ثالثا ـ استكبار

في مساء اليوم الثالث.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل (روبرتو كالديرولي)([1]).. الرجل الذي احترق في أتون الشيوعية إلى أن ذاب فيها، وذابت فيه.. فصار وكأنه يمثلها، وصارت وكأنها تمثله.. ولكنه جاء بغير الصورة التي ذهب بها.
لقد رأيته عندما ذهب صباحا إلى ميدان الحرية نشيطا، يختال في مشيته جذلا، وكأنه يحمل المدفع الذي يقضي به على ما عجز غيره أن يقضي عليه.
وكان يسير، وهو يردد الآيات التي يريد أن يلقي بقنابلها على الجمع.. ويحفظ معها الروايات التي تقضي على ما تبقي.
لقد ذهب بذلك النشاط في الصباح.. ولكنه عاد خائر القوى في مساء ذلك اليوم.. فابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟
نظر إليهم بابتسامة ذابلة، وقال: ربما.. طبعا.. لولا ذلك الرجل الذي يدعونه حكيما لكانت كل النتائج إيجابية.. لكن.. مع ذلك.. لا يمكن.. حتما.
وضع رجل من الجماعة يده على رأس روبرتو، فوجد الحمى بدأت تتسرب إليه، فالتفت إلى الجماعة، وقال: لا ينفع استجواب صاحبنا، فقد دبت إليه حمى شديدة.. ولن نسمع من محموم إلى الهذيان.
أخذ أخي القرص.. ووضعه في القارئ.. وبدأ شريط الأحداث:
رأينا روبرتو يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: هل تعرفون محمدا؟
قال رجل من الجمع: وكيف لا نعرفه؟.. ومن لا يعرفه؟
وقال آخر: إن كان لديك حديث عنه، فحدثنا، فلا تحلو المجالس إلا بذكره، ولا تتعطر الأيام إلا بذكراه.
هنا صاح روبرتو كالثور الهائج قائلا: كيف تقولون هذا؟.. إن محمدا هذا الذي سلب عقولكم لا يعدو أن يكون مستكبرا من المستكبرين العظام الذين تشوه بهم تاريخ الإنسانية.. إنه عدو الفقراء والمستضعفين.. إنه ذلك البرجوازي الذي أراد أن تظل البروليتاريا تقدم خدماتها للرأسماليين النفعيين.. إنه الذي سقى المستضعفين الأفيون الذي تخدروا به، فانمحوا أمام المستكبرين.
ظهر الغضب على كثير من أفراد الجماعة، لكنهم لم يجدوا أن يفعلوا شيئا، فهذا الميدان يسمح لكل أحد أن يقول ما يشاء، ويعتبر مجرما كل من مس أحدا بأذى من أجل فكرة يطرحها.
هنا ظهر الحكيم، وصاح من بعيد في زميلنا (روبرتو) قائلا: لقد طرحت دعاوى عريضة.. ربما لم تسبق إليها.. ونحن نحترم دعاواك ولا نتهمك فيها.. ولكنا لن نقبلها منك حتى تعطينا من البينات ما يدل عليها فـ:
الدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء
لم يعجب روبرتو الأسلوب الذي تحدث به الحكيم، فقد كان يحب الثورة، ولم يكن يعرف الانتصار إلا بالثورة، لكنه قال بهدوء متكلف: نعم.. لدي بينات.. وبينات كثيرة لا يمكن لهذا الجمع أن يستوعبها.
وسأبدأ من القرآن نفسه.. فخير من عرف بمحمد هو القرآن..
لقد جاء فيه هذا العتاب الشديد على ميل محمد إلى المستكبرين وهجره للمستضعفين:{ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس:1 ـ 10)
فهذه الآيات تتحدث عن قصة محمد مع ابن أم مكتوم، وقد ذكر المفسرون أن محمدا كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم، وكان ممن أسلم قديماً، فجعل يسأل محمدا عن شيء ويلح عليه.. ولم يجد محمد إلا أن يعرض عنه.. أن يعرض عن ذلك المستضعف ليقبل على غيره من المستكبرين([2]).
أليس في هذا أعظم دليل على استكبار محمد؟
قال الحكيم: أرأيت لو كنت في ذلك الموقف ماذا كنت ستصنع؟
قال روبرتو: لا شك أني أقبل على المستضعف.. وأصفع ذلك المستكبر.
قال الحكيم: ألا ترى أنك ـ بذلك ـ تمارس عنصرية مقيتة؟
قال روبرتو: عندما أميل إلى المستكبر تكون العنصرية.. لا عند ميلي للمستضعف.
قال الحكيم: كلاهما سواء.. المستكبر والمستضعف كلاهما بشر.. وكلاهما يحتاج إلى التعرف على الحق.. بل إن حاجة المستكبر أشد، فقد يكون الحائل بينه وبين الحق شبهة أو شهوة أو جهل.. وإقبالك عليه قد يداويه من كل ذلك.
قال روبرتو: ولكني لن أفعل أبدا مثل محمد.. لن أترك المستضعف من أجل المستكبر.
قال الحكيم: إن محمدا لم يترك المستضعف.. وإنما طمع في المستكبر.
لقد كان يعلم أن المستضعف من أتباعه، وأنه ـ لذلك ـ يمكنه أن يتعلم منه في أي وقت.. أما المستكبر، فلم يكن من أتباعه، ولذلك لا مطمع في سماعه منه إلا الفينة بعد الفينة.
قال روبرتو: فلم عاتب ربكم محمدا إذن؟
قال الحكيم: العتاب الموجه لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم – في حال صحة ما رويت- هو في حقيقته توبيخ لذلك المستكبر.. فهو توبيخ لبس لباس عتاب.. ولم يكن العتاب مقصودا لذاته.
قال روبرتو: لم أفهم.
قال الحكيم: أرأيت لو أنك جلست مع أحمق تريد أن تقنعه بشيء، وهو يجادلك فيه.. فجاءك صديق، وقال لك ـ وذلك الأحمق يسمع ـ:(لم تضيع وقتك في الحديث مع مثل هذا.. إن الحديث مع هذا مضيعة للوقت).. هل ترى في كلامه عتابا لك، أم تراه توبيخا لذلك الأحمق؟
قال روبرتو: أرى فيه كليهما.
قال الحكيم: ولكن العتاب الموجه إليك في هذا عتاب منطلق من محب لك.. أم أنك تخالفني في هذا؟
قال روبرتو: أجل.. ذلك صحيح.. فلولا محبته لي ما نهاني عن تضييع وقت مع من لا يجدي معه حديثي شيئا.
قال الحكيم: فهكذا قس الأمر على حال محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع ذلك المستكبر.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم امرؤ امتلأ محبة لخلق الله وحرصا عليهم.. فلذلك لم يكن يحمل أي حقد على أي أحد من الناس مستكبرا أو مستضعفا.. بل كان يبلغ الكل.. ويحرص على الكل..
لقد قال له ربه يعاتبه على ذلك الحرص الشديد على إيمان الخلق:{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6)، وقال:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3)
ونهاه أن يحزن على إعراضهم، فقال تعالى:{ وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:176)، وقال:{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:41)، وقال:{ وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (لقمان:23)
قال روبرتو: سلمت لك بهذا.. ولكني لن أسلم لك بأن محمدا كان في صف المستضعفين.
قال الحكيم: إن هذا يستدعي بحثا في حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومواقفه المختلفة.. وأرى أن المنهج العلمي في التحقيق في هذا يقتضي البحث في مسألتين:
أما الأولى، فالبحث في موقفه من المستضعفين.
وأما الثانية، فالبحث في نوع الحياة التي عاشها، وهل هي أقرب لحياة المستضعفين أم هي أقرب لحياة المستكبرين.
قال روبرتو: يكفيني أن تثبت الأولى.
قال الحكيم: بل الكمال في إثبات الثانية، فكم من مستكبر يدعي أنه مع المستضعفين، وهو يعيش على دمائهم وعرقهم.. وكم من مستكبر يجعل من نصرة المستضعفين أحبولة يصطاد بها القلوب والعقول ليحقق ما تمليه عليه شهواته.
قال روبرتو: ليس الشأن أن نعرف القوانين.. ولكن الشأن في أن نثبتها.
قال الحكيم: فاصبر علي حتى أثبت لك كل ذلك([3]).
قال روبرتو: فابدأ بإثبات الدعوى الأولى.
قال الحكيم: أول ما يثبت الدعوى الأولى هو ما ذكرت من عتاب الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من أجل ذلك الأعمى.. ألا ترى في إنزال عشر آيات قرآنية من أجل رجل بسيط فقير أعمى قلاه الناس وهجروه ما يدلك على عظم المكانة التي يحتلها الفقراء والمستضعفون في هذا الدين؟
سكت روبرتو، فقال الحكيم: ومثل ذلك ما روي أن المشركين عز عليهم أن يكون عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضعفاء الناس وفقراءهم، فقالوا: لو نحاهم لأتيناه فأنزل الله تعالى قوله:{ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:52)
ومثل ذلك ما ورد من الأمر بالصبر مع هؤلاء المستضعفين مع طيب الثناء عليهم، قال تعالى:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28)
ثم بعد هذا.. اذهب لتقرأ القرآن.. وقد كان خلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو القرآن.. فلن تجد فيه إلا الأمر بالإحسان للمستضعفين والدعوة إلى رحمتهم، وبيان العذاب الأليم لمن قسى عليهم.
اقرأ في القرآن قوله تعالى وهو يحث على الجهاد والتضحية بالنفس في سبيل نصرة المستضعفين:{ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75)
واقرأ فيه تلك الوصايا المتكررة بالمستضعفين، قال تعالى:{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} (النساء:127)، وقال تعالى:{ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (الاسراء:34)
واقرأ فيه تلك الوصايا الرقيقة باليتامى قال تعالى:{ كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} (الفجر:17)، وقال تعالى:{ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} (الضحى:9)
بل إن القرآن الكريم اعتبر من يؤذي اليتيم مكذبا بالدين، قال تعالى:{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)} (الماعون)
فإن لم يكفك كل هذا، فاذهب إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف حضت على الإحسان للمستضعفين وكفالة جميع ما يرتبط بهم من حاجات بدءا بالحاجات النفسية، وانتهاء بجميع الحاجات المادية.
قال أبو ذر:(أوصاني خليلي صلى الله عليه وآله وسلم أن أنظر إلى من هو أسفل مني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أحب المساكين وأن أدنو منهم، وأن أصل رحمي وإن قطعوني وجفوني، وأن أقول الحق وإن كان مرا، وأن لا أخاف في الله لومة لائم، وأن لا أسأل أحدا شيئا، وأن أستكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله، فانها من كنز الجنة)([4])
وعنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(انظر أرفع رجل في المسجد)، قال: فنظرت فإذا رجل عليه حلة قلت: هذا قال: قال لي: انظر أوضع رجل في المسجد، قال: فنظرت، فإذا رجل عليه أخلاق قال: قلت: هذا قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لهذا عند الله خير يوم القيامة من ملء الأرض مثل هذا)([5])
وعن مصعب بن سعد قال رأى سعد أن له فضلا على من دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)([6])
وعن واثلة بن الأسقع قال: كنت في أصحاب الصفة فلقد رأيتنا وما منا إنسان عليه ثوب تام وأخذ العرق في جلودنا طرقا من الغبار والوسخ إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ليبشر فقراء المهاجرين، إذ أقبل رجل عليه شارة حسنة، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يتكلم بكلام إلا كلفته نفسه أن يأتي بكلام يعلو كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما انصرف قال:(إن الله عز وجل لا يحب هذا وضربه، يلوون ألسنتهم للناس لي البقر بلسانها المرعى كذلك يلوي الله عز وجل ألسنتهم ووجوههم في النار)([7])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)([8])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن من أمتي من لو جاء أحدكم يسأله دينارا لم يعطه ولو سأله درهما لم يعطه ولو سأله فلسا لم يعطه فلو سأل الله الجنة أعطاها إياه ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره)([9])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك)، ثم نقر بيده، فقال:(عجلت منيته قلت بواكيه قل تراثه)([10])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار)([11])
التفت الحكيم إلى روبرتو، وقال: إن كل هذه النصوص ملأت نفوس المستضعفين قوة، فلم يعودوا يشعرون بتلك المهانة ولا ذلك الاحتقار الذي نفخه فيهم فقرهم، أو القوانين والأعراف التي وضعها المستكبرون والتي كانت تعتبر الفقر بلاء وإهانة من الله لعباده.
قال روبرتو: ولكن المعنويات المرتفعة لا تكفي وحدها لإشباع بطون المستضعفين الخاوية؟
قال الحكيم: ولذلك ورد في النصوص الحث ـ بكل الأساليب ـ على إطعام المستضعفين.. لقد ذم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل طعام لا يحضره مسكين، فقال:(شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها)([12])
أما القرآن، فقد حفل بالدعوة إلى إعطاء { ِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ((لأنفال:41) وغيرهم من أصناف المستضعفين.
ففي أموال الفيئ يقرن المستضعفون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقرابته، قال تعالى:{ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ((الحشر:7)
ويخبر تعالى أن من شروط مجاوزة العقبة التي تحول بين الإنسان وفضل الله الإحسان إلى اليتامى، قال تعالى:{ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة} (البلد:11 ـ 15)
بل إن الله تعالى ـ من باب الحث على الاتصاف بصفات الله والتخلق بأخلاقه ـ يخبرنا عن إيوائه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يتيما، قال تعالى:{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى((الضحى:6)
أما من السنة، فقد وردت النصوص الكثيرة التي تعتبر الإحسان إلى اليتامى من خير أعمال البر، فخير بيوت المسلمين بيت يكفل يتيما، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه)([13])
بل إن المسح على رأس اليتيم عطفا وحنانا ورحمة يكتب لصاحبه بكل شعرة حسنة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كانت له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات)([14])، بل إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يخبر بأن الساعي عليهم كالمجاهد والقائم، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله تعالى وأحسبه قال وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر)([15])
وأول جزاء يجازى به المحسن لليتيم أنه في حال إحسانه يبتعد عنه الشيطان، وبابتعاده تحل البركة، وينزل الخير، كما روي:(ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم الشيطان)([16])
ومن الجزاء الذي يجازى به المحسن المغفرة، هي من أعظم الجزاء، وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم ما أعده الله لكافل اليتيم منها، فقال:(من ضم يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر، ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه)([17])
وفي حديث آخر أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الله لا يعذب من رحم اليتيم، وفيه دلالة على مغفرة ذنوبه، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(والذي بعثني بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم ولان له في الكلام ورحم يتمه وضعفه ، ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه الله)([18])
وأخبرت النصوص أن جزاء المحسن لا يتوقف عند ذلك الحد، بل إن الإحسان إلى اليتيم لا يزال بصاحبه حتى يدخله الجنة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( من قبض يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة ألبتة إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر له)([19])، وفي رواية: (حتى يستغني عنه وجبت له الجنة ألبتة)
بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن المحسنين إلى اليتامى من أول من يدخلون الجنة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أنا أول من يفتح باب الجنة إلا أني أرى امرأة تبادرني ، فأقول ما لك ومن أنت؟ تقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي)([20])
وفي القرآن الكريم إشارة إلى هذا الجزاء في قوله تعالى:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً((الانسان:8)، فقد ذكر قبل هذه الآية الجزاء المعد هؤلاء، وهو من أعظم الجزاء، قال تعالى:{ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً((الانسان:5 ـ 6)
بل ورد في النصوص ما هو أعظم من ذلك كله، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن كافل اليتيم رفيقه في الجنة بصيغ مختلفة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى وفرج بينهما)([21])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة) وأشار بالسبابة والوسطى([22])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(من كفل يتيما له ذو قرابة أو لا قرابة له فأنا وهو في الجنة كهاتين وضم إصبعيه، ومن سعى على ثلاث بنات فهو في الجنة ، وكان له كأجر المجاهد في سبيل الله صائما قائما)([23])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله وصام نهاره وغدا وراح شاهرا سيفه في سبيل الله وكنت أنا وهو في الجنة أخوان ، كما أن هاتين أختان ، وألصق إصبعيه السبابة والوسطى)([24])
والشريعة الإسلامية لم تترك كل ذلك لضمائر الناس، وإنما شرعت التشريعات الكثيرة التي تكفل التكافل الاجتماعي في أرفع صوره وأرقى أساليبه مما لم يصل إليه البشر في أي حضارة من الحضارات([25]).
قال رجل من الجمع: لقد أثبت الدعوى الأولى، فأثبت الثانية.
قال الحكيم: كل شيء في الأولى يدلك على الثانية.. فالرجل الذي دافع كل ذلك الدفاع عن المستضعفين.. بل لم يقم في العالم من يدعو لدولة المستضعفين كمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لم يكن في حياته يعيش إلا كواحد منهم.
لقد امتلأ بالعبودية التي قربته من كل الناس، فقيرهم وضعيفهم ومسكينهم ومريضهم.. وكل من هجره الناس وجد في محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصدر الحنون الذي يستقبله ويرعاه ويملؤه بالأنس.
لقد خير صلى الله عليه وآله وسلم بين حياة الكبراء الملوك، وبين حياة العبودية، فاختار حياة العبودية:
روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما هو جالس، ومعه جبريل u، إذ انشق أفق السماء، فأقبل جبريل يدنو من الأرض، ويدخل بعضه في بعض، ويتضاءل، فإذا ملك قد مثل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ([26])، فقال: (السلام عليك يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، أنا رسول ربك إليك، أمرني أن أخيرك: إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا)، فنطرت إلى جبريل u كالمستشير، فأشار إلي جبريل بيده، أن تواضع، فقلت، (بل نبيا عبدا)
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة بعد أن أخبرها هذا الحديث:(يا عائشة لو قلت: نبيا ملكا، ثم شئت لسارت معي الجبال ذهبا)، قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك يأكل متكئا ويقول: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد) ([27])
وقد عرفه الناس بهذا المظهر الممتلئ بالعبودية، عن حمزة بن عبيد الله بن عتبة قال: كانت في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصال ليست في الجبارين، كان لا يدعوه أحمر، ولا أسود، إلا أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى فيه، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان يركب الحمار عريا، ليس عليه شئ([28]).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم لأجل الظهور بهذا المظهر الذي يقربه من الكل يتعمد على أن يتميز عن المستضعفين بأي شيء يجعله يهابونه:
ففي الوقت الذي يحرص فيه المستكبرون على تخير المراكب وتزيينها لبث المهابة في القلوب ([29]) كان صلى الله عليه وآله وسلم يركب أبسط المراكب.. والتي يستحيل على المستعلين أن يركبوها:
عن أبي ذر قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمارا وأردفني خلفه([30]).
وعن يزيد الرقاشي قال: حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم، وقال: (اللهم حجة مبرورة، لا رياء فيها، ولا سمعة)([31])
وعن أنس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقود راحلته، ويمشي هنيهة([32]).
وعن أبي المثنى الأملوكي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن قبله من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ يمشون على العصا، يتوكئون عليها، تواضعا لله عز وجل([33]).
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار، ويردف بعده، ويجيب دعوة المملوك([34]).
وعن أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويعقل الشاة، ويأتي مدعاة الضعيف([35]).
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار، ويعود المريض، ويشهد الجنازة، ويأتي دعوة المملوك، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف، على إكاف من ليف([36]).
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة، وذقنه على رحله متخشعا([37]).
وعنه قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة استشرفه الناس، فوضع رأسه على رحله متخشعا([38]).
وروي أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحمار، وهو يمشي، فقال له: اركب يا رسول الله، فقال:(إن صاحب الدابة أحق بصدر دابته، إلا أن يجعل له)، قال: قد فعلت([39]).
وفي الوقت الذي يحرص فيه المستكبرون على أجمل الثياب وأغلاها كان صلى الله عليه وآله وسلم يتخير أبسطها، وأقربها إلى ثياب الفقراء:
عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد عقد عباءة بين كتفيه فلقيه أعرابي فقال: لم لبست هذا يا رسول الله؟ فقال: (ويحك، إنما لبست هذا لأقمع به الكبر)([40])
وروى عن عبد الرحمن بن جبر الخزاعي قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشي مع أصحابه إذ أخذ رجل منهم، فستره بثوب فلما رأى ما عليه، رفع رأسه، فإذا هو علاه قبلي ستر، فقال: (مه)، فأخذ الثوب، فوضعه، وقال: (إنما أنا بشر مثلكم)([41])
وفي الوقت الذي يتخبر فيه المتكبرون جلساءهم وندماءهم كان صلى الله عليه وآله وسلم يجلس مع المستضعفين من الفقراء والمرضى الذين قلاهم الناس:
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد مجذوم، فأدخله معه في القصعة، ثم قال له: (كل باسم الله، وثقة بالله، وتوكلا عليه)([42])
وعن عبد الله بن أبى أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف، ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي لهما حاجتهما([43]).
وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يستنكف أن يمشي مع الضعيف، والأرملة، فيفرغ لهم من حاجاتهم([44]).
عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلم رجلا فأرعد، فقال: (هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديدة)([45])
وعن أنس قال: كانت امرأة في عقلها شئ قالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(يا أم فلان انظري أي الطرق شئت أقضي لك حاجتك، فقام معها يناجيها، حتى قضت حاجتها([46]).
وعن عدي بن حاتم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا عنده امرأة وصبيان، أو صبي، فذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فعرفت أنه ليس ملك كسرى وقيصر([47]).
وعن أنس قال: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجئ فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة الحاجة([48]).
وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أخبره أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمرضها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود المساكين، ويسأل عنهم ([49]).
وعندما لاحظ العباس ما يلاقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك قال له: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم)([50])
وفي الوقت الذي تقام فيه للمستكبرين الموائد الضخمة كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض ببساطة وتواضع.
عن عبد الله بن عمرو قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل متكئا، ولا يطأ عقبه رجلان([51]).
وعن ابن عباس، وأنس قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك، زاد أنس: ويقول: (لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت)([52])
وعن الحسن قال: والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده([53]).
وعن عبد الله بن بسر قال: أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاة فجثا على ركبتيه، فأكل، فقال أعرابي: يا رسول الله ما هذه الجلسة؟ فقال:(إن الله عزوجل جعلني عبدا كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا)([54])
وفي الوقت الذي يجلس فيه المستكبرون لينحني المستضعفون بالسلام عليهم كان صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ من لقيه بالسلام:
عن هند بن أبي هالة وعن أمه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ من لقيه بالسلام ([55]).
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر على صبيان، فسلم عليهم([56]).
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استقبله الرجل وصافحه، لا ينزع يده من يده، حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه، حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له([57]).
وعن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد أبي رداً خفياً، فقلت لأبي: ألا تأذن لرسول الله، فقال: زده حتى يكثر علينا من السلام فقال صلى الله عليه وآله وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع فاتبعه سعد فقال: يا رسول الله! إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام، فانصرف معه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر له سعد بغسل فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران فاشتمل بها ثم رفع يديه وهو يقول:(اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد)([58])
وفي الوقت الذي يتخذ فيه المستكبرون أصناف الخدم والحشم كان صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بيده:
عن يعقوب بن يزيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبع غبار المسجد بجريدة([59]).
وعن أبي سعيد وغيره من الصحابة قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغلام يسلخ شاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(تنح حتى أريك، فإني لا أراك تحسن تسلخ)، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده بين الجلد واللحم، فدخس بها حتى ترادت إلى الإبط، ثم قال:(يا غلام هكذا فاسلخ)([60])
وعن حسنة بن خالد وسواء بن خالد أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعالج حائطا، أو بناء له([61]).
وعن ابنة خباب أنها أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشاة فاعتقها فحلبها، وقال:(ائتني بأعظم إناء لكم)، فأتيناه بجفنة العجين، فحلب فيها حتى ملأها، قال:(اشربوا أنتم وجيرانكم)([62])
وعن عبد الله بن عبد العزيز العمري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهما استكفى أهله من شئ لم يكن يستكفيهم صب الوضوء لنفسه، وإعطاء المسكين بيده، ويكفيهم إجانة الثياب([63]).
***
بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد روبرتو ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..
التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.
أما أنا..
فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه
وآله وسلم.
([1]) أشير به إلى وزير الإصلاح الإيطالي المتطرف (روبرتو كالديرولي) الذي ارتدى بصورة استفزازية قمصانًا مطبوع عليها الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطوة استفزازية وتحدٍ سافر للمسلمين، بعدما دعا قبل أيام لشن ‘حملة صليبية’ ضد الإسلام.
ونقلت وكالة أنباء (أنسا) الإيطالية عن (كالديرولي) ـ عضو حزب رابطة الشمال المعادي للأجانب، وخصوصًا المسلمين ـ قوله:( لدي قميص مطبوعة عليه الرسوم التي أزعجت الإسلام، وسوف أبدأ في ارتدائها اليوم)
وأضاف الوزير المتطرف أن على الغرب أن يقف ضد من أسماهم (المتطرفين الإسلاميين)، على حد وصفه، وعرض أن يقدم القمصان لأي شخص يريدها، وزعم أن القمصان ليس المقصود بها الاستفزاز.
وواصل كالديرولي ادعاءاته قائلاً: علينا أن نضع حدًا لهذه الرواية، بأننا يمكن أن نتحدث مع هؤلاء الناس، إنهم يريدون فقط إذلال أشخاص، وهذا كل ما هنالك، وماذا نصبح الآن، حضارة الزبدة المنصهرة.
يشار إلى أن الوزير الإيطالي المتطرف والمعروف بحملاته ضد المسلمين كان قد دعا إلى استخدام القوة ضد المسلمين، وطالب بتدخل بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر لتنظيم حملة صليبية جديدة ضد الإسلام.
وحزب رابطة الشمال الذي ينتمي إليه كالديرولي معروف بمعاداتها للأجانب والمسلمين، وقد سعى لاستثمار جريمة الصحف الغربية في التطاول على محمد صلى الله عليه وآله وسلم لترويج البرنامج اليميني المتطرف للحزب، قبل شهرين من الانتخابات التشريعية في إيطاليا.
([2])اختلف المفسرون فيمَن هو المعاتب في الآيات الكريمة على رأيين:
الأول: ما ذكرناه هنا، وهو المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم، وهو أنها نزلت في عبداللّه بن اُم مكتوم، إنّه أتى رسول اللّهصلى الله عليه وآله وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب واُبي واُميّة بن خلف يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعم، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين)، فقال: يا رسول الّله، أقرئني وعلمني ممّا علمك اللّه، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنّما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآية.. وكان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي»، ويقول له: «هل لك من حاجة».استخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين)
الثاني: ما روي عن الإمام الصادق: «إنّها نزلت في رجل من بني اُميّة، كان عند النّبي، فجاء ابن اُم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك، وأنكره عليه»( تفسير مجمع البيان، ج10، ص437) وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.
وقد قال ناصر مكارم الشيرازي عن الرأي الأول: وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول، فإنّ فعل النّبيصلى الله عليه وآله وسلم والحال هذه لا يخرج من كونه (تركاً للأولى)، وهذا ما لا ينافي العصمة، وللأسباب التالية:
أوّلاً: على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش، فإنّه صلى الله عليه وآله وسلم بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق، وتحطيم صف أعدائه.
ثانياً: إنّ العبوس أو الإنبساط مع الأعمى سواء، لأنّه لا يدرك ذلك، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ «عبد اللّه بن اُم مكتوم» لم يراع آداب المجلس حينها، حيث أنّه قاطع النّبي صلى الله عليه وآله وسلم مراراً في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين، ولكن بما أنّ اللّه تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الإعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.
ويمثل هذا السياق دليلاً على عظمة شأن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى)، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم صادق فيه، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضاً) فلا داعي لإستعتاب نفسه…
ومن مكارم خلقه صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما ورد في الرواية المذكورة ـ إنّه كان يحترم عبد اللّه بن اُم مكتوم، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.
وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والإستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين (الأمثل:ج19، ص412)
([3]) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.
([4]) رواه أحمد والطبراني.
([5])رواه أحمد بأسانيد رواتها محتج بهم في الصحيح وابن حبان في صحيحه.
([6]) رواه البخاري والنسائي وعنده فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( إنما تنصر هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)
([7])رواه الطبراني بأسانيد أحدها صحيح.
([8])رواه مسلم.
([9]) رواه الطبراني ورواته محتج بهم في الصحيح.
([10]) رواه الترمذي.
([11]) رواه البخاري ومسلم.
([12]) رواه مسلم.
([13]) رواه ابن ماجه.
([14]) رواه أحمد وغيره.
([15]) رواه البخاري ومسلم.
([16]) رواه والطبراني في الأوسط وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وهناك حديث آخر قريب منه هو « ما من مائدة أعظم بركة من مائدة جلس عليها يتيم » رواه لديلمي.
([17]) رواه ابن سعد، والطبراني في الكبير.
([18])رواه الطبراني.
([19]) رواه الترمذي وصححه.
([20])رواه أبو يعلى بسند حسن.
([21])رواه البخاري.
([22])رواه مسلم.
([23])رواه البزار.
([24])رواه ابن ماجه.
([25]) انظر في تفاصيل هذا رسالتي ( كنوز الفقراء) و(مفاتيح المدائن) و(رحمة للعالمين) من هذه السلسلة.
([26])في لفظ: إن الله سبحانه تعالى أرسل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ملكا من الملائكة حجزته تساوي الكعبة، ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل u.
([27]) رواه أبو نعيم وابن عساكر من طرق عن ابن عباس موقوفا، وابن سعد عن عائشة، وأبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا.
([28]) رواه ابن سعد.
([29]) ويشير إلى ذلك قوله تعالى حكاية عن قارون:{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص:79)
([30]) رواه أحمد ومسلم.
([31]) رواه الحارث بن أبي أسامة.
([32]) رواه بقي بن مخلد.
([33]) رواه ابن الأعرابي.
([34]) رواه ابن سعد.
([35]) رواه الحاكم.
([36]) رواه الترمذي.
([37]) رواه الحاكم.
([38]) رواه أبو يعلى.
([39]) رواه الحاكم.
([40]) رواه ابن عدي.
([41]) رواه ابن أبي شيبة وعلي بن عبد القدير البغوي.
([42]) رواه أبو داود والترمذي.
([43]) رواه الدارمي.
([44]) رواه الخرائطي.
([45]) رواه ابن ماجه.
([46]) رواه أحمد ومسلم.
([47]) رواه البخاري في الأدب.
([48]) رواه أبو بكر بن أبي شيبة.
([49]) رواه أبو ذر الهروي في دلائله.
([50]) رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.
([51]) رواه أحمد، وأبو داود.
([52]) رواه أبو الشيخ عن ابن عباس، وابن سعد عن أنس.
([53]) رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر، وقال: هذا حديث مرسل، وقد جاء معناه في الأحاديث المسندة.
([54]) رواه ابن ماجه.
([55]) رواه الترمذي، وصححه، والبيهقي.
([56]) رواه البخاري.
([57]) رواه الترمذي وابن ماجه.
([58]) رواه أحمد.
([59]) رواه ابن أبي شيبة.
([60]) رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، وقاسم بن ثابت، والطبراني.
([61]) رواه البخاري في الأدب المفرد.
([62]) رواه أبو داود الطيالسي.
([63]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.