ثالثا ـ الأدباء

فتحت دفتر الغريب على فصله الثالث، فوجدت عنوانه (الأدباء)، فقلت: من تقصد بالأدباء؟
قال: أولئك الذين فتحت لهم خزائن الكلام، ونبعت لهم من منابع المشاعر عيون عبروا بها عما لم يطق غيرهم التعبير عنه.
قلت: فما الفرق بين هؤلاء وبين غيرهم؟
قال: هؤلاء هم لسان البشر الذي يعبر عنهم.
قلت: ولكنهم قد يتيهون في أودية الأماني، كما قال تعالى:{ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) (الشعراء:224- 225)، وقد روي في الحديث عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعَرْج، إذ عَرَض شاعر يُنشد، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خذوا الشيطان -أو امسكوا الشيطان -لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا)([1])
قال: وقد يصدقون، فيمتلئ غيرهم صدقا، وقد استثنى الله تعالى المؤمنين، فقال:{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } (الشعراء:227)، وقد ورد في الحديث أنه لما نزلت:{ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ }، جاء حسان بن ثابت، وعبد الله بن رَوَاحة، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم يبكون فقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء. فتلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم:{ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ثم قال: (أنتم) { وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } قال: (أنتم )، { وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } قال: (أنتم)([2])
وقد روي عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله، عز وجل، قد أنزل في الشعّر ما أنزل، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده، لكأن ما ترمونهم به نَضْح النبْل)([3])
قلت: أما إن قلت هذا، فقد كان في الإسلام شعراء كثيرون يمتلئون صدقا، وقد قدموا للإسلام أعظم ما يقدمه مسلم ناصح.
قال: ولذلك تراني قد بدأت بهم في هذا الدفتر.
قلت: قد رأيت ذلك، وتعجبت منه، فكيف التقيت بابن رواحة، أو بحسان.
قال: لقد التقيت بشعرهم، وأعجبت به، ولاحظت فيه من الصدق ما لم ألحظه في جميع أشعار الدنيا، فليس هناك من هو أحق بالمدح من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فلنبدأ بعبد الله بن رواحة، فإني أراه يستهل قائمة الشعراء في دفترك هذا.
قال: أجل.. فلي محبة خاصة لهذا الشاعر المحب الصادق.
قلت: وكيف لا تحبه، وهو من المنتجبين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد حضر بيعتي العقبة الأولى والثانية، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق.. وأكرمه الله بالشهادة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: وفوق ذلك كان أحد شعراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة القضاء، وكان يقول:
خَلُّوا بني الكُفَّار عَنْ سَبيلِهِ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيـله
فنادى عليه عمر وقال له: في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول هذا الشعر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خَلِّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وَقْعِ النبل)([4])
وقد أنشد ذات يوم من شعره بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله:
إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الخَيْرَ أَعْرِفُهُ |
وَاللهُ يَعْرِفُ أنْ ما خَانَنِي الخَبَرُ |
أَنْتَ النبي وَمَنْ يُحْرَمْ شَفَاعَتُهُ |
يَوْمَ الحِسَابِ لَقَدْ أَزْرَى بِهِ القَدَرُ |
فَثَّبَتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ |
تَثَبِيتَ مَوسى وَنصْرًا كَالذي نصَروا |
فدعا له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: (وإياك فثبَّتَكَ الله)([5])
وكما نصر عبد الله الإسلام في ميدان الكلمة، فقد نصره باقتدار في ميدان الحرب والجهاد بشجاعته وفروسيته.
ففي شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، علم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن الروم قد حشدوا جيوشهم استعدادًا للهجوم على المسلمين، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم جيشًا إلى حدود الشام عدده ثلاثة آلاف مقاتل؛ ليؤمِّن الحدود الإسلامية من أطماع الروم، وجعل زيد بن حارثة أميرًا على الجيش، وقال لهم: (إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رَواحة)
فلما وصل جيش المسلمين إلي حدود الشام، علموا أن عدد جيش الروم مائتا ألف فارس، فقالوا: نكتب إلى النبي ليرسل إلينا مددًا من الرجال، أو يأمرنا أن نرجع أو أي أمر آخر، فقال لهم ابن رواحة: (يا قوم، والله إن التي تكرهون هي التي خرجتم تطلبون، إنها الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة)
فكبر المسلمون وواصلوا مسيرتهم حتى نزلوا قرية بالشام تسمى مؤتة، وفيها دارت الحرب، وقاتل المسلمون أعداءهم قتالاً شديدًا، وأخذ زيد بن حارثة يقاتل ومعه راية المسلمين، فاستشهد زيد، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وراح يقاتل في شجاعة حتى استشهد، فأخذ عبد الله الراية، فأحس في نفسه بعض التردد، ولكنه سرعان ما تشجع، وراح يقاتل في شجاعة ويقول:
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّه |
طَائِعَةً أَوْ لَتُكْرهِنَّه |
فَطَالَمَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّة |
مَالِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّةْ |
يَا نَفْسُ إلا تُقْتَلِى تَمُوتي |
وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيت |
إِنْ تَفْعَلِى فَعْلَهُمَا هُدِيتِ |
وَإِنْ تَأَخَّرْتِ فَقَد شُقِيتِ |
ونال عبد الله الشهادة، ولحق بصاحبيه زيد وجعفر.
وقد كان فوق هذا مثال المسلم الصادق، وقد أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يهود خيبر؛ ليأخذ الخراج والجزية مما في أراضيهم، فحاولوا إعطاءه رشوة؛ ليخفف عنهم الخراج، فقال لهم: يا أعداء الله، تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم.
كان الاسم الثاني في دفتر الغريب في هذا الفصل هو اسم الشاعر المشهور (حسان بن ثابت) فطلبت من الغريب أن يحدثني عنه، فقال:
لقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع لحسان المنبر في المسجد يقوم عليه قائماً يهجو الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن روح القدس مع حسان ما دام ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([6])
ومن قصائده التي رثى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ([7]):
بطيبة رسم للرسول ومعهد |
منير وقد تعفو الرسوم وتهمد |
ولا تمتحي الآيات من دار حرمة |
بها منبر الهادي الذي كان يصعد |
وواضح آثار وباقي معالم |
وربع له فيه مصلى ومسجد |
بها حجرات كان ينزل وسطها |
من الله نور يستضاء ويوقد |
معارف لم تطمس على العهدآيها |
أتاها البلى فالآي منها تجدد |
عرفت بها رسم الرسول وعهده |
وقبرا بها واراه في الترب ملحد |
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت |
عيون ومثلاها من الجفن تسعد |
يذكرن آلاء الرسول وما أرى |
لها محصيا نفسي فنفسي تبلد |
مفجعة قد شفها فقد أحمد |
فظلت لآلاء الرسول تعدد |
وما بلغت من كل أمر عشيره |
ولكن لنفسي بعد ما قد توجد |
أطالت وقوفا تذرف العين جهدها |
على طلل القبر الذي فيه أحمد |
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت |
بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد |
وبورك لحد منك ضمن طيبا |
عليه بناء من صفيح منضد |
تهيل عليه الترب أيد وأعين |
عليه وقد غارت بذلك أسعد |
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة |
عشية علوه الثرى لا يوسد |
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم |
وقد وهنت منهم ظهور وأعضد |
يبكون من تبكي السموات يومه |
ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد |
وهل عدلت يوما رزية هالك |
رزية يوم مات فيه محمد ؟ |
تقطع فيه منزل الوحي عنهم |
وقد كان ذا نور يغور وينجد |
يدل على الرحمن من يقتدي به |
وينقذ من هول الخزايا ويرشد |
إمام لهم يهديهم الحق جاهدا |
معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا |
عفو عن الزلات يقبل عذرهم |
وإن يحسنوا فالله بالخير أجود |
وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله |
فمن عنده تيسير ما يتشدد |
فبينا هم في نعمة الله بينهم |
دليل به نهج الطريقة يقصد |
عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى |
حريص على أن يستقيموا ويهتدوا |
عطوف عليهم لا يثنى جناحه |
إلى كنف يحنو عليهم ويمهد |
فبينا هم في ذلك النور إذ غدا |
إلى نورهم سهم من الموت مقصد |
فأصبح محمودا إلى الله راجعا |
يبكيه حق المرسلات ويحمد |
وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها |
لغيبة ما كانت من الوحي تعهد |
قفارا سوى معمورة اللحد ضافها |
فقيد يبكينه بلاط وغرقد |
ومسجده فالموحشات لفقده |
خلاء له فيه مقام ومقعد |
وبالجمرة الكبرى له ثم أوحشت |
ديار وعرصات وربع ومولد |
فبكي رسول الله يا عين عبرة |
ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد |
وما لك لا تبكين ذا النعمة التي |
على الناس منها سابغ يتغمد |
فجودي عليه بالدموع وأعولي |
لفقد الذي لا مثله الدهر يوجد |
وما فقد الماضون مثل محمد |
ولا مثله حتى القيامة يفقد |
أعف وأوفى ذمة بعد ذمة |
وأقرب منه نائلا لا ينكد |
وأبذل منه للطريف وتالد |
إذا ضن معطاء بما كان يتلد |
وأكرم صيتا في البيوت إذا انتمى |
وأكرم جدا أبطحيا يسود |
وأمنع ذروات وأثبت في العلا |
دعائم عز شاهقات تشيد |
وأثبت فرعا في الفروع ومنبتا |
وعودا غذاه المزن فالعود أغيد |
رباه وليدا فاستتم تمامه |
على أكرم الخيرات رب ممجد |
تناهت وصاة المسلمين بكفه |
فلا العلم محبوس ولا الرأي يفند |
أقول ولا يلقى لقولي عائب |
من الناس إلا عازب العقل مبعد |
وليس هواي نازعا عن ثنائه |
لعلي به في جنة الخلد أخلد |
مع المصطفى أرجو بذاك جواره |
وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد |
ومن مرثياته في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ما بال عينك لا تنام كأنما |
كحلت مآقيها بكحل الأرمد |
جزعا على المهدي أصبح ثاويا |
يا خير من وطئ الحصى لا تبعد |
وجهي يقيك الترب لهفي ليتني |
غيبت قبلك في بقيع الغرقد |
بأبي وأمي من شهدت وفاته |
في يوم الاثنين النبي المهتدي |
فظللت بعد وفاته متبلدا |
متلددا يا ليتني لم أولد |
أأقيم بعدك بالمدينة بينهم |
يا ليتني صبحت سم الأسود |
أو حل أمر الله فينا عاجلا |
في روحة من يومنا أو من غد |
يا بكر آمنة المبارك بكرها |
ولدته محصنة بسعد الأسعد |
نورا أضاء على البرية كلها |
من يهد للنور المبارك يهتدي |
يا رب فاجمعنا معا ونبينا |
في جنة تثنى عيون الحسد |
في جنة الفردوس فاكتبها لنا |
يا ذا الجلال وذا العلا والسودد |
والله أسمع ما بقيت بهالك |
إلا بكيت على النبي محمد |
يا ويح أنصار النبي ورهطه |
بعد المغيب في سواء الملحد |
ضاقت بالأنصار البلاد فأصبحوا |
سودا وجوههم كلون الإثمد |
ولقد ولدناه وفينا قبره |
وفضول نعمته بنا لم نجحد |
والله أكرمنا به وهدى به |
أنصاره في كل ساعة مشهد |
صلى الإله ومن يحف بعرشه |
والطيبون على المبارك أحمد |
ومن مرثياته في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
نب المساكين أن الخير فارقهم |
مع النبي تولى عنهم سحرا |
من ذا الذي عنده رحلي وراحلتي |
ورزق أهلي إذا لم يؤنسوا المطرا |
أم من نعاتب لا نخشى جنادعه |
إذا اللسان عتا في القول أو عثرا |
كان الضياء وكان النور نتبعه |
بعد الإله وكان السمع والبصرا |
فليتنا يوم واروه بملحده |
وغيبوه وألقوا فوقه المدرا |
لم يترك الله منا بعده أحدا |
ولم يعش بعده أنثى ولا ذكرا |
ذلت رقاب بني النجار كلهم |
وكان أمرا من امر الله قد قدرا |
واقتسم الفيء دون الناس كلهم |
وبددوه جهارا بينهم هدرا |
ومن مرثياته في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
آليت ما في جميع الناس مجتهدا |
مني ألية بر غير إفناد |
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت |
مثل الرسول نبي الأمة الهادي |
ولا برا الله خلقا من بريته |
أوفى بذمة جار أو بميعاد |
من الذي كان فينا يستضاء به |
مبارك الأمر ذا عدل وإرشاد |
أمسى نساؤك عطلن البيوت فما |
يضربن فوق قفا ستر بأوتاد |
مثل الرواهب يلبسن المباذل قد |
أيقن بالبؤس بعد النعمة البادي |
يا أفضل الناس إني كنت في نهر |
أصبحت منه كمثل المفرد الصادي |
ومن شعره القصصي الذي أرخ به لبعض أحداث السيرة النبوية قوله مؤرخا لما حصل في غدير خم([8]):
يناديهم يوم الغدير نبيهم |
بخم وأسمع بالرسول
مناديا | |
فقال: فمن مولاكم ونبيكم؟ |
فقالوا ولم يبدوا
هناك التعاميا: | |
إلهك مولانا وأنت نبينا |
ولم تلق منا في
الولاية عاصيا | |
فقال له: قم يا علي؟ فإنني |
رضيتك من بعدي إماما
وهاديا | |
فمن كنت مولاه فهذا وليه |
فكونوا له أتباع صدق
مواليا | |
هناك دعا اللهم وال وليه |
وكن للذي عادا عليا
معاديا |
من أسماء الشعراء التي رأيتها في دفتر الغريب اسم (كعب بن زهير)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا كعب بن زهير، كان شاعرا فحلاً مجيداً، وهو صاحب البردة المعروفة، والتي يقول فيها:
بانَتْ سُعَادُ فقَلْبي اليومَ
مَتْبُولُ |
مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لم يُجَزَ
مَكْبُولُ |
وما سُعادَ غَداةَ البَيْن إِذ عَرَضَتْ |
إلاَّ أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرفِ
مَكْحُولُ |
وما تَدُومُ على العَهْدِ الذِي
زَعَمَتْ |
كما تَلَوَّنُ في أَثْوَابِها
الغُولُ |
ولا تَمَسَّكُ بالوُدِّ الذي
زَعَمَتْ |
إِلاَّ كما تُمْسِكُ الماءَ
الغَرَابِيلُ |
كانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لها
مَثَلاً |
وما مَوَاعِيدُه إِلاَّ
الأَباطيلُ |
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ
أَوْعدَني |
والعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ
مَبْذُولُ |
مَهْلاً هَدَاكَ الذي أَعْطَاكَ
نافلَةَ الْ |
قُرْآنَ فيها مَوَاعِيظٌ
وتَفْصِيلُ |
لا تأْخُذَنِّي بأَقْوَالِ
الوُشاةِ ولم |
أُذْنِبْ ولَوْ كَثُرَتٍ فِيَّ
الأَقاويلُ |
فلما بلغ قوله:
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ
يُسْتَضَاءُ به |
وصارمٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ
مَسْلُولُ |
في عُصْبَة مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ
قَائِلُهُمْ |
بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا
أَسْلَمُوا زُولُوا |
زَالُوا فما زالَ أَنْكَاسٌ ولا
كُشُفُ |
يَوْمَ الِلَّقَاءِ ولا سُودٌ
مَعَازِيلُ |
نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى من عنده من قريشٍ، كأنه يومي إليهم أن يسمعوا، حتى قال:
يَمْشُونَ مَشْىَ الجمال البُهْمِ
يَعْصِمُهُمْ |
ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ
التَّنَابِيلُ |
يعرض بالأنصار، لغلظتهم عليه، فأنكرت قريشٌ عليه وقالوا: لم تمدحنا إذ هجوتهم، فقال:
مَنْ سَرَّهُ شَرَفُ الحَيَاةِ
فلا يَزَلْ |
في مِقْنَب من صالِحِي الأَنْصَار |
اَلباذِلينَ نُفُوسَهم
لِنَبِيِهِّمْ |
يَوْمَ الهيَاجِ وسَطْوَةِ
الجَبَّار |
يَتَطَهَّرُونَ كأَنَّهُ نُسُكٌ لهم |
بدِماءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ
الكُفَّارِ |
فكساه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بردةً..
قلت: لقد ذكرتني بالبردة..
قال: بردة البوصيري !؟
قلت: أجل.. فالصبيان عندنا لا يزالون يحفظونها ويرددونها.
قال: بوركت تلك البردة، وبورك قائلها.. لقد فتحت في سماء الشعر المحب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتوحا عظيمة.
قلت: ما تقصد؟
قال: لقد سن البوصيري في الشعر سنة حميدة لا زلنا نحيا آثارها إلى اليوم، فقد وجه الشعر الذي تاه فيه الكثير في أودية الأماني نحو قبلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: صدقت.. فلا زال للبردة ومن نهج نهجها آثار طيبة إلى اليوم.
قال: فلذلك تراني وضعت البوصيري في قمة المادحين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: لقد كان شاعرا فحلا.
قال: لم يكن شاعرا فقط، بل كان أمير شعراء المديح النبوي بلا منازع.. فقد وقف شعره على مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم([9]) ، وكان من ثمار مدائحه النبوية (بائياته الثلاث)، التي بدأ إحداها بلمحات تفيض عذوبة ورقة استهلها بقوله:
وافاكَ بالذنب العظيم المذنبُ |
خجلا يُعنفُ نفسَه ويُؤنِّبُ |
ويستهل الثانية بقوله:
بمدح المصطفى تحيا القلوبُ |
وتُغتفرُ الخطايا والذنوبُ |
أما الثالثة، وهي أجودها جميعًا، فيبدؤها بقوله:
أزمعوا البين وشدوا الركابا |
فاطلب الصبر وخلِّ العتابا |
وله عدد آخر من المدائح النبوية الجيدة، من أروعها قصيدته (الحائية)، التي يقول فيها مناجيا الله عز وجل:
يا من خزائن ملكه مملوءة |
كرمًا وبابُ عطائه مفتوح |
ندعوك عن فقر إليك وحاجة |
ومجال فضلك للعباد فسيح |
فاصفحْ عن العبد المسيء تكرُّمًا |
إن الكريم عن المسيء صفوح |
وقصيدته الدالية التي يبدؤها بقوله:
إلهي على كل الأمور لك الحمد |
فليس لما أوليتَ من نعمٍ حدُّ |
لك الأمر من قبل الزمان وبعده |
وما لك قبل كالزمان ولا بعدُ |
وحكمُك ماضٍ في الخلائق نافذ |
إذا شئتَ أمرًا ليس من كونه بُدُّ |
وله قصيدة أخرى على وزن (بانت سعاد)، ومطلعها:
إلى متى أنت باللذات مشغولُ |
وأنت عن كل ما قدمتَ مسئولُ؟! |
قلت: ولكن تظل قصيدته التي يقول فيها:
أَمِنْ تذكّر جيرانٍ بذي سلم |
مزجتَ دمعًا جرى من مقلة بدمْ؟ |
أم هبت الريحُ من تلقاء كاظمةٍ |
وأومضَ البرقُ في الظلماء من
إِضَمْ؟ |
فما لعينيك إن قلت اكففا همتا؟ |
وما لقلبك إن قلت استفق يهمْ؟ |
والتي سماها (الكواكب الدرية في مدح خير البرية)، والمعروفة باسم (البردة) تظل من عيون شعره، بل من عيون الشعر العربي، ومن أروع قصائد المدائح النبوية.
وقد زاد في جمالها أنها قصيدة طويلة تقع في 160 بيتًا، كل بيت منها يمتلئ محبة وشوقا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويدل على الصدق العظيم الذي كانت تمتلئ به نفس صاحبها.
قال: ومن دلائل هذا الصدق أنه لم تلق قصيدة في الدنيا ذلك الاهتمام الذي لقيته البردة حيث ولدت شعرا كثيرا في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال مادة هامة للفن الإسلامي الرفيع.. فقد شطرت وخمست وسدست وسبعت:
فممن شطرها الإمام أحمد بن شرقاوى، كما في قوله:
( أكرم بخلق نبى زانه خلق ) |
مولاه عظمه في أفصح الكلم |
و خصنا بنبى طاب محتده |
( بالحسن مشتمل بالبشر متسم ) |
وممن خمسها الإمام شمس الدين الفيومى، كما في قوله:
كأنه البدر باد وسط هالته |
كأنه الغيث يرجى حسن حالته |
كأنه الليث يخشى من بسالته |
( كأنهوهو فرد من جلالته) |
(في عسكر حين تلقاه وفى حشم )
وممن سدسها الأستاذ عباس الديب، كما في قوله:
يا رب بالمصطفى عشنا نصائحه |
كيما يطهرذو شوق جوارحه |
مذ جئت للساح صبا كى أصالحه |
أصبحت في الحبوالأحباب صادحه |
( ومنذ ألزمت أفكارى مدائحه |
وجدته لخلاصى خير ملتزم ) |
وممن سبعها الإمام القاضى البيضاوى صاحب التفسير، كما في قوله:
الله منه إلينا الخير مستبق |
على لسان نبى وجهه طلق |
فالشمس من نوره والبدر والفلق |
والمسك من ريحه فى الأفق يعتبق |
والجود من كفه فى الخلق مندفق |
(أكرم بخلق نبى زانه خلق) |
(بالحسن مشتمل بالبشر متسم ) |
قلت: أفلا نتبرك بروايتها والاستماع إليها؟
قال: لا ينبغي أن نقصر في ذلك.. وقد وفقني الله فحفظتها عن ظهر قلب.
قلت: لقد بدأها بذكر حبه..
قال: أجل.. فقد قال في بدايتها:
أمِنْ
تَذَكِّرِ جيرانٍ بذي سَلَمِ |
مَزَجْتَ
دَمعا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ |
أَم
هَبَّتِ الريحُ مِن تلقاءِ كاظِمَةٍ |
وأومَضَ
البرقُ في الظَّلماءِ مِن اِضَمِ |
فما
لِعَينيك اِن قُلتَ اكْفُفَا هَمَتَا |
وما
لقلبِكَ اِن قلتَ استَفِقْ يَهِمِ |
أيحَسب
الصَبُّ أنَّ الحبَّ مُنكَتِمٌ |
ما
بينَ منسَجِمٍ منه ومُضْطَرِمِ |
لولا
الهوى لم تُرِقْ دمعا على طَلِلِ |
ولا
أَرِقْتَ لِذِكْرِ البانِ والعَلَمِ |
فكيفَ
تُنْكِرُ حبا بعدما شَهِدَت |
به
عليك عُدولُ الدمعِ والسَّقَمِ |
وأثبَتَ
الوَجْدُ خَطَّي عَبْرَةٍ وضَنَى |
مثلَ
البَهَارِ على خَدَّيك والعَنَمِ |
نَعَم
سرى طيفُ مَن أهوى فأَرَّقَنِي |
والحُبُّ
يعتَرِضُ اللذاتِ بالأَلَمِ |
يا
لائِمي في الهوى العُذْرِيِّ مَعذرَةً |
مِنِّي
اليك ولَو أنْصَفْتَ لَم تَلُمِ |
عَدَتْكَ
حالي لا سِرِّي بمُسْتَتِرٍ |
عن
الوُشاةِ ولا دائي بمُنحَسِمِ |
مَحَّضْتَنِي
النُّصْحَ لكِنْ لَستُ أسمَعُهُ |
اِنَّ
المُحِبَّ عَنِ العُذَّالِ في صَمَمِ |
قلت: لطالما سمعت هذه الأبيات وتعجبت منها.
قال: تتعجب من حديثه عن الحب في بداية قصيدة يريد منها مدح نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: أجل.. وقد فعل مثل ذلك كعب بن زهير.. وقد قرأت تبريرات لذلك لم أن نقصر في ذلك ز ستسغها.
قال: أما أنا.. فقد فتح الله علي من الفهم في ذلك ما عرفت به سر ذلك.
قلت: فبشرني به.
قال: لقد رأيت ـ من خلال صحبتي الطويلة للمسلمين ـ أنهم صنفان:
أما أولهما.. فيمتلئون رقة وعذوبة.. وتمتلئ قلوبهم من المشاعر والمواجيد ما لا طاقة لهم بحبسه.
وأما ثانيهما.. فقد يمتلئون عقلا وحكمة.. ولكن عيونهم جامدة، وقلوبهم لا يكاد يحركها شيء.
قلت: لا أرى هذا خاصا بالمسلمين وحدهم.. فجميع البشر يدخلون ضمن هذين الصنفين.
قال: ولذلك ترى هؤلاء الشعراء يبدأون بذكر المحبة ليغلقوا الأبواب أمام الجامدين، وكأنهم يقولون لهم: هذه الكلمات لا يمكنكم أن تفهموها.. لأنكم لم تذوقوا ما ذقنا.. فدعونا وشأننا.
ابتسمت، وقلت: لقد تنبأ البوصيري بما لاقت بردته من الإنكار إذن؟
قال: ألا تعلم أن الشاعر لم يسم شاعرا إلا بعد أن نال من الحس المرهف ما جعله يرى ما لا يرى غيره؟
قلت: صدقت في هذا.. ولكني لم أزل حائرا في هذا المحبوب الذي بدأ البوصيري يتغنى به.
قال: وهل هناك إلا محمد.. البوصيري لا يتحدث إلا عن رسول الله r ؟
قلت: البعض اعتبرها غزلا لا يختلف عن غزل المجنون.
قال: ولكن البوصيري عاقل وليس مجنونا.. وما كان للعاقل أن يقع في شباك الحب المدنس.
قلت: إن هؤلاء يدافعون على أنها من الغزل المرتبط بالنساء..
قال: فلفهموا ما يشاءون.. ولكن أخبرني أيهما أقوم قيلا: من سمع هذه الأبيات فحركت قلبه شوقا لرسول الله r.. أو من سمع لهذه الأبيات، فراح يتصور الشاعر يناجي معشوقته ويشكو آلامه لها.
قلت: لاشك أن الفريق الأول أعقل بكثير من الفريق الثاني.
قال: فلا ترغب عن العقلاء إلى غيرهم.
قلت: بعد ذكر البوصيري لمواجيده راح يتحدث عن النفس..
قاطعني الغريب، وقال: لأن النفس هي الحجاب الأعظم بين الأنا ومحمد.. اسمع ما يقول في هذا:
اِنِّي
اتَّهَمْتُ نصيحَ الشَّيْبِ فِي عَذَلِي |
والشَّيْبُ
أبعَدُ في نُصْحٍ عَنِ التُّهَمِ |
فانَّ
أمَّارَتِي بالسوءِ ما اتَّعَظَت |
مِن
جهلِهَا بنذير الشَّيْبِ والهَرَمِ |
ولا
أعَدَّتْ مِنَ الفِعلِ الجميلِ قِرَى |
ضَيفٍ
أَلَمَّ برأسي غيرَ مُحتشِمِ |
لو
كنتُ أعلمُ أنِّي ما أُوَقِّرُهُ |
كتمتُ
سِرَّا بَدَا لي منه بالكَتَمِ |
مَن
لي بِرَدِّ جِمَاح مِن غَوَايتِهَا |
كما
يُرَدُّ جِمَاَحُ الخيلِ بالُّلُجُمِ |
فلا
تَرُمْ بالمعاصي كَسْرَ شهوَتهَا |
اِنَّ
الطعامَ يُقوِّي شهوةَ النَّهِمِ |
والنَّفسُ
كَالطّفلِ إِنْ تُهمِلْه ُشَبَّ عَلَى |
حُبِّ
الرّضَاع وَإِِِنْ تَفْطِمْهُ يَنفَطِمِ |
فاصْرِف
هواها وحاذِر أَن تُوَلِّيَهُ |
اِنَّ
الهوى ما تَوَلَّى يُصْمِ أو يَصِمِ |
وراعِهَا
وهْيَ في الأعمال سائِمَةٌ |
واِنْ
هِيَ استَحْلَتِ المَرعى فلا تُسِمِ |
كَم
حسَّنَتْ لَذَّةً للمرءِ قاتِلَةً |
مِن
حيثُ لم يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ |
واخْشَ
الدَّسَائِسَ مِن جوعٍ ومِن شِبَعٍ |
فَرُبَّ
مخمَصَةٍ شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ |
واستَفرِغِ
الدمعَ مِن عينٍ قَدِ امْتَلأتْ |
مِن
المَحَارِمِ والْزَمْ حِميَةَ َالنَّدَمِ |
وخالِفِ
النفسَ والشيطانَ واعصِهِمَا |
واِنْ
هما مَحَّضَاكَ النُّصحَ فاتَّهِمِ |
ولا
تُطِعْ منهما خصمَا ولا حكَمَا |
فأنت
تعرفُ كيدَ الخَصمِ والحَكَمِ |
قلت: إن هذه الابيات تمتلئ توجيهات تربوية راقية؟
قال: أجل.. فالنفس التي تحب محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ينبغي أن يكون لها من الطهارة ما تنال به شرف هذه الصحبة.
قلت: لست أدري لم عقب الشاعر ذكره لمحبوبه بذكر النفس..
قال: لأن الحب هو أعظم الدوافع السلوكية.
قلت: لم أفهم..
قال: من امتلأ قلبه بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم سيمتلئ قلبه بحب الطهارة.. فإذا أحب الطهار اندفع للسلوك إليها.
قلت: الحب يفعل هذا.
قال: يفعل أكثر من هذا.. فالمحب لا يكل عن طاعة محبوبه.
قلت: بعد ذلك دخل الشاعر حضرة الحبيب..
قال: أجل.. بعد أن طهر أرض القلب بالحب.. وطهر أرض النفس بالدموع دخل على الحبيب..
قلت: لم كل هذا؟
قال: لأنه لا يمكن أن تدخل حضرة الحبيب.. وفي قلبك الأهواء المدنسة، وفي نفسك المستنقعات والمزابل.
قلت: وعيت هذا.. ووعيت من خلال الواقع خطره.
قال: وما خطره؟
قلت: رأيت أقواما من الناس.. عقولهم جامدة.. وقلوبهم خامدة.. ونفوسهم تمتلئ بالأوباء.. ثم يدخلون إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلا يرون منها إلا ما يشوه جمال من استنوا بسنته.
قال: فأرشد هؤلاء إلى البوصيري وأحفاد البوصيري.
قلت: كيف أرشدهم إليه.. وهم يحملون سيوفهم عليه.
قال: فأنبئهم أن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبدأ من الداخل.. فمن لم يزين باطنه بسنة الرحمة واللطف والمودة لم يظهر على ظاهره إلا الخراب.
قلت: صدقت.. وقد بلينا بالخراب الذي تتحدث عنه.. عد بنا إلى البردة.. وعد بنا إلى أجمل أبياتها.
قال: أجمل أبياتها هي الأبيات التي مدح فيها الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد قال في ذلك:
ظَلمتُ
سُنَّةَ مَن أحيا الظلامَ الى |
أنِ
اشتَكَتْ قدمَاهُ الضُّرَّ مِن وَرَمِ |
وشَدَّ
مِن سَغَبٍ أحشاءَهُ وطَوَى |
تحتَ
الحجارةِ كَشْحَاَ ًمُتْرَفَ الأَدَمِ |
وراوَدَتْهُ
الجبالُ الشُّمُّ مِن ذَهَبٍ |
عن
نفسِه فأراها أيَّمَا شَمَمِ |
وأكَّدَت
زُهدَهُ فيها ضرورَتُهُ |
اِنَّ
الضرورةَ لا تعدُو على العِصَمِ |
محمدٌّ
سيدُ الكونينِ والثقَلَيْنِ |
والفريقين
مِن عُربٍ ومِن عَجَمِ |
نَبِيُّنَا
الآمِرُ النَّاهِي فلا أَحَدٌ |
أبَرُّ
في قَولِ لا منه ولا نَعَمِ |
هُو
الحبيبُ الذي تُرجَى شفاعَتُهُ |
لكُلِّ
هَوْلٍ مِن الأهوالِ مُقتَحَمِ |
دَعَا
الى اللهِ فالمُستَمسِكُون بِهِ |
مُستَمسِكُونَ
بِحبلٍ غيرِ مُنفَصِمِ |
فاقَ
النَّبيينَ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ |
ولم
يُدَانُوهُ في عِلمٍ ولا كَرَمِ |
وكُلُّهُم
مِن رسولِ اللهِ مُلتَمِسٌ |
غَرْفَا
مِنَ البحرِ أو رَشفَاً مِنَ الدِّيَمِ |
وواقِفُونَ
لَدَيهِ عندَ حَدِّهِمِ |
مِن
نُقطَةِ العلمِ أو مِن شَكْلَةِ الحِكَمِ |
فَهْوَ
الذي تَمَّ معناهُ وصورَتُهُ |
ثم
اصطفاهُ حبيباً بارِيءُ النَّسَم |
مُنَزَّهٌ
عن شريكٍ في محاسِنِهِ |
فجوهر
الحُسنِ فيه غيرُ منقَسِمِ |
دَع
ما ادَّعَتهُ النصارى في نَبِيِّهِمِ |
واحكُم
بما شئتَ مَدحَاً فيه واحتَكِمِ |
وانسُبْ
إلى ذاتِهِ ما شئتَ من شرف |
وانسُب
الى قَدْرِهِ ما شئتَ مِن عِظَم |
فَاِنَّ
فَضلَ رسولِ اللهِ ليس له |
حَدٌّ
فَيُعرِبَ عنهُ ناطِقٌ بِفَمِ |
لو
ناسَبَتْ قَدْرَهُ آياتُهُ عِظَمَاً |
أحيا
اسمُهُ حين يُدعَى دارِسَ الرِّمَمِ |
لم
يمتَحِنَّا بما تَعيَا العقولُ به |
حِرصَاً
علينا فلم نرتَبْ ولم نَهِمِ |
أعيا
الورى فَهْمُ معناهُ فليسَ يُرَى |
في
القُرْبِ والبُعدِ فيه غيرُ مُنفَحِمِ |
كالشمسِ
تظهَرُ للعينَيْنِ مِن بُعُدٍ |
صغيرةً
وتُكِلُّ الطَّرْفَ مِن أَمَمِ |
وكيفَ
يُدرِكُ في الدنيا حقيقَتَهُ |
قَوْمٌ
نِيَامٌ تَسَلَّوا عنه بالحُلُمِ |
فمَبْلَغُ
العِلمِ فيه أنه بَشَرٌ |
وأَنَّهُ
خيرُ خلْقِ الله كُلِّهِمِ |
وكُلُّ
آيٍ أتَى الرُّسْلُ الكِرَامُ بِهَا |
فانما
اتصَلَتْ مِن نورِهِ بِهِمِ |
فاِنَّهُ
شمسُ فَضْلٍ هُم كواكِبُهَا |
يُظهِرْنَ
أنوارَهَا للناسِ في الظُّلَمِ |
أكرِمْ
بخَلْقِ نبيٍّ زانَهُ خُلُقٌ |
بالحُسنِ
مشتَمِلٌ بالبِشْرِ مُتَّسِمِ |
كالزَّهرِ
في تَرَفٍ والبدرِ في شَرَفٍ |
والبحرِ
في كَرَمٍ والدهرِ في هِمَمِ |
كأنَّهُ
وهْوَ فَرْدٌ مِن جلالَتِهِ |
في
عسكَرٍ حينَ تلقاهُ وفي حَشَمِ |
كأنَّمَا
اللؤلُؤُ المَكنُونُ في صَدَفٍ |
مِن
مَعْدِنَيْ مَنْطِقٍ منه ومبتَسَمِ |
لا
طيبَ يَعدِلُ تُرْبَا ضَمَّ أعظُمَهُ |
طوبى
لمُنتَشِقٍ منه وملتَثِمِ |
قلت: إن هذه الأبيات تختزن محبة عظيمة لرسول الله r..
قال: لقد رأى صاحبها الناس يتهافتون على حفظ المتون التي تملؤهم فقها ونحوا وبلاغة.. فوضع لهم متنا يملؤهم محبة وتقديرا وأشواقا.
قلت: ولكن هناك من يجادل في كثير مما ذكرت.. فيعتبر هذا الثناء العطر على رسول الله r شركا..
قال: أين الشرك؟
قلت: إن البوصيري يقول ـ مثلا ـ:
وانسُبْ
إلى ذاتِهِ ما شئتَ من شرف |
وانسُب
الى قَدْرِهِ ما شئتَ مِن عِظَم |
فَاِنَّ
فَضلَ رسولِ اللهِ ليس له |
حَدٌّ
فَيُعرِبَ عنهُ ناطِقٌ بِفَمِ |
لو
ناسَبَتْ قَدْرَهُ آياتُهُ عِظَمَاً |
أحيا
اسمُهُ حين يُدعَى دارِسَ الرِّمَمِ |
قال: هذه أبيات رقيقة، تمتلئ تقديرا لرسول الله r.
قلت: لقد ذكروا أن الله تعالى هو المحيي المميت.. واعتبار اسم محمد محييا ـ ولو من باب الافتراض ـ شرك.
قال: ألم يقرأ هؤلاء ما قاله تعالى في حق رسول الله r.. فقد قال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )(لأنفال:24)
قلت: لكأني أسمع هذه الآية أول مرة.. لقد اعتبر رسول الله r محييا.. كيف غربت عنهم هذه الآية.
قال: لأنهم مهووسون بالشرك .. هم يتصورون الله كما يتصور ملوكهم رعيتهم.. فالملك يقبح صورة كل من مدحه الناس، أو توجهت له القلوب، خشية على كرسيه أن يسلب منه.
قلت: صدقت.. بل إنهم يرسمون لله صورة لا تختلف عن صورة الملوك والأمراء.
قال: لا تذكر لي أحاديث هؤلاء.. ودعنا في حضرة محمد r.. فلا ينبغي لمن أنعم الله عليه بالدخول إلى حضرته أن يزيغ بصره أو أن يطغى.
قلت: فأكمل لي ذكر ما بقي من أبيات البردة.
قال: في باقي أبيات البردة جلس الشاعر أمام الحبيب، وراح يشكو إليه همومه وآلامه.. وحينها راحت تتنازعه حاجات شتى عبر عنها بقوله:
خَدَمْتُهُ
بمديحٍ أستَقِيلِ بِهِ |
ذُنوبَ
عُمْر مَضَى في الشِّعرِ والخِدَمِ |
اِذ
قَلَّدَانِيَ ما تُخشَى عواقِبُهُ |
كأنني
بِهِمَا هَدْيٌ مِنَ النَّعَمِ |
أَطَعتُ
غَيَّ الصِّبَا في الحالَتَيْنِ وما |
حَصَلتُ
الا على الآثامِ والنَّدَمِ |
فيا
خَسَارَةَ نَفْسٍ في تِجَارَتِهَا |
لَم
تَشتَرِ الدِّينَ بالدنيا ولم تَسُمِ |
ومَن
يَبِعْ آجِلا منه بعاجِلِهِ |
بِينَ
له الغَبْنُ في بَيْعٍ وفي سَلَمِ |
اِنْ
آتِ ذَنْبَاً فما عَهدِي بمُنتَقِضٍ |
مِنَ
النَّبِيِّ ولا حَبلِي بمُنصَرِمِ |
فاِنَّ
لي ذِمَّةً منه بتَسمِيَتِي |
مُحمَّدَاً
وهُوَ أوفَى الخلقِ بالذِّمَمِ |
اِنْ
لم يكُن في مَعَادِي آخِذَاً بِيَدِي |
فَضْلا
والا فَقُلْ يا زَلَّةَ القَدَمِ |
حاشاهُ
أنْ يَحْرِمَ الرَّاجِي مَكَارِمَهُ |
أو
يَرجِعَ الجارُ منه غيرَ مُحتَرَمِ |
ومُنذُ
أَلزَمْتُ أفكَارِي مَدَائِحَهُ |
وجَدْتُهُ
لخَلاصِي خيرَ مُلتَزِمِ |
ولَن
يَفُوتَ الغِنَى منه يَدَاً تَرِبَتْ |
اِنَّ
الحَيَا يُنْبِتُ الأزهارَ في الأَكَمِ |
ولَم
أُرِدْ زَهرَةَ الدنيا التي اقتَطَفَتْ |
يَدَا
زُهَيْرٍ بما أثنَى على هَرِمِ |
يا
أكرَمَ الخلقِ ما لي مَن ألوذُ به |
سِوَاكَ
عِندَ حُلولِ الحادِثِ العَمِمِ |
ولَن
يَضِيقَ رسولَ اللهِ جاهُكَ بي |
اذا
الكريمُ تَجَلَّى باسمِ مُنتَقِمِ |
قلت: هذه أبيات تنم عن حب عظيم لرسول الله r وتقدير عظيم له.
قال: ذلك لا يستغرب من الصالحين.. فلن يصير الصالح صالحا حتى يملأ عليه رسول الله r شغاف قلبه.
قلت: ولكن المجادلين يجادلون في أبيات كثيرة مما ذكرت.. فهم ـ مثلا ـ يجادلون في قوله:
اِنْ
لم يكُن في مَعَادِي آخِذَاً بِيَدِي |
فَضْلا
والا فَقُلْ يا زَلَّةَ القَدَمِ |
ابتسم، وقال: ويعتبرون ذلك شركا !؟
قلت: أجل.. أليس ذلك شركا؟
قال: ما يقول هؤلاء في منكر الشفاعة؟
قلت: هم يبدعونه.. بل قد يكفرونه.
قال: ففي الشفاعة لا يأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد الشاعر فقط.. بل يأخذ بيد البشر جميعا([10])، فيسأل الله تعالى في الموقف الذي يقف فيه الكل .. وهو يأخذ بعد ذلك بيد كل محب لينال من بركات محبته ما لم يكن يحلم به([11]).
سكت الغريب قليلا، فقلت: لقد تحدثنا عن صاحب البردة الشريفة.. فلنتحدث عمن نهج نهجها.
قال: كثيرون هم..
قلت: سمعت أن من بينهم ابن جابر الأندلسي المتوفى سنة 780هـ.
قال: أجل.. فله قصيدة رائعة يقول فيها:
بِطَيبَةَ انزِل وَيَمِّم سَيِّدَ الأُمَمِ |
وَانشُر لَهُ المَدحَ وَاِنثُر أَطيَبَ الكَلِمِ |
وَابذُل دُموعَكَ واعذُل كُلَّ مُصطَبِرٍ |
وَالحَق بِمَن سارَ وَالحَظ ما عَلى العَلَمِ |
سَنا نَبيٍّ أَبى أَن يُضَيِّعَنا |
سَليلِ مَجدٍ سَليمِ العِرضِ مُحتَرَمِ |
جَميلِ خَلقٍ عَلى حَقٍّ جَزيلِ نَدىً |
هَدى وَفاضَ نَدى كَفَّيهِ كالدِّيَمِ |
كَفَّ العُداةَ وَكَدَّ الحادِثاتِ كَفى |
فَكَم جَرى مِن جَدا كَفَّيهِ مِن نِعَمِ |
وَكَم حَبا وَعَلى المُستَضعَفينَ حَنا |
وَكَم صَفا وَضَفا جوداً لِجَبرِهِمِ |
ما فاهَ في فَضحِهِ مَن فاءَ لَيسَ سِوى |
عَذلٍ بِعَدلٍ وَنُصحٍ غَيرِ مُتَّهَمِ |
حانٍ عَلى كُلِّ جانٍ حابٍ إن قَصَدوا |
حامٍ شَفى مِن شَقا جَهلٍ وَمِن عَدَمِ |
لَيثُ الشَّرى إِذ سَرى مَولاهُ صارَ لَهُ |
جاراً فَجازَ وَنَيلاً مِنهُ لَم يَرُمِ |
كافي الأَرامِلِ وَالأَيتامِ كافِلُهُم |
وافي النَدى لِمُوافي ذَلِكَ الحَرَمِ |
أَجارَ مِن كُلِّ مَن قَد جارَ حِينَ أَتى |
حَتّى أَتاحَ لَنا عِزّاً فَلَم نُضَمِ |
وفيها يقول:
فَلُذ بِبَرٍّ رَحيمٍ بالبَريَّةِ إِن |
عَقَّتكَ شِدَّةُ دَهرٍ عاقَ واِعتَصِمِ |
يُروى حَديثُ النَّدى وَالبِشر عَن يَدِهِ |
وَوَجهُهُ بَينَ مُنهَلٍّ وَمُبتَسِمِ |
تَبكي ظُباهُ دَماً وَالسَّيفُ مُبتَسِمٌ |
يَخُطُّ كالنونِ بَينَ اللامِ وَاللِّمَمِ |
دَمعٌ بِلا مُقَلٍ ضِحكٌ بِغَيرِ فَمٍ |
كَتبٌ بِغَيرِ يَدٍ خَطٌّ بِلا قَلَمِ |
جاوِرهُ يَمنَع وَلُذ يَشفَع وَسَلهُ يَهَب |
وَعُد يَعُد واِستَزِد يَفعَل وَدُم يَدُمِ |
لَم يَخشَ قِرناً وَيَخشى القِرنُ صَولَتَهُ |
فَهوَ المَنيعُ المُبيحُ الأُسدَ لِلرَّخَمِ |
وَالشَّمسُ رُدَّت وَبَدرُ الأُفقِ شُقَّ لَهُ |
والنَّجمُ أَينَعَ مِنهُ كُلُّ مُنحَطِمِ |
سَقاهُمُ الغَيثُ ماءً إِذ سَقى ذَهَباً |
فَغَيرُ كَفَّيهِ إِن أَمحَلتَ لا تَشِمِ |
قَد أَفصَحَ الضَّبُّ تَصديقاً لِبعثَتِهِ |
إِفصاحَ قُسٍّ وَسَمعُ القَومِ لَم يَهِمِ |
الهاشِمُ الأُسدَ هَشمَ الزّادِ تَبذُلُهُ |
بَنانُ هاشِمٍ الوَهّاب لِلطُّعمِ |
كَأَنَّما الشَّمسُ تَحتَ الغَيمِ غُرَّتُهُ |
في النَّقعِ حَيثُ وجوهُ الأُسدِ كالحُمَمِ |
إِذا تَبَسَّمَ في حَربٍ وَصاحَ بِهِم |
يُبكي الأُسودَ وَيَرمي اللُّسنَ بِالبَكَمِ |
قلت: وسمعت أن من بين هؤلاء رجل يقال (صفي الدين الحلي)
قال: أجل.. هذا الرجل من أكبر الشعراء المهتمين بالبديع.. حتى أنه لقب بأبي البديع، حيث كان علم البديع مهجورا قبله..
قلت: لا يستغرب حب بديع اللغة ممن أحب بديع البشر.
قال: وميزة هذا الشاعر أنه جمع في هذه القصيدة بين علم البديع ومدح الحبيب.
قلت: تقصد أن القصيدة متن في البديع؟
قال: أجل.. وهي من أشهر المتون العلمية، حيث جمعت بين مديح المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وبين ذكر جميع شواهد علم البلاغة، وهي (الكافية البديعية)
قلت: لقد شوقتني إليها.. فاروها لي.
قال: هي أطول من أن أرويها لك هنا، ولكني سأكتفي منها ببعض ما قاله فيها مما يمدح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
محمد المصطفى الهادي النبي أجل |
المرسلين بن عبدالله ذي الكرم |
الطاهر الشيم بن الطاهر الشيم بن |
الطاهر الشيم بن الطاهر الشيم |
خير النبيين والبرهان متضح |
في الحجر نقلا وعقلا واضح اللقم |
كم بين من أقسم الله العلي به |
وبين من جاء بسم الله في القسم |
أمي خط أبان الله معجزه |
بطاعة الماضيين السيف والقلم |
مؤيد العزم والأبطال في قلق |
مؤمل الصفح والهيجاء في ضرم |
نفس مؤيدة بالحق تعضدها |
عناية صدرت عن بارئ النسم |
أبدى العجائب فالأعمى بنفثته |
غدا بصيرا وفي الحرب البصير عمي |
له السلام من الله السلام وفي |
دار السلام تراه شافع الأمم |
كم قد جلت جنح نقع الليل طلعته |
والشهب أحلك ألونا من الدهم |
في معرك لا تثير الخيل عثيره |
مما تروي المواضي تربه بدمي |
عزيز جار لو الليل استجار به |
من الصباح لعاش الناس في الظلم |
سهل الخلائق سمح الكف باسطها |
منزه لفظه عن لا ولن ولم |
أغر لا يمنع الراجين ما طلبوا |
ويمنع الجار من ضيم ومن حرم |
شخص هو العالم الكلي في شرف |
ونفسه الجوهر القدسي في عظم |
ومن له حاور الجزع اليبيس ومن |
بكفه أورقت عجراء من سلم |
والعاقب الحبر في نجران لاح له |
يوم اجتباه لعقبى زلة القدم |
والذئب سلم والجني أسلم والث |
عبان كلم والأموات في الرجم |
ومن أتى ساجدا لله ساعته |
ولم يكن ساجدا في العمر للصنم |
ومن غدا اسم أمه نعتا لأمته |
فتلك آمنة من سائر النقم |
من مثله وذراع الشاة حدثه |
عن سمه بلسان صادق الرنم |
هل من ينم بحب من ينم له |
بما رموه كمن لم يدري كيف رمي |
هو النبي الذي آياته ظهرت |
من قبل مظهره للناس في القدم |
محمد المصطفى المختار من ختمت |
بمجده مرسلوا الرحمن للأمم |
فذكره قد أتى في هل أتى وسبا |
وفضله ظاهر في نون والقلم |
إذا رآه الأعادي قال حازمهم |
حتام نحن نسار النجم في الظلم |
سكت الغريب، فقلت: عد بنا إلى عصرنا.. فقد سمعت أن شعراء كثيرين عارضوا البردة.
قال: أجل.. فحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخلو منه عصر من العصور.. ولا مكان من الأماكن.. ألا تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمان لأمته.
قلت: لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (لأنفال:33).. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غادرنا، فلم يبق لنا إلا الاستغفار.
قال: الاستغفار لا ينفع وحده ما لم يمتلئ القلب بمحبة سيد المستغفرين.. فلذلك إن ذهب جسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فإن روحه لا زالت تعمر القلوب والأرواح.
قلت: لقد سمعت بأن الوزير محمود سامى البارودى عارضها في قصيدة عصماء من 450 بيتا.
قال: أجل.. وقد سماها (كشف الغمة في مدح سيد الأمة)
قلت: فاروها لي.
قال: سأقتصر لك منه ما يتعلق بالحبيب ([12]).. اسمع:
مُحَمَّدٌ خاتَمُ الرُسلِ الَّذي
خَضَعَت |
لَهُ البَرِيَّةُ مِن عُربٍ وَمِن
عَجَمِ |
سَميرُ وَحيٍ وَمَجنى حِكمَةٍ
وَنَدى |
سَماحَةٍ وَقِرى عافٍ وَرِيُّ
ظَمِ |
قَد أَبلَغَ الوَحيُ عَنهُ قَبلَ
بِعثَتِهِ |
مَسامِعَ الرُسلِ قَولاً غَيرَ
مُنكَتِمِ |
فَذاكَ دَعوَةُ إِبراهيمَ
خالِقَهُ |
وَسِرُّ ما قالَهُ عِيسى مِنَ
القِدَمِ |
أَكرِم بِهِ وَبِآباءٍ
مُحَجَّلَةٍ |
جاءَت بِهِ غُرَّةً في الأَعصُرِ
الدُّهُمِ |
قَد كانَ في مَلَكوتِ اللَهِ
مُدَّخراً |
لِدَعوَةٍ كانَ فيها صاحِبَ
العَلَمِ |
نُورٌ تَنَقَّلَ في الأَكوانِ
ساطِعُهُ |
تَنَقُّلَ البَدرِ مِن صُلبٍ إِلى
رَحِمِ |
حَتّى اِستَقَرَّ بِعَبدِ اللَهِ
فَاِنبَلَجَت |
أَنوارُ غُرَّتِهِ كَالبَدرِ في
البُهُمِ |
وَاِختارَ آمِنَةَ العَذراءَ
صاحِبَةً |
لِفَضلِها بَينَ أَهلِ الحِلِّ
وَالحَرَمِ |
كِلاهُما فِي العُلا كُفءٌ
لِصاحِبِهِ |
وَالكُفءُ في المَجدِ لا يُستامُ
بِالقِيَمِ |
فَأَصبَحَت عِندَهُ في بَيتِ
مَكرُمَةٍ |
شِيدَت دَعائِمُهُ في مَنصِبٍ
سِنمِ |
وَحِينما حَمَلَت بِالمُصطَفى
وَضَعَت |
يَدُ المَشيئَةِ عَنها كُلفَةَ
الوَجَمِ |
وَلاحَ مِن جِسمِها نُورٌ أَضاءَ
لَها |
قُصُورَ بُصرى بِأَرضِ الشَّأمِ
مِن أمَمِ |
وَمُذ أَنى الوَضعُ وَهوَ
الرَّفعُ مَنزِلَةً |
جاءَت بِرُوحٍ بِنُورِ اللَهِ
مُتَّسِمِ |
ضاءَت بِهِ غُرَّةُ الإِثنَينِ
وَاِبتَسَمَت |
عَن حُسنِهِ في رَبيعٍ رَوضَةُ
الحَرَمِ |
وَأَرضَعَتهُ وَلَم تَيأَس
حَليمَةُ مِن |
قَولِ المَراضِعِ إِنَّ البُؤسَ
في اليَتَمِ |
فَفاضَ بِالدرِّ ثَدياها وَقَد
غَنِيَت |
لَيالياً وَهيَ لَم تطعَم وَلَم
تَنَمِ |
وَاِنهَلَّ بَعدَ اِنقِطاعٍ رِسلُ
شارِفِها |
حَتّى غَدَت مِن رَفِيهِ العَيشِ
في طُعَمِ |
فَيَمَّمَت أَهلَها مَملُؤَةً
فَرَحاً |
بِما أُتيحَ لَها مِن أَوفَرِ
النِّعَمِ |
وَقَلَّصَ الجَدبُ عَنها فَهيَ
طاعِمَةٌ |
مِن خَيرِ ما رَفَدَتها ثَلَّةُ
الغَنَمِ |
وَكَيفَ تَمحَلُ أَرضٌ حَلَّ
ساحَتَها |
مُحَمَّدٌ وَهوَ غَيثُ الجُودِ
وَالكَرَمِ |
فَلَم يَزَل عِندَها يَنمُو
وَتَكلَؤُهُ |
رِعايَةُ اللَهِ مِن سُوءٍ وَمِن
وَصَمِ |
حَتّى إِذا تَمَّ مِيقاتُ
الرَّضاعِ لَهُ |
حَولَينِ أَصبَحَ ذا أَيدٍ عَلَى
الفُطُمِ |
وَجاءَ كَالغُصنِ مَجدُولاً
تَرِفُّ عَلى |
جَبِينِهِ لَمحاتُ المَجدِ
وَالفَهَمِ |
قَد تَمَّ عَقلاً وَما تَمَّت
رَضاعَتُهُ |
وَفاضَ حِلماً وَلَم يَبلُغ مَدى
الحُلُمِ |
فَبَينَما هُوَ يَرعى البَهمَ
طافَ بِهِ |
شَخصانِ مِن مَلَكوتِ اللَهِ ذي
العِظَمِ |
فَأَضجَعاهُ وَشَقّا صَدرَهُ
بِيَدٍ |
رَفِيقَةٍ لَم يَبِت مِنها عَلى
أَلَمِ |
وَبَعدَ ما قَضَيا مِن قَلبِهِ
وَطَراً |
تَوَلَّيا غَسلَهُ بِالسَّلسَلِ
الشَّبِمِ |
ما عالَجا قَلبَهُ إِلّا
لِيَخلُصَ مِن |
شَوبِ الهَوى وَيَعِي قُدسِيَّةَ
الحِكَمِ |
فَيا لَها نِعمَةً لِلّهِ خَصَّ
بِها |
حَبيبَهُ وَهوَ طِفلٌ غَيرُ
مُحتَلِمِ |
وَقالَ عَنهُ بُحَيرا حِينَ
أَبصَرَهُ |
بَأَرضِ بُصرى مَقالاً غَيرَ
مُتَّهَمِ |
إِذ ظَلَّلَتهُ الغَمامُ الغُرُّ
وَانهَصَرَت |
عَطفاً عَلَيهِ فُروعُ الضَّالِ
وَالسَّلَمِ |
بِأَنَّهُ خاتَمُ الرُّسلِ
الكِرامِ وَمَن |
بِهِ تَزُولُ صُرُوفُ البُؤسِ
وَالنِّقَمِ |
هَذا وَكَم آيَةٍ سارَت لَهُ
فَمَحَت |
بِنُورِها ظُلمَةَ الأَهوالِ
وَالقُحَمِ |
ما مَرَّ يَومٌ لَهُ إِلّا
وَقَلَّدَهُ |
صَنائِعاً لَم تَزَل فِي الدَّهرِ
كَالعَلَمِ |
حَتّى اِستَتَمَّ وَلا نُقصانَ
يَلحَقُهُ |
خَمساً وَعِشرِينَ سِنُّ البارِعِ
الفَهِمِ |
وَلَقَّبَتهُ قُرَيشٌ بِالأَمينِ
عَلى |
صِدقِ الأَمانَةِ وَالإِيفاءِ
بِالذِّمَمِ |
وَحِينَ أَدرَكَ سِنَّ
الأَربَعينَ وَما |
مِن قَبلِهِ مَبلَغٌ لِلعِلمِ
وَالحِكَمِ |
حَباهُ ذُو العَرشِ بُرهاناً
أَراهُ بِهِ |
آيات حِكمَتِهِ في عالَمِ
الحُلُمِ |
فَكانَ يَمضي لِيَرعى أُنسَ
وَحشَتِهِ |
في شاسِعٍ ما بِهِ لِلخَلقِ مِن
أَرَمِ |
فَما يمُرُّ عَلى صَخرٍ وَلا
شَجَرٍ |
إِلّا وَحَيّاهُ بِالتَّسليمِ مِن
أَمَمِ |
حَتّى إِذا حانَ أَمرُ الغَيبِ
وَاِنحَسَرَت |
أَستارُهُ عَن ضَميرِ اللَوحِ
وَالقَلَمِ |
نادى بِدَعوَتِهِ جَهراً
فَأَسمَعَها |
في كُلِّ ناحِيةٍ مَن كانَ ذا
صَمَمِ |
فَكانَ أَوَّلُ مَن في الدِّين
تابَعَهُ |
خَدِيجَةٌ وَعَلِيٌّ ثابِتُ
القَدَمِ |
ثُمَّ اِستَجابَت رِجالٌ دُونَ
أُسرَتِهِ |
وَفي الأَباعِدِ ما يُغني عَنِ
الرَّحِمِ |
وَمَن أَرادَ بِهِ الرَّحمنُ
مَكرُمَةً |
هَداهُ لِلرُّشدِ في داجٍ مِنَ
الظُّلَمِ |
ثُمَّ اِستَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ
مُعتَزِماً |
يَدعُو إلى رَبِّهِ في كُلِّ
مُلتَأَمِ |
وَالنّاسُ مِنهُم رَشيدٌ
يَستَجِيبُ لَهُ |
طَوعاً وَمِنهُم غَوِيٌّ غَيرُ
مُحتَشِمِ |
حَتّى اِستَرابَت قُرَيشٌ
وَاِستَبَدَّ بِها |
جَهلٌ تَرَدَّت بِهِ في مارِجٍ
ضَرِمِ |
وَعَذَّبوا أَهلَ دِينِ اللَّهِ
وَاِنتَهَكوا |
مَحارِماً أَعقَبَتهُم لَهفَةَ
النَّدَمِ |
قلت: بورك في هذا الشاعر الفاضل.. لقد تألم المسكين كثيرا في حياته.
قال: من قال مثل هذه الأبيات لا يتألم.. فالحب إكسير أحمر يحول الألم لذة.. والتعب راحة.. والحزن سرورا.
قلت: صدقت.. ومذ هجر الناس هذا الحب الشريف وقعوا ضحية للمخدرات والخمور والليالي الماجنة..
قال: وفوق ذلك صرتم تسمعون بالانتحار الذي لم يسمع به أسلافكم.
قلت: فهل ترى نشر مثل هذا الحب الشريف يقي الأمة مثل هذه الأوباء؟
قال: لا يقيها فقط.. بل يرفعها لتعتلي عرش الحضارة الذي نزلت منه بعد هجرها لحبيبها.
قلت: لاشك أن من أكبر المعارضين للبردة أحمد شوقي.
قال: أجل.. فله في ذلك قصيدته العصماء (نهج البردة) والتى صاغها على نسق البردة للإمام البوصيرى.
قلت: لقد كان شوقى ذا ذوق رفيع وأدب عال جعله يعترف بأفضلية الإمام البوصيرى، وسبقه عليه، فقال:
يا أحمد الخير، لى جاه بتسميتى |
وكيف لا يتسامى بالنبى سمى؟ |
المادحونوأرباب الهوى تبع |
لصاحب البردة الفيحاء ذى القدم |
مديحه فيك حب خالص وهى |
وصادق الحب يملى صادق الكلم |
الله يشهد أنى لا أعارضه |
من ذا يعارض صوب العارض العمم |
و إنما أنا بعض الغابطينومن |
يغبط وليك لا يذممولا يُلم |
قال: أجل.. ومما ورد فيها من مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
لزِمتُ بابَ أَمير الأَنبياءِ،
ومَنْ |
يُمْسِكْ بمِفتاح باب الله
يغتنِمِ |
فكلُّ فضلٍ، وإِحسانٍ، وعارفةٍ |
ما بين مستلمٍ منه ومُلتزمِ |
علقتُ من مدحهِ حبلاً أعزُّ به |
في يوم لا عِزَّ بالأَنسابِ
واللُّحَمِ |
يُزرِي قَرِيضِي زُهَيْرًا حين
أَمدحُه |
ولا يقاسُ إِلى جودي لدَى هَرِمِ |
محمدٌ صفوةُ الباري، ورحمتُه |
وبغيَةُ الله من خَلْقٍ ومن
نَسَمِ |
وصاحبُ الحوض يومَ الرُّسْلُ
سائلةٌ |
متى الورودُ؟ وجبريلُ الأَمين
ظَمي |
سناؤه وسناهُ الشمسُ طالعةً |
فالجِرمُ في فلكٍ، والضوءُ في
عَلَمِ |
قد أَخطأَ النجمَ ما نالت
أُبوَّتُه |
من سؤددٍ باذخ في مظهَرٍ سَنِم |
نُمُوا إِليه، فزادوا في الورَى
شرَفًا |
ورُبَّ أَصلٍ لفرع في الفخارِ
نُمي |
حَوَاه في سُبُحاتِ الطُّهرِ
قبلهم |
نوران قاما مقام الصُّلبِ
والرَّحِم |
لما رآه بَحيرا قال: نعرِفُه |
بما حفظنا من الأَسماءِ والسِّيمِ |
سائلْ حِراءَ، وروحَ القدس: هل
عَلما |
مَصونَ سِرٍّ عن الإِدراكِ
مُنْكَتِمِ؟ |
كم جيئةٍ وذهابٍ شُرِّفتْ بهما |
بَطحاءُ مكة في الإِصباح
والغَسَمِ |
ووحشةٍ لابنِ عبد الله بينهما |
أَشهى من الأُنس بالأَحباب
والحشَمِ |
يُسامِر الوحيَ فيها قبل مهبِطه |
ومَن يبشِّرْ بسِيمَى الخير
يَتَّسِمِ |
لما دعا الصَّحْبُ يستسقونَ من
ظمإٍ |
فاضتْ يداه من التسنيم بالسَّنِمِ |
وظلَّلَته، فصارت تستظلُّ به |
غمامةٌ جذَبَتْها خِيرةُ الديَمِ |
محبةٌ لرسولِ اللهِ أُشرِبَها |
قعائدُ الدَّيْرِ، والرُّهبانُ في
القِممِ |
إِنّ الشمائلَ إِن رَقَّتْ يكاد
بها |
يُغْرَى الجَمادُ، ويُغْرَى كلُّ
ذي نَسَمِ |
ونودِيَ: اقرأْ. تعالى اللهُ قائلُها |
لم تتصلْ قبل مَن قيلتْ له بفمِ |
هناك أَذَّنَ للرحمنِ، فامتلأَت |
أَسماعُ مكَّةَ مِن قُدسيّة
النَّغمِ |
فلا تسلْ عن قريش كيف حَيْرتُها؟ |
وكيف نُفْرتُها في السهل
والعَلمِ؟ |
تساءَلوا عن عظيمٍ قد أَلمَّ بهم |
رمَى المشايخَ والولدانَ باللَّممِ |
يا جاهلين على الهادي ودعوتِه |
هل تجهلون مكانَ الصادِقِ
العَلمِ؟ |
لقَّبتموهُ أَمينَ القومِ في
صِغرٍ |
وما الأَمينُ على قوْلٍ بمتّهَمِ |
فاق البدورَ، وفاق الأَنبياءَ،
فكمْ |
بالخُلْق والخَلق مِن حسْنٍ ومِن
عِظمِ |
جاءَ النبيون بالآياتِ، فانصرمت |
وجئتنا بحكيمٍ غيرِ مُنصَرمِ |
آياتُه كلّما طالَ المدَى جُدُدٌ |
يَزِينُهنّ جلالُ العِتق والقِدمِ |
يكاد في لفظةٍ منه مشرَّفةٍ |
يوصِيك بالحق، والتقوى، وبالرحمِ |
يا أَفصحَ الناطقين الضادَ قاطبةً |
حديثُك الشّهدُ عند الذائقِ
الفهِمِ |
حَلَّيتَ من عَطَلٍ جِيدَ البيانِ
به |
في كلِّ مُنتَثِر في حسن مُنتظِمِ |
بكلِّ قولٍ كريمٍ أَنت قائلُه |
تُحْيي القلوبَ، وتُحْيي ميِّتَ
الهِممِ |
سَرَتْ بشائِرُ بالهادي ومولِده |
في الشرق والغرب مَسْرى النور في
الظلمِ |
تخطَّفتْ مُهَجَ الطاغين من عربٍ |
وطيَّرت أَنفُسَ الباغين من عجمِ |
رِيعت لها شُرَفُ الإِيوان،
فانصدعت |
من صدمة الحق، لا من صدمة القُدمِ |
أَتيتَ والناسُ فَوْضَى لا تمرُّ
بهم |
إِلاّ على صَنم، قد هام في صنمِ |
والأَرض مملوءَةٌ جورًا،
مُسَخَّرَةٌ |
لكلّ طاغيةٍ في الخَلْق مُحتكِمِ |
مُسَيْطِرُ الفرْسِ يبغى في
رعيّتهِ |
وقيصرُ الروم من كِبْرٍ أَصمُّ
عَمِ |
يُعذِّبان عبادَ اللهِ في شُبهٍ |
ويذبَحان كما ضحَّيتَ بالغَنَمِ |
والخلقُ يَفْتِك أَقواهم
بأَضعفِهم |
كاللَّيث بالبَهْم، أَو كالحوتِ
بالبَلَمِ |
ومما ورد فيها من وصف النبي r ورد الشبهات المثارة حول رسالته:
البدرُ دونكَ في حُسنٍ وفي شَرفٍ |
والبحرُ دونك في خيرٍ وفي كرمِ |
شُمُّ الجبالِ إِذا طاولتَها انخفضت |
والأَنجُمُ الزُّهرُ ما واسمتَها تسِمِ |
والليثُ دونك بأْسًا عند وثبتِه |
إِذا مشيتَ إِلى شاكي السلاح كَمِي |
تهفو إِليكَ – وإِن أَدميتَ حبَّتَها |
في الحربِ – أَفئدةُ الأَبطالِ والبُهَمِ |
محبةُ اللهِ أَلقاها، وهيبتُه |
على ابن آمنةٍ في كلِّ مُصطَدَمِ |
كأَن وجهَك تحت النَّقْع بدرُ دُجًى |
يضيءُ مُلْتَثِمًا، أَو غيرَ مُلتثِمِ |
بدرٌ تطلَّعَ في بدرٍ، فغُرَّتُه |
كغُرَّةِ النصر، تجلو داجيَ الظلَمِ |
ذُكِرْت باليُتْم في القرآن تكرمةً |
وقيمةُ اللؤلؤ المكنونِ في اليُتمِ |
اللهُ قسّمَ بين الناسِ رزقَهُمُ |
وأَنت خُيِّرْتَ في الأَرزاق والقِسمِ |
إِن قلتَ في الأَمرِ:”لا”، أَو قلتَ فيه:
“نعم” |
فخيرَةُ اللهِ في “لا” منك أَو
“نعمِ” |
أَخوك عيسى دَعَا ميْتًا، فقام لهُ |
وأَنت أَحييتَ أَجيالاً مِن الرِّممِ |
والجهْل موتٌ، فإِن أُوتيتَ مُعْجِزةً |
فابعثْ منالجهل،أَو فابعثْ من الرَّجَمِ |
قالوا: غَزَوْتَ، ورسْلُ اللهِ ما بُعثوا |
لقتْل نفس، ولا جاءُوا لسفكِ دمِ |
جهلٌ، وتضليلُ أَحلامٍ، وسفسطةٌ |
فتحتَ بالسيفِ بعد الفتح بالقلمِ |
لما أَتى لكَ عفوًا كلُّ ذي حَسَبٍ |
تكفَّلَ السيفُ بالجهالِ والعَمَمِ |
والشرُّ إِن تَلْقَهُ بالخيرِ ضِقتَ به |
ذَرْعًا، وإِن تَلْقَهُ بالشرِّ يَنحسِمِ |
سَل المسيحيّةَ الغراءَ: كم شرِبت |
بالصّاب من شَهوات الظالم الغَلِمِ |
طريدةُ الشركِ، يؤذيها، ويوسعُها |
في كلِّ حينٍ قتالاً ساطعَ الحَدَمِ |
لولا حُماةٌ لها هبُّوا لنصرَتِها |
بالسيف; ما انتفعتْ بالرفق والرُّحَمِ |
لولا مكانٌ لعيسى عند مُرسِلهِ |
وحُرمَةٌ وجبتْ للروح في القِدَمِ |
لَسُمِّرَ البدَنُ الطُّهرُ الشريفُ على |
لَوْحَيْن، لم يخشَ مؤذيه، ولم يَجمِِ |
جلَّ المسيحُ، وذاقَ الصَّلبَ شانِئهُ |
إِن العقابَ بقدرِ الذنبِ والجُرُمِ |
أَخُو النبي، وروحُ اللهِ في نُزُل |
فُوقَ السماءِ ودون العرشِ مُحترَمِ |
علَّمْتَهم كلَّ شيءٍ يجهلون به |
حتى القتالَ وما فيه من الذِّمَمِ |
قلت: ومن الصالحين الذين سمعت أنهم ساروا على أقدام البردة الشريفة السيد عبدالله بن أحمد الهدار الحضرمي.
قال: أجل.. ذلك الشاعر الصالح المحب..
قلت: فارو لي من قصيدته ما يذكرنا بالحبيب..
قال: لا بأس.. يقول في قصيدته العصماء في مدح حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم:
أبيت أرعى نجوم الليل في الظلم |
لم تغمض العين من وجدي ولم تنم |
أبيت ليلي أناجي الشهب مرتقباً |
ضوء الصباح كملسوع من الصمم |
والقلب ما زال خفّاقاً ومضطرباً |
مما احتوى من عظيم الشوق والألم |
والعين تذرف بالدمع الغزير أسى |
من لوعة الوجد يحكي فائض الديم |
يا قلب مالك طول الدهر مضطرباً |
لم تستفق وإذا قيل استفق تهم |
رميتني عامداً قصداً بلا سبب |
هل ينبغي الرمي للأحباب بالحمم |
رفقاً على دنف رفقاً على كلف |
من الصبابة والأشواق في سقم |
سقم الصبابة في قلبي له ضرم |
أواه من لوعة الأشواق والضرم |
ليت الحرارة من قلبي قد انطفأت |
ياليتها أصبحت كالمورد الشبم |
أبيت ليلي من الأشواق في قلق |
والقلب يخفق من شجواه كالعلم |
ثم يقول:
بسيد الخلق شمس الحق معتصمي |
محمد خير معصوم ومعتصم |
له فررت حبيب الله حجته |
ومصدر الفضل والعرفان والكرم |
أصل الوجود وروح الكون بهجته |
زين الشمائل والآداب والشيم |
مطهر الأرض من رجس ومن درن |
من عابدي وثن من عابدي صنم |
لله من منقذ الإنسان من سقر |
خير البرية من عرب ومن عجم |
لولاه ما سارت الركبان عن طرب |
إلى مدينته الغراء والحرم |
أسمى الورى فطرة أعلاهم نسباً |
أرقى الخليقة في قدس وفي العظم |
أصوله طهر المولى عقائدهم |
طهراً جرى سابقاً من سالف القدم |
كرامة وامتيازاً للحبيب |
عليه الله صلى عظيم الشان والهمم |
من أسعد الكون إسعاداً وطهره |
وسن أعظم ماقد سن من نظم |
أتى لنا بكتاب الله معجزة |
يهدي إلى الرشد كم يحلو بكل فم |
وجاء يقرؤه باسم الرشاد |
على الوجود من كان ذا سمع وذا صمم |
سبت عقول بني الإنسان لهجته |
لا يستطيع لعمري وصفها قلمي |
تفجرت منه أنهار الفصاحة |
والبيان والعلم والآداب والحكم |
كلامه معجز الله ميزه |
وهديه خير هدي للناس كلهم |
قد خصه الله بالتقدير قدره |
في سابق العلم قد والاه بالنعم |
فكل فضل فمن فضل النبي وقل |
ماشئت في فضل رب التاج والشمم |
تعاظمت أشرقت أرجاء ساحته |
بنوره في نواحي الأرض كالنجم |
لله ماناله المختار من شرف |
مقامه الفذ لم يدرك ولم يرم |
أثنى الإله على أخلاقه وأتى |
في سورة النون في الفرقان والقلم |
يكفي القرآن ثناء في شمائله |
لله ما جاء في القرآن من قسم |
لله من قسم ماناله أحد |
لا فخر أرفع من هذا لدى الأمم |
وقد دعا أمم الدنيا بأجمعها |
وكان ذلك بعد الرعي للغنم |
أخلاقه قط لم يظفر بها بشر |
رتل شمائله الحسناء بالنغم |
أزكى البرية أخلاقاً وأنبلهم |
قصداً وأوفاهم بالعهد والذمم |
يسدي النوال بلا من يكدره |
يحنو على الناس من صحب ومن حشم |
وأزهد الخلق في الدنيا وزهرتها |
حول الملذات والزينات لم يحم |
لم يمتليء جوفه والله من شبع |
وساده حشوه ليف من الأدم |
والمال وافاه لكن كان ينفقه |
على المقلين من ذي الجوع والعدم |
قد ارتضى بحياة الكد عن رغب |
من يحذ حذو حياة الطهر يتسم |
بعد أن أنشد لي الغريب القصيدة بصوته العذب قال: لم يقتصر مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين وحدهم.. حتى المسيحيون لهم نصيب من هذا.
قلت: المسيحيون !؟
قال: أجل.. ألم تعلم أن مسيحيي العرب أقرب إلى الإسلام من قربهم للمسيحية نفسها، حتى أني سمعت بعضهم يدافع على انتمائه للحضارة الإسلامية، ويفخر بذلك.. ويعتبر الحضارة الغربية حضارة شذوذ ([13]).
قلت: فسم لي بعض هؤلاء الشعراء الأفاضل.
قال: منهم وصفي قرنفلي (1911 – 1978)، الذي كان في طليعة رابطة الكتاب السوريين، وصدر له ديوان وحيد بعنوان (وراء السراب)
وقد خاف قرنفلي أن يوصف بمجاملة المسلمين أو مداهنتهم لحاجات في نفسه، فبدأ بالدفاع عن نفسه، وتبرير مدحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأعلن أن طائف الحب طاف به، فأترع كؤوس الهوى، والإعجاب بالنبي اليعربي فقال:
قد يقولون: شاعرٌ نصراني |
يرسل الحب في كِذابِ البيانِ |
يتغنى هوى الرسولِ.. ويهذي |
بانبثاق الهدى من القرآنِ |
ينتحي الجبهة القويةَ يحدوها |
رياءً والشعر ( لا وجداني ) |
كذبوا – والرسولِ
– لم يجرِ يومًا |
بخلاف الذي أكن لساني |
ما تراءيتُ بالهوى بل سقاني |
طائفٌ من الحب والهوى ما سقاني |
أوَعارٌ على فتىً يعربي |
أن تغنى بالسيد العدناني ؟! |
أوليس الرسول منقذَ هذا الشرق |
من ظلمة الهوى والهوانِ ؟ |
أفكُنا لولا الرسول سوى العبدان |
بئست معيشة العبدان ؟! |
أو ليس الوفاء أن تخلِص المنقذ |
حبًّا إن كنت ذا وجدان ؟! |
فالتحيات والسلام أبا القاسم |
تُهدى إليك في كل آن ! |
ومنهم جورج صيدحالكاتبالمهجري الذي كتب قصيدة رائعة في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسم (حراء يثرب) يستنهض فيه الأمة، مذكرًا إياها بما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحمية والهمة والأنفة، مشيرًا إلى تدنيس القدس الشريف ؛ حتى إنه ليقتبس آية من القرآن ـ من سورة الرحمن ـ يضمنها القصيدة، فيقول:
يا من
سريتَ على البراق |
وجُزت
أشواط العَنان |
آن
الأوان لأن تجدّد |
ليلة
المعراج.. آن |
عرّج
على القدس الشريف |
ففيه
أقداسٌ تهان |
ماذا
دهاهم؟هل عصوْك |
فأصبح
الغازي جبان ؟ |
أنت
الذي علمتهم |
دفع
المهانة بالسنان |
ونذرت
للشهداء جنات |
وخيرات
حسان |
يا
صاحبيّ: بأي آلاء |
النبي
تكذبان ؟! |
ومنهم الشاعر المهجري جورج سلستي الذي كتب قصيدة بعنوان (نجوى الرسول الأعظم) وهي قصيدة مليئة بالعاطفة الصادقة، وكأنما كتبها مسلم:
أقبلتَ كالحق وضّاحَ الأسارير |
يفيض وجهُك بالنعماء والنور |
على جبينك فجرُ الحق منبلجٌ |
وفي يديك جرت مقاليدُ الأمورِ |
فرحتَ فينا، وليل الكفر معتكر |
تفري بهديك أسداف الدياجير |
وتمطر البيد آلاءً وتُمرِعها يمنًا |
يدوم إلى دهر الدهاريرِ |
أبيتَ إلا سموّ الحق حين أبى |
سواك إلا سموَّ البُطل والزورِ! |
وقال يصف الصحراء العربية التي أطلعت شمس المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
ما أنتِ بالمصطفى يا بيدُ مجدبةً |
كلا ولا أنتِ يا صحراءُ بالبورِ |
أطلعتِ من تاهت الدنيا بطلعته |
ونافستْ فيه حتى موئلَ الحورِ |
بوركتِ أرضًا تبث الطهرَ تربتُها |
كالطيبِ.. بثته أفواه القواريرِ |
الدين ما زال يزكو في مرابعها |
والنبل ما انفك فيها جدَّ موفورِ |
والفضل والحلم والأخلاق ما فتئت |
تحظى هناك بإجلال وتوقيرِ |
ويعتذر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تقصير شعره في الوفاء بحقه، فيقول:
يا سيدي يا رسول الله معذرةً |
إذا كبا فيك تبياني وتعبيري |
ماذا أوفيك من حق وتكرمةٍ |
وأنت تعلو على ظني وتقديري ؟! |
وأنت ربُّ الأداء الفذ في لغةٍ |
تشأو اللُّغى حسنَ تنميقٍ وتصويرِ |
على لسانك ما جن البيان به |
فذلك الشعر يرنو شبهَ مسحور ! |
آي من الله.. ما ينفك مُعجزُها |
يعيي على الدهرِ أعلام التحاريرِ |
تلوتَها فسرت كالنور مؤتلقًا |
يطوي الدنا بين مأهولٍ ومهجورِ ! |
ومنهم محبوب الخوري الشرتوني، وهومن شعراء المهجر الشمالي، الذين كتبوا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رافعًا إياه إلى مستوى النموذج البشري الأتم، أو مثال البطولة الأوحد، وقد كتب قصيدة بعنوان (قالوا تحب العرب؟) يقول فيها:
قالوا
تحب العُرْب؟قلت: أحبهم |
يقضي الجوارُ
عليّ والأرحامُ |
قالوا:
لقد بخلوا عليك، أجبتهم |
أهلي
وإن بخلوا عليّ كرام |
قالوا
الديانة؟قلت: جيل زائل |
وتزول
معْه حزازةٌ وخصامُ |
ومحمد..
بطل البرية كلها |
هو
للأعارب أجمعين إمام |
ومن أشهر شعراء المهجر الجنوبي رشيد سليم الخوري الذي اشتهر بالشاعر القروي، وقد كتب قصيدة بعنوان (عيد البرية) يستحث فيها المسلمين لاستعادة مجدهم القديم منها، ويقرئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلاماته وحبه، داعيًا إلى التحاب والتآخي بين المسلمين والنصارى، فيقول:
يا
فاتح الأرض ميداناً لدولته |
صارت
بلادُك ميداناً لكل قوي |
يا
قومُ هذا مسيحيٌّ يذكّركم |
لا
يُنهِض الشرقَ إلا حبُّنا الأخوي |
فإن
ذكرتم رسول الله تكرمة |
فبلّغوه
سلام الشاعر القروي |
ومنهم خليل مطران الذي كتب قصيدة تسمى (رأس السنة الهجرية) يقول فيها:
عانى
محمد ما عانى بهجرته |
لمأرب
في سبيل الله محمود |
وكم
غَزاةٍ وكم حربٍ تجشمها |
حتى
يعود بتمكين وتأييد |
صعبان
راضهما: توحيدُ معشرهم |
وأخذُهم
بعد إشراك بتوحيد |
وبدؤه
الحكم بالشورى يتم به |
ما
شاءه الله من عدل ومن جود |
وله قصيدة احتفالية أخرى شارك فيها المسلمين، عنوانها: (عظة العيد الهجري)، يمدح فيها ويُكبِر الهلال رمز الإسلام، أو هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه فيقول:
سلام
على هذا الهلال من امرئ |
صريح
الهوى، والحر لا يتكتم |
سلام
وتكريم.. بحق كلاهما |
وأشرف
من أحببتَه من تكرم |
هويتك
إكبارًا لمن أنت رمزه |
من
المأرب العلوي لو كان يفهم |
ومنهم مارون عبودالشاعر اللبناني الذي كتب قصيدة مطولة في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيها:
لولا كتابُك ما رأينا معجزًا |
في أمةٍ مرصوصة البنيانِ |
حملت إلى الأقطار من صحرائها |
قبسَ الهدى ومطارفَ العمرانِ |
هادٍ يُصوَّر لي كأن قوامه |
متجسدٌ من عنصر الإيمان |
ومنهم الشاعر الشهير إلياس فرحاتالذي يقول في قصيدته (يا رسولَ الله):
غَمَرَ الأَرْضَ بِأَنْوَارِ النُّبُوَّةْ |
كَوْكَبٌ لَمْ تُدْرِكِ الشَّمْسُ عُلُوَّهْ |
لَمْ يَكُدْ يَلْمَعُ حَتَّى أَصْبَحَتْ |
تَرْقُبُ الدُّنْيَا وَمَنْ فِيهَا دُنُوَّهْ |
بَيْنَمَا الكَوْنُ ظَلاَمٌ دَامِسٌ |
فُتِحَتْ فِي مَكَّةَ لِلنُّورِ كُوَّةْ |
وَطَمَى الإِسْلاَمُ بَحْرًا زَاخِرًا |
بِأَوَاذِيِّ الْمَعَالِي وَالفُتُوَّةْ |
مَنْ رَأَى الأَعْرَابَ فِي وَثْبَتِهِمْ |
عَرَفَ البَحْرَ وَلَمْ يَجْهَلْ طُمُوَّهْ |
إنَّ فِي الإِسْلاَمِ لِلْعُرْبِ عُلاً |
إنَّ فِي الإِسْلاَمِ لِلنَّاسِ أُخُوَّةْ |
فَادْرُسِ الإِسْلاَمَ يَا جَاهِلَهُ |
تَلْقَ بَطْشَ اللهِ فِيهِ وَحُنُوَّهْ |
يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا أُمَّةٌ |
زَجَّهَا التَّضْلِيلُ فِي أَعْمَقِ هُوَّةْ |
ذَلِكَ الجَهْلُ الذِي حَارَبْتَهُ |
لَمْ يَزَلْ يُظْهِرُ لِلشَّرْقِ عُتُوَّهْ |
قُلْ لأَتْبَاعِكَ صَلُّوا وَادْرُسُوا |
إِنَّمَا الدِّينُ هُدَىً وِالْعِلْمُ قُوَّةْ |
ومنهم الشاعر السوري عبد الله يوركي حلاق مؤسس مجلة الضاد في حلب، فله قصيدة بعنوان (قبس من الصحراء)، يشيد فيها بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. يقول فيها:
بعث الشريعة من غياهب رمسِها |
فرعى الحقوق وفتَّح الأذهانا |
أمحمدٌ.. والمجدُ نسج يمينه |
مجدَّت في تعليمك الأديانا |
ولأنه داس الجهالة وانتضى |
سيف الجهاد، وحطَّم الأوثانا |
فلقد ربينا في ظلال عروبة |
عرباء.. تشرق عزة وأمانا |
ما نحن إلا إخوةٌ نسعى إلى |
إسعاد أمتنا.. وصونِ حمانا |
ومنهم الشاعر السوري جاك صبري شماسالذي تشهد معظم دواوينه الشعرية، ومقالاته على محبته وولائه للعروبة وإشادته بالدين الإسلامي، وافتخاره بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. يقول في قصيدة له بعنوان (أوراق اعتمادي):
إني مسيحيٌّ أجلُّ محمدًا |
وأجلُّ ضادًا.. مهدُه الإسلامُ |
وأجلُّ أصحاب الرسول وأهله |
حيث الصحابة صفوةٌ ومقام |
كحَّلت شعري بالعروبة والهوى |
ولأجل طه تفخر الأقلام |
أودعت روحي في هيام محمد |
دانت له الأعراب والأعجام |
ومنهم الشاعر إلياس قنصل الذي ثم يخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معتذرًا، مشيدًا بالقرآن ومن جاء به، فيقول:
رسولَ الله: عفوَك ؛ إن عذلي |
لتنبيه النفوس الغافلات |
كتابك زينة الأجيال تزهو |
بمعجز آيهِ أمُّ اللغات |
ودينُك نعمةٌ في الكون ضاءت |
فنوَّرَت النواحي المظلمات |
تكرم يا إله العرش واجعل |
بلاد العُرب للعرب الاباة |
ومنهم الشاعر اللبناني شبلي الملاط، وهوأحد أبرز الشعراء العرب في النصف الأول من القرن العشرين الذي ينفي عن الإسلام والقرآن دعوى تفريق للأمة، فيقول:
لمن البلاد؟أليس من أصحابها |
أنتم ونحن؟فما لنا لا نهتدي ؟ |
حتى متى لا نستفيق ؟! وكلنا نحيا |
وندفن تحت جو أوحد ؟ |
حتى متى التفريق يلعب دوره |
فينا ونصغي سامعين لمفسد ؟ |
ويظل مَن بث المفاسد سيدًا |
والصالح الأعمال مغلولَ اليد |
ويبيت من تدعو البلاد أئمة |
متشاغلين ببِيعةٍ وبمسجد |
والله ما قال المسيح تباغضوا |
حتى نكون ولا كتاب محمد |
لكنما أيدي الجهالة بدّلت |
أبناء هذا القطر شر مبدد |
ثم يطالب بإنهاء التعصب الذي يوقع الأمة في الهوان والمذلة، فيقول:
وتساهلوا عند الأمور وأعرضوا |
عمن يقول بعيسوِي ومحمدي |
ودعوا التعصب إنه الداء الذي |
يقضي عليكم بالهوان السرمدي |
ولتشعلوا هذي العواطف وليكن |
كل من الأعياد عيد المولد |
قلبت دفتر الغريب.. فرأيت أسماء غير عربية، فتعجبت من ذلك، فقلت: أرى في الدفتر أسماء أخرى غير عربية.. من أين لها أن تتعلم العربية، وتكتب بها مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم !؟
قال: أصحاب تلك الأسماء أدباء من سائر الأمم جذبتهم أشعة شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام، فلذلك سجلتهم في هذا الفصل.
قلت: فهل تعلم هؤلاء العربية؟
قال: الشعر موجود في كل لغات العالم.. والحب موجود في كل الكلمات نثرها وشعرها.. والمحب الصادق يعبر بكل الألسنة.
كان من تلك الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذا الفصل اسم (ويليام بيكارد)، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا هو المؤلف والروائي والشاعرالبريطاني ويليام بيكارد، وهو حاصل على شهادة البكالوريوس في الفنون والآداب (كانتاب)، والدكتوراه في الأدب (لندن)، وهو مؤلِّفٌ واسع الشهرة، من أعماله: ليلى والمجنون، ومغامرات القاسم، والعالم الجديد، ومؤلَّفاتٌ أخرى.
قلت: هل التقيت به؟
قال: لا.. ولكني قرأت رساله له يتحدث فيها عن رحلته للإسلام، ومما ورد فيها: (لم أُدرك حقيقة أنِّي وُلِدت على فطرة الإسلام إلَّا بعد مضيِّ العديد من السنين. ففي المدرسة والجامعة كنت مشغولاً ـ وربما بقوَّة ـ بقضايا اللحظة الآنيَّة وشؤونها.. لم أكن أعتبر مهنتي في تلك الأيام مهنةً لامعة، ولكنَّها كانت في تطوُّر، ووسط محيطٍ مسيحيٍّ تعلَّمت عن الحياة الطيِّبة، وكان الإيمان بالله تعالى والعبادة والحق من الأمور الَّتي تسرُّني، وإن كنت أُقدِّس أيَّ شيءٍ فإنَّ ذلك كان هو النُبل والشَّجاعة)
وفيها يقول: (أنا القادم من كامبريدج، ذهبت إلى أواسط أفريقيا، حيث حصلت على تعيينٍ في إدارة الوصاية على أوغندا. كان وجودي هناك ممتعاً ومثيراً أكثر مما كنت أحلم به في بريطانيا، وكنت مجبراً ـ تبعاً للظروف المحيطة ـ أن أعيش وسط الأخوَّة السوداء من الإنسانيَّة، ويمكنني القول بأنِّي تعلَّقت بهم بمحبةٍ بسبب بساطة نظرتهم السعيدة للحياة. لقد شدَّني الشَّرق دائماً. ففي كامبريدج قرأت (الليالي العربيَّة)؛ ووحيداً في أفريقيا قرأت (الليالي العربيَّة)؛ ووجودي في تجوالٍ موحشٍ في أوغندا لم يقلل من عزة الشرق في نفسي.
ثم ـ وبعد تحطُّم حياتي الهادئة في الحرب العالمية الأولى ـ عدت أدراجي مسرعاً تجاه الوطن في أوروبا؛ وساءت صحَّتي. ومع استعادة صحَّتي تطوَّعت للجيش، لكنَّ طلبي رُفض على أُسسٍ صحيَّة. لذلك عملت على تقليل الخسائر وسجَّلت في (الجندرمة) ـ بعد أن عملت بطريقةٍ ما على اجتياز الفحص الطبِّي ـ وشعرت بالرَّاحة حين تسلَّمت بدلتي العسكريَّة كجنديٍّ في فرقةٍ للمشاة. خدمت حينئذٍ في الجبهة الغربيَّة في فرنسا، واشتركت في معركة السوم سنة 1917، حيث جُرحت وأُسرت. نُقلت عبر بلجيكا إلى ألمانيا حيث كنت في المشفى. وفي ألمانيا رأيت الكثير من المعاناة الإنسانيَّة، وخاصَّةً الرُّوس المصابين بالديزنطاريا. ووصلت إلى حافَّة الموت جوعاً. جُرحي ـ وهو كسرٌ في ساعدي الأيمن ـ لم يُشف بسرعة، فكنت عديم النَّفع للألمان، فأُرسلت إلى سويسرا من أجل عمليَّةٍ جراحيَّة.
أذكر جيِّداً كم كان عزيزاً عليَّ حتى في تلك الأيام حين كنت أفكِّر بالقرآن الكريم، في ألمانيا كنت قد كتبت رسالةً للأهل ليرسلوا لي نسخةً من القرآن الكريم. وعلمت في السنوات اللاحقة أنَّهم أرسلوا لي نسخةً ولكنَّها لم تصلني أبداً.
في سويسرا ـ وبعد عمليَّةٍ في ساعدي ورجلي ـ تحسَّنت صحَّتي، فكان بإمكاني الخروج بين الحين والآخر، فاشتريت نسخةً من الترجمة الفرنسيَّة لمعاني القرآن الكريم ـ وهي اليوم من أعز ممتلكاتي ـ وعندئذٍ شعرت بسعادةٍ عظيمة. كان ذلك وكأنَّ شعاعاً من الحقيقة الخالدة قد أشرق عليَّ بالبركة. كانت يدي اليمنى ما تزال غير ذات نفع، فتمرَّنت على كتابة القرآن الكريم بيدي اليسرى. وارتباطي بالقرآن الكريم يظهر بوضوح أكبر عندما أقول بأنَّ واحدةً من أشدِّ الذكريات وضوحاً وعزَّة لديّ من كتاب (الليالي العربية) كانت عن فتىً وُجد وحيداً في المدينة البائدة، جالساً يقرأ القرآن الكريم، غافلاً عمَّا يحيط به.
في تلك الأيام في سويسرا، أعدت تسجيل نفسي رسمياًّ كمسلم. وبعد توقيع الهدنة عدت إلى لندن، وذلك في شهر كانون الأول من سنة 1918، وبعد ذلك ـ في عام 1921 ـ سجَّلت لدراسة الأدب في جامعة لندن. وكان أحد المواضيع الَّتي اخترتها هي اللغة العربيَّة، وكنت أحضر محاضراتها في الكلية الملكيَّة. وكان في يومٍ أن ذكر أستاذي في اللغة العربيَّة ـ السيِّد بلشا من العراق رحمه الله تعالى ـ القرآن الكريم وقال: إن كنت تؤمن به أم لا، فإنَّك ستجد أنَّه أكثر الكتب إثارةً وأنَّه يستحقُّ الدِّراسة. فأجبت: أُوه، ولكنِّي أُومن به. فاجأ هذا الجواب أستاذي بشدَّة وأثار اهتمامه، وبعد حديثٍ قصيرٍ دعاني لأُرافقه إلى مسجد لندن في نوتينغ هيل جيت. وبعد ذلك كنت أحضر للصلاة باستمرار في هذا المسجد لكي أتعلَّم أكثرعن تطبيق الإسلام، إلى أن أعلنت ارتباطي بالأمَّة الإسلاميَّة في رأس السنة الجديدة لعام 1922.
كان هذا قبل ما يقارب الربع قرن، ومنذئذٍ وأنا أعيش حياةً إسلاميَّةً قولاً وعملاً بكلِّ ما في استطاعتي، فقوَّة الله تعالى وحكمته ورحمته ليس لها حدود. وحقول المعرفة تمتدُّ أمامنا إلى ما وراء الأفق. وفي حجِّنا خلال هذه الحياة أشعر بيقينٍ أقوى بأنَّ اللباس الوحيد المناسب الَّذي نستطيع لبسه هو الخضوع لله تعالى، وأن نعتمر على رؤوسنا عمامةً من الحمد، وأن نملأ قلوبنا حباًّ للخالق الواحد سبحانه وتعالى. والحمد لله ربِّ العالمين)
من الأسماء التي رأيتها في دفتر الغريب في هذ االفصل اسم (فانسان مونتييه)([14])، فسألت الغريب عنه، فقال: هذا أديب فرنسي كان يشغل منصب أستاذ اللغة العربية والتاريخ الإسلامي بجامعة باريس، وشغل منصب رئيس (مؤسسة الدراسات الإسلامية في داكار)… وله عدة مؤلفات منها: كتاب (الإرهاب الصهيوني)، و(المسلمون في الاتحاد السوفيتي)، و(الإسلام في إفريقيا السوداء)، و(مفاتيح الفكر العربي)، كما قد قام بترجمة ابن خلدون إلى الفرنسية، وقد أسلم وتسمى بـ (المنصور بالله الشافعي)
وقد تشرفت بالالتقاء به والحديث معه عن سبب اختياره الإسلام، فقال: لقد اخترت الإسلام ديناً، ألقى به وجه ربي لأسباب شتى، منها الأسباب الدينية، والأسباب الأخلاقية، والاجتماعية، والثقافية والعاطفية.
ثم استطرد في تفصيل ما أجمله قائلا: لقد اخترتُ دين الفطرة، وهو الإسلام، وكنت فيما مضى كاثوليكيّاً.. وفي الكاثوليكية أمور كثيرة لم أقتنع بها، ولم أفهمها، مثل كرسي الاعتراف، والوسيط لدى الإله، فضلاً عن اعتمادها على أسرارٍ، وقربان، وغير ذلك من أمور لم أستطع الإيمان بها.. في حين أن دين الإسلام برئ من هذا كله، فيكفي المسلم أن يتوجه إلى ربه مباشرة بدون وسيط، وبدون كرسي اعتراف، فيستجيب الله دعاءه.
لقد كانوا يُعلمونني كما يُعلمون غيري أن عيسى إله ابن إله، وكانوا يزعمون أن محمداً ليس نبيّاً، وبالتالي ينكرون الإسلام.. ثم حدث أن وقع بين يدي ـ لأول مرة في حياتي ـ ترجمة لمعاني القرآن الكريم، واستوقفتني معاني كلماته، مثل:{ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } (الإخلاص)
واسَتَوقَفَني قول الله تعالى:{ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (الروم:30)
كما أذكر أني قرأت حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، شعرت تجاهه بأن الإسلام دين الفطرة بحق، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل مولود يُولَدُ على الفِطْرة، فأبواه يُهَوّدِانه أو يُنَصّرِانه، أو يُمَجّسَانِهِ)
ولذلك كله آمنت برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصداقيتها، مثلما آمنتُ تماماً بوحدانية الله.. إن محمداً رسول الله حقاً.. والقرآن الكريم مُوحىً به من عند الله وليس من إنشاء محمد أو صُنعه… ورسالته السماوية السمحاء ليست مقصورة على العرب.. وإنما هي للناس كافة.
لقد رأيت في الإسلام تسامحاً مدهشاً، والأخلاق الرفيعة هدف كل مسلم.. كما رأيت رفضاً للرهبنة التي تجافي طبيعة الإنسان البشرية، فالإسلام يحفظ للإنسان إنسانيته، فيمنع عليه الرهبنة، ويدفعه إلى التمتع بالحياة وطيباتها، ما لم تتعارض المتعة مع تعاليم الله تعالى، كما قال تعالى:{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }(الحج:78)
سكت قليلا، وقد بدت على وجهه قسمات ألم لم يستطع كتمها، ثم قال: أعداء الإسلام يَدَّعُون أن المسلمين لا يرضون من غيرهم إلا أن يكونوا مسلمين، فإذا لم يكونوا مسلمين أشهروا عليهم سيف الجهاد.. في حين أنهم لو عقلوا ذلك جيداً لعلموا أن الجهاد الإسلامي مفروض، ولكن من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
إنهم يتهمون الإسلام بالقسوة المفرطة، مع أن الإسلام دين السلام، والتسامح، والعفو، والمغفرة… لقد تناسى هؤلاء كل العقوبات النصرانية فيما مضى، والتي أفرطت في القسوة، والتعذيب الذي وصل إلى حد الإحراق، وفصل أجزاء الجسد، فضلاً عن كثرة حالات الإعدام، وهو ما لم يشهده الإسلام في تاريخه.
كما أنهم يتهمون الإسلام بظاهرة الرَقّ التي وُجِدَتْ قبل الإسلام وليس بعده، بل حين انتشر الإسلام وطُبقت تعاليمه كان يسعى لإلغاء الرّق، بل إن كثيراً من الكفَّارات للذنوب التي يقدم عليها المرء هو تحرير الرقاب الذي عَدَّه الإسلام تقرباً وطاعة لله.
ثم يحاولون الإساءة إلى الإسلام من زاوية تعدد الزوجات، ولو عقلوا لوَجَدُوا أنه وأن سمح حقّاً بذلك، فإنه في الوقت ذاته وضع شروطاً دقيقة أساسها العدل المطلق، والمعاملة الطيبة، كما نظر إلى النساء التي حالت ظروفهن دون الزواج، أو لمرض الزوجة، أو لأسباب أخرى.
إن الإسلام بعظمته وعمقه، وبنقائه ورقُيه، وبتسامحه ودعوته لكرامة الإنسان في كل زمان ومكان لن يستطيع أحدٌ أن ينال منه.. لأن الإسلام في ذاته قوي.. وتعاليمه تدعو إلى القوة بعدم ارتكاب المعاصي والذنوب التي تضعف القوة، مثل الزّنَى، وشُرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، وغير ذلك مما يحرمه الدين الحنيف.
ثم انفرجت أساريره عن ابتسامة عذبة، وقال:
لهذا اخترت الإسلام.. من أجل أن أشعر بالراحة في رحابه وظلاله.. نعم، اعتنقتُ
الإسلام لأشعر وأدرك أنني اعتنقت ديناً لا يفصل بين البدن والروح، بين النفس
والجسد.. يكفيني أن الإسلام دين نقي، يدفع إلى الأخلاق والتحلي بها، وإلى الكرامة
الإنسانية والتمسك بها، من أجل ذلك شهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده
ورسوله.. وعلى ذلك ألقى ربي.
([1]) رواه أحمد.. فهم البعض هذه النصوص فهما خاطئا، فراحوا يذمون الشعر ذما مطلقا، حتى حكي عن بعض الزهاد أنه كان لا يتمثل ببيت شعر، ولما سئل عن ذلك قال: لا أحب أن أرى في صحيفتي يوم القيامة بيت شعر!
وهم يستدلون لهذا بأحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها (مَنْ قرض بيت شعر بعد العشاء لم تُقْبَلْ له صلاة تلك الليلة)، وقد قال ابن كثير في تخريجه: وهذا حديث غريب من هذا الوجه، لم يَرْوِهِ أحد من أصحاب الكتب الستة.
أما الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذم الشعر: ( لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير له من أن يمتلئ شعرا) رواه البخاري في باب الأدب، ومسلم في باب الشعر.. فقد حمل على الشعر المشتمل على الفحش، أو على الوعيد على ما إذا غَلَبَ عليه الشعر، وملك نفسه؛ حتى اشتغل به عن القرآن والفقه في الدين ونحوهما؛ ولذلك ذكر الامتلاء.
ويدل لهذا ما ذكره من لفظ (الامتلاء) الذي يعني أن يشغل المالئ بشيء جميع أجزائه؛ حتى لا يكون فيها فضل لغيره.
وأورد مصطفى صادق الرافعي في كتابه (إعجاز القرآن) قولا نسبه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو: لما نشأت.. بُغِّضَتْ إِلَيَّ الأوثان، وبُغِّضَ إِلَيَّ الشعر.. وهو قول لا أصل له، ولا سند بدليل ماورد من سماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للشعر ومحبته له في مواضع كثيرة، فقد أخرج البخاري في (الأدب المفرد) عن عمر بن الشريد عن أبيه أنه قال: استنشدني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت، فأنشدته؛ حتى أنشدته مائة قافية.
وقد ذكر الشيخ عبد القاهر الجرجاني ثلاثة وجوه لذم الشعر؛ وهي:
الأول: أن يُذَمَّ الشعر من حيث المضمون. أي: من حيث ما يتضمنه من فُحش ونُبوٍّ عما تقتضيه الأخلاق.
الثاني: أن يُذَمَّ من حيث الوزن والقافية. وهذه ناحية صناعية.
الثالث: أن يُذَمَّ لاعتبارات تتصل بالشاعر.
ونحن في هذا الفصل كما في سائر الرسائل لا نعتبر إلا الأول، باعتبار الثاني يرجع إلى الصناعة، والثاني يرجع إلى شخصية الشاعر، لا إلى ما قاله، والمؤمن يستفيد الحكمة ولا يهمه من أي وعاء خرجت.
([2]) رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، من رواية ابن إسحاق، وقد شكك في صحة هذه الرواية باعتبار السورة مكية، وهؤلاء كانوا في المدينة، ومنهم من تأخر إسلامه، ولكن هذا ومثله لا يحمل على سبب النزول وإنما يحمل على التفسير، فهؤلاء الصحابة الشعراء طبقوا على أنفسهم المعنى السلبي للآيات، فصحح لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك.
([3]) رواه أحمد.
([4]) رواه أبو يعلي.
([5]) رواه ابن سعد.
([6]) رواه أبو داود.
([7]) هذه القصيدة والقصائد التالية من روابة ابن إسحق في سيرة ابن هشام.
([8]) من رواته الحافظ أبو نعيم الاصبهاني المتوفى 430 أخرجه في كتابه – ما نزل من القرآن في علي ج 1 ص 232 وفيه: فقال حسان: إئذن لي يا رسول الله؟ أن أقول في علي أبياتا تسمعهن. فقال: قل على بركة الله. فقام حسان فقال: يا معشر مشيخة قريش؟ أتبعها قولي بشهادة من رسول الله في الولاية ماضية.. وقد كتب العلامة الشيخ عبد الحسين الأميني في ذلك كتابا بعنوان: حسّان بن ثابت وشعره في الغدير.
([9]) ترك البوصيري عددًا كبيرًا من القصائد والأشعار ضمّها ديوانه الشعري الذي حققه محمد سيد كيلاني، وطُبع بالقاهرة سنة (1374 هـ= 1955م)، وقصيدته الشهيرة البردة (الكواكب الدرية في مدح خير البرية)، والقصيدة (المضرية في مدح خير البرية)، والقصيدة (الخمرية)، وقصيدة (ذخر المعاد)، ولامية في الرد على اليهود والنصارى بعنوان: (المخرج والمردود على النصارى واليهود)، وقد نشرها الشيخ أحمد فهمي محمد بالقاهرة سنة (1372 هـ= 1953م)، وله أيضا (تهذيب الألفاظ العامية)، وقد طبع كذلك بالقاهرة.. وقد تُوفِّي البوصيري بالإسكندرية سنة (695 هـ= 1295م) عن عمر بلغ 87 عامًا.
([10]) هذا في الشفاعة العظمى.
([11]) ذكرنا أسرار الشفاعة، وعلاقتها بالتوحيد والعدالة والحكمة في رسالة (أسرار الأقدار) من هذه السلسلة.
([12]) ننقل بعض القصيدة هنا بتصرف.
([13]) انظر رسالة (ثمار من شجرة النبوة) فصل (حضارة)
([14]) انظر: صحيفة الاتحاد التي تصدر في الإمارات العربية المتحدة، الصادرة في العاشر من نوفمبر 1989 (بتصرف)، والجانب الخفي وراء إسلام هؤلاء، محمد كامل عبدالصمد.