ثالثا ـ العجزة

ثالثا ـ العجزة

في اليوم الثالث، سرت نحو دار للعجزة.. كان قد أسسها صاحب لنا اسمه (برنارد بيرجمان)([1]) .. ذلك الذي يطلق عليه أصحابنا لقب (ملك بيوت المسنين)..

وقد جاء تلك المدينة ليغرس فيها ما كان قد سبق أن غرس مثله في الولايات المتحدة الأمريكية..

وقد استفاد من كل التجارب التي مر بها.. والتي كان آخرها دخوله السجن، ودفعه مبلغا كبيرا غرامة على ما وقع فيه من التلاعب بالأموال، واستعمال المسنين شبكة لصيده الوافر.

كان ظاهر الدار لوحة من لوحات الجمال.. ولكن باطنها كان مميزا وغريبا لم أر مثله في أي دار أخرى.

لقد كانت كل دور العجزة التي رأيتها في حياتي لا تحوي إلا الشيوخ المسنين الذين ألجأتهم الأيام إليها مرغمين لا مختارين.. بينما رأيت تلك الدار التي أسسها (ملك بيوت المسنين) لا تحوي إلا شبابا ممتلئين جلدا وقوة، ولم يقدموا إليها إلا وهم ممتلئون رغبة واختيارا.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد كانت الدار مع ما فيها من المرافق خالية من أي مسن، فلم يكن فيها إلا العمال والخدم والممرضون.. والذين اختاروا بمحض رغبتهم العمل في هذا المجال.

قلت: والشيوخ؟

قال: هذا هو الحديث الذي أريد أن أحدثك عنه.. والذي استفدت منه شعاعا جديدا من الأشعة التي اهتديت بها إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

في ذلك اليوم.. وفي تلك الدار رأيت (برنارد بيرجمان) جالسا على كرسي من كراسي الحديقة، وقد أحاط به الهم والحزن.. فكسا وجهه سربالا من اليأس والقنوط.

اقتربت منه، وقلت: ما بال ملك المسنين حزينا يائسا؟

قال: وكيف لا أيأس.. وأنا مع كل تلك المكاسب التي كسبتها قد لجأت إلى هذه الديار المملوءة بالقسوة والألم.

لقد كنت في أمريكا ملكا حقيقيا يرى في الشيوخ عوضا عن أبنائهم.. بل كانوا إذا ما خيروا بين صحبتي وصحبة أبنائهم اختاروا صحبتي.. وها أنت تراني الآن في هذه الدار قد قلاني الشيوخ، وودعوني.. مع أني وفرت لهم كل ما يحتاجونه من ألوان الرعاية مما لم أوفر مثله لزبائني في ذلك العالم المتحضر.

قلت: فما ترى سر ذلك؟

قال: لست أدري.. إلى الآن لا أزال لا أدري السبب.. ولكن الذي أدريه أني في تلك الديار كنت أرى من عجائب التعامل مع المسنين ما لم أر مثله في هذه الديار..

ففي تلك الديار([2]) يعيش العجزة في حالة بائسة، فلا يسأل الولد عن أمه ولا أبيه، ولا ينفق عليهما، ولو كانت حاجتهما شديدة.. فكم من رجل مسن وامرأة مسنة يموتان في أوربا وأمريكا في كل عام من البرد والجوع!!

بل قد تبقى الجثة في الشقة أياماً دون أن يحس بها أحد، إذ يعيش معظم هؤلاء الشيوخ بمفردهم، فلا يزورهم أحد إلا نادراً، وقد لا يرون إلا مندوب الضمان الاجتماعي في كل شهر مرة([3]).

وقد ورد في تقرير أعدته لجنة في مجلس النواب الأمريكي، بعد دراسة استمرت ست سنوات جاء فيها: (إن أكثر من مليون مسن ومسنة، تجاوزت أعمارهم (65 عاماً) يتعرضون لإساءات خطيرة، فيضربون ويعذبون عذاباً جسدياً ونفسياً، وتسرق أموالهم من قبل ذويهم.. كما أن هذه الإساءات، ليست مقتصرة على طبقة اجتماعية معينة، بل إنها تحدث في كل طبقات المجتمع على حد سواء، في المدن والقرى والأرياف)

ومن أبشع ما ورد في هذا التقرير: (أن امرأة قامت بتقييد أبيها البالغ من العمر(81 عاماً) بسلسلة وربطته أمام الحمام، وأخذت تعذبه لعدة أيام!! وقد أكد التقرير أن الإساءة للمسنين، تأخذ عدة أشكال، منها الضرب والإهمال والحرمان من الطعام والشراب وقد يصل الأمر إلى القتل أحياناً)

وقد علق النائب (كلودبير) على هذا قائلاً: (لا أحد يدرك حتى الآن أبعاد هذه المشكلة المرعبة، ولا يرى أحد أن يعترف بما يجري، لقد تجاهلنا المشكلة لأنها مخيفة، لدرجة تمنعنا من الاعتراف بوجودها، ولا نريد أن نصدق أن مثل هذه الأشياء، يمكن أن تحدث في دولة متحضرة)

وقد حدثتني الدكتورة (سوزان ستايتمتر) أستاذة الدراسات العائلية في جامعة (ملاوير) قائلة: (لقد تعودنا طوال تاريخنا على الإساءة للمسنين، إننا نميل إلى العنف البدني، وقد أصبح هذا جزءاً ثابتاً من طبيعة عائلات كثيرة تسيء للمسنين، بالعنف والاضطهاد، وأصبح إهمالهم وعدم الرفق بهم، أو حتى نجدتهم من الأمور الشائعة في المجتمعات الأوربية)([4])

وحدثني صديق لي كان يعمل مناوباً في أحد المستشفيات هناك، وكان قد توفي رجل مسن في تلك الليلة عنده، فأحب أن يعزي أسرة المتوفى، واتصل بولده في الساعة الثانية عشرة ليلاً، وعزاه بوفاة والده على وجل.. فما كان من الابن إلا أن امتعض من هذا الاتصال وقال: أتتصل بي في هذه الساعة المتأخرة من الليل، لتخبرني بوفاة والدي؟! وماذا تنتظر مني أن أفعل؟!.. أنا مسافر صباحاً لمدة ثلاثة أيام، ضعوه في الثلاجة، وسأراجعكم حين عودتي، من أجل استلام الجثة)([5])

وحدثني آخر.. كان هو الآخر طبيبا في بعض الدور التي أسستها.. قال لي: (كنت أعجب من أحد الشيوخ المرضى، الذين كنت أقوم بعلاجهم في أحد المستشفيات التي كنت أعمل فيها، في إحدى ضواحي مدينة لندن، فقد كان الرجل لا يمل من الكلام عن ابنه البار الذي ليس له نظير في عالم اليوم.

ولم أر ابنه يزوره أبداً، فسألته عن ولده، أمسافر هو؟! فأجاب لا، إنه موجود، ولكنه لا يأتي لزيارتي إلا يوم الأحد، فقد عودني ذلك منذ سنين عديدة.. تصور يا دكتور! كان يأتيني كل يوم أحد حاملاً معه باقة من الورود، ونذهب سوياً لنضعها على قبر أمه.

ولما سألته: هل ينفق عليه؟! قال: لا أحد ينفق على أحد في هذه البلاد.. إنني أستلم كذا من الجنيهات، من الضمان الاجتماعي، وهي لا تكاد تكفيني للقوت والتدفئة، ولكن هل هناك أحد في الدنيا مثل ولدي، الذي يزورني كل يوم أحد منذ سنوات؟!)

وقرأت في بعض لصحف قصة الشاب الذي رضي أن يؤوي أمه العجوز في بيته، مقابل أن تقوم بخدمته وخدمة زوجته وأولاده، وتنظف بيته، وقد اعتبرت الصحيفة هذا كرماً من هذا الولد البار بأمه.

وقرأت أن الشرطة في بعض بلادنا، اعتقلت شاباً، قتل والده بمساعدة الطبيب الذي كان يتولى علاجه.. وبينت التحقيقات أن الشاب (يوسف زوهر) طمع في أموال والده، ومن ثم فقد وعد الطبيب المشرف على علاج والده بحصة معتبرة إن ساعده على قتل والده.. فقام طبيب الموت بفصل جهاز التنفس عن المريض، ووقف يرقب المغدور، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، دون تقديم أية مساعدة له.. وقد وجهت الشرطة للابن تهمة القتل مع سبق الإصرار والترصد([6]).

قال ذلك، ثم سار قليلا في أرجاء داره الخاوية من المسنين، ثم رجع إلي، وقال: لا بأس.. لن تطول الأيام حتى يبدأ الشيوخ في الوفود إلى هذه الدار.. لقد أرسلت من يسعى لي في هذا السبيل.

***

لم يطل الزمن على قوله هذا حتى دخل بعض الشيوخ الدار، فرأيت البشر قد كسا وجه (برنارد بيرجمان)، فبدد ما كان فيه من ظلمات اليأس والحزن.

التفت إلي برنارد، وقال: ألم أقل لك؟.. ها هو أول الفأل.

رأيت العمال جميعا يسرعون إلى الشيخ يحيونه، ويرحبون به، وكل واحد منهم يحاول أن يقدم له أي خدمة.

اقتربت مع برنارد نحو الشيخ، وسأله برنارد قائلا: أهلا ومرحبا بك في بيتك بين أبنائك وخدمك وأطبائك.

رد الشيخ التحية، ثم قال: أهذه الدار التي أسسها (برنارد بيرجمان) للمسنين.

قال برنارد: أجل.. هذه هي الدار التي أسستها لخدمتكم، وتوفير كل أصناف الرعاية لكم.. وعندنا ستنسى كل ألم، وستحضى بكل عناية.

قال الشيخ: شكرا جزيلا.. أرى أن هذه الدار محل صالح ليقضي المرء فيها ما بقي له من عمر.

ما قال ذلك حتى سمعنا ضجة خارج (دار المسنين)، فأسرعت مع (برنارد بيرجمان) وجميع العمال نبحث عن سرها.. فوجدنا جمعا كبيرا من الناس قد اختلطت أصواتهم، فلم نفهم منها شيئا إلا أنهم جميعا كانوا يرددون اسم الشيخ الوافد.

بعد برهة توقفت الأصوات، فسألهم برنارد عن سرهم، وسر حضورهم، فقال أحدهم: لقد سمعنا أن رجلا قد قدم إليكم.. وقد تهنا في البحث عنه، فلم نجد له أثرا.

قال برنارد: ما شأنه؟.. وما تريدون منه؟

قال الرجل: هو والدي.. وهؤلاء جميعا إما أولاده أو أحفاده أو أقاربه.. وهم جميعا قدموا يبحثون عنه.

لقد بحثنا في محال كثيرة إلى أن دلنا بعض الناس عليكم.. فإن كان هذا الرجل عندكم، فنرجو أن تسمحوا لنا بلقائه.. ونرجو أن تسمحوا لنا بإعادته إلى داره.. فقد صارت مظلمة منذ افتقدناه.

قال برنارد، وقد خاف أن يكون الشيخ الذي يبحثون عنه هو ذلك الذي قدم قبل حين: نحن لا نعرف من تبحثون عنه.. فاذهبوا إلى محل آخر.

ما قال ذلك حتى خرج الشيخ، فراح الجميع يسرعون إليه يحتضنونه، ويقبلون يديه ورجليه في منظر عجيب لم أر مثله في حياتي.

سألهم برنارد: ما تريدون من الشيخ.. لقد قدم بمحض إرادته، فاتركوه ليعيش الحياة التي يريدها.

قال أحدهم: كيف نتركه؟.. أتريد منا أن نغضب ربنا؟.. هذا والدنا.. هذا الذي أوصانا ربه ببره والإحسان إليه..

هذا الذي قرن ربنا طاعته بطاعته، والتقرب إليه بالتقرب إليه.. فقال:{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.. (36)} (البقرة)

وقال:{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.. (151)} (الأنعام)

وقال:{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} (الإسراء)

وقال:{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} (العنكبوت)

وقال:{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} (لقمان)

وقال:{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)} (الأحقاف)

قال آخر: هذا الذي وردت النصوص المقدسة الكثيرة تحث على بره.. وتقرن رضا الله برضاه..

ففي الحديث أن رجلا أتى رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، مَنْ أبَرُّ ؟ قال: (أمَّك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذلك، حقًّا واجِبًا، ورَحِمًا موصولة)([7]

وأتاه رجل، فقال: يا رسول الله إنَّ لي مالاً ووَلَدًا، وإن أبي يَجْتَاحُ مالي، فقال: (أنت ومالُك لأبيك، إن أولادَكُم مِنْ أطْيَبِ كَسْبِكُم، فكُلُوا مِنْ كَسْبِ أوْلادِكُم)([8])

وجاءه رجل، فقال: أبَايِعُكَ على الهجرة والجهاد، أبتَغِي الأجرَ من الله، قال: (فهل من والديك أحدٌ حَيٌّ ؟) قال: نعم، بل كلاهما حَيٌّ، قال: (فتبْتَغِي الأجرَ من الله؟) قال: نعم ! قال: (فارجع إلى وَالِدَيْكَ فأحْسِنْ صُحْبَتَهُما)([9])

وجاءه رجل فقال: جئتُ أبَايِعُكَ على الهجرة، وتركتُ أبَوَيَّ يبكيان، قال: (فارجع إليهما، فأضْحِكْهُما كما أبْكَيْتَهُما)([10])

وروي أنَّ رجلاً من أهل اليمن هَاجَرَ إلى رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: (هل لك أحدٌ باليمَن؟) قال: أبَوَايَ، قال: (أذِنَا لك ؟) قال: لا، قال: (فارجع إليهما فاسْتَأذِنْهُما، فإن أذِنَا لك فجاهِدْ، وإلا فَبرَّهما)([11])

وجاءَه رجل، فقال: يا رسول الله، أرَدْتُ أن أغْزُوَ، وقد جِئْتُ أسْتَشيرك، فقال: (هل لك من أمٍّ ؟) قال: نعم! قال: (فالْزَمْها، فإن الجنَّةَ عند رِجْلِها)([12])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(رَغِمَ أنْفُهُ، رَغِمَ أنفه، رَغِمَ أنفه) قيل: مَنْ يا رسول الله ؟ قال: مَنْ أدْرَكَ والديه عِنْدَ الْكِبَرِ: أحدُهُما أو كلاهما ثمَّ لم يدخل الجنة)([13])

وقال: (لا يَجْزي وَلَدٌ وَالِدَهُ: إلا أنْ يجدَه مملوكًا فيشتريه فَيُعْتِقَهُ)([14])

وقال: (رِضَى الرَّبِّ في رضى الوالد، وسَخَطُ الرَّبِّ في سخط الوالد)([15])

قال آخر: ليس ذلك فقط.. بل ورد في النصوص المقدسة أن حق الوالدين لن يضيع مطلقا ما دام هناك أي أثر لهما..

ففي الحديث، قال رسولُ الله  صلى الله عليه وآله وسلم: (إنَّ أبَرَّ البِرِّ أنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أهْلُ وُدِّ أبيه)([16])

وروي أن رجلاً أتى النبي  صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ ذنبًا عظيمًا، فهل ليَ من توبة ؟ فقال: (هَلْ لَكَ مِن أمٍّ ؟) قال: لا، قال: (فهل لك من خَالةٍ ؟) قال: نعم، قال: (فَبِرَّها)([17]

وعن مالك بن ربيعة قال: بينا نحن جلوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ جاءه رجُل من بني سَلِمة، فقال: يا رسول الله:(هل بَقِيَ من برِّ أبَوَيَّ شَيءٌ أبَرَّهُما بعد موتهما ؟) فقال: (نعم، الصلاةُ عليهما، والاستغفار لهما، وإنْفَاذُ عهدهما من بعدهما، وصِلَة الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إلا بهما، وإكرامُ صديقهما)([18]

***

بقي الأبناء والأحفاد مدة، وهم يذكرون ما ورد في النصوص المقدسة من الحديث عن حرمة الوالدين، ووجوب برهما، إلى أن ضاق (برنارد بيرجمان) منهم، وقال: ما تريدون من الرجل.. لقد نفر منكم ومن طريقة تفكيركم، فلو أنه وجد عندكم ما يبحث عنه ما جاء عندنا؟

قال ذلك، ثم التفت للشيخ، وقال: أخبرهم بعدم رغبتك فيهم.. فلا أظن أنهم سينصرفون عنك لو لم تواجههم بذلك.

أراد الشيخ أن يتحدث، فراح أحد أبنائه يقاطعه، والدموع تجري من عينيه، وهو يقول: لا بأس.. يا والدي.. لا تسمع لما يقول هذا الرجل الذي يريد أن يبعدك عنا.. لقد جئت أعتذر إليك.. لقد كنت أتصور أن ذلك تصرف لا يؤذيك.. وأنا الآن رهن إشارتك يا والدي.. فافعل بي ما بدا لك.

سقطت دموع من الشيخ، قال بعدها: بل أنا الذي أعتذر إليك يا ولدي.. فلم يكن يحق لي أن أمنعك مما أحبته نفسك ورغبت فيه مما أباحه الله لك.

لقد كنت – بجهلي – لا أفرق بين ما ورد في النصوص المقدسة من البر بالوالدين والإحسان لهما، وبين وجوب طاعة الأبناء لآبائهم..

لقد كنت – بجهلي – أتصور أن حياة الابن ملك للأب.. وأنه وحده الذي يحق له أن يرسم له منهج حياته..

ولقد كنت – بجهلي – لا أقرأ إلا النصوص التي تحث الأبناء على رعاية آبائهم.. دون أن أهتم أو ألقي بالا إلى النصوص التي تحث الآباء على رعاية أبنائهم وبرهم والإحسان إليهم.

لكني.. وفي فترة غيابي عنكم قيض الله لي رجلا صالحا.. لقد كان من ورثة النبوة.. وكان اسمه (ابن عوسجة)([19]).. وكان مما حدثني به قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(رحم الله والدا أعان ولده على بره)([20])

وحدثني أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله من أبر؟ فقال: (بر والديك)، فقال: ليس لي والدان، فقال:(بر ولدك كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق)([21])

بعدما سمعت منه ذلك وغيره امتلأت حياء منك ومن إخوانك.. وقد جئت إلى هذه الدار لأكفر عن سيئاتي، ولأدعكم وما تشاءون من الحياة التي تختارونها.

لقد شعرت أني كنت ثقيلا عليكم.. فلم يكن يرضيني إلا أن تسير حياتكم على المنهج الذي سارت عليه حياتي مع أن الحياة تستلزم التطور والتغير.. فليس للآباء الحق في أن يضعوا أبناءهم في قوالبهم فلكل زمان حياته.

تقدم الابن من أبيه، وقال: لا يا والدي.. أنت حكيمنا.. ومن الخطأ الكبير أن نهملك أو نهمل حكمتك وخبرتك في الحياة وتجاربك فيها.

قال الأب: أنا لن أبخل عليكم بشيء من خبرتي.. ولكني مع ذلك أشعر أن الموقف الذي وقفته معك خصوصا كان موقفا خاطئنا.. فلا يمكنني أن أمنعك مما رغبت فيه نفسك ما دام قد أباحه لك الشرع.

ولذلك فسر على بركة الله.. فقد أذنت لك فيه.. كما أذنت لك في غيره مما أباحه لك ربك.. فلا يحق لمسلم – مهما كانت مرتبته – أن يحرم ما أحل الله..

نعم.. نحن الآباء.. ونتيجة لما رأيناه من تعظيم ربنا لحقوقنا رحنا نتصور أن لنا الحرية المطلقة في كل شيء..

وهذا خطأ كبير وغرور عظيم.. فالرب رب الجميع.. والشرع شرع الجميع.. ونحن كلنا عباد الله.. ولا يحق لأي عبد كان أن يستذل غيره، أو يتعامل معه من موقع غير موقع العبودية الذي وضعه الله فيه وشرفه به.

قال الابن: حاضر يا أبي.. أنا طوع أمرك.. ولكني لن أتحرك من هنا.. ولن يتحرك هؤلاء جميعا إلا إذا سرت معنا إلى ذلك العرش الذي وضعك الله فيه.. فلا يمكن لبيوتنا أن تستقر، ولا لبالنا أن يستريح وأنت بعيد عنا.

التفت الشيخ إلى (برنارد بيرجمان)، وقال: آسف يا ملك بيوت المسنين.. ها أنت ترى حرص أولادي على الذهاب معهم.. فاعذرني.. فأولادي قد نصبوا لي عرشا في بيوتهم وفي قلوبهم، ولا يمكنني أن أتخلى عن عرشي.. ولذلك سأدعك لعرشك.. واسمح لي أن أذهب لعرشي.

***

بعد هذا الموقف الذي رأيته بعيني ازداد إحباط (برنارد بيرجمان)، فراح يتحرك حركات عشوائية.. قال بعدها، وكأنه يهدد شخصا لا أراه: أنت هو السبب.. أعلم أنك أنت السبب.. ولذلك انتظر.. سأستعمل كل وسائلي لأصرف الناس عنك.. فلا يمكن لهذه الدار أن تمتلئ.. وصورتك في عيون الناس، وحبك في قلوبهم، وذكرك في أفواههم.

أنت الآن أعلنت الحرب علي.. وأنا قبلت الحرب..

قال ذلك، ثم نادى على عماله جميعا، وقال: منذ اليوم ستتحول هذه الدار إلى مركز ترفيه.. سنحول جناحها الأول إلى سينما، وجناحها الثاني إلى مرقص.. وهكذا كل أجنحتها.

فمن شاء منكم أن يستمر للعمل معي، فليستمر.. ومن لم يشأ فالطريق أمامه.

قال بعض العمال: أتريد أن تتخلى عن لقبك العظيم بهذه السهولة.

قال (برنارد بيرجمان): أحيانا يحتاج الملوك إلى الركوب على الخيل، وخوض غمار المعارك.. وما هذه إلا معركة من المعارك التي أحفظ بها وجودي، وأحافظ بها على عرشي.

***

بعد أن سمعت هذا الحديث من (برنارد بيرجمان) خرجت.. وقد رأيت جميع العمال يخرجون معي.. ويتركون ملك بيوت المسنين يصيح وحده بهستيرية وجنون.. وفي وسط ذلك الصياح تنزلت علي أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


([1])  استفدنا المعلومات المرتبطة بهذه الشخصية من (الموسوعة اليهودية) للمسيري.. وقد ذكر أنه وُلد في المجر وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1929، وتخرَّج هناك في جامعة يشيفا ليصبح حاخاماً أرثوذكسياً، إلا أنه ترك العمل الديني واتجه نحو الأعمال التجارية ودخل قطاع ملاجئ ومصحات المسنين وهو قطاع يتمتع بهامش ربح عالي في الولايات المتحدة.. ونظراً لأن الدولة كانت تتحمل النسبة الأكبر من نفقات رعاية المسنين في إطار البرامج الحكومية المخصصة، لجأ بيرجمان إلى تعظيم أرباحه من خلال تضخيم كشوف نفقات هذه الملاجئ والمصحات المقدمة إلى الجهات الحكومية المعنية. وقد تبين من التحقيقات اللاحقة مدى حجم الإهمال والأوضاع المتردية والمعاملة اللا إنسانية التي تلقاها النزلاء المسنون وهو ما أكد وصف بيرجمان بأنه (يهودي يتولى إدارة معسكر اعتقال)

وقد كان من كبار المساهمين في الأنشطة الصهيونية والأنشطة اليهودية.. وحرص على إقامة علاقات وثيقة بشخصيات سياسية أمريكية واستغلال هذه العلاقات لتمرير بعض مشاريعه أو التغاضي عن تجاوزاته، كما أنه لم يتردد في اتهام الهيئات أو الجهات المختصة التي عارضت مشاريعه بأنها معادية لليهود، وذلك في الوقت الذي كان يقوم فيه باستنزاف المسنين من اليهود وغير اليهود وإهدار آدميتهم تحت عباءة اليهودية..

وقد بدأ التحقيق مع بيرجمان عام 1974 حيث أُدين بتهم الاحتيال والنصب على البرنامج الأمريكي للرعاية الصحية وبتهم الرشوة والتهرب الضريبي.. وحُكم عليه بالسجن لمدة عام وأربعة أشهر وبغرامة كبيرة.

([2])  استفدنا المعلومات الواردة هنا من كتاب (رعاية المسنين في الإسلام) لعبد الله بن ناصر بن عبد الله السدحان.

([3])  عمل المرأة في الميزان: د. محمد علي البار، ص: (37)، الطبعة الثالثة.

([4])  مجلة الأسرة، العدد (105) بعنوان: (المسنون في ديننا وحضارتهم)، من مقال لخالد ابن ناجم الشريف.

([5])  المرأة بين الجاهلية والإسلام ص: 328.

([6])  مجلة الجندي المسلم، العدد (111) سنة 1424هـ.

([7])  رواه أبو داود.

([8])  رواه أبو داود.

([9])  رواه الجماعة، واللفظ لمسلم.

([10])  رواه أبو داود والنسائي.

([11])  رواه أبو داود.

([12])  رواه النسائي.

([13])  رواه مسلم.

([14])  رواه مسلم والترمذي وأبو داود.

([15])  رواه الترمذي.

([16])  رواه أبو داود.

([17])  رواه الترمذي.

([18])  رواه أبو داود.

([19])  أشير به إلى (مسلم بن عوسجة)، وهو أول شهيد من أنصار الحسين بعد الحملة الأولى، كان شيخاً كبير السن، وكان صحابياً ممن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروى عنه، وكان رجلاً شجاعاً وجريئاً شارك في الكثير من حروب المسلمين، وشهد مع علي كلّ غزواته.

كان في الكوفة يأخذ البيعة للحسين، وقد جعله مسلم بن عقيل حين ثار بالكوفة على رأس طائفة من مذحج واسد.. وفي ليلة عاشوراء لما أوعز الإمام الحسين أن يتخذوا ظلام الليل جملاً وينصرفوا وقف مسلم بن عوسجة موقفاً جريئاً وقام متكلّماً وقال: (والله لو علمت أني أقتل ثم أُحيي ثم أحرق ثم أُذرى، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما تركتك فكيف وإنما هي قتلة واحدة ثم الكرامة إلى الأبد)

وعند القتال لم يتجرّأ أحد من الأعداء على مبارزته، فرضخوه بالحجارة ولما سقط على الأرض وكان به رمق مشى إليه الحسين وحبيب بن مظاهر، فدعا له الحسين وبشّره بالجنّة.. ولما اقترب منه حبيب بن مظاهر قال له مسلم: (أوصيك بهذا- وأشار إلى الحسين- فقاتل دونه حتّى تموت) (انظر: موسوعة الغدير)

([20])  رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب.

([21])  رواه أبو عمر النوقاتي في كتاب معاشرة الأهلين من حديث عثمان بن عفان دون قوله:(فكما أن لوالديك..)، وهذه القطعة رواها الطبراني من حديث ابن عمر قال الدارقطني في العلل: إن الأصح وقفه على ابن عمر.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *