرمُ كريماً ولا تهاب شريفاً. قال: لا، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأُمي ذرني فلأُسابق الرجل، قال: إن شئت، قال: قلت: اذهب إليك وثنيتُ رجلي فطفرت فعدوت.. فسبقته إلى المدينة)([42]

بل كان صلى الله عليه وآله وسلم ينظم مثل هذه المسابقات بين الأطفال فعن عبدالله بن الحارث   قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصفُ عبدالله وعبيدالله وكثيرا من بني العباس، ثمَّ يقول: من سبق إليّ فله كذا وكذا، قال: فيتسابقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلزمُهُم)([43])

قلت: صدقت، وسلمت، فذروني أحيي هذه السنة معكم.

قال لي المعلم: ليس الآن، نظم هذا السباق مع إخوانك إذا رجعت إلى أهلك.. وادعهم إلى إحياء هذه السنة باسم السنة، لا باسم الإغريق ولا الرومان.

قلت: فما فعل الإغريق وما فعل الرومان؟

قال: هم يمارسون الرياضة ليعرضوا عضلاتهم وقواهم ويتحدوا بها، أما أنتم فمارسوها من مواقع عبوديتكم لله ونصرة المستضعفين.

الفروسية:

رأيت رجالا على خيل أصيلة يتسابقون، فتعجبت من رؤيتهم، فقال لي المعلم: هؤلاء يحيون سنة الفروسية، فهي من الرياضات الواردة في السنة، وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ينظمها بنفسه،  ففي الحديث  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سابق بالخيل التي قد أُضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع ـ والمسافة بينها من ستة إلى سبعة أميال ـ وسابق بين الخيل التي لم تُضمر من الثنية إلى مسجد بني زُريق ـ وكانت المسافة بينها ميلاً أو نحوه ـ)([44]

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجازي السابق تشجيعا له، ففي الحديث:(سبّق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الخيل، وأعطى السابق)([45])

قلت: ولكني لا أرى في هذا المضمار خيلا فقط، بل إني أرى إبلا.

قال: وهي من الفروسية التي وردت بها النصوص، ففي الحديث::(كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناقةٌ تسمى العضباء لاتُسبق، فجاء أعرابي على قُعود فسبقها فشق على المسلمين، فلما رأى ما في وجوههم، قالوا: يا رسول الله سُبقت العضباء. قال: إن حقاً على الله أن لا يرتفع من الدنيا شيءٌ إلا وضعه)([46]

قلت: أكان هذا النوع من الرياضة شائعا في الزمن الأول؟

قال: أجل.. فقد روى ابن ابي شيبة أن الصحابة  كانوا يسابقون على الخيل والركاب وعلى أقدامهم)([47]

قلت: ولكني لا أرى سباق الدراجات النارية ولا السيارات.

قال: لا خير في ذلك السباق.

قلت: كيف؟

قال: أراهم يتصارعون أكثر مما يتسابقون.. ولا خير في رياضة يصحبها الصراع.

المصارعة:

قلت: ولكن أليست المصارعة رياضة.

قال: أجل.. وانظر إلى أو لئك، فإنهم يحيونها.

نظرت، فرأيت قوما يتصارعون، ولكن من غير أن يؤذي بعضهم بعضا، فاقتربت من أحدهم، فسألته: أتعرف الملاكمة؟

قال: أعرفها، وأتقنها، ولكنا لا نمارس هذا النوع من المصارعة.

قلت: لم؟

قال: لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا ضرر ولا ضرار) والملاكمة ضرر محض([48])، فليس لها من هدف إلا الإيقاع بالخصم وتشويهه.. فهي صراع لا مصارعة.

قلت: فما تمارسون؟

قال: نحن نمارس المصارعة المسنونة التي تفيض بالرحمة، وتمتلئ بالسلام.

قلت: أتستنون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك؟

قال: أجل.. فقد مارس النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الرياضة، فقد صارع ركانة فصرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان ذلك الموقف سبباً في إسلام رُكانة صلى الله عليه وآله وسلم)([49])

وقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صارع أفراداً آخرين  غير رُكانة منهم: أبوالأسود الجمحي، وكان شديداً قوياً.

وفي هذه المصارعات، ومع المشركين، واستغلال ذلك للدعوة لله تعالى دليل على جواز قيام المباريات بين المسلمين وغيرهم، وأن الكمال هو  ظهور المسلم بمظهر القوة ليكون ذلك تشجيعا على الدخول للإسلام.

الرمي:

رأيت رجالا يمسكون سهاما وأقواسان ويرمون بدقة عجيبة، فسألت المعلم عنهم، فقال: هؤلاء هم الرماة.

قلت: أهم يستعدون لتقديم فيلم تاريخي؟

قال: لا.. وما علاقة الفيلم التاريخي بهذا؟

قلت: لأن هذا السلاح صار الآن لعبة، ولم يبق سلاحا، فما حاجة هؤلاء لتعلم الرمي به؟

قال: ألا تتعلمون الرمي إلا لتصارعوا به؟

قلت: فلماذا نتعلمه إذن؟

قال: هو  سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولها تأثيرها الكبير على الصحة، فهو رياضة للعضلات، والتركيز.

قلت: هو  سنة؟

قال: أجل.. ألم تسمع قوله تعالى يخبر عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم:{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (لأنفال:17)

وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحث عليها، بل وحذر من تعلمها ونسيها من الإثم، ففي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على قوم من أسلم يتناضلون([50])بالسوق، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، وأنا مع بني فلان) لأحد الفريقين، فأمسكوا بأيديهم، فقال: مالهم؟ قالوا: وكيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ قال: ارموا وأنا معكم كلكم)([51]

وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا)([52]

السباحة:

رأيت مسبحا نظيفا، ورأيت قوما يسبحون فيه بثياب ساترة محترمة، فسألت المعلم عنهم، فقال: هؤلاء يحيون سنة السباحة، فهي من الرياضات الواردة في السنة، فقد أمر بها صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبر عن دورها الترويحي بالإضافة إلى الدور الرياضي، فقال:(كل شيء ليس من ذكر فهو لغو، ولهو أوسهو، إلا من أربع خصال: مشي الرجل بين  الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعلم السباحة)([53]

بل روي أن الرسول ما رس هذا النوع من الرياضة، ففي الحديث، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( نزلت بي أمي وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار)([54]

حمل الأثقال:

رأيت جماعة يتبارون في حمل الأثقال، فعجبت لذلك، وقلت للمعلم: ما كنت أظن جواز هذا النوع من الرياضة؟

قال: لم؟

قلت: لأن همة من يمارسونها لا تعدوا أن يبرزوا عضلاتهم ويفخروا بها.

قلت: أولئك عاد وثمود، أما هؤلاء فمسلمون ومسالمون، ولذلك يصبغون هذه الرياضة بصبغة السلام، ألم تسمع بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى شبابا يرفعون حجرا ليروا الأشد منهم، فلم ينكر عليهم([55]).. وعدم الإنكار دليل على إقراره صلى الله عليه وآله وسلم لهذا النوع من الرياضة.

قلت: لم أسمع هذا، ولكني سمعت بأن ابن عباس  مَرَّ بقوم يرفعون حجرا، فقال: ما شأنهم؟ فقيل له: ينظرون أيهم أقوى، فقال ابن عباس :(عمال الله أقوى من هؤلاء) ([56])

قال: لا.. هذا ليس إنكارا على هذا النوع من الرياضة، بل هو  كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)([57]).. وهو دليل على أن الكمال في ممارسة كلا الرياضتين الروحية والجسدية، لا الاقتصار على الرياضة الجسدية وحدها.

قلت: ولكني مع هذا لا أرى في هذا النوع من الرياضة إلا نوعا من العبودية الخفية للعضلات.

قال: لا تقل هذا.. فإنك إن أمت هذه السنة أحييت بدعا كثيرة.

قلت: وما البدع التي تحييها؟

قال: أن تقعد عن إعانة المستضعفين أحوج ما يكونون إليك، ألم تقرأ كيف سقى موسى u للفتاتين.

قلت: ذلك في القرآن الكريم، فقد أخبر تعالى أن موسى u سقى لهما من غير أن يطلب أجرا.

الراحة

دخلنا القاعة الرابعة من قاعات حصن القوة، فقرأت لافتة كتب على بابها  قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (روحوا القلوب ساعة وساعة)([58]) فأحسست براحة عظيمة تسري في أوصالي، وتملؤني بالنشاط، فقلت للمعلم: لا شك أن هذه القاعة قاعة الراحة، فجوها يوحي بذلك.

قال: أجل.. فالراحة هي الركن الثالث من الأركان التي تنتظم بها قوى الجسم.. فهناك ارتباط كبير بين الراحة وبين القوة التي يتمتع بها الجسم، فالحزن والهم والضيق والتعب الشديد مرتع خصب لجميع الأدواء.

قلت: ولكن المسؤوليات الثقيلة التي ينوء بها ظهر المسلم لا تسمح له بممارسة هذا الركن.

قال: ومن قال هذا؟

قلت: ألم يذم الله تعالى الساكنين الخاضعين المتبعين للهو واللعب؟

قال: بلى.. ولكنه لم يذم موسى u عندما أو ى إلى الظل بعد أداء ما تطلبته مروءته من تكاليف.

قلت: أجل، فقد قال الله تعالى عنه:{ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص:24)

قال: فكذلك كل مؤمن، وبعد كل جهد، يحتاج إلى ظل يرتاح فيه ليتسجمع أنفاسه، ويحفظ قوته.

قلت: ألا يؤثر ذلك السكون، وتلك الراحة في رحلته إلى الله؟

قال: لا.. بل يستعين بها في رحلته إلى الله..

***

 رأيت أربعة أبواب داخل باحة هذه القاعة، فسألت المعلم عنها، فقال: هذه الأبواب تؤدي إلى أربعة أركان تقوم عليها الراحة، كل باب منها يخدم مصلحة من المصالح، ويدرأ مفسدة من المفاسد.

قلت: ما هي؟

قال: النوم، والسكينة، والجمال، واللهو.

قلت: أهي أركان محصورة؟

قال: تقريبا.. وبجميعها وردت النصوص.

النوم

دخلنا القاعة الأولى من قاعات الراحة، وقد كتب على بابها قوله تعالى:{ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} (النبأ:9)، وقد كان الظلام شديدا في أرجاء القاعة، فسألت المعلم عن سر هذا الظلام، فنبهتني يد لست أدري لمن هي تطلب مني خفض صوتي.

فخفضت صوتي قدر ما استطعت، وسألت المعلم، فأجابني بصوت لا أكاد أسمعه: هيا لنخرج.. فهذه قاعة النوم، وقد وفر لها من الجو الهادئ ما يملأ نوم أهلها بالراحة.

قلت: أيحتاج النوم إلى راحة؟

قال: أجل.. ولهذا خلق الله تعالى الليل، وجعله لباسا.

قلت: نعم، فقد قال تعالى:{ وَهُوالَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} (الفرقان:47)

قال: بل إن الله تعالى في تعداده نعمه على خلقه يجعل الليل من النعم العظمى، وهو دليل على ما للراحة من أثر كبير في حفظ قوى الإنسان، قال تعالى:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (القصص:71 ـ72)

قلت: لقد اعتبر الله تعالى النوم سباتا.. فماذا يسبت؟

قال: يسبت تعب اليقظة، ويملأ نفسك بالراحة التي تجعلك مولودا جديدا، بنشاط جديد.. فكأنه يقطع حياة لتبدأ حياة.

قلت: هذا صحيح، وقد أشار إليه قوله تعالى:{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(الزمر:42)، فقد أخبر تعالى أن النوم نوع من الوفاة.. وبالتالي تكون اليقظة نوعا من الولادة.

قال: ولهذا امتن الله تعالى على الصحابة  يوم بدر بأن رزقهم النعاس والنوم في وقت تنخلع فيه القلوب، واعتبر الله تعالى ذلك من أسباب ربط قلوبهم وتثبيتها وتقويتها، قال تعالى:{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} (لأنفال:11)

قلت: بل اعتبر الله تعالى النوم من آياته، فقال تعالى:{ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}(الروم:23)

قال: ولهذا، فإن النوم من العبادات التي وردت النصوص بوجوبها.

ضحكت، وقلت: عدت ـ يا معلم ـ  إلى الوجوب مرة أخرى، ألم أذكر لك ما قال الفقهاء والأصوليون؟

قال: لن أناقشك في هذا، ولكني أطلب منك أن تقرأ لي قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن عمرو عندما رآه مشتدا على نفسه.

قلت: لقد قال له:(ياعبد الله ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل) قال: بلى يا رسول الله قال:(فلا تفعل، صُم وأفطر وقُم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا)

قال: فقد جمع صلى الله عليه وآله وسلم بين أمور، فقال:(صُم وأفطر، وقُم ونم)

قلت: أجل.. بعضها عادات وبعضها عبادات.

قال: بل كلها عبادات.. وكلها لها من أحكام الدين ما ينظمها في سلك العبادات.

قلت: أتريد من الفقهاء في هذا الباب ـ أيضا ـ أن ينشئوا ما يمكن تسميته:(فقه النوم)؟

قال: أجل.. فالنوم صنو الغذاء، وحاجة الجسم إليه شديدة، ولا بد له من أحكام تنظمه، تجمع بين آداب الشرع، وخبرة الخبراء.

التدابير الوقائية

رأيت رجلا على باب قاعة النوم يخاطب جماعة من المستمعين، فسألت المعلم عنه، فقال: هذا مدرب يعلم المرضى والأصحاء كيفية النوم.. أو النوم الصحي الذي يحقق مقاصد الشريعة من تشريع النوم.

ضحكت، وقلت: مقاصد الطبيعة.. لا مقاصد الشريعة.

قال: من خلق الطبيعة هو  من شرع الشريعة.

اقتربنا منه، فسمعته يقول: أول ما ينبغي أن تتعلموه للنوم الصحي الهادئ هو  أن تتعلموا التدابير الوقائية التي تمنع الأخطار عنكم أثناء النوم.

قالوا: ما المقصد من ذلك؟

قال: النائم ـ كما تعلمون ـ يكون في غفلة كاملة عما يحيط به من أمور.. ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجملة من التدابير الوقائية لتحمي المؤمن من التعرض أثناء نومه لأي أخطار محتملة قد تؤدي به إلى التهلكة.

قالوا: فما هي هذه الأخطار؟

قال: أولها وأخطرها النار، فهي عدو خطير للإنسان، وقد ورد في الحديث: احترق بيت في المدينة على أهله من الليل، فحدث بشأنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(إن هذه النار عدولكم فإذ ا نمتم فأطفئوها عنكم)([59]

قالوا: هذا صحيح.. فكم قتلت النيران في عصرنا من قتلى.

قال: ومن هذه التدابير ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:(أطفئوا المصابيح إذا رقدتم، وغلقوا الأبواب، وأوكوا الأسقية([60])، وخمروا الطعام([61]) والشراب)([62]

ففي هذا الحديث ينبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى مجموعة من التدابير الوقائية، انطلاقا من الواقع الذي كان يعيشه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان الناس يستضيئون بفتيلة يغمسونها في الزيت أو الدهن، فإذا نام أهل البيت وتركوا المصابيح أو الفتيلة مشتعلة فقد تجرها فأرة فتحرق البيت، ويقاس على هذا في عصرنا كل ما يمكن اشتعاله من الأجهزة والأدوات.

ومنها تغطية أواني الأكل والشرب، لأنها إذا بقيت مكشوفة فقد تقع فيها الهوام والغبار والحشرات، وهذا كله ضار، ولهذا دعت السنة النبوية إلى تغطية آنية الطعام والشراب وشد فم القرب.

قالوا: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونعم ما نصحنا به.

قال: ومن التدابير الوقائية الأمر بإغلاق الأبواب ليلا على المنازل حماية لأهلها من شياطين الإنس والجن، ومن اللصوص وغيرهم، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا)([63]

ومنها نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن النوم في الأماكن غير المحمية، كما ورد في الحديث: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينام الرجل على سطح غير محجور([64]) عليه([65]).

ومنها أمره صلى الله عليه وآله وسلم بتفقد الفراش قبل النوم، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فانه لا يدري ما خلفه عليه)([66]

ومنها نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الجلوس بين الشمس والظل، ويقاس عليه النوم من باب أولى، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( إذا كان أحدكم في الشمس وبعضه في الظل فليقم)([67])، وفي حديث آخر: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجلس بين الضح([68]) والظل، وقال:(مجلس الشيطان)([69]

تدخل أحد الحاضرين، وقال: هذا صحيح، فأمر البدن لا يستقيم إلا إذا سار العضو على وتيرة واحدة في جميع أعضائه، ففي ضوء الشمس، عدا عن الأشعة المرئية هناك الأشعة الحمراء التي تسخن الأعضاء، والأشعة فوق البنفسجية التي تبيغ الجلد وتحمره.

فإذ ا حصل ذلك في جزء من البدن دون الجزء الآخر، ودونما حاجة إلى ذلك، تشوش الدوران واضطربت وظائف الأعضاء، وهذا ما يحصل عند الجلوس أو النوم بين الظل والشمس.

عبادة النوم

بينما هم كذلك إذ دخل عليهم رجل، وقال: لقد أعد الماء للطهارة قبل النوم، فهيا لوضوء النوم.

قلت للمعلم: ما بال هذا يدعوهم إلى الوضوء، أهم يريدون قيام الليل، أم يريدون نوم الليل؟

قال: ألم أقل لك: إن النوم عبادة؟

قلت: بلى..

الطهارة:

قال: وكونه كذلك يستدعي الطهارة، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بالوضوء قبل النوم، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم إني أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت، واجعلهن آخر كلامك، فان متّ متّ على الفطرة)([70])

 قلت: لكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يشبه نوم المؤمن بالصلاة، فالطهارة طهارة الصلاة، والذكر دعاء استفتاحها..

قال: وفي نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحديث بعد الدعاء دلالة على هذا، فلا يجوز الحديث في الصلاة.

الدعاء:

قلت: لقد ورد في النصوص أدعية كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يقول النائم، منها:(الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)([71])، ومنها: (سبحانك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وان أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)([72]

قال: هي كأدعية الاستفتاح الكثيرة تطهر ذهن المصلي، لئلا يشغله شيء عن صلاته.

قلت: وما فائدة أن لا يشتغل النائم عن منامه؟

قال: لئلا يصيبه الأرق.. أليس الأرق مرضا من الأمراض؟

قلت: بلى.. وهو من الأمراض الخطيرة.. فمن الناس من يبذل لشراء النوم المطمئن أعز ما يملك، ثم لا يجده.

قال: ولماذا لا يلتجئ إلى الله ليغنيه عن كل دواء؟

قلت: تقصد ما ورد في الحديث عن زيد أنه قال: أصابني أرق من الليل، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: قل:(اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حي قيوم، يا حي يا قيوم أهدئ ليلي، وأنم عيني)([73]) فقلتها فذهب عني..؟

قال: هذا جزء مما أقصده.

قال: فما الكل الذي تقصده؟

قال: هذه الأذكار التي أوردتها جميعا، بما فيها دعاء الأرق نفسه أفضل علاج للنوم الصحي الهادئ الذي يستفيد منه الجسم والنفس.

قلت: كيف؟

قال: هذه الأذكار كلها تربط المؤمن بالله، وتجعله منشغلا بالله، فينسى كل ألم يمنع نومه.

قلت: ومشاكل يومه الكثيرة، وتفكيره في مستقبله الغامض، وأعدائه المتربصين به.

قال: ولهذا أمر صلى الله عليه وآله وسلم أن نلجئ أمورنا جميعا إلى الله، ألم يقل في دعاء النوم:(اللهم إني أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك)؟

قلت: بلى.

قال: فمن أوكل أموره إلى الله هل يحزن؟.. ومن التجأ إلى الله هل يخاف؟.. ومن أوى إلى الله هل يبيت في العراء؟

قلت: لا.. وحاشا.. فالله أكرم وأجود.

قال: فمن أوى إلى الله كيف يضطرب نومه.. إن اضطراب النوم ناشئ من وساوس الغفلة والتدبير([74])، فلذلك لا يعالج إلا باللجوء إلى الله.

ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم لمن شكا له أنه لا ينام من الأرق:(إذا أو يت إلى فراشك فقل: اللهم رب السموات السبع وما أظلَّت، ورب الأرضين وما أقلَّت، وربَّ الشياطين وما أضلَّت، كن لي جاراً من شرِّ خلقك كلِّهم جميعاً أن يفرط عليّ أحد وأن يبغي عليّ، عزَّ جارك، وجلَّ ثناؤك، ولا إله غيرك، ولا إله إلا أنت)([75]

 قلت: ولكن من الناس من يداوم على هذه الأذكار، ومع ذلك لا يرى تأثيرها.

قال: هذا يشبه من أمره الطبيب بأن يشرب الدواء، فراح واغتسل به، فهل ينفع ذلك؟

قلت: لا..

قال: فكذلك هؤلاء أمروا أن يشربوا الحقائق التي تنطوي عليها هذه الأذكار، فراحوا يملأون بها أفواهم، ويتركون قلوبهم للشياطين تملؤها بالوساوس.

قلت: هذا صحيح.. وهذا يسري في كل شيء، فقد أضحى الدين لباسا نلبسه، لا معاني نعيشها.

الهيئة:

قال لي معلم السلام: لم تكتف الشريعة بربط النوم بالعبادة في هذه النواحي فقط.

قلت: أهناك نواح أخرى؟

قال: أجل.. أليس في الصلاة ركوع وسجود وقيام؟

قلت: بلى.

قال: أليس ذلك هو  هيئات الصلاة الشرعية؟

قلت: بلى.

قال: فللنوم هيئته الشرعية أيضا، وهي التي وردت السنة بها.. وها هو مدرب المنام يعلمهم هذه الهيئة.

التفت إليه، فسمعته يقول([76]): إن الاضطجاع على الفراش يمكن أن يكون على البطن، أو على الظهر أو على أحد الشقين الأيمن أو الأيسر، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا بالنوم على الشق الأيمن، أتدرون لماذا؟

قالوا: لماذا؟

قال:  حين ينام الشخص على بطنه يشعر بعد مدة بضيق في التنفس، لأن ثقل كتلة الظهر العظمية تمنع الصدر من التمدد والتقلص عند الشهيق والزفير، كما أن هذه الوضعية تؤدي إلى انثناء اضطراري في الفقرات الرقبية.

وقد لاحظ بحث استرالي ارتفاع نسبة موت الأطفال المفاجئ إلى ثلاثة أضعاف عندما ينامون على بطونهم نسبة إلى الأطفال الذين ينامون على أحد الجانبين.

قال بعض الحاضرين: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا مضطجعا على بطنه فقال:(إن هذه ضجعة يبغضها الله ورسوله)([77])

قال آخر: وقد مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجل نائم في المسجد منبطح على وجهه فضربه برجله وقال:(قم واقعد فإنها نومة جهنمية)([78])

قال المدرب: أما النوم على الظهر، فإنه يسبب التنفس الفموي، لأن الفم ينفتح عند الاستلقاء على الظهر لاسترخاء  الفك السفلي.. وهذا مخالف للصحة، فالأنف هو  المهيأ للتنفس لما فيه من أشعار ومخاط لتنقية الهواء الداخل، ولغزارة أوعيته الدموية الهيأة لتسخين الهواء.

أما التنفس من الفم، فإنه يعرض صاحبه لكثرة الإصابة بنزلات البرد والزكام في الشتاء،كما يسبب جفاف اللثة، ومن ثم إلى التهابها الجفافي، كما أنه يثير حالات كامنة من فرط التصنع أو الضخامة اللثوية.

زيادة على هذا، فان شراع الحنك واللهاة يعارضان فرجان الخيشوم ويعيقان مجرى التنفس فيكثر الغطيط والشخير.. كما يستيقظ المتنفس من فمه ولسانه مغطى بطبقة بيضاء غير اعتيادية إلى جانب رائحة فم كريهة.

وهذه الوضعية غير مناسبة للعمود الفقري، لأنه ليس مستقيما وإنما يحوي على انثنائين رقبي وقطني، كما تؤدي عند الأطفال الى تفلطح الرأس إذا اعتادها لفترة طويلة.

سأل سائل: فما مخاطر النوم على الشق الأيسر؟

قال: النوم على الشق الأيسر غير مقبول أيضا من الوجهة الصحية، لأن القلب حينئذ يقع تحت ضغط الرئة اليمنى، والتي هي أكبر من اليسرى مما يؤثر في وظيفته، ويقلل نشاطه وخاصة عند المسنين، كما تضغط المعدة الممتلئة عليه فتزيد الضغط على القلب والكبد- الذي هو  أثقل الأحشاء – لا يكون ثابتا بل معلقا بأربطة، وهوموجود على القلب، وعلى المعدة مما يؤخر إفراغها.   

وقد أثبتت التجارب التي أجراها غالتيه وبواسيه أن مرور الطعام من المعدة إلى الأمعاء يتم في فترة تتراوح بين2.5-4.5 ساعة إذا كان النائم على الجانب الأيمن، ولا يتم ذلك إلا في 5-8 ساعات إذ ا كان على الأيسر.

سأل سائل: فلماذا كان النوم على الشق الأيمن هو  الوضع الصحيح؟

قال: لأن الرئة اليسرى أصغر من اليمنى، فيكون القلب أخف حملا، وتكون الكبد مستقرة لا معلقة، والمعدة جاثمة فوقها بكل راحتها، وهذا أسهل لإفراغ  ما بداخلها من طعام بعد هضمه..

كما يعتبر النوم على الجانب الأيمن من أروع الإجراءات الطبية التي تسهل وظيفة القصبات الرئوية اليسرى في سرعة طرحها لإفرازتها المخاطية.

بل إن سبب حصول توسع القصبات للرئة اليسرى دون اليمنى هو لأن قصبات الرئة اليمنى تتدرج في الارتفاع إلى الأعلى حيث أنها مائلة قليلا مما يسهل طرحها لمفرزاتها بواسطة الأهداب القصبية، أما قصبات الرئة اليسرى فإنها عمودية مما يصعب معه طرح المفرزات إلى الأعلى، فتتراكم تلك المفرزات في الفص السفلى مؤدية توسع القصبات فيه، والذي من أعراضه كثرة طرح البلغم صباحا، وهذا المرض قد يترقى مؤديا إلى نتائج وخيمة كالإصابة بخراج الرئة والداء الكلوي، ومن أحدث علاجات هؤلاء المرضى هو  النوم على الشق الأيمن.

من هذا يتبين أن النوم على الجانب الأيمن هو  الصحيح من الناحية الطبية والذي تتمتع فيه كافة الأجهزة بعملها الأمثل أثناء النوم، فلذلك كان النوم على هذا الشق مرضاة لله بتطبيق سنة رسول الله، وحماية للجسد بمراعاة ما خلقه الله فيه من أعضاء.

صاح سائل: ولكنا لا نطيق أن نبقى ملتزمين بالنوم على الشق الأيمن، ألم يقلب الله أهل الكهف، وهم نائمون؟

قال: صدقت، ولذلك ورد في النصوص الترغيب في النوم على الشق الأيمن، ووورد النهي عن النوم على البطن، وسكتت النصوص عن النهي عن النوم على الشق الأيسر وعلى الظهر.

قال السائل: لم؟

قال: حتى تكون لنا فسحة في التقلب في النوم دون حرج أو مشقة.

قال السائل: ولكن لماذا رخص فيهما، ولم يرخص في النوم على البطن.

قال: لأنهما أقل خطرا من النوم على البطن.

النوم الحالم

ربت على كتفي شخص لست أدري هل أعرفه أو لا أعرفه، وقال: صدق معلمك في كل ما قاله.

قلت: من أنت، فكأني أعرفك، وكأني لا أعرفك.

قال: كل الناس يقولون عني هذا.

قلت: وما أدراك بكل الناس؟

قال: لأني أعرفهم جميعا، وأزورهم جميعا.

قلت: إذن أنت ابن عم لمعلم السلام.

قال: لا.. أنا النوم الحالم.

قلت: النوم الحالم !؟

قال: أجل.. ألم تسمع به؟

قلت: أعرف أن النوم نوعان:

أما النوع الأول، فهو ما يطلق عليه النوم الكلاسيكى أو النوم البطىء، وهو يتميز بانخفاض سرعة التنفس، وسرعة ضربات القلب، وانخفاض الدم وهبوط درجة حرارة الجسم، وانخفاض سرعة الاحتراق الداخلى بالجسم.

أما النوع الثانى، ويطلق عليه النوم النقيضى، أو النوم الحالم، وهذا النوع يتميز بحركات العين السريعة، وتحدث أثناءه الأحلام … ويصاحب هذا النوع من النوم نشاط فى كل الأجهزة، وتزداد حركة التنفس وسرعة القلب وضغط الدم وإفراز المعدة..

قاطعني، وقال: أنا هو  النوع الثاني.. فأنا النوم الحالم.

قلت: تشرفت بمعرفتك.. فحدثني عنك.. فما أحلاك في عيني.

قال: أنا نعمة من نعم الله أحمل بشائر الصحة والعافية.

قلت: كيف هذا؟

قال: أليست الرؤى من المبشرات؟

قلت: بلى، فقد ورد في الحديث أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال:(إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي)، فشق ذلك على الناس، فقال:(ولكن المبشرات) قالوا: يا رسول اللّه وما المبشرات؟ قال:(رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة)([79])

قال: ليس هذا فقط، فقد ذهب فريق من المفسرين إلى أن البشرى المرادة في قوله تعالى:{ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هو  الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(يونس:64)هي الرؤى الجميلة الصادقة التي تمتلئ لها نفوس الأولياء بالسعادة.

قلت: فأنت طبيب من أطباء النفس إذن.

قال: طبيب النفوس المؤمنة المستقرة.. أما غيرها فقد أكون وبالا عليها.

قلت: لقد ذكرتني بقول الخبراء من أن الحلم الذى يثير الفزع والقلق يجعل الجسم يفيض بالأدرينالين، ويجعل صاحبه يصحو من النوم على صوت ضربات قلبه.. وإذا حلم الإنسان بمنافسة فى مباراة رياضية، فإنه سيصحو من نومه ليجد نفسه لاهثاً.. بل من الكوابيس العادية ما يشعر الضحية أن الخوف قد شل حركته، بل يقال بأن لهذا الإحساس أساساً من الواقع المادي فى النوم الخفيف، لأن الإشارات العصبية إلى مجموعة معينة من العضلات توقف لفترات قد تبلغ كل منها نصف دقيقة أو نحواً من ذلك، ثم تندفع مرة واحدة.. وقد تكون ساقا صاحب الحلم مشلولتين حتى يصل الحلم إلى نقطة يستطيع فيها أن يهرب، أو يصحومن نومه.

قال: هذا صحيح، ولهذا يعتبرني الناس نعمة، كما يعتبرونني نقمة.

قلت: ألست كذلك، فأنت تفزعني ـ أحيانا ـ بكوابيسك !؟

قال: لا.. لست كذلك.. لأني لا أريك إلا الصور التي تطمئن إليها نفسك.. أنا صورة منك.. ولست شيئا خارجيا.

قلت: ما هذا؟ ما الذي تقوله؟

قال: أنا صدى لأهواء نفسك.. أجبني: هل رأيت نفسك في يوم من الأيام تلعب كرة قدم؟

قلت: لا.. لم أر في حياتي رؤيا كهذه.

قال: لأنك لا تهتم بها في حياتك، ولا تنشغل بها.

قلت: فهل هناك من يراها؟

قال: هناك من لا يرى غيرها.

قلت: لماذا؟

قال: لأن عقله انشغل بها انشغالا كليا، فراحت أحلامه تحقق له ما انشغل له عقله وقلبه.

قلت: فالأحلام تابعة للهمم إذن؟

قال: أجل.. فلذلك بشر قومك المشغوفين بالبحث في كتب الخرافة عما يجرهم إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يلتمسوه في قلوبهم ووجدانهم، فإن وجدوه فيها فسيعيشون معه يقظة ومناما.

قلت: ألهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي)([80]

قال: أجل.. فمن عاش مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رآه كما يرى كل حبيب محبوبه.. ألا تعلم أن الله تعالى يهدي هذه الرؤى للنفوس لينعم عليها بما حرمت منه في حال يقظتها؟

قلت: أعلم هذا.

قال: فهذه سنة من سنن الله، فاتخذ منها سببا لتنال في أحلامك ما عجزت عنه في يقظتك.

قلت: ولكن قومي يقولون:(الأحلام بضاعة الكسالى)

قال: دعك من قومك، فما وصل من صار ذيلا لقومه.

قلت: ولكني أرى في كلامهم بعض الصحة.

قال: هي حق أرادوا به باطلا.. فخذ من حقهم، ودعك من باطلهم.

قلت: فما حقهم؟

قال: أن تنشغل بالنوم عن اليقظة.

قلت: فما باطلهم؟

قال: أن تنشغل بالواقع عن الأحلام.

قلت: أليس هذا تناقضا؟

قال: لا.. فالنوم في الليل، واليقظة في النهار، فللنوم واقعه، ولليقظة واقعها، ولا ينبغي أن ننشغل بأحدهما عن الآخر.

قلت: لكأني بك تحدثني عن الأحلام، وكأنها شيء في أيدينا.. إنما هي فروض تفرض علينا.

قال: لا.. هي في أيديكم.. ألم أخبرك أنها تبع لهممكم؟

قلت: فأرشدني إلى فائدة صحية لهذا.

قال: عالجوا مرضاكم بالأحلام الطيبة.

قلت: العلاج بالحلم.. هذا شيء عجيب.

قال: لقد تعجبتم من كل شيء قبل أن تجربوه.

قلت: كيف هذا؟

قال: اشغلوا عقول المرضى وقلوبهم بما يملأ نومهم بالمبشرات.

قلت: فإن رأوها؟

قال: ستمسح عن نفوسهم ما علق بها من أو هام.

أراد أن ينصرف، فقلت: لم تحدثني عن الكوابيس.

قال: لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفاني الحديث عنها، ألم يدلكم على ما يرفعها أو يرفع آثارها؟

قلت: بلى، فقد ورد في النصوص ما يبين كيفية التعامل معها.

قال: فما ورد من ذلك؟

قلت: من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه)([81])، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فليتحول وليتفل عن يساره ثلاثا، وليسأل الله من خيرها، وليتعوذ بالله من شرها)([82])، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فليتفل عن يساره ثلاث مرات ثم ليقل: اللهم! إني أعوذ بك من الشيطان وسيئات الأحلام فإنها لا تكون شيئا)([83]

وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحديث عن هذه الرؤى المخيفة، فقال:(إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره)([84]).

قال: لقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أنواع من العلاج في هذا الحديث، كل علاج يقاوم علة، ويرفع ألما.

قلت: فما الأول؟

قال: العلاج النفسي.. فقد أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يميت الحلم المفزع في مهده، فلذلك أمر بالاستعاذة بالله منه، وجعل ما أمر به من نفث وسيلة لتطمين القلب، ورفع ما أصابه من ضيق.

قلت: فالثاني؟

قال: العلاج الجسدي.. فالنوم المفزع والكوابيس من أسبابها الكبرى وضعية النائم، فلذلك أرشده صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبديل وضعيته حتى يستريح جسمه، وتلطف أحلامه، ألم تسمع عن تقليب الله تعالى لأهل الكهف أثناء نومهم؟

قلت: بلى، فقد قال تعالى:{ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } (الكهف:18)

قال: أتدري ما قال الأطباء في أسرار ذلك؟

قلت: أجل([85])، فمن الإصابات الشائعة والصعبة العلاج التي تعترض الأطباء الممارسين في المشافي ما يسمى بقرحة السرير عند المرضى الذين تضطرهم حالتهم للبقاء الطويل في السرير، كما في كسور الحوض والعمود الفقري أو الشلل أو حالات السبات الطويل.

وقرحة السرير عبارة عن قرحات وتموت في الجلد والأنسجة التي تحته بسبب نقص التروية الدموية عن بعض مناطق الجلد، نتيجة انضغاطها بين الأجزاء الصلبة من البدن ومكان الاضطجاع، وأكثر ما تحصل في المنطقة العجزية والإليتين وعند لوحي الكتفين وكعبي القدمين، ولا وقاية من هذه القرحة سوى بعدم ترك المريض دون تقليب أكثر من 12 ساعة.

قال: فما ذكروه يصب فيما ذكرنا، فالنفس صدى للجسد، كما أن الجسد صدى من أصداء النفس.

مواقيت النوم

انصرف النوم الحالم عني، ومسحت عيني، لست أدري هل كانت غفوة غفوتها، أم حقيقة رأيتها، التفت، فرأيت على باب النوم مجموعة ساعات معلقة، تشبه كثيرا ما يعلق في المساجد من ساعات تبين مواقيت الصلاة، فسألت المعلم عنها، فقال: هذه مواقيت النوم، أليس النوم عبادة كسائر العبادات؟

قلت: بلى.. ولكني كنت أتصور أن لنا مطلق الحرية في أن ننام متى نشاء.

قال: لا.. كما أن للنوم هيئته الصحيحة التي تتناسب مع وضعيات أعضائه، فله مواقيته التي تتناسب مع ساعة الجسم والكون من حوله.

قلت: أهناك مواقيت نافعة، ومواقيت ضارة؟

قال: كما أن هناك هيئات نافعة، وهيئات ضارة.

قلت: فما مواقيته النافعة، وما مواقيته الضارة.

قال: لنقترب من ذلك الرجل، فهو المكلف بتحديد المواقيت.

قلت: ولم خص بذلك؟.. إن أي إنسان يمكنه أن يحمل ساعة لتدله على أي وقت يشاء: وقت مكة أم وقت القدس أم وقت..

قال: لا.. هذا الرجل لا يعرف هذه الساعات جميعا.

قلت: فمن أين له أن يعرف الوقت؟

قال: لهذا الرجل ساعة داخلية يعتمد عليها، ويستن الناس به في ذلك.

قلت: وكيف فضل هذا من دون الخلق بهذه الساعة؟

قال: لا.. لم يفضل.. كلكم له مثل هذه الساعة([86])، ولكنكم بسلوككم المنحرف مع مواقيت أجسامكم ومواقيت الكون أفسدتم ما وهبكم الله من ساعات.

قلت: وهذا الرجل؟

قال: بقي على الفطرة، فبقيت ساعته سليمة، فلذلك صار مستشار المواقيت في حصون العافية.

تعجيل النوم:

اقتربنا منه، فسمعته يقول: الأصل في النوم هو نوم الليل، وهو كالصلاة يستحب التعجيل بها، ولهذا كان من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينام بعد العشاء، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها([87]).

بل كان يشتد في ذلك، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا سمر إلا لمصل أو مسافر)([88])، ويقول:(إياك والسمر بعد هدأة الرجل، فإنكم ما تدرون ما يأتي الله في خلقه)([89])، ويقول:(من قرض بيت شعر بعد العشاء لم يقبل الله له صلاة تلك الليلة حتى يصبح)([90]

سأل بعضهم: ولكن بعض شراح هذه الأحاديث قال..

قاطعه مغضبا، وقال: دعني مما قالوا، أو مما أولوا.. هذا هو  الأصل.. فلا ينبغي أن نستدرك على رسول الله.. ومن كانت له ضرورة، فلتبق في وضع الضرورة([91]).

قلت: ما الأسرار الصحية التي ينطوي عليها هذا الهدي؟

قال: تلك الساعة يدق فيها جرس الجسم والكون يطلبون النوم، فمن نام في تلك الساعة استفاد ما لم يستفد في غيرها.

قلت: كيف هذا؟

قال: الساعة البيولوجية التي خلقها الله فينا تجعلنا ننام في تلك الساعة ليقوم الجسم بوظائف أخرى لا يكمل أداؤها ونحن مستيقظون.

وقد أكد الأطباء أن أهنأ نوم هو  ما كان في أو ائل الليل، وأن ساعة نوم قبل منتصف الليل تعدل ساعات من النوم المتأخر، ويقول الدكتور شابيروفي كتاب Body Clock:(إن الذهاب إلى النوم في وقت محدد كل مساء والاستيقاظ في وقت معين كل صباح لا يحسن نشاط المرء في النهار فحسب، بل يهيئ الشخص لنوم جيد في الليلة التالية)

ويقول البروفسور أو زولد:(إذا كنت تريد أن تنام بسرعة حين تخلد إلى النوم فانهض باكرا في الصباح. وافعل ذلك بانتظام، فبذلك تحصل على أفضل أنواع النوم. وتكون أكثر سعادة وأعظم نشاطا طوال النهار)([92]

قلت: ولكن..

قال: عدنا للكن.. أخبرني عن قومك كيف ينامون؟

قلت: يسهرون كثيرا.

قال: فيم؟

قلت: أفلام ومسلسلات ومباريات وأحاديث ومأكولات..

قال: هذه ليالي الشياطين، لا ليالي المؤمنين.

قلت: كيف تقول هذا.. هؤلاء مؤمنون.

قال: إن هذا النوع من النوم تترتب عليه الكثير من المضار الصحية والنفسية والعصبية والاقتصادية وغيرها.

قلت: أكل هذ بسبب تأخير النوم؟

قال: أجل.. فالذي يعرّض فطرة النوم للخلل يتسبب حتماً بتعريض غيرها للخلل، ومن غير أن يشعر ابتداء، ولكنه سيكتشف ذلك انتهاء، وبعد فوات الأوان، لأن هذه العادة تصبح نوعاً من أنواع الإدمان الذي يصعب الإقلاع عنه!!

ولهذا فإن كثيراً من هؤلاء قد يلجؤون في النهاية إلى استعمال العقاقير المنومة والمهدئة بعد أن تكون الأعصاب قد أصبحت في حالة شديدة من التوتر بسبب الافتقار إلى النوم الفطري المريح.

ومما لا شك فيه أن التوتر العصبي أو التشنج ينعكس سلباً على عمل القلب والجهاز الهضمي والتنفس، ويسبب أمراضاً خطيرة.. ففي الولايات المتحدة يعاني نصف الأمريكيين من الأرق واضطرابات النوم، وقد ازدادت هذه النسبة عما كانت عليه، ويشرح الدكتور آلن باك المدير الطبي للمؤسسة الوطنية لأمراض النوم ـ الذي أشرف على استطلاع خلص إلى النتيجة المذكورة ـ سبب هذا المرض قائلاً:(إن طبيعة الحياة المعقدة في المجتمع الحديث قد أفقدت الكثيرين قدرتهم على التمتع بالنوم.. بسبب زحمة العمل وتوتر الأعصاب)([93]

قلت: لكن.. !؟

التبكير بالاستيقاظ:

قال: دعني من لكن.. وأجبني: المؤمن يعرف بالتبكير بالاستيقاظ، فهل يبكر هؤلاء في الاستيقاظ؟

قلت: لا..

قال: لأن سهرهم يحول بينهم وبين ذلك.. فهم يقلبون موازين الكون من حيث لا يشعرون.. ينامون وقت اليقظة، ويستيقظون وقت النوم.

 التفت لأحد الحاضرين، وقال: حدثه عما ورد في النصوص من الأمر بالتبكير والتحذير من التأخير.

اقترب مني أحد المستمعين، يظهر عليه وقار المحدثين، وقال: لقد ورد في النصوص الكثيرة الحض على التبكير، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(اللهم بارك لأمتي في بكررها)([94])، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث سرية بعثها أو ل النهار.

قلت: التبكير شيء اعتباري، فمنا من يستيقظ وقت الضحى، ثم يزعم أنه بكر.

قال: ذلك تبكير المفاليس، أما تبكير المؤمنين، فيبدأ من الفجر، ألم تقرأ ما ورد في النصوص من الترغيب في صلاة الفجر في وقتها، والتحذير من تأخيرها عن وقتها؟

قلت: بلى، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( من صلّى الصبح في جماعة فكأنما صلّى الليل كله)([95])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من صلّى الفجر فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته) ومعنى في ذمة الله: أي في حفظه وكلاءته سبحانه وتعالى.

بل اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح أفضل الصلوات، فقال:(من صلّى البردين دخل الجنة)([96])، والبردان الفجر والعصر. 

قال: بل ورد ما هو  أخطر من ذلك، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولويعلمون ما فيهما لأتوهما ولوحبواً)([97])

قلت: لكن..

قال: اسكت أنت، فهؤلاء أربعة خبراء([98]) ينبئونك أسرار التبكير.. { وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر:14)

قال الأول: لقد أثبت العلم الفوائد الصحية التي يجنيها الإنسان بيقظة الفجر، وهي كثيرة نذكر منها: أن أعلى نسبة لغاز الأوزون تكون في الجو عند الفجر، وتقل تدريجياً حتى تضمحل عند طلوع الشمس، ولهذا الغاز تأثير مفيد للجهاز العصبي، ومنشط للعمل الفكري والعضلي، بحيث يجعل ذروة نشاط الإنسان الفكرية والعضلية تكون في الصباح الباكر، ويستشعر الإنسان عندما يستنشق نسيم الفجر الجميل المسمى بريح الصبا لذة ونشوة لا شبيه لها في أي ساعة من ساعات النهار أو الليل.

قال الثاني: إن أشعة الشمس عند شروقها قريبة إلى اللون الأحمر، ومعروف تأثير هذا اللون المثير للأعصاب، والباعث على اليقظة والحركة، كما أن نسبة الأشعة فوق البنفسجية تكون أكبر ما يمكن عند الشروق، وهي الأشعة التي تحرض الجلد على صنع فيتامين د.

قال الثالث: الاستيقاظ الباكر يقطع النوم الطويل، وقد تبين أن الإنسان الذي ينام ساعات طويلة وعلى وتيرة واحدة يتعرض للإصابة بأمراض القلب وخاصة مرض العصيدة الشرياني  الذي يأهب لهجمات خناق الصدر لأن النوم ما هو  إلا سكون مطلق، فإذا دام طويلاً أدى ذلك لترسب المواد الدهنية على جدران الأوعية الشريانية الإكليلية القلبية.

قلت: فالمؤمنون الذين:{ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً }(الفرقان:64) بمنأى عن هذه الأمراض إذن؟

قال: نعم، فهم بذلك قد تجنبوا سببا مهما من أسباب هذه العلل.

قال الرابع: من الثابت علمياً أن أعلى نسبة للكورتزون في الدم هي وقت الصباح حيث تبلغ (7 ـ 22) مكروغرام / 100 مل  بلاسما، ومن المعروف أن الكورتزون هو  المادة السحرية التي تزيد فعاليات الجسم بالطاقة اللازمة له.

قلت: هذه الفوائد الصحية.. فما الفوائد الاجتماعية؟

قال: إذا ما أضيف إلى هذه الفوائد ما ذكره الخبراء في فوائد الصلاة والوضوء، تجد المؤمن يستقبل يومه الجديد بجد ونشاط، ويباشر أعماله اليومية في الساعات الأولى من النهار، حيث تكون إمكاناته الذهنية والنفسية والعضلية على أعلى مستوى، مما يؤدي لمضاعفة الإنتاج، كل ذلك في عالم ملؤه الصفاء والسرور والانشراح، ولوتصورنا أن ذلك الإلزام أخذ طابعاً جماعياً فسيغدو المجتمع المسلم مجتمعاً مميزاً فريداً وأهم ما يميزه هو أن الحياة تدب فيه منذ الفجر.

القيلولة:

قلت: ولكن.. ألا ترى الإرهاق الذي يصيب الإنسان طيلة اليوم إذا ما استيقظ باكرا؟.. إنه لا يأتي المساء حتى يجد نفسه في غاية التعب.

قال: فقيلوا.. ولا تتشبهوا بالشياطين.. ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم:(قيلوا، فإن الشياطين لا تقيل)([99]

قلت: بلى.. ولكن من قومي من يضحك على هذا، ويعتبره من الكسل.

قال: ينامون إلى الضحى، ثم يتحدثون عن الكسل.. ألا يستحيون؟

قلت: هم يتكلمون عن كسل الإنتاج، لا عن كسل الأعضاء.. تصور لو أن الدنيا توقفت عند منتصف النهار.. إن ذلك سيضر لا محالة بالإنتاج.

قال: نشاط الأعضاء هو  نشاط الإنتاج، وكسل الأعضاء هو  كسل الإنتاج.

قلت: لكن..

قال: اسكت أنت، ودع الخبراء يتكلمون.

تقدم أحدهم، وقال بصوت هادئ: ربما يتصور البعض أن هذا من الكسل، وليس من الراحة، وهذا سوء فهم، فالعمل الذي لا يكون منطلقا من قوة وطاقة يكون ضعيف المردود، منحدر الفاعلية.

وقد أكد العلم الحديث دور القيلولة في زيادة إنتاج الفرد، وتحسين قدرته على متابعة نشاطه اليومي، فقد ذكر الباحثون في دراسة نشرت في مجلة (العلوم النفسية)  عام 2002 أن القيلولة لمدة 10 – 40 دقيقة (وليس أكثر) تكسب الجسم راحة كافية، وتخفف من مستوى هرمونات التوتر المرتفعة في الدم نتيجة النشاط البدني والذهني الذي بذله الإنسان في بداية اليوم.

ويرى العلماء أن النوم لفترة قصيرة في النهار يريح ذهن الإنسان وعضلاته، ويعيد شحن قدراته على التفكير والتركيز، ويزيد إنتاجيته وحماسه للعمل.

وأكد الباحثون أن القيلولة في النهار لمدة لا تتجاوز 40 دقيقة لا تؤثر على فترة النوم في الليل، أما إذا امتدت لأكثر من ذلك، فقد تسبب الأرق وصعوبة النوم.

وتقول الدراسة التي تمت تحت إشراف الباحث الأسباني د. إيسكالانتي: (إن القيلولة تعزز الذاكرة والتركيز، وتفسح المجال أمام دورات جديدة من النشاط الدماغي في نمط أكثر ارتياحا)

كما شدد الباحثون على عدم الإطالة في القيلولة، لأن الراحة المفرطة قد تؤثر على نمط النوم العادي، وأشار ( د. إيسكالانتي) إلى أن الدول الغربية بدأت تدرج القيلولة في أنظمتها اليومية، وأوصى بقيلولة تتراوح بين 10 – 40 دقيقة([100]).

قلت: فمتى تكون القيلولة، فإن بعض قومي يقيلون بعد العصر، وبعضهم يقيل عند الضحى.

قال: أفرطوا وفرطوا، والكمال في الوسط.

قلت: عند الهاجرة.

قال: نعم، فذلك وقت يجتمع فيه الجسم والجو على طلب النوم.

قلت: ونومة العصر؟

قال: هي خطر على الصحة، وضرر على الإنتاج، وقد ورد في بعض الآثار: (مَن نام بعد العصر، فاختُلِسَ عَقلُه، فلا يلومنَّ إلا نفسه)([101])، وقد قال الشاعر:

أَلاَ إنَّ نَوْمَاتِ الضُّحَى تُورِثُ الْفَتَى   خَبَالاً وَنَوْمَاتُ الْعُصَيْـرِ جُنُونُ

وقد قال الحكماء في نوم النهار: نوم النهار ثلاثة: خُلقٌ، وحُرق، وحُمق. فالخُلق: نومة الهاجرة، وهى خُلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحُرق: نومة الضحى، تُشغل عن أمر الدنيا والآخرة، والحُمق: نومة العصر.

تعديل الساعة البيولوجية:

قال بعض الحاضرين: لقد قرأت في بعض المجلات([102]) بأن مجموعة من العلماء فى جامعة يوتاه اكتشفوا الجين المسؤول عن اضطراب النوم، وقد اعتبروا اكتشاف هذا الجين بمثابة ثورة؛ إذ سيساعد في الكشف عن وسيلة لعلاج الذين يعانون من اضطرابات النوم المزمنة.

قال: هذا جميل.. ولكنهم يسيئون التعامل مع ما اكتشفوه.

قال السائل: كيف ذلك؟

قال: لأنهم لن يفكروا إلا في وضع دواء ليعدلوا به ما تصوروه من خلل([103]).

قال السائل: أليس في الدواء منفعة، أليس ذلك في خدمة المريض؟

قال: أمثال هذه الأدوية تخدم شركات الأدوية أكثر من خدمتها للمرضى.

قلت: فكيف يعالجون؟

قال: بالتدريب وتنظيم الحياة وتغيير السلوك، ألم يقل الله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }(الرعد:11)؟

السكينة

دخلنا القاعة الثانية من قاعات الراحة، وقد كتب على بابها قوله تعالى:{ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } (لقمان:19)

وقد كانت قاعة مملوءة هدوءا وسكينة حتى لوأن ذبابة طنت لسمعنا طنينها، قلت للمعلم: الله.. ما أهدأ هذا المكان، إن العقل ليستجمع قواه فيه، والجسم يمتلئ سكينة وراحة.

قال: هذه قاعة السكينة والهدوء، فهما من حقوق الإنسان.

قلت: من حقوق الإنسان؟

قال: أجل.. فقد لا تقتل الإنسان بسيفك، ولكنك تقتله بضجيجك.

قلت: كيف هذا؟ فلم أعلم بأن الضجيج يقتل.

قال: هو  يقتل النفس والجسد.. وقد أدركت إدارة هذا المستشفى خطر الضجيج على الصحة الجسدية والعقلية والنفسية، فأنشأت هذه القاعة الهادئة لتبحث فيها سبل نشر الهدوء والسكينة داخل النفس وخارجها.

قلت: وقد جعلت شعارها تلك الآية المكتوبة على باب هذه القاعة؟

قال: أجل.. فالله تعالى يدعو في الآية إلى أمرين كلاهما يملآن الحياة سكينة وهدوءا، أما الأول فهو القصد في المشي، وأما الثاني، فالغض من الصوت.

قلت: أدركت علاقة خفض الصوت في الحد من الضجيج، ولكني لم أدرك علاقة القصد في المشي بذلك.

قال: لقد قرن القرآن الكريم بين المشي والصوت في موضع آخر من القرآن الكريم، فقال تعالى في وصف عباد الرحمن:{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هو ناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان:63)

قلت: فما سر هذا الاقتران؟

قال: لأن الضجيج له مصدران: الأصوات والحركات، فالأصوات يمثلها الكلام، والحركات يمثلها المشي.

قلت: صدقت ـ يا معلم ـ  فهناك من يمشي، فتندك الأرض من تحت قدميه، وهناك من يمشي خفيفا لينا لا تشعر به الأرض، ولا يتأذى به من حوله.

قال: ولهذا وصف الله تعالى مشية الصالحين بالهون([104])والقصد([105])، وقد سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلبة خارج المسجد فقال:(ما شأنكم؟)، قالوا:(استعجلنا إلى الصلاة)، فقال:(لا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما سبقكم فأتموا)([106]

قلت: وما يقاس على المشي في عصرنا؟

قال: أنتم أعلم بعصركم، فهو عصر الضجيج.

قلت: هي سياراتنا ومصانعنا وأسواقنا، ولا بد لنا منها جميعا.

قال: ولكنكم تقتلون أنفسكم بذلك الضجيج الذي تملأون به أجواءكم.

قلت: فماذا نفعل؟

قال: افصلوا مساكنكم التي تستريحون فيها عن ضجيجكم.. أو ضعوا من القوانين ما يحميكم منه.

قلت: أو نخترع من الاختراعات ما يمتص الضجيج، فيوأد في مهده.

قال: فاخترعوا، ولكن لا تبدلوا خلق الله، فـ { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } (الروم:30)

قلت: لقد ذكر تعالى ـ بالنسبة للصوت ـ أمرين: أما الأول، فهو تسليم عباد الرحمن على الجاهلين وإعراضهم عنهم، وأما الثاني، فهو الأمر بغض الصوت.

قال: وهذان هما مصدرا الضجيج في الأصوات، فالأول يسد ذرائع الصخب والخصام، لأن أساس الضجيج هو  الخصام.

وأما الثاني، فتشير إليه كل النصوص التي تنهى عن رفع الصوت فوق ما يحتاج إليه.

قلت: نعم، فقد قال تعالى يذكر فضل غض الصوت:{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أو لَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}(الحجرات:3)

ويعيب على غيرهم من الغلاظ، فيقول:{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (الحجرات:4)

قال: ولهذا نهى الشرع عن كل ما يسبب الضجة والصخب ورفع الصوت في كل أنواع العبادات في مجتمع الإسلام([107]).. وعندما أراد رسول  الله صلى الله عليه وآله وسلم اختيار طريقة لتبليغ الناس دخول وقت الصلاة استشار أصحابه في ذلك، ورفض اقتراحات بعضهم باستعمال الناقوس أو الطبول أو الأجراس، واختار الأذان بصوت الإنسان، لأنه أدعى إلى الهدوء والسكينة والبعد عن الصخب، وطلب تلقينه بلالاً لأدائه لأنه أندى صوتاً!

وعند أداء المسلم لصلاته أمره الشارع ألا يرفع صوته بأكثر من المطلوب وفي حد متوسط مقبول، كما قال تعالى:{ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}(الاسراء:110)

قاطعنا أحدهم، وقال بهدوء، وكأنه يسر إلينا سرا: وهذا يسري في كل شيء، فقد ورد النهي عن رفع الصوت أكثر من حاجة المستمعين، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(يا أيها الناس: أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم)([108]

وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن رفع الصوت أثناء تلاوة القرآن في المساجد، لئلا يؤثر بعضهم على قراءة البعض الآخر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنه يناجي ربه فليعلم أحدكم ما يناجي ربه، ولا يجهر بعضكم على بعض في الصلاة)([109])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا كان أحدكم في صلاته فإنه يناجي ربه فلينظر أحدكم ما يقول في صلاته ولا ترفعوا أصواتكم فتؤذوا المؤمنين)([110]

قلت: ما الأسرار الصحية التي ينطوي عليها كل هذا الاهتمام الشرعي بالهدوء.

قال: هو  ذا الخبير أمامك يحدثك عن أسرار ذلك.

قال الخبير: لنعرف ذلك لا بد أولا من معرفة علاقة الصوت بالأذن، فالصوت ينشأ عن حركة اهتزازية على درجات مختلفة، والأذن تسمع الأصوات التي يكون مقدار اهتزازاتها ما بين 16 ـ 20 ألف هزة /ثا، وما زاد عن ذلك لا يسمع، لأنه يحدث اضطراباً في الأذن وشعوراً مزعجاً غامضاً.

ويعرف العالم زيلر الضوضاء بأنها الأصوات التي تحدث اضطراباً، والأصوات العالية تحدث اضطراباً أكثر من المنخفضة، والأصوات الحادة أكثر خطورة من الغليظة، والأصوات غير المنسقة أكثر من الأصوات جيدة التلحين.

ولا شك بأن الضوضاء هي إحدى أسباب التوتر النفسي والقلق في المجتمعات خاصة بعد انتشار الراديووالتلفيزيون ومكبرات الصوت ووسائط النقل وغيرها من وسائل الضجة.

قلت: فأضرار الضجيج قاصرة إذن على الأضرار النفسية؟

قال: لا.. لم يعد الضجيج مشكلة نفسية فقط، بل أصبح مشكلة جسمانية، فهويؤثر على أعضاء السمع وأعضاء الجسم مجتمعة.

فمن أضراره التي لها علاقة بالسمع ضعف سمع عصبي مؤقت تختلف درجته حسب نوع الضجيج وشدته ومدته، والتعرض له يرافقه طنين في الأذن.

ومنها سمع عصبي دائم يحدث نتيجة التعرض المديد للأصوات العالية، وقد يحدث انثقاب غشاء الطبل وتحطيم عظيمات السمع نتيجة التعرض للانفجارات  المفاجئة. 

ومنها أضرار لا علاقة لها بالسمع، كالانزعاج المفرط من الضجيج والقلق والإرهاق والاضطرابات النفسية والسلوكية كالعصبية المفرطة وعدم الاستقرار والإحباط والاكتئاب وغيرها.. وقد يصاب ببعض الاضطرابات القلبية الوعائية كخناق الصدر وارتفاع الضغط.

وقد ذكر بعضهم أن سبب الصمم يرجع إلى تأثير الأصوات العالية على عضوكورتي الموجود في الأذن الباطنية، وأن التعرض المديد لبضع ساعات كل يوم يؤدي إلى استحالة في بعض أعضاء الأذن الباطنية، وتؤثر الضوضاء على مختلف مراكز المخ ووظائفه، وبالتالي يمتد تأثيرها إلى العضوية كلها.

وذكر بعضهم أن الأبحاث الغريزية أثبتت أن التعرض المديد للضجيج يسبب ازدياداً في عملية الاستقلاب والهدم وارتفاعاً في الضغط وازدياداً في التوتر العضلي، ولها تأثيراً سيئ على رجولة الرجل وأنوثة المرأة، ومجموع هذه الاضطرابات يدل على أضرار تلحق الجهاز العصبي اللاإرادي بشكل حاد نتيجة الضجيج.

الجمال

دخلنا القاعة الثالثة من قاعات الراحة، وقد كتب على بابها قوله تعالى:{ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}(النحل:6)

وهي قاعة قد جمعت جميع أركان الجمال، الجمال الطبيعي الذي لا تكلف فيه ولا صناعة.. وهو جمال يغذي كل جوارح الإنسان، فروائحها طيبة، وألوانها متناسقة تسر العين، وتفرح الفؤاد، وقد تناغم ذلك مع أصوات تبتهج لها الآذان، وتنتشي لها الصدور.

قلت للمعلم: الله.. هذه القاعة لا يجلس فيها مكلوم إلا برئ، ولا حزين إلا فرح، ولا يائس إلا طلق آلام يأسه.

قال: أجل.. فهذه قاعة الجمال، وهي قاعة تحصن الأصحاء، وتداوي المرضى.

قلت: أهي فرع من فروع الراحة؟

قال: بل هي أساس من أسس الراحة والصحة.

قلت: كيف هذا.. فما عملت أن المرضى يداوون بالجمال.

قال: إن جرعة جمال واحدة يذوقها المريض خير له من آلاف السموم التي تسقونها له.

قلت: ما تقصد يا معلم.. هل تريد أن نتخلى عن أدويتنا لنملأ نفوس المرضى جمالا؟

قال: ونفوس الأصحاء حتى لا يمرضوا.

قلت: هذا يصح فيما سبق ذكره من أمور، فالتغذية والرياضة والسكينة يمكن اعتبارها حصونا للصحة، أو مشافي لها، ولكن الجمال.. لا أذكر أن هناك من بحث فيه من هذه الناحية، أو اعتبره مرهما من المراهم.

***

 قال لي رجل في القاعة تظهر عليه علامات الأسف والحزن: أنا حزين ويائس.

قلت: ما بك.. أأنت في قاعة الجمال وتحزن، أليست لك عينان؟

قال: بلى.. وأنا طبيب نفسي.

قلت: عهدي بأطباء النفس يعالجون الحزانى.

قال: ولكنهم يخطئون في علاجهم.

قلت: كيف هذا؟

قال: لأنهم لا ينظرون إلى الإنسان، فلذلك يتوجهون بالعلاج إلى غيره.

قلت: وما غيره؟

قال: ثيابه ونعاله ومراكبه.

ضحكت، وقلت: هذه أو ل مرة أسمع فيها أن أطباء النفس يعالجون الثياب.. الثياب تخاط ـ يا رجل ـ ولا تعالج، وهي تخاط عند الخياطين، لا عند أطباء النفس.. أطباء النفس أخطر شأنا.

قال: قد كنت أقول هذا.. ولكني بعد أن خالطتهم عرفت مدى القصور الذي يقعون فيه.

قلت: فما عرفت؟

قال([111]): إن علماء النفس المحدثين، في محاولتهم لفهم شخصية الإنسان والعوامل المحددة لها، قد عنوا بدراسة أثر كل من العوامل البيولوجية والاجتماعية والثقافية في الشخصية.. وفي دراستهم لتأثير العوامل البيولوجية على الشخصية اهتموا بدراسة أثر كل من الوراثة والتكوين البدني، وطبيعة تكوين الجهاز العصبي، والجهاز الغدي وما يفرزه من هرمونات متعددة.. وفي دراستهم لتأثير العوامل الاجتماعية والثقافية على الشخصية، اهتموا بدراسة تأثير خبرات الطفولة وخاصة فى الأسرة وطريقة معاملة الوالدين، كما اهتموا بدراسة تأثير الطبقات الاجتماعية، والثقافات الفرعية المدرسة، المؤسسات الاجتماعية المختلفة، وجماعات الرفاق والأصدقاء.

قلت: ما شاء الله.. فكيف قصروا، وقد بحثوا في كل هذا؟

قال: لقد أغفلوا أهم شيء في دراستهم للشخصية.. لقد أهملوا..

ثم أجهش باكيا، قلت: كف عنك هذا ـ يا رجل ـ فلا تحزن، قل لي: ما الذي أهملوا؟

قال بصوت متقطع: لقد أهملوا تأثير الجانب الروحي من الإنسان في شخصيته وسلوكه، مما أدى إلى قصور واضح في فهمهم للإنسان وفي معرفتهم للعوامل المحددة للشخصية السوية  وغير السوية، كما أدى إلى عدم اهتدائهم  إلى مفهوم واضح دقيق للصحة النفسية، وأدى ذلك بالتالي إلى عدم اهتدائهم إلى الطريقة المثلى في العلاج النفسي لاضطرابات الشخصية.. وقد أدى ذلك كله إلى خداع الناس.. فنحن نخادع الناس ولا نكاد نعالجهم.

قلت: ولكن كيف تقول هذا، وآلاف العيادات تنتشر في المعمورة؟

قال: وهي كلها مقصرة، ولم أقل أنا وحدي ذلك، بل قد لاحظ كثير من علماء النفس المحترمين هذا.. فإريك فروم المحلل النفسي لاحظ قصور علم النفس الحديث وعجزه عن فهم الإنسان فهما صحيحا بسبب إغفاله دراسة الجانب الروحي في الإنسان، فقد قال:(إن التقليد الذي يعد السيكولوجيا دراسة لروح الإنسان دراسة تهم بفضائله وسعادته نبذ تماماً، وأصبح علم النفس الأكاديمي في محاولته لمحاكاة العلوم الطبيعية والأساليب المعملية في الوزن والحساب يعالج كل شيء ما عدا الروح.. إذ حاول أن يفهم مظاهر الإنسان التي يمكن فحصها في المعمل، وزعم أن الشعور وأحكام القيمة، ومعرفة لخير والشر، ما هي إلا تصورات ميتافيزيقية تقع خارج مشكلات علم النفس، وكان اهتمامه ينصب في أغلب الأحيان على مشكلات تافهة تتمشى مع منهج علمي مزعوم، وذلك بدلأ من أن يضع مناهج جديدة لدراسة مشكلات الإنسان الهامة. وهكذا أصبح علم النفس علما يفتقر إلى موضوعه الرئيسي وهو الروح، وكان معنياً بالميكانيزمات، وتكوينات ردود الأفعال والغرائز، دون أن يعنى بالظواهر الإنسانية المميزة أشد التمييز للإنسان: كالحب والعقل والشعور) 

وهذا القصور في فهم علماء النفس المحدثين للإنسان قد دفع أبرا هام ماسلو أيضا إلى اقتراح تصنيف جديد لدوافع الإنسان يشمل الدوافع الروحية التي يغفلها عادة علماء النفس المحدثون قي دراستهم لدوافع الإنسان.

إننا لا نستطيع أن نفهم الإنسان فهما واضحاً دقيقاً، كما لا نستطيع أن نكون مفهوماً دقيقاً وسليماً عن صحته النفسية دون أن نفهم جميع العوامل المحددة لشخصية الإنسان، سواء أكانت عوامل بيولوجية أم روحية أم اجتماعية أم ثقافية.

قال هذا، ثم انصرف أسيفا حزينا.

***

قال لي المعلم: أنت لا تزال في شك من تأثير الجمال على الصحة.

قلت: كذبت إن قلت خلاف ذلك.

قال: سر ذلك هو  تفريقك بين المنافع المادية والنفسية.

قلت: أجل، فالمنافع المادية نراها ونحس بها بخلاف المنافع النفسية، فهي أمور معنوية.

قال: لقد اعتبر الله تعالى الجمال مرهما من المراهم، وقرنه بالتغذية وبالأشياء التي تنتفعون بها.

قال: أهذا في القرآن الكريم؟

قال: أجل.. لقد قرنه بالتغذية وبغيرها من المنافع ليقول لكم:(تغذوا بجمال الأشياء قبل أن تتغذوا بعناصرها، وتداووا ببهائها قبل أن تتداوا بترياقها)

قلت: أهذا في القرآن الكريم؟

قال: أجل، وسأذكر لك أربعة أمثلة قرآنية على ذلك، يمكنك أن تستلهم منها المعاني الكثيرة التي تؤسس لعلم الجمال من القرآن الكريم.

قلت: فما المثال الأول؟

قال: ما منافع الأنعام؟

قلت: نأكل لحمها، ونشرب لبنها، ونلبس صوفها أو وبرها، ونتخذ من جلودها نعالا، وقد نمتطيها إذا كانت من المراكب، فنجدها مركبا صالحا.

قال: كل هذه منافع صحيحة ومشروعة، ولكن الله تعالى يضم إليها منفعة أخرى، تتغذى منها الروح، وتتشربها الفطرة السليمة، وهي الجمال، لقد قال تعالى يعد منافع الأنعام:{ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(النحل:5 ـ 7)

قلت: لقد فصل الله تعالى بين منافع الأكل ومنافع الاستعمال بالجمال.

قال: ليبين أن الجمال منفعة من المنافع لا تختلف عن المنافع الأخرى.

قلت: وقد قال تعالى في آية أخرى يقرن بين منافع الركوب والجمال:{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}(النحل:8)

قال: أجل.. فالركوب يحقق منافع الجسد، والزينة تحقق منافع الروح والجسد.

قلت: فكيف ينتفع بهذه المنفعة؟

قال: بالبصر المغذى بنور البصيرة، فالبصر بلا بصيرة عمى، ولهذا قال تعالى يلوم من قصرت بصيرته عن ملاحظة آيات الله:{ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ } (الغاشية:17 ـ 19)

قلت: ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينبههم إلى هذه الأشياء، فقال تعالى:{ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ}(الغاشية:21)؟

قال: أجل.. فرسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسالة جمالية من أغراضها الأساسية التنبيه إلى الجمال الذي يحتوي عليه الكون، والتعريف بالله الجميل.

قلت: فهمت هذا المثال، فما المثال الثاني؟

قال: ما منافع البحر؟

قلت: كثيرة، فالبحر آية من آيات الله في الأرض، ولولاه لخسف بنا.

قال: وهو آية من آيات الجمال، ومصدر من مصادره، لقد قال الله تعالى، وهويذكر منته على عباده بتسخير البحار:{ وَهُوالَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(النحل:14)

قلت: لقد جمع الله تعالى بين منافع الأكل من لحم البحر الطري، والجمال الذي تظهره الحلي المستخرجة منه.

قال: بل إن في وصف اللحم بالطراوة وصف لجماله، فالجمال لا يتنتفع به العين وحدها، بل لكل جارحة من الجوارح حظها من الجمال.

قلت: فما المثال الثالث؟

قال: لقد ذكر الله منافع النباتات.

قلت: أجل.. لقد ذكر الله تعالى منافع النباتات، فقال:{ وَهُوالَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(الأنعام:141)

قال: وذكرها قبل ذلك، وفي السورة نفسها، فقال:{ وَهُوالَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الأنعام:99)

قلت: لقد اقتصر الله تعالى في هذه الآية على نعمة النظر.

قال: ليبين أنها منفعة من المنافع المهمة، والتي لا تقل عن سائر المنافع، فالجمال أصل من أصول الكون لا مجرد شيء ثانوي مستغنى عنه.

قلت: فما المثال الرابع؟

قال: ما منافع اللباس التي ذكرها القرآن الكريم؟

قلت: لقد ذكر الله تعالى بعض هذه المنافع في قوله: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف:26)

قال: لقد ذكر الله تعالى للباس في هذه الآية ثلاث منافع: أما الأولى، فالستر، وأما الثانية، فالجمال والزينة التي عبر عنها بالريش، وأما الثالثة، فالوقاية التي عبر عنها بلباس التقوى، والتي جاء ذكرها في قوله تعالى:{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}(النحل:81)

قلت: هذا صحيح، وقد جعل الله تعالى الزينة وسطا في هذه الآيات كما في آيات الأنعام.

قال: أجل.. فالزينة رزق من رزق الله لا تختلف عن سائر الأرزاق؟

قلت: بلى، فقد ربط الله تعالى بينها وبين الرزق في قوله:{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31) فقد جمع بين الأكل والشرب والزينة.

قال: وقد جمع بينهما في الآية التي بعدها بقوله تعالى:{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(الأعراف:32)، فقد جمع بين الزينة والرزق الطيب.

***

رأيت داخل القاعة نوافذ كثيرة، سألت المعلم عنها، فقال: هذه نوافذ الجمال، كل نافذة منها تطلعك على عالم من عوالم الجمال المبثوث في الكون.

قلت: فما فائدة وجودها في هذه القاعة؟

قال: الجمال أعظم من أن تحصره قاعة أو يحتويه شيء، ألم تعلم بأن الله جميل، وأنه بديع ومصور، ولذلك لا حدود للجمال ولا حصر؟

قلت: فلماذا هذه النوافذ؟

قال: هذه المنافذ التي نتعرف بها على الجمال، وكل نافذة من النوافذ تطل بنا على بحر من بحار الجمال.

قلت: وهل الجمال متعدد؟

قال: هو  في أصله واحد، ولكنه في مظاهره متعدد.

قلت: هل سنزور هذه النوافذ جميعا؟

قال: إذن لن نخرج.

قلت: فما نفعل؟

قال: سنطل إطلالات خفيفة عليها.

قلت: ولكني أريد أن أرتشف من بحار الجمال حتى الثمالة.

قال: ذلك في درس آخر من دروس السلام، فلا تعجل.

اللهو

دخلنا القاعة الرابعة من قاعات الراحة، وقد كتب على بابها قوله تعالى:{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(يوسف:12)

وقد كانت قاعة كبيرة تشبه الملاعب التي نعرفها، بفارق بسيط، وهو أنها لا تحوي مدرجات للمتفرجين، وإنما تحوي بدل ذلك على أركان كثيرة لأنواع مختلفة من الألعاب.

قلت للمعلم: أهذه قاعة الألعاب بهذا المستشفى؟

قال: أجل.. فلا بد للمستشفى من مثل هذه القاعة، وهي للمرضى والأصحاء..

قلت: أيعالج فيها المرضى؟

قال: أجل.. هناك أطباء مختصون بالعلاج بالألعاب، ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم:(ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء)

قلت: بلى.. فما علاقته بهذا؟

قال: هناك أمراض تحتاج في علاجها إلى اللعب، ولذلك صمم أطباء هذا المستشفى بمعونة مهندسيه ألعابا كثيرة تتناسب مع الأمراض المختلفة.

قلت: والأصحاء.. لماذا يسمح لهم بالمجيء إلى هنا؟

قال: لئلا يمرضوا.. فالوقاية تستدعي أن يعطوا أنفسهم حظها من اللعب.

قلت: ولكن الله تعالى اعتبر اللهو واللعب قرين الغفلة، وقد ورد ذلك في نصوص كثيرة من القرآن الكريم، فالله تعالى يقول:{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْووَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}(الأنعام:32)، ويقول:{ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْو وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}(محمد:36)، ويقول:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْووَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}(الحديد:20)

قال: ولكن الله تعالى لم ينه في هذه الآيات عن اللعب، وإنما نهى عن الاشتغال بها، ونسيان الوظيفة التي خلق الإنسان من أجلها.

قلت: ولكن النصوص تثبت المعاناة التي يعيشها الإنسان عموما، والمسلم خصوصا، فقد قال تعالى:{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}(البلد:4)

وقد أخبر تعالى أن المؤمنين معرضون دائما لأنواع البلاء ليثبتوا إيمانهم، كما قال تعالى:{ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أو تُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(آل عمران:186)، وقال تعالى:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}(البقرة:214)، وقال تعالى:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(آل عمران:142)، وقال تعالى:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(التوبة:16)

قال: وهذا يستدعي الاستعانة باللعب لتملك القوة التي تهيئ المؤمن لمواجهة هذه الأنواع من البلاء.

قلت: ولكن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت الأخذ بالجد في الأمور كلها، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}(طـه:131)، ألم يقل الله تعالى ليحي u:{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً}(مريم:12)، ألم يأمر الله تعالى بني إسرائيل بأن يأخذوا كتابهم بجد وقوة، فقال تعالى:{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة:63)

قال: فهل نهاهم الله تعالى عن الأكل والشرب ليكمل أخذ كتابهم بقوة؟

قلت: لا.. فلا يمكن للإنسان أن يقوم بلا أكل ولا شرب.

قال: فكذلك اللهو واللعب ضروريان لحفظ جسد الإنسان وصحة الإنسان.. وهما فوق ذلك خير عون لاستكمال ما أنيط بالإنسان من وظائف، ألم تسمع قول علي :(للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرم معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل) وقد علل ذلك بقوله:(وذلك عون على سائر الساعات)

قلت: بلى..

قال: ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يدعوإلى إشاعة  مظاهر السرور  والبهجة  في  حياة  المسلمين، وقد استنكر صلى الله عليه وآله وسلم أن تُزف فتاة إلى زوجها زفافاً صامتاً، لم يصحبه لهو ولا غناء، وقال:(هلاّ كان معها لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو، أو الغزل)، وفي رواية:(هلاّ بعثتم معها من تغني  وتقول: أتيناكم  أتيناكم  … فحيونا نحييكم)

قلت: بلى.. ولكن..

قال: إن أردت أن تستن بسنة الصالحين ، فهذه سنتهم، وقد وصف أحدهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:(لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متحزقين([112]) ولا متماوتين، كانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون)([113])  

قلت:…. !؟

قال: ألم تقرأ ما في لافتة الباب؟

قلت: بلى.. قرأتها.. وأنا متعجب منها.. فلا أرى للآية موضعا في هذا الباب.

قال: وما سر إنكارك لذلك؟

قلت: أو لا.. هذا كلام إخوة يوسف u، وقد احتالوا به على أبيهم ليقتلوا أخاهم.. فكيف يوضع نص مثل هذا في ملعب يرى إباحة اللعب.

قال: تلك الآية المعلقة هي آية هذا الباب.. ومن بحرها سنعرف فقه اللعب.

قلت: أللعب فقه؟ لم أسمع بهذا.

قال: كما أن للغذاء فقها، وللنوم فقها، فللعب فقهه الخاص به.

قلت: فماذا تستنبطون من الآية؟

قال: أول ما نستنبطه إباحة اللعب، بل استحبابه إن وضع في محله، وكان في حله.

قلت: استحباب اللعب.. لا أرى في النص دليلا على مجرد الإباحة، فأين ترى الاستحباب؟

قال: لقد صرفك كون القول قول إخوة يوسف عن الحقائق التي تحتوي عليها هذه الآية.

قلت: لا أكتمك بأن بغضي لسلوكهم جرني إلى النظر بعين السخط لكل ما قالوا:

فعين الرضا عن كل عيب كليلة
كليلة
  ولكن عين السخط تبدي المساويا

قال: فانظر إلى قولهم من جهة أخرى.

قلت: أي جهة؟

قال: أليس الكلام كلام الله.. وهو{ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42)؟

قلت: بلى..

قال: فقد استنبطنا هذا الحكم انطلاقا من كونه كلام الله.. لا من كونه كلام إخوة يوسف u.

قلت: فأين دليل الاستحباب؟

قال: في الآية دليلان: دليل الإقرار، ودليل الفعل.

قلت: فما دليل الإقرار؟

قال: لقد أقر يعقوب u إخوة يوسف في طلبهم للعب واللهو، ومنع منهم يوسف u من باب الخوف عليه، وفي هذا الاقرار دليل على إباحة اللعب، وفي إذنه ليوسف u بالذهاب معهم دليل على الاستحباب.

قلت: كيف يكون دليلا على الاستحباب؟

قال: لأن يعقوب u كان يعلم أن يوسف u معد لأمر عظيم، ولذلك كان تركه للذهاب معهم للعب دليل على أن اللعب لا يتنافى مع الكمال، بل قد يعين عليه.

قلت: فما دليل الفعل؟

قال: خروج يوسف u للعب معهم، فدليل الفعل مكمل لدليل الإقرار.

قلت: لقد ذكرت أن الآية هي البحر الذي يغترف منه فقه اللعب، فكيف ذلك.

قال: هل صدق إخوة يوسف في ادعائهم اللعب البريء.

قلت: بل كذبوا، ولهذا قال يعقوب u لهم بعد أن{ َجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ }:{ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}(يوسف:18)

قال: فهذا هو  الضابط الأول من ضوابط اللهو، وهو ضابط الصدق.

قلت: فما الضابط الثاني؟

قال: السلام.

قلت: من أين تستنبطه؟

قال: من قصة إخوة يوسف u، فقد اتخذوا اللعب حيلة ووسيلة ومكيدة لقتل أخيهم.

قلت: فما الضابط الثالث؟

قال: الاعتدال.

قلت: ومن أين تستنبطه؟

قال: من قول يعقوب u في رده على إخوة يوسف u محذرا لهم من عواقب الإسراف:{ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} (يوسف:13)، ففي ذكر الغفلة في هذا الموضع دليل على أنها من المحاذير التي ينبغي تجنبها أثناء اللعب.

قلت: ولكن اللعب لا يكون لعبا إلا إذا صحبته الغفلة.

قال: لا.. ذلك لعب الغافلين.. أما لعب المؤمنين، فهو لعب المعتدلين الذين يجمعون بين متطلبات النفس، وأشواق الروح.

قلت: فما الضابط الرابع؟

قال: الأدب.

قلت: ومن أين تستنبطه؟

قال: من سوء أدب إخوة يوسف مع أبيهم.. فخير من دلك على الأدب من أساء الأدب.

قلت: وكيف أساءوا الأدب؟

قال: لقد فجعوا أباهم في ابنه الذي يحبه متوسلين إلى ذلك بالنصح والمحبة.

قلت: فهمت هذا ووعيته.. ولكني مستغرب من دور الأطباء في هذا الملعب، أهم يلعبون معهم؟.. أم يدربونهم على الألعاب؟

قال: يدربونهم على الضوابط التي تحفظ ألعابهم، فتجعلها منسجمة مع ما تتطلبه وظيفتهم وصحتهم من مطالب.. وفيهم مخترعون اخترعوا بعض الألعاب التي تتناسب مع علل معينة لعلاجها بطب اللعب كما ذكرت لك ذلك من قبل.

قلت: فهل سنزور هؤلاء اللاعبين؟

قال: نعم.. ولكنا سنكتفي بالمراكز الأربعة التي يدرب فيها على هذه الضوابط.

قلت: أسألك سؤالا أخيرا، قبل أن نزور هذه المراكز، ولكني أخشى أن يكون فضولا.

قال: سل عما بدا لك.

قلت: لا أرى في هذا الملعب مدرجات للمتفرجين، أقصر أصحاب هذه الحصون عن بناء مثل هذه المدرجات، أم أن المتفرجين يجلسون على البسط؟

قال: ليس في ملاعب السلام من يتفرج.

قلت: عهدي بالملاعب تغص بالمتفرجين.

قال: تلك ملاعب الصراع والعدوان والتجارة والفراغ.. أما أهل السلام، فليس لديهم من الوقت ما يشغلوه بمثل هذا اللهو الفارغ.

الصدق

اقتربنا من المركز الأول من مراكز التدريب على اللهو، فقرأت لافتة على بابها تحمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(ويل للذي يُحدث فيكذب، ليُضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له)([114]

ورأيت بجانبها قوما تمتلئ أفواههمم بالضحك، وهم يتبادلون النكت مع طبيبهم، وقد كان أكثرهم ضحكا، فثارت في حمية لست أدري سببها، ونسيت أني في حصون العافية، ومع معلم السلام، ولم يخطر على بالي حينها إلا مواقف الصالحين مع أهل المنكر.

قلت للطبيب بشدة: أي طبيب أنت.. أتترك عملك، وتنشغل مع هؤلاء المرضى.. أنسيت مسؤولية العمل؟

تعجبت الجماعة مني، لكن الطبيب أمسكني بهدوء، وقال: شكرا يا أخي على نصيحتك الغالية.. وذكر الله لك هذا الموقف الذي أعلم أنك لم تقفه إلا لوجهه.

قلت بشدتي التي ألانها حديثه: فقد انتصحت بما نصحتك إذن.

قال: أجل.. ولكن اسمع مني ما أقول أو لا بأول، ولا تقاطعني.

قلت: سأسمع منك.

قال: نعم أنا طبيب بهذا المستشفى.. وقد هداني الله لعلاج كثير من الأمراض بالضحك، ولذلك تجدني هنا معهم أدربهم على الصدق في الضحك، لأحطم أسطورة من يقول:(إن الضحك لا يحلو إلا مع الكذب)

قلت: نعم.. فإن قومي لا يضحكون إلا إذا كذبوا، وقد ابتدعوا لذلك بدعا، واخترعوا أعيادا.

قال: تقصد بدعة أبريل.

قلت: أجل.. هم يسمونها كذبة أبريل.

قال: فهل تعلم آثار تلك البدعة؟

قلت: أجل.. نحن نعاني منها، فمن الناس من يروع، ومن الناس من يمتلئ حزنا بسببها.

قال: فهذا ضحك المرضى، أما ضحكنا، فضحك الصادقين المؤمنين، ونحن نحيي به سنة من سنن الشرع.

قلت: ما بك يا طبيب.. ما تفتأ تثير أعصابي؟

قال: ما الذي حدث؟

قلت: كيف تزعم أن الضحك سنة، وقد قال تعالى عن الكفار:{ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(التوبة:82)

قال: وقد قال تعالى عنهم:{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} (محمد:12)، فهل تحرم الأكل لأن الكفار يأكلون؟

قلت: لا.. بل عرفت ـ مع معلم السلام ـ أن الأكل واجب.

قال: فلا تحرم الضحك إذن.. أو قل بوجوبه.. ألم يخلق الله تعالى الضحك في الإنسان.

قلت: بلى.. بل عرف بعض الناس الإنسان، فقالوا:(الإنسان حيوان ضاحك)

قال: فهل خلق الله تعالى في الإنسان طاقة ثم أمره بكبتها؟

قلت: لا أعلم ذلك.

قال: لا.. لا تناقض بين الخلق والأمر، فالله هو  الخالق الآمر، ألم تسمع قوله تعالى:{ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف:54)

قلت: بلى.

قال: فلا تناقض بين الحقيقة والشريعة، ولا بين الخلق والأمر.

قلت: ولكن.. لا يمكن أن تستنج مما ذكرت سنية الضحك.

قال: ألا تستنبط السنة من الأقوال والأفعال والتقريرات؟

قلت: بلى.

قال: فقد ورد كل ذلك في النصوص، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، وقد قال بعض الصحابة، وقد طُلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّ فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، قال:(فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟)([115]

قال بعض الحاضرين: ألا تعلم كيف مازح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك المرأة العجوز؟

ضحكت، وقلت: تقصد التي قالت له: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أم فلان، إنّ الجنة لا يدخلها عجوز!)، فبكت المرأة، لأنها أخذت الكلام على ظاهره، فأفهمها صلى الله عليه وآله وسلم أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزاً، بل شابة حسناء، وتلا عليها قول الله تعالى في نساء الجنة:{ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرباً أتراباً } (الواقعة: 35 ـ37)([116])

قال: ألا يمكن أن تتكهن بتأثير هذه المزحة في المرأة؟

قلت: لا شك أنها ملأتها فرحا وسرورا، فقد علمتها علما، وبشرتها بشارة، وكل ذلك في قالب مضحك مله.

قال: فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يكتفي بالصدق فقط في مزاحه، بل يجعل من مزاحه تعليما.

قال آخر، والضحك يسبق حديثه: وجاء رجل يسأله أن يحمله على بعير، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم:(لا أحملك إلا على ولد الناقة!) فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة؟! ـ  انصرف ذهنه إلى الحُوار الصغير ـ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(وهل تلد الإبل إلا النوق؟)([117]

ضحكنا جميعا لحديثه، فقال آخر: أما أنا فأحدثكم حديث زيد بن أسلم  وهوأن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: إن زوجي يدعوك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( ومن هو؟.. أهوالذي بعينه بياض([118])؟)، قالت: والله ما بعينه بياض! فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(بلى إنّ بعينه بياضاً)، فقالت: لا، والله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما من أحد إلا بعينه بياض)([119])

ضحكنا جميعا لحديثه، فقال الطبيب: انظروا كيف أضحككم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك لم يكذب كذبة واحدة؟

سكت قليلا، ثم قال: لا ينبغي أن تفهموا من إيراد هذه الروايات أن النكت توقيفية، فتروحون تبدعون كل من ينطق بنكتة، أو يضحك خلق الله بطرفة.

قلت: أتعني جواز وضع النكت؟

قال: أجل.. على أن لا توضع عن ناس مخصوصين معروفين، فيكون من الكذب الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي نتدرب في هذا القسم على تركه، والبرهنة على أن ما في الصدق يغني عما في الكذب.

قلت: أما إن قلت ذلك، فسأطرفكم اليوم بطرف لم تسمعوها في حياتكم جميعا.. فإني لا أروي النكت فقط، بل أخترعها اختراعا.

قالوا: فأضحكنا أضحك الله سنك.

قلت: دخل صديقان المطعم وطلبا الطعام.. ولكن النادل لاحظ أن أحدهما يأكل.. والثاني لا يأكل.. فسأله النادل: لماذا لا تأكل يا سيدي؟ هل تنتظر شيئاً؟.. أتدرون بم أجاب؟

قال أحدهم: لم يعجبه الطعام.

قال آخر: ليس لديه المال.

قلت: لا.. أجاب الرجل: أنتظر طقم أسناني الذي يأكل به صديقي.

ضحكوا جميعا، فقلت: ذهب الطباخ إلى محام وسأله: ماذا تريد أن تأكل؟ فدهش المحامي، وقال له: ماذا تقصد؟  أجاب الطباخ: عندي قضية.. وقالوا لي:(وكِّل محامي)

ضحكوا، فزاد ذلك من جرأتي، فقلت: قال الزبون للنادل: أين التخفيض الذي تتحدثون عنه؟ فقال النادل: التخفيض في كمية الطعام يا سيدي.. وليس في السعر.

ضحكوا جميعا، فقلت: قال الزبون: أهنئكم على نظافة مطعمكم، فقال النادل: وكيف عرفت ذلك؟ فقال الزبون: الأكل كله صابون.

 ضحكوا، فقلت: قال الزبون..

أمسك بيدي المعلم، وقال: ما بك؟.. أنسيت لم جئت إلى هنا؟

ارتد إلي عقلي، وتصنعت بعض الجد، فسألني القوم: لم تكمل.. ماذا قال الزبون؟

قلت: عندما انتهى من أكله، قال لمن معه: وداعا، سألتقي بكم في نكتة أخرى.

الاعتدال

اقتربنا من المركز الثاني من مراكز التدريب على اللهو، فقرأت لافتة على بابها كتب عليها قوله تعالى:{ وَأَنَّهُ هو  أَضْحَكَ وَأَبْكَى}  (لنجم:43)، ورأيت قوما جالسين، وقد انقسموا إلى فريقين:

أما أحدهما، فكان يتبادل أفراده النكت فيما بينهم، ويضحكون ضحكا شديدا إلى درجة أني ضحكت لضحكهم من غير أن أعلم سببا لذلك.

وأما الثاني، فكان أفراده يتبادلون المواعظ، وهم ينظرون بحزن وأسف للفريق الأول، وأعينهم تنهمر، وتكاد قلوبهم تتفطر، وقد أثر في منظرهم، فكادت دموعي تنحدر، وكاد قلبي يتفطر.

وبينما هما كذلك إذ صعد المنصة رجل يرتدي حلة أطباء هذا المستشفى، فسألت المعلم عنه، فقال: هذا خبير قدمت به إدارة المستشفى ليفسر هذه الآية.

قلت: ومن هؤلاء الحاضرون؟

قال: هؤلاء فريقان من الناس اختلفوا فيما بينهم، فبعضهم قدم الضحك على البكاء، وبعضهم قدم البكاء على الضحك.

قلت: أهؤلاء كالذين اختلفوا في الفقير الصابر، والغني الشاكر.

قال: تقريبا.. وقد وصل الخلاف بينهم إلى الحد الذي استدعت فيه إدارة هذا المستشفى هذا الخبير ليشرح فوائد الضحك.

قلت: أإدارة المستشفى ـ إذن ـ تفضل الضحك على البكاء؟

قال: لا.. هي لا تفضل أحدهما على الآخر.. بل تعالج بهما جميعا.

قلت: فأين خبير البكاء؟.. ولماذا اكتفت بخبير الضحك؟  

قال: هو هنا.. ولكنه ذهب ليمسح عينيه من البكاء ليتمكن من الكلام.. وسيعود بعد أن ينتهي خبير الضحك.

فوائد الضحك:

قال خبير الضحك([120])ـ والضحكة تملأ فمه ـ: الضحك نعمة من نعم الله على عباده، وهوبلسم يداوي الجراح، وترياق يمسح الهموم، ووصلة رحمة تربط بين أفراد المجتمع.

صحت: أكل هذا في الضحك؟

التفت إلي ضاحكا، وقال: أجل، فهو دواء للبدن، وللنفس، وللمجتمع.

صاح أحد الضاحكين: فحدثنا عن دوره الصحي لتقنع البكائين بما يكف عتابهم عنا.

قال: لقد أثبتت الدراسات العلمية أن الضحك يساعد علي زيادة الأوكسجين الذي يصل إلى الرئتين، وهوبالتالي ينشط الدورة الدموية، ويساعد علي دفع الدم في الشرايين، فيتولد إحساس بدفء الأطراف.. ألا تلاحظون الاحمرار الذي يكسو وجه الضاحك؟

قالوا: أجل.. فما سره؟

قال: سره هو الضحك الصادق الذي ينبع من القلب، فهو يغذي الدم الذي يملأ الوجه بالحمرة.

قال أحد البكائين: أهذا ما يفخر به الضاحكون؟.. الوجه الأحمر.. وما فائدة الاحمرار!؟

قال: ليس ذلك فقط.. فقد ذكرت الدراسات أن الضحك يعالج الإجهاد، وحالات الصداع، وآلام الظهر، وسوء الهضم، واضطراب ضربات القلب، وأنه بديل ناجح لأنواع العلاج والعقاقير المهدئة.

قلت: هذا دواء مبارك، فحدثنا عن سر الترياق النفسي الذي تحمله عصارة الضحك.

قال: لقد أثبتت الدراسة العلمية أن الذين يتمتعون بالحس الفكاهي يأتي ترتيبهم متأخراً جداً في سلم الأشخاص المعرضين للإصابة بالأمراض النفسية.

قلت: ما سر ذلك؟

قال: مرجع ذلك إلى أن الذين يضحكون يجدون في الفكاهة الحل التلقائي لما يصيبهم من توتر.. وقد نشرت إحدى المجلات الطبية البريطانية دراسة لطبيب نفسي أثبت فيها بأسلوب دقيق أن الضحك هو  أفضل علاج للضغوط النفسية والاضطرابات المترتبة عليها!

قلت: لا أزال أسأل عن سر ذلك.

قال: لأن الضحك دواء مضاد للتشاؤم واليأس، وهو ترياق الترويح عن النفس، ووسيلة دفع الملل الناتج عن حياة الجد والصرامة، ومرقاة التنفيس عن آلام الواقع.. ولهذا يعد الضحك أحد مناهج الحياة التي يمكن أن نزعم أن الإنسان ينفرد بها عما سواه من المخلوقات من حيوان ونبات وجماد، ولهذا وجد من يصف الإنسان بأنه حيوان ضاحك، بل إن الطفل الصغير يضحك قبل وقت طويل من قدرته علي الكلام والسير.

بالإضافة إلى هذا، فإن الضحك ظاهرة تجمع بين اللهو والحركة واللعب، حتى إنه يمكن اعتباره تمرينا رياضيا، فهو وسيلة لإطلاق طاقة نختزنها في داخلنا وندخرها لمواجهة المواقف الجادة في الحياة.

ونحن نطلق هذه الطاقة في صورة ضحك حين يتبين لنا أن الحياة ليست بهذه الجدية والخطورة، ولا يلزم لها كل هذا التحفز والانفعال، فنضحك لأننا أخذنا المسائل بكل هذه الصرامة التي لا لزوم لها!

قال أحد البكائين: كيف تقول هذا! إن الحياة جد محض، وهي أقصر من أن نقتلها بالعبث.

قال الخبير: أرأيت لوأقنعتك بأن الضحك يساعد على تحقيق الرسالة التي كلف بها الإنسان، أتقرني على استعمال هذا العلاج؟

قال: أجل.. وظالم أنا إن رأيت الحق، وغضضت طرفي عنه.

قال: إن وظائف الإنسان جميعا تنحصر في أمور ثلاثة لا تعدوها: الإدراك، وهو التفكير الواعي، والوجدان، وهوالعواطف المتدفقة، والنزوع، وهوالسلوك بمختلف أنواعه، وللضحك علاقة بهؤلاء جميعا.

قلت: كيف ذلك؟

قال: الضحك عملية عقلية، لأن المرء حين يتعرض لموقف فيه دعابة يحس بالسرور ينبعث في نفسه حين يفهم ما يعنيه الموقف، ويدركه، ثم يكون التعبير عن ذلك بالضحك تلقائياً.. وبالتالي يساهم الضحك في تغذية هذه الجوانب النفسية جميعا.

قال أحد البكائين: ولكن ألا يقوم الضحك على مبدأ اللذة؟ حيث أن الإنسان يجنح إلى المواقف التي تؤدي إلى الحصول علي اللذة، ويتجنب الألم، ومن خلال هذه الرؤية، فالضحك يتضمن إنكاراً للواقع وتحرراً منه، وهولا يختلف في ذلك عن الأحلام.

قال الخبير: أجل.. وهو من مظاهر رحمة الله.. فلولا تنفيس الإنسان على نفسه بالضحك لانقطعت قواه، وهو ليس هروبا من الواقع، إنما هو  وسيلة صحية للتهرب وقتياً من هموم الحياة المعتادة، ومن ثم فإنه استجابة سوية وصحية للتخلص من ضغوط الواقع الخارجي لكنه يظل تحت ضبط وسيطرة الإرادة.

قال أحد البكائين: ولكنا نرى علماء النفس يربطون بين الضحك والعدوان، لكثرة ما يلاحظون من أن الناس يضحكون أحياناً للمصائب والمواقف التي يتورط فيها الآخرون.

قال: هذا صحيح.. بل إنه من الملاحظ أن الناس عادة ما يضحكون إذا تعرض شخص من علية القوم لموقف أو مأزق، لذلك بدافع العداء نحوه.

قلت: أليس ذلك شرا؟

قال: بل هو  شر، ولكن الشر لا ينفي الخير.

قلت: فحدثنا عن دور الضحك الاجتماعي.

قال: لقد وردت النصوص الكثيرة تحث على جعل الابتسامة الشعار الذي يلقى به المسلم أخاه، بل ورد ما هو  أكثر من الابتسامة، وهو طلاقة الوجه، لأن الابتسامة مختصة بعضو واحد، ولها وقتها المحدود بخلاف طلاقة الوجه، فإنها مستمرة دائمة يعبر بها الوجه عما يختلج في صدر صاحبه.

ولهذا لا تذكر وجوه المؤمنين في القرآن إلا مستبشرة منطلقة مسفرة ضاحكة، ولا تذكر وجوه غيرهم إلا وعليها غبرة ترهقها قترة، وعندما عبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موقف من المواقف نزل النهي القرآني عن ذلك العبوس، ونزل الأمر بتبديله بشرا وانطلاقا حتى لا يؤثر في وجه المؤمن أي موقف من المواقف.

قال أحد الضاحكين: ولهذا كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلاقة الوجه وانشراح الأسارير والابتسامة إلى درجة أن لوحظ ذلك عليه، فعن عبد الله بن الحارث قال: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ([121]).

قال آخر: ولذلك نحن نحيي هذه السنة، فليت الذين يعبسون في وجه الناس ويقطبون أن يلتفتوا لهذه السنة فيحيوها، فهي أكبر أثرا وأصح نقلا، وأعظم أجرا من كثير من سنن الأكل والشرب واللباس.

قال آخر: ولم تكن هذه السنة كذلك من السنن الفعلية التي قد يختلف في تفسيرها أو يقال بتخصيصها أو يعتقد جبليتها، وإنما وردت بها الأحاديث الكثيرة العامة والصريحة، فاعتبرت طلاقة الوجه من المعروف، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحقرن أحدكم شيئا من المعروف، وإن لم يجد فليلق أخاه بوجه طليق، وإن اشتريت لحما أو طبخت قدرا، فأكثر مرقته، واغرف لجارك منه)([122])

قال آخر: بل اعتبرت من الصدقات، بل قرنت مع أصول للدين، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة،وإفراغك من دلوك في دلوأخيك لك صدقة)([123])

قال الخبير: وجمعه صلى الله عليه وآله وسلم بين هذه الخصال جميعا يدل على أن هناك علاقة بينها جميعا، وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ليس الكمال أن تفعل الخير، ولكن الكمال أن تفعله، وأنت منشرح الصدر، منطلق الأسارير، فإذا أمرت بالمعروف، أو نهيت عن المنكر، أو أرشدت الضال، أو فعلت الخير، فافعله مبتسما لا ضجرا، لأن ضجرك سيرفع ثواب عملك، بل يحيل خيريته شرا، وحلاوته مرا.

قال آخر: ومن دلائل سنية هذه السنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يخص هذا السلوك من اشتد في الدين عوده فحسب، بل كان يبدأ به من دخل في الإسلام لتوه، فعن بعضهم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أنت رسول الله، أو قال: أنت محمد فقال: نعم، قال: فإلام تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده من إذا كان بك ضر، فدعوته كشفه عنك، ومن إذا أصابك عام سنة، فدعوته أنبت لك، ومن إذا كنت في أرض قفر فأضللت فدعوته رد عليك قال: فأسلم الرجل، ثم قال: أوصني يا رسول الله، فقال له: لا تسبن شيئا، ولا تزهد في المعروف، ولوبسط وجهك إلى أخيك وأنت تكلمه وأفرغ من دلوك في إناء المستسقي واتزر إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين وإياك وإسبال الإزار قال: فإنها من المخيلة والله لا يحب المخيلة)([124])

قال آخر: وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم الثمرة التي تجنى من هذا السلوك السهل البسيط الذي ينتفع به الجسم والروح والأهل والمجتمع بقوله: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه وحسن الخلق)([125])

قال أحد البكائين: ولكن الله تعالى ذم الضحك، فقال:{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} (الزخرف:47)، وقال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} (المطففين:29)، وقال تعالى:{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}(المطففين:34)

قال الخبير: لقد ذم الله تعالى وضع الضحك في غير موضعه، فهذا الضحك مرض لا صحة، وبلاء لا عافية، وهو ينتج الشقاق الاجتماعي، لا الوفاق الاجتماعي.

بل هناك من الضحك ما يمكن تسميته بالنفاق الاجتماعي، فهناك الضحك الاجتماعي لمجاملة الآخرين، ففي اليابان مثلاً ينظر للضحك على أنه واجب اجتماعي، وعلي الإنسان الذي ألمت به كارثة أن يرسم علي وجهة ابتسامة وهو يتلقى مواساة الآخرين، وهوما يطلق عليه أحياناً (قناع السعادة)

بل هناك حالات ومواقف مرضية نجد رد الفعل فيها بالضحك نتيجة لبعض الاضطراب النفسي المؤقت مثل الضحك الهستيري، ونوبات الضحك البديلة للتشنج، والتي لا تكون خلالها سيطرة العقل كاملة علي السلوك.

بل من الضحك ما هو  نتيجة لمواد خارجية تؤثر علي الأعصاب مثل غاز أكسيد النتريك المعروف بغاز الأعصاب، والمستخدم في الحروب الكيماوية.

ومع ذلك كله، فقد ذكرت معلومات إحصائية أن الإنسان في عصرنا الحالي يضحك أقل مما كان يفعل الذين سبقونا في العصور القريبة، ولعل ذلك هو  أحد الأسباب القليلة الباقية لتعليل زيادة انتشار الأمراض النفسية بالصورة الهائلة التي نراها اليوم.

فوائد البكاء:

قال هذا، ثم نزل، ليصعد رجل آخر، وقد حفر على خده خطان تسيل من خلالهما الدموع، فقلت للمعلم: لا شك أن هذا هو  خبير البكاء، وزعيم فرقته.

قال: أجل.. وقد حضر لتوه ليبين فوائد البكاء، ويرد الفريقين إلى الاعتدال.

قال الخبير: أما البكاء، فهو سمة الصديقين، وأحباب الله الذين مسحوا بدموعهم أوزار ذنوبهم، فخرجوا منها كيوم ولدتهم أمهاتهم.

وهو صفة المنيبين الذين إذا ذكروا الله أو قرأوكلامه { يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (الاسراء:109)

وهوصفة المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذي قال الله تعالى فيهم:{ أو لَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (مريم:58)

وهو صفة الصادقين الذي عبروا بدموعهم عما في قلوبهم من حقائق الصدق، فأثنى الله عليهم، فقال:{ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (التوبة:92)

  ولهذا ورد الحث عليه من قديم، ففي حديث أبي ذر  الطويل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلت: يا رسول الله ما كانت صحف موسى؟، قال:(كانت عبرا كلها، عجبت لمن أيقن بالموت وهويفرح، وعجبت لمن أيقن بالنار وهويضحك)([126])

  وقد سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبريل u، فقال:(ما لي لا أرى ميكائيل يضحك؟)، فقال جبريل:(ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار)([127]

وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن الأجر العظيم الذي يناله البكاؤون من خشية الله، فقال:(عينان لا تمسّهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)([128]

  وقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم من بين السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ الا ظلّه:(ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)([129]).. وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( لا يلج النار رجل بكى من خشية الله)([130]

صاح أحدهم: هو  سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان غزير الدمعة، وقد بكى لما مات ابنه إبراهيم، ودمعت عيناه، وبكى رحمة له، وقال:(تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون)([131]).. وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود  سورة النساء، وانتهى فيها إلى قوله تعالى:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}(النساء:41).. وبكى لما مات عثمان بن  مظعون .. وبكى لما كسفت الشمس، وصلى صلاة الكسوف، وجعل يبكي في صلاته، وجعل ينفخ، ويقول:(رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون، ونحن نستغفرك)([132]).. وكان يبكي أحيانا في صلاة الليل.

قال آخر: وقد كان بكاؤه صلى الله عليه وآله وسلم في غاية الأدب، فلم يكن بشهيق ورفع صوت، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، ويسمع لصدره أزيز.

قال آخر: وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفا على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن..

قال آخر: وهو سنة الصالحين من هذه الأمة، وقد رؤي عليّ  في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل ستوره، وغارت نجومه، وقد تمثّل في محرابه قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم ـ اللديغ ـ ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول:(يا ربّنا، يا ربّنا..) يتضرّع اليه..  ثم يقول:(يا دنيا، يا دنيا، اليّ تعرضت، أم بي تشوقت، هيهات هيهات غرّي غيري، وقد بتتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلّة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق)

قال آخر: وقد وصف  أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن وصف، فقال: (والله لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما أرى اليوم شيئا يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، فقد باتوا لله سجّدا وقياما، يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فاذا أصبحوا ذكروا الله عز وجل، مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبلّ ثيابهم)، ثم يقول:(والله لكأن القوم باتوا غافلين)

صحت: ولكن.. لا يكفي هذا لتذكروا فضل الضحك على البكاء.. ألسنا في مستشفى.. وبين مرضى.. وأنتم تبحثون عن علاجهم؟

قال الخبير: أجل.. وهذا من علاجهم.

قلت: أي علاج هذا.. يا رجل.. الضحك يحرك كم عضلة.. ويمسح كم هما.. ويداوي كم مرضا.. فماذا يفعل البكاء غير نشر الحزن والألم؟

قال: لا.. نحن نستعمل البكاء علاجا في هذا المستشفى، وقد أثبت جدواه.. فكثير من المرضى جاءوا بقلوب محطمة، وأجسام عليلة، فما إن حفرنا في خدودهم أخاديد الدموع حتى ارتدت إليهم صحتهم، وانشرحت صدورهم، فخرجوا، والعافية تغمر وجوههم، والسكينة تملأ نفوسهم.

قلت: هذه دعاوى..

والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات فأبناؤها أدعياء

قال: سأحدثك مع طائفتي عن أسرار الصحة التي يحتويها البكاء، والتي تجعله علاجا ناجعا لكل الأدواء.

قلت: فحدثني.. ولا أريد من الحديث إلا صادقا مدعما.

قال: فكيف أكون بكاء إن كنت كاذبا.. أو نقلت كذبا.. بل أنا صادق صادق.

قال أحدهم([133]): قبل أن تعرف أسرار البكاء الصحية اعرف البكاء أو لا.

قال الخبير: البكاء من الناحية الجسمية هو خروج ما تفرزه الغدد الدمعية لوسط العين، ويصاحبه سيلان مائي بالأنف والبلعوم وتقلص للعضلات العينية مع قبض عضلات الوجه والبطن وارتفاع بالحجاب الحاجز.. وأحيانا يرافقه سعال خفيف.

قلت: عرفنا هذا.. فلا أحد منا إلا وبكى في يوم من الأيام.

قال الخبير: ولهذا فوائد طبية عظيمة، فالبكاء كالمطر الذي يغسل الأرض من أوزارها.. فالبكاء يحدث نتيجة شحن العواطف بالانفعالات النفسية،  فتعمل على حث المراكز السمباثوية بالجهاز العصبي، فترسل إشارات للغدد الدمعية بالتحضير والانقباض وارتخاء القنوات الدمعية، فتندفع الدموع خارج الغدة للعين فتغسلها وتنقيها تماماً من أي ميكروبات أو افرازات أخرى.

وبعض من هذه الدموع يصل للأنف عن طريق قناة توصل بينهم مما يساعد على تطهير الأنف ونزول السائل منها، فالسائل الدمعي يحتوي على سائل نقي به بعض الأملاح والمواد التي تفرز من الغدد الدمعية، لذا فهو ذو طعم مالح قليلاً مما يساعده على تعقيم العين والملتحمة.

قال آخر: لفهم فوائد البكاء بتفصيل أكبر لابد من التحدث قليلا عن ماهية الدمع ووظائفه حيث إنه يشكل المادة الأساسية للبكاء، فهو سائل كالبلازما الدموية دون وجود كريات دم، وهو غني بالبوتاسيوم، حيث يحتوي على أربعة أضعاف تركيزه في الدم..

وهو يحتوي على عناصر مناعية دفاعية، وهي الجلوبولينات المناعية، ودورها معروف في الدفاع عن الجسم ضد الأخطار الخارجية كالجراثيم والفيروسات، وكذلك على خميرة انزيم الليزوزيم (15 جرام/لتر) وهي خميرة ذات قدرة كبيرة مضادة للبكتيريا، وذلك بحلها للغلاف الخلوي لبعض الجراثيم (موجبة الجرام) لاحتوائها على مورامينيدايز.

قال آخر: ويحتوي الدمع كذلك على اللاكتوفيرين، وهي مادة بروتينية ذات خاصية جذب عالية لعنصر الحديد الضروري لنمو البكتيريا، وبالتالي تلعب دورا أساسيا في مقاومة البكتيريا.. وتلعب دورا كذلك في تعديل الجذور الحرة، وخاصة جذر الهيدروكسي الضار لخلايا الجسم.. وتلعب أيضا دورا مثبطا للمتممة، وهذا يمنح الدمع دورا مضادا للالتهابات أيضا.. ومثل ذلك الشوارد المغذية الأخرى والأوكسجين والجلوكوز.

قال آخر: في الحالة الطبيعية تستوعب العين الرتوج الملتحمة وسطح القرنية الملتحمة والطرق المفرغة بحدود (30 ميكرولترات) من الدمع وكل ما يزيد على ذلك يفيض ويسيل خارج الأجفان، وهوما نسميه بالدماغ، وهذا ما يخلص العين من الأجسام العالقة كالغبار في حال تخريشها.

فنستطيع من هذا أن نلخص فوائد الدمع بأشكال الحماية المختلفة التي يؤمنها للعين كالحماية الميكانيكية والبصرية وهويشكل حاجزا مقاوما وسطحا انزلاقيا ممتازا أو مرطبا دائما للعين وحافظا للحرارة السطحية يحميها من الجفاف ويؤمن سطحا بصريا منتظما.

قال آخر: وبوجود المخاطية في الشريط الدمعي يلتقط الجزيئات الغريبة والبكتيريا العالقة حيث يؤمن رفيف الاجفان طرحها خارجا.

قال آخر: ومن الحمايات حماية مضادة للبكتيريا وحماية فيزيائية بتغيير درجة حمض الدمع مما يجعلها وسطا غير ملائم لنموالجراثيم الممرضة، وحماية كيميائية كوجود عناصر ليزوزيم والاكتوفيرين معدلة الديفانات المفرزة من قبل بعض الجراثيم، وحماية مناعية دفاعية وحماية علاجية، حيث يشكل الشريط الدمعي وسطا ممتازا لاستقبال الادوية الموضعية وحماية غذائية حيث يغذي القرنية والملتحمة باستمرار فهووسط تبادلي فعال للاوكسجين والجولوكوز والشوارد وبقية العناصر.

قال الخبير: وفوائد البكاء لا تقتصر على البدن، فللنفس حظها الكبير من فوائد البكاء.. فالبكاء هو  المخرج الأفضل لكل التوترات النفسية والانفعالات، لأنه لو أخفى الإنسان هذه التغيرات النفسية والعصبية بداعي الرجولة والخوف من الضعف أمام الآخرين أو الشعور بالانهزامية، فإنه سيعاني من العقد والمشكلات التي يزخر بها الطب النفسي.. بل حتى الطب العادي.

قال آخر: لأن ذلك سيؤدي لارتفاع ضغط الدم المنتشر كثيراً هذه الأيام، وربما لإظهار داء السكري إذا كانت عنده ميول أو تاريخ أسري للسكري.

قال آخر: ثم إن حبس البكاء والمشاعر كثيراً ما يؤدي إلى تقرح بالمعدة وأمراض القولون العصبي.. ولهذا نجد أن النساء  ـ وهن أكثر قدرة على البكاء، بسبب الاختلاف الفسيولوجي والهرموني عن الرجال ـ أقل عرضة لكثير من الأمراض التي تنجم عن عدم البكاء..

قال آخر: البكاء هو  جلاء للهموم، والتماس للراحة، ورقة للقلب، ونقاوة للنفس، وهو بالنهاية ملجأ كل مصاب يسلو إليها، ويرى عزاءه فيها.

قال آخر: ولذلك كله ينصح الأطباء المريض أو أي فرد يتعرض لمواقف محزنة أو مؤلمة أن يعبر عن شعوره بالبكاء.. فمن خلاله يشعر الإنسان بالارتياح من ثقل يتعب كاهله.. فالكبت قد يؤدي إلى نتائج وخيمة، والمصابون بالاكتئاب هم أكثر الناس عرضة للبكاء، حيث يجد المريض متنفسا لهمومه، غير أنه في حالات الاكتئاب الشديدة تستعصي الدموع، حيث يتمنى المريض لوأنه يستطيع البكاء..

قال آخر: البكاء هو  أصدق تعبير عن المشاعر الإنسانية.. فالطفل الصغير يبكي، فنلبي حاجته، وهوأداة تعبيره الوحيدة التي تعوضه عن الكلام والحركة حتى يتمكن من التواصل مع الآخرين.

قال آخر: يؤدي البكاء وظيفة سيكولوجية مهمة بالنسبة للطفل، فهو بمثابة التنفيس الانفعالي والتعبير السلوكي عن مشاعر الغضب أو الحزن أو الرفض لما يتعرض له ويشعر به، وهذا أمر لازم وضروري لإخراج هذه الطاقة الانفعالية المكبوتة.

قال آخر: وكف البكاء أو عدم البكاء قد يكون مؤشراً لكبت هذه الشحنة الانفعالية في النفس، وقد تنتقل إلى اللاشعور حيث ينساها الطفل لكنها لا تختفي تماما، وتبقى لتعبر عن نفسها في الكبر بأساليب رمزية أو مرضية كالقلق والعدوان المدمر الظاهر كلما أتيحت الفرصة للطفل.

قال آخر: لقد وجد ـ حديثاً ـ أن هناك علاقة وثيقة بين الوظائف الفسيولوجية والسيكولوجية للانفعالات عموماً، ووسائل التعبير عنها، سواء بالبكاء أو غيره من الأساليب، فقد تبين مثلاً أن البكاء ينشط الغدد الدمعية، ويغسل مقلة العين ويطهرها، ويقلل من الضغط الذي نتعرض له، كما تبين أنه يؤثر على الأجهزة الفسيولوجية الأخرى مثل الشرايين والأعصاب التي تصبح متوترة في حالة الانفعال، كما تزداد ضربات القلب ومعدل النبض والتعرق ويزيد إفراز الأدرينالين من الكليتين، وهي من المؤشرات الفسيولوجية للقلق والاضطراب الانفعالي لدى الطفل الذي لا تلبث أن تخف حدتها بعد نوبة البكاء وتفريغ الطاقة والشحنة الانفعالية التي لدى الطفل، لذلك يجب ألا ينزعج الآباء والأمهات من بكاء أطفالهم باعتباره أحد وسائل التنفيس.. وبالتعلم الاجتماعي تقل نوبات البكاء لدى الطفل حين يعرف أن البكاء وحده ليس كافياً لتحقيق ما يريد وتغيير العالم المحيط به.

موقف الاعتدال:

ما إن انتهى فريق البكاء من تقرير حججه على فضل البكاء وفوائده العلاجية حتى قام خبير الضحك، ومد يده لخبير البكاء، وعيناه تنهمران، وقال له: بارك الله فيك، لقد تعلمت منك علما عظيما وسلوكا رفيعا وترياقا شافيا.. فما خلق الله لنا البكاء إلا لنبكي.

فرد عليه خبير البكاء، وهويضحك: نفس ما تعلمته مني تعلمته منك، فبورك فيك، وزادك الله من العلم.. وقد عرفت أن الله ما خلق لنا الضحك إلا لنضحك.

ثم قام الفريقان، يصافحان بعضهما، ولم نخرج إلا بعد أن تركناهما فريقا واحدا.

فاستبشرت خيرا، وقلت للمعلم: ما أحلى أن يتصافح المختلفون!

قال: فادع قومك الذين قتلهم الشقاق لأن يجلسوا هذه المجالس.

قلت: هم يجلسون أحيانا.. ولكنهم لا يتصافحون عند الخروج كما يتصافح هؤلاء.

قال: وماذا يفعلون؟

قلت: يتلاكمون ويتصارعون ويمتلئون أحقادا.

قال: فادعهم لجلسات لا يتكلمون فيها.

قلت: وماذا يفعلون؟

قال: يبكون أو يضحكون.

قلت: لم، وما فائدة الضحك والبكاء؟

قال: يبكون على تضييع الوحدة فيما بينهم، والتي أمرهم الله بحفظها.

قلت: ولم يضحكون؟

قال: على تلك السفاسف التي فرقت بينهم، والتي استطاعت أن تحطم الأصول الكثيرة التي تجمعهم.

قلت: فهل ترى في ذلك حلا؟

قال: جربوه.. أليس كل شيء تجربونه؟

قلت: بلى..

قال: فجربوا هذا.

السلام

اقتربنا من المركز الثالث من مراكز التدريب على اللهو، فقرأت لافتة مكتوبا على بابها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً)([134])

ورأيت بجانبها قوما يلهون ويلعبون بأكف ألين من الحرير، وفي أفواههم تنتشر البسمات العذبة، ومن عيونهم يشع بريق السلام الهادئ.

قلت للمعلم: الله.. ما أحلى لهو هؤلاء، لكأنه نابع من بحر السلام العذب.

قال: أجل.. فهؤلاء يلعبون لعب السلام.. وقد اخترعوا من لعب السلام ما يغنيهم عن لعب العدوان التي تنشرونها، فتجرحون بها أيديكم، وتقتلون بها أنفسكم.

قلت: صحيح هذا.. وقد نص على هذا علماء النفس والاجتماع، فمعظم لهونا يمتلئ بالصراع والعدوان والعنف.

قال: بل إن إدمان الصراع الذي امتلأتم به جعلكم لا تستحلون إلا ما يغذي جذور الصراع الذي تعيشونه.

العدوان على الخلق:

رأيت رجلا يقف أمام شاشة تلفاز، ولكنها ليست كشاشاتنا، هي تشبه نافذة مطلة على الجمال، فقلت للمعلم: ما هذا؟

قال: هذه شاشة تلفاز، وهم يسمونها هنا الرائي.

قلت: ائذن لي ـ يا معلم ـ  أن أتفرج فيلما بوليسيا، أو فيلما من أفلام الرعب، أو فيما حربيا، فإني أحب مثل هذه الأفلام؟

قال: أتحب هذه الأفلام؟

قلت: لا أكتمك ذلك، فكل قومي يحبونها، وهم يتابعون أحداثها بشغف عظيم.

قال: ثم يقلدونها في حياتهم.. فتصبح حياتكم بأيدي الشرطة والعسكر والغيلان.

قلت: هذا صحيح.. ولكنا لا نملك من أمرنا شيئا، فقد أصبحت هذه الأفلام جزءا من حياتنا، لا نستحلي غيره، بل لا نتصور وجود غيره.

قال: ولكن مخرجي مدائن السلام أخرجوا آلاف الأفلام.. وكلها في غاية الجمال، ومع ذلك لم تسفك فيها قطرة دم واحدة.

قلت: عجيب هذا.. أيمكن أن يكون هناك فيلم بلا قتلى.. أو بلا سلاح؟

قال: الأفلام كالأحلام تعبر عما يجيش في نفس صاحبها من معان، فإن امتلأ بالسلام أمتلأ ما يخرجه المخرج، أو ما يكتبه الكاتب من السلام.

أمسك بيدي أحدهم، وقال: أنا صحفي من صحفيي الصراع، وقد هداني الله، فتبت، وصرت صحفيا في مدائن السلام.

قلت: فما سر توبتك؟.. أم أنك تؤجلها لعيون الطهارة؟

قال: لا.. سأذكرها الآن.. لقد قمت مرة بإحصاء مشاهد العنف التي رآها المشاهدون خلال أسبوع واحد في فرنسا من شهر أكتوبر 1988، فكانت كالتالي:670 جريمة قتل، 15 حالة اغتصاب، 848 مشاجرة، 419 حالة تراشق بالرصاص أو انفجار، 14 حالة خطف أو سرقة، 32 حالة احتجاز رهائن، 27 مشهد تعذيب، علمًا أني لم آخذ  في الحسبان مشاهد العنف النفسي أو اللفظي أو الإيجابي.

قلت: فما فائدة هذا الإحصاء؟

قال: بعد هذا الإحصاء بحثت فيما تقوله الدراسات الغربية كافة، فوجدت أن الذين يقومون بالأعمال العدوانية هم من المدمنين على مشاهدة برامج التلفزيون العنيفة.. بل قد أثبت باحثان أمريكيان أن معدل انتحار المراهقين ازداد بنسبة 13.5 بالمائة لدى الفتيات و5.2 بالمائة لدى الصبيان خلال الأيام التي تعقب الإشارة أو الإعلان عن وقوع حالة انتحار في الأخبار المصورة أو في أحد الأفلام.

وقد توصلت الدراسات التحليلية إلى  (أن التلفاز بما يعرضه من أفلام ومناظر إجرامية أو انحلالية([135])قد يؤدي إلى انحراف كثير من النشء عن طريق ما تخلفه من خيالات يعيشها، كما تبين من مجموعة ذكور منحرفين قد تناولتهم تلك الدراسة أن أحد الأفلام أثار فيهم الرغبة في حمل السلاح، وعلمهم كيفية ارتكاب السرقات وتضليل البوليس، وشجعهم على المخاطرة بارتكاب الجرائم)([136])  

وفي ولاية ميامي هاجم اثنان من الفتيان الصغار امرأة فضرباها على رأسها بمؤخرة المسدس، وما إن أغمي عليها حتى قاما بركلها بأرجلهما تماماً مثلما شاهدا في الأفلام البوليسية([137]).

وفي واشنطن قام أحد الصغار بسحب وقود سيارة جارهم وصبه عليه وهونائم، ثم أشعل الثقاب، ورماه على الجار الذي أخذ يركض والنار تلتهمه، وكان عمر هذا الصغير ست سنوات([138]).

قلت: فكيف تبت بعد أن علمت هذا؟

قال: ستعرف سر ذلك عندما تغتسل في (عيون الطهارة)

قلت: والآن؟

قال: دعني أواصل بحثي في البدائل.. فلا خير فيمن يبحث في الشر، ثم لا يبحث في درئه.

العدوان على الصحة:

اقتربت مع المعلم من الرائي العجيب، والذي لا يختلف عن أي نافذة من النوافذ، فسألت الواقف أمامه: ما هذا التلفاز العجيب؟

قال: تقصد هذا الرائي؟

قلت: أجل..

قال: لقد اخترعه بعض المهندسين من أهل الله.. وقد صممه من أعشاب البحر، وقطر المطر، وأطياف السماء.

قلت: ألم يمزجه بألوان قوس قزح؟

قال: هو  يعمل بتقنية قوس قزح.

قلت: فاشرحها لي لأعلمها لقومي، فنتخلص من الأجهزة التي تدمر صحتنا، وتنشر العمى في أبصارنا.

قال: ذلك يستدعي مقدمات نظرية كثيرة في علوم لا تتقنونها.

قلت: نحن نتقن الفيزياء والكيمياء والرياضيات.. وهي الأسس التي تقوم عليها علومنا.

قال: وأين علم السلام من هذه العلوم؟

قلت: السلام ليس علما.. فكيف ندرسه لطلبة التقنيات؟

قال: لئلا يخترعوا إلا ما يتناسب مع السلام.

قلت: لا.. لم نعلمهم ذلك بعد.

قال: فلن يفهموا إذن جميع ما يرتبط بهذا الجهاز من نظريات.

قاطعنني الصحفي التائب، وقال: أتدري ما السموم الصحية التي تنشرها أجهزتكم؟

قلت: علمني مما علمك الله.. فإني أراك خبيرا في هذه الأجهزة.

قال: وخبرتي هي سبب توبتي.

قلت: فما في أجهزتنا من مظاهر العدوان على الصحة؟

قال: لقد بينت بعض الدراسات أن لأجهزة التلفزيون دورا فعالا في إحداث السرطان مرض العصر الذي حار فيه الأطباء([139]).

وقد وجَّهت صحيفة الأهرام([140]) للأمهات الحوامل تحذيراً  من الجلوس أمام التلفزيون كي لا يصاب الجنين بإشعاعاته، فقالت:(أكدت نتائج بحث علمي مصري أن تعرض الأم الحامل لمصادر الإشعاع الشديد الموجودة حولنا في كل مكان ينتج عنه تشوهات في الأجنة قد تتسبب في موت الجنين قبل أو بعد الولادة)([141])

ولهذا ينصح الأطباء السيدات الحوامل، ومثلهم الأطفال بعدم الجلوس لفترات طويلة أمام أجهزة التلفزيون الملون الموجودة حالياً في معظم البيوت؛ إذ به مصدر للإشعاع القاتل للجنين، كما أنه يؤدي إلى ضعف الإبصار عند الأطفال إضافة إلى تأثيره على عدسة زجاج النظارة الطبية ومن ثَمَّ درجة ملاءمتها لقوة العين. 

وقد قال الدكتور (كروب) قبل موته:(إن شركات التلفزيون تكذب وتخدع الناس عندما تزعم أن هناك حداً أدنى للطاقة الإشعاعية لا تضر.. فالعلم بعد التجارب العديدة يقول: إن أية كمية من الإشعاع مضرة بالجسم على درجات متفاوتة، وذلك حسب نسبة التعرض والجلوس أمام التلفزيون)

وأيّد كل من د. هاسل، ود. لامب أقوالَ د. كروب، وطالبت مجلة (الاقتصاد) التي نقلت هذه المعلومات في نهاية مقترحاتها أن على كل أب وكل أم أن يتناولوا مطرقة ضخمة، ويحطموا بها كل ما لديهم من أجهزة تلفزيونية)([142]

قلت: أكل هذه أخطار تنتجها هذه الأجهزة؟

قال: ليس ذلك فقط بل هناك أمراض يمكن تسميتها بأمراض الجلوس الطويل أمام التلفزيون، ومنها الأمراض التي تنشأ عن ركود الدورة الدموية بسبب تقييد حركة الجسم، وحرمانه من الرياضة والنشاط العضلي.

ومنها الترهل والسمنة التي هي أم الأمراض، وهي نتيجة للطعام التلفزيوني المتميز بالالتهام السريع، والازدراد النهم لكميات كبيرة من المأكولات والمسليات.                                  

ومنها ما أظهرته الفحوص الطبية للأطفال المتقدمين للمدارس المغرمين بالجلوس الطويل أمام التلفاز إصابتهم من انحناء الظهر وضعف البصر([143]). 

قلت: أكل هذه أخطار الجلوس الطويل؟.. يوشك أن تنشأ أجيال عاجزة في شبابها.

العدوان على النفس:

قال: ليس ذلك فقط، بل إن له أخطارا كبيرة على الصحة النفسية.

قلت: الصحة النفسية أيضا.. أليس التلفزيون من وسائل التسلية التي تملأ النفس بالسعادة والراحة؟

قال: ذلك عندما يسلم التلفزيون.. أما تلفزيونكم، فإن الدراسات العلمية التي أجريت لدراسة آثار التلفاز على الصحة النفسية تجمع على أنه يدرب مشاهديه على الكسل الذهني، ويشيع فيهم روح السلبية، ويجعلهم إمَّعات يميلون مع الريح حيث مالت، وأنه ينفث في روعهم روح (عدم المسؤولية) والاستسلام، والانهزامية، ويصرفهم عن معالي الأمور، ويشغلهم عن الأهداف السامية، ويزيد رقعة الخواء الفكري في نفوسهم([144]).

وهو يولد الغلظة في المشاعر، والبلادة في الحس، كما تؤثر المسلسلات البوليسية ومشاهد العنف والقتل على نفسية الأطفال([145]).

وهو يظهر للصغار أن الكبار يحيون حياة حافلة بالصراع والتنافس فيشوه مفاهيمهم مبكراً.  

وهو يعود على الضجيج والصخب الذي يضر بحاسة السمع، فيسبب كثيراً من حالات الصداع والاضطرابات العصبية والتوتر.

بينما هو  يحدثني إذ حضر شيخ جليل، ما إن رآه القوم حتى نهضوا من أماكنهم يقبلون يده، فسألت المعلم عنه، فقال: هذا مرشد هذا الجناح، وكل ما تراه من اختراعات هذا الجناح يرتبط بنظرياته، فقد انطلق من السلام ليملأ حياة الناس بالسعادة والراحة.

اقتربت منه فسمعته يقرأ قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات:11)

ثم قال: إياكم وإراحة أنفسكم باللهو الفارغ الذي يملأ حياة غيركم بالتعاسة.. فلا يحق لك أن تضحك، وقلب أخيك يسيل دما، ولا يحق لك أن تضحك، وقد ملأت قلب أخيك بالأسى.

فلذلك لا يصح أن تجعل من أخيك أضحوكة أو مسخرة، تلهو به وتلعب كما يلهو المحجوبون بالكرات الجوفاء.

اسمعوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(بحسْب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)([146]

احفظوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة  عندما وصفت إحدى نسائه بالقصر:(يا عائشة، لقد قلت كلمة لومُزجت بماء البحر لمزجته)، وقالت : وحكيت له إنساناً ـ أي قلدته في حركته أو صوته أو نحو ذلك  ـ فقال:(ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا)([147])

أما ما يفعله المحجوبون من وضع المرعبات المخيفات في اللهو، ليملأوا قلوب الناس بالفزع، فليس من السلام ولا من دين السلام، ألم يسمعوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( لا يحل لرجل أن يروِّع مسلماً)([148]

العدوان على المال:

كان يتكلم بخشوع، وكان القوم مطأطئي رؤوسهم كأن على رؤوسهم الطير، فلم أجد نفسي إلا وأنا أصيح من غير أن أشعر: يا من هداك الله، فطهرت أرض السلام من مخترعات الصراع.. نبئني عن سر اللهو الذي ملأ حياتنا، فنحن نبحث عن المال في كل حركة وسكنة.

قال: ما تقصد؟

قلت: مسابقات كثيرة تملأ شاشاتنا وهواتفنا لتترك أثرها في حياتنا.

قال: وما أثرها؟

قلت: لهث وراء المال لا يرتوي، وجري وراء الذهب لا ينقطع.

قال: فحدثني، فقد زرت مدائن الصراع، ولكني انشغلت عنها بحياتي في عالم السلام.

قلت: إعلانات كثيرة تملأ شاشاتنا الصغيرة والكبيرة والمتوسطة تدعونا كل لحظة لكسب الآلاف، ومئات الآلاف، والملايين.

قال: تقصد المسابقات.

قلت: أجل..

قال: هي شيء طيب.. فكيف تشاركون فيها؟

ضحكت، وقلت: ما بالك أغرك إعلامنا.. أم تريد أن تشارك في هذه المسابقات.. إن ذلك سهل جدا فما عليك إلا أن تتصل برقم من أرقام الهواتف المعلنة.

قال: وهل الأجر الذي تطلبه هذه الهواتف سهل ميسور؟

قلت: كلا.. فالاتصال بتلك الأرقام ليس بالأجور العادية، وإنما بأجور مرتفعة جداً.

قال: ومن ينال ثمار تلك المكالمات؟

قلت: الجهة التي أجرت المسابقة، وجزء منها لشركة الإتصالات.

قال: فما هي الأسئلة التي تطرحها مثل هذه المسابقات؟

قلت: لا.. ليس هناك أسئلة تقريبا..

قال: فلم كانت مسابقة إذن؟

قلت: هدف المسابقة هو أن تتصل.. وهدف الاتصال هو أن تدفع مالا، ألا تعلم بأن الذين يتصلون بهذه الجهات يغرمون العشرات، أو المئات، وأحياناً الآلاف، يمنيهم الشيطان بالحصول على المبالغ الضخمة، والسيارات الفاخرة، وغير ذلك مما هو  معلن عنه.. وهذه الجهات تنال بسببهم أموالا ضخمة.

وبعض هؤلاء رأوا أن الدعوة إلى الإتصال فقط قد لا تكفي للإغراء، فوضعوا أسئلة ساذجة ودعوا إلى الاتصال للإجابة عنها.

بل إنهم يجعلون الأسئلة دينية أحيانا، ويسمون هذا النوع من المقامرة باسم:(مسابقة رمضان) 

قال: فأين الرقابة؟

قلت: الرقابة.. ماذا تعني.. الرقابة لا علاقة لها بهذا.. بل إن هذا النوع من المسابقات لا يخضع لأي جهة رقابية، ولذلك يعلن المقامرون ما شاءوا، حتى أعلن بعضهم عن جوائز بعشرات الملايين من الدولارات، والمخدوعون بهذه الإعلانات لا توجد أي جهة تضمن لهم الحصول على شيء مما يأتي في الإعلانات، بل يمكن أن يغرموا مبالغ المكالمات الهاتفية، ثم يظهر أن الملايين كانت مجرد سراب خدعوا به.

قال: فهذا من القمار الصريح، ألم يسمعوا ما ورد في النصوص من النهي عن القمار؟

قلت: بلى.. ولكنهم يأبون إلا أن يلهوا؟

قال: فهل يلهون بمد أيديهم لجيوب الناس، ألم يسمعوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لايأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولاجاداً، ومن أخذ عصا أخيه فليرُدَّها)([149])

قلت: بلى سمعوه.. ولكنهم وجدوا من التأويلات ما يرفع حكمه.. ولكن حدثني ما البديل الذي وضعتموه.. ألا تجرون على هذه المرائي مسابقات؟

قال: بلى.. نجريها.. وكثيرا ما نجريها.. بل إننا نشغل حياة الأصحاء والمرضى بها.

قلت: فلم تعاتب إعلامنا إذن.. وأنتما في الهم شرق.. ألم تسمع قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}(الصف:3)؟

قال: بلى.. وقد سمعنا معه قوله تعالى:{ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}(المطففين:26)، فرحنا نضع الحوافز لمن يعلم علما، أو ييسر حياة، أو يكتشف دواء.

قلت: فأنبئني من ذلك ما أبشر به قومي ليتخلوا عن مسابقات الصراع.

قال: ستعرف ذلك عندما تملك مفاتيح المدائن.

العدوان على الحيوانات:

التفت للقوم الذين كانوا يتحلقون حوله كما تتحلق اللآلئ حول التيجان، وقال ـ وهو يشير إلي ـ : لقد زرت أرض هذا في يوم من الأيام، فرأيت من العجائب ما أذهلني وملأ حياتي بالأسى.

قلت: وما رأيت؟

قال: رأيت قوما يركبون ثيرانا يطعنونها بعد أن يذيقوها من ألوان العذاب ما يذيقوها، والناس رجالهم ونساؤهم يصفقون ضاحكين، وكأنهم لم يروا شيئا.. أو كأن دماء الثور المسكين لا تعني لهم أي شيء.

طأطأت رأسي خجلا.. فقال: ورأيت قوما معهم ديوك.. كل رجل يحمل ديكا.. ثم يحرضون بينها.. لتمتلئ قاعة اللعب دماء، وتمتلئ أفواهمم بسمات.

طأطأت رأسي خجلا.. فقال: ورأيت قوما يحرشون بين الكلاب.. وقوما بين الكباش.. وقوما بين القطط.. وقوما يجعلون هذه الحيوانات المسكينة أغراضا يستهدفونها، فتمتلئ قلوبهم بالنشوة إذا ما أصابوا مقاتلها.

قال بعض الحاضرين: ويحهم.. ألم يسمعوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لعن من أتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً)([150]).. ألم يسمعوا نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن التحريش بين البهائم، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن التحريش([151]) بين البهائم([152]).

قال: اسأل هذا.. فهو أدرى بقومه.

قلت: بل.. سمعوه.. ولكن الفطر المنكوسة لا يفيدها السماع، ألم تسمعوا قوله تعالى:{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} (لأنفال:21)؟

الأدب

اقتربنا من المركز الرابع من مراكز التدريب على اللهو، فقرأت لافتة مكتوبا على بابها قوله تعالى:{ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ } (الأعراف:51)

ورأيت مركز اللعب لا يختلف كثيرا عن المسجد، وأدوات اللعب لا تختلف كثيرا عن المسابح التي يذكر بها الله، أما رئيس الملعب، فكان كخطيب على المنبر يتلو آيات الله، ويجمع القلوب على الله.

قلت: ما هذا ـ يا معلم ـ  أنحن في مسجد، أم في ملعب؟

قال: وما يمنع الملعب أن يكون مسجدا، أو المسجد أن يكون ملعبا؟

قلت: لا.. لقد أمرنا بإنزال الأشياء منازلها.

قال: وكلا الوظيفتين تصلحان للملعب والمسجد.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أليس الملعب هو  الذي تمتلئ فيه القلوب بالمسرة، والأرواح بالراحة؟

قلت: بلى..

قال: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعو بلالا لإقامة الصلاة: (أرحنا بها يا بلال)، فقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة محلا للراحة.

قلت: ولكن الله تعالى قال:{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أو لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْووَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (الجمعة:11)، فقد اعتبر ما عند الله خيرا من اللهو والتجارة.

قال: ذلك صحيح.. وهو يدل على ما ذكرنا، فما عند الله من الراحة يفوق كل ما عند البشر من وسائل اللهو.

قلت: فكيف جمع هذا المركز بين اللهو والعبادة، وبين اللعب والأدب؟

قال: ذلك شيء بسيط، لم يبتدعوه ابتداعا، بل ساروا على هدي الصالحين فيه.

قلت: كيف ذلك، لم أعلم أن من الصالحين من سنوا من اللهو ما يملأ النفوس بالراحة؟

 قال: لا.. لقد سنوا.. ألم يكن الصالحون يجتمعون على سماع القصائد التي تملأ القلوب محبة لله، وانشغالا به عما سواه؟

قلت: بلى.. وما أجمل الألحان التي نقلت لنا من تلك القصائد.

قال: أتدري سر اهتمام الصالحين بهذا؟

قلت: لا..

قال: لقد علموا أن اللهو قد يشغل عن الله، فجعلوا من اللهو حاديهم إلى الله.

قلت: ولكن بعض قومي يشنعون على هذا، ويعتبرونه من البدع.

قال: لا.. من قال هذا؟.. هذا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: هم يستدلون على ذلك بقوله تعالى:{ وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}(لأنفال:35)، فقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أن المشركين كانوا يجعلون صلاتهم عند البيت تصفيقا وصفيرا([153]).

قال: هذا استهزاء بالدين.. ومن فعل هذا فقد وقع فيما وقع فيه المشركون من تحريف للدين.

قلت: ولكن هؤلاء أيضا يجعلون من الدين غناء وأناشيد.

قال: إن حرفوا الدين وقعوا فيما وقع فيه المشركون من التحريف، وإن لم يحرفوا، وإنما اتخذوا من الإنشاد أسلوبا من أساليب التريبة والترفيه فقد أحسنوا، بل أصابوا السنة.

قلت: السنة !؟.. كيف هذا؟.. الحكم بالسنية صعب.

قال: لا.. ليس صعبا.. بل الحكم بالبدعة أصعب منه.

قلت: فما النص الدال على السنية؟

قال: بل قل: ما النصوص الدالة على السنية؟

قلت: أهناك نصوص لا نص واحد؟

قال: أجل.. ألم تر كيف كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخندق؟

قلت: أجل.. لقد اجتهدوا جهدا عظيما، وقد روى البراء  قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب عنى جلدة بطنه ([154]).. وفي هذا دليل على الجهد العظيم الذي كان يبذله.

قال: فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخفف على أصحابه، هل كان يدعوهم إلى نوادي اللهو واللعب؟

قلت: كيف تقول هذا؟.. لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يشاركهم في أراجيزهم التي ينشدونها ليخففوا بعض التعب الذي يصيبهم، ففي الحديث أن الأنصار والمهاجرين كانوا يرتجزون وينقلون التراب على متونهم، وهم يقولون:

نحن الذين بايعوا محمداً       على الإسلام ما بقينا أبداً

فيجيبهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة      فبارك فى الأنصار والمهاجرة([155])

وقد كانت مشاركة صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة  أكبر حافز لهم على تلك التضحيات التي قدموها، وقد كانوا يقولون عندما يرون جهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

لئن قعدنا والنبي يعمل    لذاك منا العمل المضلل

وقد كان من أراجيز المسلمين في ذلك المحل الشديد:

والله لولا الله ما اهتدينا

  ولا تصدقنا ولا صلينا

إنا إذا قوم بغوا علينا

  وإن أرادوا فتنة أبينا

فأنزلن سكينة علينا

  وثبت الأقدام إن لاقينا

قال: أتعلم المعاني العظيمة التي تحتوي عليها هذه الأراجيز؟

قلت: أجل.. إنها معان عظيمة تملأ القلوب شعورا بالله ومحبة له وسكونا إليه.. إنها لتوضع على جبل الهموم، فيندك، وعلى طوفان الآلام، فيغور.

قال: فقد عرفت سنية اللهو التعبدي..

قلت: سنية أن أعبد الله باللهو؟

قال: أجل.. فالله تعالى ذم اللهو في القرآن الكريم، وذم الدنيا معه لأنه سبيل الغفلة وطريق الحجاب، فإذا صار اللهو عين اليقظة رفعه الله ليصبح عين القرب.

قلت: فهمت هذا.. وهو نفس ما ذكرته لي في النوم.. فقد عرفنا أن النوم ليس إلا عبادة لا تختلف عن سائر العبادات.

قال: وقد أدرك أهل السلام هذا.. فجعلوا هذه القاعة خاصة بهذا النوع من اللهو يعالجون به المرضى ويحفظون به الأصحاء.

اللهو بالدين:

بينما نحن كذلك إذ دخل شيخ مهيب لا يختلف عن المرشد السابق، وقد علاه الغضب، فاحمر وجهه، وانتفخت أو داجه، فبادر إليه القوم يسألونه عن سر غضبه، فقال: لقد نزلت اليوم مدائن الصراع، فرأيت عجبا.. وسمعت عجبا..

فقيل: ما رأيت؟.. وما سمعت؟.. لقد أفزعتنا.

قال: جلست مع بعضهم، فسمعته يحكي نكتا كثيرة تجعل من شعائر الدين لعبا وتسلية وضحكا.

قلت: فاذكر لي بعض ما سمعت.

نظر إلي شزرا وقال: أتحسبني مجنونا.. كيف أسمح للساني أن يستهزئ بدين الله.. ألم تسمع قوله تعالى حاكيا عن موسى u:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}(البقرة:67)، فقد استعاذ بالله من الجهل إن كذب على الله، أو اتخذ دين الله هزوا.

ألم يحذر الله من موالاة المستهزئين بدين الله، فقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أو تُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أو لِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}(المائدة:57 ـ 58)

ألم يخبر الله تعالى عن المصير الذي أعده لهؤلاء المستهزئين، فقال تعالى:{ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً}(الكهف:106)

قلت: ولكن هؤلاء لا يقصدون ما يذكرون، بل هم ينفسون على نفوسهم بعض الكرب، ولا يقصدون الكفر.

قال: ألم يجدوا إلا دين الله يهزؤون به ويسخرون.. ما الفرق بينهم وبين من قال الله تعالى فيهم:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (التوبة:65)

قلت: أتعلم يا شيخ أن كثيرا من وسائل الإعلام عندنا لا تجد ضالتها من التنفيس على نفسها وعلى الناس إلا بمثل هذا؟

قال: فبشرهم..

قلت: أيفعلون هذا، ثم أبشرهم؟

قال: بشرهم بالهوان، ألم تسمع إلى قوله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْو الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أو لَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}(لقمان:6)

اللهو بالأخلاق:

أمسك صحفي السلام بيدي، وقال: هو  مغضب، فلا تناقشه، وتعال أريك شيئا في هذه القاعة ستسر له أيما سرور.

سرت معه، فرأيت صبية يمثلون تمثيلية جميلة تشع بالنبل والكرم والأخلاق الرفيعة، وفيها من اللهو ما ملأ صدري بالانشراح، فقلت: الله.. ما أسهل الخير.. هؤلاء صبية، ومع ذلك نجحوا في إيصال ما يريدون من اللهو والخير إلى نفسي.

قال: فقارن هذا بما يفعله قومك.

قلت: وما يفعلون؟

قال: كثير من الأطفال في بداية سن المراهقة أو قبلها يعتبرون في تلفزيونات الصراع مصدرا رئيسيا للمعلومات حول السلوك المنحرف.

وهم يقتلون بذلك الحياء الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم:(إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت)([156])

قلت: أجل.. فمن أخطر مفاسد التلفزيون هو  القضاء على ذلك الخلق الفطري الأصيل.


([1])   وهو كرب عظيم عبرت عنه كما ينص القرآن الكريم بقولها:{ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً}(مريم:23)

([2])   تتناسب خاصة مع حاجة الحامل لبعض هذه الحركات، وهو نفس ما ينصح به الأطباء الحامل قبل الوضع من المشي، والقيام ببعض التمرينات الرياضية البسيطة، في الشهر أو الشهرين الأخيرين من الحمل؛ لتيسير عملية الولادة.

([3])   البخاري.

([4])   البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري.

([5])   البخاري ومسلم.

([6])   انظر:صيد الخاطر، مواضع متفرقة منه، وبتصرف.

([7])   أبو داود.

([8])   البيهقي في الشعب وابن حبان.

([9])   مقالة من (Nutrition Action Health) لشهر نوفمبر من عام 1998م

([10])   وهناك كتاب بعنوان (Feeding the whole family) للمؤلفة (Cynthia Lair) يشرح فيه بوضوح أضرار السكر.

([11])   يعد زيت الزيتون من أغنى الزيوت النباتية من حيث القيمة الغذائية فهو يعطي قيمة حرارية عالية في غذاء الإنسان (1 غرام منه يعطي 224 حريرة).

([12])   أحمد.

([13])   مسلم وابن ماجة.

([14])   مسلم، والترمذي.

([15])   مقتبسات من مطبخ لينور الطبيعي (Lenore Natural Cisine).

([16])   مسلم.

([17])   البخاري ومسلمِ.

([18])   الترمذي، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

([19])   موقع الدكتور محمد على البار على شبكة الإنترنت.

([20])   البخاري ومسلم.

([21])   مسلم.

([22])   البخاري ومسلم.

([23])   هو جميل القدسي الدويك، وقد استنبطنا ما نورده هنا من نص حوار معه في مجلة المجالس.

([24])   هو الدكتور عبد الباسط سيد، ولد في أسيوط في مصر عام 1943، تخرج من كلية العلوم جامعة أسيوط عام 64، ثم حصل على البكالوريوس في الطب من جامعة القاهرة عام 69، ثم على الماجستير في التمثيل الغذائي من جامعة القاهرة عام 1971، حصل بعد ذلك على الدكتوراه في مجال الفيزياء الحيوية الطبية من جامعة ستوكهولم في السويد عام 1978، صدر له 216 بحثاً نشرت في المجلات الدورية المحلية والعالمية.

([25])   رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

([26])   انظر: مع الطب في القرآن الكريم، الدكتور عبد الحميد دياب. 

([27])   الترمذي، وقال: حديث حسن.

([28])   مسلم من حديث جابر الطويل.

([29])   هو جميل القدسي الدويك، وقد استنبطنا ما نورده هنا من نص حوار معه في مجلة المجالس.

([30])   الخل ـ وبخاصة خل التفاح ـ له فوائد عظيمة، فهو يقلل دهون الدم، وذلك إذا أخذ بواقع ملعقة على ماء السلاطة الخضراء مع الأكل، فهو يذيب الدهون، وذلك لأن الخل هو حمض الأستيك، والمركب الوسطي في جسم الإنسان، والذي له علاقة بالبروتين،والدهون والكربوهيدرات.. وتناول الخل بصفة منتظمة في مكونات الطعام، أي في السلاطة الخضراء أو ملعقة صغيرة على كوب ماء، و بخاصة إذا كان خل التفاح، يحافظ على مستوى دهون الجسم، كما يقلل من فرصة تصلب الشرايين أو تنعدم تماماً، لأنه يحول الزائد منها إلى المركب الوسطي وهو الأسيتوأسيتات الذي يدخل في التمثيل الغذائي.

وخل التفاح أفضل أنواع الخل، لأنه بجانب حمض الأستيك المكون الأساسي له، فإنه يحتوي على عديد من الأحماض العضوية اللازمة للجسم في التمثيل الغذائي، إلى جانب العديد من المعادن اللازمة للجسم.

وقد جاء في كتاب الطب الشعبي للدكتور جارفيس أن الخل مطهر للأمعاء من الجراثيم، كما أنه مطهر لالتهابات حوض الكلى و المثانة، حيث ذكر أن الخل يقضي على الصديد الموجود بالبول.

 ولهذا ثبت عن رسول الله a أنه كان يأكل الخل مع الزيت، في عام الرماد كان عمر لا يأكل إلا الزيت والخل.

([31])   مسلم.

([32])   ابن ماجة.

([33])   أبو داود والطبراني في الكبير.

([34])   مسلم وغيره.

([35])   انظر: كتاب (الصلاة والرياضة والبدن) لعدنان الطرشه.

([36])   رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة.

([37])   بحث للدكتور. محمد وليد الشعراني استشاري جراحة المفاصل والعظام في قطر، قام بإعداد البحث والتعديل الطفيف عليه فراس نور الحق.

([38])   مسلم.

([39])   انظر: موقع قناة الجزيرة 5/4 2003م، موقع إسلام أون لاين 20/8/2001م.

([40])   الجزيرة نت 5/4/ 2003م.

(1) ابن ابي شيبة، ابن ماجة.

([42])   مسلم.

(2) أحمد.

([44])   مسلم.

(2) أحمد.

([46])   البخاري.

([47])   الكتاب المصنف، ج 12، ص 508.

([48])   من المضار الناتجة عن مثل هذه النوع من الرياضة تسببها في أمراض عصبية ونفسية تصيب اللاعب نتيجة تعرضه لضربات الرأس على المخ والجهاز العصبي.

ولا أدل على ذلك مما حدث لأسطورة الملاكمة محمد علي كلاي حين أصيب وهو في سن الخمسين بالشلل الرعاش أو مرض باركنسون نتيجة للضربات التي تلقاها في رأسه أثناء الملاكمة والتدريب، وأحصت دراسة عدد هذه الضربات التي تلقاها في رأسه أثناء الملاكمة والتدريب، فكان عددها حوالي 29 ألف ضربة.

ويمكن مقارنة ضربات اليد إلى الرأس باصطدام الكرة بالرأس عند لاعبي كرة القدم.

ففي دراسة مهمة قام بها العلماء في فنلندا.. تم فحص مجموعة كبيرة من لاعبي كرة القدم باستخدام أشعة الرنين المغناطيسي حيث تبين وجود خلايا أصابها التلف والضمور في الجهاز العصبي بنسبة كبيرة للاعبين رغم صغر سنهم نسبياً وتم تفسير ذلك لأنهم يستخدمون رؤوسهم في ضرب الكرة وكثيراً ما تكون سرعتها شديدة حين تصطدم برأس اللاعب.

وهذه الدراسة أكدت أن 16 بالمائة من بين اللاعبين الذين تم فحصهم لديهم أعرض فقدان التركيز والذاكرة قبل سن 35 عاماً، وتقول الدراسة: أن اللاعب في مباريات كرة القدم يضرب الكرة برأسه بمتوسط 6 مرات في المباراة الواحدة، ومعنى ذلك تعدد المرات التي تصطدم فيها الكرة بشدة برأسه تؤثر علي المخ بما يسبب التلف للخلايا العصبية.

وتذكر الدراسة أيضاً أن وزن الكرة يمكن أن يزيد إذا ابتلت بالماء، وسرعة الكرة تصل إلى 74 ميلاً في الساعة، وهذه السرعة مع الوزن يمكن أن تؤدى للإصابة.. ويرى بعض خبراء كرة القدم أن كثير من اللاعبين لا تبدو عليهم أية أعراض نتيجة لعب الكرة بالرأس إلا في حالة الإصابات.. لكن أحدهم ذكر أن كثيراً من اللاعبين يبتعدون تماماً عن استخدام الجزء القوي بالجبهة في استقبال الكرة وبمرونة تمنع الإصابة في الرأس والتي يمكن أن تشكل خطورة على خلايا المخ.

انظر استشارة نفسية لهذا للدكتور لطفي الشربيني، استشاري الطب النفسي، الإسكندرية بعنوان تأثيرات كرة القدم من النواحي النفسية والعصبية.

([49])   الفروسية لابن القيم: 87.

([50])   يتناضلون: أي يتسابقون ويتنافسون في رمي النبال.

([51])   البخاري.

([52])   مسلم.

([53])   المعجم الكبير، ج2، ص 193.

([54])   لم أجد الحديث، وقد أورده السيوطي في [ الباحة في فضل السباحة، تحقيق مجدي فتحي السيد، دار الصحابة للتراث،1411هـ، ص23 ]،وقد ألَّفه جلال الدين السيوطي في فضل السباحة جَمعَ فيه الآثار التي وردت في فضل السباحة والحث عليها.

([55])   الفروسية، ابن القيم، ص 37

([56])   المصنف، عبد الرزاق الصنعاني، ج 11، ص 444 .

([57])   البخاري ومسلم.

([58])   الديلمي من رواية أبى نعيم وغيره.

([59])   البخاري.

([60])   شدوا فم القرب.

([61])   أي غطوه.

([62])   البخاري.

([63])   البخاري.

([64])   أي غير محاط بحاجز أو جدار.

([65])   الترمذي.

([66])   البخاري ومسلم.

([67])   رواه أبو داود.

([68])   هو ضوء الشمس.

([69])   صححه الحاكم ووافقه الذهبي.

([70])   البخاري ومسلم.

([71])   مسلم.

([72])   البخاري ومسلم.

([73])   ابن السني وأبو أحمد ابن عدي في الكامل والطبراني في الكبير.

([74])   يتفق علماء النفس على أن اضطرابات النوم من أهم وأقسى الاضطرابات التى تصيب الإنسان، وهم يرجعون أسبابها إلى أمرين:

إما أسباب عضوية نتيجة لأمراض عضوية تصيب الإنسان مثل نوبات الصرع الحادة أو آلام الأسنان أو حساسية الصدر أو ما شابهها…

وإما إلى اضطرابات نفسية وخاصة الاضطرابات المزاجية مثل الاكتئاب الذى يبدأ غالبا بنوبات من الأرق إذا لم تعالج فى حينها نتج عنها بعض الاضطرابات النفسية.

([75])   الترمذي، وقال: هذا ليس إسناده بالقوي.

([76])   انظر: د.ظافر العطار: اضطجع على شقك الأيمن مجلة طبيبك كانون1-1968. والمجلة الطبية العربية: أوضاع النوم الخاطئة ع:196-1993، د.أحمد حمدي الخياط: فن الصحة والطب الوقائي جامعة دمشق، و د.إبراهيم الراوي:النوم على الجهة اليمنى مجلة حضارة الإسلام المجلد؛16،العدد 9/10-1975.

([77])   الترمذي بسند حسن.

([78])   ابن ماجه.

([79])   أحمد والترمذي.

([80])   البخاري ومسلم.

([81])   مسلم.

([82])   ابن ماجة.

([83])   ابن السني.

([84])   البخاري ومسلم.

([85])   انظر: مع الطب في القرآن الكريم، الدكتور عبد الحميد دياب، الدكتور أحمد قرقوز.

([86])   ينص العلماء على أن في الدماغ ما يسمى بالساعة البيولوجية التي تجعلنا نستيقظ من النوم في ساعة محددة كل صباح، وتشعرنا بالنعاس في الوقت ذاته من كل مساء إذا ما اعتدنا على ذلك.

ولا ينفرد الإنسان بوجود هذه الساعة بل هي موجودة عند الحيوانات أيضا، فمن المعروف أن الصراصير والبوم والخفاش والجرذان تنشط ليلا وتهجع في النهار، بينما الحيوانات الأخرى يكون نشاطها الأعظم أثناء النهار.

وقد تم نقل نحلات من منطقة باريس إلى نيويورك، فلوحظ أنها تنطلق للحقول لجمع الرحيق في نيويورك عندما يحين موعد جمع الرحيق في باريس، وليس موعد الجمع في نيويورك، إذ أن ساعتها البيولوجية ما زالت مبرمجة على توقيت باريس.

وعندما ينتقل أحدنا غربا إلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية، حيث يتأخر الوقت نحو 12 ساعة، نلاحظ أنه ينشط عندما يحين منتصف الليل. فجسمنا مبرمج لأن نكون نشيطين في الساعة 12 ظهرا حسب توقيت بلادنا، أي عندما ينتصف الليل في نصف الكرة الآخر، والعكس صحيح. من أجل ذلك تضطرب حياة من يضطر بحكم عمله إلى الانتقال باستمرار شرقا وغربا، كما هو الحال مع أطقم الطائرات، وكذلك حياة من يضطرون للقيام بمناوبات ليلية ونهارية كالممرضات. وينطبق على ذلك من يحيلون ليلهم إلى نهار ونهارهم إلى ليل. انظر: من أسرار عالم النوم، الدكتور حسان شمسي باشا، من موقعه على الإنترنت.

([87])   الطبراني في الكبير.

([88])   أحمد.

([89])   الحاكم.

([90])   أحمد.

([91])   .

([92])   انظر: من أسرار عالم النوم، الدكتور حسان شمسي باشا، من موقعه على الإنترنت.

([93])   الشرق الأوسط: العدد ـ 6247.

([94])   أحمد.

([95])   مسلم.

([96])   البخاري.

([97])   أحمد.

([98])   انظر: أبحاث الدكتور إبراهيم الراوي في مجلة الحضارة العددان 6 ـ10

([99])   الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الطب.

([100])   من المحاضرة العلمية (صورة من إعجاز الطب والوقائي) التي ألقاها الدكتور حسان شمسي باشا في المؤتمر العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة الذي عقد في دبي عالم 2004م.

([101])   يورده البعض حديثا، وهو خطأ، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات (3/69). والسيوطي في اللآلئ المصنوعة (2/279). والذهبي في ترتيب الموضوعات (839).

([102])   مجلة المجتمع، 1437، وقد ذكرت أن اكتشاف الجين المسؤول عن اضطرابات النوم، جاء بمساعدة نتائج تم الحصول عليها عن طريق معرفة الخريطة الجينية لذبابة الفاكهة، وهو جزء من مشروع الجينوم العملاق الذي تم الكشف عنه في السنوات الماضية.

([103])   وقد حصل هذا بالفعل، وكمثال على ذلك ما ذكرته مجلة « النفس المطمئة » في بعض أعدادها من أنه أصبح في إمكان العاملين في أنظمة المناوبات والصغار والكبار الذين يعانون من قلق واضطرابات النوم الأخرى تنظيم دورات النوم و اليقظة و أنماطها في الليل و النهار من خلال تعاطي مادة هرمونية يفرزها الجسم بصورة طبيعية.

وأوضح الباحثون أن هرمون الميلاتونين الذي يتم إنتاجه و إفرازه بشكل رئيسي في الضوء الخافت أثناء الليل قد اثبت فعاليته في تنظيم و تقديم مواعيد النوم والاستيقاظ للأشخاص الذين يشكون من أنماط نوم متأخر، وفي علاج العميان والمبصرين الذين يعانون من اختلال النوم واليقظة خلال الأربع والعشرين ساعة.

و تقترح التقارير الطبية إمكانية الاستفادة من هرمون الميلاتونين في تنظيم دورات النوم والاستيقاظ عند الأطفال المصابين بنقص معين أو اضطرابات عصبية ومشكلات في النمو.

و أجريت الدراسة التي هدفت إلى اختبار قدرة ثلاث جرعات مختلفة من الميلانين ( 1 مليغرام، 10 مليغرامات، 40 مليغراما) علي تشجيع المدة المعتدلة من النوم خلال أوقات النهار علي 8 متطوعين من الرجال الأصحاء تراوحت أعمارهم بين 18 – 30 عاما، بحيث خضعوا لجرعة واحدة من الهرمون في كل تجربة علاجية مع 4 – 7 أيام فترة راحة بينها.

و أظهرت النتائج التي نشرتها مجلة ( أخبار الطب الحديثة) الأميركية، أن الأشخاص الذين تناولوا جرعات الميلاتونين في وقت مبكر من فترة ما بعد الظهر إلى وقت متأخر من المساء استسلموا للنوم العميق بشكل أسرع من ألئك الذين تعاطوه خلال النهار، وسجل شعورا أكبر بالإرهاق و الإجهاد و النعاس الذي أعاق نشاطهم و أداءهم..

وبينت الدراسة أن الجرعات الثلاث من هرمون الميلاتونين سهلت بدء النوم عند المشاركين واستمراره خلال فترات النهار، وقلت المدة الكلية لليقظة بشكل ملحوظ كما سببت انخفاضا طويل الأجل في درجة حرارة الجسم.. و أشار المختصون إلى أن تعاطي الميلاتونين قد يمثل أسلوبا علاجيا فعالا في تشجيع النوم النهاري لدي العاملين بنظام المناوبة و الإفراد الذين يسافرون إلى مناطق مختلفة الأوقات..انظر: مجلة النفس المطمئنة: العدد 69، يناير 2002.

([104])   أي بسكينة ووقار من غير تجبر ولا استكبار، كما قال رسول اللّه a:إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا وما فاتكم فأتموا »

([105])   وهو أن يمشي مقتصدأً مشياً ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط بل عدلاً وسطاً بين بين.

([106])   البخاري.

([107])   من المراجع التي يمكن الاستفادة منها في هذا: د. محمد خالد سلطان: الطب والشريعة رسالة جامعية دمشق 1985، د. أحمد شوقي الفنجري: الطب الواقائي في الإسلام الهيئة المصرية العامة للكتاب، د. محمد المصري وآخرون: مقالة مخاطر التعرض للضجيج والأصوات العالية المجلة الطبية العربية دمشق ع 137 كانون 1، 1997، الصيدلي عمر محمود عبد الله: الطب الوقائي في الإسلام الدوحة 1990. وبحث للدكتور محمد نزار الدقر.

([108])   البخاري ومسلم.

([109])   الطبراني وأحمد.

([110])   البغوي.

([111])   انظر: مقال: مفهوم الصحة النفسية في القرآن الكريم والحديث الشريف، للدكتور محمد عثمان نجاتي، الكويت، موقع الإسلام والطب.

([112])   التحزق: التجمع وشدة التقبض.

([113])   ابن أبي شيبة.

([114])   أبو داود والترمذي.

([115])   البيهقي.

([116])   الترمذي.

([117])   الترمذي.

([118])   أراد به البياض المحيط بالحدقة.

([119])   ابن أبي الدنيا.

([120])   الضحك.. خير علاج، د. لطفي الشربيني، استشاري الطب النفسي.

(1)         الترمذي وأحمد.

(3)         الترمذي.

(1)         ابن حبان والترمذي.

(2)         أحمد.

(1)         ابن أبي شيبة.

([126])   ابن حبّان في صحيحه.

([127])   أحمد.

([128])   أبو يعلى والضياء.

([129])   البخاري ومسلم.

([130])   أحمد والترمذي والنسائي والحاكم.

([131])   ابن سعد.

([132])   أبو داود والبيهقي.

([133])   انظر: مقالة محمد زاهر نقلاً عن جريدة البيان تاريخ الثلاثاء 21 ذو الحجة 1422 هـ الموافق 5 مارس 2002.

([134])   الترمذي وحسّنه.

([135])   راجع كتاب: الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون، ص 134 لبيان أثر مشاهد العنف والجريمة التي يعرضها التلفاز على الشباب.

([136])    راجع: الإعلام الإذاعي والتلفزيوني، ص32 حيث يقول د ستيفن بانا حبيب بجامعة كولومبيا: إذاكان السجن هو جامعة الجريمة، فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث.

([137])   الإسلام في مواجهة الجاهلية، ص189 190.

([138])   الإسلام في مواجهة الجاهلية، ص185.

([139])   الأسرة المسلمة ص 122، دراسة أجراها د جون على أثر الأشعة على النباتات والفئران.

([140])   بتاريخ 17/2/1984م كما في الأسرة المسلمة ص126.

([141])   ولهذا أصدرت وزارة العمل في كندا قانونا بإعفاء النساء الحوامل من العمل في أقسام الكمبيوتر طوال فترة الحمل الأسرة المسلمة، ص124.

([142])   التلفاز وحكمه في الشريعة الإسلامية، لعبد الله بن حميد.

([143])   بصمات على ولدي، ص32.

([144])   انظر الأسرة المسلمة، ص113ـ 114.

([145])   انظر بصمات على ولدي ص 23ـ 24.

([146])   مسلم.

([147])   أبو داود والترمذي.

([148])   الطبراني في الكبير.

([149])   أبو داود.

([150])   البخاري ومسلم.

([151])   التحريش هو: إغراء وتحريض البعض على الآخر.

([152])   المعجم الكبير، الطبراني.

([153])   عن ابن عباس قال: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق، والمكاء الصفير، والتصدية التصفيق.

(1) البخاري.

(2) البخاري.

([156])   أحمد والبخاري وأبو داود.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *