ثالثا ـ المحاور

قلت: فحدثني عن رحلتك الثالثة.
قال: في رحلتي الثالثة، سرت إلى طوس .. تلك البلدة العريقة من بلاد فارس.. البلاد التي تشرفت بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجل من أبناء فارس حتى يتناوله)([1])
خطر على بالي، وأنا أتجول في بعض شوارعها العتيقة هذا الحديث.. وخطر على بالي بعدها الجموع الكثيرة من العلماء والأولياء والربانيين من الفرس الذين ورثوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل وراثة، وأحسن وراثة..
ولست أدري كيف خطر على بالي فجأة أبا حامد الغزالي.. وخطر على بالي ـ بالتحديد ـ المدرسة والخانقاه اللذين أسسهما بعد عودته من الخلوة ليكونا رمزا لإحياء علوم الدين([2])..
ما خطر ذلك الخاطر على خاطري حتى رحت أسأل بعض المارة عن آثار المدرسة الغزالية، فابتسم، وقال: ولماذا تبحث عن آثارها؟
قلت: أنا سائح.. وأهتم بالآثار.. ولذلك أحببت أن أراها.. فهل بقي لها وجود بعد تلك القرون الطوال؟
ابتسم، وقال: ما أسس على التقوى لا يهدم.. وما رفع بنيانه على ذكر الله حفظ بالله.. وما حفظ بالله لا يصيبه البلى.
قلت: أتقصد أن آثار المدرسة لا تزال موجودة؟
قال: بل المدرسة نفسها لا تزال موجودة.. وأنا الذي تراني أمامك طالب من طلبتها.
قلت: فمن أستاذها؟
قال: الغزالي([3])..
قلت: ما بك يا رجل.. الغزالي طوت جسده السنون..؟
قال: ولكن علمه وما تركه لم تطوه السنون.. هو لا يزال حيا نابضا بالحياة.
قلت: فأنت تتملذ على كتبه؟
قال: أنا أتتلمذ على رجل من أحفاده.. لكأنه الغزالي نفسه عاد للحياة من جديد.
قلت: فأسرع بي إليه.. فما أشد شوقي لأن أجلس بين يدي الغزالي، وأتعلم منه.
سار بي الرجل إلى مدرسة جمعت بين القديم والحديث.. وبين الأصالة والمعاصرة.. لست أدري هل كانت عتيقة، فرممت، فصارت حديثة بترميمها، أم أنها أنها حديثة طليت ببعض مظاهر القديم.. فصارت تجمع بين القديم والحديث؟
دخلت إليه، فاستقبلنا رجل عليه سيما الورثة، قال لي صاحبي: هذا هو الغزالي..
لم أدر إلا وأنا أسرع إليه، وأقبل يديه، فابتسم، وقال: هل جئت لتتعلم الحوار؟
قلت: أنا جئت لأتلقى، لا لأجادل.. فمن جلس أمام الغزالي لم يصلحه إلا الصمت.
قال: بل لن يصلحه إلا الحوار.. فالحوار هو الكشاف الذي تكشف به الجواهر عن معدنها، ولا يمكن التعامل مع الجواهر قبل التعرف على معدنها.
قلت: إذن أفتضح؟
قال: لا يصلح إلا من افتضح.. ألا ترى أن المريض لا يتعرف الطبيب على دوائه إلا بعد أن يفضح داءه؟
قلت: صحيح ذلك..
قال: فلذلك نحن نكشف عن الجواهر بالقيل والقال، والجواب والسؤال، لا بالمراء والجدل.
قلت: إن هذا ما ذكره لي معلم الهداية.. فهل فمك هو الفم الثالث؟
قال: إن كان الفم الثالث هو فم المحاور، ففمي هو ذلك الفم.
قلت: فهل تأذن لي أن أصحبك لأتعلم منك هذا الفم؟
قال: آذن لك في أن تتعلم في هذه المدرسة.. فهذه المدرسة مدرسة الحوار.. أسستها بعد جدي لأعلم الدعاة إلى الله السائرين على قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف يحاورون، وفيم يحاورون، ولم يحاورون.
قلت: فما شروط التسجيل فيها.. فأنا لست من هذه البلاد؟
قال: الصدق والطهارة والهمة العالية.
قلت: فما الشهادة التي تسلم لطلبة هذه المدرسة؟
قال: وراثة النبوة في فنون الحوار.
قلت: ما أعظمها من شهادة.. وأنا ـ من الآن ـ أتشرف بأن أنضم إلى هذه المدرسة.. فما أقسامها؟
قال: أربعة.. لا يمكن للأقسام إلا أن تكون أربعة.. ألم تر أن جدي أبا حامد أسس إحياءه على أربع؟
قلت: أجل.. فما الأربع التي أسست عليها مدرستك؟
قال: الطهارة، والخبرة، والأدب، والسعة.
قلت: فما الطهارة؟
قال: لا يمكن للمحاور أن ينجح في حواره، وقلبه ممتلئ بالخبائث، ولا يمكن له أن ينجح في حواره وهمته متوجهة إلى نفسه، لا إلى الحق الذي يدعو إليه.
قلت: إن هذا يستدعي مدرسة تربوية.. لا مدرسة علمية..
قال: لا خير في علم لا يربي صاحبه..
قلت: فما الخبرة؟
قلت: لا يمكن للمحاور أن يحاور إلا فيما له خبرة فيه.
قلت: الخبرة أعمق من العلم.
قال: ولهذا سمينا هذا القسم قسم الخبرة، لا قسم العلم.
قلت: فما الأدب؟
قال: لا يمكن للحوار أن ينجح إلا في ظلال الأدب.. فالأدب هو فراش الحوار ودثاره.. ومن لم يتأدب مع من يحاوره لن يزيده حواره معه إلا بعدا.
قلت: فما السعة؟
قال: المحاور السائر على قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يحاور الكل وفي الكل.. ولا يتكبر على أحد من الناس كما لا يتكبر الطبيب على أي مرض، ولا على أي مريض.
كان أول قسم دخلته بعد التحاقي يالمدرسة الغزالية للحوار.. هو قسم (الطهارة).. كان ممتلئا بالطلاب.. سأحكي لك باختصار عن بعض ما جرى في اليوم الأول من دراستي فيه.. فلم تكن لدراستنا في سائر الأيام في ذلك القسم من قصد إلا تعميق ما درسناه في ذلك الدرس.
بدأ الدرس بسؤال لأحد الطلبة قال فيه: يا إمام.. لم اعتبرت الطهارة شرطا من شروط الحوار، وأصلا من أصوله؟
قال الغزالي: قياسا لها على الصلاة.. أليست الصلاة هي حوار بين العبد وربه؟
قال الطالب: أجل.. وقد ورد في الحديث القدسي قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(قال الله عز وجل: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الفاتحة: 2)، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال:{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (الفاتحة: 3)، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال:{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } (الفاتحة: 4)، قال: مجدني عبدي فإذا قال:{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (الفاتحة: 5)، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال:{ اهدنا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6، 7)، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)([4])
قال الغزالي: ألا ترى أنه يشترط لصحة الصلاة تحقق الطهارة؟
قال الطالب: أجل.. وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)([5])
قال الغزالي: فهكذا الحوار بين العبد والعبد لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا إذا تقدمته الطهارة.
قال الطالب: لم أسمع بهذا.. هل يشترط على المتحاورين أن يقصدوا دورات المياه قبل ابتداء حوارهم؟
قال الغزالي: ألم تقرأ ما قاله جدي أبو حامد في أول وظائف طالب العلم؟
قال الطالب: بلى.. لقد ذكر أول وظيفة من وظائف طالب العلم، فقال:(تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف)
وعلل ذلك بقوله:(إذ العلم عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى؛ وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث، فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف)
ثم استدل لذلك بقوله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (التوبة: 28) ففي هذه الآية (تنبيه للعقول على أن الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظواهر بالحس، فالمشرك قد يكون نظيف الثوب مغسول البدن، ولكنه نجس الجوهر أي باطنه ملطخ بالخبائث، والنجاسة عبارة عما يجتنب ويطلب البعد منه، وخبائث صفات الباطن أهم بالاجتناب فإنها مع خبثها في الحال مهلكات في المآل)
واستدل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب)([6]) وعلق عليه بقوله:(والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم ومحل استقرارهم؛ والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة، كما قال تعالى:{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى:51)، وهكذا ما يرسل من رحمة العلوم إلى القلوب إنما تتولاها الملائكة الموكلون بها، وهم المقدسون المطهرون المبرؤون عن الصفات المذمومات، فلا يلحظون إلا طيباً ولا يعمرون بما عندهم من خزائن رحمة الله إلا طيباً طاهراً)
التفت الغزالي إلى تلاميذه، ثم قال: إذا وعيتم هذا، فاعلموا أن أول شرط من شروط الحوار هو تصفية النفس بمياه التوبة والإنابة والتسليم لله.. فلا يمكن أن تحاور من تحاوره إلا وأنت صاحب قلب نقي صاف سليم من كل درن.
قال أحد الطلبة: إن ذلك يقلل أهل الحوار.
قال الغزالي: ولكن الحوار لن يؤتي ثماره إلا بذلك.. فلا يمكن للكدورات أن تثمر إلا الكدورات.
قال الطالب: لم ذلك؟
قال الغزالي: لقد ذكر جدي أبو حامد في (الإحياء) وفي جميع كتبه أن أكبر الآفات التي تفسد المناظرات وأخطرها هي الآفات النفسية، فهيالسبب الأكبر في فشل الحوار وعدم إتيانه ثماره، بل إن ثماره تصبح عكسية، تزيد الطين بلة.
وقد قام بتحليل نفسي رائع لنفسيات المتحاورين التي لم تتأدب بآداب الشرع، فذكر الآفات النفسية الكثيرة التي تسببها المناظرات العلمية ـ والتي هي نوع من أنواع الحوار ـ ويعتبرها منبع جميع الأخلاق المذمومة، بل يقيسها على كبائر الفواحش الظاهرة، باعتبارها لا تختلف عنها، وقد قال في فصل عقده بعنوان (بيان آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق):(اعلم وتحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف والتشدّق عند الناس، وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله المحمودة عند عدوّ الله إبليس)([7])
ويتفرع عن هذه الخصال خصال أخرى كثيرة، قال الغزالي:(ثم يتشعب من كل واحدة من هذه الخصال العشر عشر أخرى من الرذائل لم نطول بذكرها وتفصيل آحادها مثل: الأنفة، والغضب، والبغضاء، والطمع، وحب طلب المال، والجاه للتمكن من الغلبة، والمباهاة، والأشر، والبطر، وتعظيم الأغنياء والسلاطين والتردد إليهم والأخذ من حرامهم، والتجمل بالخيول والمراكب والثياب المحظورة، والاستحقار للناس بالفخر والخيلاء، والخوض فيما لا يعني، وكثرة الكلام، وخروج الخشية والخوف والرحمة من القلب، واستيلاء الغفلة عليه لا يدري المصلي منهم في صلاته ما صلى، وما الذي يقرأ، ومن الذي يناجيه؟ ولا يحس بالخشوع من قلبه مع استغراق العمر في العلوم التي تعين في المناظرة مع أنها لا تنفع في الآخرة: من تحسين العبارة وتسجيع اللفظ وحفظ النوادر إلى غير ذلك من أمور لا تحصى. والمناظرون يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم ولهم درجات شتى ولا ينفك أعظمهم ديناً وأكثرهم عقلاً عن جمل من مواد هذه الأخلاق وإنما غايته إخفاؤها ومجاهدة النفس بها)([8])
والغزالي يقيس هذه المنكرات الباطنة على الكبائر من الفواحش الظاهرة، فيقول:(ونسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه وغيرها كنسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا والقذف والقتل والسرقة)
ويستدل على ذلك بعلة جامعة ينص عليها بقوله:(كما أن الذي خير بـين الشرب وسائر الفواحش استصغر الشرب فأقدم عليه فدعاه ذلك إلى ارتكاب بقية الفواحش في سكره، فكذلك من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه والمباهاة دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس وهيج فيه جميع الأخلاق المذمومة)
بل يذكر أن هذه الفواحش الباطنة مما يقع فيه المتماسكون أما غيرهم، فيقع منهم (من الخصام المؤدي إلى الضرب واللكم واللطم وتمزيق الثياب والأخذ باللحى وسب الوالدين وشتم الأستاذين والقذف الصريح)
قال أحد الطلبة: لقد صدق الغزالي فيما ذكره من ذلك.. ونحن نرى في وسائل الإعلام الكثير مما يؤكد قوله هذا.. فهل بحث عن أسبابه؟
قال الغزالي: أجل.. فلا يمكن وصف الدواء قبل تشخيص الداء.
قال الطالب: فما الذي ذكره من أسباب ذلك الدنس الذي تمتلئ به نفوس المتحاورين، والذي يحيل حوارهم وقودا لا يزيد نيران العلاقات إلا اشتعالا.
قال الغزالي: لقد رأيت أن فروع تلك الخبائث التي تملأ نفوس المتحاورين تنطلق من أربعة أمراض كبرى.. الحسد، والكبر، والرياء، والبغي.. وكلها ذكرها جدي أبو حامد، بحمد الله.
قال الطالب: فما منبع الحسد، وما علاقته بالحوار.. وما تأثيره فيه؟
قال الغزالي: لقد ذكر أبو حامد الحسد باعتباره الآفة الكبرى التي تنخر العلاقات.. كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)([9]).. فكل الحسنات التي تنبت من العلاقات الطيبة بين المتحاورين تأكلها نار الحسد.
قال الطالب: فما العلة النفسية لذلك؟
قال الغزالي: أنت تعلم أن المحاور تارة يغلب وتارة يُغلب، وتارة يحمد كلامه وأخرى يحمد كلام غيره.. وهو لذلك إن حمد كلامه امتلأ إعجابا بنفسه.. وإن حمد كلام غيره امتلأ حسدا وحقدا.. فهو لذلك يتمنى زوال النعم عنه وانصراف القلوب والوجوه عنه إليه، ولهذا قال ابن عباس :(خذوا العلم حيث وجدتموه، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة)
قال الطالب: فما منبع الكبر، وما علاقته بالحوار.. وما تأثيره فيه؟
قال الغزالي: لقد ذكر أبو حامد ما ينشئه اعتقاد المحاور لغلبته وتفضله على مخالفه، فقال:(ولا ينفك المناظر عن التكبر على الأقران والأمثال والترفع إلى فوق قدره حتى إنهم ليتقاتلون على مجلس من المجالس يتنافسون فيه في الارتفاع والانخفاض والقرب من وسادة الصدر والبعد منها والتقدّم في الدخول عند مضايق الطرق، وربما يتعلل الغبـي والمكار الخداع منهم بأنه يبغي صيانة عز العلم، وأن المؤمن منهيٌّ عن الإذلال لنفسه، فيعبر عن التواضع الذي أثنى الله عليه وسائر أنبـيائه بالذل، وعن التكبر الممقوت عند الله بعز الدين تحريفاً للاسم وإضلالاً للخلق به)
ولهذا ورد التحذير في النصوص من الكبر، وأمر بالتواضع، وربط كل ذلك بالاهتداء إلى الحق.. ففي الحديث أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يانبي الله إنه ليعجبني الجمال حتى أود أن علاقة سوطي وقبالة نعلي حسن، فهل ترهب علي الكبر؟ فقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كيف تجد قلبك؟) قال: أجده عارفا للحق مطمئنا إليه، قال: (فليس ذاك بالكبر، ولكن الكبر أن تبطر الحق، وتغمص الناس فلا ترى أحدا أفضل منك وتغمص الحق فتجاوزه إلى غيره)([10])
انظروا.. ألا ترون (أن أبغض شيء إلى المناظر أن يظهر على لسان خصمه الحق، ومهما ظهر تشمر لجحده وإنكاره بأقصى جهده وبذل غاية إمكانه في المخادعة والمكر والحيلة لدفعه حتى تصير المماراة فيه عادة طبـيعية، فلا يسمع كلاماً إلا وينبعث من طبعه داعية الاعتراض عليه حتى يغلب ذلك على قلبه)؟
قال الطلبة جميعا بلسان واحد: بلى..
قال الغزالي: فلذلك تبدأ مدرستنا بتربية المتحاورين على التواضع، وعلى تقبل الحق من أي كان.. فلا يمكن أن ندنس سنة الحوار التي سنها لنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بما تمتلئ به نفوسنا من أمراض.
قال الطالب: فما منبع الرياء، وما علاقته بالحوار.. وما تأثيره فيه؟
قال الغزالي: الرياء هو أن تنشغل النفس برؤية نفسها عن رؤية الحق أو الدفاع عنه أو الدعوة إليه.. ومحال أن يتجلى الحق والنفس في مرآة واحدة.
قال الطالب: فكيف تطهر النفس من الرياء؟
قال الغزالي: بتحقيق التوحيد والإخلاص، فلا يقصد المحاور إلا نصرة الحق.. لا يهمه في ذلك إن ظهر على لسانه أو ظهر على لسان غيره.
لقد كان الشافعي يصيح بهذا، ويخبره عن نفسه به.. كان يقول:(ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطىء).. وكان يقول:(ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله تعالى، وما كلمت أحداً قط وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه).. وكان يقول:(ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته واعتقدت محبته، ولا كابرني أحد على الحق ودافع الحجة إلا سقط من عيني ورفضته)
قال الطالب: فما منبع البغي، وما علاقته بالحوار.. وما تأثيره فيه؟
قال الغزالي: من امتلأت نفسه بالحسد والكبر والإعجاب بالنفس والتباهي بها لن ينظر إلى غيره إلا بعين البغي والظلم والعدوان.. فلذلك تجده في حواره كسبع ضار ليس له من هم إلا افتراس فريسته.
لقد ذكر الغزالي بعض ما كان في عصره من مظاهر البغي، فقال:(المناظر لا ينفك عن طلب عثرات أقرانه وتتبع عورات خصومه حتى إنه ليخبر بورود مناظر إلى بلده، فيطلب من يخبر بواطن أحواله ويستخرج بالسؤال مقابحه حتى يعدها ذخيرة لنفسه في إفضاحه وتخجيله إذا مست إليه حاجة، حتى إنه ليستكشف عن أحوال صباه وعن عيوب بدنه فعساه يعثر على هفوة أو على عيب به من قرع أو غيره، ثم إذا أحس بأدنى غلبة من جهته عرّض به إن كان متماسكاً، ويستحسن ذلك منه، ويعد من لطائف التسبب، ولا يمتنع عن الإفصاح به إن كان متبجحاً بالسفاهة والاستهزاء، كما حكي عن قوم من أكابر المناظرين المعدودين من فحولهم)
لقد ذكر القرآن الكريم كيف يقف البغي والظلم حجابا دون الحق، فقال:{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33)
لقد أخبر الله في هذه الآية الكريمة أن الظلم هو السبب في جحود الظالمين لآيات الله، لا كون الآيات في نفسها تستحق أن تكذب.
قال أحد الطلبة: أهذه هي الآفات التي يتم التكوين فيها في هذا القسم؟
قال الغزالي: أجل.. نحن في هذا القسم نحاول أن نعلم الطلبة كيف يتخلصون من هذه الآفات الخطيرة، وكيف تمتلئ نفوسهم بالصفاء.. ليتمكنوا بعدها من إجراء حوار ناجح يؤتي الثمار التي يطلبونها.
بعد أن مكثت ما شاء الله أن أمكث في القسم الأول أذن لي مع بعض رفاقي أن ننتقل إلى القسم الثاني، وهو قسم (الخبرة).. لقد كان مكتوبا في مدخل ذلك القسم قوله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (الحج:8)، وبجانبها قوله تعالى:{ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (آل عمران:66)
وقد رأينا في مدخل ذلك القسم أربعة فروع..
بدأنا بالفرع الأول، وكان اسمه (الوجهة)، وقد علق على بابه قوله تعالى:{ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } (البقرة: 148).. قابلنا الغزالي في ذلك الفرع، وهو يقول: مبارك لكم تخرجكم من القسم الأول، فقلما يتخرج منه المتخرجون إلا بعد عناء وتعب.
قال أحد رفاقي: لقد وفقني الله في أوائل حياتي، فصحبت رجلا من أهل الله اسمه (محمد الوارث).. فإن يكن هناك من سبب لنجاحي في ذلك القسم، فلا أراه يعود إلا إليه.
صحت: أنا كذلك.. وفقني الله لصحبته فترة من الزمن..
صاح جميع أصحابي بذلك..
قال الغزالي: كلنا صحب ذلك الرجل.. وبركات ذلك الرجل لا نزال ننهل منها بحمد الله.
قلت: فما الذي سنتعلمه في هذا القسم؟
قال: تفسير ما قرأته في مدخل باب هذا القسم.
قلت: أتقصد قوله تعالى:{ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } (البقرة: 148)
قال: أجل.. فهذه الآية هي عنوان دراستكم في هذا الفرع.
قال بعض رفاقي: أتقصد أنا سنبحث عن أنواع الوجهات التي تتوجه إليها الأديان في شعائرها؟
قال: سنبحث في هذا الفرع عن أنواع الوجهات التي تتوجه لها العقول والقلوب والأرواح والأسرار في شعائرها وفي حياتها.
قلت: إن ذلك سيستفرع منا جهدا كبيرا.
قال: هو جهد لابد منه.. فلا يمكن لمن يريد أن يحاور جهة من الجهات ليهديها إلى الله إلا أن يتعرف على ما تعتقده تلك الجهة، وما تستدل به على اعتقادها.. ليخاطبها بالعلم لا بالجهل، وبالحقائق لا بالأباطيل..
عندما لاح لجدي أبي حامد أن ينتقد الفلسفة اليونانية، وما كانت تحمله من أنواع الضلال، لم يكتف بأن يكتب قصيدة أو خطبة يملؤها سبابا وشتائم.. وإنما راح لكتب الفلسفة يقرؤها بتمعن وتمحيص وتدقيق..
لقد ذكر سر ذلك، فقال:(ثم إني ابتدأت – بعد الفراغ من علم الكلام – بعلم الفلسفة، وعلمت يقيناً: أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه، ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم، من غوره وغائله، وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقاً، ولم أر أحداً من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم ـ حيث اشتغلوا بالرد عليهم ـ إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد، لا يظن الاغترار بها بعاقل عامي، فضلاً عمن يدعي دقائق العلم، فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والإطلاع على كنه رمى في عماية.
فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب، بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية، وأنا ممنو بالتدريس والإفادة لثلاثمائة نفس من الطلبة ببغداد، فأطلعني الله سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة، على منتهى علومهم في أقل من سنتين، ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره، حتى اطَّلعت على ما فيه من خداع، وتلبيس وتحقيق وتخييل، واطلاعاً لم أشك فيه)([11])
وهكذا.. فلا ينبغي لمن يريد محاورة أي جهة من الجهات إلا أن يكون له القدرة على فهمها واستيعاب ما تطرحه من أفكار.
قال أحد رفاقي: فإن لم يكن له القدرة على ذلك؟
قال: من لم تكن له القدرة.. فليلزم الصمت.. فلا يمكن للجاهل أن يكون معلما..
قال الطالب: إن ذلك يقلل الدعاة إلى الله.
قال: للدعوة إلى الله أساليب كثيرة.. والحوار العلمي أسلوب من أساليبها.. ولا يمكن أن يمارس هذا الأسلوب جاهل.. لأنه لا يزيد طين الحوار إلا بلة.
قلت: إن من قومي من يدعو المسيحيين إلى مناظرات علمية.. وهو لا يعرف حتى فصول الكتاب المقدس.
قال: ذلك مغرور.. فانهره.. وأخبره بقوله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (الحج:8)
قلت: إن هذه الآية تتحدث عن الكفار.. لا عن المسلمين.
قال: الآية تتحدث عن المجادل بغير علم.. ويستوي في ذلك المسلم وغير المسلم.
قلت: فهل في النصوص المقدسة ما يدل على مراعاة هذا في الحوار؟
قال: أجل.. وما كان لنا أن نتخطى النصوص المقدسة، أو نتجاهلها..
قلت: أين ذلك؟
قال: ألست تقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (البقرة:113)، وقوله تعالى:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة: 18)، وقوله تعالى:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} (المائدة: 64)، وقوله تعالى:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة:30)؟
قلت: بلى.. وفي القرآن الكريم الكثير من هذا.
قال: إن القرآن الكريم في هذه الآيات الكريمة يذكر لنا وجهات اليهود والنصارى ومعتقداتهم ليخاطبهم على أساسها.. وهو ـ بذلك ـ يدعونا أن نتعرف على الوجهات المختلفة قبل التعامل معها.
قلت: ولكن الحوار قد لا يكون في تلك الوجهات بذاتها.. أي أن حوارنا مع النصارى مثلا لا يرتبط بما يقولونه عن المسيح u.
قال: ولو.. إن الأفكار والمعتقدات سلسلة واحدة.. ولا يمكنك أن تتعامل مع حلقة من حلقات السلسلة، وأنت تجهل السلسلة جميعا.
قلت: ولكن الوجهات كثيرة جدا..
قال: كل من أراد أن يحاور جهة.. فعليه أن يتعرف على القبلة التي تتوجه إليها..
قلت: أتقصد أنا لن ندرس في هذا الفرع كل الوجهات؟
قال: لو فعلنا ذلك.. فلن تخرجوا من هنا.. لقد عرفت كيف استمر جدي أبو حامد أكثر من سنتين في دراسة الفلسفة اليونانية وحدها.
قلت: فماذا سندرس في هذا الفرع إذن؟
قال: سنتعرف على الوجهات العامة للملل والنحل.. ونتعرف على المصادر التي يمكن أن تكون مرجعا لنا إذا أردنا العلم التفصيلي عنها.
قلت: لم نكتف بهذا؟
قال: لأن العلم بالملل والنحل وحصرها وتصنيفها من العلوم التي استفدناها من نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. ألم تسمع حديثه في افتراق الملل والنحل؟
قلت: بلى.. فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)([12])
قال: ألا ترى كيف حصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصناف الفرق المتفرعة عن اليهودية، وعن النصرانية، وذكر ما سيصل إليه المسلمون من تفرق.
قلت: بلى.. ولكن من قومي من يتخذ من هذا الحديث مطية للتفريق بين المسلمين، وزرع الأحقاد بينهم.
قال: أولئك جهلة أو غافلون.. وهم لا يفهمون من النصوص المقدسة إلا ما توحي لهم به نفوسهم المدنسة بالحقد والتعصب والكبرياء.
قلت: فما تفهم أنت؟
قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم الناصحين.. وهو يدلنا على التعرف على مقولات الفرق والملل والنحل.. لا لنصب عليها نيران أحقادنا، وإنما لنصيبها ببلسم شفائنا.. ألا ترى كيف يصنف الأطباء المرض الواحد إلى أنواع مختلفة.. تحت كل نوع منها أنواع أخرى.. وهكذا؟
قلت: بلى.. وقد مارست الطب زمنا، وعرفت من علوم ذلك ما وفقني الله لمعرفته.
قال: فاعبر من طب الأجساد إلى طب الأرواح .. واعبر من طب الأفراد إلى طب المجتمعات.
قلت: لقد ذكرني حديثك هذا بجدك أبي حامد.. فقد كان رجلا حكيما.. لقد قال بعد أن ذكر ما تعلمه من علوم الفلاسفة:(اعلم أنهم ـ على كثرة فرقهم، واختلاف مذاهبهم ـ ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: الدهريون، والطبيعيون، والإلهيون)
ثم ذكر مقولات كل طائفة، وما تميزت به عن غيرها، فذكر أن الدهريين (هم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر، العالم القادر، وزعموا: أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه، وبلا صانع، ولم يزل الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان، كذلك كان، وكذلك يكون أبداً وهؤلاء هم الزنادقة)
وذكر أن الطبيعيين (هم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات، وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوانات، فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى، وبدائع حكمته، مما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم، مطلع على غايات الأمور ومقاصدها، ولا يطالع التشريح، وعجائب منافع الأعضاء مطالع إلا ويحصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبير الباني لبنية الحيوان، لا سيما بنية الإنسان..! إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ظهر عندهم ـ لاعتدال المزاج ـ تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان به، فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضاً، وأنها تبطل ببطلان مزاجه فينعدم، ثم إذا انعدم فلا يعقل إعادة المعدوم، كما زعموا، فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود فجحدوا الآخرة، وأنكروا الجنة والنار، والحشر والنشر، والقيامة، والحساب، فلم يبق عندهم للطاعة ثواب، ولا للمعصية عقاب، فانحل عنهم اللجام، وانهمكوا إنهماك الأنعام. وهؤلاء أيضاً زنادقة، لأن أصل الإيمان هو: الإيمان بالله واليوم الآخر، وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر، وإن آمنوا بالله وصفاته)
وذكر أن الإلهيين (وهم المتأخرون منهم مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس وأرسطاطاليس هو الذي رتب لهم المنطق، وهذَّب لهم العلوم، وحرر لهم ما لم يكن محرراً من قبل، وأنضج لهم ما كان فجاً من علومهم ـ وهم بجملتهم، ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية، والطبيعية، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (الأحزاب: 25) بتقاتلهم، ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبلهم من الإلهيين، رداً لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم)([13])
قال: انظر.. إن ما قرأته من هذا النص يدل على منهج حكيم للمحاور الحكيم.. وهو منهج أشار إليه قوله تعالى:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (البقرة:113)
قلت: ما تعني؟
قال: إن الآية الكريمة تشير إلى العداوة المستفحلة بين اليهود والنصارى.. وهي عداوة يمكن للمحاور الحكيم أن يستثمرها.. فيغني نفسه عن جهد كبير قد لا يكون بحاجة إليه.
قلت: نعم.. لقد ذكر جدك أبو حامد أنه استثمر العداوة فيما بين الفلاسفة، والصراع الذي كان بينهم.
قال: وهكذا الحكيم يستثمر الصراع بين الفلسفات المختلفة.. فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها، فهو أحق بها.
سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثالا..
قاطعه بعض رفاقي قائلا ـ وهو يبتسم ـ: هو لجدك أم لك.
ابتسم، وقال: ليس جدي سواي.. ولست سوى جدي.. لقد امتلأت حبا له، ففنيت فيه.. فلا تراني أتحدث إلا عنه.. فاعذروني..
أما هذا المثال.. فأنا الذي اكتشفته بحمد الله.. ولو أن لجدي سبب في اكتشافه..
لقد أردت مرة أن أحاور بعض أهل الكتاب في التحريف الذي طال كتبهم، ولم يكن لدي الوقت الكافي للبحث في المخطوطات والتراجم والنسخ المختلفة.. وقد سمعت حينها أن اسبينوزا.. الفيلسوف اليهودي المعروف.. كان قد كتب رسالة في اللاهوت والسياسة، وهو أساساً نقد للعهد القديم ولأسفار موسى الخمسة.. وقرأت أنه من أوائل المفكرين الذين وضعوا دعائم العلم الذي يُسمَّى (نقد العهد القديم)، أو (النقد التاريخي للكُتب المقدَّسة).. فرحت أستثمر كل ما قاله في ذلك.
قلت: وماذا لو كان اسبينوزا أخطأ في استنتاجاته؟
قال: أنا لا تهمني الاستنتاجات.. ولم أكن أطلب الاستنتاجات.. بل كنت أطلب الحقائق، والتوثيقات المرتبطة بها.. أما النتائج.. فيمكنك أن تستثمرها في أي محل.. ألست ترى من الناس من يأكل التفاح ناضجا، ومنهم من يأكله مربى، ومنهم من يأكله مطبوخا؟
قلت: المهم أنه أكل تفاحا..
قال: وهكذا فعلت.. لقد كنت أبحث عن تفاح الحقائق من جميع أنواع البساتين لأطبخ منه بعد ذلك ما أراه صالحا للمعد المختلفة.
بعد أن مكثنا فترة في الفرع الأول.. انتقلت مع بعض رفاقي إلى الفرع الثاني من قسم (الخبرة).. وقد كتب على بابه قوله تعالى:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64)
وقد قابلنا في مدخل هذا الفرع الغزالي مبتسما مهنئا، فسألناه عن سر وضع الآية في مدخل هذا الفرع، فقال: هنا نبحث في المسائل المهمة التي نحتاج إلى الحوار فيها.
قلت: كنت أتصور أن الحوار يمكن أن يكون في كل شيء؟
قال: أجل.. ولكنا في هذه المدرسة خصوصا آلينا على أنفسنا أن نبتعد عن كل لغو.. فلذلك جعلنا هذا القسم مركز أبحاث في المسائل المهمة التي ينبغي الحوار فيها.
قلت: فما علاقة ذلك بالآية؟
قال: الآية الكريمة هي التي هدتنا إلى ذلك.. فالله تعالى يخاطب أهل الكتاب داعيا لهم إلى الاجتماع مع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حول القضايا العقدية الكبرى.. والتي هي إفراد العبودية لله، وترك الخلافات الجانبية..
قلت: أهناك خلافات جانبية؟
قال: هي كثيرة جدا.. وأكثرها مما يستنفذ الجهود.. وأكثرها مما ينفخ فيه الشيطان.
قلت: فهل وجدتم ما تخمدون به نيران الشياطين؟
قال: أجل.. وجدنا ـ بحمد الله ـ الكثير.. ونحن نتدارس ذلك في هذا الفرع.
بعد أن مكثنا فترة في الفرع الثاني.. انتقلت مع بعض رفاقي إلى الفرع الثالث من قسم (الخبرة).. وقد كتب على بابه قوله تعالى:{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111)، وقد لاقانا الغزالي كعهدنا به في بداية الدخول إلى كل فرع، وبعد أن هنأنا بتخرجنا من الفرع السابق، قال: مرحبا بكم في القسم الثالث من أقسام الخبرة.. إنه القسم الذي ترثون به سنة البراهين من إرث الحوار النبوي.
قال بعض رفاقي: عهدنا بالبراهين تدرس في العلوم العقلية، لا في العلوم النقلية.. فكيف تعتبر البراهين العقلية إرثا من إرث النبوة؟
قال: لأنه لم يكتمل تطبيق البراهين العقلية لأحد من الناس كما اكتمل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولإخوانه من الأنبياء الكرام..
قلت: نحن نعرف أن أرسطو هو واضع البراهين العقلية.. فكيف تنسب ذلك للأنبياء؟
قال: ألا تعرف الخليل بن أحمد؟
قلت: وكيف لا أعرفه؟.. إنه واضع علم العروض، فهو مكتشف أوزان البحور الشعرية المعروفة وواضع تفعيلاتها.
قال: أمعلقته أجمل، أم معلقة زهير بن أبي سلمي؟
ضحكت، وقلت: ما بالك؟.. لا شك أن بضاعتك مزجاة في الشعر.. كيف تقارن بين رجل باحث لا علاقة له بالشعر بأولئك الفحول الكبار من الشعراء؟
قال: فعلم من ذكرت من الفحول بالعروض أكبر أم علم الخليل؟
قلت: بل علم الخليل.. فلم يكن في الجاهلية من يعرف بحور الشعر.
قال: وهكذا البراهين العقلية.. فرق كبير بين أن تعرف المقدمات والمقاييس وبين أن تطبقها.. نعم ربما يكون أرسطو أعلم بمصطلحات المنطق.. لكن التطبيق المثالي للمنطق لم يتحقق بكماله لغير الأنبياء وورثة الأنبياء.
قلت: ألست تحجر واسعا؟
قال: لا.. لم أحجر واسعا.. إن الأحكام العقلية تقتضي عقلا سليما لا تؤثر فيه أي شهوة أو شبهة.. فلا يمكن أن يكون الاستنتاج العقلي سليما، وهو محاط بأكوام الشهوات والشبهات.
قلت: أكوام الشبهات والشهوات !؟
قال: أجل.. ونحن في هذا الفرع من هذا القسم نبحث في هذه الأكوام لنطهر العقل منها، فلا يمكن للعقل الملطخ بذلك الدنس أن يصدر منه إلا الدنس.
قلت: اضرب لي أمثلة عنها..
قال: منها الكبر الذي تمتلئ به تلك العقول عن سماع غيرها.. لقد ذكر بعض هؤلاء، فقال:{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(البقرة:171).. إن في هذه الآية تشبيها بليغا للمؤمن الذي قد يكون محدود الثقافة، ومع ذلك يخاطب الكفار الذين قد يكون منهم العلماء والباحثون وأهل الفكر فلا يسمعون منه إلا صوته، ولا يفهمون ما يقول، أو قد يضحكون مما يقول، فهم كالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفهم ما يقول، لأن موجات الحديث مختلفة، وطريقة التفكير مختلفة، وبعد النظر متفاوت.
قال بعض رفاقي: صدقت.. فكثيرا ما نرى عقلا رياضيا جبارا يحل أعقد المعضلات الرياضية، أو عقل اقتصادي يحل أفتك أزمات مجاعة، أو عقل فيلسوف يقسم الشعرة بذكائه، ولكنه إذا ما حدث عن أبسط القضايا الإيمانية صعر خده ولوى عنقه، وقال: هذه قضايا هامشية، أو مسائل غير مطروحة، ويرضي ـ بعد ذلك ـ بأن يموت على إلحاد أو على إيمان لا وجود لأي أثر له في حياته.
قال: لقد شبه الله أمثال هؤلاء بالأنعام تشبيها صريحا في القرآن وفي مواضع كثيرة، بل يزيد في تفضيل الأنعام عليهم، قال تعالى:{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}(المائدة:22)، وقال:{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(الفرقان:44)
قلت: صدق الله العظيم.. إن هؤلاء الذين يتيهون بمعارفهم وصنائعهم الدنيوية البسيطة يوجد ما يماثلها في الحيوانات التي لم تدرس في الجامعات، ولم تقرأ الكتب، ولم تتلق أي تدريبات، فإن أي عنكبوت يتحدى أبرع مهندس، وأي نملة تتحدى وزارة تموين، وأي نحلة تفوز على جميع خبراء التغذية، بل أي نبات يفقه أسرار الجو كما لا يفقهه خبراء الإرصاد فيلبس لكل مناخ لبوسه.
قال بعض رفاقي: فهل هناك غير الكبر من حجب العقل؟
قال: كل ما درستموه في القسم الأول هو حجب من حجب العقل.. فالعقل الذي امتلأ صاحبه بالحسد والحقد لن يفكر إلا فيما يرضي سموم الحسد والحقد التي تمتلئ بها نفسه.
لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:109).. لقد ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن الحسد هو الذي حال بين هؤلاء وبين التسليم للحق..
قلت: ولكن مع ذلك.. فإن المقاييس العقلية يمكنها أن تطهر العقل من ران هذه الأكوام..
قال: ذلك صحيح.. إذا استطاع صاحب العقل أن يعمل عقله.. ويلغي ما تطلبه نفسه من نوازع الشر.
قلت: أي منطق تعتمدون في هذه المدرسة.. فإن للمنطق مدارس مختلفة.
قال: هو باختلاف مدارسه يؤول إلى شيء واحد.. ونحن نعتمد كل ما ورد في ذلك..
بعد أن مكثنا فترة في الفرع الثالث.. انتقلت مع بعض رفاقي إلى الفرع الرابع والأخير من قسم (الخبرة).. وقد كتب على بابه قوله تعالى:{ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة: 189)، وقد لاقانا الغزالي كعهدنا به في بداية الدخول إلى كل فرع، وقد كان أول ما سألته هو عن سر وضع آية الأهلة في مدخل الفرع، فقال: هذه الآية تشير إلى العلم الذي ستدرسونه في هذا الفرع.
قلت: أي علم؟
قال: علم التسيير.
قلت: عهدي بالتسيير يدرس في الاقتصاد والسياسة.
قال: ونحن نستثمر التسيير في الاقتصاد والسياسة لنحفظ به الحوار من أن يتحول إلى جدل.. أو نحفظ به الجدل من أن يتحول إلى الجدال بالتي هي أسوأ، لأنا أمرنا أن لا نجادل إلا بالتي هي أحسن.
قلت: فما علاقة الآية بذلك؟
قال: لقد ورد في سبب نزولها أن بعض الصحابة قالوا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت([14]).
قلت: أعرف سبب نزول الآية.. وأنا لم أسأل عن ذلك، وإنما أسأل عن الحكمة من وضع هذه الآية في هذا المحل.
قال: إن الله تعالى في هذا الجواب يعلمنا كيف نجيب، وكيف نحاور.. لقد سأل هؤلاء عن مسألة ترتبط بعلم الفلك، وهي فوق ذلك ترتبط بعلوم لا قبل لهم بها في ذلك الحين.. فصرفوا عنها صرفا حسنا إلى ما ينفعهم.
قلت: إن ذلك يشبه ما ورد في الحديث من أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: متى الساعة يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما أعددتَ لها؟)، قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة، ولا صوم، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: (أنت مع من أحببت)([15])
قال: أحسنت بذكر هذا المثال، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صرف السائل عما لا ينفعه إلى ما ينفعه.. دون أن يشعر السائل.. فلو قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا أعلم متى يوم القيامة)، فربما يقع في نفس الأعرابي ما يقع، لقرب عهده بالجاهلية، أو لجهله.. بالإضافة إلى أن ذلك لا يفيده أي فائدة جديدة.. ولهذا كان من حكمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صرفه عن سؤاله الذي لا ينفعه جوابه، إلى جواب ينفعه في دينه وآخرته، وينفع الأمة من بعده، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (وما أعددتَ لها؟)، فانصرف الأعرابي عن سؤاله.. وانشغل بما ينفعه عما لا ينفعه.
قلت: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا أيضا في قوله تعالى مخبرا عن الحوار الذي جرى بين موسى u وفرعون، كما قال :{ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)} (الشعراء)
قال: في هذه المحاورة فوائد جليلة، ونكت بديعة، ونحن نستثمرها هنا خير استثمار..
فمنها أن موسى u بدأ محاورته بالبيان، وأنه وأخاه رسولا رب العالمين.. وهذا توجيه للحوار، وتحكم في موضوعه حتى لا يصرفه فرعون إلى أي موضوع آخر..
ومنها عدم انسياق موسى u وراء ما يثيره فرعون، مما ليس هو محل المحاروة، فقد اعترض عليهما فرعون بقوله:{ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } (الشعراء:18) إشغالاً لهما عن نقطة البحث، وهي إثبات الربوبية لله.
ثم ذكّره بقتل الرجل..:{ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } (الشعراء:19)
فتنبه موسى u إلى ما يريده فرعون من صرف الحوار عن موضوعه الحقيقي، فبادره بالاعتراف، حتى لا يضيع الوقت في ذلك، فالوقت ثمين، والموقف لا يسمح بضياع شيء منه، { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضّالّينَ } (الشعراء:20)
فقطع موسى u بذلك الطريق على فرعون، كي لا يخرج عن الموضوع، وحتى لا يحول المحاورة إلى قضايا شخصية.
ثم رد على شبهته في مسألة تربيته باختصار رابطا لها بالموضوع الذي جاء من أجله، والذي هو تحرير بني إسرائيل:{ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنّهَا عَلَيّ أَنْ عَبّدتّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } (الشعراء:22)، أي: هل تعادل نعمة تربيتك لي، بالإساءات والأذيات لبني إسرائيل، أوَ تريد أن تستر ظلمك، وتعبيدك بني إسرائيل، بتربيتك لي، وبعبارة أخرى: أتذكر وتمن علي بتربيتك لي، وتتناسى ظلمك واستعبادك لبني إسرائيل.
فلما فشل فرعون في إشغال موسى u والحضور بإثارة الماضي، لجأ إلى الاتهام المباشر، وحاول السخرية من موسى واتهامه بالجنون، فلم يعبأ موسى u بمثل هذه الاتهامات، لأن فرعون أُسقط في يديه، فلا حاجة بعد ذلك للرد على الأمور الشخصية، فالقضية أكبر، والوقت أثمن.
لقد استمر موسى u في بيانه، وفي عرض أدلته.. فلما استهزأ فرعون به قائلاً:{ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } (الشعراء:23) كان جواب موسى:{ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } (الشعراء: 24)
ولما قال فرعون للملأ حوله:{ أَلَا تَسْتَمِعُونَ } (الشعراء:25)، قال موسى u ردا عليه:{ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } (الشعراء: 26)
ولما اتهمه فرعون بتهمة الجنون، أجابه موسى u في غير مبالاة بما يمس شخصه:{ رَبّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } (الشعراء:28)
وهكذا لم يلتفت موسى u لكل ما يرتبط بشخصه، بل بقي مصرا على الموضوع الذي جاء من أجله إلى آخر لحظة.
بعد أن مكثت ما شاء الله أن أمكث في القسم الثاني بفروعه الأربع، أذن لي مع بعض رفاقي أن ننتقل إلى القسم الثالث، وهو قسم (الأدب).. لقد كان مكتوبا في مدخل ذلك القسم قوله تعالى:{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46)، وقوله تعالى:{ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125)
وقد رأينا في ذلك القسم الذي يشبه المسجد حلقات كثيرة، أمامها مصنفات قديمة، سألنا الغزالي الذي كان في استقبالنا عن هذه الحلقات، فقال: هؤلاء أساتذة جاءوا من أصقاع الأرض يتدارسون ما ورد في السنة والسيرة المطهرة من آداب الحوار([16])..
قلت: لم يفعلون ذلك؟
قال: هم يعلمون أن الكمال مرتبط بسلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يصدر عن الإنسان الكامل إلا الكمال.. فلذلك راحوا يبحثون في هديه عن آداب الحوار..
قلت: أهذه الآداب سنن وفضائل.. أم مباحات وجائزات.. أم واجبات وفرائض؟
قال: السائر على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يفرق في هذا بين واجب ومستحب ومباح.. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو رمز الكمال، وهو الذي أدبه ربه، فأحسن تأديبه.. وما على من يريد الكمال إلا أن يسير على هديه من غير أن يتيه في الجدل أو يغرق في أوحال التكلف والفضول.
قلت: فكيف نتعلم في هذه الحلقات الكثيرة؟
قال: طوفوا عليها كما يطوف النحل على الأزهار.. ففي كل زهرة من الرحيق ما ليس في غيرها.
كانت أول حلقة بدأت بها جلس فيها قوم من البدو.. يبدو أنهم قدموا من جزيرة العرب.. فقد كانوا يرتدون ما يرتديه أهل تلك المناطق من ثياب..
قرأ قارئهم من الكتاب الضخم الذي كان بين يديه ما حدث به ابن عباس قال: لما نزلت:{ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟!.. فنزلت:{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد:1)([17])
بعد أن أنهى المحدث حديثه التفت إلى المحيطين به، وقال: ما الذي يمكن استثماره من هذا الحديث من الهدي النبوي في الحوار؟
قال أحدهم: الجهر بالحوار.. أحيانا لا بد من الجهر بالحوار لينتفع به الجميع، ولهذا ترون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدأ حديثه حتى اجتمعت الجموع حوله.
قال آخر: اختيار المكان والزمان المناسبين.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم اختار مكانا عاليا متوسطا يعرفه كل الناس، وهو جبل الصفا.
قال آخر: حسن الاستهلال.. ففي الحديث إشارة مهمة إلى أهميته في بدء الحوار.. وذلك لشد انتباه السامعين.
قال آخر: في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟) إلزام للمحاور.. حيث مهّد صلى الله عليه وآله وسلم لخطابه معهم بجعلهم يُقرّون له بالصدق والأمانة، مما يلزمهم التصديق بما يقول خاصة في قوله على الله تعالى، فما كان ليترك الكذب على الناس ثم يكذب على الله تعالى.
قال آخر: في الحديث نرى ـ أيضا ـ ما كان عليه صلى الله عليه وآله وسلم من الصبر على رد الطرف المخالف، ولو أساء الأدب.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد على أبي لهب إساءته، إنما تولى الله تعالى الرد، وذلك ليكون عبرة لمن يعتبر.
فالمطلوب منا هو التحمل والصبر، ولا نغضب لأنفسنا، لعل الطرف الآخر يرعوي أو يشعر بسوء تصرفه فيندم ويكون سبا في تراجعه عن مذهبه السيىء، كما قال تعالى:{ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34)
انتقلت إلى حلقة أخرى.. سمعت القارئ فيها يقرأ ما حدث به ابن اسحق من أن عتبة بن ربيعة ـ وكان سيدا ـ قال يوما ـ وهو جالـس في نادي قريـش ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في المسجد وحده ـ: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنّا؟ ـ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزيدون ويكثرون ـ فقالوا: يا أبا الوليد قُم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: (يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها)
قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت َ تريد به شرفا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه…
حتى إذا فرغ عتبة، ورسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني؟ قال: أفعل، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:{ بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) } (فصلت)، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما، يسمع منه، ثم انتهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك)
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
وفي روايات أخرى: أن عتبة استمع حتى إذا بلغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى:{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } (فصلت:13) قال: حسبك، حسبك، ووضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وناشده بالرحم أن يكف، وذلك مخافة أن يقع النذير، ثم قام إلى القوم فقال ما قال.
التفت القارئ إلى المحيطين به، وقال: ما ترون في هذا الحديث من آداب الحوار وسننه؟
قال أحدهم: الإنصات.. بل الإنصات الكامل حتى يفرغ الطرف الآخر دون مقاطعة، بل إتاحة المجال له إن أمكن لإضافة ما يريده إن كان غفل عن شيء أو نسيه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أقد فرغت يا أبا الوليد)، وهذا غاية في الإنصاف ونهاية في الذوق الرفيع.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم استمع لوجهة نظر الخصم بصدر رحب، مع أنها وجهة نظر مرفوضة، وذلك لضمان استماع الطرف الآخر لوجهة نظره.
قال آخر: عدم إظهار الاشمئزاز من الطرف الآخر مهما بلغت به الخصومة.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعنف عتبة، ولم يسخر منه.. وحاشاه من كل ذلك.
قال آخر: بل فوق ذلك نرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى الطرف الآخر حقه من الاحترام اللائق به في المخاطبة، والكلام معه بأدب وتقدير، ويظهر ذلك من مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعتبة بكنيته:{ أفرغت يا أبا الوليد)
قال آخر: مما يتجلى في الحديث من هديه صلى الله عليه وآله وسلم في الحوار أهمية الاستعانة بالقرآن الكريم وما فيه من مواعظ، خاصة إذا كان الطرف الآخر ممن يفهم ذلك ويُحسن تدبره، وقد اختار النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم آيات من أول سورة فصلت تناولت موقف المشركين من الإسلام وتعرضت لعقيدة التوحيد وقدرة الله تعالى الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
وقد كان لهذه الآيات وقع شديد على نفس عتبة بن الوليد حيث أثرت فيه تأثيرا شديدا، حتى جاء قومه وقال: (سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم)
انتقلت إلى حلقة أخرى.. سمعت القارئ فيها يقرأ ما حدث به ابن اسحق عن عبد الله بن عباس قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث، أخو بني عبد الدار، وأبو البَختري بن هشام، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود… قال: اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظَهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تُعذِروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشارف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فأتهم فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، وكان عليهم حريصا يحب رُشدهم ويَعزّ عليه عنَتَهُم، حتى جلس إليهم، فقالوا له: يا محمد إنا بعثنا إليك لنكلمك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة، وسفّهت الأحلام وفرّقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح قد جِئته فيما بيننا وبينك ـ أو كما قالوا له ـ فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئيا تراه قد غلب عليك ـ وكانوا يُسمون التابع من الجن رِئيا ـ فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نُبرئك منه، أو نُعذر فيك.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ـ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ
قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماءً ولا أشد عيشا منا، فسلْ لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيّقت علينا، ليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن لنا منهم قُصي بن كلاب، فإنه كان شيخَ صِدْق، فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألنا صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بهذا بُعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخـرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخُذ لنفسك، سلْ ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جِنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يُغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بُعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا ـ أو كما قال ـ فإن تقبلوا ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله بيني وبينكم.
قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك إلى الله، إن يفعله بكم فعل.
قالوا: يا محمد، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك ما تُراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا، إذ لم نقبل منك ما جئتنا به، إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نُهلكك أو تُهلكنا؟
فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام عنهم.
التفت القارئ إلى المحيطين به، وقال: هذا هو نص هذه الرواية.. فالتمسوا منها بدائع الأدب، وغرائب الحكمة.. فلا أدب أرفع من أدب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا حكمة أحكم من حكمته.
قال أحدهم: من الملاحظات المهمة المرتبطة بهذا الحديث أن قريشا هي التي طلبت إجراء الحوار، فبادر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى إجابتها على الرغم مما كانوا عليه من العناد والمكابرة.. وهذا يدل على أن الواجب يحتم على الدعاة وأهل العلم اقتناص كل فرصة فيها حوار، لعلها تكون مفتاحا لهداية الآخرين، ولأن ذلك فرصة ثمينة لعرض ما عندنا من الحق والخير واستماع وجهة نظر الآخر لمعرفة طريقة تفكيرهم وما هي بواعثهم وأهدافهم.
قال آخر: ومن الملاحظات المهمة ـ كذلك ـ أن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قد استمع لمطالبهم حتى انتهوا من ذلك دون أن يقاطعهم، وهذا يذكرنا بأهم أدب من آداب الحوار، وهو حسن الاصغاء للآخر حتى ينتهي، لأن المقاطعة توغر الصدور وتشتت الأفكار، وتُعكّر الحوار.
قال آخر: ومنها أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعرض لهم في هذا الحوار بتسخيف أو تعنيف أو شتم، مع أنهم تفننوا في تقبيح ما جاء به والتشنيع عليه في ذلك، حتى أنهم لم يستبعدوا كونه مريضا أو أنه يتلقى تعليمه من شخص آخر، ونحو ذلك مما يسيء له.. وذلك لأن الحرص على هداية الناس وإقناعهم بالحق يحتاج جواً من المودة والتسامح وإبداء التغاضي دون أي تشنج.
قال آخر: ومنها أن الرسـول صلى الله عليه وآله وسلم بادر بإيضاح موقفه عندما قال لهم: (ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا..)، وهذا الجواب الصريح ضروري ليقطع عليهم وساوسهم وأمنياتهم بتخذيله ومحاولة ثنيه عن هدفه، فالجواب الحازم فيما يتعلق بالمبادىء والثوابت أمر في غاية الأهمية، وذلك لإدراك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن الطرف الآخر عندما يشتد عليه الضغط ويخشى من عواقب ظهور أصحاب الحق يلجا إلى العروض المغرية من منصب أو جاه أو مال.
قال آخر: ومنها أهمية إظهار الصبر قولا وعملا، لأن الصبر دليل على الإيمان العميق بالفكرة، وبرهان على الصدق في المضي بها إلى آخر المطاف مهما كانت النتائج، ولهذا كان في جوابه صلى الله عليه وآله وسلم:(فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم..)، وإظهار الصبر أحد عوامل اقتناع الطرف الآخر بصدق المحاور وأنه صاحب هدف نبيل يضحي من أجله.
قال آخر: ومنها عدم انسياق المحاور وراء رغبات وتعجيزات الطرف الآخر، لأن الدعوات إنما تقوم على العقيدة التي قامت البراهين على صدقها، ثم إن طلبات التعجيز لا تنتهي لأن الهدف منها إضاعة الوقت أو جر الداعية إلى سلسلة من الطلبات غير الواقعية.
قال القارئ: لقد ذكر المؤرخون ما أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم جوابا على ما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وبعث من مضى من آبائهم من الموتى.. ومن ذلك قوله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (الرعد:31)، أي لا أصنع من ذلك إلا ما شئت.
ومنها قوله تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} (الفرقان:20)، أي جعلت بعضكم لبعض بلاءً لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رُسلي فلا يُخالفوا لفعلت.
ومنها قوله تعالى:{ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} (الإسراء)
وأنزل الله تعالى عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم:{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سـبأ:47)
انتقلت إلى حلقة أخرى، فسمعت القارئ يقرأ فيها ما حدث به ابن إسحق عن ابن عباس من أن أشراف قريش مشوا إلى أبي طالب عندما علموا بأنه على فراش الموت، فقالوا له: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكف عنا، ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه.
فبعث إليه أبو طالب فجاءه، فقال: يا ابن أخي.. هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك، ليعطوك وليأخذوا منك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم، كلمة واحدة تُعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم.
فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات.
قال: تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه.
فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا، إن أمرك لعجب!
ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا عل دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، قال: ثم تفرقوا.
فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططا.
التفت القارئ إلى الجمع، وقال: ما ترون في هذا الحديث؟
قال أحدهم: لقد حدد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلبه بدقة، فلا يحق لمن دخل في حوار أن يكون جاهلا بمطالبه، ولا مطالب خصمه.
قال آخر: انظروا كيف لم يتأثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك الاستهزاء الذي أبدوه عندما صفقوا.
تركتهم يستنبطون من الحديث وجوه الآداب والحكمة، وانتقلت إلى حلقة أخرى كان قارئها يروي ما حدث به ابن إسحق عن حوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع نفر من الخزرج، قال: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: من أنتم؟
قالوا: نفر من الخزرج
قال: أمن موالي اليهود؟
قالوا: نعم.
قال:أفلا تجلسون أكلمكم؟
قالوا: بلى.
فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: وكان مما صنع الله بهم في الإسلام، أن يهودا كانوا معهم في بلادهم… فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدَكم به يهود، فلا تسبقَنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام([18]).
التفت القارئ إلى الجالسين، وقال: ما تقولون في هذا الحوار؟
قال أحدهم: أرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استفاد في هذا الحوار من المناخ النفسي والظروف المحيطة بالطرف الآخر، فالطرف الآخر هنا ـ وهم الخزرج من أهل المدينة ـ يجاورهم اليهود وهم أهل كتاب، فلم يكن غريبا على أذهانهم الحديث عن الله تعالى وكتبه ورسله فيما يسمعونه دائما من اليهود، وكانوا مهيئين نفسيا لسماع حديث الإسلام، فقد كانوا يحسون دائما بالحسرة أمام اليهود، فهم أميون ليس عندهم رصيد يواجهون به اليهود الذين يشعرون بتفوقهم العلمي وأفضليتهم على غيرهم، لأنهم أهل كتاب، ثم إن الحديث عن النبي المرسل كان يملأ جو يثرب، بل يهددهم اليهود به، فما إن تناهى إلى سمع الخزرج حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى قالوا: (والله إنه للنبي الذي توعدَكم يهود فلا يسبقُنكم إليه)
قال آخر: وأرى كذلك ذلك الثبات والهدوء الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخاطبهم.. إن ذلك السمت وحده كاف للتأثير في القلوب والعقول.
***
ظللت فترة من الزمن أتردد على تلك الحلقات أستمع فيها إلى هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحوار، وآدابه فيه، وقد ملأني بالغرابة ما أراه من قوم يدعون أنهم يحتكرون السنة، وهم أبعد الناس عن تلك الآداب الراقية التي لم يكن يبديها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع من معه من المسلمين فقط، بل كان يبديها مع ألد أعداء الإسلام، وأشنع خصومه حتى لم يجدوا إلا أن يسلموا له، ويسلموا على يديه.
بعد أن مضت تلك المدة التي تشرفت فيها بدراسة ما ورد في السنة المطهرة والسيرة العطرة من مجالس الحوار التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أصناف الناس، انتقلت مع بعض رفاقي إلى القسم الرابع من أقسام الحوار، وقد وجدنا على بابه مكتوبا قصة حوار الله تعالى مع إبليس، وقد تعجبنا من وضع تلك القصة في ذلك المحل، ولذلك ما إن لاقانا الغزالي في مدخل ذلك القسم ـ كعادتنا به ـ حتى رحنا نسأله عن سر وضع تلك القصة في ذلك المحل، فقال: أتعرفون إبليس؟
ابتسمنا، وقلنا: ومن لا يعرفه؟.. ذلك الذي راح يتحدى ربه، لا يمكن أن يجهله أحد.
قال: ألا ترون كيف حاوره الله تعالى([19])، فبدأ بسؤاله عن سر تصرفه، ثم لما طلب منه النظرة أمهله؟
قلنا: أجل.. ذلك واضح.
قال: أرأيتم لو أن إبليس بدل أن يقول:{ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } (لأعراف: 12)، قال: (يا رب.. لقد عظم علي أن أسجد لغيرك، فاغفر لي إن كنت قد أخطأت)([20])
قلنا: لو قال ذلك ما كان إبليس إبليسا.
قال: أتقصدون أنه لو قال ذلك لم يطرد من رحمة الله.
قلت: أجل.. وفي السنة ما يدل على ذلك.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن عبدا من عباد الله آتاه الله مالا وولدا، فذهب من عمره عمر وبقي عمر، فقال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: إني والله ما أنا بتارك عند أحد مالا كان مني إليه إلا أخذته أو تفعلون بي ما أقول لكم، فأخذ منهم ميثاقا، قال: أما الأول، فانظروا إذا أنا مت، فأحرقوني بالنار، ثم اسحقوني، ثم انظروا يوما ذا ريح، فأذروني لعلي أضل الله، فدعي واجتمع، فقيل: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشية عذابك، قال: استقل ذاهبا فتيب عليه([21]).
فإن هذا الرجل تصور أنه قادر على إضلال الله، ولكنه في حواره مع الله تأدب، وأبدى حجته في تواضع وعبودية، فغفر له.
قال أحد رفاقي: بل في القرآن الكريم ما يدل على ذلك.. فإن القرآن كما ذكر ما وقع فيه إبلس، ذكر ما وقع فيه آدم u.. ولكن الفرق بينهما أن إبليس تعنت واستكبر، وآدم u تواضع، وقال مخاطبا ربه ـ ومعه زوجه ـ:{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (لأعراف: 23)
قال الغزالي: فقد عرفتم سر ما كتب في الباب من قصة إبليس وحواره مع ربه.
قلنا: لا.. لم نفهم.. نحن نعرف القصة من قبل.
قال: ألا ترون أن الله تعالى.. مع تعاليه وعظمته.. يحاور إبليس، وهو الذي عصاه، بل يعطيه فوق ذلك ما يطلبه من الإنظار؟
قلنا: ذلك صحيح.
قال: فهل هناك من هو شر من إبليس؟
قلنا: لا نعلم أحدا شرا منه.. فكل شر يحصل في الأرض له نصيب منه.
قال: فهل هناك من هو أعظم من الله؟
قلنا: ما تقول؟.. لو قلنا: نعم لكفرنا.
قال: فاعلموا إذن بأن الله تعالى في قدسه حاور شر خلقه، وأعدى أعدائه، فمن تكبر على أي شخص يريد أن يحاوره ـ مهما كان ـ فقد وضع نفسه في مرتبة أعظم من مرتبة الله، أو وضع من طلب محاورته في محل أخطر من المحل الذي جعل الله فيه إبليس.
رأينا فروعا كثيرة في ذلك القسم، فقلنا: ما هذه الفروع؟
قال: هذه الفروع تستن بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أنزلوا الناس منازلهم)([22])
قلنا: إن هذا الحديث ينزل كل منزل، فما منزله هنا؟
قال: المحاور الذي كلف بأن يخاطب الكل يعرف الأساليب التي يتعامل بها مع كل صنف، فلكل أسلوبه الخاص، ولكل منافذه الخاصة.
قلنا: فهل ننزل بهذه الفروع لنتعلم من أهلها؟
قال: أجل.. فلا يمكن لمن يريد أن يستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحوار أن يجهل هذا.
***
بعد أن درسنا بالتفصيل ما يرتبط بمناهج الحوار مع الملأ والعامة، وكيفية إجابتهم على ما ينتشر بينهم من شبهات، انتقلنا إلى فرع من فروع قسم السعة، وهو الفرع المسمى (الأحبار)، وقد كتب على باب هذا الفرع قوله تعالى:{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (العنكبوت:46)
وقد كان هذا الفرع من أهم الفروع الدراسية في هذه المدرسة، وقد استفدنا منه مناهج كثيرة في التعامل مع أحبار الأديان المختلفة..
لا يمكنني أن أذكر لك كل ذلك، ولكني سأذكر لك حادثة وقعت بين بعض زوار هذه المدرسة والغزالي.. سأحكيها لك بحروفها.. فقد كانت هذه الحادثة من أهم ما رغبنا في الدراسة في هذا الفرع.
بمجرد أن دخلنا إلى هذا الفرع، رأينا رجلا جسيما صاحب لحية طويلة، يمسك بالغزالي بشدة، ويقول: اتق الله يا رجل.. ما الذي تريد أن تفعل بالمسلمين؟.. ألم ترتدع وقد حرق سلفنا كتب جدك؟
ابتسم الغزالي، ولم يرد عليه.. أردنا أن نتدخل، فنهرنا.. ثم قال للرجل الذي لا يزال يمسك بتلابيبه: رويدك ـ يا أخي ـ فلا يمكنني أن أنتصح لما لم أنصح به.. انصحني ـ أولا ـ ثم عنفني كما تشاء.
أطلق الرجل الغزالي، ثم قال: لك الحق في هذا.. لقد استفزني الغضب لله، ولرسول الله، فرحت ـ من غير شعور ـ أفعل ما أفعل.
قال الغزالي: تعال نجلس.. ولتذكر حجتك بتفاصيلها.. وليكن هؤلاء شهودا على ما نقول.. ألسنا في مدرسة حوار؟
جلس الغزالي مع الرجل، وجلسنا في محل قريب منهما نسمع ما يقولان:
قال الرجل: لقد مررت على جمع هنا يقول كلاما تنهد له الجبال.
قال الغزالي: وما يقولون؟
قال الرجل: كله كفر وضلال.. فكيف أردده عليك؟
قال الغزالي: ألك حجة على إنكار ذلك؟
قال الرجل: بل لدي حجج كثيرة.. منها ما يرتبط بمصادرنا المقدسة، ومنها ما يرتبط بواقعنا.
قال الغزالي: يسرنا أن نسمعها منك، فحدثنا.. وابدأ بالدين.. فالدين مقدم على الواقع.. فلا اجتهاد مع نص.
قال الرجل: أول ذلك، وأبلغه قوله تعالى:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (آل عمران:64)، وقوله تعالى:{ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي } (آل عمران:20)، وقوله تعالى:{ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحج: 68)، فهذه الآيات الكريمة وأمثالها تغلق الباب أمام الحوار في العقائد، حيث أنها تحث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال المجادلة على تفويض الأمر إلى الله، وعدم الخوض في الحوار الكلامي مع الآخرين.
هذا زيادة على أن قضايا العقيدة الإيمانية، يتعذر إخضاعها للمحاجة والجدل، ومن ثم ينبغي أن يترك شأنها لرب القلوب والضمائر.
قال الغزالي: فما تقول في قوله تعالى:{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (العنكبوت: 46)
قال الرجل: هذه الآية تتعلق بالأمور الدنيوية المتصلة بالمعاملات الدائرة في إطار التعايش في علاقة المسلمين بغيرهم، فالخلاف حول العقائد يتعذر تجاوزه أو حتى الوصول فيه الى حل وسط، بل إن الحوار في مثل هذه الأمور العقدية قد يبعد ولا يقرب، ويورث المرارة ولا يبددها.
قال الغزالي: هذه حجتك الدينية، فما حجتك الواقعية؟
قال الرجل: لقد رأيت أن الحوار ما هو إلا وسيلة أراد القائمون عليه من خلالها اختراق عقول صفوة المفكرين المسلمين بهدف تحييدهم واخراجهم من دائرة الحوار الحقيقي، وذلك بإضفاء صفات السماحة والعصرية والتحضر والمرونة والتنوير وغير ذلك من المصطلحات التي تطلق على بعض المشاركين في هذه المؤتمرات.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هدف مؤتمرات الحوار مع الأحبار تذويب الاسلام عن طريق الإخاء الديني والحوار بين الأديان في ظل الدعوة الابراهيمية، ومثل هذه الدعوات دعوات خطيرة وخبيثة تستهدف عقيدة التوحيد عند المسلمين تحت شعار الوحدة بين الأديان، وما تفرع عن ذلك من محاولة طبع القرآن والتوراة والانجيل في غلاف واحد، وبناء مسجد وكنيسة وبيعة في محيط واحد.
ولخطورة هذه الدعوة أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء بالسعودية فتوى جاء فيها: (لا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد نبياً ورسولاً الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة والتشجيع عليها وتسليكها بين المسلمين، فضلاً عن الاستجابة لها، والدخول في مؤتمراتها وندواتها)
سكت الرجل، فقال الغزالي: هل فرغت ـ يا أخي ـ من ذكر حججك؟
قال الرجل: وهل ترى أن مثل هذه الحجج يمكن أن تقاوم.. إنها الصارم المسلول المجهز على كل محاور مشلول؟
قال الغزالي: فهل تأذن لي في أن أدلي بحججي؟
قال الرجل: تحدث كما تشاء.. ولكن إياك وبديهيات الدين.. فلا ينبغي أن يناقش أحد في البديهيات.
قال الغزالي: سأكتفي بشاهدين.. وستجد فيهما الجواب المفصل على ما ذكرته، فلا تقاطعني حتى أكملهما لك.
قال الرجل: فما أولهما؟
قال الغزالي: القرآن الكريم.. اذهب، وافتح القرآن الكريم، فستجده يقرر في مواضع كثيرة مبدأ الحوار مع أهل الكتاب وغيرهم، بل يضع ضوابط الحوار معهم، ويدعو إلى استخدام أرقى أنواع الخطاب وألطف العبارات في الحوار.
بل إنه فوق ذلك يقدم العديد من النماذج لأنواع من الحوار..
بل إنك في قراءتك للقرآن الكريم تجد كل شيء قابلا للحوار، فلا مقدسات ولا محرمات في الحوار، حتى في وجود الله تعالى وشخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنحن نعلم أن القرآن الكريم بسط كل هذه الموضوعات للحوار مع أهل الشرك والإلحاد فقد عرض لكل المفردات التي اتهم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شخصه وفي رسالته: هل هو مجنون أم عاقل؟ ساحر أم نبي؟ كاذب أم صادق؟ قرآنه بشري أم إلهي؟.. ثم عالج القرآن كل هذه المسائل بكل موضوعية وعلمية.
بل إن الله تعالى مع عظمته وقدسيته حاور إبليس، قال تعالى:{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } (لأعراف:12)
وذكر القرآن الكريم حواره تعالى مع ملائكته، قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:30)
ويذكر القرآن الكريم أن إبراهيم u حاور الملائكة، بل اعترض عليهم، قال تعالى:{ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)} (العنكبوت)، بل إن الله سمى حواره للملائكة جدالا، وهو دليلا على تكرر مراجعته لهم، قال تعالى:{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)} (هود)
وفوق هذا كله، فإن القرآن الكريم يحاور أهل الكتاب في قضايا دينهم، لا يترك في ذلك قضية من القضايا الكبرى إلا طرحها.
بل إنه ـ فوق ذلك كله ـ أمرنا بحوارهم دون أن يستثني عقيدة أو غيرها، قال تعالى:{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت:46)
فهذه الآية الكريمة ـ فضلاً عن مطالبتها بالجدال بالتي هي أحسن ـ كأنها تقول للمسلمين: إذا لم يكن في جعبتكم الأسلوب الأحسن في الجدال فلا تجادلوا أهل الكتاب.
وهي دعوة صريحة للحوار مع أهل الكتاب، حوار يركز على الانطلاق من مواطن اللقاء في الفكر والرسالة، والقواسم المشتركة مع أهل الكتاب، وعلى هذا الأساس كانت الدعوة إلى بدء الحوار من قاعدة مشتركة في قضية الإيمان التي يمكن أن توحي بإمكانية اللقاء في القضايا الأخرى..
قاطعه الرجل قائلا: ولكن الولاء والبراء([23])..
قال الغزالي: ألم أطلب منك أن تمهلني إلى أن أكمل حججي الأربع؟
قال: لا بأس.. قد وعيت الشاهد الأول.. فاذكر لي الثاني.
قال الغزالي: الثاني هو السنة المطهرة.. ففي السنة المطهرة الكثير من النصوص الدالة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاور من جاءه من أهل الكتاب سواء كانوا من اليهود أو النصارى..
لاشك أنك تعرف كيف قابل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصارى نجران وإحسانه وفادتهم وسماحه لهم بالصلاة في مسجده، وفوق ذلط محاورتهم في أمور الدين.. وهكذا وحواره صلى الله عليه وآله وسلم مع اليهود، ودعوتهم للإسلام.
وهكذا فعل صحابته في عهده، فأقرهم.. لاشك أنك تعرف ما جرى في مجلس النجاشي بأرض الحبشة بين مهاجري المسلمين والوفد القرشي الذي ذهب لردهم، حيث تلى جعفر بن أبي طالب قدرا من سورة مريم يخبر عن المسيح وأمه مريم، وانتهى الحوار بمناصرة النجاشي للمسلمين على وفد قريش، والإذن لهم بالاقامة في الحبشة ما شاءوا معززين مكرمين.
ولاشك أنك تعرف ما وقع في مجلس هرقل ملك الروم، بإيلياء (بيت المقدس)، وتولى عرض الإسلام دحية الكلبي الذي كان رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل،وانتهي الحوار بقبول هرقل لرسالة النبي إليه([24]).
ولاشك أنك تعرف ما وقع في المدينة المنورة بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين وفد نجران الذي جاء محتجاَ على وصف عيسى بن مريم u بأنه بشر وليس إلهاَ ولا ابن إله، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم إنه أخي وإنه عبد الله ورسوله،وأن الله تعالى لم يلد ولم يولد، ودعاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام، فأبوا فدعاهم الرسول إلى المباهلة،فرفضوا وقبلوا الجزية، وأعطاهم الرسول عهد الأمان مؤكدا فيه الالتزام التام بحمايتهم والدفاع عنهم، وحماية دور عبادتهم ضامناً لهم الحرية في العبادة وممارسة شعائرهم([25]).
التفت الغزالي إلى الرجل، وقال: هذه بعض حججي، فما تقول فيها؟
قال الرجل: ولكن.. سد الذرائع.. ألا تعلم أن المفسدة مقدمة على جلب المصلحة؟
قال الغزالي: أنت تخاف على المسلمين أن ينحرفوا إلى غير الإسلام.
قال الرجل: أجل.. أليس هذا الخوف معتبرا؟
قال الغزالي: أجل هو معتبر.. ولكن.. ألا تخاف على هذه البشرية التائهة عن الإسلام أن تموت على غيره؟
قال الرجل: هي تائهة لا محالة.
قال الغزالي: ولكنا مسؤولون عن تيههم.. إذا جاءوا يوم القيامة، وقالوا: يا رب.. إن هؤلاء قاطعونا، وحرمونا من النور الذي أنزلته، واستأثروا به دوننا، فما عسانا نجيب ربنا؟
قال الرجل: نقول: يا رب.. إنهم أسمعونا كلاما عظيما.
قال الغزالي: ألا تعلم أن الحوار هو الذي يكشف عن الجواهر، أم أنك تريد منهم أن ينافقوك، فيظهروا خلاف ما يبطنون.
سكت الرجل قليلا، ثم قال: صدقت.. لا أجد ما أجيبك به إلا أن أطلب منك أن تسمح لي أن أنضم إلى هذه المدرسة، فعسى الله أن يفتح علي فيها من العلم ما أتمكن به من إنقاذ أخ من إخواني في الإنسانية من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام.
قال الغزالي: بورك لك هذه الهمة.. وأبشر بما بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يهتم بهمتك، فقال مخاطبا عليا :(انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم)([26])
***
مكثت في ذلك الفرع برهة طويلة من الزمن درست خلالها كل ما جادت به قريحة علماء المسلمين في الحوار بينهم وبين سائر الملل والنحل.
وقد عرفت من تلك الدراسة المفصلة العميقة.. أنها جميعا لم تكن تنهل إلا من بحار القرآن الكريم، وبحار الرسول الهادي الذي جعله الله نورا للعالمين، كما جعله رحمة لهم.
قلت: فما حال تلك المدرسة، وكيف تركتها؟
قال: لقد تركتها بخير.. ولكنها تحولت إلى شر.
قلت: ما هذا؟.. وهل يتحول الخير إلى شر؟
قال: ليست المدارس بجدرانها.. ولكنها بأصحابها.. لقد كان الغزالي هو مدير تلك المدرسة وأستاذها، وكان النبي المحاور هو روح تلك المدرسة وسر حياتها..
قلت: فما حصل لهما؟
قال: أما الغزالي، فقد طعنه بعض الحاقدين الذين أحرقوا كتب جده.. وأما النبي المحاور، فقد راح أولئك الحاقدون يصورونه بصورة لا أستطيع أن أذكرها لك.
قلت: ما هي؟
قال: صورة نفوسهم المملوءة بالأحقاد، فهم لا يسمعون إلا أنفسهم وأهواءهم.. فلذلك راحوا يصفون الحوار بالهرطقة، والمحاورين بالمبتدعة.
قلت: فما وضعوا بدل الحوار؟
قال: السيف بنوعيه.
قلت: أللسيف نوعان؟
قال: نعم.. أما أحدهما، فالسيف الذي تعرفه، وقد انتدبت له طائفة منهم.. وأما الثاني، فسيف الحرمان؟
قلت: ما سيف الحرمان؟
قال: أنت أدرى الناس به.. ألا تعلم أن الكنيسة تعاقب من تنتقم عليه بحرمانه من بركات الكنيسة، والمسيحية؟
قلت: بلى.. أعلم ذلك.
قال: فقد راح هؤلاء يسلطون هذا السيف على كل الناس.. يرمونهم بما شاءت لهم أهواؤهم أن يرموهم به.
قلت: والمدرسة.. كيف حالها؟
قال: أما بنيانها، فباق.. ويوشك أن يقيض الله لها حفيدا من أحفاد الغزالي ليعيد لها الحياة.
***
ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا أنفسنا قد قطعنا المرحلة الثالثة من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب.. ولم يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية تتربص بنا من كل اتجاه.
لقد تنزلت
علي بمجرد قطعي لتلك المرحلة أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله
عليه وآله وسلم.
([1]) رواه البخاري ومسلم.
([2]) وذلك لما روي أن الغزالي لما رجع إلى مسقط رأسه مدينة طوس بعد فترة الخلوة (اتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية، ووزع أوقاته على وظائف من ختم القرآن ومجالسة أرباب القلوب والتدريس لطلبة العلم وإدامة الصلاة والصيام وسائر العبادات إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى)
([3]) نشير به إلى أبي حامد الغزالي (450 – 505هـ، 1058 – 1111م) الملقب بحجة الإسلام، وهو محمد بن محمد بن محمد، أبو حامد الغزاليّ وُلِدَ في طُوس، وفقد أباه صبيًّا، فرباه وصيٌّ صوفي فترة من الزمن، ثم وضعه في مدرسة خيرية يعيش ويتعلم. أتى نيسابورَ، وتعلَّم التصوف على الفرامدي، والفقه والكلام على إمام الحرمين، ثم أتى مجلس نظام المُلك، حيث أقام ست سنوات، عيّنه بعدها الوزير أستاذًا في نظامية بغداد. درّس في بغداد أربع سنوات (484-488هـ) مرّ أثناءها بشكوك وألف كتابين هما: مقاصد الفلاسفة؛ حيث عرض فلسفة الفارابي وابن سينا، وتهافت الفلاسفة، حيث انتقد هذه الفلسفة. ترك بغداد، وتفرغ للخلوة عشر سنوات، عاد بعدها إلى التعليم في نيسابور. اعتزل التعليم بعد سنة 500 هـ، 1106م وأسس مدرسة وخانقاه.
وقد اخترناه لهذا الفصل باعتباره من أئمة الحوار الكبار وأعلامه والدعاة إليه.
([4]) رواه البخاري ومسلم.
([5]) رواه البخاري ومسلم.
([6]) رواه البخاري ومسلم.
([7]) الإحياء: 1/45.
([8]) الإحياء: 1/45..
([9]) رواه ابن ماجة.
([10]) رواه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
([11]) المنقذ من الضلال.
([12]) رواه أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم.
([13]) المنقذ من الضلال.
([14]) رواه ابن عساكر.
([15]) رواه البخاري ومسلم.
([16]) استفدنا في هذا المبحث خصوصا من البحوث المقدمة في (مؤتمر الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي) المقام في مدينة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة في الفترة من 28 – 30/3/1428هـ..
([17]) رواه البخاري.
([18]) رواه ابن إسحق.
([19]) اعتبر العلماء حوار الله تعالى مع إبليس مناظرة، قال الرازي:( دلّت المناظرات المذكورة في القرآن بين الله تعالى وبين إبليس على أنه تعالى كان يتكلم مع إبليس من غير واسطة، فذلك هل يسمى وحياً من الله تعالى إلى إبليس أو لا، الأظهر منعه، ولا بد في هذا الموضع من بحث غامض كامل) التفسير الكبير: 27/619.
([20]) روي أن إبليس استشفع بموسى u إلى ربه أن يتوب عليه فشفع، فقال: يا موسى إن سجد لقبر آدم، فأعلمه، فقال بعد أن أظهر الغضب: لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا.
([21]) رواه أحمد والحكيم والطبراني في الكبير عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
([22]) رواه أبو داود.
([23]) ذلك أن من ذرائع المعارضين للحوار اعتبارهم الحوارتنازلاً عن مبادئ الإسلام وهدماً لقاعدة الولاء والبراء.. وما أكثر ما جني على الإسلام تحت ذريعة الولاء والبراء، وسوء الفهم للولاء والبراء.
([24]) سنذكر التفاصيل المرتبطة بهذه الرسائل في فصل (الشاهد) من هذه الرسالة.
([25]) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في فصل (الشاهد) من هذه الرسالة.
([26]) رواه البخاري ومسلم.