ثالثا ـ الحق

ثالثا ـ الحق

في اليوم الثالث.. وصلني ظرف محترم من بعض أهل الإسكندرية يريد أن يقابلني فيه.. كان الظرف رائعا.. وكان مختصرا جدا يدل على مدى الجد الذي يتحلى به صاحبه.. وكان ـ فوق ذلك ـ يدل على كون صاحبه مسيحيا ملتزما، فقد كان أسلوب كتابته ينم عن علاقة وثيقة للكاتب بالكتاب المقدس.

لست أدري كيف رضيت بمقابلته.. مع أني لم أكن أنوي مقابلة أحد في ذلك اليوم، بسبب ما امتلأت به في اليوم السابقين من الإحراج الذي أوقعني فيه الكتاب المقدس.

دخل علي المكتب.. وكان في غاية التهذيب والأدب، فألقى التحية، وقال بعدها مباشرة من غير مقدمات: أعرفك بنفسي.. أنا يعقوب سمعان.. وقد جئتك لغرض يرتبط بالكتاب المقدس، فإن أذنت لي أن أطرحه فعلت.

قلت: لا بأس.. أنا لم أنزل إلى بلادكم إلا لأجل الكتاب المقدس.. فاطرح ما شئت.. فلن تجد مني إلا الآذان الصاغية.

نظر إلي نظرة كلها جد، وقال: لقد درست الكتاب المقدس دراسة فاحصة من حيث محتوياته.. ومن حيث ما يمكن أن يؤثر تربية أو يفيد علما.

قلت: بورك لك هذا الاهتمام.

قال: لم آتك لأجل هذا.. وإنما جئتك لأجل غرض آخر.

قلت: تحدث بلا حرج.

اللغو:

أخرج الكتاب المقدس من محفظته، وأخرج معه كراسة صغيرة، وقال: أنا رجل جاد بطبعي.. لا أحب الكلام الكثير الذي لا تكون له أي فائدة.. وقد رأيت الكتاب المقدس ممتلئا كلاما كثيرا لا أرى أن هناك من يحتاج إليه في جميع هذه الدنيا([1]).. بل رأيت أنه نوع من الثقل يحول بين هذا الخلق وفوائد الكتاب المقدس التي جاء من أجلها.. ورأيت فوق ذلك رجال ديننا منشغلين بفك الألغاز التي لا تفك عن الحقائق التي تصرخ كغريق لا يجد له منجدا.

قلت: فما فعلت؟.. وما هذا الكراس الذي وضعته بجانبي مع الكتاب المقدس؟

قال: هذا الكراس هو مشروعي لاختصار الكتاب المقدس.. فبدل أن تكلفوا أنفسكم بطباعة هذا الكتاب الضخم، اكتفوا بطباعة هذه الكراسة، أو مثلها.. بحيث يستفيد منها كل مسيحي.. بل يمكن أن يحفظها بسهولة.

قلت: أتقصد أن الكتاب المقدس جميعه في هذه الكراسة؟

قال: أجل.. لقد حذفت من الكتاب المقدس كل ما لا يستفيد منه قارئه.. أنا لي خبرة طويلة في هذا المجال.. بل لي كتب كثيرة كلها مختصرات للكتب المطولة.

قلت: طرحك جميل.. ولكن يحتاج إلى بعض المناقشة.. اذكر لي ـ أولا ـ سر لجوئك إلى هذا السبيل للتعامل مع الكتاب المقدس.

قال: بصراحة.. أنا لي علاقة بالقرآن.. كتاب المسلمين.. بطبيعة البلد الذي أسكن فيه.. بل أنا أحفظ القرآن.. وقد بهرت بجماله واختصاره.. تصور أنه يلخص كل عقائد المسلمين في الله في سورة واحدة.. يسمونها ثلث القرآن.. سأقرؤها عليك: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } (الإخلاص: 4)

هذه السورة القصيرة ذوات الآيات القصيرة والكلمات القليلة تحوي كل حقائق التوحيد الذي يعتقده المسلمون.. ليست هناك أي كلمة زائدة، أو في غير محلها.

مثل ذلك آية أخرى تصف الله، فتقول:{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}(البقرة:163)

ومثل ذلك آية أخرى تقول:{ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الحجر:49)، تليها آية أخرى خلفها تكمل معناها تقول:{ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (الحجر:50)

والقرآن يعلم المسلمين كيف يحاورون أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فيقتصر على جملة تحتاج سفرا لتحليلها، واستنباط الفوائد منها.. إنها هذه الجملة الرائعة:{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت:46)

بل إن القرآن جميعا تلخص أغراضه ومعانيه في سورة واحدة يكررها المسلمون في صلواتهم.. لا شك أنك تسمع بها.. هي سورة الفاتحة.. وهم يسمونها كذلك (أم الكتاب).. سأقرؤها عليك لترى مدى جمالها.. وترى كثرة المعاني التي تحويها:{ بسم الله الرحمن الرحيم (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7}(الفاتحة)

لقد اكتشفت أن الجمال والفائدة والمتعة في الاختصار.. ألا ترى الشجر المشذب الأغصان كيف يكسى بحلل الجمال.. وكيف بعد ذلك يعطينا لذيذ الثمار؟

لم أر الاختصار فقط في صنعة البشر.. بل رأيتها قبل ذلك في صنعة الخالق.. فالخالق صنع كل شيء بمقدار محدد لا يتجاوزه.. لقد ذكر القرآن هذا.. اسمح لي أن أذكر القرآن.. لأني أحفظه.. ولأني للأسف لم أجد في كتابنا المقدس ما يصلح أن يستشهد به.. لقد ذكر القرآن هذا، فقال:{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر:49).. ولخص القانون الذي وزعت به الأشياء في الكون، فقال:{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}(الحجر:21)

حتى اللغة التي نتكلمها.. حروفها قليلة محدودة.. ولكنها باجتماعها تجمع الأغراض الكثيرة.. ومثلها المواد الأساسية التي يتشكل منها الكون.. هي قليلة من حيث عناصرها.. ولكنها كثيرة جدا من حيث محتوياتها.

لكل ذلك رأيت أنه ليس بالضرورة أن يكون كلامنا كثيرا.. يكفينا الكلام القليل الذي يستطيع العقل أن يركب منه معاني كثيرة نستفيد منها في حياتنا جميعا.

ألست ترى المعادلات الرياضية كيف تصاغ برموز قليلة مختصرة مملوءة بالدقة؟.. إن ذلك هو ما حول الرياضيات أما للعلوم.

قلت: أتريد أن نحول صياغة الكتاب المقدس إلى معادلات رياضية؟

قال: لا أقصد هذا.. ولكني أقصد أن يحول إلى ما يشبه هذه المعادلات من حيث تلخيص الحقائق، والبعد عن الشوائب الكثيرة التي قد تحول بيننا وبين رؤية الحقائق.

قلت: فلنبدأ بالأمر العملي.. ماذا فعلت؟

قال: أولا.. رأيت في الكتاب المقدس كلاما كثيرا.. لا يمكن أن يفيد أي فائدة.. هو مجرد ثقل ينوء به ظهر الكتاب، وفي نفس الوقت يحول بين القراء وجمال هذا الكتاب ومعانيه السامية.

قلت: اضرب لي مثالا على ذلك.

قال: سأضرب لك أمثلة.. لترى أي معنى يمكن أن يحمله مثل هذا الكلام:

فتح الكتاب المقدس، ثم قال: اسمع لما يقول بولس في رسالته الثانية إلي صديقه تيموثاوس:( بادر أن تأتي إلي سريعا، لأن ديماس، إذ أحب الحياة الحاضرة، تركني وذهب إلى مدينة تسالونيكي. أما كريسكيس، فقد ذهب إلى مقاطعة غلاطية، وتيطس إلى دلماطية ولم يبق معي إلا لوقا وحده خذ مرقس وأحضره معك، فهو ينفعني في الخدمة. أما تيخيكس، فقد أرسلته إلى مدينة أفسس. وعندما تجيء، أحضر معك ردائي الذي تركته عند كاربس في ترواس، وكذلك كتبي، وبخاصة الرقوق المخطوطة)( تيموثاوس: 4: 9)

أرجو أن توضح لي.. ما الفائدة التي يمكن أن يجنيها قارئ هذا النص.. إن هذا الكلام مجرد رسالة شخصية محضة تتعلق بطلب بولس من صديقه الحضور سريعاً، وتتعلق بردائه الشخصي..فلذلك ما ضرورة وجود مثل هذا الكلام في الكتاب المقدس!؟

قلب بعض الصفحات، ثم قال: اسمع ما يقول بولس لصديقه تيطس:( حالما أرسل إليك أرتماس أو تيخيكس، اجتهد أن تأتيني إلى مدينة نيكوبوليس، لأني قررت أن أشـتي هناك )( تيطس: 3: 12)

ما علاقة هذا بالمعرفة أو التربية التي جاء الكتاب المقدس لأجلها؟.. هل ترى ـ حضرة الحبر ـ أن في قول بولس لصديقه (تيطس) أنه قرر أن يشتي في المكان الفلاني أي فائدة؟

قلب بعض الصفحات، ثم قال: اسمع ما يقول بولس في رسالته إلى أهل رومية ( 16: 21 ):( يسلم عليكم تيموثاوس معاوني، ولوكيوس وياسون وسوسيباترس أقربائي. وأنا، ترتيوس الذي أخط هذه الرسالة، أسلم عليكم في الرب.يسلم عليكم غايوس، المضيف لي وللكنيسة كلها. يسلم عليكم أراستس، أمين صندوق المدينة، والأخ كوارتس )

ما علاقة هذه التحيات وهذه الأسماء الكثيرة بالمعاني التي جاء الكتاب المقدس من أجلها؟

صمت، فراح يقلب صفحات الكتاب المقدس، ثم قال: اسمع ما جاء في رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس:( سلم على برسكا وأكيلا، وعائلة أونيسيفورس. أراستس مازال في مدينة كورنثوس. أما تروفيموس، فقد تركته في ميليتس مريضا. اجتهد أن تجيء إلي قبل حلول الشتاء.يسلم عليك إيوبولس، وبوديس، ولينوس، وكلوديا، والإخوة جميعا ) (تيموثاوس: 4: 19)

إن هذا الكلام لا يحوي ـ فقط ـ لغوا كثيرا لا نحتاج إليه، بل هو فوق ذلك يحوي أسماء كثيرة تجعل من الكتاب المقدس كتاب خاصة الخاصة.. أذكر أن بعضنا قرأ الكتاب المقدس.. بل قرأ هذا النص بالذات في مجمع من المجامع، فراح يحرف الأسماء واحدا واحدا مما ملأ الحضور ضحكا عليه، وربما على الكتاب المقدس..

لقد قرأت القرآن كما ذكرت لك.. فلم أجد فيه إلا أسماء محصورة معدودة مما تحوج تعاليمه تسميتها.. فهو يكتفي بذكر المعنى والعبرة.. ولا يذكر الاسم إلا إذا اقتضى المقام ذلك.

اسمع ما يقول القرآن عن مؤمن آل فرعون الذي دافع عن موسى:{ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}(غافر:28)

أرأيت كيف اكتفى القرآن بموضع الحاجة سماه رجلا.. بما تعنيه الرجولة من شهامة ونبل وكرم خلق.. وسماه مؤمنا.. وذكر أنه يكتم إيمانه.. ثم ذكر نص مرافعته.. ولم يذكر مع كل هذا اسمه ولا لقبه ولا نسبه ولا بلده ولا وظيفته.. مما نرى الكتاب المقدس حريصا على ذكره.. بل مبالغا في تفاصيل ذكره.

اسمع موضعا آخر يقول فيه القرآن:{ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}(يّـس:20).. لم يسم المدينة.. بل اكتفى بكون الرجل من أقصاها ليبين مدى الجهد الذي بذله لينصر إخوانه المرسلين.

وفي آية أخرى ذكر لهذا.. ولكن الغرض فيها هو حماية مؤمن من التعرض للقتل:{ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}(القصص:20)

لهذا رأيت استبدال كثير من أسماء الكتاب المقدس التي يصعب علينا ـ معشر العامة ـ النطق بها بلغتها الأصلية.. بمثل ما ورد في القرآن..

قلت: فهل تيسر لك أن تفعل هذا؟.. أرى أنه من الصعوبة أن تفعل هذا.

قال: أجل.. لذلك اضطررت إلى استعمال المقص.. وحذف الكثير.. واضطررت ـ كذلك ـ إلى استعمال بعض التعبيرات الخاصة.

سأذكر لك بعض الأمثلة عن القص..

لقد قصصت أكثر ما ورد في أخبار الأيام.. سأسوق لك هذا المثال من الإصحاح الأول من هذا السفر كاملا.. اسمع.

قلب بعض الصفحات، ثم راح يقرأ:( 1 آدم شيث انوش 2 قينان مهللئيل يارد 3 اخنوخ متوشالح لامك 4 نوح سام حام يافث 5 بنو يافث جومر وماجوج وماداي وياوان وتوبال وماشك وتيراس. 6 وبنو جومر أشكناز وريفاث وتوجرمة. 7 وبنو ياوان اليشة وترشيشة وكتيم ودودانيم. 8 بنو حام كوش ومصرايم وفوط وكنعان. 9 وبنو كوش سبا وحويلة وسبتا ورعما وسبتكا. وبنو رعما شبا وددان. 10 وكوش ولد نمرود الذي ابتدأ يكون جبارا في الارض. 11 ومصرايم ولد لوديم وعناميم ولهابيم ونفتوحيم 12 وفتروسيم وكسلوحيم الذين خرج منهم فلشتيم وكفتوريم…)

وهكذا يمضي أكثر السفر بهذا الأسلوب الذي قد يستفيد منه المؤرخ.. ولكن لن يستفيد منه أبدا أي طالب للحق أو الحقيقة.. إن هذه التفاصيل الكثيرة تشغل عن المبادئ السامية والحكم المقدسة.

إن القرآن كتاب محمد لم يذكر أي شيء.. لا عن نسب محمد.. ولا عن أبناء محمد.. ولا عن قبيلة محمد.. بل إنه بالكاد يسمي اسمه..

وبمثل ذلك تعامل مع سائر الأنبياء.. هو لم يذكر إلا نسب المسيح.. نسبه إلى أمه للضرورة التي رآها تستدعي ذلك.. أما سائر الأنبياء فإنه يذكر أسماءهم غير مخلوطة بآبائهم ولا أمهاتهم ولا قبائلهم.

أما كتبنا المقدسة.. فتمتلئ بمثل هذه الأنساب التي لا أرى حاجة إليها.. حتى المسيح، وأناجيله لم تسلم من هذا..

فبينما يبدأ القرآن بحمد الله وتمجيده وذكر أسمائه الحسنى والدعاء.. ويبدأ في السورة التالية مباشرة بذكر أصناف الناس ومواقفهم من الإيمان.. ليبدأ التفصيل المرتبط بكل ذلك نجد أناجيلنا تبدأ بسرد مفصل لنسب المسيح.

فتح الكتاب المقدس.. وقال: اسمع ما ورد في أول سورة من إنجيل متى.

راح يقرأ:( كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم. 2 ابراهيم ولد اسحق. واسحق ولد يعقوب. ويعقوب ولد يهوذا واخوته. 3 ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار. وفارص ولد حصرون. وحصرون ولد ارام. 4 وارام ولد عميناداب. وعميناداب ولد نحشون. ونحشون ولد سلمون. 5 وسلمون ولد بوعز من راحاب. وبوعز ولد عوبيد من راعوث. وعوبيد ولد يسى. 6 ويسى ولد داود الملك. وداود الملك ولد سليمان من التي لأوريا.. )

وهكذا يستمر ذكر النسب الطويل، ومعه الأسماء الكثيرة.

قلت: ولكن القرآن ذكر كثيرا من الأسماء في موضع واحد ألم تقرأ ما ورد في سورة الأنعام ـ مثلا ـ:{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }(الأنعام:83 ـ 87)

قال: فرق كبير بين النصين.. إن القرآن لا يذكر هنا إلا أسماء محترمة لأنبياء كرام سبق له أن ذكر فضائلهم.. يذكرهم في موكب واحد ليملأ القلوب بمحبتهم.

قلت: ومثل ذلك يفعل الكتاب المقدس.. إن كل اسم يمثل قصة من قصص الكتاب المقدس.

قال: وبماذا يذكر الاسم.. بماذا يذكر قول متى في إنجيله عند ذكر نسب المسيح:( وداود الملك ولد سليمان من التي لأوريا )(متى:1/6).. ما فائدة ذكر زوجة أوريا هنا مع أنه لم يذكر زوجات السابقين.. أنت تعلم ذلك.. إن زوجة أوريا تمثل جريمة من أخطر الجرائم.. فهل ذكرها في النسب تكريم للمسيح أم إهانة له؟

أترى لو أنك ذكرت نسب رجل.. فرحت تنتقي من نسبه ما تهينه به.. ألا يعتبر ذلك إهانة منك؟

سكت، فقال: أكثر ما ورد من أسماء في ذلك النسب تمتلئ بالزناة والمنحرفين والمجرمين، فكيف توازن بينها وبين ما ورد في القرآن؟

حتى لو فرضنا صلاحهم، أفلم يكن كافيا أن يذكروا على سبيل الإجمال لا التفصيل.. انظر ماذا قال القرآن بعد أن عدد تلك الأسماء المحدودة:{ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }(الأنعام: 87)

كان هذا كافيا.. ولا حاجة لكل تلك التفاصيل المملة.

سكت قليلا، ثم قال: لا بأس.. مع ذلك فأولئك بشر محترمون.. وقد نحتاج إلى معرفة أسمائهم.. ولكن ما الحاجة إلى ما ورد في سفر صموئيل.. اسمع..:( فبادرت أبيجال وأخذت مائتي رغيف خبز وزقي خمر، وخمسة خرفان مهيئة، وخمس كيلات من الفريك ومائتي عنقود من الزبيب، ومائتي قرص من التين، ووضعتها على الحمير ) (صموئيل الأول: 25/18 )

لقد رأيت أنه لا فائدة من كل هذا الكلام الطويل.. فما فائدة هذه الأعداد والأرقام التي لا حاجة لها.. إنها مجرد تطويل يشغل صاحبها عن تأمل المعاني السامية التي يحويها الكتاب المقدس.

لقد قارنت بين الأعداد في القرآن والكتاب المقدس.. فوجدت الفرق شاسعا.. فالقرآن لا يذكر الأعداد إلا للضرورة القصوى.. فلذلك لا تجد مثل هذه التفاصيل.. بل القرآن ينبه إلى عدم أهمية الأعداد وتفاصيلها.. وأنه لا ينبغي الاشتغال بها عن الغايات السامية.

لقد ورد في القرآن عند ذكر أهل الكهف:{ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} (الكهف: 22)

وقال عندما ذكر مدة لبثهم:{ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26}(الكهف)

سكت قليلا، ثم قال: ليس الأمر قاصرا على هذا.. ليس قاصرا على جرائد الأسماء التي لا حاجة لها.. ولا على جرائد الأعداد.. لقد طال الأمر أشياء لا تكاد تحتمل وهي الثقل بعينه.

اسمع هذا الوصف الطويل الثقيل.. واصبر علي، فليس هو كلامي.. بل كلام الكتاب المقدس.. ولا شك أننا نتعبد بتلاوته.

فتح الكتاب المقدس، وراح يقرأ:( 1 وكان في سنة الاربع مئة والثمانين لخروج بني اسرائيل من ارض مصر في السنة الرابعة لملك سليمان على اسرائيل في شهر زيو وهو الشهر الثاني انه بنى البيت للرب. 2 والبيت الذي بناه الملك سليمان للرب طوله ستون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وسمكه ثلاثون ذراعا. 3 والرواق قدام هيكل البيت طوله عشرون ذراعا حسب عرض البيت وعرضه عشر اذرع قدام البيت. 4 وعمل للبيت كوى مسقوفة مشبّكة. 5 وبنى مع حائط البيت طباقا حواليه مع حيطان البيت حول الهيكل والمحراب وعمل غرفات في مستديرها. 6 فالطبقة السفلى عرضها خمس اذرع والوسطى عرضها ست اذرع والثالثة عرضها سبع اذرع لانه جعل للبيت حواليه من خارج اخصاما لئلا تتمكن الجوائز في حيطان البيت. 7 والبيت في بنائه بني بحجارة صحيحة مقتلعة ولم يسمع في البيت عند بنائه منحت ولا معول ولا اداة من حديد. 8 وكان باب الغرفة الوسطى في جانب البيت الايمن وكانوا يصعدون بدرج معطّف الى الوسطى ومن الوسطى الى الثالثة. 9 فبنى البيت واكمله وسقف البيت بألواح وجوائز من الارز. 10 وبنى الغرفات على البيت كله سمكها خمس اذرع وتمكنت في البيت بخشب ارز )(ملوك 6: 1-10)

التفت إلي، وقال: كل هذا الكلام لم أر حاجة إليه، فلهذا لم أذكره في هذا المختصر.. إن هذا الكلام قد ينفع المهندسين.. لكنه لن ينفع أبدا طالبي الله، والباحثين عنه..

أتعلم.. لقد طرق القرآن نفس المسألة عند ذكره لبناء الكعبة.. ولكنه ذكره بطريقة مختلفة تماما.. اسمع لما جاء في القرآن:{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}(البقرة)

أرأيت كيف انشغل القرآن بذكر دعاء إبراهيم وإسماعيل عن وصف الحجارة وطول البيت وعرضه؟

أما الكتاب المقدس وفي هذا الإصحاح بالذات.. فلم أنتق منه إلا هذا النص:( 11 وكان كلام الرب الى سليمان قائلا 12 هذا البيت الذي انت بانيه ان سلكت في فرائضي وعملت احكامي وحفظت كل وصاياي للسلوك بها فاني اقيم معك كلامي الذي تكلمت به الى داود ابيك. 13 واسكن في وسط بني اسرائيل ولا اترك شعبي اسرائيل 14 فبنى سليمان البيت واكمله. )(ملوك 6: 11-14)

ولكن الكتاب المقدس لم يلبث أن عاد لعادته، فراح يفصل من جديد فيما لا يستفاد منه أي فائدة.. اسمع ما قال بعد هذا:( 15 وبنى حيطان البيت من داخل بأضلاع ارز من ارض البيت الى حيطان السقف وغشّاه من داخل بخشب وفرش ارض البيت باخشاب سرو. 16 وبنى عشرين ذراعا من مؤخّر البيت باضلاع ارز من الارض الى الحيطان. وبنى داخله لاجل المحراب اي قدس الاقداس. 17 واربعون ذراعا كانت البيت اي الهيكل الذي امامه. 18 وارز البيت من داخل كان منقورا على شكل قثّاء وبراعم زهور. الجميع ارز. لم يكن يرى حجر. 19 وهيّأ محرابا في وسط البيت من داخل ليضع هناك تابوت عهد الرب. 20 ولاجل المحراب عشرون ذراعا طولا وعشرون ذراعا عرضا وعشرون ذراعا سمكا. وغشّاه بذهب خالص. وغشّى المذبح بأرز. 21 وغشّى سليمان البيت من داخل بذهب خالص. وسدّ بسلاسل ذهب قدام المحراب. وغشّاه بذهب. 22 .. )

إلى آخر الإصحاح.. وهو بمثابة سورة من سور القرآن.. فانظر ما الذي يمكن أن تجنيه من فوائد.

ثم.. ألا ترى التركيز على الذهب.. أليس في هذا نفحة من نفحات اليهود؟.. فهم قوم يحبون الذهب ويعشقونه.. بل باعوا الله من أجله.. لقد ذكرهم القرآن بهذا، فقال:{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}(لأعراف:148)

وذكر مقولتهم التي ردوا بها على موسى عندما أنكر عليهم، فقال:{ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)}(طه)

قارن هذا بما ورد في الكتاب المقدس.. وفي الإصحاح الثاني الذي أكمل ما بدأه الإصحاح الأول بنفس الوتيرة..

اسمع:( 47 وترك سليمان وزن جميع الآنية لانها كثيرة جدا جدا. لم يتحقق وزن النحاس. 48 وعمل سليمان جميع آنية بيت الرب المذبح من ذهب والمائدة التي عليها خبز الوجوه من ذهب. 49 والمنائر خمسا عن اليمين وخمسا عن اليسار امام المحراب من ذهب خالص والازهار والسرج والملاقط من ذهب. 50 والطسوس والمقاصّ والمناضح والصحون والمجامر من ذهب خالص. والوصل لمصاريع البيت الداخلي اي لقدس الاقداس ولابواب البيت اي الهيكل من ذهب. 51 واكمل جميع العمل الذي عمله الملك سليمان لبيت الرب. وادخل سليمان اقداس داود ابيه. الفضة والذهب والآنية وجعلها في خزائن بيت الرب )

هل تسمع أصوات الذهب.. وهي ترن من جنبات الكتاب المقدس.. إنها نصوص تمجد الذهب أكثر مما تمجد الرب..

قلت: ولكن القرآن الذي ترجع إليه كل حين تحدث عن الذهب..

قال: لقد رغب القرآن في ذهب الجنة لا في ذهب الدنيا.. هو يعلم أن البشر بطبعهم يحبون هذا النوع من المعادن، فراح يستغل هذا الجانب النفسي في تنمية السلوك الصالح بترغيبهم في ذهب الآخرة.. اسمع ما ورد في القرآن من هذا، ثم قارنه بالكتاب المقدس:{ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً}(الكهف:31).. وفيه:{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}(الحج:23).. وفيه:{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(الزخرف:71)

القرآن يذكر كل هذا وغيره في معرض الترغيب في الآخرة التي هي حصاد زرع الدنيا.. وهو بذكره هذا يزهد في ذلك الذهب الخالص الذي أغرمت بذكره كتبنا المقدسة.

قلت: سلمت لك بكثير من هذا.. ولكن القرآن نفسه يحتوي لغوا كثيرا.

قال: أين تجد هذا اللغو.. اذكر لي آية واحدة.. بل كلمة واحدة.

قلت: بل سأذكر لك كلمات.. لقد جاء فى فواتح تسع وعشرين سورة من القرآن حروفا عاطلة، لا معاني لها([2]).. وأنت تعلم أن ما خوى من المعنى المفيد كان لغوا.

قال: تقصد الحروف القرآنية المقطعة؟

قلت: أجل.. هم يسمونها كذلك، ونحن نسميها الحروف العاطلة.. لأنه إن كانت هذه الحروف لا يعلمها إلا الله، كما يقول المسلمون، فما فائدتها لنا، إن الله لا يوحى إلا بالكلام الواضح أليسوا يقولون ذلك؟

قال: لست أدري هل تصدقني إن قلت لك بأن دهشة عظيمة تأخذني، عندما أقرأ هذه الحروف، وأقرأ بعدها آيات القرآن المحكمة الصادقة الجادة.

قلت: فأنت معي في هذا إذن؟

قال: إن الدهشة التي تصيبني ليست كالدهشة التي تصيبنا من ذلك اللغو.. أنا أشعر أن هذه الكلمات التي بدئت بهذه السور تحوي معان رمزية عميقة.. لست أدري هل هي تهديد، أم معارف.. هل هي وعد أم وعيد.. لكني أدخل إلى السورة من بوابتها، فأشعر بتلك الهيبة.

قلت: الشعور وحده لا يكفي لأن يخرج اللغو من كونه لغوا.

قال: اللغو هو ما ليس له فائدة أبدا.. أما ما كان فيه فائدة، فليس لغوا.

أرأيت لو أن قوما من الناس خشوا أن يخترقوا، فاتفقوا فيما بينهم على حروف لا صلة تربطها.. ليكون ذلك واصلة عقدهم.. فهل تعتبر هذه الكلمة لغوا؟

قلت: هي لغو من حيث معناها.

قال: ولكنها أهم من كل كلام من حيث فائدتها.

قلت: أتتصور أن هذه الحروف لها هذا الدور؟

قال: قد يكون لها بعض هذا الدور.. أنا أتصور أن هذه الحروف العجيبة لها دلالة عميقة لا يفهمها إلا من أوتي حظا من علم الكتاب.. القرآن لا يعتبر الناس جميعا محلا لتنزل المعاني القرآنية العميقة.. فلذلك يقسم الناس إلى العامة.. والعلماء.. والراسخين في العلم..

اسمع ما يقول في هذا ومثله:{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران:7)

واسمع ما يقول عن قومنا من الراسخين في العلم:{ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:162)

أتدري ما معنى الرسوخ؟

قلت: أجل.. هو التمكن.

قال: فكذلك هذه المعاني الحقيقة، والتي تبدو عاطلة في أسماع العامة والعلماء، هي أسرار عظيمة وحكم جليلة عند الراسخين في العلم.. المتمكنين منه، وهي بذلك الشيفرة التي يتواصلون بها.. أو تتواصل بها المعاني فيما بينهم.

قلت: ولكنها تظل محصورة بينهم.. والقرآن للجميع.

قال: نعم القرآن للجميع.. ولكن معانيه العميقة لخاصة الخاصة.. نعم الكل يفهمونها.. ولكن الراسخين هم الذين يعيشونها.

سأضرب لك مثالا.. هل تستطيع أن تشرح النظرية النسبية لعامي.. إن معادلاتها تشبه هذه الحروف.. يفهمها الخاصة.. ولكن العامة يضحكون منها أو يستغربون أو تأخذهم الدهشة.

قلت: فهل ترى من الراسخين من عرف محتواها؟

قال: كل عبر عنها بأسلوبه.. وكل شرب منها بحسب رسوخه.

قلت: فما ذكروا عن مشاربهم؟

قال:  منهم من رأى أن هذه الفواتح تشير إلى إعجاز القرآن، وأنه مؤلف من الحروف التى عرفها العرب، وصاغوا منها مفرداتهم، وصاغوا من مفرداتهم تراكيبهم. وأن القرآن لم يغير من أصول اللغة ومادتها شيئاً، ومع ذلك كان القرآن معجزاً؛ لا لأنه نزل بلغة تغاير لغتهم، ولكن لأنه نزل بعلم الله، كما يتفوق صانع على صانع آخر فى حذقه ومهارته فى صنعته مع أن المادة التى استخدمها الصانعان فى النموذج المصنوع واحدة وفى هذا قطع للحُجة عنهم.

ويؤيد هذا ما ورد في القرآن من قوله:{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}(هود)، فهذه تخبرهم بأن القرآن إنما كان معجزاً لأمر واحد هو أنه كلام الله، نازل وفق علم الله وصنعه، الذى لا يرقى إليه مخلوق.. أما اللغة فهي نفس اللغة التي يتحدثون بها، والتي أشارت إليها كلمة (مثل)

ومنهم من رأى أن هذه الحروف أدوات صوتية مثيرة لانتباه السامعين، يقصد بها تفريغ القلوب من الشواغل الصارفة لها عن السماع من أول وهلة.. فـ (ألم)، وهى تنطق هكذا ( ألف لام ميم ) تستغرق مسافة من الزمن بقدر ما يتسع لتسعة أصوات، يتخللها المد مد الصوت عندما تقرع السمع تهيؤه، وتجذبه لعقبى الكلام قبل أن يسمع السامع قوله بعد هذه الأصوات التسعة:{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة:2)

وإثارة الانتباه بمثل هذه المداخل سمة من سمات البيان العالى، ولذلك يطلق بعض الدارسين على هذه الحروف فى فواتح السور عبارة (قرع عصى).. أي الضرب بالعصى على الأرض لتنبيه المراد تنبيهه.. وهى وسيلة كانت تستعمل فى إيقاظ النائم، وتنبيه الغافل، وهى كناية لطيفة، وتطبيقها على هذه الحروف غير مستنكر.

وفي القرآن إشارة إلى ذلك في قوله:{ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (لأعراف:204)

ومنهم من رأى أن فى هذه الحروف سرًّا دقيقاً من أسرار الإعجاز القرآنى المفحم، لقد قال هذا الزمخشري اللغوي البارع والمتعبد الزاهد لاشك أنك تعرفه.. سأسمعك قوله في هذا، لقد قال:( واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه فى الفواتح من هذه الأسماء يقصد الحروف وجدتها نصف حروف المعجم، أربعة عشر سواء، وهى: الألف واللام والميم والصاد، والراء والكاف والهاء، والياء والعين والطاء والسين والحاء، والقاف والنون، فى تسع وعشرين سورة، على حذو حروف المعجم.

ثم إذا نظرت فى هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك أن فيها:من المهموسة نصفها: الصاد، والكاف، والهاء والسين والخاء.. ومن المجهورة نصفها: الألف واللام والميم، والراء والعين والطاء، والقاف والياء والنون.. ومن الشديدة نصفها: الألف والكاف، والطاء والقاف.. ومن الرخوة نصفها:اللام والميم، والراء والصاد، والهاء والعين، والسين والحاء والياء والنون.. ومن المطبقة نصفها: الصاد والطاء.. ومن المنفتحة نصفها: الألف واللام، والميم والراء، والكاف، والهاء والعين والسين والحاء، والقاف والياء والنون.. ومن المستعلية نصفها: القاف والصاد، والطاء.. ومن المنخفضة نصفها: الألف واللام والميم، والراء والكاف والهاء، والياء، والعين والسين، والحاء والنون.. ومن حروف القلقلة نصفها: القاف والطاء ([3]).

أفهمت هذا.. إنه إعجاز واضح لمن يتذوق أسرار الأصوات.. إنه يريد أن يقول: إن هذه الحروف المذكورة يلحظ فيها ملحظان إعجازيان:

الأول: من حيث عدد الأبجدية العربية، وهى ثمانية وعشرون حرفاً، فإن هذه الحروف المذكورة فى فواتح السور تعادل نصف حروف الأبجدية، يعنى أن المذكور منها أربعة عشر حرفاً، والذى لم يذكر مثلها أربعة عشر حرفا.

والثانى: من حيث صفات الحروف وهى:الهمس فى مقابلة الجهارة، والشدة فى مقابلة الرخاوة، والانطباق فى مقابلة الانفتاح، والاستعلاء فى مقابلة الانخفاض، والقلقلة فى مقابلة غيرها.

فهذه الحروف تعادل نصف أحرف كل صفة من الصفات السبع المذكورة..

وبعد هذا.. منهم من فهمها شيفرة تدل على معارف إلهية عميقة عبر عنها بما استطاع لسانه أن يعبر:

ففهم منها علي ـ صاحب النبي ومن وصفه محمد بأنه باب مدينة العلم ـ بأنها أسماء جليلة لله، فكان يقول:( يا كهيعص، يا حم عاسق )

وفهممها آخرون أنها أبعاض لأسماء الله، فكان بعضهم يقول:( ألر، حام، ن ) مجموعها هو اسم الرحمن.

وروي عن ابن عباس في ( آلم ) أن الألف إشارة إلى أنه تعالى أحد، أول، آخر، أزلي، أبدي، واللام إشارة إلى أنه لطيف، والميم إشارة إلى أنه ملك مجيد منان.. وقال في { كهيعص } إنه ثناء من الله تعالى على نفسه، والكاف يدل على كونه كافياً، والهاء يدل على كونه هادياً، والعين يدل على العالم، والصاد يدل على الصادق.

وروي أنه حمل الكاف على الكبير والكريم، والياء على أنه يجير، والعين على العزيز والعدل.

وبعضهم فهم منها ما يدل على صفات الأفعال، فالألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم مجده.

وهكذا.. كل يعبر عن ذوقه وفهمه.

قلت: فما تقول أنت؟

قال: لا يزال عقلي مندهشا.. ولو أني أعلم أن هذه الحروف تخبئ أسرارا عميقة لن يطول الزمان حتى نعرفها.. بل أرانا نقترب منها اقترابا.

الإطناب:

قلت: سلمت لك بهذا.. وعلى أقل تقدير فإن هذه الحروف جعلت العقول تبذل كل جهدها لمحاولة فهمها.. وهو ما يخرجها عما صورناها به من الفراغ واللغو.. ولكن مع ذلك، فالقرآن يحوي تفاصيل طويلة في بعض الأمور.. ألم تقرأ آية الدين.. أو آيات المواريث.. أو آيات المحرمات من النساء.. إن فيها كلاما طويلا مملا؟

قال: لا.. كل كلمة من تلك الكلمات بحر من بحار المعاني.. والشريعة تقتضي تلك التفاصيل.. زيادة على أنها في قضايا كبرى تمس الحياة الإنسانية جميعا.. والاختصار في مثلها تقصير.. سأضرب لك مثلا بما ورد في تقسيم المواريث..

لقد جاء محمد في بيئة تجور كثيرا في تقسيم التركات، فلذلك احتاج إلى وضع نظام عادل يقضي على ذلك الجور.. وهو جور خطير.. فالمال الذي ظل صاحبه يجمعه طول عمره سينتقل إلى أياد أخرى.. وهو أمر لا يتعلق بتلك الأيادي فقط.. بل بالمجتمع جميعا.. ولهذا ترى القرآن يذكر هذا، بل يكرر الألفاظ من باب التأكيد حتى لا يأتي من ينكر مثل هذه الأحكام بحجة عدم ورودها في القرآن.

ومثل ذلك القول في آية المداينة.. فقد جاء القرآن بتحريم الربا، ووضع بدله القرض الحسن.. القرض الذي ليس فيه أي فائدة.. ولكن هذا القرض قد يسيء البعض استغلاله، فيجحد صاحبه، فلذا اهتم القرآن بتفاصيل توثيقه حتى لا يتلاعب به العابثون.. وهكذا..

زيادة على ذلك.. قارن ـ حضرة الحبر ـ بين طول آية الدين والمعاني الكثيرة التي تحويها.. وهي معان تشمل العقيدة والسلوك بالإضافة إلى الأحكام المرتبطة بالدين بما ورد في الكتاب المقدس من أحكام كثيرة قد لا ترتبط بأمر ذي أهمية كبرى..

قارن هذا بما ورد في التوراة من أحكام البرص.. ألا ترى أنه من الغرابة أن يحتل موضوع البرص ثلاثة إصحاحات كاملة في سبع صفحات من الكتاب المقدس([4])!؟ 

لقد محوتها جميعا من هذه الكراسة.. لأنها أحكام لم يعد يؤمن بها ولا يطبقها إلا من يمتلئ عقله بالخرافة، ولا أحسب أن هناك في الدنيا من بقي يؤمن بها.

سأضرب لك مثالا آخر في موضوع واحد.. لترى الفرق بينهما:

المثال هو مثال الحيض.. وهو يعتري النساء بصفة دورية، ولهذا اهتمت الشريعة ببيان أحكامه، سواء الشريعة التي في التوراة، أم الشريعة التي جاء بها القرآن:

أما القرآن.. فاكتفى بهذا النص:{ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}(البقرة:222)

وهي آية واحدة تحدثت إجابة عن تساؤلات الناس عن أحكام الحائض، المرتبطة بالمعاشرة الزوجية، وقد أجاب القرآن إجابة شافية عن ذلك، فذكر أن دم الحيض يحمل أذى صحيا لكل من الزوجين، وقد رتب على هذه المضرة حكمه بوجوب اعتزال النساء إلى أن يطهرن، فإذا حصل الطهر، وتطهرت المرأة حينذاك تباح معاشرتها بالشروط التي وضعها الشرع، ثم ختمت الآية ببيان حب الله للتوابين والمتطهرين.. لتنسجم الأحكام العادية مع الصلة بالله التي جاء القرآن لتوثيقها.

هذا كل ما في القرآن من أحكام الحيض.

أما التوراة.. فتنص على أحكام كثيرة جدا.. سأقرأ عليك بعضها.

فتح الكتاب، وأخذ يقرأ:( وإذا حاضت المرأة فسبعة أيام تكون في طمثها، وكل من يلمسها يكون نجسا إلى المساء. كل ما تنام عليه في أثناء حيضها أو تجلس عليه يكون نجسا، وكل من يلمس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء. وكل من مس متاعا تجلس عليه، يغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء. وكل من يلمس شيئا كان موجودا على الفراش أو على المتاع الذي تجلس عليه يكون نجسا إلى المساء. وإن عاشرها رجل وأصابه شيء من طمثها، يكون نجسا سبعة أيام. وكل فراش ينام عليه يصبح نجسا. إذا نزف دم امرأة فترة طويلة في غير أوان طمثها، أو استمر الحيض بعد موعده، تكون كل أيام نزفها نجسة كما في أثناء طمثها. كل ما تنام عليه في أثناء نزفها يكون نجسا كفراش طمثها، وكل ما تجلس عليه من متاع يكون نجسا كنجاسة طمثها. وأي شخص يلمسهن يكون نجسا، فيغسل ثيابه ويستحم بماء، ويكون نجسا إلى المساء )(سفر اللاويين:15: 19 -27)

أرأيت هذه التفاصيل المشددة التي تجعل المرأة الحائض كالكلب العقور يخشى الكل من الاقتراب منه.. تخيل المرأة يأتيها الطمث لمدة سبعة أيام تكون فيها نجسة ومنبوذة من الآخرين، ثم تستمر بعد فترة نجاستها أسبوعا آخر، أى نصف شهر، وهذا يعنى نصف سنة.. أي أنها ستظل نصف عمرها نجسة منبوذة.

إن هذه التعاليم جميعا تخلو منها شريعة محمد.. لأنها تعتبر الأذى مقصورا على محله.

ليس هذا فقط هو كل شريعة التوراة المرتبطة بالحائض.. هناك تكاليف أخطر.. اسمع..:( وفي اليوم الثامن تأخذ لنفسها يمامتين أو فرخي حمام وتأتي بهما الى الكاهن الى باب خيمة الاجتماع. فيعمل الكاهن الواحد ذبيحة خطية والآخر محرقة ويكفّر عنها الكاهن أمام الرب من سيل نجاستها) (اللاويين ( 15: 29 -30)

هل ترى هذا حكما معقولا.. إن المرأة في العادة تستحي من علم أي أحد بحيضها، فكيف تفعل هذا أمام الناس، وأمام الكاهن.. ثم ما جريمتها حتى تصبح نجسة.. ولماذا ترتبط أكثر أحكام التوراة بالحمام والكباش والشواء!؟

ومثل ذلك أحكام النفاس في الكتاب المقدس.. اسمع:( إذا حملت امرأة وولدت ذكرا، تظل الأم في حالة نجاسة سبعة أيام، كما في أيام فترة الحيض.. وعلى المرأة أن تبقى ثلاثة وثلاثين يوما أخرى إلى أن تطهر من نزيفها، فلا تمس أي شيء مقدس، ولا تحضر إلى المقدس، إلى أن تتم أيام تطهيرها. وإن ولدت أنثى فإنها تظل في حالة نجاسة مدة أسبوعين كما في فترة الحيض، وتبقى ستة وستين يوما حتى تتطهر من نزيفها )( اللاويين: 12: 1 -5)

ألا ترى الجور الذي تحمله هذه النصوص على الإناث؟.. ألا ترى كيف تجعل مدة طهارة المرأة في حال كون المولود أنثى ضعف طهارة كون المولود ذكرا!؟

لن ترى جميع هذه النصوص في كراستي التي اختصرت فيها الكتاب المقدس.

سكت قليلا، ثم قال: ناحية أخرى تأثرت فيها بالقرآن كثيرا، وحاولت أن أطبقها في هذا المختصر الذي وضعته للكتاب المقدس، فلم أطق.

قلت: ما هي؟

قال: لقد رأيت القرآن يعبر عن المعاني الكثيرة جدا بألفاظ موجزة غاية في البلاغة.. فهو ينتقي الألفاظ كما ينتقي التراكيب.. وكأنه يحرص على وقت القارئ أو المستمع أن يضيع في فوائد قليلة، فهو يجمعها له جمعا.

انظر مثلا قوله:{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا }(فصلت: 30)، هذه كلمات محدودة.. ولكنها جمعت كل أنواع الفضائل.. فـ (ربنا الله )جمعت جميع حقائق الإيمان.. و(استقاموا) جمعت جميع حقائق السلوك.

واسمع:{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}(يونس:62) لقد أدرج في هذا النص الموجز ذكر إقبال كل محبوب عليهم، وزوال كل مكروه عنهم، فلا شيء أضر بالإنسان من الحزن والخوف.. لأن الحزن يتولد من مكروه ماض أو حاضر، والخوف يتولد من مكروه مستقبل، فإذا اجتمعا على امرئ لم ينتفع بعيشه، بل يتبرم بحياته، والحزن والخوف أقوى أسباب مرض النفس، كما أن السرور والأمن أقوى أسباب صحتها، فالحزن والخوف موضوعان بإزاء كل محنة وبلية. والسرور والأمن موضوعان بإزاء كل صحة ونعمة هنية ([5]).

 واسمع:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}(الأنعام:82) فالأمن كلمة واحدة تنبئ عن خلوص سرورهم من الشوائب كلها، لأن الأمن هو السلامة من الخوف، والحزن هو المكروه الأعظم.. فإذا نالوا الأمن بالإطلاق ارتفع الخوف عنهم، وارتفع بارتفاعه المكروه وحصل السرور المحبوب.

واسمع:{ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ }(المائدة: 1)، فهما كلمتان جمعتا ما عقده الله على خلقه لنفسه وتعاقده الناس فيما بينهم.. وبذلك جمعت جميع أنواع العقود.

واسمع:{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ }(الزخرف: 71)، فلم يبق مقترح لأحد إلا وقد تضمنته هاتان الكلمتان، مع ما فيهما من القرب، وشرف اللفظ وحسن الرونق.

واسمع:{ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}(البقرة: 164)، فهذه الكلمات الثلاث الأخيرة تجمع من أصناف التجارات وأنواع المرافق في ركوب السفن ما لا يبلغه الإحصاء.

واسمع:{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ }(الحجر: 94)، فهي ثلاث كلمات فقط، ولكنها اشتملت على شرائط الرسالة وشرائعها وأحكامها وحلالها وحرامها.

واسمع ما ورد في وصف خمر الجنة:{ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} (الواقعة:19)، فهاتان الكلمتان قد أتتا على جميع معايب الخمر، ولما كان منها ذهاب العقل، وحدوث الصداع، برأ القرآن خمر الجنة منها، وأثبت طيب النفوس، وقوة الطبع، وحصول الفرح.

واسمع:{ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}(المائدة: 66).. فهو كلام يجمع جميع ما يأكله الناس مما تنبته الأرض.

واسمع:{ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ }(البقرة: 228)، فهو كلام يتضمن جميع ما يجب على الرجال من حسن معاشرة النساء وصيانتهن وإزاحة عللهن وبلوغ كل مبلغ فيما يؤدي إلى مصالحهن، وجميع ما يجب على النساء من طاعة الأزواج وحسن مشاركتهم وطلب مرضاتهم وحفظ غيبتهم وصيانتهم عن خيانتهم.

واسمع:{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:179)ففي اعتبار القصاص حياة حكم بليغة غاية في الإتقان، منها إبانة العدل بذكر القصاص، والإفصاح عن الغرض المطلوب فيه من الحياة، والحث بالرغبة والرهبة على تنفيذ حكم الله تعالى به، والجمع بين ذكر القصاص والحياة.

واسمع ما ورد في قصة إخوة يوسف:{ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً }(يوسف: 80)، وهذه صفة اعتزالهم لجميع الناس، وتقليبهم الآراء ظهراً لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث، فتضمنت تلك الكلمات القصيرة معاني القصة الطويلة.

واسمع:{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}(لأنفال:58)، فلو أراد أحد الأعيان الأعلام في البلاغة أن يعبر عنه لم يستطع أن يأتي بهذه الألفاظ القليلة المؤدية للمعنى.. لأن معناها:( إن كان بينكم وبين قوم هدنة وعهد، فخفت منهم خيانة أو نقضاً، فأعلمهم أنك نقضت ما شرطت لهم، وآذنهم بالحرب، لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء )

وهكذا في كل القرآن.. بل إن ألفاظه أصبحت أمثالا وحكما يسارع الخطباء والحكماء لحفظها ليزينوا بها كلامهم.. اسمع:{ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}(فاطر: 43).. { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}(يونس: 23).. { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(المدثر:38).. { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}(الرحمن:26).. { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}(آل عمران: 185).. {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ}(الأنعام: 67).. { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ }(الاسراء: 84).. { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}(يوسف: 84).. { وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(القصص: 77).. { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}(الحشر: 14).. { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ}(الكهف: 11).. { أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارا}(نوح: 25).. { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }(فاطر: 18).. {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}(المؤمنون: 53).. { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ }(المنافقون: 4).. { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(الكهف: 104)

التكرار:

لست أدري كيف خطر على بالي التكرار الذي في القرآن الكريم، فقلت من غير أن أشعر: ولكن القرآن مليء بالتكرار.. أليس في ذلك ما يخل بالإيجاز الذي تتحدث عنه!؟.. فكيف تعتبر القرآن نموذجا حسنا للكتاب الموجز، وهو يكرر الكلمة الواحدة، بل المعنى الواحد مرات كثيرة!؟

قال: صدقت في هذا.. وقد وجدت هذه الظاهرة في الكتاب المقدس، وحاولت المقارنة بين الأمرين، وسأذكر لك هنا ما وجدت، فاصبر علي.

قلت: تكلم كما تشاء.. لقد سرتني موضوعيتك وحرصك.. فلا تتحرج من ذكر أي شيء.. فليس لنا من هدف إلا البحث عما نستطيع أن نخدم به كتابنا المقدس.

قال: لا شك أنك قرأت سفر الملوك الثاني ( 19/1 – 12 ) والذي يبدأ بـ:( 1 فلما سمع الملك حزقيا ذلك مزّق ثيابه وتغطى بمسح ودخل بيت الرب. 2 وارسل الياقيم الذي على البيت وشبنة الكاتب وشيوخ الكهنة متغطين بمسح إلى إعياء النبي ابن آموص) إلى قوله:( هل انقذت آلهة الامم هؤلاء الذين اهلكهم آبائي جوزان وحاران ورصف وبني عدن الذين في تلاسّار )

قلت: أجل..

قال: فهل تراه مكررا في محل آخر؟

قلت: أجل.. هو متطابق تماما مع إشعيا ( 37/1 – 12) كلمة كلمة، وحرفاً حرفا.

قال: ونفس هذا التكرار نجده في إصحاحات أخرى مع تغيير بسيط لا يكاد يذكر.. قارن بين أيام (1) 17، وصموئيل (2) 7 ).. أو بين ( أيام (1) 18، وصموئيل (2) 8 ).. أو بين ( أيام (1) 19، وصموئيل (2) 10 ).. وغير ذلك كثير.

قلت: أنا أعرف ما في الكتاب المقدس من تكرار.

قال: فلا تنظر القذى في عين أخيك، وتنسى الجذع في عينك.

قلت: أنا لم أرد أن أبرئ الكتاب المقدس.. بل أردت فقط أن أذكر أن هذا الإيجاز الذي تتحدث عنه لم يتحقق في القرآن كما لم يتحقق في الكتاب المقدس.. فهما سواء في ذلك.

قال: ألم أطلب منك أن تصبر؟.. لقد ذكرت لك الشق الأول من المقارنة.. ولا يصح أن نسمع في المقارنة لواحد، ونغفل عن الثاني.

قلت: فما الذي وجدته في أسرار التكرير في القرآن؟

قال: إن شئت الصراحة والموضوعية، فالقرآن لا يحتوي على أي تكرار.. بحثت عن التكرار في كل القرآن.. فلم أجده.

قلت: كيف تقول ذلك؟.. خذ هذا المثال البسيط عن التكرار.. ففي آية يقول القرآن:{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}(البقرة:49)، وفي آية أخرى من سورة أخرى يقول: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}(ابراهيم:6)

قال: نعم([6]).. هاتان الآيتان تتحدثان عن موضوع واحد.. ولكن هناك اختلافا واضحا بين الآيتين:

فالآية الأولى خطاب من الله إلى بنى إسرائيل يذكرهم بنعمه عليهم، ويمن عليهم بأنه نجاهم من آل فرعون الذين يسومونهم سوء العذاب.

أما الثانية، فهي خطاب من موسى إلى قومه يذكرهم بنعم الله عليهم، ويذكرهم بالذات بتلك النعمة الكبرى، وهى تنجيتهم من آل فرعون الذين يسومونهم سوء العذاب.

بالإضافة إلى هذا الاختلاف نجد تغييرا فى صيغة الفعل: (نجيناكم) و(أنجاكم)، أحدهما متعد بالتضعييف، والآخر متعد بالهمزة، وأحدهما بضمير المتكلم، والثانى بضمير الغائب.

بالإضافة إلى اختلاف مهم في الجزء الخاص بالعذاب الذى كان يوقعه آل فرعون ببنى إسرائيل، ففي الآية الأولى:{ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}.. وفي الثانية:{  يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}

إن الفارق بين العبارتين لا يعدو حرفا واحدا، هو الواو التى جاءت فى الآية الثانية قبل كلمة (يذبحون)، ولكن انظر كم أحدث الحرف الواحد من الاختلاف بين الصورتين:

فى الصورة الأولى ينحصر العذاب فى قتل الأولاد واستحياء النساء، وفى الثانية يصبح هذا الأمر واحدا فقط من ألوان العذاب التى تصب على بنى إسرائيل، وإن كان السياق يوحى بأنه من أبرزها، وأشدها وأخبثها. إذ أجمل (سوء العذاب) وفصل (قتل الأولاد واستحياء النساء)

وهكذا في كل ما يبدو متشابها في القرآن.. إنه مثل تشابه ثمار الجنة التي ورد وصفها في القرآن في قوله:{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(البقرة:25)

فهي متشابهة الشكل متغيرة المعاني.

وهذا التشابه الذى يؤدى إلى التنوع هو ذاته لون من الجمال والقوة في المعاني القرآنية.

سأضرب لك أمثلة أخرى.. بتغير حرف واحد أو كلمة واحدة أو تقديم وتأخير يتغير المعنى تماما.. إنه تماما مثل ما نغير إلكترونا من ذرة، فتتغير الذرة تماما.

اسمع هذا المثال:{ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى}(يّـس:20) وقارنه بقوله:{ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى}(القصص: 20)

لا شك أن الآيتين متشابهتان من حيث المحتوى العام، ولكنهما مختلفتان في الدلالة.. فالتركيز فى الأولى على المجئ من أقصى المدينة، بما يوحى بأهمية الأمر الذى حفز الرجل على قطع تلك المسافة الكبيرة، والتركيز فى الثانية على الرجل ذاته، بما يوحى باهتمامه الخاص بالأمر، وأنه حريص على سلامة موسى.

فالفرق بينهما لم يعدو التقديم والتأخير.. ومع ذلك كان للثانية من الدلالة ما ليس للأولى.

خذ مثالا آخر، وهو ما جاء في القرآن عن اليهود من أنهم { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}(النساء: 46)في آية.. وفي آية أخرى ورد:{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ }(المائدة: 41)

وسر الاختلاف بينهما يرجع إلى أن الأولى تشير إلى تحريفهم لكلام الله، وما فى ذلك من لؤم والتواء، أما الثانية فتشير إلى تجرؤهم على الله، بأن يقرر الأمر فيقرروا غيره من بعد تقرير الله له، وما فى ذلك من وقاحة وتمرد على الله.

وفى مثل تلك المواضع يكون للتنويع دلالة خاصة تضاف إلى مجرد التنويع، الذى هو فى ذاته هدف مقصود0

قلت: فهمت هذا.. وربما لا أجادلك فيه ولكني أتحدث عن مواضع يكاد يكون الشبه فيها تاما.. فكيف لا يكون ذلك تكرارا؟

قال: لا.. ليس تكرارا.. ألست ترانا نتحدث كلاما كثيرا له معاني لا حصر لها ومع ذلك نستخدم حروفا واحدة لا نقوم سوى بتغيير تركيبها.

وهكذا ما يتوهم من تشابه في القرآن.. فهو ليس تشابها، بل هو تنوع تحتاجه المعاني.. فالموضوع الواحد يعرض مرارا، ولكنه يعرض فى كل مرة مختلفا عما سبقه نوعا من الاختلاف، فيكون جديدا فى كل مرة، ويكون ـ مع التلاوة المستمرة للقرآن ـ  متجددا على الدوام.

قلت: لم أفهم ما تقصد؟

قال: ألسنا نضع الملح في طعامنا.. بل والزيت والماء والدقيق.. وأشياء كثيرة في أطعمة مختلفة؟

قلت: أجل.. وما علاقة ذلك بما نحن فيه؟

قال: هي مكررة في أكثر الأطعمة.. ولكن الأطعمة مع ذلك تتعدد أذواقها وألوانها.. أليس كذلك؟

قلت: بلى.. ذلك صحيح.

قال: فهكذا هذا الأمر.. لقد رأيت من خلال تأملي في تكرار القرآن تشابها كبيرا بينه وبين البناء الكوني.. فالكون مبني على لبنات محدودة.. وهكذا القرآن.. فالقصص مثلا محدودة.. ولكنها تستعمل كل مرة لبيان غرض معين.

قلت: فلم لم يستخدم القرآن قصصا أخرى.. أم أن خزان معلوماته خال من المعلومات؟

قال: خطأ الذين يرمون القرآن بالتكرار هو تصورهم أن القرآن كتاب معلومات.. هو ليس كذلك.. لذلك لا تجده يؤرخ لشيء..

قلت: فما هو إذن؟

قال: لقد نص على أنه كتاب هداية ووعظ وتربية.. وكونه كذلك يستدعي الاقتصار من القصص والأمثال على موضع الشاهد لا يعدوه إلى تفاصيله.

قلت: فلم لم يذكر التفاصيل؟

قال: لئلا ينشغل المهتدي بالتفاصيل عن موضع العبرة.

قلت: فلم ذكرت التفاصيل في كتبنا؟

قال: لأنها كتبت من الإسرائيليين وهم مغرمون بالتفاصيل.. لقد ذكر القرآن ذلك عنهم في قصة البقرة.. اسمع هذه القصة الرائعة التي تبين لك النفسية الإسرائيلية:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)} (البقرة)

لا شك أنك قرأت هذه الآيات من قبل.. إنها تمثل نفوس بني إسرائيل المجادلة.. إنها تصورها تصويرا كاملا.. وعندما أقرأ ما ورد في صفة التابوت كما ورد في الكتاب المقدس([7]) لا يخطر على بالي إلا هذه الصورة.. صورة موقفهم من الأمر الإلهي بذبح بقرة.. أي بقرة.

قلت: عد بنا إلى التكرار في القرآن.. أرانا تهنا عنه.. أم أنك تعمدت أن نتيه عنه؟

قال: لا.. لقد ذكرت لك أني مسيحي.. ولست أدافع الآن عن القرآن.. ولكني أذكر لك تأثري بأسلوبه في الإيجاز..

وصلنا في حديثنا إلى سر تكرار قصص الأنبياء في القرآن..

قلت: ذلك صحيح.

قال: لقد ذكرت لك أنه ليس تكرارا كالتكرار.. وإنما هو استعمال لهذه القصص في الأغراض المختلفة.. ذلك أن هذه القصص تحوي دلالات كثيرة.. فلذلك لجأ القرآن إلى استثمارها كل مرة بطريقة من طرق الاستثمار.

لعل أهم ما ورد تكراره في القرآن ـ بحسب الظاهر ـ ثلاثة مواضيع كبرى هي:  قصص الأنبياء مع أقوامهم، وصور النعيم والعذاب فى اليوم الآخر، ومظاهر القدرة الإلهية.. وهي من أكثر الموضوعات ورودا فى القرآن، ولكنهما مع ذلك ترد يصور مختلفة كل مرة.. وفي ذلك لون من الإعجاز، فقلما يستطيع البشر أن يعبروا عن المعنى الواحد بصور تعبير مختلفة.

سأختار من الموضوع الأول مثالا يقرب لك هذا.. خذ نموذج قصة نوح فى ثلاث سور من القرآن، هي سورة هود من الآية (25-44)، وسورة الأعراف من الآية (59-64)، وسورة الشعراء من الآية ( 105-122)

إنها قصة واحدة.. هي قصة نوح مع قومه، وجدالهم معه، وردوده عليهم، وتكذيبهم له، وإغراقهم فى النهاية ونجاة المؤمنين0.

ولكنا نجد أن لها صورا متعددة في هذه السور، وإن تشابهت فى عمومياتها، وفى بدئها، وفى نهايتها.

واختلاف الصور فى طرق السرد المختلفة جمال في حد ذاته، لأنه يعطينا فى كل مرة جوا مختلفا للقصة فى نفس القارئ، والسامع، فكأنها قصة جديدة، مع أن الأشخاص هم هم، والوقائع هى هى.

وقد ذكرت لك أن القصص فى القرآن لا يرد لمجرد القصص ـ وإن كان مشتملا من الناحية الفنية الجمالية على عناصر الجمال الفنى التى تجعل له مدخلا لطيفا إلى النفس، فيكون أبلغ تأثيرا فيها، مما لو كان مجرد فكرة أو قضية تخاطب العقل وحده ولا تخاطب الوجدان ـ وإنما رسالة تؤدى هدفا دعويا مما يشتمل عليه كتاب الدعوة الأعظم، فى تناسق كامل بين الهدف الدعوى والجمال الفنى.

ولما كانت الأهداف الدعوية كثيرة ومتعددة ومختلفة، يجئ القصص القرآنى فى صورة مختلفة فى كل مرة، متناسقة مع الهدف المقصود من إيراد القصة، مع توافر الجمال الفنى فى كل مرة.

فالهدف من إيراد القصة فى سورة هود هو ما نصت عليه هذا السورة في هذا النص:{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)}(هود)

وفي هذا النص:{ وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}(هود:120)

فهى إنذار للناس لكى يحذروا عذاب الآخرة ويتقوه.. وهى تثبيت لقلب محمد.. وهى موعظة وذكرى للمؤمنين.

ولذلك كان من المناسب لهذه الأهداف الثلاثة تطويل العرض، والإكثار من ذكر التفاصيل فيما وقع بين كل رسول وقومه، وكان ذلك مناسبا بصفة خاصة للهدف المتعلق بتثبيت قلب محمد، وهو يلقى العنت من قومه.

أما الهدف من إيراد القصة فى سورة الأعراف فهو ما نصت عليه هذا السورة في هذا النص:{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)(الأعراف)

فالتركيز في هذه السورة ـ حسب هذا النص ـ هو على الأخذ المباغت، وليس على ما جرى من أحداث بين الرسول وقومه، فلهذا لم يركز عليها فى السياق.

أما فى سورة الشعراء فهدف إيراد القصة ـ كما هو مذكور فى السورة ـ هو أن الكفار طالبوا محمدا بآية تجعلهم يصدقون أنه رسول من عند الله. فجاء التركيز فى القصة على الآية، وهى إهلاك المكذبين وتنجية المؤمنين، وليس على تفاصيل الأحداث كما كان الحال فى سورة هود0

وهكذا يتم للقصة جمالها الفنى مع وفائها ـ فى كل مرة ـ بالهدف من إيراد القصة، وتتنوع الصور فى كل مرة بما يناسب سياق العرض.

أما الموضوع الثاني، وهو مشاهد القيامة الواردة في القرآن.. والتي قد تبدو من حيث الظاهر متشابهة.. لكنها ـ في الحقيقة ـ تتنوع هي الأخرى بحسب الظرف الذي قيلت فيه.

ولذلك تعرض أحيانا فى اختصار شديد، بل فى كلمات معدودات، وأحيانا بالتفصيل فى آيات متواليات.. وهي فى كل مرة تعطى جوا خاصا، يتناسب مع قصر السورة أو طولها، ويتناسب كذلك مع السياق المعروض فى السورة، فلكل سورة من سور القرآن جوها الخاص وسياقها الخاص، وإن اشتركت جميعا فى هدف واحد كبير مشترك، هو ما نص عليه القرآن من هداية للناس إلى ربهم، وتعريفهم به، وبما يجب عليهم تجاهه.

اسمع هذا المثال عن الإيجاز البليغ، وهو ما نص عليه في سورة القارعة.. اسمع السورة:{ الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)(القارعة)

وخذ مثالا آخر عن صورة أكثر تفصيلا، ولكن فى غير طول، وهي ما ورد في سورة الغاشية:{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)(الغاشية)

وخذ مثالا آخر عن وصف أكثر تفصيلا للعذاب، وهو ما ورد فى سورة الحج:{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) (الحج)

وخذ مثالا آخر عن مشهد أكثر تفصيلا من مشاهد العذاب، وهو ما ورد في سورة الواقعة:{ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}(الواقعة)

وفي مقابله هذا المشهد المفصل للنعيم، من سورة الإنسان:{ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}(الإنسان)

هذه المشاهد الكثيرة وغيرها.. والتي تختلف في طريقة عرضها بحسب السياق الذي وردت فيه تعطيك عرضا حيا ممتلئا بالحياة (لا تملك ألا تنفعل به نفسك، ويتأثر به وجدانك.. بل لا تملك إلا أن تعيش فيه كأنه حاضر أمامك اللحظة، يحيط بك من كل جانب، ويأخذ عليك أقطار نفسك، بل يصل التأثر به أن يعيش الإنسان فيه كأنه حاضر، وكأن الحياة الدنيا ـ التى هى الحاضر فى الحقيقة ـ كانت واقعا قديما، حدث ذات يوم ثم مضى وانقضى، وليست هى التى يعيشها الإنسان فى هذه اللحظة، فيظل خاطر الآخرة حيا فى النفس لا يفارقها، يما تشتمل عليه من صور النعيم والعذاب، الأولى تدفع الشوق إلى الجنة، والثانية تحذر من الوقوع فى العذاب)([8]

أما الموضوع الثالث، والذي يتجلى فيه التنويع أوضح ما يكون، فهو مجال الآيات الدالة على قدرة الله.. فقد رأى القرآن أن أوسع الأبواب التى تعرف الناس بربهم هي الآيات الدالة على قدرته.

ولذلك اعتبر التأمل في الكون من عبادات أولي الألباب، وقد ورد فيه هذا الوصف لهم:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)(آل عمران)

وبما أن هذه الآيات الكونية تتكرر مشاهدتها مما جعل الخلق يغيبون بألفة النظر إليها عما أودع فيها من أسرار القدرة، فإن القرآن يكرر التنبيه إلى ما فيها من أسرار الإعجاز.

والقرآن عند ذكره لهذه الصور.. وعند تكريره لها لا يعيد نفس المشاهد، بل هو يغيرها بحسب مقتضيات السياق.. فهو تنوع يقتضيه المقام لا تكرار يمل منه الطبع.

وسأضرب لك مثالا على ذلك بخلق السموات والأرض.. فهما يتكرران في القرآن كثيرا.. ولكنهما مع ذلك لا يردان في صورة واحدة، بل يردان في صور شتى تجعلها جديدة وقائمة بذاتها فى كل مرة:

اسمع هذه النصوص التي تتردد فيها السماء والأرض.. ولكن بصورة مختلفة عن غيرها، وفي سياق يختلف عن سياق غيرها:

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(البقرة:29).. { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(البقرة:164).. { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة:22).. وغيرها من الآيات الكثيرة.

إن كل آية منها ترسم صورة لا ترسمها غيرها من الآيات، وهي بالتالي تبث معرفة لا تبثها غيرها من الآيات.

قلت: وعيت المعنى الديني الذي يتطلبه التكرار.. وأنا لا أكاد أجادلك فيه، فإن تقرير المعاني الدينية تستدعي في أحيان كثيرة تكرير ذكرها ليألفها الذهن، وينفعل لها.. ولكني أتحدث معك عن التكرار الذي لا يتوافق مع الذوق الأدبي الرفيع.. لقد سمعتك تتحدث عن علاقة إيجاز القرآن بإعجازه.. فكيف يكون موجزا، وفي نفس الوقت لا ينسجم مع هذا الذوق الأدبي الرفيع؟

قال: تريد أن نبحث إذن عن علاقة التكرار ببلاغة القرآن([9]).

قلت: يمكنك أن تعبر بذلك.

قال: سأضرب لك مجامع أمثلة ترشد إلى غيرها.. ولنبدأ بما يسمى بتكرار الأداة، وهي أن تكرر أدوات معانية لها معان بلاغية خاصة.

من ذلك مثلا هذه الآية:{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:110)، ومثلها ما ورد في نفس السورة:{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:119)

فالظاهر من الآيتين تكرار (إنَّ) فيهما، وهذا يقتضى ـ حسب تصورك ـ الاكتفاء بـ (إنَّ) الأولى، ثم إيراد خبرها،  وهو فى الموضعين { لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } لكن هذا الظاهر خولف وأعيدت (إنَّ) مرة أخرى.

قلت: أجل.. وهو تكرار.

قال: لا.. لهذه المخالفة سبب معقول.. وهو طول الفصل بين (إنَّ) الأولى وخبرها، وهذا أمر يُشعِر بتنافيه مع الغرض المسوقة من أجله (إنَّ) وهو التوكيد. لهذا اقتضت البلاغة إعادتها لتلحظ النسبة بين الركنين على ما حقها أن تكون عليه من التوكيد.

زيادة على ذلك، فإنه لو أن قارئاً تلا هاتين الآيتين دون أن يكرر فيهما (إنَّ)، ثم تلاهما بتكرارها مرة أخرى لظهر له الفرق بين الحالتين: قلق وضعف فى الأولى، وتناسق وقوة فى الثانية.

هذا فيما يتعلق بتكرار الأدوات.. ويمكنك أن تطبق مثل هذا على كثير من هذا النوع.

هناك أيضا تكرار الكلمة مع أختها.. مثلما جاء في الآية:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (النمل:5).. لقد تكررت (هم) مرتين، الأولى مبتدأ خبرها (الْأَخْسَرُونَ) والثانية ضمير فصل.

وقد جئ بهذا الضمير لغرض بلاغي مهم هو تأكيد النسبة بين الطرفين الضمير المنفصل الأول وكلمة (الأخسرون )

ومثل ذلك قوله:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(الرعد: 5)

فقد تكررت (أولئك) في هذه الآية ثلاث مرات.. ولكنها مع ذلك لم تخل بجمال الآية.. بل ما زادتها إلا جمالا.. بل ما زادت معناها إلا رسوخا وثبوتا وتحقيقا:

فالأولى والثانية: سجلتا حكماً عامًّا على منكرى البعث، وهو كفرهم بربهم، وكون الأغلال فى أعناقهم.

وأما الثالثة: فهي بيان لمصيرهم المهين ودخولهم النار ومصاحبتهم لها على وجه الخلود الذى لا يعقبه خروج منها.

ولو أسقطت(أَولئك) من الموضعين الثانى والثالث لرك المعنى واضطرب، بل تصبح الواو الداخلة على { الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ) واو حال، وتصبح الواو الداخلة على { أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } عاطفة عطفاً يرك معه المعنى.

لذلك حسن موضع التكرار فى الآية لما فيه من صحة المعنى وتقويته، وتأكيد النسبة فى المواضع الثلاثة للتسجيل عليهم بسوء المصير.

قلت: ليس الشأن في كل ذلك.. أنا أعلم ضرورة استعمال بعض الألفاظ، ولا يؤذي تكرارها، بل هي في الكلام من جوهره ولبه.

قال: أراك تحوم حول الفواصل القرآنية إذن.

قلت: أجل..

قال: إن الفواصل القرآنية حقائق كبرى، وهي نتائج لما ورد في الآيات أو أسباب لها.. ولا يضر تكرارها..

وسأضرب لك مثالا بالفاصلة المعروفة (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).. هذه الفاصلة، وما هو مثلها أو قريب منها تكرر كثيرا في القرآن.. ولكنه في جميع المواضع التي تكرر فيها دل على معنى خاص مرتبط بذلك الموضع.

إنه مثل الأحكام القضائية، فقد يكرر القاضي حكما واحدا مرات كثيرة في الجلسة الواحدة، ولكنه في كل مرة يكون حكمه مرتبطا بحالة خاصة.

سأقرأ عليك بعض الآيات التي وردت فيها هذه الفاصلة لتدرك العلاقة بين هذا المثل و ما توهمته من تكرار في القرآن.. اسمع:{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:173)، هذه الآية تحكم برفع الإثم عن المضطر، وتعلل ذلك بكون الله غفورا رحيما، وهي بذلك تنبئ عن حكم سلوكي، ثم تبين مصدره العقدي.

ومنها { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:182)، فقد ارتبطت هذه الفاصلة في هذا الموضع برفع الإثم.

ومنها:{ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:192)، فقد ارتبطت هذه الفاصلة بانتهائهم.

ومنها:{  ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:199) فقد ارتبطت هذه الفاصلة باستغفارهم.

ومنها:{ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:226) فقد ارتبطت هذه الفاصلة بفيئهم ورجوعهم إلى أزواجهم.

ومنها:{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:89)، فقد ارتبطت هذه الفاصلة بتوبتهم وإصلاحهم.

ومنها:{ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(المائدة: 3)، فقد ارتبطت هذه الفاصلة بحال المضطر الذي لم يقصد الإثم.

وهكذا نجد هذه الفاصلة كالحكم، أو التعليل للحكم.. زيادة على ما تبثه في النفس من معاني إيمانية.. فالمعاني الإيمانية العميقة تستدعي أن تقرر في النفس بإكثار ذكرها والتنبيه إليها.

قلت: ولكن هناك فواصل أخرى.. هي آيات قائمة بذاتها.. ومع ذلك تكررت مرارا، وفي مواضع قريبة.. بحيث لا تكاد ترى الفاصل بينها.

قال: تقصد ما ورد في سورة الرحمن القمر المرسلات من تكرار آيات معينة.

قلت: أجل، فقد تكررت { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن:13، وغيرها)في مواضع كثيرة من سورة الرحمن.. وتكررت:{ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) (القمر:16، وغيرها) في مواضع من سورة القمر.. وتكررت:{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (المرسلات:15، وغيرها) في مواضع من سورة المرسلات.

قال: فلنبدأ بالسورة الأولى.. وهو ما ورد من تكرار فى سورة الرحمن، فقد تكررت هذه الآية:{  فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إحدى وثلاثين مرة في السورة.. وذلك التكرار قد نزل على قومنا كالماء البارد في جوف الظمآن.. فهم يشهرونها، ويشهرون بالقرآن بسببها.

قلت: وحق لهم ذلك.. فكيف يقع تكرار في سورة واحدة بهذا العدد الضخم؟

ابتسم، وقال: لكن هذا التكرار ليس تكرارا لشؤون بسيطة.. إنه تكرار لقضايا عميقة ترتبط فيها الآية كل مرة بمعنى جديد.

إن هذا التكرار الذي يأتي مرسلا لذيذا دليل عظيم على أن القرآن يهتم بالمعاني أكثر من اهتمامه بالألفاظ.. بل الألفاظ عنده حاوية للمعاني دالة عليها، لا مقصودة لذاتها.

إن الطابع الغالب على سورة الرحمن هو تعداد النعم على الثَقَلين من الإنس والجن، ولهذا يأتي بعد كل نعمة أو نِعَم هذه الآية:{  فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }

وعلى هذا يمكن فهم عِلّة التكرار الذى حفلت به هذه السورة.. فهو تذكير وتقرير لنعم الله، وأنها من الظهور بحيث لا يمكن إنكارها أو التكذيب بها.

لقد قال بعض الأدباء في تعليل هذا:( فتكرار الفاصلة فى الرحمن.. يفيد تعداد النِّعَم والفصل بين كل نعمة وأخرى لأن الله سبحانه عدَّد فى السورة نعماءه وذكَّرعباده بآلائه. ونبههم على قدرها وقدرته عليها ولطفه فيها. وجعلها فاصلة بين كل نعمة لتعرف موضع ما أسداه إليهم منها. ثم فيها إلى ذلك معنى التبكيت والتقريع والتوبيخ؛ لأن تعداد النِعَم والآلاء من الرحمن تبكيت لمن أنكرها كما يبكت منكر أيادى المنعَم عليه من الناس بتعديدها )([10]

قلت: ولكن هذه الفاصلة تكررت تالية ما ليس بنعمة من وعيد وتهديد.. ألم تقرأ  في هذه السورة:{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ) (الرحمن:35)، و{ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) (الرحمن:41)، و{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) (الرحمن:43)، فقد تليت كل آية من هذه الآيات بتلك الفاصلة، فكيف يستقيم ذلك.. وظاهر هذه الآيات بلاء وانتقام وليس بنعم.

قال: تأمل جيدا.. أليس في الإنذار والوعيد وبيان مآل الضالين عصمة للإنسان من الوقوع فيما وقعوا فيه، فيكون مصيره مصيرهم.

قلت: أجل.. ذلك صحيح.

قال: فبهذا الاعتبار يمكن اعتبار هذه المواضع مندرجة تحت النعم، لأن النعمة نوعان: إيصال الخير، ودفع الشر. والسورة اشتملت على كلا النوعين فلذلك كررت الفاصلة.

قلت: وما تقول في التكرار الوارد في فاصلة فى سورة القمر؟

قال: فى سورة القمر تتكرر هذه العبارة:{ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) (القمر:16، وغيرها)، وهي في كل موضع تعقب على قصة من القصص.

وأول القصص المذكورة في السورة قصة قوم نوح، فبعد أن صوَّر القرآن مظاهر الصراع بينهم وبين نوح، ثم انتصار الله لنوح عليهم، حيث سلَّط عليهم الطوفان، فأغرقهم إلا مَن آمن وعصمه الله.. تأتي الفاصلة القرآنية لتنزع جلباب التاريخ من قصة نوح وقوم نوح وتعيد إليها الحياة بهذه الفاصلة.. والتي سبقت بهذه لآية:{ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:15)

وقد تصدرت هذه الفاصلة باسم الاستفهام (كيف) لتترك الذهن يبحث في الكيفية العجيبة التي يهلك الله بها الظالمين، أو ينجي المخلصين.. وهي بالتالي تعيد الحياة للوقائع، بل تجعل منها مجرد نماذج يمكن أن تتكرر في كل حين.

ومثل ذلك ما ورد في القصة الثانية، والتي اكتنفت بدءا وانتهاء بهذه الفاصلة.. اسمع للآيات جميعا:{ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21)}(القمر)

أنت ترى أن تكرار العبارة فى البداية والنهاية يبين مدى أهميتها، وكأن هذه العبارة هي المقصودة من القصة.

نحن نستعمل ذلك كثيرا.. ألا ترى أن من وضع خريطة يشرحها لغيره تجده كل حين يقول:( انظر ) ونحوها.

قلت: ذلك صحيح.

قال: فهكذا القرآن يكرر هذا ليخرجنا من النظر المألوف، أو من الاسترواح لسماع القصص والاستلذاذ بها إلى الانفعال بمواضع العبرة منها.

وهكذا في سائر المواضع.

قلت: لقد ورد تكرار آخر فى سورة القمر.. وهو تكرار قوله:{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17، وغيرها) حيث ورد فى السورة أربع مرات.

قال: كما أن التكرار الأول يشير إلى أخذ العبرة من كل قصة على حدة.. فإن هذا التكرار يشير إلى أخذ العبرة من القرآن جميعا باعتباره قد وضع في قالب ميسر للذكر..

قلت: وما تقول في التكرار الوارد في سورة المرسلات، فقد ورد فيها:{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (المرسلات:15، وغيرها)في مواضع منها؟

قال: إن هذه الفاصلة ترد بعد ذكر حقائق عظيمة، وهي ترهب من التكذيب بها..

قلت: فهي تستعمل منطق الإرهاب إذن؟

قال: أجل.. ذلك أن القرآن يخاطب كل وجدان الإنسان وكل غرائزه وطاقاته، وبما أن الحجب قد تحول بين العقل والتفكير السليم، بل قد يكذب العقل من غير أن يمعن النظر، أويدقق الفكر بسبب سريان الغفلة واللامبالاة، فلهذا احتاج إلى من ينبهه إلى خطورة المسألة وأنها تستدعي اهتماما كبيرا.. ولم يكن من وسيلة لذلك غير هذه الوسيلة.

اسمع لما ورد في السورة من هذين المثالين، وهما يغنيانك عن غيرها.. { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)(المرسلات)

في هذه الآيات نجد { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)كررت مرتين، أما الأولى فذكرت بعد ذكر خلق الإنسان، وأما الثانية، فبعد خلق الأرض، وقد فرق بين الموضعين بهذه الآية لتجعل العقل يسيح متأملا كل مثال، ليعبر منه إلى التعرف على الله.

النسخ:

قلت: وعيت هذا.. فهل هذا كل ما رأيت حذفه أو اختصاره من الكتاب المقدس؟

قال: لا.. هناك ناحية أخرى مهمة جدا.. رأيت التقصير فيها بليغا.

قلت: ما هي؟

قال: النسخ.

قلت: لا.. لم نر قومنا يقصرون في الحديث عنها.. إنها أمضى سلاح نشهره في وجوه المسلمين.. فنحن نطعن في القرآن باعتباره ينسخ ما ورد في كتب الأنبياء([11]).. وكتب الأنبياء لا ينبغي أن تنسخ، لأنه لو قلنا بنسخها فإن ذلك يعني أن الرب عندما ينسخ حكما، فهو دليل على أنه اكتشف خطأه في الحكم السابق، وطبعا لا يصح أن ينسب هذا لإله.

قال: أنا لم أرد هذا.. ولكني مع ذلك سأحدثك عن الحقيقة التي وصلت إليها في هذا الموضوع.. والتي قد تصحح هذا الوهم الذي يضحك علينا صغار المسلمين؟

قلت: أتقول في أمضى سلاح نشهره وهما؟

قال: إن أردت ما يتطلبه العقل الصريح من الحقائق فما ذكره قومنا وهم.. بل وهم كبير.. أما إن أردت التقليد، ولو على حساب الحقائق.. فلنسمه من باب المجاملة سلاحا ماضيا.. ولو أننا نراه سلاحا نقتل به أنفسنا لا المسلمين.

قلت: كيف تقول هذا؟

قال: أترى هذه الكراسة التي اختصرت فيها الكتاب المقدس؟

قلت: أجل.. ما بها؟

قال: لم أضع فيها حكما واحدا من أحكام الكتاب المقدس.. هذه الكراسة خالية من الشريعة خلوا تاما.

قلت: لم.. أأنت ضد الشريعة؟

قال: ما فائدة شريعة أضعها في الكتاب المقدس.. ثم أرى التعبد في خلافها.

قلت: وضح لي ما تريد قوله.

قال: اصبر علي.. وسأثبت لك كل ما أقوله.

قلت: تحدث كما تشاء، فأنا لم أقدم بلادكم إلا لأسمع منكم.

قال: ألم تقرأ ما ورد في أعمال الرسل عن بولس، أنه وأتباعه نسخوا جميع الأحكام العملية للتوراة إلا أربعة: ذبيحة الصنم، والدم، والمخنوق، والزنا، فأبقوا على حرمتها، كما جاء في (أعمال الرسل:15 /24 – 29)

 قلت: أجل.. وقد أبقوا على حرمة تلك الأربعة لئلا ينفر اليهود الذين اعتنقوا المسيحية حديثاً، وكانوا يحبون أحكام التوراة، ثم لما رأى بولس أن هذه الرعاية لم تعد ضرورية نسخها إلا حرمة الزنا كما في (رومية: 14 /14):( فأنا عالم، بل مقتنع من الرب يسوع، أنه لا شيء نجس في ذاته. أما إن اعتبر أحد شيئا ما نجسا، فهو نجس في نظره )

قال: حتى الزنا.. فتحريمه يكاد يكون منسوخا..دعنا الآن نعود إلى بولس، وموقفه من الشريعة.

ألم يعتبر بولس البر بالإيمان، لا بالشريعة؟

قلت: بلى.. وقد قال في رسالته إلى أهل غلاطية (2 /20 – 21):( مع المسيح صلبت، وفيما بعد لا أحيا أنا بل المسيح يحيا في. أما الحياة التي أحياها الآن في الجسد، فإنما أحياها بالإيمان في ابن الله، الذي أحبني وبذل نفسه عني. إني لا أبطل فاعلية نعمة الله، إذ لو كان البر بالشريعة، لكان موت المسيح عملا لا داعي له )

قال: لم يكتف بذلك، بل قال ما هو أخطر من ذلك.. لقد قال في رسالته إلى أهل غلاطية (3 /10 – 13):( أما جميع الذين على مبدأ أعمال الشريعة، فإنهم تحت اللعنة، لأنه قد كتب: (ملعون كل من لا يثبت على العمل بكل ما هو مكتوب في كتاب الشريعة!) أما أن أحدا لا يتبر ر عند الله بفضل الشريعة، فذلك واضح، لأن (من تبرر بالإيمان فبالإيمان يحيا ). ولكن الشريعة لا تراعي مبدأ الإيمان، بل (من عمل بهذه الوصايا، يحيا بها. إن المسيح حررنا بالفداء من لعنة الشريعة، إذ صار لعنة عوضا عنا، لأنه قد كتب: ( ملعون كل من علق على خشبة )

وقال في رسالته إلى أهل إفسس (2 /15):( أي العداء: إذ أبطل بجسده شريعة الوصايا ذات الفرائض، لكي يكون من الفريقين إنسانا واحدا جديدا، إذ أحل السلام بينهما )

وقال في رسالته إلى العبرانيين (7 /12):( وحين يحدث أي تغير في الكهنوت، فمن الضروري أن يقابله تغير مماثل في شريعة الكهنوت )

ألا ترى أن في هذا القول دليلا قويا للمسلمين الذين غيروا شريعة موسى باعتبار تغير الدين؟

قلت: أجل.. ولكن من قال بأن الكهنوت قد تغير؟

قال: بولس نفسه قال ذلك.. ألم تقرأ رسالته إلى العبرانيين، لقد ورد فيها:( فلو كان العهد السابق بلا عيب، لما ظهرت الحاجة إلى عهد آخر يحل محله والواقع أن الله نفسه يعبر عن عجز العهد السابق. وهذا واضح في قول أحد الأنبياء قديما: (لابد أن تأتي أيام، يقول الرب، أبرم فيها عهدا جديدا مع بني إسرائيل وبني يهوذا. هذا العهد الجديد ليس كالعهد الذي أبرمته مع آبائهم، حين أمسكت بأيديهم وأخرجتهم من أرض مصر. فبما أنهم خرقوا ذلك العهد، يقول الرب، أصبح من حقي أن ألغيه! فهذا هو العهد الذي أبرمه مع بني إسرائيل، بعد تلك الأيام، يقول الرب: أضع شرائعي داخل ضمائرهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلها، وهم يكونون لي شعبا. بعد ذلك، لا يعلم أحد منهم ابن وطنه ولا أخاه قائلا: تعرف بالرب! ذلك لأن الجميع سوف يعرفونني حق المعرفة، من الصغير فيهم إلى العظيم. لأني سأصفح عن آثامهم، ولا أعود أبدا إلى تذكر خطاياهم ومخالفاتهم!) وهكذا، نلاحظ أن الله بكلامه عن عهد جديد، جعل العهد السابق عتيقا. وطبيعي أن كل ما عتق وشاخ، يكون في طريقه إلى الزوال! )(العبرانيين 8 /7 – 13)

صمت قليلا، ثم قال: أعلم أن كثيرا من الناس لا يقنعهم هذا الإجمال.. فلذلك سأذكر لك من تفاصيل الأمثلة ما يقنعك.

أنت تعلم أن الطلاق يجوز في الشريعة الموسوية لأي سبب من الأسباب، وأنه يجوز أن يتزوج أي رجل آخر بتلك المطلقة.

قلت: أجل.. وقد ورد النص على ذلك في (التثنية 24 /1-3 )

قال: بينما نجد الطلاق محرما في شريعة عيسى إلا بعلة الزنا، كما في (متى 5 /31): ( وقيل أيضا: من طلق زوجته، فليعطها وثيقة طلاق. أما أنا فأقول لكم: كل من طلق زوجته لغير علة الزنى، فهو يجعلها ترتكب الزنى. ومن تزوج بمطلقة، فهو يرتكب الزنى )

ولما اعترض الفريسيون عليه قال كما في (متى 19 /8 – 9):( أجاب: (بسبب قساوة قلوبكم، سمح لكم موسى بتطليق زوجاتكم. ولكن الأمر لم يكن هكذا منذ البدء. 9ولكني أقول لكم: إن الذي يطلق زوجته لغير علة الزنى، ويتزوج بغيرها، فإنه يرتكب الزنى. والذي يتزوج بمطلقة، يرتكب الزنى )

إن هذه النصوص تبين علة النسخ.. وهي اختلاف أحوال الناس الذي يقتضي اختلاف الشرائع.. ولهذا أخبر المسيح أن الطلاق كان محرما، فنسخت شريعة موسى حرمته، وصار مباحا، ثم نسخت شريعة المسيح الإباحة مرة أخرى ورجع حكم الطلاق إلى التحريم.

سكت قليلا، ثم قال: إليك مثالا آخر على وقوع النسخ في الكتاب المقدس.

ما الذي جاء في الختان في العهد القديم؟

قلت: لقد ورد النص على أحكامه في ( سفر التكوين: 17 /9-13)

قال: لقد نص ذلك السفر على أن الختان حكم أبدي.. ومع ذلك نرى بولس ينسخه، كما في رسالته إلى أهل غلاطية (5 /2- 6):( ها أنا بولس أقول لكم: إن ختنتم، لا ينفعكم المسيح شيئا .. ففي المسيح يسوع، لا نفع للختان ولا لعدم الختان، بل للإيمان العامل بالمحبة ) .. وفي نفس الرسالة إلى أهل غلاطية (6 /13):( لأن الذين يختتنون هم لا يحفظون الناموس، بل يريدون أن تختتنوا أنتم لكي يفتخروا في جسدكم )

وفي (أعمال الرسل 21 /21):( وقد أخبروا عنك أنك تعلم جميع اليهود الذين بين الأمم الارتداد عن موسى قائلا ان لا يختنوا اولادهم ولا يسلكوا حسب العوائد )

أليس هذا نسخا صريحا لحكم نص الكتاب المقدس على أنه حكم أبدي.. بل إن الأنبياء كلهم من عهد إبراهيم وأبناءه قالوا به، ولم يجرؤ أحد على نسخه.. بل إن المسيح نفسه مختتن وبولس نفسه مختتن والتلاميذ كلهم مختتنون.. لكن بولس أبى ذلك ورفض أن يختتن الناس، ونسخ شريعة الختان، وحرم الختان على الناس.

سكت قليلا، ثم قال: ألم يرد في الكتاب المقدس أن تعظيم السبت كان حكما أبديا في الشريعة الموسوية، وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل؟

قلت: أجل.. فقد ورد في (التكوين 2 / 3):( وبارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه استراح فيه من جميع أعمال الخلق ) .. وفي (الخروج 23 /12):( اعمل ستة أيام فقط، وفي اليوم السابع تستريح لكي يستريح أيضا ثورك وحمارك، وينتعش ابن أمتك والغريب ) .. وفي (اللاويين  23 /3):( ستة أيام تعملون، أما اليوم السابع فهو سبت راحة ومحفل مقدس. لا تقوموا فيه بأي عمل، بل يكون سبت راحة للرب حيث تقيمون)

قال: فما حكم من نقض السبت في العهد القديم؟

قلت: لقد جاء في (سفرالعدد 15/ 32-36 ):( ولما كان بنو إسرائيل في البرية وجدوا رجلا يحتطب حطبا في يوم السبت. فقدمه الذين وجدوه يحتطب حطبا إلى موسى وهارون وكل الجماعة. فوضعوه في المحرس لأنه لم يعلن ماذا يفعل به. فقال الرب لموسى: (قتلا يقتل الرجل. يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج المحلة). فأخرجه كل الجماعة إلى خارج المحلة ورجموه بحجارة فمات كما أمر الرب موسى )

وقد كان اليهود المعاصرون للمسيح يؤذونه ويريدون قتله لأجل عدم تعظيم السبت، كما جاء في (يوحنا 5 /16):( فأخذ اليهود يضايقون يسوع لأنه كان يعمل هذه الأعمال يوم السبت )

وفي (يوحنا 9 /16):( فقال بعض الفريسيين: (لا يمكن أن يكون هذا الرجل من الله، لأنه يخالف سنة السبت). ولكن بعضهم قالوا: (كيف يقدر رجل خاطيء أن يعمل مثل هذه الآيات؟) فوقع الخلاف بينهم )

قال: أرأيت جميع هذه النصوص التي ذكرتها.. والتي تجعل من السبت شريعة من أعظم الشرائع.. لقد محوتها جميعا من نسختي هذه التي اختصرت فيها الكتاب المقدس.

قلت: لم؟

قال: لأنه ليس في ذكرها أي فائدة.. بالإضافة إلى أنها تعلم المسيحيين التهاون بالله وبأوامر الله.. أليس تعظيم السبت منسوخا؟

قلت: بلى.. فقد قال بولس في رسالته إلى كولوسي (2 /16 – 17 ):( 16.فلا يحكم عليكم أحد في قضية الأكل والشرب، أو في القضايا المتعلقة بالأعياد ورؤوس الشهور والسبوت؛  فهذه كانت ظلالا لما سيأتي، أي للحقيقة التي هي المسيح )

قلت: فهمت هذا ووعيته.. ولكن قرآن المسلمين لم يخلو من نسخ.. وهو بذلك يتفق مع الكتاب المقدس في وجود ما لا فائدة فيه.

قال: مع أن أكثر علماء المسلمين يقولون بوجود المنسوخ في القرآن إلا أني بعد البحث والنظر لم أجد شيئا من ذلك([12]).. كل ما وجدته أن هناك أحكاما معينة ترتبط بظروف خاصة، فترتفع تلك الأحكام بارتفاع الظروف التي وجدت فيها..

ولذلك فقد رأيت القرآن جميعا كتابا محكما يمكن الاستفادة من كل آية من آياته، بل من كل من كلماته، بل من كل حرف من حروفه.

وهذا ما نص عليه قرآن المسلمين، فقد ورد فيه:{ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(هود:1).. ووصف في آية أخرى بأنه { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(فصلت:42)

قلت: فقد جاء في القرآن:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (لأنفال:65) .. فهذه الآية منسوخة بالآية الأخرى في نفس السورة:{ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:66)

ألست ترى بين الآيتين نسخا واضحا، فالآية الأولى توجب مواجهة المؤمنين لعدوهم بنسبة العشر، أما الثانية، فتوجب مواجهة المؤمنين للعدو بنسبة النصف؟

قال: لقد وضح القرآن السر في كلا النسبتين.. وليس بينهما أي نسخ.. فالنسبة الأولى من العزيمة المرتبطة بأولي العزم.. وأما الثانية، فرخصة مرتبطة بأصحاب الرخص.

قلت: فقد ذكر المفسرون أن قوله:{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } (البقرة: 256) منسوخ بقوله:{ قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة:29)

وهو واضح.. فإحدى الآيتين تمنع الإكراه فى الدين، والأخرى تأمر بالقتال والإكراه فى الدين.

قال: لقد أخطأوا خطأ شنيعا.. إن هذا تحريف لمعاني القرآن السامية.. ألا ترى الفرق بين الآيتين واضحا؟.. إن قوله:{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } سلوك دائم ليس هناك ما يبطله، فلا يمكن أن يكره أحد على الدين..

أما الآية الثانية، والتي زعموا أنها الناسخة، فلها سبب نزول خاص. فقد كان اليهود قد نقضوا العهود التى أبرموها معهم المسلمون، وتآمروا مع أعداء المسلمين للقضاء على الدولة الإسلامية فى المدينة، وأصبح وجودهم فيها خطراً على أمنها واستقرارها، فأمر الله المسلمين بقتالهم حتى يكفوا عن أذاهم بالخضوع لسلطان الدولة، ويعطوا الجزية فى غير استعلاء.

إن هذه الآية لم تأمر بقتال اليهود لإدخالهم فى الإسلام، ولو كان الأمر كذلك ما جعل الله إعطاءهم الجزية سبباً فى الكف عن قتالهم، ولاستمر الأمر بقتالهم سواء أعطوا الجزية أم لم يعطوها، حتى يُسلموا أو يُقتلوا وهذا غير مراد ولم يثبت فى تاريخ الإسلام أنه قاتل غير المسلمين لإجبارهم على اعتناق الإسلام.

ومثيرو هذه الشبهة يعلمون جيداً أن الإسلام أقر اليهود بعد الهجرة إلى المدينة على عقائدهم، وكفل لهم حرية ممارسة شعائرهم، فلما نقضوا العهود، وأظهروا خبث نياتهم قاتلهم المسلمون وأجلوهم عن المدينة.

ويعلمون كذلك أن النبى عقد صلحاً سِلْمِيًّا مع نصارى تغلب ونجران، وكانوا يعيشون فى شبه الجزيرة العربية، ثم أقرهم عقائدهم النصرانية وكفل لهم حرياتهم الاجتماعية والدينية.

وفعل ذلك مع بعض نصارى الشام. هذه الوقائع كلها تعلن عن سماحة الإسلام، ورحابة صدره، وأنه لم يضق بمخالفيه فى الدين والاعتقاد.. فكيف ساغ لهؤلاء الخصوم أن يفتروا على الإسلام ما هو برئ منه([13]

قلت: فما تقول في قوله:{ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا )(البقرة: 219) مع قوله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90).. أليست الثانية ناسخة للأولى؟

قال: لا.. بل إن فى الآية الثانية توكيداً لما فى الآية الأولى، فقد جاء فى الآية الأولى:{ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }، أما الثانية، فقد أكدت هذا المعنى، فبينت أن الخمر { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ }

قلت: والمنافع التي ذكرت في الآية الأولى؟

قال: لقد ذكر القرآن أن للخمر منافع، ولكنه ذكر أن فيها أضرارا.. ثم ذكر أن نسبة الضرر أكبر من نسبة المنفعة.. والعاقل هو من لا يقبل على ما فيه مضرة، فكيف بمن غلبت مضرته منفعته؟.. ولهذا توقف العقلاء عن تناول الخمر من الآية الأولى، واحتاج غيرهم إلى ذلك البيان الشافي الذي نزلت به الآية الثانية.

***

 قال هذا.. ثم سلمني الكراسة، ففتحتها فلم أجد فيها إلا صفحات قليلة، لا تتجاوز السورة الواحدة من سور القرآن.

قلت: أهذا فقط ما أبقيت من الكتاب المقدس؟

قال: لا ينبغي أن نغفل بحجم الكتاب المقدس عن حقائقه.. لقد رأيت الكثير من الناس يستغل الحجم الضخم للكتاب المقدس ليتلاعب بالدين وبالأخلاق كما يشاء.. هو يفعل تماما ما يفعله المحامون الذين يبحثون في القوانين الطويلة العريضة، ليضربوا بعضها ببعض.

ولذلك رأيت أن هذه الكراسة تكفي عن كثير من اللغو الذي يمتلئ به كتابنا المقدس.

قال ذلك، ثم استأذن في الانصراف بأدب.. فأذنت له، وقد شعرت بأن أشعة كثيرة من شمس محمد تطل عليه، ويوشك أن تحتضنه.

ورأيت في نفس الوقت بعض البصيص من النور ينزل على قلبي ليقربني من محمد ومن شمس محمد.

مددت يدي إلى محفظتي لأستخرج بعض ما أحتاجه منها، فامتدت يدي إلى الورقة التي سلمها لي صاحبك، فعدت أقرأ فيها..

لقد أيقنت حينها أن هذا السور الثالث من أسوار الكلمات المقدسة لم يتحقق به أي كتاب في الدنيا غير القرآن الكريم.


([1])   يعبر بالحق أحيانا كثيرة على الجد والمعاني الصحيحة وعلى المفيد النافع، وهو ما نريده في هذا الفصل .. أما المعنى الثاني من معانيه، فقد أفردناه بفصل آخر هو فصل ( الحقيقة)

([2])   يقصد الحروف المقطعة الواردة في أوائل السور، وهي ألر: يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر .. ألم: البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة .. المر: الرعد .. المص: الأعراف .. حم: غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف .. حم عسق: الشورى .. ص: ص .. طس: النمل .. طسم: الشعراء، القصص .. طه: طه .. ق: ق.. كهيعص: مريم .. ن: القلم .. يس: يس.

([3])  الكشاف:1 /100- 103.

([4])   سنذكر هذا المثال بتفصيل في فصل (العقلانية) من هذا الجزء.

([5])   انظر في هذا وما بعده من أنواع الإيجاز: الإعجاز والإيجاز للثعالبي.

([6])   رجعنا في كثير من الأمثلة هنا إلى كتاب (لا يأتون بمثله ) لمحمد قطب.

([7])    في سفر الخروج يأمر موسى بصناعة التابوت بمواصفات دقيقة تستمر تسع صفحات، وهذا نموذج لما ورد من ذلك (خروج 37):« وصنع بصلئيل التابوت من خشب السنط طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف وارتفاعه ذراع ونصف. 2 وغشّاه بذهب نقي من داخل ومن خارج. وصنع له اكليلا من ذهب حواليه. 3 وسبك له اربع حلقات من ذهب على اربع قوائمه. على جانبه الواحد حلقتان وعلى جانبه الثاني حلقتان. 4 وصنع عصوين من خشب السنط وغشّاهما بذهب. 5 وادخل العصوين في الحلقات على جانبي التابوت لحمل التابوت6 وصنع غطاء من ذهب نقي طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف. 7 وصنع كروبين من ذهب. صنعة الخراطة صنعهما على طرفي الغطاء. 8 كروبا واحدا على الطرف من هنا وكروبا واحدا على الطرف من هناك. من الغطاء صنع الكروبين على طرفيه. 9 )وهكذا تستمر إصحاحات كثيرة بنفس السياق من الوصف الدقيق.

([8])   لا يأتون بمثله لمحمد قطب.

([9])   انظر (شبهات المشككين) لوزارة الأوقاف المصرية.

([10])  خزانة الأدب للحموى: ص 144-145.

([11])   من عباراتهم التي يتداولونها في هذا الباب قولهم:« القرآن وحده من دون سائر الكتب الدينية، يتميز بوجود الناسخ والمنسوخ فيه، مع أن كلام الله الحقيقى لا يجوز فيه الناسخ والمنسوخ ؛ لأن الناسخ والمنسوخ فى كلام الله هو ضد حكمته وصدقه وعلمه، فالإنسان القصير النظر هو الذى يضع قوانين ويغيرها ويبدلها بحسب ما يبدو له من أحوال وظروف.. لكن الله يعلم بكل شئ قبل حدوثه. فكيف يقال إن الله يغير كلامه ويبدله وينسخه ويزيله؟ ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم؟! »

([12])   هذا ما يميل إليه المؤلف، وهو رأي علماء أجلاء في القديم والحديث، ومن المحدثين: الدكتور عبد المتعال الجبرى، وله فيه مؤلف خاص نشرته مكتبة وهبة بالقاهرة، والدكتور محمد البهى، والشيخ محمد الغزالى.. أما جمهور الفقهاء، وعلماء الأصول فيقرونه، وقد خصصوا له فصولاً مسهبة فى مؤلفاتهم فى أصول الفقه، قل من لم يذكره منهم قدماء ومحدثين.

([13])   انظر: شبهات المشككين.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *