ثالثا ـ الحياة

في اليوم الثالث.. واصل المؤتمر أعماله بمحاضرات ترتبط بالحياة كما ورد الحديث عنها في القرآن الكريم، وقد كان الحديث في تلك المحاضرات لا يختلف عن الحديث في المرات السابقة، حيث غلب الجانب البياني والتوثيقي على الجانب العلمي والعقلي، فلذلك لم يكد يفهم أصحابي من العلماء شيئا مما قيل.
ثم قدم صاحبي عالم الحياة محاضرته، وقد كانت في وصف مظاهر الحياة وجمالها ودقة صنعها.
وصاحبي هذا من خلال تعرفي عليه رجل لا علاقة له بالدين من الأساس.
وسر ذلك يرجع إلى تصوره المادي للكون من جهة، وقد وجد من النظريات المادية ما يدعم هذا الاعتقاد، ووجد في نظرية التطور ما يدعم اعتقادة بالنشأة المادية للحياة..
وهو لذلك لا يجد مبررا لوجود خالق للكون..
ولكني ـ مع ذلك ـ لاحظت عليه من خلال سماعه لعلي في اليومين السابقين بعض التأثر، فقد كان يسمع ما يدور من حوار، بل كان يتنصت بلهفة، وكأنه يريد من النور ما يقضي به على الظلمات التي تملأ جوانب نفسه.
لقد صارحني بالاكتئاب الذي يعانيه.. وصارحني أكثر بأن للصورة المادية التي يتصورها للكون تأثيرها الكبير في ذلك الاكتئاب..
فالحياة تولد.. ثم تعيش فترة قصيرة جدا.. ثم لا تلبث حتى يضمها الفناء، ليلقيها في صحراء العدم الأبدي.
كان يبكي بكل كيانه، وهو يعبر عن هذا العبث الذي امتلأت به الحياة.
***
في مساء ذلك اليوم.. التقينا مع علي ـ بعد الاتصال به عن طريق صديقه حذيفة ـ في محمية طبيعية تعج بجميع مظاهر الحياة..
كانت المحمية غاية في الجمال.. وكأنها تضاريس للأرض جميعا بصحرائها وجبالها وبحارها.. بل شملت المحمية الأزمنة المختلفة.. وعبرت عنها خير تعبير.
كان الحديث هذا المساء ـ حسبما اتفقنا ـ مع عالم الحياة الذي كان يحب أن يسمى (داروين)، ولذلك كنا ندعوه به.. وكان يفرح لذلك.
لقد كان (داروين) صاحب نظرية التطور هو مثله الأعلى.. فلذلك كان يحفظ أقواله وأقوال أنصاره.. ولا يمل من تردادها.
لست أدري هل كان يستشعر صدقها.. أم كان يفر من التساؤلات الخطيرة التي يفرزها كذبها؟
وهو نفسه لم يكن يعلم هل كان يعتقد بتلك النظرية لكونها علما، أم لكونها فكرة وضعها بعض الناس ليفروا بها من الله.
ولذلك كله كان يتألم.. كما كان يتألم جميع أصدقائي من العلماء.
أمام قفص ضم مجموعة من القرود وقفت مع أصحابي العلماء ننظر لتلك الحركات المدهشة التي تقوم بها القرود.
لست أدري كيف خطر على بالي أن أسأل صاحبي عالم الحياة (داروين) عن سر هذه التصرفات والحركات التي تتميز بها الحيوانات.. فكل حيوان من الحيوانات يحمل من الذكاء ما يستطيع أن يحفظ به وجوده فترة من الزمن.. بل له من الذكاء ما يحفظ به استمرار نسله من بعده.
كنت أعلم رأيه في المسألة.. ولكني لم أكن أعلم مدى ما يحمله تصوره من موضوعية علمية، فلهذا أردت أن أستوضحها منه، وفي نفس الوقت كان لي أمل أن يظهر علي.. ليذكر ما يمكن أن يرد به عليه، وعلى هذه النظرية التي يتخذها بعض الملحدين مطية لإنكار صانع الحياة.
لقد كان المسيحيون ـ ولا زالوا ـ يتفقون مع المسلمين في إنكار هذه النظرية([1]) ورفضها، لأنها لا تخالف مبدأ الخلق كما نعتقده فقط، بل تخالف أيضا ما ورد في الكتاب المقدس من كون البشر الأول كان سوي الخلق، ولم يتناسل من أي نوع من الأنواع.
فقد ورد في الكتاب المقدس:(وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حيّة} (تكوين: 7)
وورد فيه أنه فقد ضلعا خُلقت منه امرأته مباشرة:(فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما وبني الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم} (تكوين: 21و22)
ولذا اختارت الكنيسة رفض التطور بحزم، ولكنها مع ذلك قصرت كثيرا في رفضه، مقارنة بما قابلت به العلماء الذين خالفوها في القضايا الكونية.
ولهذا نجد هذه النظرية تدرس بحرية تامة من غير أن تثار عليها أي زوبعة.
سألت (داروين): كيف تفسر هذه الحركات العجيبة التي تقوم بها القرود، ومثلها كل الكائنات الحية التي تتمتع بذكاء خاص يضمن لها البقاء؟
ابتسم داروين، وقال: أنا لست محتاجا لادعاء صانع للحياة وللغرائز التي تقتضها الحياة([2]).. لأن الحل العلمي وفر لي الإجابة المنطقية التي تجيبني عن سؤالك، بل تجيبني عن تأسيس الحياة من أولها.
أنا أعلم أن هذا يخالف الدين.. ولكني وجدت العلم والعقل يخالف الدين، فآثرت العلم والعقل.. اعذرني عن هذه الصراحة الوقحة التي أبدو بها.. ولكن ذلك هو الواقع.. ولو أني وجدت في الدين من القوة ما يقنع عقلي لآثرت ما يقوله الدين على ما تقوله الحقائق التي أعتقدها..
ذلك أن الدين يجيب عن هذه الأسئلة إجابات أجمل بكثير من تلك الإجابات التي يجيب عنها العلم.
قلت: فلم لم تتبعه، وتكتفي به؟
داروين: وكيف أتبع ما لا أقتنع به.. إني بذلك أخون عقلي ونفسي.. بل إني بذلك أتحول إلى منافق لا إلى متدين.. فكيف يكون عقلي في واد وقلبي في واد آخر؟
قلت: فكيف تفسر الحياة؟.. وهذا التنوع في الحياة؟
داروين: ذلك بسيط.. سأقص عليك القصة من أولها.. وسترى أن السيناريو الذي أطرحه صالح لتفسير الحياة.. وعدم حاجتها لمصدر خارجي..
تبدأ القصة بعدما بردت الارض وتكونت بحارها وجبالها وسهولها وغلافها الجوى واستعدت لاستقبال الحياة عليها، وذلك بعد تعرضها خلال ملايين السنين للتطور من حال إلى حال.
وكان أول ظهور للحياة على الأرض فوق سطح الماء والمحيطات والمستنقعات وعلى شواطئ المسطحات المائية التى تكونت عندها مادة الطين، حيث اختلط الماء بالتراب.
ومن عفن الطين المنتن نشأت أبسط وأصغر أنواع الحياة التى نراها ممثلة في بعض أنواع البكتيريا وبعض الكائنات وحيدة الخلية التى لم تتميز بعد على أنها نبات أو حيوان.
ومن هذا الأصل المشترك لجميع الكائنات نبت فرعان من الخلايا المجهرية ـ أى التى لا ترى إلا بواسطة المجاهر المكبرة ـ تولد من أحدهما النبات، ومن الآخر الحيوان.
أما فرع الحلايا المكونة للنباتات، فسرعان ما استحدثت طريقة عجيبة لتركيب مادة الكلوروفيل الخضراء في هيكلها لتكسب بها الطاقة من ضوء الشمس، وتستعين بها على استخلاص الكربون من غاز ثانى أكسيد الكربون الموجود في الجو، ثم تحويله إلى مواد سكرية ونشوية، وكان هذا بدء ممارسة عملية التمثيل الضوئى لنمو النبات.
ثم إن الخلايا أخذت تحيط أجسامها الدقيقة بجدران من هذه المواد الكربونية في هيئة السليولوز، وكانت تستعمل الطاقة التى تنبعث في أجسامها نتيجه التمثيل الضوئى داخل هذه الجدران في التحرك.
ثم إن هذه الخلايا كانت كائنات متناهية في الدقة تعيش في غير جلبة أو ضوضاء، ويأتيها رزقها رغدا من الهواء وماء البحر وأملاحه.
وبعد زمن طويل مضى على هذه الخلايا، وهى تنمو وتتطور نشأت في البحار كائنات كثيرة لا عدد لها.
وكانت هذه العضويات الأولى هي الأصل في جميع أعضاء مملكة النبات التى تكاثرت وغطت الارض بأعشابها وأشجارها وغاباتها الضخمة الكثيفة.
ومثل ذلك حصل لعالم الحيوان، فقد انقسمت الخلايا الحيوانية، وكونت الحيوانات التى عاشت على النبات وغيره، وصارت أنواعا مختلفة من الأحياء على الأرض.
قلت: هذا تفسيرك للحياة.. فما تفسيرك لهذه السلوكات العجيبة التي تبديها الحيوانات.. بل حتى النباتات؟
داروين: إنها الغريزة.. فالغريزة هي التفسير العلمي لتلك السلوكيات.. إنها التفسير الصحيح لقابلية الحيوان للقيام بسلوك معين منذ الولادة.
قلت: فكيف اكتسبت الحيوانات هذه الغريزة؟.. وكيف كان ظهور أول سلوك غريزي لديها؟.. وكيف تم انتقال هذه الغريزة كابراً عن كابر؟
سكت داروين قليلا، وكأنه يتأمل سؤالي، ثم قال: إن شئت الحقيقة.. هناك أجوبة كثيرة عن هذا.. ولكنها تكاد تكون أسئلة هي الأخرى، لا أجوبة.. فكل سؤال منها سيستدعي منك أسئلة أخرى.. ولو بقينا هنا إلى آخر الدهر مع مثل هذه الأسئلة، فلن نخرج أبدا.
ثم أضاف: هناك اختصاصي في علم الجينات، وأحد أصحابنا من دعاة نظرية التطور، يدعى Gordon Taylor Rottary ذكر في كتابه (The great evolution Myster} (سر التطور العظيم) اعترافاً يعجز النظرية عن الإجابة عن التساؤلات الخاصة بالغريزة، فقال:(لو تساءلنا عن كيفية ظهور أول سلوك غريزي، وعن كيفية توارث هذا السلوك الغريزي لما وجدنا أية إجابة)
هناك آخرون من أصحابنا على شاكلة Gordon Taylor، يؤمنون بنظرية التطور، ولكنهم لا يودون الاعتراف بهذه الحقيقة، وبدلاً من ذلك يحاولون التمسك بإجابة غامضة تحتاج هي الأخرى إلى إجابة.
بالنسبة لهؤلاء، فإن الغرائز تعتبر جينات موجودة لدى الحيوانات، تظهر على شكل أنماط سلوكية، واستناداً إلى هذا التعريف يقوم نحل العسل ببناء الخلية على الشكل المنتظم المعروف بوحدات بنائية هندسية مسدسة وفق الغريزة الحيوانية، وبمعنى آخر يوجد جين خاص في أجسام كل أنواع نحل العسل يجعل هذه الأنواع تبني خلاياها غريزياً وفق الشكل المعروف.
قلت: وهل تؤمن بهذا؟
داروين: لقد ذكرت لك أن هذا نفسه سيحتاج إلى أسئلة جديدة، بل أسئلة كثيرة.
أولها ستقول لي: لو كانت الكائنات الحية مبرمجة على أن تسلك هذا السلوك المعين فمن الذي برمج هذا السلوك؟
أنا أعلم أنه لا يوجد أي برنامج مبرمج من تلقاء نفسه.. وأنه لا بد لكل برنامج من مبرمج.
قلت: نعم.. كنت سأسألك هذه الأسئلة.. فما الإجابة التي أعددتها لها؟
داروين: لقد وفر أصحابنا العناء على أنفسهم.. فذكروا إجابة ربما ستستدعي منك أسئلة أخرى.
قلت: فما قالوا؟
داروين: هم يقولون.. أو بالأحرى نحن نقول بأن الطبيعة الأم ـ التي تتشكل من البحيرات والجبال والأشجار والظواهر المختلفة ـ لها القدرة على الخلق، إنها بديل علمي منطقي عن الخالق..
قلت: إن الطبيعة كيان متعدد الأنواع.. فأي نوع منها لديه القدرة على إكساب الحيوانات المختلفة أنماطها السلوكية المختلفة؟
داروين: كنت أعلم أنك ستسأل هذا السؤال.
قلت: لست أنا وحدي الذي يسأله.. بل عقلك أيضا يسأله، أنا أشعر أن عقلك يحتاج إلى إجابة منطقية على هذا السؤال.
إن الطبيعة تتألف من الحجر والتراب والأشجار والنباتات..
من من هذه العناصر تكون له القدرة على إكساب الكائنات الحية هذا السلوك المبرمج؟
أي جزء من الطبيعة لديه القدرة والعقل على فعل ذلك؟
هل ترى أنه يمكن للإنسان العاقل أن يقول، وهو يرى لوحة زيتية جميلة:(ما أحلى الأصباغ التي رسمت هذه اللوحة)؟.. بلا شك فإن كلامه لن يكون منطقيا.
إذن فإن ادعاء كون المخلوق خالقاً للأشياء هو بلا شك ادعاء غير منطقي.
ما وصلت إلى هذا الموضع حتى قدم علي، فشعرت بالمدد ينزل علي من جهة لا أعرفها..
لقد ظهر هذه المرة بصورة سائح جاب الأرض، وهو يبحث فيها عن أسرار الحياة.. لعله لبس ثياب داروين نفسه.. ولكن لا ليثبت نظرية التطور، وإنما ليثبت نظرية الخلق.
لقد مر، وهو يقرأ قوله تعالى:{ وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُختَلِفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 68 –69} ([3])
تقدم منا، وقال بكل أدب كعادته: اسمحوا لي أن أخوض معكم في هذا الموضوع.. فأنا مثلكم باحث عن الحقيقة.. وقد كنت أتنصت لما تقولون.. وبما أني أتصور أني قد وجدت الأجوبة عن كل الأسئلة المحيرة التي طرحتموها.. فأذنوا لي أن أتكلم بينكم عنها.. لتقبلوها، أو لتجعلوني أنضم إليكم في حيرتكم.
شعر الفلكي بأنه يعرف هذا الصوت.. لقد كان هو الصوت الذي اكتشف به أشياء كثيرة كانت تملؤه بالحيرة.. ومثل ذلك الجيولوجي..
قام كلاهما، وقالا: تفضل.. يسرنا أن نسمع منك.
علي: سأبدأ من هذه الآية التي كنت أتلوها عليكم.. إنها من القرآن الكريم، كتاب المسلمين المقدس.. نحن نستلهم منه عقائدنا، وسلوكنا، ونهتدي به في علمنا وعملنا.. إنه كتاب محيط.. وهو كلام ربنا لنا ولكم ولكل البشرية.
ابتسم داروين، وقال: أجئت لتعظنا أم لتطرح علينا الإجابة العلمية على تساؤلاتنا.
علي: بل جئت لأسألكم ولأجيبكم.. ولأطرح علكيم الوجهة التي أرى أنها صحيحة.
داروين: فاطرح رأيك بعيدا عن دينك.
علي: لا بأس.. ولو أني لم أكن لأهتدي إليه لولا ديني.. ومن الأمانة أن نكل الأمور إلى أهلها.
ومع ذلك.. فلن أخاطبك إلا بما تعرفه.. بما يعرفه عقلك.. وما يعرفه أصحابك.
أنتم ـ دعاة نظرية التطور، أو دعاة التفسير المادي للحياة ـ تعرفون عجز نظرية التطور عن التفسير المنطقي للحياة، ولسلوك الحياة..
لقد سمعت بعضكم.. وهو من كباركم.. يقول ـ وهو يتحدث عن سلوك دودة القز ـ لعلك تعرفه.. إنه هيرمان فون ديثفورت (Haimar Von Dithfurth).. لقد سمعته يقول:(إن فكرة اتخاذ الأوراق الثابتة المتعددة كوسيلة للتمويه فكرة باهرة، ترى من يكون صاحب هذه الفكرة؟ من صاحب هذه الفكرة الذكية التي تقلل من احتمال عثور الطير على الفريسة التي يبحث عنها؟ ولا بد للدودة أن تكون قد تعلمت بالوراثة من صاحب هذه الفكرة الذكية…كل هذه الظواهر لا بد أن تتوفر لدى إنسان ذكي للغاية يحاول أن يظل على قيد الحياة، ولا بد لنا أن نقبل بهذه الحقيقة، علماً أن لدودة القز جهازاً عصبياً بسيطاً للغاية فضلاً عن بدائية سلوكها الحياتي، وتفتقر هذه الدودة إلى القدرة على قابلية تحديد هدف معين والتحرك باتجاه هذا الهدف)
ثم يتساءل متعجبا:(ولكن كيف يتسنى لهذه الدودة أن تخترع هذه الوسيلة للدفاع عن نفسها، وهي بهذا الضعف من التكوين؟. وعندما جابه علماء الطبيعة الأقدمون مثل هذه الظواهر لم يجدوا لها تفسيراً إلا بالمعجزة؛ أي تبنوا فكرة وجود قوة غير طبيعية خلاقة، أي أنهم آمنوا بوجود الله الذي يعطي مخلوقاته آليات معينة للدفاع عن النفس. وبالنسبة إلى هذه الطريقة في التفكير تعتبر بمثابة انتحار لعالم أو باحث في الطبيعة، ومن جانب آخر يقوم العلم الحديث بتفسير هذه الظواهر تفسيراً خالياً من أي معنى عبر التمسك بمفهوم الغريزة، لأنه على عكس ما يعتقده أغلبنا، فإن تفسير السلوك بالغريزة يعني اكتساب الحيوان لهذه الأنماط السلوكية بالولادة، وهذا التفسير لا يقدم ولا يؤخر في تساؤلنا بل يعيق بحثنا عن إجابة محدودة وواضحة، ولا يمكن الحديث عن السلوك العقلاني لدودة القز التي تفتقد وجود مثل هذا العقل)
ثم قال:(هناك تفسير وحيد لظاهرة رعاية الكائنات الحية غير العاقلة لصغارها بهذه الشفقة والحنان وذودها عنها، وهو انقيادها للإلهام الإلهي، ومثال على ذلك هذا الطائر الغطاس الذي يرعى صغيره بوحي إلهام إلهي.)
هذا الكلام يقوله هذا المتبني لنظرية التطور، وهو يحلل أو يحاول أن يصل إلى تحليل منطقي لسلوك دودة القز، هذا السلوك العقلاني المدروس.
أنت لا ترى في إجابته ـ كما في كل الكتب والإصدارات التي تصدرها هذه النظرية ـ إلا أسئلة بدون ردود واضحة، أو تناقضات فكرية لا تؤدي إلا إلى طريق مسدود.
حتى صاحب النظرية تشارلز داروين قد اعترف بهذه الحقيقة، فذكر أن سلوك الحيوانات وغرائزها تشكل تهديداً واضحاً لصحة نظريته.. لقد ذكر ذلك في كتابه (أصل الأنواع) عدة مرات وبصورة واضحة لا لبس فيها.. اسمع ما يقول مثلا:(أغلب الغرائز تمتاز بتأثير بالغ، وتثير درجة كبيرة من الحيرة، وكيفية نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظريتي كافية لهدم نظريتي من الأساس)
أما نجل تشارلز داروين المدعو فرانسيس داروين، فقد قام بتحليل وشرح رسائل أبيه في كتابه (الحياة ورسائل تشارلز داروين) أو (The Life And Letters Of Darwin)، وذكر فيه مدى الصعوبات التي واجهها داروين في تفسيره للغرائز قائلاً في الكتاب (يعني أصل الأنواع):(وفي الباب الثالث منه يتحدث في القسم الأول عن العادات الحيوانية والغرائز والاختلاف الحاصل فيها، والسبب في إدخال هذا الموضوع في بداية الباب تشريد فكر القراء عن إمكانية رفضهم لفكرة تطور الغرائز بالانتخاب الطبيعي، ويعتبر باب الغرائز من أصعب المواضيع التي احتواها كتاب (أصل الأنواع)
داروين: لداروين ولنجل داروين أن يقولا ما يشاءان.. ولكن النظرية لا تقتصر عليهما.. نعم ربما تكون قد بدأت منهما، لكنها لم تنته عندهما.
بالإضافة إلى هذا، فإن لدينا الجواب على ما طرحته من تساؤلات، فنحن نعتقد أن الحيوانات تكسب أنماطاً سلوكية عن طريق التجربة، ويتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبيعي، وفي مرحلة لاحقة يتم توارث هذه الأنماط السلوكية الناجحة عبر الأجيال المتعاقبة.
ابتسم علي، وقال: كلامك هذا يحوي معنين.. ثانيهما يبنى على أولهما.. ففسر لي أولهما، لأبين لك وجهة نظري حوله.
داروين: المقدمة الأولى التي تعتمد عليها نظريتنا لتفسير الغرائز هي ما نسميه (الانتخاب الطبيعي).. إنه الحجر الأساس لنظرية التطور.
علي: فما تعنون بالانتخاب الطبيعي؟
داروين: هو يعني بكل بساطة اختيار أي تغيير مفيد وصالح للكائن الحي (قد يكون هذا التغيير هيكلياً أو سلوكياً)، ثم اختيار ذلك الكائن الحي لتوريث ذلك التغيير للأجيال اللاحقة.
علي: فأنت بقولك هذا تجعل الطبيعة هي المحك لتمييز المفيد من الضار، وأنها القوة المؤثرة والعاقلة في الوجود.
داروين: أجل.. قولي يستلزم ما ذكرته.
علي: ولكن، أنت ترى أنه لا يوجد في الطبيعة من يميز بين الضار والمفيد كقوة مؤثرة حيث لا يوجد بين الحيوانات أو غير الحيوانات ذاك الذي يملك قرار ذلك أو القابلية على اتخاذ هذا القرار.
لقد اعترف داروين نفسه باستحالة اكتساب السلوكيات المفيدة عن طريق الانتخاب الطبيعي إلا أنه يعود ويدافع عن وجهة نظره التي هي محض خيال واستمر في الدفاع عن رأيه على الرغم من كونه هذراً وغير منطقي حيث يقول:(في النهاية يمكن اعتبار أنّ الغرائز التي تجعل زغلول الحمام يطرد إخوانه غير الأشقاء من العش، وتجعل مملكة النحل مقسمة إلى خدم وملكة ليست غرائز موهوبة أو مخلوقة بل تفاصيل حية وصغيرة لدستور عام لعالم الأحياء، وهذه التفاصيل الصغيرة تتولى مهمة التكثير والتغيير عبر انتقاء الأصلح من الأضعف. ولكن هذا الاعتبار لا يبدو لي منطقياً ولكنه قريب إلى الأفكار التي تدور في مخيلتي)
هذه هي المقدمة الأولى.. وذاك ما يبين تهافتها، فما المقدمة الثانية؟
داروين: أنا لم أسلم لك بكل ما ذكرته في الرد على المقدمة الأولى.. ومع ذلك، فالمقدمة الثانية هي أنا نرى أن السلوكيات المفيدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبيعي يتم توارثها عبر الأجيال.
علي: هل حقا بقي من العلماء من يقول هذا.. إن أي عقل يعلم أن أي سلوك جديد يكتسبه الحيوان عن طريق التجربة لا يمكن توريثه لجيل لاحق بأي حال من الأحوال، لأن التجربة المكتسبة تخص ذاك الجيل وحده، ولا يمكن إدخال هذه التجربة السلوكية الجديدة المكتسبة في البناء الجيني للحيوان إطلاقاً.
لأن المعروف علميا أن الجينات مسؤولة فقط عن بناء البروتينات حيث يتم بناؤها أكثر من إفراز بعض الهرمونات لتتم السيطرة على سلوك الكائن الحي بصورة عامة.
فمثلا يكون الحيوان نشيطاً أو بالعكس خاملاً أو أن يكون الوليد أكثر ارتباطاً بأمه، ولكن لا يوجد أي دليل يثبت توارث السلوك الخاص الذي يجعل الحيوان يبني عشه بالترتيب والتزامن والانتظام المعروف.
ولو كان الأمر كذلك، فإذن ما هي الوحدات الوراثية المسؤولة عن عملية التوريث؟ لأن هناك فرضيات تثبت وجودها، ولم يستطع أحد الإجابة عن هذا السؤال.
التفت إلى داروين، ثم قال: إن الادعاء بكون الأنماط قابلة للتوارث أمر غير مقبول علمياً، فبناء الطيور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود وإفراز عاملات نحل العسل للشمع يقتضي وجود نوع من الأنماط السلوكية المعقدة، كالتصميم والتخطيط للمستقبل، وهذه لا يمكن توارثها عبر الأجيال.
دعنا من كل هذا.. هناك مثال آخر يفرض نفسه بشدة.. وهو المتعلق بسلوك العاملات القاصرات في مملكة النمل.
فهذه العاملات لها سلوك خاص تتميز به يتطلب منها أن تكون على دراية تامة بالحساب وذات خبرة واسعة، قد ترجع الأمر إلى الوراثة.. ولكنك تصطدم بأن هذه الأنماط السلوكية لعاملات النمل لا يمكن أن تكتسب بالتوارث لسبب وحيد هو كونها قاصرات، ولا يمكن لها التكاثر لذا لا تستطيع توريث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة.
وما دام الأمر بهذه الصورة كيف تسنى لأول نملة عاملة قاصرة أن تورث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة من العاملات القاصرات وهي بالتأكيد لا تستطيع التكاثر؟
ولا يمكننا القول بأن هذه المخلوقات قد بذلت جهداً في اكتساب هذه الأنماط السلوكية لأنها تبدأ في اتباع هذا السلوك منذ اللحظات الأولى لوجودها على وجه الأرض بأكمل صورة.
ولا تصادف في أي طور من أطوار حياتها أية مرحلة للتعليم وجميع سلوكها مكتسب بالفطرة، وهذا الأمر جائز مع جميع الكائنات الحية. إذن فمن الذي علم الكائنات الحية تلك الأنماط السلوكية؟
فلو افترضنا أن النملة العاملة أو أية حشرة أخرى قد اكتسبت جميع صفاتها المتميزة عبر الانتخاب الطبيعي وبالتدرج، أي افترضنا أنها عملية انتخاب للصفات الصالحة ثم يتمّ توريثها بعد ذلك إلى أجيال لاحقة وبصورة متعاقبة وفي كل مرة يتم انتخاب صفات مفيدة تورث إلى جيل لاحق وهكذا، لو افترضنا ذلك لأصبحت فرضيتنا مستحيلة لسبب وحيد هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبويها إلى حد كبير إضافة إلى كونها عقيمة، ولهذا فهي لا تستطيع توريث الصفات والأنماط السلوكية الجديدة المكتسبة إلى الأجيال اللاحقة. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن تفسير هذه الحالة بواسطة الانتخاب الطبيعي؟
ألا يتبين لك من خلال هذا استحالة تفسير الأنماط السلوكية المحيرة لهذه الكائنات الحية بواسطة نظرية التطور، بسبب بسيط، وهو أن هذه الأنماط السلوكية لم تكتسب عبر الانتخاب الطبيعي، ولا يمكن توريثها بالتالي إلى أجيال لاحقة.
سكت قليلا، ثم قال: والأمر الأخطر من ذلك كله هو زعمكم بأن الغرائز تتطور بتطور الأحياء، فأنتم تزعمون بأن الكائنات قد نشأت عن بعضها البعض عبر التطور.
ووفقاً لهذه النظرية تكون الزواحف قد نشأت من الأسماك، والطيور من الزواحف… مع أن النوع الواحد يختلف تماماً من حيث السلوك، حيث تختلف السمكة عن الزواحف اختلافاً كلياً.
علي: هذا أولا.. والثاني وهو أعظم خطرا من الأول.. هو تصوركم لبداية الحياة.. كيف يفسر أصحابك بداية الحياة.. أو بداية أول خلية؟
داروين: طبعا يفسرونها بالصدفة، أو نتيجة اجتماع ظروف معينة.
علي: اسمح لي قبل أن أرد على هذا أن أذكر لك بأن هذه النظرية في أصلها نشأت في غمرة الانبهار بالعلم.. لقد تصور أهل تلك الفترة.. الفترة التي تملص فيها العلم من الكنيسة.. أنه بإمكانهم أن يفسروا كل شيء بالعلم.
فلذلك ذهبوا إلى أن الكون ولد صدفة.. كما أن الحياة ولدت صدفة.. وأنها نشأت من تلقاء نفسها نتيجة ظروف طبيعية.
ولكن العلم بجيمع فروعه ـ اليوم ـ ينص بحاله ومقاله على خلاف هذه النظرية، فقد أثبتت فروع علمية كثيرة مثل علم الحفريات، والوراثة، والكيمياء الحيوية، والأحياء الجزيئية استحالة أن تكون الحياة قد نشأت بالمصادفة، أو أن تكون قد ظهرت من تلقاء نفسها نتيجة ظروف طبيعية.
لقد برهنت التجارب العلمية في الواقع استحالة أن تكون أول خلية حية، أو حتى جزيء واحد من ملايين جزيئات البروتين في تلك الخلية، قد نشأت بالمصادفة، ولم يثبت ذلك من خلال التجارب والملاحظات فحسب، بل أيضا من خلال حسابات الاحتمالية الرياضية.
داروين: لك أن تقولك ذلك، ولكن كيف تفسر التشابه الكبير بين جينوم البشر وجينوم الشمبانزيات، فقد وصلت نسبة التشابه بينهما إلى 99 في المائة.. ألا ترى هذا وحده كافيا لأن يثبت لك الأصل الذي جاء منه الإنسان؟
ابتسم علي، وقال: من الطبيعي وجود مثل هذا الشبه بين جميع المخلوقات، وليس بين الإنسان والقرد فقط، فالأحياء جميعًا تتكون من الجزيئات نفسها.
ولكن هل وجود العجلة في الدراجة وفي السيارة وفي الطائرة وفي القطار وفي الحاصدة الزراعية وفي آلات وأجهزة أخرى كثيرة يدل على أن السيارة تطورت آليًّا من الدراجة ثم تطورت إلى الطائرة أو إلى القطار.
ولكن يدل على أن هذه المكائن كلها من تصميم الإنسان، أي يرجع إلى مصمم واحد هو الإنسان. والأبنية بمختلف أشكالها وأنواعها ووظائفها ترجع إلى وحدات أساسية في الأصل هي الطوب أو الخرسانة ولا يمكن لأحد الادعاء بأن بعضها تطور عن البعض الآخر استنادًا إلى تشابه لَبِنَات البناء.
داروين: ولكن هذه النسبة مع ذلك تظل عالية.
علي: ومع ذلك فإن الفرق يظل بعيدا.. أليست هذه الجينات هي الحروف التي يتشكل على أساسها الكائن؟
داروين: بلى.. الجينات هي الحروف التي تتشكل منها كلمة الكائن.
علي: فاسمك هذا الذي تفرح به لو بدلنا منه حرفا واحدا أو حركة واحدة لتغير تماما.. فهكذا هذه الجينات بتبدل جين واحد يتغير تغيرا تاما.. كما تتغير الذرات بتغيير بروتوناتها وإلكتروناتها.
بالإضافة إلى هذا فإن جزيء (د ن أ) البشري مشابه كذلك لنظيره في الديدان، والبعوض، والدجاج.
فالبروتينات الأساسية عبارة عن جزيئات حيوية شائعة لا توجد فقط في الشمبانزيات، بل إنها توجد أيضا في كائنات حية كثيرة مختلفة كل الاختلاف عن بعضها البعض. كما أن تركيب البروتينات في كل هذه الأنواع مشابه جدا لتركيب البروتين البشري.
داروين: نحن نرى أن هذا التشابه يدل على الأصل الواحد.. فكيف تفسره أنت؟
علي: ليس من المستغرب أن يكون في الجسم البشري بعض أوجه الشبه الجزيئي بالكائنات الحية الأخرى؛ لأنها جميعا مكونة من نفس الجزيئات، وكلها تستخدم نفس المياه والهواء، وكلها تستهلك أطعمة مكونة من نفس الجزيئات. ولا ريب في أن يكون تكوينها الجيني، متشابها، ومع ذلك، لا يعد ذلك دليلا على أنها تطورت من سلف مشترك، ذلك أن هذه المادة المشتركة ليست نتاجا لتطور، بل لتصميم مشترك، أي، لكونها خُلقت وفقا لنفس الخطة.
سأضرب لك مثالا يوضح هذا.. تستخدم كل الإنشاءات في العالم مواد متشابهة (قرميد، وحديد، وإسمنت، وغيرها)، ومع ذلك، لا يعني ذلك أن تلك المباني تطورت من بعضها البعض، فقد أُنشئ كل منها بشكل منفصل باستخدام مواد بناء مشتركة، وينطبق ذات الشيء على الكائنات الحية أيضا، مع فارق عظيم بين الكائنات الحية وهذه المباني.
سكت علي قليلا، ثم قال: لا شك أنكم تعتبرون الحفريات أكبر دليل على ما تذهبون إليه.
داروين: أجل.. فالحفريات هي الدليل العلمي الذي نستند إليه، وهو الذي لا يقف في وجهه أي دليل.
علي: ولكن الحفريات التي اعتمد عليها داروين ومن تلاه أصبحت هي الحجة الدامغة التي تحط هذه النظرية.
داروين: كيف ذلك؟
علي: من وجوه متعددة، سأكتفي بوجهين منها.
أما أولهما، فهو أنه من بين كل الحفريات التي اكتشفت على مدار السنين، لا يوجد أي أثر لأي أشكال وسيطة لا بد من توافرها لو كانت الكائنات الحية قد تطورت من طور إلى آخر من أنواع بسيطة إلى كائنات أكثر تعقيدا، كما تدعي نظرية التطور.
ولو كانت هذه الكائنات قد وُجدت في الحقيقة، لكانت هناك الملايين، بل البلايين، منها، والأهم من ذلك، كان يجب أن تكون بقايا هذه الكائنات موجودة في سجل الحفريات.
ولو كانت هذه الأشكال الوسيطة قد وجدت حقا، لكانت أعدادها أكبر بكثير من أعداد أنواع الحيوانات التي نعرفها اليوم، ولَما خَلا مكان في العالم من بقاياها الحفرية.
ويبحث أنصار التطور عن هذه الأشكال الوسيطة في كل البحوث المحمومة التي أجريت على الحفريات منذ القرن التاسع عشر. ومع ذلك، لم يجدوا أي أثر لهذه الأشكال الوسيطة، على الرغم من سعيهم الحثيث لإيجادها طوال المائة والخمسين سنة الماضية.
فسجل الحفريات يبين أن أنواع الأحياء ظهرت فجأة وبكامل تكوينها، ولم تتطور من أشكال بدائية إلى أشكال متقدمة كما تدعي نظرية التطور.
داروين: والثاني؟
علي: ألستم ترون أن الحياة قد نشأت عن سلف واحد مشترك، واتخذت كل أشكالها المتنوعة من خلال سلسلة من التغييرات الطفيفة.
داروين: أجل..
علي: وفي هذه الحالة، لا بد أن تكون الحياة قد نشأت أولا في أشكال متشابهة وبسيطة للغاية، ولا بد أن تكون الاختلافات بين الكائنات الحية والتعقيدات المتزايدة فيها قد حدثت بالتوازي مع مرور الوقت.
داروين: أجل.. ولهذا نرى أن الحياة مثل الشجرة، لها جذر مشترك يتفرع لاحقا إلى غصون مختلفة.. ولهذا ترى مصادرنا تستخدم مبدأ (شجرة الحياة)
علي: وفقا لمبدأ الشجرة هذا، لا بد أولا أن تنشأ شعبة ما، ثم تظهر شعبة أخرى ببطء مع حدوث تغييرات دقيقة على مدار فترات زمنية طويلة جدا.
داروين: ذلك صحيح، وهو ما نقوله.
علي: هذا ما تقولونه.. ولكن هل هذه هي الحقيقة؟
داروين: نحن نرى أن هذه هي الحقيقة.
علي: الحقيقة لا أراها أنا ولا أنت.. الحقيقة يبرزها الواقع، وتظهرها الأدلة.. والمنطق العقلي السليم هو الذي يجعلك تستسلم لما تقول الأدلة.
والأدلة التي أسستم عليها نظريتكم، وهي الحفريات، تثبت عكس ما تقول تماما، فهي تنص على أن الحيوانات كانت شديدة الاختلاف والتعقيد منذ اللحظة الأولى لنشأتها.
فقد ظهرت كل شعب الحيوانات المعروفة اليوم في نفس الوقت، في منتصف الحقبة الجيولوجية المعروفة باسم العصر الكمبري([4]).
والظهور المفاجئ لمجموعات الحيوانات الرئيسية قد استغرق فترة زمنية قصيرة من العصر الكمبري، وتعرف هذه الفترة غالبا باسم (الانفجار الكمبري)، وهي لم تدم أكثر من 5 ملايين سنة.
وقبل ذلك، لم يكن هناك أي أثر في سجل الحفريات لأي شيء باستثناء الكائنات وحيدة الخلية، وبضع كائنات بدائية للغاية من متعددات الخلايا. ونشأت كل الشعب الحيوانية في أكمل شكل وعلى نحو فجائي خلال فترة زمنية قصيرة للغاية تعرف بالانفجار الكمبري..
وترجع الحفريات المكتشفة في الصخور الكمبرية لكائنات شديدة التنوع مثل القواقع، وثلاثيات الفصوص، والإسفنجيات، وقناديل البحر، ونجوم البحر، والمحار، وغيرها.
وتتميز معظم الكائنات الموجودة في تلك الطبقة بأجهزة معقدة وتراكيب متقدمة، مثل الأعين، والخياشيم، وأجهزة دوران الدم، تماما مثل تلك الموجودة في النماذج العصرية. وتتميز هذه التراكيب في ذات الوقت بقدر عال من التقدم والاختلاف.
***
ما وصل علي من حديثه إلى هذا الموضع حتى قال لداروين: اسمح لي يا صاحبي داروين..
قاطعه داروين، وقال: هذا في الحقيقة ليس اسمي.. بل هو اسم اختاره لي بعض أصحابي..
علي: اسمح لي أن أذكر لك بأن كل ما ذكرته لك أنت تعلمه وتوقن به وتسلم له في قرارة قلبك.
داروين: كيف عرفت ذلك.. أم أن دينكم يعلمكمم كيف تجولون في بواطن الناس؟
علي: إن رجلا في مثل عقلك وعلمك يستحيل أن يتقبل عقله تلك الشطحات التي تستلزمها تلك النظرية.
داروين: فلنفرض صحة ما تقول.. ولكن ما الذي يمنعني من التصريح بتهاتفها؟
علي: يمنعك من ذلك عامل خطير، مارسه بكل عنف دعاة التطور.
داروين: ما الذي تقصد؟
علي: إن أخطر الادعاءات التي يكثر أنصار التطور ترديدها كل حين، تلك الكذبة القائلة بأن نظرية التطور هي الأساس لعلم الأحياء.. بل ينشر هؤلاء أن علم الأحياء لا يمكن أن يتطور، بل حتى أن يوجد، بدون نظرية التطور.
ولو صح هذا الادعاء، لكان معنى ذلك أن العالم لم يعرف العلوم الحيوية إلا بعد ظهور نظرية التطور، وأن كل هذه العلوم وليدة تلك النظرية. ومع ذلك، فالكثير من فروع علم الأحياء، مثل علوم التشريح، ووظائف الأعضاء، والحفريات، نشأت وتطورت قبل نظرية التطور.
سكت قليلا، ثم قال: أتدري ما الأسلوب الذي استخدمه أنصار التطور ليبثوا الرعب في نفوس العلماء حتى يستسلموا لها؟
داروين: ما هو هذا الأسلوب؟
علي: إنهم يستخدمون أسلوبا مشابها لذلك الذي حصل في الاتحاد السوفييتي إبان عهد ستالين.. ففي تلك الفترة، اعتبرت الشيوعية، الأيديولوجية الرسمية للاتحاد السوفييتي أن فلسفة (المادية الجدلية) هي الأساس لكل العلوم.. ولذلك أمر ستالين بأن تتمشى كل البحوث العلمية مع المادية الجدلية.
ومع ذلك، تم رفع هذا الالتزام عند انهيار الاتحاد السوفييتي، وعادت الكتب إلى كونها نصوصا علمية فنية عادية تحتوي على نفس المعلومات.. بل إن التخلي عن سخافات مثل المادية الجدلية لم يتسبب في تخلف العلم، بل أزال عن كاهله الضغوط والالتزامات المفروضة عليه.
وفي الوقت الحاضر، لا يوجد سبب يدعو إلى ربط العلم بنظرية التطور، فالعلم يقوم على الملاحظة والتجريب، بينما تعبر نظرية التطور، من ناحية أخرى، عن فرضية متصلة بماض لا يمكن إخضاعه للملاحظة.
داروين: فلنفرض أن نظرية التطور انهارت.. فما البديل العلمي الذي تراه؟
علي: كل الأدلة العلمية تشهد لله بأنه مصمم الحياة.. ولذلك فالبديل العلمي بكل بساطة هو أن كل حي من الأحياء خلقه الله عالما قائما بذاته ليؤدي دورا معينا في هذه الحياة..
ولهذا فإن الله يعبر عما نراه من أشياء بأنها عوالم قائمة بذاتها.. لكل عالم طبيعته وخصائصه، ففي أول سورة من القرآن الكريم نجد قوله تعالى:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الفاتحة:2)
بل إن الله يعتبر كل حي من الأحياء أمة قائمة بذاتها، كما قال تعالى:{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } (الأنعام:38)
والله تعالى يعتبر التنوع مقصودا من أول الخلق، فهو يقول:{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (النور:45)
وقال تعالى:{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } (لقمان:10)
وقال تعالى:{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ } (الشورى:29)
وقال تعالى:{ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (الجاثـية:4)
بدا على وجه داروين بعض التأثر لسماعه تلك الآيات القرآنية، وقد تعجبت عندما سمعته يتخلى عن كبريائه التي عرفته بها، ليقول لعلي بكل تواضع: هل في قرآنكم شيء عن الحياة، غير أصل الحياة؟
علي: أجل.. القرآن الكريم كله حديث عن الحياة وأركانها وأسرارها وأنواعها([5]) وامتدادها في الزمان والمكان..
داروين: امتدادها في الزمان والمكان!؟.. ما الذي تقصد بذلك؟
علي: علوم الحياة التي تعرفونها تعطي الحياة صورة واحدة لا تتصور إمكانية الحياة فيما عداها.
داروين: أجل.. علم الحياة كله يقوم على هذا.
علي: ولكن هذا العلم بهذه الصورة ينطوي على كبر عظيم..
داروين: العلم هو الحقيقة.. والحقيقة لا ينبغي أن تحمل أي كبر.
علي: الكبر ليس في العلم.. وإنما فيمن يدعيه.
داروين: ما الذي تقصد؟
علي: لو تأملت جميع فترات التاريخ البشري، فإنك تجد كل فرد من الأفراد، بل كل أمة من الأمم تتصور أن ما عندها من العلم هو الحقائق التي لا تقاوم، فلذلك تفرح بها، وتتيه، وتقاوم كل من يقف في وجهها.
القرآن الكريم يذكر هذا، فهو يذكر أن تلك القرى التي جاءتها أنبياؤها بالعلم الإلهي الذي لا يعتريه التغيير والتبديل رفضت العلم الإلهي مستغنية بعلمها، قال تعالى:{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} (غافر:83)
مع أن عملهم ليس إلا مرحلة بسيطة في التطور العلمي، كما قال تعالى:{ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} (لنجم:30)
داروين: ما الذي تقصد من كل هذا؟
علي: أقصد أن من العلم ما لا نستطيع إثباته في المخابر.
داروين: كيف ذلك؟
علي: لأن المخابر تعتمد على عقولنا، وعلى ما وصلت إليه عقولنا من مكتشفات، فلذلك تعجز هذه المخابر عن التعرف على حقائق كثيرة يمتلئ بها الكون.
داروين: فمن أين نستقي تلك المعلومات إذن؟
علي: من الله.. أليس هو مبدع كل شيء؟
داروين: فلنفرض صحة ذلك.. فما علاقته بهذا؟
علي: إن المبدع دلنا على أسرار إبداعه وأنواع مبدعاته.
داروين: ولكن كلام المبدع دين.. ونحن نتحدث عن العلم.. وشتان بين العلم والدين.
علي: لا.. الدين مصدر من مصادر العلم.. بل هو المصدر الأعلى للعلم.. فالله تعالى يقول:{ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (الملك:26)
فالله هو مصدر العلم.. وخزائن العلوم بيد الله.. وهو يفيض علينا منها كل حين بحسب استعداداتنا.
داروين: فلنفرض صحة هذه المقدمات التي ذكرتها.. ما الذي ترمي من خلالها.
علي: أرمي إلى ما طلبت مني الحديث عنه.
داروين: تقصد (امتداد الحياة)!؟
علي: أجل.. لأن العلم بامتداد الحياة الزماني والمكاني يقتضي التسليم لله بالعلم..
داروين: لم؟
علي: لأن هذه المعلومات لن نستطيع إثباتها في المخابر.
داروين: ولكن عقولنا لن تستطيع التسليم لما لم نستطع إثباته.
علي: بل تستطع التسليم بكل سهولة بشرط واحد.
داروين: ما هو هذا الشرط؟
علي: الثقة..
داروين: ما معنى ذلك؟
علي: إذا وثقت في مصدر المعلومة سلمت لها.. فلذلك إذا وثقت في الله وفي كتاب الله سلمت له ما يذكر لك من الحقائق، ولو لم تره بعينك.
داروين: لا أرى أني أستطيع التسليم لشيء لا يلمسه عقلي..
علي: بل أنت تسلم للكثير.. بل إنه لا يمكن أن يتعلم أحد من الناس ما لم ينطلق من التسليم لمن يتعلم على أيديهم..
وكمثال بسيط أنت تسلم لجميع أصدقائك من العلماء في كل ما يذكرونه من العلم مع أنه لم تتوفر لديك الأدوات الكافية لتقتنع بما يقولون.. أليس ذلك صحيحا؟
داروين: أجل.. وإلا فإن ذلك سيتطلب مني أن أدرس كل العلوم.. والعمر يفنى دون ذلك.
علي: أنت تسلم لصديقك الفلكي ما يذكره عن الأفلاك الواسعة مع أنك لم ترها مرة واحدة في حياتك، وتسلم لصديقك الجيولوجي ما يذكره عن تاريخ الأرض مع أنك لم تعش تلك الأزمان التي يذكرها.
داروين: أجل..
علي: فكيف سلمت لهم؟
داروين: ثقة فيهم، وفيما لديهم من العلم.
علي: وكيف وثقت فيهم؟
داروين: رأيتهم يجيبوني عن الأسئلة التي تحيرني بأدلة منطقية يتقبلها عقلي.
علي: فاعتبر الله أستاذا من أساتذتك.
انتفض الفلكي، ومثله الجيولوجي.. وداروين، وصاح: ما الذي تقوله؟.. الله رب.. وليس أستاذا؟
علي: أتنزه الله عن الأستاذية.. أم تنزه الأستاذية عن الله؟
سكت داروين، فقال علي: الله هو المعلم.. القرآن الكريم يذكر ذلك كل حين ففي أول ما نزل من القرآن الكريم هذه الآية:{ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:5)
داروين: فلنفرض أني أسلم لك بكل هذا.. فهل ترى أن الله علمنا من علوم الحياة ما لم نصل إليه؟
علي: أجل.. كما علمنا الله أصل الحياة.. فهو يعلمنا امتدادها.
داروين: ما الذي تقصد بامتدادها؟
علي: الحياة أعمق من أن تنحصر فيما تخبرنا به المخابر.. هي أعمق مكانا، وأعمق زمانا.
داروين: ما الذي تريده بالعمق أو الامتداد المكاني.. فإني أراك قدمت كل تلك المقدمات لأجل إثباته.
علي: أنتم تتساءلون كثيرا، وبلهفة كل حين قائلين:(هل توجد حياة في الفضاء؟)
داروين: لا أنكر ذلك.. وأنا شخصيا أميل إلى وجود حياة في الفضاء الخارجي.. وقد سألني أحدهم مرة قائلا: أليس غريباً أنكم تتحدثون عن وجود حياة خارج الأرض في الكون؟ فأجبت على الفور: إن الغريب ألا نتحدث عن وجود مخلوقات في الكون، لأننا لسنا الوحيدين في هذا العالم.
ولست الوحيد في ذلك، فمنذ صعود الإنسان إلى الفضاء الخارجي، وهو يحاول جاهداً اكتشاف حياة جديدة على كوكب غير الأرض.
وعلماء الفلك ـ اليوم ـ يؤكدون وجود هذه الحياة، فلدينا في الكون أكثر من عشرة آلاف مليون مليون مليون نجم، وهذه النجوم منها ما هو بحجم الشمس ومنها ما هو أكبر من الشمس وما هو أصغر منها. فاحتمال وجود مجموعات شمسية كشمسنا هو احتمال كبير وكبير جداً أمام هذا العدد الضخم من النجوم أو الشموس.
ومع بداية القرن الواحد والعشرين ازداد شيئاً فشيئاً اعتقاد العلماء بوجود حياة خارج الأرض في الفضاء، فلهذا تراهم يرسلون المراكب الفضائية محاولة منهم لكشف أي آثار للحياة في هذا الكون الواسع.
ومن آخر الرحلات رحلة باتجاه كوكب المريخ تكلفت أكثر من (800) مليون دولار.. وكان الهدف الأصلي منها البحث عن وجود حياة في ذلك الكوكب.
وقد بدأ العلماء منذ السبعينات من القرن العشرين بمحاولات للاتصال مع الفضاء الخارجي من خلال بث رسائل تتضمن معلومات عن كوكب الأرض.
ثم تطورت المحاولات في التسعينات من القرن العشرين من خلال ابتكار مراصد ضخمة يتم زرعها في الفضاء الخارجي لرصد الكواكب الشبيهة بالأرض.
لقد أصبحت مسألة وجود كواكب تدور حول نجوم شبه حقيقة، وذلك بعدما أمكن تطوير أجهزة الرصد الفضائي.
بل أصبحت مسألة كشف حياة وكائنات حيَّة على كواكب أخرى مسألة وقت، ولولا تأكد العلماء وإحساسهم القوي بوجود مخلوقات أخرى في الكون لما عملوا بجدّ للبحث عن هذه المخلوقات.
علي: فأنتم متأكدون من وجود الحياة في غير الأرض، ولكنه لم تتوفر لديكم الوسائل الكافية لإثبات ذلك.
داروين: أجل.. ذلك صحيح.. وأنا وأكثر العلماء نؤمن بذلك.
علي: إن هذه الحقيقة التي تؤمنون بها من غير أن تستطيعوا إثباتها هي حقيقة مثبتة لدينا نحن المسلمين.
داروين: كيف ذلك؟
علي: لقد أخبرنا معلمنا العليم الخبير بها، بل أخبرنا بسجودها لله، فقال:{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (النحل:49)
بل اعتبرها من آياته الدالة على عظمته وقدرته ولطفه، فقال:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (الشورى:29)
إن هذه الآية الكريمة تخاطبنا وتخاطب المستقبل.. وهي تدل على أنه يمكن أن يتعرف البشر على تلك العوالم..
وأنا من خلال هذه الآية الكريمة أوقن تماما أن الجهود التي تبذلها البشرية في هذا الميدان لن تذهب هدرا.. لأن هذه الآية لابد أن يقع تأويلها كما وقع تأويل جميع آيات الله.
لقد حلمت البشرية طويلا بالصعود إلى الفضاء الخارجي.. واستعملت كل الوسائل لأجل ذلك([6]).
داروين: وقد تحقق هذا الحلم في نهاية القرن العشرين عندما بدأت رحلة البحث العلمي، وبدأ آلاف العلماء في مشارق الأرض ومغاربها بكتابة أبحاثهم وإجراء تجاربهم حول آلية الخروج من الأرض، وما هي الخطوات التي يجب سلوكها لتحقيق ذلك.
علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك.. بل أشار فوق ذلك إلى الآلية التي يتم بموجبها ذلك الصعود.
تعجب العلماء، فقال علي: لو سألنا العلماء المختصين بإطلاق المراكب الفضائية وتصميمها عن أهم شيء يصادفهم حتى تكون الرحلة ناجحة فسيجيبون بأمرين:
أولهما أن خروج المركبة الفضائية من نطاق جاذبية الأرض يجب أن يتم من أبواب أو منافذ محددة للغلاف الجوي.
والأمر الثاني هو أن حركة المركبة في الفضاء يجب أن تكون حركة منحنية تعرجيه وليست مستقيمة.
داروين: ولكن لماذا هذان الاعتباران؟
علي: لأن الغلاف الجوي مُحَاط بحقول جاذبية ومغناطيسية، وإذا لم يتم إطلاق المركبة من نقطة محددة، فسوف تنحرف عن مسارها بفعل هذه الحقول وتفشل الرحلة، لذلك يقوم العلماء بدراسة النقاط المحددة للغلاف الجوي، والتي يمكن أن تنطلق منها المركبة الفضائية.
ثم على هذه المركبة أن تسير في طريق متعرج لتحاشي حقول الجاذبية التي تمارسها الشمس والقمر وبقية كواكب المجموعة، فحركة المركبة الفضائية في الفضاء حساسة جداً لدرجة أن العلماء قد يضطرون لتغيير مسار المركبة وإطالة طريقها ملايين الكيلومترات تحاشياً لحقل جاذبية ما، أو للاستفادة من حقل آخر في تحريك المركبة.
ثم إن منافذ الغلاف الجوي ليست دائماً مفتوحة، بل تتغير مع حركة دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وكأنها بوابات تُفتح وتُغلق.
داروين: ما الذي ترمي إليه من كل هذه التفاصيل.. ألا ترى أننا خرجنا عن الموضوع؟
علي: لا.. لم نخرج.. لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة.. حقيقة إمكانية الصعود.. بل وصف آلية ذلك، فقال:{ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} (الحجر:14-15)
إن هذه الآية تشير إلى ما ذكرنا من آلية الصعود، فقد ذكرت أبواب الغلاف الجوي، التي هي أبواب السماء، وذكرت الحركة التعرجية في الفضاء.
وفوق ذلك أخبرت بما عساه يقول من وفق لهذه الرحلة، لقد ذكرت أنهم يقولون:{ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا }.. وقد حصل هذا.. لقد أخبرنا به رواد الفضاء الذين صعدوا إلى القمر أن أول ما يصادفهم عند تجاوزهم الغلاف الجوي هو الظلام الشديد الذي يظن معه المرء أن بصره قد توقف.
حتى إن الأطباء المشرفين على سلامة هؤلاء الروَّاد وجدوا بأن الإنسان عندما يتحرر من الجاذبية الأرضية يتعطل العصب البصري لديه بشكل مؤقت، فلا يعود يرى شيئاً وكأن بصره قد أغلق، وهذا يحدث بسبب انعدام الجاذبية والذي يؤدي إلى خلل في الدورة الدموية والتفاعلات الحيوية في جسم الإنسان.
داروين: أسلم للقرآن بهذا.. فهل تستنتج منه حقيقة ما ذكره القرآن من إمكانية اطلاع الإنسان على أنواع الحياة المبثوثة في العالم الخارجي؟
علي: أجل.. فثقتنا في كتابنا تستدعي ذلك.. فهو لم يتنبأ بشيء إلا حصل كما تنبأ به.
داروين: أهذا ما تقصد من امتداد الحياة المكاني؟
علي: ليس هذا فقط.. أو بالأحرى هذا ما تفهمه أنت وغيرك من العلماء فقط.
داروين: فهل هناك غيره مما لا نفهمه؟
علي: لا أقصد رميكم بالقصور.. ولكن العلم الآخر الذي يرتبط بالحياة وأعماقها يستدعي ثقة في المعلم..
داروين: فلنفرض أنا وثقنا في معلمك هذا.. فما الذي دلنا عليه من أنواع الحياة وامتدادها؟
علي: أنتم تبحثون عن وجود حياة في الكون؟
داروين: أجل..
علي: لكن الحقائق الكبرى ـ التي تبينها الوثيقة الإلهية التي تنطوي على حقائق الوجود وأسراره ـ تخبر أن هذا الكون لا يحوي أحياء فقط، بل هو نفسه حي، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني.
أما ما نتصوره نحن من حياة فهو صورة فقط من صور الحياة، وهي صورة ارتباطات مادية حيوية بعضها ببعض.
وكما أن العلم الحديث يقر بوجود حياة في الخلية الواحدة، سواء كانت ضمن نسيج واحد أو كانت مستقلة منفردة، فكذلك تنبئنا النصوص الشرعية أن الكون كله حي جملة وتفصيلا، وكل ذرة فيه أو ما دونها كائن حي له حقيقته التي استدعت وجوده، كما أن له صورته التي نعرفه من خلالها.
داروين: أتقصد أن كل ما نراه من جمادات حي.. له حياة يعي بها؟
علي: أجل.. هذا ما تنبئنا عنه النصوص المقدسة..
داروين: ولكن الحياة تقتضي أشياء كثيرة..
علي: تلك الحياة التي نعرفها نحن.. أما الحياة في صورتها الحقيقية، فلا تستدعي ذلك.
داروين: كيف ذلك؟
علي: أنتم مثلا تلتزمون بأنه لا يمكن أن تكون هناك حياة من دون الأوكسجين؟
داروين: أجل.. فهو ضروري للطاقة التي يحتاجها الكائن الحي ليستمر وجوده.
علي: هذا بحسب وعينا.. ولكن الحقيقة غير ذلك.
داروين: كيف ذلك؟
علي: سأقرب لك الأمر.. ألا ترى أن الآلة الجامدة يمكن أن تتصرف تصرفات كثيرة.. بل قد تؤدي من الخدمات ما نعجز نحن عن أدائه، ولكنها مع ذلك لا تستنشق أوكسجينا، ولا تزفر كاربونا.
داروين: ولكنها مع ذلك لا تتصرف إلا في ضوء ما نوحي لها نحن به.
علي: إذا كنا نحن البسطاء الضعفاء استطعنا أن نحول من الآلة الجامدة متكلما بارعا، وشاشة رائعة، وذاكرة حية، بل معالجا ذكيا.. أفلا يستطيع مصمم هذا الكون أن يفعل ذلك؟
سكت داروين، فقال علي: ولذا.. فإن النصوص تخبرنا عن حياة الأشياء ووعيها.. بل ومشاعرها الفياضة..
فحياة الكون ـ كما تدلنا النصوص المقدسة ـ حياة عاقلة، فلذلك تمارس ما يمارسه العقلاء من صنوف التعبير عن المشاعر .. وقد ذكر القرآن الكريم أن الحياة العاقلة المدركة للعواقب هي التي منعت هذا الكون من قبول أمانة التكليف، كما قال تعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72)
فلولا ما في الكون من طاقة الإدراك والاختيار ما عرض عليه هذا العرض الخطير، ولولاها ما أجاب هذه الإجابة الواعية.
وللحجارة من الوعي ـ كما يعبر القرآن الكريم ـ ما يجعلها تهبط من خشية الله، قال تعالى:{ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} (البقرة: 74)
والجبل يخشع لنزول القرآن، قال تعالى:{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21)
بل يندك لتجلي الله، قال تعالى:{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} (لأعراف: 143)
بل ينهد لسماع شرك المشركين، قال تعالى:{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} (مريم:90 ـ91)
داروين: وعيت مرادك بالامتداد المكاني، والعلم في الحقيقة لا يتكلم في هذا.. وإن شئت الصراحة، فإن العلم يكاد يسير نحو إثبات هذا.. فقد وجد في ذكاء الكائنات ابتداء من ذراتها ما يكاد يثبت لها من القدرات ما نجهله جهلا مطبقا.. ولذلك فإن المنطق العلمي السليم هو الذي يتوقف في هذا الموضع.
علي: والمنطق الأسلم منه هو الذي يجد مصدرا موثوقا يستلهم منه الحقائق.
داروين: من وجد مثل هذا المصدر، فليعض عليه بالنواجذ.
علي: حدثتك عن الامتداد المكاني الذي أوحت لنا به النصوص المقدسة.. ولعلك في انتظار المراد من الامتداد الزماني.
داروين: أجل.. وأصدقك في هذا كما صدقتك في ذلك.. ولعل الجميع يشاركني في هذا.. فإن في كل في نفس شوقا لهذا الامتداد الزماني الذي تتحدث عنه.. إن كل نفس ترغب في حياة دائمة مستقرة لا ينتابها الموت، ولا يقطعها الفناء.
علي: لقد دلتنا مصادرنا الموثوقة على هذا.. فهي تبشرنا، كما تبشر كل النفوس بأن الحياة ليست لحظات تمر وتنقضي ليلف العدم بعدها الوجود.. بل هي دائمة ثابتة مستقرة، قد تتغير بعض صورها، ولكنها تبقى ولا تفنى([7]).
داروين: والموت.
علي: هو انقضاء لصورة من صور الحياة لتولد منها صورة جديدة من صورها.
داروين: ألا ترى أن مثل هذا ادعاء عظيم يكاد يكون أقرب إلى الخرافة منه إلى الحقيقة العلمية؟
نعم إن أي عقل يحب وجود حياة بعد الموت.. ولكن العلم لا يدل على شيء من ذلك.
قال ذلك، ثم أخذ يقول بنوع من الهستيرية: لا… لا حياة بعد الموت، لأن الحياة التي أعرفها لا توجد إلا في ظروف معينة من تركيب العناصر المادية.. وهذا التركيب الكيماوي لا يوجد بعد الموت، إذن فلا حياة بعد الموت.
وبناء علي علم الأعصاب(Neurology) لا يمكن معرفة العالم الخارجي والاتصال به إلا عندما يعمل الذهن الإنساني في حالته العادية، وأما بعد الموت فهذا الإدراك مستحيل، نظرا إلى بعثرة تركيب النظام الذهني.
قال علي بهدائه المعتاد: ولكن هناك قياسات أخري أقوى من هذا القياس؛ وهي تؤكد أن بعثرة الذرات المادية في الجسم الإنساني لا تقضي علي الحياة؛ لأن (الحياة) شيء آخر، وهي مستقلة بذاتها باقية بعد فناء الذرات المادية وتغيرها.
أنت تعلم أن الجسم الإنساني يتألف من خلايا كثيرة جدا ومعقدة، وهي مثل الطوب الصغير، ينبني منه هيكل أجسامنا.
ولكن الفرق بين طوب أجسامنا والطوب الطيني شاسع جدا، فطوب الطين الذي يستخدم في العمارات يبقي كما هو، نفس الطوب الذي صنع في المصنع، واستخدم في البناء للمرة الأولى، بينما يتغير طوب هياكلنا في كل دقيقة، بل في كل ثانية.
فالجسم الإنساني يغير نفسه بنفسه بصفة مستمرة.. ولذلك، فهو كالنهر الجاري المملوء دائما بالمياه، لا يمكن أن نجد به نفس الماء الذي كان يجري فيه منذ برهة، لأنه لا يستقر، فالنهر يغير نفسه بنفسه دائما، ومع ذلك فهو نفس النهر الذي وجد منذ زمن طويل ولكن الماء لا يبقي، بل يتغير.
وجسمنا مثل النهر الجاري، يخضع لعملية مستمرة حني إنه يأتي وقت لا تبقي فيه أية خلية قديمة في الجسم، لأن الخلايا أخذت مكانها.
إن عملية فناء الجسم المادي الظاهري تستمر، ولكن الإنسان في الداخل لا يتغير، بل يبقي كما كان علمه وعاداته وحافظته وأمانيه وأفكاره، تبقي كلها كما كانت.
إنه يشعر في جميع مراحل حياته بأنه هو (الإنسان السابق)، الذي وجد منذ عشرات السنين، ولكنه لا يحس بأن شيئا من أعضائه قد تغير، ابتداء من أظافر رجليه حتى شعر رأسه.
ولو كان الإنسان يعني الجسم لكان لازما أن يتأثر علي الأقل بفناء الخلايا وتغيرها الكامل، ولكننا نعرف جيدا أن هذا لا يحدث؛ وهذا الواقع يؤكد أن (الإنسان) أو (الحياة الإنسانية) شيء آخر غير الجسم، وهي باقية رغم تغير الجسم وفنائه، وهو كنهر مستمر فيه سفر الخلايا بصفة دائمة.
كان على وجه داروين كثير من السرور بكلام علي، ولكنه ـ ونتيجة لما لقنه من ثقافة لم يستطع الجمع بينها وبين ما يقول علي ـ راح يدافع عن أفكاره بكل ما أوتي من قوة، قال: لا يمكن التسليم بهذا الاستدلال، فالعقل، أو الوجود الداخلي الذي نسميه (إنسانا) ليس بشيء آخر، ولم يوجد إلا نتيجة علاقة الجسم بالعالم الخارجي، أما الأفكار والأماني فلا توجد خلال العمل المادي إلا كالحرارة التي توجد نتيجة احتكاك قطعتين من حديد.
إن العقل والمنطق ينكران (الروح) بشدة، و(الشعور) لا يوجد كوحدة، وإنما هو وظيفة، وتفاعل وتنسيق.
علي: ما دمت تقول هذا، وما دمت تعتبر أن هذه هي حقيقة الإنسان، فلنجرب أن نخلق إنسانا حيا ذا شعور، ونحن ـ اليوم ـ نعرف بكل وضوح جميع العناصر التي يتألف منها جسم الإنسان، وهذه العناصر توجد في الأرض وفي الفضاء الخارجي، بحيث يمكننا الحصول عليها.
سكت داروين، فقال علي: دعنا من هذا.. وربما سترى في مستقبل أيامك من يثبت لك وجود الروح بالمنطق الذي تفهمه.. أما نحن الذين من الله علينا بالثقة فيه، فنعلم أن لنا أرواحا تبقى بعد اختلاط أجسادنا بالتراب.. ونعلم كذلك أن هذه الروح من أمر الله:{ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الاسراء:85)
إن الله يخاطبنا في هذه الآية بالمنطق العقلي.. فالعالم لن يكون عالما حتى يعلم أنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.. بل لولا هذا العلم ما استمر العلماء في الوجود والاستمرار.
الجاهل فقط هو الذي يتصور الأشياء من زاوية واحدة.. أما العالم فيعلم أن الكون أعمق من أن يحده بتصوراته المحدودة.
دعنا من هذا.. ولنتحدث عن شيء آخر.. العقل السليم يعتبره من الأدلة المنطقية على امتداد الحياة.
إن الحياة ـ في منطق الكون، وفي منطقنا نحن المؤمنين ـ ليست غدوا ورواحا فقط كما صورها فيلسوفكم (نيتشه)، والتي تمتلئ وتخلو كالساعة، ولا هدف لها أكثر من ذلك.
إن الحياة (الآخرة) ذات هدف عظيم هو المجازاة علي أعمال الدنيا، خيرا أو شرا، سواء كان نية أو قولا أو فعلا.
لم يملك صديقنا الفلكي إلا أن يتدخل هنا، فراح يقول: نعم.. إن كل ما تذكره من هذا صحيح.. والعلم الآن يسير نحو إثبات هذا.
فأعمال كل إنسان تحفظ وتسجل بصفة دائمة، وبغير توقف، بأبعادها الثلاثة، من النية، والقول، والعمل.
فهذه الأبعاد الثلاثة تسجل بأكملها، فكل حرف يخرج من لساننا، وكل عمل يصدر عن أي عضو من أعضائنا يسجل في الأثير؛ ويمكن عرضه في أي وقت من الأوقات بكل تفاصيله، لنعرف- إذا شئنا- كل ما قاله أو فعله أي إنسان في هذه الحياة.
إن الأفكار تخطر علي بالنا، وسرعان ما ننساها، ويبدو لنا أنها انتهت، فلم يعد لها وجود ولكنا، بعد فترة طويلة، نراها رؤى خلال النوم، أو نذهب نتكلم عنها في حالات الهستريا أو الجنون، دون أن ندري شيئا مما نقول.
وهذه الوقائع تثبت قطعيا أن العقل أو الحافظة ليست تلك التي نشعر ونحس بها فحسب، وإنما هناك أطراف أخرى من هذه الحافظة لا نشعر بها، وهي ذات وجود مستقل، وذات كيان قائم بنفسه.
قال ألكسيس ـ وهو صديقنا عالم النفس ـ: أجل.. لقد أثبتت التجارب العلمية أن جميع أفكارنا تحفظ في شكلها الكامل، ولسنا قادرين علي محوها أبدا.
وأثبتت هذه التجارب أيضا أن الشخصية الإنسانية لا تنحصر فيما نسميه (الشعور)، بل هناك أجزاء أخري من الشخصية الإنسانية تبقي وراء الشعور، يسميها فرويد: (ما تحت الشعور)، أو (اللاشعور). وهذه الأجزاء تشكل جانبا كبيرا من شخصيتنا، بل هي الجانب الأكبر منها ؛ ومثلها كمثل جبل من الجليد في أعالي البحار، أجزاؤه الثمانية مسكنة تحت الماء، علي حين لا يطفو منه إلا الجزء التاسع، وتلك هي ما نسميه: (تحت الشعور)، الذي يسجل ويحفظ كل ما نفكر فيه، أو ننتويه.
لقد سلم علماء النفس بهذه النظرية بصفة عامة اليوم، ومعناها أن كل ما يخطر علي بال الإنسان من الخير والشر، ينقش في صفحة اللاشعور، فلا يزول إلي الأبد، ولا يؤثر فيه تغير الزمان وتقلب الحدثان، ويحدث هذا على رغم الإرادة الإنسانية-طوعا أو كرها.
علي: لو قارنا هذا الواقع مقرونا إلي نظرية الآخرة لاستطعنا أن نصل إلى حقيقتها بسرعة، إن هذا الواقع يؤكد بكل صراحة إمكان وجود سجل كامل لأعمال الإنسان في حيازته، وعندما يبدأ حياته الأخرى، فإن وجوده نفسه سوف يشهد علي الأعمال والنيات التي عاشها.
لقد نص القرآن الكريم على هذه الحقيقة، قال تعالى:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (قّ:16)
والأقوال مثل النيات، فجميع ما نلفظه من كلام، حسنا كان أو قبيحا، حمدا أو سخطا؛ سواء استعملنا اللسان في إبلاغ رسالة الحق، أو استعملناه في إبلاغ رسالة الشيطان، كل ذلك يحفظ في سجل كامل، قال تعالى:{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (قّ:18)، وهذا السجل سوف يعرض أمام محكمة ليتم حساب الإنسان.
الفلكي: إن إمكان وقوع هذا لا ينافي العلم الحديث، فنحن نعرف قطعا أن أحدا عندما يحرك لسانه ليتكلم، يحرك بالتالي موجات في الهواء، كالتي توجد في الماء الساكن عندما نرمي فيه بقطعة من الحجر.
ثم إن آلاف المحطات الفضائية في العالم تذيع برامج كثيرة ليل نهار، وتمر موجات هذه البرامج في الفضاء، بسرعة 186.000 ميلا في الثانية، وكان من المعقول جدا عندما نفتح المذياع أن نسمع خليطا هائلا من الأصوات لا نفهم منه شيئا، ولكن هذا لا يحدث، لأن جميع محطات الإذاعة ترسل برامجها على موجات يختلف طولها، فمنها ما يرسل برامجه علي موجات طويلة؛ ومنها ما يرسل موجات قصيرة، ومتوسطة.
وهكذا تمر هذه البرامج في الفضاء بموجات مختلفة طولا، فتستطيع أن تسمع أية موجة من المذياع، بمجرد أن تدير عقربه إلي المكان المطلوب.
إن علماءنا لم ينجحوا في اختراع آلة تفرق بين أصوات الزمن القديم، ولولا ذلك لكنا قد سمعنا تاريخ كل عصر وزمان بأصواته، وبناء على هذا يثبت إمكان سماع الأصوات القديمة في المستقبل، فيما لو نجحنا في اختراع الآلة المطلوبة؛ ومن ثم لا تبقي نظرية الآخرة بعيدة عن القياس، وهي القائلة بأن كل ما ينطق به الإنسان يسجل، وهو محاسب عليه يوم الحساب.
إن مناقشتنا لجوانب المسألة لا تنفي وجود مسجلين غير مرئيين، ينقشون علي صفحة الفضاء كل ما ننطق به من الكلام، وهو ما يصدق قول الله تعالى:{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (قّ:18)
داروين: لم يبق لك إلا أن تبرهن لنا على حفظ العلم كما برهنت على حفظ النية والقول.. فهل تراك ستستدل لهذا من القرآن، أم من العلم الحديث.
علي: من كليهما.. فالقرآن كلام الله.. والعلم هو الحقائق التي ينطق بها الوجود.. ويستحيل على الوجود أن يخالف في كلامه ما يقوله بارئه.
الفلكي: صدقت في ثقتك بكلام ربك.. فمعلوماتنا الكونية في هذا الصدد تصدق بصورة مدهشة إمكان ما تذكره من ذلك.. فالعلم الحديث يؤكد بأن جميع أعمالنا، سواء أباشرناها في الضوء، أم في الظلام، فرادي، أم مع الناس، كل هذه الأعمال موجودة في الفضاء في حالة الصور، ومن الممكن في أي لحظة تجميع هذه الصور، حتى نعرف كل ما جاء به إنسان من أعمال الخير والشر طيلة حياته.
فقد أثبتت البحوث العلمية أن كل شيء حدث في الظلام أو في النور، جامدا كان أو متحركا، تصدر عنه (حرارة) بصفة دائمة، في كل مكان، وفي كل حال، وهذه الحرارة تعكس الأشكال وأبعادها تماما، كالأصوات التي تكون عكسا كاملا للموجات التي يحركها اللسان، وقد تم اختراع آلات دقيقة لتصوير الموجات الحرارية التي تخرج عن أي كائن، وبالتالي تعطي هذه الآلة صورة فوتوغرافية كاملة للكائن حينما خرجت منه الموجات الحرارية.
علي: لقد عبر القرآن الكريم عن هذا التسجيل العجيب، فقال على لسان الذين يناقشون الحساب يوم القيامة:{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف:49)
داروين: فأنتم ترون أن كل ما نراه في الكون أجهزة تقوم بتسجيل كامل لكل أعمال الإنسان.
علي: أجل.. فكل ما يدور في أذهاننا يحفظ إلى الأبد، وكل ما ننطق به من الكلمات يسجل بدقة فائقة، فنحن نعيش أمام كاميرات تشتغل دائما، ولا تفرق بين الليل والنهار.
لقد ذكر القرآن الكريم هذا، فالله تعالى أخبرنا أنه ما من صوت من الأصوات، ولا عمل من الأعمال، ولا حركة من الحركات، إلا وهي مسجلة في سجل الكون، ومدونة في كتاب الوجود، فليس شيء منها ضائعاً ولا يمكن لشيء منها أن يزول، يقول الله تعالى:{ إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2)وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا(3)يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4)بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5)يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6)فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه }(سورة الزلزلة)
وإذا كان الباحثون في هذا الزمان قد اكتشفوا أن كل عمل محفوظ مسجل على صفحة الوجود، فلماذا سجلت الأعمال إذن؟ ألا تجد العقول جواباً إلا أن تقول سجلت الأعمال لإعادة عرضها.. ولكنا لا نرى الإعادة في الدنيا، إذاً لا بد أن العرض سيكون بعد هذه الحياة كما نطق الكتاب وقال المرسلون.
داروين: كل ما تذكره من هذا جميل.. ولكن الفطرة التي نتلمسها في نفوسنا تصيح بأن الحياة التي نعيشها هي الحياة الوحيدة والنهائية..
علي: أتتحدث عن فطرتك.. أم تتحدث عن الفطر البشرية؟
داروين: الفطرة البشرية واحدة.. وفطرتي هي فطرة جميع الناس من جميع الأجناس..
علي: ولكن البشرية جميعا بحضاراتها المختلفة، وفي أزمانها المختلفة تكاد تتفق على هذا.. فجميع الحضارات الإنسانية بما فيها الفرعونية المصرية القديمة والبابلية والآشورية والصينية والزرداشتية والهندية واليونانية واليهودية والنصرانية والإسلام تتفق في أن الموت ليس هو نهاية الحياة.
داروين: ولكنهم يختلفون بعد ذلك.. يختلفون كثيرا.. هل تعود الروح إلى هذا الجسد، أم تعود إلى جسد آخر.. كما تختلف في كيفية خروجها وخلوصها من هذا البدن.. فالبوذيون والهنادكة والشنتو يعتقدون أن الروح تظل حبيسة في الجسد وبالذات في الجمجمة عند الموت، وأنها لا تنطلق إلا بعد حرق الجثة وانفجار الجمجمة ولذا تراهم يحرقون جثث موتاهم.. والهنادكة والبوذيون يعتقدون بتناسخ الأرواح، وأن الروح الشريرة تعاد في جسد حقير مثل الكلب والخنزير، وتظل في تلك الدورات حتى تتطهر، وأن الروح الصالحة الخيرة تظل تنتقل في الأجساد الخيرة حتى تصل مرحلة النرفانا، وهي السعادة الأبدية المطلقة في الروح المتصلة بالأبد والأزل كما يزعمون.
علي: لا يهم ذلك الاختلاف.. نحن نبحث فقط في اتفاقهم رغم اختلافهم وتنوعهم على امتداد الحياة، وهذا يظهر من ملاحمهم وأشعارهم وأساطيرهم.
داروين: لقد ذكرت مذاهب الأمم في هذا، ولم تذكر رأي الإسلام فيها.. أتراك تستحيي من ذكره؟
علي: لا.. بل إن الحقائق التي جاء بها الإسلام في هذا هي الحقائق المنطقية التي تنسجم مع العقول السليمة ([8])..
إن نصوصنا المقدسة تتحدث عن هذه المسألة الخطيرة التي تتوقف عليها سعادة البشر بكل عقلانية.. إنها لا تخاطبنا فقط بما يملأ نفوسنا من الرغبة والرهبة، وإنما تخاطب محال التحليل الواعي فينا.
ولن يكفي هذا المقام لذكر كل ما ورد في نصوصنا من ذلك، ولكني أكتفي ببعض ما ترشد إليه من الأدلة العقلية على امتداد الحياة، لأن وعينا بهذا الامتداد هو الذي يجعلنا نتقبل بعد ذلك كل ما جاءت به النصوص من الأحداث التي تحصل فيه.
لعل أول ما نراه في القرآن الكريم من الأدلة العقلية على ذلك ما يمكن تسميته ببرهان المماثلة، فالعالم المماثل لهذا العالم ممكن الوجود، لأن هذا العالم ممكن الوجود، وحكم المثلين واحد، فلمّا كان هذا العالم ممكناً وجب الحكم على الآخر بالإمكان.
هذا دليل عقلي لا شك فيه.. ونحن نستخدمه كثيرا في حياتنا، فإذا سمعنا بأن شركة ما أنتجت منتوجا حسنا لا نستغرب أن تنتج مثله أو ما هو أحسن منه.
ولهذا، فإن القرآن الكريم يستدل بالمساواة بين الإحياء في الدنيا والإحياء في الآخرة، وذلك من خلال نمطين في المماثلة.
أولهما: مماثلة النشأة الاُولى من العدم بالنشأة الآخرة، كما قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الروم:27)
وثانيهما: مماثلة إحياء الأرض بعد موتها بالإحياء في الآخرة، كما قال تعالى:{ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الروم:50)، فهذه الآية الكريمة تقرّر أن حُكم الأمثال واحد، فإذا تحقّق الإحياء في الأرض بعد موتها، أمكن تحققه في الإنسان بعد موته، وفي غيره من الأحياء.
فتبين إذن أن العقل يحكم بتساوي الأمثال في الحكم، ومنه يتبيّن أن القادر على الإحياء الأول قادر على الإحياء الآخر ؛ لأنهما مثلان.
هذا برهان المماثلة..
هناك برهان آخر يستدل به القرآن الكريم يمكن تسميته بـ (برهان القدرة)، فكل شيء في الكون يدل على قدرة الخالق العظيم غير متناهية، وما دامت كذلك، فيجوز في العقل أن تتعلق بكل شيءٍ مقدور، يستوي في ذلك السهل والصعب على السواء، نرى ذكر هذا كثيرا في القرآن الكريم.. فكثيرا ما نقرأ هذه الفاصلة { إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، ولهذا أشارت الآيات القرآنية إلى صورتين من الاستدلال على المعاد، بذكر عموم القدرة الإلهية وعدم تناهيها:
تتمثل أولاهما في بيان قدرته تعالى على المعاد في الآخرة مرتباً على ذكر المبدأ في الاُولى في آيات كثيرة، إشارة إلى أن القادر على الإيجاد من العدم ابتداءً قادر على إعادة الموجود.. بل هو أقدر على ذلك، قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت:19-20)
وقال تعالى:{ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)} (الإسراء)
وقد بيّن تعالى أن قدرته على الخلق الأول والخلق الجديد من حيث الامكان والتأتّي، كخلق نفسٍ واحدةٍ، فقال تعالى:{ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (لقمان:28)
وتتمثل الثانية في بيان قدرته تعالى على المعاد في الآخرة مرتّباً على ذكر خلق السماوات والأرض، قال تعالى:{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالاََْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون} (يّـس:81-82)
والقرآن الكريم ينص على أن خلق الإنسان في نفسه أسهل وأهون من خلق السماوات والأرض، قال تعالى:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (غافر:57)
هذا برهان القدرة..
هناك برهان آخر يستدل به القرآن الكريم يمكن تسميته بـ (برهان الحكمة)، فالله تعالى حكيم في أفعاله.. وكل الكون يدل على ذلك.. فالمنظومة الكونية في نظامها العجيب تسير بكل جزئياتها وفق حركة هادفة، وتتّجه صوب نهاية مرسومة بدقة وإحكام، يقول الله تعالى في تقرير هذا الدليل:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون:115)، وقال تعالى:{ أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} (القيامة:36)
فلو كان الإنسان ينعدم بالموت، دون أن تكون هناك نشأة اُخرى يعيش فيها بما له من سعادة أو شقاء، لكان خلقه في هذا العالم عبثاً وباطلاً.
هذا برهان الحكمة..
هناك برهان آخر يستدل به القرآن الكريم يمكن تسميته بـ (برهان العدالة)، فالله تعالى ـ على حسب ما تدل نصوصنا المقدسة ـ جعل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء للإنسان، ووهبه النوازع الخيّرة إلى جنب النوازع الشريرة، لتتمّ بذلك حقيقة الابتلاء، وأعطاه العقل الذي يميّز بين الخير والشر، وبعث له الأنبياء والرسل ليحدّدوا له طريق الخير وطريق الشرّ، ثم كلّفه باتباع سبيل الخير والحق، وتجنّب سبيل الشرّ والباطل، وأعطاه الإرادة والاختيار ليستحقّ الثواب أو العقاب، قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (هود:7)، وقال تعالى:{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك:2)، وقال تعالى:{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الانبياء:35)
وعلى هذا فإن واقع الحياة الدنيا بما يحمل من متناقضات هو امتحان وابتلاء، وليس فيه ما يصلح للمكافأة والجزاء، وبما أن ضرورة التكليف تقتضي ضرورة المكافأة، لذا يجب المعاد ليجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وإلاّ لبطلت فائدة التكليف، ولكان عبثاً ولغواً.
والله على حسب ما تدل عليه صنعته هو العدل الذي لا حدود لعدله.. ولذلك فإن الله يستدل بعدله على امتداد الحياة ليجازى المحسن بإحسان، ويجازى المسيء بإساءته، قال تعالى:{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }(الجاثية:21)، وقال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى(134)قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى}(طه: 134-135)
هذا برهان العدالة..
هناك برهان آخر يستدل به القرآن الكريم يمكن تسميته بـ (برهان الرحمة)
إن الرحمة تقتضي أن يكرم الله خلقه بما تتطلبه حاجاتهم.. وأنت ترى هذا في الحياة، فالله أعطى لكل شيء خلقه الكامل، ووفر له حاجاته بكرم عظيم.. لقد خلق الله كل جزء من أجزاء الإنسان، وخلق له ما يكفيه: خلق القلب وخلق له من الدماء ما تكفيه، وخلق المعدة وخلق لها من الطعام ما يكفيها، وخلق العين، وخلق لها من الضوء ما يكفيها وهكذا.
ولا نجد شيئاً في الإنسان ليس له ما يكفيه إلا تلك الآمال الواسعة، فإنه لا يكفيها من العمر إلا الخلود، ولا يكفيها من الحاجات إلا أن تحصل على كل ما تشتهي.
وإذا رأينا الحياة الدنيا لم نجد فيها الكفاية لهذا الجانب الهام من كيان الإنسان، فلماذا خلقت الآمال والواسعة في الإنسان إذن وما يكفيها؟!
إذا رأيت آلة من الآلات قد جهزت مستلزماتها، ثم وجدت فتحة كبيرة في هذه الآلة، فلا شك أنك ستقول: إن صانع هذه الآلة صانع حكيم، ولا يمكن أن يكون قد صنع هذه الفتحة عبثاً، وإذا كنت شاهداً أنها بحاجة إلى غطاء، فلا شك أن الصانع قد صنع لها غطاء وإذا كان غير موجود الآن فربما كان في مكان آخر، وإذا لم يأت من الصانع إلا هذا فالراجع عقلاً أن الغطاء سوف يأتي وربما تأخر في الطريق.
وهل يبقى لك شك إذا وصلتك رسالة من الصانع تخبرك بالغطاء، وأنه سيأتي إليك؟ هل يبقى في قلبك شك؟
قال تعالى معبرا عن هذا البرهان:{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}(الكهف:46)، وقال تعالى:{ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ }(الأنبياء:102} ([9])
***
ما وصل علي من حديثه إلى هذا الموضع حتى ارتفع آذان المغرب.. فأحسست بقشعريرة روحية عالية.. لقد أدركت أن هذا الصوت الذي يتكرر كل حين لا يتكرر عبثا..
ولكني ـ لجبني الشديد ـ لم أستطع أن أتجاوب تماما مع تلك اللذة الروحية العالية.
لست أدري لم.. ولكن ربما يكون ذلك الخزان الكبير من الشبهات التي تمتلئ بها نفسي هي السبب في ذلك الإعراض.. لقد كنت أبحث عن أشعة أكثر، فلن يرفع ظلامي إلا الشمس نفسها.. بنورها ودفئها وجمالها وكمالها.
التفت علي إلينا، وقال: اعذروني.. إن ربي يدعوني للاتصال به.. ولا بد لي أن أجيبه.
قال ذلك، ثم أخذ من محفظته مصحفا، وسلمه لصديقنا (داروين)، وهو يقول: تقبل هذه الهدية العظيمة.. إنها كلام الله.. اقرأ هذا الكتاب، وأعد قراءته.. فعساك تظفر بين حروفه على الحقيقة التي لم يطق لساني أن يبلغها لك.
أخذ (داروين) المصحف، وقال: شكرا لك .. لئن صح ما ذكرت، فإن هذا أكبر تكريم كرمت به في حياتي جميعا.
ما
أمسك (داروين) بالمصحف حتى أحسست بأنوار عظيمة بدأت تنزل عليه.. وبمثله شعرت بأن
بصيصا من النور قد نزل علي.. اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
([1]) التّطور في عرف علماء التطور يعني (التحول من نوع حي إلى نوع حي آخر)، ويقصدون بذلك ارتقاء الحياة من جهاز عضوي ذي خلية واحدة إلى أعلى درجات الارتقاء، وهو بالتالي: التغير الذي طرأ على الإنسان نتيجة حلقات من التغيرات العضوية خلال ملايين السنين.
وهي ترتكز على ثلاث قواعد رئيسية كما حددتها (الموسوعة العالمية):
1. أنّ الكائنات الحيّة تتبدل أشكالها جيلاً بعد جيل تبدلاً بطيئاً، وتنتج في النهاية أنسالاً تتمتع بصفات غير صفات أسلافها.
2. أن هذا التّطور قديم وُجد يوم وُجدت الكائنات، وهو السّبب في وجود كلّ الكائنات الحيّة من حيوان ونبات في هذا الكون وتلك التي انقرضت.
3.إنّ جميع الكائنات الحية من حيوان ونبات مرتبط بعضه ببعض ارتباط صلة وقرابة، وكلها تجتمع عند الجد الأعلى للكائنات جميعا.
([2]) يتصور الكثير من دعاة نظرية التطور بأن ما في نظريتهم بديل علمي عن حاجة الحياة إلى الخالق، وهم بهذا يصرحون بأن نشأة الحياة تحتمل أحد أمرين:
الأول: هو أن الكائنات الحية نشأت من خلال (نظرية التطور)، التي تتبنى أن الحياة بدأت مع أول خلية تكونت هي ذاتها بمحض المصادفة أو وفقا لقوانين طبيعية افتراضية قائمة على (التنظيم الذاتي).. ونتيجة للمصادفة والقوانين الطبيعية، نمت هذه الخلية الحية وتطورت، وعن طريق اتخاذها أشكالا مختلفة نشأ على الأرض ملايين الأنواع من الأحياء.
الثاني: أن الكائنات الحية نشأت من خلال (نظرية الخلق)، والتي تنص على أن كل الكائنات الحية خرجت إلى حيز الوجود بعد أن خلقها خالق مبدع.
وعندما خُلقت لأول مرة الحياة وملايين الأشكال التي تتخذها، كان لها نفس التصميم الكامل المتميز الخالي من العيوب الذي يميزها اليوم.
ويتفق العلماء الداعمون لنظرية التطور على عدم وجود بديل ثالث. وقد صدر عن أحد هؤلاء العلماء، وهو دوجلاس فوتويما Douglas Futuyma قوله:« إما أن تكون الكائنات الحية قد ظهرت على الأرض كاملة التطور وإما ألا تكون. وإذا لم تكن قد ظهرت كاملة التطور، فلابد أنها تطورت من خلال إحدى عمليات التحوير عن أنواع كانت موجودة من قبل. وإذا كانت قد ظهرت كاملة التطور، فلا بد أنها قد خُلقت بالفعل بواسطة قوة عاقلة غير محدودة القدرة »(دوجلاس جيه. فوتويما، محاكمة العلم، دار بانثِيون للكتب، نيويورك، 1983، صفحة 197)
وبعيدا عن هذين البديلين، لا يوجد اليوم ادعاء أو فرضية ثالثة فيما يتصل بكيفية نشأة الحياة.
ووفقا لقواعد المنطق، إذا ثبت خطأ إحدى إجابتين محتملتين بديلتين لسؤال ما، فلا بد أن تكون الإجابة الأخرى هي الإجابة الصحيحة. ويطلق على هذه القاعدة، التي تعتبر إحدى القواعد الأساسية في علم المنطق، اسم الاستدلال التخييري disjunctive inference (modus tollendo ponens
وبعبارة أخرى، إذا ثبت أن أنواع الأحياء على الأرض لم تتطور بمحض المصادفة، كما تدعي نظرية التطور، فإن ذلك يعد دليلا واضحا على أنها تشكلت على يدي خالق (انظر:هدم نظرية التطور في عشرين سؤالا، بقلم الكاتب التركي:هارون يحيى)
ولهذا ركزنا على تبيين تهافت هذه النظرية هنا، ونحن لا نرد بها على المتدينين، فهم لا يعتقدون بها.. ولكنها رد على اللادينين الذين يفرون إليها ليفسروا الحياة.
([3]) هذه الآية الكريمة هي التفسير العلمي لما يطلق عليه (الغريزة)
([4])العصر الكمبري عبارة عن حقبة جيولوجية يُقدر أنها استمرت لنحو 65 مليون سنة، أي ما بين نحو 570 إلى 505 مليون سنة ماضية..
([5]) سنتحدث عن التفاصيل المرتبطة بحديث القرآن الكريم عن هذه الجوانب في الفصول القادمة.
([6]) انظر: القرآن يتنبأ بعصر الفضاء، عبد الدائم الكحيل، في موقعه الخاص بالإعجاز القرآني.
([7]) انظر (الإسلام يتحدى) لوحيد الدين خان.
([8]) انظر هذه الأدلة في (توحيد الخالق) للزنداني.
([9]) هناك تفاصيل كثيرة أخرى ترتبط بالحياة الآخرة، وما يتعلق بالبرهنة عليها من أدلة، وما يميز العقيدة الإسلامية في هذا الجانب، وقد تحدثنا بتفصيل عن ذلك في (أسرار الحياة)