ثالثا ـ الورع

ثالثا ـ الورع

خرجت من كربلاء، قاصدا عاصمة العراق (بغداد) قبل أن يزورها أولئك الظلمة الذين خربوا بنيانها، وقتلوا إنسانها، وأتوا بكل معاولهم ليحطموا حضارتها، غير مراعين في ذلك حرمة، ولا مستجيبين لنداء ضمير.

وفي حي من أحيائها العتيقة قصدت سوقا.. لعله أقدم الأسواق على الأرض، وأكثرها عراقة.. كان السلام يطل بأجنحته عليه كما لا يطل على أي سوق آخر، فلم يكن أهله يخشون متفجرات، ولا قنابل، ولا شرطة، ولا عسكرا.. بل ربما لم يكونوا يسمعون بكل ذلك.

شعرت براحة عظيمة لم أدر لها سببا، وأنا أسير في جنباته أتأمل دكاكينه، وما يعرض فيها من مختلف أنواع السلع قديمها وحديثها.

وقد شد انتباهي عدم ارتفاع الأصوات.. فقد كان الباعة كالمشترين سواء بسواء لا يعرفون صخبا ولا صياحا ولا شيئا مما عهدته الأسواق، فصار سنة لازمة فيها.

دخلت أحد الدكاكين، فرأيت البائع يعرض سلعة من السلع على زبون من زبائنه، وقد شد انتباهي أن البائع يبالغ في وصف عيوب السلعة التي يريد أن يبيعها أكثر من مبالغته في وصف محاسنها، وكأنه لا يهم ببيعها، أو كأنه لا يريد أن تخرج من دكانه.

لكن المشتري مع ذلك أصر على شرائها، فاشتراها، وخرج ليترك لي فرصة سؤال البائع عن سر إلحاحه في ذكر عيوب سلعته، فنظر إلي مبتسما، وقال: يظهر أنك غريب عن هذه البلدة، أو عن هذا الحي خصوصا.

قلت: أجل.. هذه أول مرة أدخل هذا الحي، وهذا السوق.

قال: لقد تعاهد أهل هذا السوق على ألا يقع في أسواقهم إلا ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وألا ينتهوا إلا عما نهى عنه..

قلت: فما الذي دفعهم إلى ذلك؟

قال: لقد نزل ببلادنا رجل من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقال له (بشر)([1]).. وقد ملأ قلوبنا ـ بكلامه وسلوكه ـ مهابة من الوقوع في الحرام والشبهات..

لقد دخل علي مرة هذا الدكان، فرآني أعرض السلع الحسنة، وأخفي القبيحة، فذكرني بحديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. جعلته شعاري وديدني في تجارتي.

لقد ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  مر برجل يبيع طعاماً فأعجبه، فأدخل يده فيه، فرأى بللاً، فقال: ما هذا؟ قال: أصابته السماء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (فهلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس).. ثم قال له هذه الكلمة التي هي شعاري، وشعار أهل هذا السوق جميعا: (من غشنا فليس منا)([2])

لقد كان قوله (ليس منا) بديلا عن كل رادع.. فكل مسلم يخاف أن يقول له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة إذا تعلق به: (لست مني)

وقد حدثني بشر ـ ذلك الوارث الورع الفاضل ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بايع بعض الصحابة على الإسلام ذهب لينصرف، فجذب ثوبه، واشترط عليه النصح لكل مسلم.

وأخبرني عن تأثير هذه الوصية في ذلك الصحابي، فذكر أنه كان إذا قام إلى السلعة يبيعها بصر عيوبها للمشتتري، ثم خيره وقال: إن شئت فخذ، وإن شئت فاترك، فقيل له: إنك إذا فعلت مثل هذا لم ينفذ لك بيع، فقال: (إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصح لكل مسلم)([3])

وأخبرني أن واثلة بن الأسقع كان واقفاً فباع رجل ناقةً له بثلثمائة درهم، فغفل واثلة وقد ذهب الرجل بالناقة، فسعى وراءه وجعل يصيح به: يا هذا، اشتريتها للحم أو للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: إن بخفها نقباً قد رأيته، وإنها لا تتابع السير، فعاد فردها فنقضها البائع مائة درهم، وقال لواثلة: رحمك الله أفسدت علي بيعي، فقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصح لكل مسلم، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يحل لأحد يبيع بيعاً إلا أن يبين آفته، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا تبيينه)([4])

وأخبرني عن بعض التابعين أنه قال: لو دخلت الجامع وهو غاص بأهله وقيل لي: من خير هؤلاء؟ لقلت: من أنصحهم لهم؟ فإذا قيل: هذا،قلت: هو خيرهم. ولو قيل لي: من شرهم؟ قلت: من أغشهم لهم؟ فإذا قيل: هذا، قلت: هو شرهم.

بينما نحن كذلك إذ سمعنا جلبة في السوق.. فسألت التاجر عنها، فقال: هذا موعد اللقاء الأسبوعي الذي تعود بشر أن يقيمه لأهل السوق ليعرضوا فيه مسائلهم عليه، وليملأ قلوبهم من المواعظ التي تجدد نشاطهم لعبودية أهل الأسواق.

ترك الرجل دكانه مفتوحا، وسار يحث خطاه إلى حيث تجمع الناس.. سرت خلفه.. وقد دهشت لترك أهل السوق محالهم وتجارتهم وزبائنهم وإسراعهم إلى هذا الرجل الذي يدعونه بشرا.. ويلقبونه بالوارث.

كانت سمات الصلاح والورع والوقار تظهر جلية على بشر.. وكأنه بشر الحافي قد عاد إلى الدنيا من جديد ليكون واعظ هذا السوق من أسواق بغداد.

كانت أول كلمة سمعتها منه هو ترديده لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كن ورعاً تكن أعبدَ الناس)([5])

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس)([6])

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)([7])

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث مَنْ كنَّ فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان: خُلُقٌ يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن محارم الله، وحِلم يردُّ به جهل الجاهل)([8])

ثم راح يذكر النماذج من سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدال على ورعه الشديد الذي لا يضاهيه فيه أحد من الورعين، ومن ذلك ما روي  أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجد تمرة في الطريق فقال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها)([9])

ومنها ما روي أن الحسن بن علي  أخذ تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كخْ كخْ، ارمِ بها، أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة، أو أنَّا لا تحل لنا الصدقة)([10])

ومنها ما ما روي أن امرأة بعثت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم، وذلك في طول النهار وشدة الحر، فرد إليها الرسول: (أنى لك هذا اللبن؟) قالت: من شاة لي ؛ فرد إليها رسولها: (أنى لك هذا الشاة؟) قالت: أشتريتها من مالي؛ فشرب، فلما كان من غد، أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله: بعثت إليك بذلك اللبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحر، فرددت فيه إلي الرسول! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (بذلك أمرت الرسل قبلي، أن لا تأكل إلا طيبا، ولا تعمل إلا صالحا)([11])

ومنها ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها)([12])

ومنها ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصابه أرق من الليل، فقال له بعض نسائه: يا رسول الله أرقت الليلة، فقال: (إني كنت أصبت تمرة تحت جنبي، فأكلتها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه)([13])

بعد أن قال هذا وغيره، نظر إلى المستمعين، وقال: إن أذن المستمعون أن نخص مجلسنا بالحديث عن هذا فعلنا..

قال رجل من الجمع: أجل، على أن تأذن لنا أن نسألك بعدها عن بعض المسائل الخاصة التي عرضت لنا في هذا الأسبوع.

قال بشر: لكم ذلك.. لقد ذكر العلماء أن للورع عن الحرام أربع درجات: درجة العوام، ودرجة الصالحين، ودرجة المتقين، ودرجة الصديقين([14]).. ولن يكتمل للوارث التحقق بسنة الورع إلا باكتمال هذه المراتب جميعا.

ورع العوام:

قال رجل من الجمع: لقد حدثتنا في مجالس سابقة عن درجة العوام.. وذكرت أنها الدرجة التي توجب الفسق لمن اقتحمها، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشار إليها بقوله: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)([15])

ونحن نريد منك في هذا المجلس أن تبين لنا المقاصد الجليلة التي يحويها هذا الحديث([16]

قال بشر: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر في هذا الحديث قاعدة من أهم قواعد الورع، بل هو يذكر الأصل الجامع له.. فهو يذكر أن الحلال المحض بين لا اشتباه فيه، ومثله الحرام المحض، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس، هل هي من الحلال أم من الحرام؟.. ومثل هذا النوع لا يعلمه إلا الراسخون في العلم.

قال الرجل: فاذكر لنا أمثلة عن هذه الأنواع الثلاثة.

قال: أما الحلال المحض: فمثل أكل الطيبات من الزروع، والثمار، وبهيمة الأنعام، وشرب الأشربة الطيبة، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان، أو الصوف أو الشعر، وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع، أو بميراث، أو هبة.

والحرام المحض: مثل أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وشرب الخمر، ولباس الحرير للرجال، ومثل الأكساب المحرمة كالربا، والميسر، وثمن مالا يحل بيعه، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس أو نحو ذلك.

أما المشتبه: فمثل أكل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه..

قال آخر: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن كلا من الحلال والحرام بين لا شك فيه..

قال بشر: أجل.. فقد أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب، وبين فيه كل ما تحتاجه الأمة من المعارف المرتبطة بأحكام الحلال والحرام، قال تعالى:{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل:89)

 قال آخر: ولكنا لا نجد في القرآن الكريم الكثير من الفروع المرتبطة بالحلال والحرام..

قال بشر: لقد حوى القرآن الكريم مجامع الحقائق والتشريعات.. أما التفاصيل فقد وكلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد قال الله يبين هذه الوظيفة الخطيرة التي وكلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44)

وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يبين أداءه الكامل لكل ما أنيط به من التكاليف: (تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)([17])

وقد شهد له أصحابه  بهذا.. فعن أبي ذر  قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علما.

ولما شك الناس في موته صلى الله عليه وآله وسلم، قال عمه العباس: (والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ترك السبيل نهجا واضحا، وأحل الحلال وحرم الحرام، ونكح وطلق، وحارب وسالم، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاة بمخبطه، ويمدر حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان فيكم)([18])

ورع الصالحين:

قال رجل من الجمع: عرفنا الدرجة الأولى.. وقد سبق لك أن أجبت لنا عن الكثير من الأسئلة المرتبطة بها، فحدثنا عن الدرجة الثانية.

قال بشر: لقد عبر العلماء عن الدرجة الثانية بأنها ورع الصالحين، فهم يمتنعون عما يتطرق إليه احتمال التحريم، ولو رخص المفتي في التناول بناء على الظاهر..

وإلى هذه الدرجة الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)([19]

وفي رواية للحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، فقال الرجل: وكيف لي بالعلم بذلك؟ قال: (إذا أردت أمرا، فضع يدك على صدرك، فإن القلب يضطرب للحرام، ويسكن للحلال، وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة)([20])

وفي رواية للحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيل له: فمن الورع؟ قال: (الذي يقف عند الشبهة)([21])

قال رجل من الجمع: فما ضابط هذه الدرجة؟

قال بشر: ضابط هذه الدرجة هي أن تغلب الاحتياط، وأن تبتعد عن حمى الحرام قدر ما أطقت.. فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لعدي بن حاتم  في الكلب المعلم: (وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه)([22])

فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم هذا لعدي بن حاتم على سبيل التنزيه لا على سبيل الإلزام، بدليل أنه قال لأبي ثعلبة الخشني: (كل منه)، فقال: وإن أكل منه؟ فقال: (وإن أكل)، وذلك لأن حالة أبي ثعلبة، وهو فقير مكتسب لا تحتمل هذا الورع، وحال عدي كان يحتمله.

قال رجل من الجمع: لقد ذكرت أن هذا هو ورع الصالحين.. فكيف نرى بعضهم، وقد سئل عن دم البعوض، فيقول: يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين، وسمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (هما ريحانتاي من الدنيا)([23]

قال بشر: صدق.. فإن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل ينكر عليه.

وقد سأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها([24])، فقال: إن كان بر أمه في كل شيء، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته، ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه، فيضربها، فلا يفعل.

ورع المتقين:

قال رجل من الجمع: عرفنا الدرجة الثانية.. فحدثنا عن الدرجة الثالثة.

قال بشر: لقد عبر العلماء عن الدرجة الثالثة بأنها ورع المتقين، وهي الامتناع عما لا تحرمه الفتوى ولا شبهة في حله، ولكن يخاف منه أداؤه إلى محرم، وهو ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس.

وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى ما لا بأس به مخافة ما به بأس)([25])

ومما يروى في هذا عن بعضهم أنه قال: كنت ساكناً في بيت بكراء، فكتبت كتاباً وأردت أن آخذ من تراب الحائط لأتربه وأجففه، ثم قلت: الحائط ليس لي، فقالت لي نفسي: وما قدر تراب من الحائط؛ فأخذت من التراب حاجتي، فلما نمت فإذا أنا بشخص واقف يقول: يا فلان، سيعلم غداً الذي يقول: وما قدر تراب من حائط.

ومن ذلك ما روي عن آخر أنه كان عند محتضر، فمات ليلاً فقال: أطفئوا السراج فقد حدث للورثة حق في الدهن.

ورع الصديقين:

قال رجل من الجمع: عرفنا الدرجة الثالثة.. فحدثنا عن الدرجة الرابعة.

قال بشر: لقد عبر العلماء عن الدرجة الرابعة بأنها ورع الصديقين، فالحلال عندهم كل ما لا تتقدم في أسبابه معصية، ولا يستعان به على معصية، ولا يقصد منه في الحال والمآل قضاء وطر، بل يتناول لله تعالى فقط وللتقوي على عبادته واستبقاء الحياة لأجله، وهؤلاء هم الذين يرون كل ما ليس لله حراماً، امتثالاً لقوله تعالى:{ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: 91)

وأهل الله من المقربين يقصدون بالورع شيئا آخر أعمق وأجل، وهو تورعهم من أن تمتلئ خواطرهم بغير ذكر الله.. أو تتوجه هممهم لغير قبلة الله..

وفي هذا قال بعضهم: (الورع أن تتورع عن كل ما سوى الله)، وقال آخر: (ليس يدل على فهم العبد كثرةُ علمه، ولا مداومتُه على ورده، وإنما يدل على نوره وفهمه غناه بربه وانحياشه إليه بقلبه، والتحرر من رق الطمع، والتحلي بحلية الورع)

***

بعد أن أنهى بشره حديثه مع أهل السوق، اقتربت منه، وعرفته بنفسي، وبمطلبي، فاستقبلني، وسر بي، بل طلب مني أن أصحبه لأتعلم منه علوم الورع التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي خلال صحبتي له علمت علم اليقين أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد الورعين.. وأن ما جاء به في هذا الباب لا يلحقه فيه أحد من الناس.

وعلمت ـ من خلال صحبته ـ علم اليقين أن هذه البشرية التائهة لو تخلت عن كبريائها، وجلست بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلقنها أصول الورع وفروعه لاستغنت بها عن كل القوانين التي تفرضها، وعن كل تلك الجيوش التي تقوم بحمايتها.

قلت: فكيف ظهر لك أن تفارقه؟

قال: قومنا هم السبب.

قلت: كيف ذلك.. وما علاقة قومنا بهذا؟

قال: لقد أرسلوا بطائرتهم وقنابلهم، فأمطروا تلك المدينة الطاهرة، وأمطروا معها ذلك السوق.. وكان من ضحايا تلك الأمطار المجرمة وارث الورع النبوي (بشر الحافي)


([1])   أشير به إلى بشر بن الحارث الحافي، وهو من أشهر أئمة الورع، ذكر صاحب المجالس أنه تاب على يد الإمام موسى الكاظم، ثم نقل قصة توبته من منهاج الكرامة، وهي أن الإمام الكاظم اجتاز على داره ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة البقل، فرمت بها في الدرب: فقال لها: يا جارية! صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ فقالت: بل حر فقال: صدقت، لو كان عبدا خاف من مولاه!. فلما دخلت قال مولاها وهو على مائدة السكر: ما أبطأك علينا؟ فقالت: حدثني رجل بكذا وكذا، فخرج حافيا حتى لقي مولانا الكاظم عليه السلام فتاب على يده.

([2])   رواه مسلم.

([3])   رواه البخاري ومسلم.

([4])   رواه الحاكم والبيهقي وقال الحاكم صحيح الإسناد.

([5])  رواه ابن ماجة بإسناد حسن.

([6])  رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

([7])  رواه الطبراني في الأوسط، والبزار بإسناد حسن.

([8])  رواه البزار.

([9])  رواه البخاري ومسلم.

([10])  رواه البخاري ومسلم.

([11])   رواه ابن أبي الدنيا في (الورع) والطبراني في الكبير والحاكم وأبو نعيم في الحلية.

([12])   رواه البخاري ومسلم.

([13])   رواه أحمد وابن سعد.

([14])   انظر: إحياء علوم الدين، والمحجة البيضاء للفيض الكاشاني.

([15])  رواه البخاري ومسلم.

([16])   استفدنا المادة العلمية المرتبطة بشرح الحديث من (جامع العلوم والحكم) لابن رجب بتصرف.

([17])   رواه أحمد وابن ماجة.

([18])   رواه ابن سعد والدارمي.

([19])   رواه أ حمد، والترمذي، والنسائي، وابنُ حبان والحاكم.

([20])   هذا الحديث ذكره ابن رجب في (جامع العلوم والحكم)

([21])   رواه الطبراني بإسناد ضعيف.

([22])   رواه البخاري ومسلم.

([23])   رواه البخاري.

([24])   لا نرى أن البر بالوالدين يدخل هذا الباب، لأن البر مصلحة والطلاق مفسدة، ولا يمكن تقديم جلب المصلحة على درء المفسدة إلا إذا كان في طلاقها مصلحة، فيطلقها لأجل ذلك، ومثله ما كان من إبراهيم u من أمره ابنه إسماعيل u بتطليق زوجته.. وقد ذكرنا المسألة بتفصيل في سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)

([25])   رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، ورواه ابن ماجه والحاكم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *