ثالثا ـ اللين

ثالثا ـ اللين

قلت: عرفت السر الثاني من أسرار الإنسان.. فما السر الثالث؟

قال: لينه..

قلت: ما تقصد بذلك؟

قال: كما أن في التربة ما هو لين سهل طيب، فكذلك من طباع الإنسان ما يجعله كذلك.. لقد ذكر ربنا هذا الطبع في الإنسان، فقال عند بيانه لتأثير قراءة القرآن الكريم في النفوس :{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)} (الزمر)

وقد دعا الله تعالى أنبياءه إلى مخاطبة أقوامهم بالأسلوب الذي يتناسب مع هذا الطبع، كما قال تعالى عن موسى وهارون – عليهما السلام- :{ اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44)} (طه)

قلت: لقد ظللت مدة متعجبا من دعوة الله لهذين النبيين الكريمين لمخاطبة ذلك الجلف المستكبر الغليظ باللين.. لقد كنت أقول لنفسي: أليست الحكمة أن يخاطب كل امرئ بحسب حاله وخصاله.. فكيف يخاطب الغليظ باللين؟

قال: لأن الغليظ وإن كان غليظا.. والجلف وإن كان جلفا، فإن فيه من اللين ما يجعله قد يرى الحقائق من خلاله.. لقد ذكرت لك أن عجينة الإنسان فطرت على اللين كما فطرت على الخشونة.. وقد يأتيك باللين ما لا يأتيك بالخشونة..

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال مخبرا عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم :{ فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} (آل عمران)

 قلت: وعيت هذا.. فهل لاستفادتك لهذا السر قصة؟

قال: أجل.. فبعد أن من الله علي، فعرفت ما ذكرته لك من أسرار في تلك المدينة العجيبة – التي فتح الله لي فيها من علوم الإنسان ما كان منغلقا – سرت، كما تعودت، على غير هدى، إلى أن وجدت رجلين يتحاوران، وقد شدني حديثهما، فقعدت أستمع إليهما.

كان أولهما غليظا شديدا.. ولكنه مع ذلك يحمل قلبا ممتلئا رحمة ولينا.. ولكن غلظته طغت على لينه، وشدته قست على رحمته.. فلم يبدو إلا غليظا قاسيا.

وكان ثانيهما على عكس صاحبه لينا رفيقا.. ولو أنه هو الآخر يحمل في نفسه استعدادا للغلظة والشدة.. ولكن لينه غلب شدته، ورحمته غلبت قسوته.. فلم يبدو إلا لينا لطيفا رؤوفا.

سأحكي لك ما دار بينهما من حوار.. فقد كان هو المفتاح الذي فتح الله لي به علي أسرار اللين..

قال أولهما للثاني: ألا ترى أنك بهذا ستفتح أبوابا للشر قد يصعب عليك غلقها؟

قال الثاني: لا.. لا يمكن أن يأتي اللين بالشر.. وكيف يأتي بالشر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لينا هينا سهلا.. وقد وصفه ربنا، فقال :{ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ } (التوبة) فهو صلى الله عليه وآله وسلم رؤوف رحيم شفيق، ومن شفقته على الأمة تخفيفه وتسهيله عليهم وكراهته أشياء مخافة أن تفرض عليهم كقوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء)([1])، ومثل ذلك نهيه عن الوصال، وكراهته دخول الكعبة لئلا يعنت أمته، وكان يسمع بكاء الصبي فيتجوز في صلاته.. وهكذا مما وردت النصوص الكثيرة تخبر عنه، وتدل عليه.

قال الثاني: لكأني بك تنتقي من الأدلة ما تشاء، وتختار من الشمائل ما تهوى..

قال الأول: لا.. معاذ الله.. فكل من وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن هذا.. ولولا أن هذه هي الصفة الغالبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما وردت كل تلك النصوص تدل عليها.

قال الثاني: فأين أنت – إذن – من موقفه صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى بعض أصحابه يختلفون في آية من القرآن، فتماروا فيها حتّى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا، قد احمرّ وجهه، ويقول: (مهلا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض. إنّ القرآن لم ينزل يكذّب بعضه بعضا، بل يصدّق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه)([2]

وأين أنت مما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم خرج على بعض أصحابه، وهم يتنازعون في القدر فغضب حتّى احمرّ وجهه حتّى كأنّما فقيء في وجنته الرّمّان، فقال: (أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنّما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم، عزمت عليكم ألّا تتنازعوا فيه)([3]

وأين أنت من حروبه التي حارب بها صلى الله عليه وآله وسلم أعداء دينه.. أليست تلك الحروب خير مثال على الشدة التي جاء بها هذا الدين؟

قال الأول: نعم أقر بما ذكرت.. ولكنه قليل بجنب ما ورد من رحمته ولينه.. بالإضافة إلى أنك لو تأملت جيدا ما ذكرته، فستجد أن غضبه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المواقف كان غضب رحمة ولطف، لا غضب قسوة وشدة.

إنه كما قال الشاعر:

فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازماً

   فليقسُ أحياناً على من يرحمُ

***

بينما هما في هذه الأحاديث وغيرها إذ دخل عليهما رجل، وقال: هلما بنا لنحضر حفل افتتاح مدرسة جديدة بناها بعض أهل الله في هذه البلدة.. وهو من الكرام الذين شرفهم الله بأن يتسموا باسنم إبراهيم الخليل.. وقد سماها (مدرسة الرفق)، وقد ذكر لي أنه يريد من خلالها أن يحيي سنة الرفق التي يرى أن هناك من يحاول إماتتها.

لم أجد إلا أن أسير معهما إلى هذه المدرسة.. وقد رأيتها كسائر المدارس تضم أقساما كثيرة.. وقد شرفني الله، فتعلمت في سبعة أقسام منها.. وعلى مشايخ لا زلت أفخر بالانتساب إليهم، والتعلم على أيديهم.

1 ـ الرحمة

قلت: فمن أولهم.. من أول مشايخك في هذه المدرسة؟ وماذا تعلمت على يديه؟

قال: أول مشايخي في هذه المدرسة رجل من أهل أصفهان امتلأ علما بجهله، ثم امتلأ علما بعلمه، فصار من الذين يدرون، ويدرون أنهم يدرون.. كان يقال له (أبو القاسم الاصفهاني)([4])، وهو يعرف بين تلاميذه بالراغب.

قلت: ما أوقح هؤلاء التلاميذ.. كيف اختاروا لشيخهم هذا الاسم؟

قال: هم لم يريدوا ما فهمت.. هم لا يعرفون من الرغبة إلا الرغبة في الله، وفيما عند الله.. ولذلك كان شيخهم يحب هذا الاسم، ويجيب من يناديه به.

قلت: فحدثني عن العلوم التي استفدتها منه.

قال: كل العلوم التي نلتها منها تنبع من بحار الرحمة.. لقد حاول بكل الأساليب أن يملأ قلبي وقلوب تلاميذه بالرحمة..

كان أول ما سمعناه منه عند دخولنا عليه قراءته الخاشعة لقوله تعالى :{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} (آل عمران)

ثم قال لنا: انظروا ما تفعله الرحمة.. إن الله تعالى يعتبر الرحمة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي السبب الأكبر في اجتماعهم حوله.. وهو ينبهنا بذلك إلى أن نجمع القلوب حولنا بهذه السنة العظيمة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

قلنا: فعلمنا كيف نتحلى بها.

قال: لا يمكن أن تتعلموا الرحمة إلا من الرحماء.. فاقتدوا بهم لتتعلموا على أيديهم.

قلنا: فمن هم الرحماء الذين ترشدنا أن نتعلم على أيديهم قوانين الرحمة وأخلاقها؟

قال: أعظمهم هو الله.. فالله هو الرحمن الرحيم الذي ملأت رحمته أقطار الكون..

قلنا: فحدثنا عن سعتها.

قال: لا يمكن التعبير عن سعة رحمة الله، ولا عن حدودها، لأنه لا حدود لها.. فكل ما نراه في الكون هو مظهر بسيط من مظاهر رحمة الله التي لا حدود لها.

وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليه وألقمته ثديها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم:(  أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه؟)، قالوا:( لا يا رسول اللّه)، قال:( فواللّهِ، للُّه أرحمُ بعباده من هذه بولدها) ([5]

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا بأن هذه الرحمة التي وقفتها هذه الأم ليست سوى تجل من تجليات رحمة الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( جعل اللّه الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) ([6]

ولذلك كان أكثر أسماء الله الحسنى يصب في بحر الرحمة، فتوبة الله على عباده، وتجاوزه عنهم من رحمته بهم.

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكي عن ربه قوله لعباده:( إذا تقرب إلي العبد شبرا تقربت إليه ذراعا وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة) ([7])، وقوله:( يا ابن آدم قم إلي أمش إليك وامش إلي أهرول إليك) ([8]

والله هو الودود الذي يحب عباده، ويفيض عليهم لمحبته لهم كل أنواع الخير، ولا يحول بينه وبين التودد إليهم ما يبارزونه به من الخطايا والمعاصي، وفي الأثر الإلهي يقول الله تعالى: (إني والجن والإنس في نبإ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي)([9])

وفي أثر آخر:( ابن آدم، ما أنصفتني، خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، أتحبب إليك بالنعم وأنا عنك غني، وتتبغض إلي بالمعاصي، وأنت فقير إلي)

وفي أثر آخر:( يا ابن آدم ما من يوم جديد إلا يأتيك من عندي رزق جديد، وتأتي عنك الملائكة بعمل قبيح، تأكل رزقي وتعصيني، وتدعوني فأستجيب لك، وتسألني فأعطيك، وأنا أدعوك إلى جنتي فتأبى ذلك)

وفي أثر آخر:( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، يا  ابن آدم لو أتيتني بقرابة الأرض – بضم القاف ويجوز كسرها أي قريب ملئها – خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) ([10]

وقد أخبر القرآن الكريم أن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طـه:5)، وفي ذلك إشارة إلى أن مملكة هذا الكون الواسعة مبنية على أساس الرحمة الإلهية ومنتهية إليها.

فالله تعالى في تلك الآية الكريمة لم يختر من أسمائه إلا هذا الاسم الجليل الذي يجمع بين الدلالة على منتهى الرحمة وكمالها والعلمية على الذات ليدل على هذا المعنى، فإنه إذا قيل:( حكم الملك الشجاع) دل ذلك على ان أكبر منجزات هذا الملك مؤسسة على شجاعته، وإن قيل:( حكم الملك العادل) دل ذلك على أن أبرز ما يظهر في مملكته هو عدله، وهكذا.

وهذه الآية تدل على أن الخبراء بالله العارفين به يدركون هذا المعنى، فلذلك كان أكثر كلام العارفين في التحبيب في الله والدلالة على أبواب رحمته، بل كان أعظم العارفين صلى الله عليه وآله وسلم هو الرحمة المهداة.

ولهذا يربط القرآن الكريم بين ملك الله الذي يعني تدبير الله للأشياء وبين رحمته تعالى، كما قال تعالى:{  الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} (الفرقان:26)

ولذلك ورد في القرآن الكريم الإخبار عن سعة الرحمة الإلهية وشمولها باعتبار الكون مؤسسا عليها إنشاء وتدبيرا، قال تعالى:{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ((الأعراف:من: 156)، وقال تعالى:{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (الأنعام:147)

قلنا: عرفنا الأول.. وأعظم به.. ولكنا نريد واحدا من البشر له ما للبشر، وعليه ما عليهم.

قال: فذاك هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم الرحماء.. ذلك الذي وصفه ربه، فقال :{ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} (التوبة)، وقال :{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)

وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم – كما وصفه ربه – سهلا لينا يسيرا ما غضب لنفسه قط، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري.. بل كان يقول لهم كل حين:( إنما ‏أنا لكم مثل الوالد لولده)([11])

وكان يقول: (لولا أن أشق على أمتي لأحببت ألا أتخلف خلف سرية تخرج في سبيل الله، ولكن لا أجد ما أحملهم عليه، ولا يجدون ما يتحملون عليه، وشق عليهم أن يتخلفوا بعدي..)([12])

وكان يقول: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء، ومع كل صلاة)([13]

وحدث أنس قال: (ما رأيت أحدا كان أرحم بالعباد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )([14])

وعن مالك بن الحويرث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحيما، رفيقا، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا، فسألنا عمن تركنا عند أهلنا، فأخبرناه، فقال: (ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا عندهم)([15])

وعن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجاوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجدانه من بكائه)([16])

وعن أبي سعيد الخدري قال: صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأقصر سورتين في القرآن، فلما قضى الصلاة، قال له أبو سعيد أو معاذ: صليت صلاة ما رأيتك صليت مثلها قط، قال: (أنا سمعت بكاء الصبي خلفي وترصف النساء، أردت أن تفرغ له أمه)([17])

وعن عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جوف الليل يصلي في المسجد، فصلى رجال صلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، ففقدوا صوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل بعضهم يتنحنح، ليخرج إليهم، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى صلاته أقبل على الناس، ثم تشهد وقال: (أما بعد: فإنه لم يخف عني شأنكم الليلة، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة، فتعجزوا عنها، فصلوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)([18]

وعن أبي هريرة قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن ابن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: لي عشرة من الولد، ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (إن من لا يرحم لا يرحم)([19])

وعن عائشة قالت: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنكم تقبلون الصبيان، وما نقبلهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أو أملك لك أن نزع الله تعالى الرحمة من قبلك)([20])

وعن عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العرج في فتح مكة رأى كلبة تهر على أولادها وهن حولها يرضعنها، فأمر رجلا من أصحابه يقال له جعيل بن سراقة أن يقوم حذاءها، لا يعرض أحد من الجيش لها، ولا لأولادها([21]).

وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل منزلا فأخذ رجل بيض حمرة، فجاءت ترف على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (أيكم فجع هذه في بيضها؟) فقال رجل: أنا يا رسول الله أخذت بيضها، فقال: (اردده، رحمة لها)([22])

***

بقينا مدة في صحبة الراغب الأصفهاني يعلمنا علوم الرحمة وأسرارها، ويذكر لنا من أخبار أهلها ما تتشوف له نفوسنا.. وبعد أن اختبرنا بعض الاختبارات، ورأى نجاحنا فيها أجازنا فيها وفي علومها.. ثم أمرنا بالسير إلى القسم الثاني من أقسام تلك المدرسة (مدرسة الرفق)

2 ـ الحلم

سرنا إلى القسم الثاني، وكان إمامه إمام من أئمة التقوى والعرفان.. كان الجميع يطلقون عليه (أبو طالب المكي)([23]) تشبيها له بذلك الولي الصالح الذي كتب في أحوال القلوب ومقاماتها وأعمالها ما تزودت به الأجيال، وتربت عليه الرجال.

عندما دخلنا عليه قال لنا: لا يمكنكم أن تكونوا مؤمنين صالحين ما لم تمتلئ قلوبكم بالحلم..

قلنا: ما الحلم؟

قال: هو الطّمأنينة عند سورة الغضب..

قلنا: ما أصعب هذا.. فكيف يملك أحدنا غضبه، وقد ركب فيه تركيبا.. فلا يكاد ينفك عنه؟

قال: من لم يملك جمرة غضبه أحرقته.. ألم تسمعوا بأن الغضب جمرة من النار؟

قلنا: لا.. كيف ذلك؟

قال([24]): لقد ذكر العارفون بالله مرشدو السالكين إلى طريق الله أن الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة.. وذكروا أنها مستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد، وإنما يستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد، كاستخراج الحجر النار من الحديد.

وقد انكشف للناظرين بنور اليقين، أن الإنسان ينزع منه عرق إلى الشيطان اللعين، فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان حيث قال :{ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} (الأعراف)،  ذلك أن شأن الطين السكون والوقار، وشأن النار التلظي والاستعار، والحركة والاضطراب.

قلنا: وعينا هذا.. فما موقد هذه النيران الحارقة لحقيقة الإنسان، المقربة له من جنس الشيطان؟

قال: لقد روي في الأخبار أن نبي الله يحيى سأل المسيح – عليهما السلام -: أي شيء أشد؟ قال: غضب الله، قال: فما يقرب من غضب الله؟ قال أن تغضب، قال: فما يبدي الغضب وما ينبته؟ قال عيسى: (الكبر والفخر والتعزز والحمية)

هذا ما أجاب به المسيح.. وقد ذكر مرشدو السالكين بالإضافة إلى ذلك الزهو والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيير والمماراة والمضادة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهي جميعا أخلاق رديئة مذمومة شرعاً.

قلنا: عرفنا العلة.. فما علاجها؟

قال: من عرف العلة سهل عليه علاجها.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: لقد ذكر المرشدون أن العلل تداوى بأضدادها.. فالزهو يعالج بالتواضع.. والعجب يعالج بمعرفة النفس.. والمزاح يعالج بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر وتفضل عنه.. والهزء يعالج بالتكرم عن إيذاء الناس، وبصيانة النفس.. والتعيير يعالج بالحذر عن القول القبيح وصيانة النفس عن مر الجواب.. وشدة الحرص تعالج بالقناعة بقدر الضرورة طلباً لعز الاستغناء وترفعاً عن ذل الحاجة.

وكل خلق من هذه الأخلاق وصفة من هذه الصفات يفتقر في علاجه إلى رياضة وتحمل مشقة، وحاصل رياضتها يرجع إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها وتنفر عن قبحها، ثم المواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة على النفس، فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل وتخلصت أيضاً عن الغضب الذي يتولد منها.

قال رجل منا: اسمح لي أن أذكر لك بأني – بحمد الله ومنته- ليس لدي من أسباب الغضب جميع ما ذكرت.. ولكني مع ذلك أجدني أغضب أحيانا غضبا شديدا.. ولست أدري ما سبب ذلك؟

قال المكي: لعلك سمعت من يعتبر الغضب شجاعة ورجولية وعزة نفس وكبر همة.. وسمعت من يلقب من حاله هذه بالألقاب المحمودة.

قال الرجل: نعم.. فأنا قد ولدت في قوم ممتلئين أنفة وحمية.. وهم ينعتون كل من لم يكن حاله كذلك بالضعة والذل والمهانة..

قال المكي: لقد أخطأ قومك في هذا..  فتسمية الغضب وما ينتج عنه عزة نفس وشجاعة جهل، بل هو مرض قلب ونقصان عقل، وهو لضعف النفس ونقصانها، وآية أنه لضعف النفس أن المريض أسرع غضباً من الصحيح، والمرأة أسرع غضباً من الرجل، والصبي أسرع غضباً من الرجل الكبير، والشيخ الضعيف أسرع غضباً من الكهل، وذو الخلق السيئ والرذائل القبيحة أسرع غضباً من صاحب الفضائل.. فالرذل يغضب لشهوته إذا فاتته اللقمة، ولبخله إذا فاتته الحبة، حتى أنه يغضب على أهله وولده وأصحابه.. بل القوي من يملك نفسه عند الغضب كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) ([25])

قال الرجل: فما علاج من هذا حاله؟

قال المكي: علاجه بمضادة سببه.

قال الرجل: كيف ذلك؟

قال المكي: ألم يكن قومك يذكرون شدة غضب الأكابر في معرض المدح بالشجاعة؟

قال الرجل: بلى.. ذلك صحيحا، وقد كنا نمتلئ بهم إعجابا لذلك.

قال المكي: فلذلك يعالج هذا الحال بعكس ذلك.. وذلك بأن تتلى حكايات أهل الحلم والعفو وما استحسن منهم من كظم الغيظ، فإن ذلك منقول عن الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء وأكابر الملوك الفضلاء، وضد ذلك منقول عن الجهلة والأغبياء الذين لا عقول لهم ولا فضل فيهم.

قال الرجل: فهلا حكيت لنا من ذلك ما يخمد نيران الغضب في قلوبنا.

قال المكي: لك ذلك.. وأولهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشرف خلق الله.. وقد روي في أخبار حلمه ما لا تطيقه الرجال:

لقد تمكن صلى الله عليه وآله وسلم من أعدائه الذين صبوا عليه وأصحابه جميع أنواع العذاب، وسلبوا أموالهم، وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم قابل كل تلك الإساءات بالعفو والصفح والحلم قائلاً: (يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟)، قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( اذهبوا فأنتم الطلقاء )

لقد أنزل الله عليه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (النحل:126)، فاختار أن يعفو عنهم ويصبر على ما كان منهم، وأن لا يعاقب فقال: (نصبر ولا نعاقب)

حدث جابر أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قفل معه أدركتهم القائلة في في واد كثير العضاة فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت سمرة فعلق سيفه، ونمنا نومة، فإذارسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: (إن هذا اخترط علي سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده فقال: من يمنعك مني؟) فقلت: الله ثلاثا، ولم يعاقبه وجلس([26]).

وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل يقبض يوم حنين من فضة في ثوب بلال، ويفرقها، فقال له رجل: يا رسول الله أعدل، فقال: (ويحك، من يعدل إذا أنا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن كنت لا أعدل) فقال عمر: ألا أضرب عنقه فإنه منافق؟ فقال: (معاذ الله أن يتحدث أني أقتل أصحابي)([27])

وعن عبد الله بن مسعود قال: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناسا في القسمة ليؤلفهم، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى ناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله تعالى، قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته، فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصرف، ثم قال: (فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟ ثم قال: (يرحم الله موسى u، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)([28])

وعن عبد الله بن سلام: أن زيد بن سعية ـ وهو أحد علماء أهل الكتاب من اليهود ـ قال: إنه لم يبق من علامات النبوة شئ إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: أن يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه، فابتعت منه تمرا معلوما إلى أجل معلوم، وأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة، أتيته، فأخذت بجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ، فقلت: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله إنكم يا بني عبد المطلب لمطل، وقد كان لي بمخالطتكم علم، فقال عمر: أي عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أسمع؟ فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إلى عمر في سكون، وتؤدة، وتبسم، ثم قال: (أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعا، مكان ما رعته)، ففعل عمر، فقلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا اثنتين لم أخبر هما منه، يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد خبرتهما، فأشهدك أني رضيت بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيا([29]).

وعن عائشة قالت: ابتاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة، فجاء منزله، فالتمس التمر، فلم يجده، فخرج إلى الأعرابي فقال: (عبد الله، إنا قد ابتعنا منك جزورك هذا بوسق، من تمر الذخيرة، ونحن نرى أن عندنا، فلم نجده) فقال: الأعرابي: واغدراه واغدراه، فوكزه الناس وقالوا: إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقول هذا؟ فقال: (دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا) فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين أو ثلاثا، فلما رآه لا يفقه عنه قال لرجل من أصحابه: (اذهب إلى خولة بنت حكيم بن أمية فقل لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك إن كان عندك وسق من تمر الذخيرة فسلفينا حتى نؤديه إليك إن شاء الله تعالى) فذهب إليها الرجل، ثم رجع قال: قالت: نعم هو عندنا يا رسول الله، فابعث من يقبضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للرجل: (اذهب فأوفه الذي له) فذهب، فأوفاه الذي له، قال فمر الأعرابي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو جالس في أصحابه، فقال: جزاك الله خيرا، فقد أوفيت وأطيبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أولئك خيار الناس الموفون المطيبون)([30])

وعنها قالت لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول اللّه! هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟. فقال: (لقد لقيت من قومك. وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلّا بقرن الثّعالب، فرفعت رأسي- فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلّم عليّ، ثمّ قال: يا محمّد! إنّ اللّه قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربّك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (بل أرجو أن يخرج اللّه من أصلابهم من يعبد اللّه وحده لا يشرك به شيئا)([31]

عن أنس قال: كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليْه بُرُدٌ نجرانىّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابىّ فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرتُ إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أثَّر بها حاشية الرَّداء من شدَّة الجذبة، ثم قال: يا محمد مُرْ لى من مال الله الذى عندك، فالْتَفتَ إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء([32]).

وعن أبي هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتقاضاه فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(دعوه فإن لصاحب الحق مقالا، ثم قال: اعطوه شيئا مثل سنة)، فقالوا: يا رسول الله، لا نجد إلا أفضل من سنه، قال: (اعطوها، وخيركم أحسنكم قضاء)([33])

وعن أنس أن يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها فجئ بها، فقيل: ألا تقتلها فقال: (لا)([34]

وعن عبد الله بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كسرت رباعيته، وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لم أبعث لعانا، ولكن بعثت داعيا ورحمة، اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون)([35])

قال الرجل: وعينا هذا.. فحدثنا عن حلم الورثة.

قال: لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن الورثة وما يجنونه من حلمهم وسعة صدرهم، فقال: (إذا جمع الخلائق نادى مناد: أين أهل الفضل؟ قال: فيقوم ناس وهم يسير، فينطلقون سراعاً إلى الجنة، فتتلقّاهمً الملائكة فيقولون: إنا نراكم سراعاً إلى الجنة فمن أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الفضل. فيقولون: ما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظُلِمْنا صبرنا، وإذا أُسئَ إلينا حَلُمْنا. فيقال لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين)([36]

وقال يوسف بن أسباط: علامة حسن الخلق عشر خصال؛ قلة الحلاف، وحسن الإنصاف، وترك طلب العثرات، وتحسين ما يبدو من السيئات، والتماس المعذرة، واحتمال الأذى، والرجوع بالملامة على النفس والتفرد بمعرفة عيوب نفسه دون عيوب غيره، وطلاقة الوجه للصغير والكبير، ولطف الكلام لمن دونه ولمن فوقه.

وسئل سهل عن حسن الخلق فقال: أدناه احتمال الأذى وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه.

روي أن إبراهيم بن أدهم خرج يوماً إلى بعض البراري فاستقبله رجل جندي فقال: أنت عبد؟ قال: نعم، فقال له: أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة، فقال الجندي: إنما أردت العمران؟ فقال: هو المقبرة، فغاظه ذلك فضرب رأسه بالسوط فشجه ورده إلى البلد فاستقبله أصحابه فقالوا: ما الخبر؟ فأخبرهم الجندي ما قال له فقالوا، هذا إبراهيم بن أدهم! فنزل الجندي عن فرسه وقبل يديه ورجليه وجعل يعتذر إليه، فقيل بعد ذلك له: لم قلت له أنا عبد؟ فقال: إنه لم يسألني: عبد من أنت بل قال: أنت عبد؟ فقلت: نعم، لأني عبد الله، فلما ضرب رأسي سألت الله له الجنة، قيل: كيف وقد ظلمك؟ فقال: علمت أنني أؤجر على ما نالني منه فلم أرد أن يكون نصيبي منه الخير ونصيبه مني الشر.

ودعى أبو عثمان الحيري إلى دعوة – وكان الداعي قد أراد تجربته – فلما بلغ منزله قال له: ليس لي وجه، فرجع أبو عثمان فلما ذهب غير بعيد، دعاه ثانياً فقال له: يا أستاذ ارجع فرجع أبو عثمان، فقال له مثل مقالته الأولى فرجع، ثم دعاه الثالثة وقال: ارجع على ما يوجب الوقت فرجع، فلما بلغ الباب فإن له مثل مقالته الأولى فرجع أبو عثمان، ثم جاءه الرابعة فرده حتى عامله بذلك مرات وأبو عثمان لا يتغير من ذلك، فأكب على رجليه وقال له: يا أستاذ إنما أردت أن أختبرك فما أحسن خلقك! فقال: إن الذي رأيت مني هو خلق الكلب، إن الكلب إذا دعي أجاب وإذا زجر انزجر.

وروي عنه – أيضاً – أنه اجتاز يوماً في سكة فطرحت عليه إجانة رماد فنزل عن دابته فسجد سجدة الشكر، ثم جعل ينفض الرماد عن ثيابه ولم يقل شيئاً، فقيل: ألا زبرتهم، فقال: إن من استحق النار فصولح على الرماد لم يجز له أن يغضب.

وروي أن أبا عبد الله الخياط كان يجلس على دكانه، وكان له حريف مجوسي يستعمله في الخياطة، فكان إذا خاط له شيئاً حمل إليه دراهم زائفة، فكان أبو عبد الله يأخذ منه ولا يخبره بذلك ولا يردها عليه، فاتفق يوماً أن أبا عبد الله قام لبعض حاجته، فأتى المجوسي فلم يجده فدفع إلى تلميذه الأجرة واسترجع ما قد خاطه فكان درهماً زائفاً، فلما نظر إليه التلميذ عرف أنه زائف فرده عليه، فلما عاد أبو عبد الله أخبره بذلك فقال: بئس ما عملت هذا المجوسي يعاملني بهذه المعاملة منذ سنة وأنا أصبر عليه وآخذ الدراهم منه وألقيها في البئر لئلا يغر بها مسلماً.

وقيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم! فقال: من قيس بن عاصم، قيل ما وبلغ من حلمه؟ قال: بينما هو جالس في داره إذ أتته جارية له بسفود عليه شواء فسقط من يدها فوقع على ابن له صغير فمات، فدهشت الجارية فقال لها: لا روع عليك أنت حرة لوجه الله تعالى.

وروي أن أويساً القرني كان إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة، فكان يقول لهم: يا إخوتاه إن كان ولا بد فارموني بالصغار حتى لا تدموا ساقي فتمنعوني عن الصلاة.

وشتم رجل الأحنف بن قيس وهو لا يجيبه وكان يتبعه فلما قرب من الحي وقف وقال: إن كان قد بقي في نفسك شيء فقله كي لا يسمعك بعض سفهاء الحي فيؤذوك.

وروي أن علياً دعا غلاماً فلم يجبه فدعاه ثانياً وثالثاً فلم يجبه. فقام إليه فرآه مضطجعاً فقال: أما تسمع يا غلام؟ قال: بلى، قال: فما حملك على ترك إجابتي؟ قال: أمنت عقوبتك فتكاسلت، فقال: امض فأنت حر لوجه الله تعالى.

وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مرائي، فقال: يا هذه وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة.

وكان ليحيى بن زياد الحارثي غلام سوء فقيل له: لم تمسكه؟ فقال: لأتعلم الحلم عليه.

وروي أن سارقاً دخل خباء عمار بن ياسر بصفين فقيل له اقطعه فإنه من أعدائنا، فقال بل أستر عليه لعل الله يستر علي يوم القيامة.

وجلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعاماً فابتاع ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلت فقال لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها اللهم افعل به كذا، فقال عبد الله: اللهم إن كان حمله على أخذها فبارك له فيها وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه.

وقال الفضيل: ما رأيت أزهد من رجل من أهل خراسان جلس إلي في المسجد الحرام ثم قام ليطوف فسرقت دنانير كانت معه فجعل يبكي فقلت أعلى الدنانير تبكي؟ فقال: لا. ولكن مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل فأشرف عقلي على إدحاض حجته فبكائي رحمة له؟

***

بقينا مدة في صحبة أبي طالب المكي يعلمنا الحلم وأسراره، ويذكر لنا من أخبار أهله ما تتشوف له نفوسنا.. وبعد أن اختبرنا بعض الاختبارات، ورأى نجاحنا فيها أجازنا فيه وفي علومه.. ثم أمرنا بالسير إلى القسم الثالث من أقسام تلك المدرسة.

3 ـ الألفة

سرنا إلى القسم الثالث، وكان إمامه إمام من أئمة العلم والصلاح.. وكان يعرف بين الجميع بـ (شمس الأئمة)، وكان – كما ذكر لي – من نسل العلامة الجليل محمد بن أحمد السرخسي([37])..

بمجرد أن دخلنا علينا قرأ علينا قوله تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} (آل عمران)، وقوله تعالى :{ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} (الأنفال)

ثم قرأ علينا قوله صلى الله عليه وآله وسلم :(المؤمن مؤلّف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)([38])، وفي رواية: (المؤمن مألفة ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)، وفي أخرى:(المؤمن مألف مألوف حيي ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس)([39]

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ أحبّكم إليّ أحاسنكم أخلاقا، الموطّئون أكنافا([40])، الّذين يألفون ويؤلفون، وإنّ أبغضكم إليّ المشّاءون بالنّميمة المفرّقون بين الأحبّة الملتمسون للبراء العيب([41])([42]

وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)([43]

وقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)([44]

وقوله: (ما أدخل رجل على مؤمن سروراً إلا خلق الله عز وجل من ذلك السرور مَلَكاً يعبد الله عز وجل ويوحَّده، فإذا صار العبد فى قبره أبتاه ذلك السرور فيقول: أما تعرفنى؟ فيقول له: مَن أنت؟ فيقول: أنا السرور الذى أدخلتنى على فلان، أنا اليوم أونس وَحْشتك، وأُلقَّنك حُجَّتَك، وأُثْبَّتك بالقول الثابت، وأُشهدك مشاهدك يوم القيامة، وأشفع لك إلى ربك، وأُريك منزلك من الجنة)([45])  

سألناه عن المعاني التي تشير إليها هذه النصوص المقدسة، فقال: هذه النصوص تشير إلى خلق من أخلاق اللين التي دعا إليها الإسلام.. بل وضع منظومة من التشريعات لتخدمها.

ومن ذلك ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) ([46])

ومن ذلك ما ورد في موعظة لقمان u من قوله لابنه :{ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } (لقمان:18)

ومن ذلك ما ورد في القرآن الكريم من التنبيه إلى كثير من أصول الآداب الاجتماعية، كآداب الاستئذان، كما في قوله تعالى :{ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (النور:59)

أو آداب الزيارة كما في قوله تعالى :{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (النور:61)

أو آداب المجالس، كما في قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }  (المجادلة:11)

أو آداب الكلام، كما في قوله تعالى :{ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } (لقمان:19)، وقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } (الحجرات:2)

أو آداب التحية، كما في قوله تعالى :{ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } (النساء:86)

أو آداب المشي، كما في قوله تعالى :{ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} (الاسراء:37) 

أو آداب التعامل مع مختلف أصناف الناس بما يناسبهم، كما في قوله تعالى :{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } (النور:63)

وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أصحابه أصول هذه الآداب وفروعها، وقد قال لهم مرة:( إنكم قادمون على إخوانكم، فأحسِنوا لباسَكم، وأصلحوا رِحالكم، حتى تكون كأنكم شامَةُ في الناس، فإنَّ الله لا يُحبُّ الفُحشَ ولا التَفَحُّشَ)([47])، والنصوص والأمثلة على ذلك كثيرة تفيض بها كتب السنة.

بالإضافة إلى هذا.. فقد حمي التآلف الاجتماعي من كل المنغصات التي قد تؤثر في العلاقات الاجتماعية، ومن ذلك ما نص عليه قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} (الحجرات)

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدرك أن بقاء هذه المة رهين بتآلف القلوب التي التقت على الحب في الله، وأن حتفها في تناحر قلوبها لذلك كان يحذر من أن يذر الخلاف قرنه فيقول: (الا تختلفوا فتختلف قلوبكم)([48]

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجتث بذرة الخلاف قبل أن تتنامى.. فعن عبدالله بن عمر قال : هجّرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال : (إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب)([49]

وعن النزال بن سبرة قال: سمعت عبدالله بن مسعود قال سمعت رجلا قرأ آية سمعت من رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : (كلاهما محسن)، قال شعبة: أظنه قال : لا تختلفوا فإن من قبلكم اختلفوا فهلكوا)([50]

***

بقينا مدة في صحبة شمس الأئمة يعلمنا الألفة وأسرارها، ويذكر لنا من أخبار أهلها ما تتشوف له نفوسنا.. وبعد أن اختبرنا بعض الاختبارات، ورأى نجاحنا فيها أجازنا فيها وفي علومها.. ثم أمرنا بالسير إلى القسم الرابع من أقسام تلك المدرسة.

4 ـ الكرم

سرنا إلى القسم السابع، وكان إمامه من أئمة العلم والصلاح والكرم.. وكان أهل هذا القسم يطلقون عليه اسم (علي بن أحمد الكوفي)([51])، ولست أدري سر ذلك.. هل هو اسمه حقيقة.. أم أنهم يطلقون عليه ذلك لعلاقة بينه وبين سميه علي بن أحمد الكوفي عالم الأخلاق الكبير.

عندما دخلنا عليه سمعناه يقرأ لبعض تلاميذه الذين اجتمعوا إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ اللّه كريم يحبّ الكرم، ويحبّ معالي الأخلاق، ويكره سفسافها([52]))([53]

وحدثهم عن جرير بن عبد اللّه قال: لمّا بعث النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أتيته، فقال: (يا جرير! لأيّ شيء جئت؟) قال: جئت لأسلم على يديك، يا رسول اللّه! قال: فألقى إليّ كساءه ثمّ أقبل على أصحابه، وقال: (إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه)، وقال: وكان لا يراني بعد ذلك إلّا تبسّم في وجهي([54]).

بعد أن روى هذا وغيره سألناه عما تدعو إليه هذه النصوص المقدسة، فقال: إنها تدعو إلى خلق من الأخلاق العظيمة التي يتميز بها الصاعدون عن الهابطين.. والمؤمنون المترفعون من القاعدين المتثاقلين.

قلنا: ما أعظم هذا الخلق.. فما هو؟

قال: إنه الكرم([55]).. فالكريم هو الذي آمن بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وذو الجود العظيم.. فدعاه إيمانه إلى التخلق بأخلاق الله، والثقة في فضله.

قلنا: فدلنا على السبيل إليها، فإنا نجد في نفوسنا من البخل ما يحول بيننا وبينها.

قال: أول السبل إليه وأعظمها هو العرفان، فمن عرف الله وأحبه وتخلل الحب جميع وجدانه، فإنه لا محالة سيدعوه حبه إلى التشبه بحبيبه الذي امتلأ قلبه بحبه.. فالله هو الكريم الّذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرّجاء، ولا يبالي كم أعطى ولمن أعطى، وإن رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفي عاتب، ولا يضيع من لاذبه والتجأ، بل يغنيه عن الوسائط والشّفعاء.

قلنا: وعينا هذا.. فما غيره؟

قال: حب العظيم الذي شهد لعظمته وسمو أخلاقه كل شيء.. بدأ من ربه سبحانه الذي قال يخاطبه :{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} (القلم)

قلنا: فحدثنا عن كرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

قال: لقد حدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه الممتلئة كرما وجودا، وكأنه يدعو كل محتاج لأن يمد يده إليه لينال من جوده، فقال (ألا أخبركم عن الأجود؟ الله الأجود، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل تعلم علما فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمة وحده، ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل) ([56])

وقال، وقد التفت إلى أحد: ( والذي نفسي بيده ما يسرني أن أحدا يحول لآل محمد ذهبا، أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت ما أدع منه دينارين، إلا دينارين أعدهما لدين إن كان) ([57])

وقال: (لو عندي مثل أحد ذهبا ما سرني أن يأتي علي ثلاث ليال، وعندي منه شئ إلا شيئا أرصده لدين) ([58])

وقد كان أصحابه والمقربون إليه يعرفون هذه الصفة فيه، ويصفونه بها:

فعن علي أنه كان إذا نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان أجود الناس كفا ([59]).

وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس ([60]).

وكان من الصفات التي عرفه من خلالها الكل هو أنه كان أبعد الناس عن رد أي سائل يسأله، مؤتمرا في ذلك بما أمره الله تعالى به، قال تعالى:{ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)} (الضحى)

وقد كانت الصفة التي عرف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. عرفه بها جميع الناس.. أنه لا يسأل شيئا إلا أعطاه.

قال أنس: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه([61]).

وقد ذكر نموذجا لذلك، فقال: فسأله رجل غنما بين جبلين فأعطاه إياها، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فوالله إن محمدا ليعطى عطاء من لا يخاف الفقر([62]).

قال أنس: وإن كان الرجل ليجئ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يريد بذلك إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه من الدنيا وما بينها ([63]).

وعن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سئل عن شئ، فأراد أن يفعله قال: (نعم) وإن أراد ألا يفعله سكت، وكان لا يقول لشئ لا ([64]).

وعن سهل بن سعد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حييا لا يسأل شيئا إلا أعطى ([65]).

وعنه أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتها، قال سهل: أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشملة، قال: نعم، قالت: نسجتها بيدي لأكسوكها فخذها، فأخذها النبي صلى الله عليه وآله وسلم محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها لإزاره فقال الأعرابي: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هبها لي، فقال: (نعم)، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها فأرسل بها إليه، ثم سأله، وعلم أنه لا يسأل شيئا فيمنعه، قال: والله إني ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، رجوت بركتها حين لبسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال سهل: فكانت كفنه([66]).

وعن هارون بن أبان قال: قدم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعون ألف درهم، وهو أكثر مال أتي به قط، فوضع على حصير من المسجد، ثم قام بنفسه، فما رد سائلا، حتى فرغ منه ([67]).

قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن غيره.

قال: حب الورثة الذين تضمخت أرواحهم بعطر النبوة..

قلنا: فحدثنا عن كرمهم.

قال: عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت :{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} (البقرة) قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح قال: أرني يدك يا رسول الله. قال: فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي. قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها. قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح. قالت: لبيك قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل([68]).

وفي رواية: أن أبا الدحاح انطلق حتى جاء أمَّ الدّحاح وهى مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل، فأنشأ يقول:

هداك ربى سبل الرَّشاد

  إلى سبيل الخير والسَّداد

بينى من الحائط بالوداد

  فقد مضى قرضاً إلى التَّناد

أقرضته الله على اعتمادى

   بالطَّوْع لا مَنَّ ولا ارتداد

إلا رجاء الضعف في المعاد

  فارْتحلى بالنفس والأولاد

والبرُّ لا شك فخير زاد

  قدمه المرء إلى المعاد

قالت أم الدحداح: ربح البيع!! بارك الله لك فيما اشتريت.. وأنشأت تقول:

بشرك الله بخير وفرح

  مثلك أدى ما لديه ونصح

قد متّع الله عيالى ومنح

  بالعجوة السوداء والزهو البلح

والعبد يسعى وله ما قد قدح

  طول الليالى وعليه ما اجترح

ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: (كم من عَذْق رَدَاح ودار فياح لأبى الدحداح)

***

بقينا مدة في صحبة علي بن أحمد الكوفي يعلمنا الكرم وأسراره، ويذكر لنا من أخبار أهله ما تتشوف له نفوسنا.. وبعد أن اختبرنا بعض الاختبارات، ورأى نجاحنا فيها أجازنا فيه وفي علومه.. ثم أمرنا بالسير إلى القسم الخامس من أقسام تلك المدرسة.

5 ـ الحياء

سرنا إلى القسم الخامس، وكان شيخه علم من أعلام الهداية.. وكان قد قدم من بغداد، كان الجميع يطلقون عليه (أبا الفرج ابن الجَوْزي)([69]).. ولست أدري هل كان ذلك اسمه حقيقة، أم أنهم يسمونه بذلك لما وهبه الله من الملاحظة الدقيقة.. أم أنهم يسمونه بذلك لما أوتيه من قدرة عجيبة على الوصول إلى القلوب بمواعظه الرقيقة.

كان أول ما خاطبنا به عند دخولنا عليه قوله: (استحيوا من اللّه حقّ الحياء)([70]

قال رجل منا: (إنّا نستحيي والحمد للّه)

قال: (ليس ذاك، ولكنّ الاستحياء من اللّه حقّ الحياء: أن تحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدّنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من اللّه حقّ الحياء)

قلنا: فحدثنا عن الحياء.. فلا يمكن أن يستحيي من لا يعرف الحياء.

قال: الحياء هو تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به.. أو هو انقباض النّفس من شيء وتركه حذرا عن اللّوم فيه.. أو هو ما يبعث على ترك القبح ويمنع من التّقصير في حقّ ذي الحقّ.. أو هو التّرقيّ عن المساوىء خوف الذّمّ.. أو هو انقباض النّفس من شيء حذرا من الملام.

قلنا: فما أنواعه؟

قال: عشرة([71]): حياء جناية، وحياء تقصير، وحياء إجلال، وحياء كرم، وحياء حشمة، وحياء استحقار النّفس، وحياء محبّة، وحياء عبوديّة، وحياء شرف وعزّة، وحياء المستحيي من نفسه.

قلنا: فما حياء الجناية؟

قال: منه حياء آدم عليه السّلام لمّا فرّ هاربا في الجنّة.. فقال اللّه تعالى له: (أفرارا منّي يا آدم؟)، قال: لا يا ربّ.. بل حياء منك.

قلنا: فما حياء التّقصير؟

قال: كحياء الملائكة الّذين يسبّحون اللّيل والنّهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: (سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك)

قلنا: فما حياء الإجلال؟

قال: هو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة العبد بربّه يكون حياؤه منه.

قلنا: فما حياء الكرم؟

قال: كحياء النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من القوم الّذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطوّلوا الجلوس عنده، فقام واستحيا أن يقول لهم: انصرفوا.

قلنا: فما حياء الحشمة؟

قال: كحياء من استحيا أن يسأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور تتعلق بالدين يستحيا من ذكرها.

قلنا: فما حياء الاستحقار، واستصغار النّفس؟

قال: كحياء العبد من ربّه عزّ وجلّ حين يسأله حوائجه، احتقارا لشأن نفسه، واستصغارا لها.

قلنا: فمّا حياء المحبّة؟

قال: هو حياء المحبّ من محبوبه، حتّى إنّه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحياء من قلبه، وأحسّ به في وجهه ولا يدري ما سببه.. وكذلك يعرض للمحبّ عند ملاقاته محبوبه ومفاجأته له روعة شديدة. ومنه قولهم (جمال رائع) وسبب هذا الحياء والرّوعة ممّا لا يعرفه أكثر النّاس.. فإذا فاجأ المحبوب محبّه، ورآه بغتة، أحسّ القلب بهجوم سلطانه عليه فاعتراه روعة وخوف.

قلنا: فما حياء العبوديّة؟

قال: هو حياء ممتزج من محبّة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديّته لمعبوده، وأنّ قدره أعلى وأجلّ منها. فعبوديّته له توجب استحياءه منه لا محالة.

قلنا: فما حياء الشّرف والعزّة؟

قال: هو حياء النّفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء أو إحسان، فإنّه يستحيي مع بذله حياء شرف نفس وعزّة.

قلنا: فما حياء المرء من نفسه؟

قال: هو حياء النّفوس الشّريفة العزيزة الرّفيعة من رضاها لنفسها بالنّقص، وقناعتها بالدّون، فيجد نفسه مستحييا من نفسه، حتّى كأنّ له نفسين، يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء. فإنّ العبد إذا استحيى من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر.

قلنا: وعينا هذا.. فعلمنا السبيل الذي يجعل للحياء محلا في سلوكنا.

قال: أولها معرفة الله ومحبته.. فمن عرف الله وأحبه لابد أن يسري إليه من الحياء ما يملؤه أدبا.. وقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ ربّكم حييّ كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه يدعوه أن يردّهما صفرا، ليس فيهما شيء)([72]

وعن أشجّ عبد القيس أنّه قال: قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ فيك خلّتين يحبّهما اللّه- عزّ وجلّ-)، قلت: ما هما؟ قال: (الحلم والحياء)، قلت: أقديما كان فيّ أم حديثا؟ قال: (بل قديما)، قلت: (الحمد للّه الّذي جبلني على خلّتين يحبّهما)([73]

قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن سبيل آخر.

قال: محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو معدن الأدب وإكسيره، وهو شمس الأخلاق الطيبة ونورها.. فمن تعرض لأشعته سرى إليه من فيضه ما ملأه حياء وأدبا..

قلنا: فحدثنا عن حياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال: لقد حدث أبو سعيد الخدري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه)([74])

وعن أنس قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وجه رجل صفرة فقال: (لو أمرتم هذا أن يغسل هذه الصفرة)، وكان لا يكاد يواجه أحدا في وجهه بشئ يكرهه([75]).

وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بلغه عن رجل شيئا لم يقل له: قلت: كذا وكذا قال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا)([76])

وعن سهل بن سعد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حييا لا يسأل عن شئ إلا أعطى([77]).

وعن هند بن أبي هالة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خافض الطرف، جل نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة([78]).

وعن عائشة قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخطب، فحمد الله تعالى، ثم قال: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشئ أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله تعالى، وأشدهم له خشية)([79])

***

بقينا مدة في صحبة ابن الجوزي يعلمنا الحياء وأسراره، ويذكر لنا من أخبار أهله ما تتشوف له نفوسنا.. وبعد أن اختبرنا بعض الاختبارات، ورأى نجاحنا فيها أجازنا فيها وفي علومها.. ثم أمرنا بالسير إلى القسم السادس من أقسام تلك المدرسة.

6 ـ الرفق

سرنا إلى القسم السادس، وقد كان شيخه رجلا من كبار العلماء.. ومن الذين أوتوا حنكة ورأيا وذكاء حادا.. وقد كان يطلق عليه لأجل ذلك (أبو حنيفة)([80]).. ولست أدري هل هو أبو حنيفة عاد إلى الحياة من جديد.. أم أن الرجل من نسل أبي حنيفة، وقد ورث من جده قوة عقله، وذكاءه الحاد.

عندما دخلنا عليه مجلسه سمعناه يقرأ بخشوع قوله تعالى :{ فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} (آل عمران)، وقوله تعالى في خطابه لموسى وأخيه – عليهما السلام-:{ اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44)} (طه)

ثم حدثنا عن مالك بن الحويرث قال: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من قومي فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رحيما رفيقا فلمّا رأى شوقنا إلى أهالينا، قال: (ارجعوا فكونوا فيهم وعلّموهم وصلّوا، فإذا حضرت الصّلاة فليؤذّن لكم أحدكم وليؤمّكم أكبركم)([81]

وحدثنا أنّ يهود أتوا النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: السّامّ عليكم. فقالت عائشة: عليكم ولعنكم اللّه وغضب اللّه عليكم، فقال: (مهلا يا عائشة عليك بالرّفق وإيّاك والعنف والفحش)، قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟. قال: (أو لم تسمعي ما قلت رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ)([82]

وحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما خيّر بين أمرين إلّا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد النّاس منه، وما انتقم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه إلّا أن تنتهك حرمة اللّه فينتقم للّه بها)([83]

وحدثنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا ينزع من شيء إلّا شانه)([84]

وقال: (اللّهمّ من ولي من أمر أمّتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به)([85]

وقال: (إنّ اللّه إذا أراد بأهل بيت خيرا دلّهم على باب الرّفق)([86]

وقال: (تلقّت الملائكة روح رجل ممّن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئا؟. قال: لا. قالوا: تذكّر. قال: كنت أداين النّاس فامر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوّزوا عن الموسر. قال: قال اللّه عزّ وجلّ: تجوّزوا عنه)([87]

وقال: (ألا أخبركم بمن يحرم على النّار، وبمن تحرم عليه النّار، على كلّ قريب هيّن سهل)([88]

وقال: (يسّروا ولا تعسّروا وسكّنوا ولا تنفّروا)([89]

وقال: (من أعطي حظّه من الرّفق فقد أعطي حظّه من الخير، ومن حرم حظّه من الرّفق حرم حظّه من الخير)([90]

وقال: (من يحرم الرّفق يحرم الخير)([91]

وقال: (إنّي لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصّبيّ فأتجوّز ممّا أعلم من شدّة وجد أمّه من بكائه)([92]

وقال: (إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)([93]

وقال: (إيّاكم أن تتّخذوا ظهور دوابّكم منابر، فإنّ اللّه إنّما سخّرها لكم لتبلّغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلّا بشقّ الأنفس وجعل لكم الأرض، فعليها فاقضوا حاجتكم)([94]

وحدثنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رأى شيخا يهادى بين ابنيه، قال: (ما بال هذا؟). قالوا: نذر أن يمشي، قال: (إنّ اللّه عن تعذيب هذا نفسه لغنيّ)، وأمره أن يركب([95]).

وحدثنا أنه أمر بعض أصحابه بإمامة قوله، وقال له ناصحا: (أمّ قومك، فمن أمّ قوما فليخفّف فإنّ منهم الكبير، وإنّ فيهم المريض، وإنّ فيهم الضّعيف، وإنّ فيهم ذا الحاجة، وإذا صلّى أحدكم وحده فليصلّ كيف شاء)([96]

وعن جابر قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فرأى رجلا قد اجتمع النّاس عليه، وقد ظلّل عليه، فقال: (ماله؟). قالوا: رجل صائم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس من البرّ أن تصوموا في السّفر)([97]

وحدثنا أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إيّاكم والوصال)، قالوا: فإنّك تواصل يا رسول اللّه، قال: (إنّكم لستم في ذلك مثلي إنّي أبيت يطعمني ربّي ويسقيني فاكلفوا من العمل ما تطيقون)([98])

وحدثنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمّد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر. وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فترك حتّى كان الغد، ثمّ قال له: (ما عندك يا ثمامة؟)، قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر. فتركه حتّى كان بعد الغد، فقال: (ما عندك يا ثمامة؟) قال: ما قلت لك. فقال: (أطلقوا ثمامة)، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثمّ دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أنّ محمّدا رسول اللّه. يا محمّد، واللّه ما كان علي الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ. واللّه ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدّين إليّ. واللّه ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ. وإنّ خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة. فماذا ترى؟ فبشّره رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن يعتمر. فلمّا قدم مكّة. قال له قائل: صبوت. قال: لا. ولكن أسلمت مع محمّد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم. ولا واللّه لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتّى يأذن فيها النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم)([99]

وحدثنا أنّ أعرابيا بال في المسجد فثار إليه النّاس ليقعوا به، فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء أو سجلا من ماء فإنّما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين)([100])

***

بعد أن قرأ علينا أبو حنيفة هذه النصوص المقدسة سألناه عن الجامع بينها، فقال: هذه النصوص المقدسة جميعا تحث على الرفق واللين وتعتبرهما من أركان الأخلاق الكبرى.. فلا يمكن لصاحب الخلق الحسن أن يكون كذلك إلا إذا كان لينا هينا سهلا رفيقا.

قلنا: فما السبيل إليه؟

قال: لقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ففي الحديث أن رجلا شكا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قسوة قلبه، فقال له: (إن أردت تليين قلبك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم)([101])

قلنا: ما معنى هذا؟

قال: لقد شرحه بعض ورثته، وبين مجامعه حين قال: : (العلم بالتّعلّم، والحلم بالتّحلّم، ومن يتحرّ الخير يعطه، ومن يتوقّ الشّرّ يوقه)

قال رجل منا: أتقصد أن الرفق لا يحصل لنا إلا بالترفق وتكلف الرفق؟

قال: أجل..

قلنا: فما نفعل؟

قال: ستتدربون في هذا القسم على الترفق في كل شيء.. فعسى أن تتحولوا منه إلى الرفق.

***

بقينا مدة في صحبة أبي حنيفة يعلمنا الرفق وأسراره، ويذكر لنا من أخبار أهله ما تتشوف له نفوسنا.. وبعد أن اختبرنا بعض الاختبارات، ورأى نجاحنا فيها أجازنا فيها وفي علومها.. ثم أمرنا بالسير إلى القسم السابع من أقسام تلك المدرسة.

7 ـ المودة

سرنا إلى القسم السابع، وكان إمامه إمام من أئمة الورع والزهد والصلاح.. وكان يطلق عليه (مسكويه الرازي)، تشبيها له بسميه([102]) صاحب الكتب الكثيرة الطيبة في الأخلاق والآداب.

عندما دخلنا عليه مجلسه سمعناه يذكر قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى)

وقوله: (ما تحاب اثنان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه)([103])  

وقوله: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون اللَّه ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه اللَّه منه كما يكره أنْ يُقْذَفَ في النَّار)([104]

وقوله: (إن اللَّه تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابّون بجلالي؟ اليوم أُظِلّهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)([105]

وقوله: (قال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: المتحابّون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)([106]

بعد أن انتهى من إيراد هذه الأحاديث وغيرها قال له أحدنا: إن كل ما ذكرته من الأحاديث يدعو إلى المحبة، ويعتبرها مظهرا من مظاهر الإيمان، بل إفرازا من إفرازاته التي يعبر بها عن نفسه.

قال مسكويه: أجل.. وقد روي في الآثار عن موسى u – مما يدل على هذا- أن الله تعالى خاطبه بقوله:( هل عملت لي عملاً قط؟) فقال موسى: إلهي إني صليت لك وصمت وتصدقت وزكيت، فقال: إن الصلاة لك برهان، والصوم جنة، والصدقة ظل، والزكاة نور، فأي عمل عملت لي؟ قال موسى: إلهي دلني على عمل هو لك؟ قال: يا موسى هل واليت لي ولياً قط؟ وهل عاديت فيَّ عدوّاً قط؟

ولأجل هذا اشتد تحذير الصالحين من فراغ القلب من هذا النوع من الحب، وقد قال بعضهم:( والله لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت مالي غلقاً غلقاً في سبـيل الله أموت يوم أموت وليس في قلبـي حب لأهل طاعة الله وبغض لأهل معصية الله ما نفعني ذلك شيئاً)

وقال آخر في بعض كلامه 🙁 هاه تريد أن تسكن الفردوس وتجاور الرحمن في داره مع النبـيـين والصديقين والشهداء والصالحين؟ بأي عمل عملته؟ بأي شهوة تركتها؟ بأي غيظ كظمته؟ بأي رحم قاطع وصلتها؟ بأي زلة لأخيك غفرتها؟ بأي قريب باعدته في الله؟ بأي بعيد قاربته في الله؟ )

قال الرجل: صدقت فيما رويت.. ولكن ألا ترى من العجب أن تدعو هذه النصوص للبغض.. فهل يمكن أن يحمل القلب الذي حوى جميع المشاعر الإيمانية النبيلة أي لون من ألوان البغض؟.. وهل يمكن أن يكون البغض شعورا نبيلا؟.. وهل يمكن للقلب الذي تقدس بالحب المقدس أن يتنجس بدنس البغضاء؟

قال آخر – وقد بدا عليه الغضب- : كيف تقول هذا، وأنت تقرأ في القرآن دعوة الله إلى البراءة من أعدائه، ولا تكون البراءة منهم إلا ببغضهم..

لقد قال تعالى يذكر ذلك :{ لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)} (آل عمران)، فالآية الكريمة تنفي أي مكانة لمن يوالي الكافرين دون المؤمنين، وتعقب ذلك بالتحذير الشديد الذي يدل على خطر موالاة أعداء الله.

بل إن القرآن الكريم يجعل مولى القوم منهم، فمولى اليهود والنصارى لا يختلف عن اليهود والنصارى، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} (المائدة)

وهو يخبر أن سبب تلك الموالاة هي خلو القلب من الإيمان الحقيقي الممتلئ بالحب لله، قال تعالى:{  وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} (المائدة)

أو أن سببها هو الغفلة عن الله، قال تعالى :{ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3)} (الأعراف)

وهذا الجهل بالله هو الذي جعلها تعتقد العزة في أعداء الله، قال تعالى:{ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)} (النساء)

ولذلك ينفي أي منفعة يمكن انتظارها من أعداء الله، قال تعالى:{ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} (الجاثـية)

والقرآن الكريم يرسم الصورة التي يضعها المؤمن في ذهنه ليتعامل على أساسها مع أعداء الله، وما يرتكبونه من الجرائم، ليكون ذلك محركا لقلب المؤمن لمعاداة أعداء الله، فالموالاة في الله، كمعاداة أعداء الله، كلاهما دليل الحب لله، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)} (الممتحنة)

قال مسكويه: صدق الله العظيم.. والشأن ليس فيما قرأت، وإنما فيما فهمت.. فما فهمت من هذه النصوص؟

قال الرجل: فهمت منها دعوتها للبغض في الله.. فكما أننا نحب في الله، فكذلك نبغض في الله.

قال مسكويه: صحيح ما ذكرت.. ولكن هناك فرقا بين البغض في الله والبغض في غير الله.

قال الرجل: ما تريد بذلك؟

قال مسكويه: أعني أن البغض في الله لا يعني بغض ذات المبغوض، وإنما يعني بغض ما يفعله.. وشتان ما بين الأمرين.

قال الرجل: أنا أرى أن كلا الأمرين واحد.

قال مسكويه: لا.. هناك فرق بينهما.. أجبني.. أرأيت لو أن لك ثلاثة أولاد: أحدهم ذكي بار، والآخر بليد عاق، والآخر بليد بار أو ذكي عاق.. كيف تصادف قلبك معهم.. هل قلبك يتساوى في محبتهم جميعا؟

قال الرجل: نعم.. فجميعهم أولادي.. ولا يمكن أن أفرق في المحبة بينهم.

قال مسكويه: بغض النظر عن ذلك.. أيهم أحب إليك من حيث سلوكه؟

قال الرجل: لاشك أنه الأول.. الذكي البار.

قال مسكويه: ولم زاد حبه على إخوانه؟

قال الرجل: بسبب سلوكه.

قال مسكويه: ولم نقص حبك لغيره؟

قال الرجل: بسبب سلوكهم.

قال مسكويه: فأنت تبغض إذن سلوكهم الذين منعهم من الوصول إلى مرتبة أخيهم؟

قال الرجل: أجل..

قال مسكويه: فهذا هو البغض في الله.. فالأصل في المؤمن أنه يحب الخلق جميعا باعتبارهم خلقا لله، ويحبهم جميعا باعتبارهم إخوة له، ولكنه يبغض ما يتلبسون به من المعاصي.. وهو لذلك بغض عرضي لا ذاتي، وهو كبغض الإنسان للمرض والبلاء والمصائب.

ودليل عرضية هذا البغض أنه يلتمس كل الوسائل لإزالة أسباب البغض، فمن كان مريضا سعى لشفائه، ومن كان مبتلى سعى لعافيته.

وهكذا البغض في الله، والذي هو بغض عرضي مرتبط بمعصية الله أو جحوده يجعل المؤمن يسعى لإزاحة أسباب البغضاء لإحلال المودة بدلها.

فهو بذلك بغض يحمل بذور مودة، أو هو مودة تكتسي لباس البغض للمصلحة التي تستدعي تلك البغضاء.

ولذلك، فإن هذا البغض العرضي لا يجيز أي إيذاء أو عقوبة لا يستحقها المبغض، بل قد ورد في القرآن الكريم الحث على الإحسان إلى المبغض الذي آذى المحسن إليه أبشع إساءة، فقال تعالى:{ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} (النور)

***

بقينا مدة في صحبة مسكويه يعلمنا المودة وأسرارها.. وبعد أن اختبرنا بعض الاختبارات، ورأى نجاحنا فيها أجازنا فيها وفي علومها..

وقد من الله علي بعد تخرجي من تلك المدرسة بمشاعر عجيبة، جعلتني أحتضن كل شيء، وأعانقه، وأتعامل معه بكل ما آتى الله الإنسان من لطف ومودة ورحمة.


([1]) رواه الترمذي وغيره.

([2]) رواه أحمد.

([3]) رواه الترمذي.

([4]) أشير به إلى الراغب الاصفهاني ( ت 502 هـ) وهو الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصفهاني (أو الاصبهاني) المعروف بالراغب: أديب، من الحكماء العلماء.. من أهل (أصبهان) سكن بغداد، واشتهر، حتى كان يقرن بالامام الغزالي.. من كتبه (محاضرات الأدباء)، و(الذريعة إلى مكارم الشريعة) و(الأخلاق) ويسمى (أخلاق الراغب) و(جامع التفاسير) أخذ عنه البيضاوي في تفسيره، و(المفردات في غريب القرآن) و(حل متشابهات القرآن) و(تفصيل النشأتين) في الحكمة وعلم النفس، و(تحقيق البيان) في اللغة والحكمة، وكتاب في (الاعتقاد) و(أفانين البلاغة) (انظر: الأعلام للزركلي)

([5])  رواه البخاري.

([6])  رواه البخاري ومسلم.

([7])  رواه البخاري.

([8])  رواه أحمد.

([9])  رواه الحكيم والبيهقي.

([10])  رواه الترمذي.

([11]) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان.

([12]) رواه البخاري وغيره.

([13]) رواه مالك وغيره.

([14]) رواه مسلم.

([15]) رواه البخاري ومسلم.

([16]) رواه البخاري ومسلم.

([17]) رواه ابن أبي شيبة.

([18]) رواه البخاري ومسلم.

([19]) رواه البخاري ومسلم.

([20]) رواه البخاري ومسلم.

([21]) رواه محمد بن عمر الأسلمي في مغازيه.

([22]) رواه البخاري في الأدب.

([23]) أشير به إلى أبي طالب محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي ( ت 386 هـ)، وهو واعظ زاهد، فقيه من أهل الجبل (بين بغداد وواسط) نشأ واشتهر بمكة.. ورحل إلى البصرة فاتهم بالاعتزال.. وسكن بغداد فوعظ فيها، فحفظ عنه الناس أقوالا هجروه من أجلها.. وتوفي ببغداد.. من كتبه (قوت القلوب)، وهو من أمهات كتب السلوك.

([24]) انظر: إحياء علوم الدين.

([25]) رواه البخاري ومسلم.

([26]) رواه البخاري.

([27]) رواه أبو الشيخ، وابن حبان.

([28]) رواه مسلم.

([29]) رواه ابن حبان، والحاكم.

([30]) رواه أحمد، وأبو الشيخ.

([31]) رواه مسلم.

([32]) رواه البخارى ومسلم.

([33]) رواه البخاري ومسلم.

([34]) رواه البخاري.

([35]) رواه البيهقي في شعب الإيمان، مرسلا، ورواه موصولا عن سهل بن سعد مختصرا: (اللهم: اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون)

([36]) رواه الأصبهانى، وابن المنذر.

([37]) أشير به إلى العلامة محمد بن أحمد السرخسي ( ت 490 هـ)، وهو محمد بن أحمد بن أبي سهل، أبو بكر السَّرخسي، الملقب بـ (شمس الاَئمة)، كان من كبار فقهاء الحنفية، أصولياً، مناظراً، من المجتهدين في المسائل.. صنّف كتبا كثيرة مهمة منها: شرح (الجامع الكبير)، وكتاب في الاَُصول، وشرح مختصر الطحاوي، والنكت وهو شرح لزيادات الزيادات للشيباني.. وأملى (المبسوط) في الفقه، وهو محبوس في أوزجند بفرغانة.. وكان سبب سجنه كلمة نصح بها الخاقان.. ولما أطلق سكن فرغانة إلى أن توفي بها (انظر: الجواهر المضية 2/28)

([38]) رواه أحمد.

([39]) هذه الرواية رواها الديلمي في الفردوس.

([40]) الموطئون أكنافا: الأكناف جمع كنف وهو الجانب والمراد الذين يلين جانبهم لإخوانهم.

([41]) الملتمسون للبراء العيب: أي الذين يتهمون الأبرياء بعيوب ليست فيهم.

([42]) رواه الطبراني في الصغير والأوسط والبزار.

([43])  رواه البخاري ومسلم.

([44])  رواه البخاري ومسلم.

([45]) رواه ابن أبى الدنيا، وأبو الشيخ.

([46]) رواه مسلم.

([47])  رواه أبو داود وأحمد والحاكم.

([48]) رواه البخاري.

([49]) رواه مسلم.

([50]) رواه البخاري.

([51]) أشير به إلى العلامة الجليل علي بن أحمد الكوفي (توفي 352هـ) كان عالماً في العديد من العلوم كالفقه، والأصول، والكلام. من مؤلفاته (الأنبياء)، و(مختصر الإمامة)، و(الرد على أرسطوطاليس)، و(معرفة وجوه الحكمة)، وله في الأخلاق كتابان؛ هما: الآداب، ومكارم الأخلاق، بالإضافة إلى كتابه الآنف الذكر (معرفة وجوه الحكمة) .. وقد عرّف السيد الصدر طريقته في كتاب (مكارم الأخلاق) أنه يذكر الأخلاق الحسنة والصفات الذميمة، ويبتدئ كل خصلة بالأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، ثم كلمات الحكماء، ويختم الحديث بذكر الأشعار التي عُنيت بها..

([52]) السّفساف: الأمر الحقير والرديء من كل شيء، وهو ضد المعالي والمكارم، وأصله ما يطير من غبار الدقيق إذا نخل، والتراب إذا أثير.

([53]) رواه الحاكم واللفظ له وقال: صحيح الإسناد، ورواه الطبراني في الكبير.

([54]) رواه ابن ماجة والبيهقي.

([55]) مما عرف به الكرم ما عرفه به ابن مسكويه، قال: الكرم إنفاق المال الكثير بسهولة من النّفس فى الأمور الجليلة القدر، الكثيرة النّفع (تهذيب الأخلاق لابن مسكويه:30)

([56]) رواه بقي بن مخلد وأبو يعلى.

([57]) رواه أحمد.

([58]) رواه البيهقي، وابن عساكر.

([59]) رواه ابن أبي خيثمة.

([60]) رواه ابن أبي شيبة.

([61]) رواه مسلم.

([62]) رواه مسلم.

([63]) رواه مسلم.

([64]) رواه الخرائطي، والطبراني، و المراد من عدم قوله:( لا) ما يفهم منها عدم الإعطاء مع القدرة عليه، أما إذا كانت من باب الاعتذار، فلا حرج في ذلك، وقد قالها r، ففي القرآن الكريم حكاية عن النبي r:{ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة:92)

([65]) رواه الدارمي.

([66]) رواه البخاري، وابن ماجه، وابن سعد، والطبراني، والإسماعيلي والنسائي، زاد الطبراني: وأمر النبي r أن يصنع له غيرها، فمات قبل أن تنزع.

([67]) رواه الدارمي.

([68]) رواه ابن مردويه.

([69])  أشير به إلى أبي الفرج بن الجَوْزي (510 ـ 597 هـ)، وهو عبد الرحمان بن علي بن محمد بن علي القرشي التَّيمي البغدادي، الحنبلي، يُعرف بابن الجوزي، ويلقّب بجمال الدين.. كان من كبار الوعّاظ ببغداد، فقيهاً، عالماً بالتاريخ والحديث، واسع الاطّلاع، كثير التصانيف.. قال عنه ابن الدبيثي: إليه انتهت معرفة الحديث وعلومه.. وقال ابن خلّكان: علاّمة عصره، وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ. صنّف ابن الجوزي كتباً كثيرة في أنواع العلم من التفسير والحديث والفقه والاَخبار والتاريخ وغير ذلك، بلغت في قول بعضهم نحو ثلاثمائة كتاب.. وقد اخترناه هنا لأجل كتابه المعروف (تلبيس إبليس)

([70]) ما نذكره هنا من الحديث بين قوسين مما رواه الترمذي وقال: غريب، ورواه أحمد والحاكم والبيهقي. وقال الحاكم: صحيح وأقره الذهبي.

([71]) انظر: مدارج السالكين (2/ 272) بتصرف.

([72]) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والبيهقي في الدعوات، والحاكم وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.

([73]) رواه أحمد واللفظ له، وابن ماحه، وأصل حديث أشج عبد القيس رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس.

([74]) رواه البخاري ومسلم.

([75]) رواه أحمد وأبو داود، ورواه البخاري في الأدب بلفظ: كان رسول الله r قل ما يواجه الرجل بشئ يكرهه، فدخل عليه يوما رجل وعليه أثر صفرة، فلما قام قال لأصحابه: لو غير، أو نزع هذه الصفرة.

([76]) رواه أبو داود.

([77]) رواه عبد بن حميد، وأبو الشيخ.

([78]) رواه البيهقي.

([79]) رواه البخاري في الأدب المفرد.

([80]) أشير به إلى الفقيه الكبير صاحب المذهب المعروف أبي حنيفة (80 ـ 150 هـ)، وهو النعمان بن ثابت التيمي بالولاء، الكوفيّ، اختص بحماد بن أبي سليمان، ولازمه، وتفقّه به، وروى عنه، وعن الحكم بن عُتيبة، وزبيد اليامي، وسلمة بن كهيل، وعاصم بن أبي النجود، وعامر الشعبي، وعطية بن سعد العوفي، وأبي إسحاق السبيعي، ومحمد بن علي الباقر، ومحمد ابن مسلم الزهري، وآخرين.

روى عنه: إبراهيم بن طهمان، والحسن بن زياد اللوَلوَي، وابنه حمّاد بن أبي حنيفة، وعبد اللّه بن المبارك، وعبد الوارث بن سعيد، وأبو نعيم الفضل بن دكين، ومحمد بن الحسن الشيباني، ووكيع بن الجراح، والقاضي أبو يوسف، وعدة.

ومن أبرز شيوخه الإمام جعفر الصادق، الذي ذكره بقوله: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد، قال ذلك حين أجابه الصادق عن أربعين مسألة هيّأها له بطلب من المنصور العباسي.. وكان أبو حنيفة من جملة الفقهاء الذين ناصروا زيد بن علي بن الحسين، وساهم في الدعوة إلى الخروج معه، كما أنّه آزر محمد بن عبد اللّه بن الحسن وأخاه إبراهيم، وكان يحث الناس ويأمرهم باتباعه. (انظر: موسوعة أصحاب الفقهاء)

([81]) رواه البخاري ومسلم.

([82]) رواه البخاري.

([83]) رواه البخاري ومسلم.

([84]) رواه مسلم.

([85]) رواه مسلم.

([86]) رواه أحمد والبزار.

([87]) رواه البخاري ومسلم.

([88])  رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.

([89]) رواه البخاري ومسلم.

([90]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

([91]) رواه مسلم.

([92]) رواه البخاري ومسلم.

([93]) رواه مسلم.

([94]) رواه أبو داود.

([95]) رواه البخاري ومسلم.

([96]) رواه البخاري ومسلم.

([97]) رواه البخاري ومسلم.

([98]) رواه البخاري ومسلم.

([99]) رواه البخاري ومسلم.

([100])  رواه البخاري.

([101]) رواه الحاكم.

([102])   أشير به إلى مسكويه الرازي [325 – 421هـ]، من علماء القرن الرابع والخامس الهجريين، المشهور في مجال فلسفة الأخلاق من بين الفلاسفة المسلمين حتى عدّ أكبر فيلسوف أخلاق بينهم، له الكثير من المؤلفات في الأخلاق، بل تكاد تكون كل كتبه في هذا المجال، منها: (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، و(ترتيب السعادات)، و(الفوز الأصغر)، (رسالة في العدل)، (الهوامل والشوامل)

([103]) رواه ابن حبان.

([104]) رواه البخاري ومسلم.

([105]) رواه مُسْلِمٌ.

([106]) رواه التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيْثٌ حَسَنٌ صحيح.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *