تاسعا ـ فنون

تاسعا ـ فنون

في اليوم التاسع من تلك الأيام العشرة المباركة، التقيت المستشرق الذي قطفت على يده ثمرة الفنون من شجرة النبوة..

وهي الثمرة التي عرفت بها سر قوله تعالى في التنبيه إلى الجمال الذي اشتملت عليه السماء:{ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (قّ:6).. { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} (الحجر:16)

وقوله في التنبيه على الجمال الذي اشتملت عليه الأرض:{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (قّ:7)

وقوله في التنبيه على جمال حدائق الأرض:{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل:60).. { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام:99)

وقوله في التنبيه على الجمال الذي جعله الله في الأنعام:{ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (النحل:6)..{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (النحل:8)

وقوله في الجمال الذي جعله الله في البحر:{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل:14)

وقوله في التنبيه على جمال الإنسان:{ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} (غافر:64).. { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (التغابن:3)..:{ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (الانفطار:7)

وقوله في الحض على أخذ الزينة والاهتمام بالجمال:{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (لأعراف:31)

وفوق ذلك كله قوله تعالى وهو يصف جمال أفعاله ودقة صنعه:{ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل:88).. { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} (السجدة:7)

وعرفت به سر نصوص أخرى كثيرة توجه الأبصار والأسماع وجميع وسائل الإحساس والإدراك إلى النظر إلى الجمال المبثوث في الأشياء وتذوقه وشكر الله عليه..

وهذا ما يجعل من كل مسلم فنانا ذواقة ممتلئا بالأحاسيس الجميلة التي يعبر عنها بأجمل قصائد مديح ربه وحمده.

***

كان من ضمن الأسماء التي وضعت في دفتر المرشد اسم (سير هاملتون جيب)([1])، ولم أكن أعرفه، ولكني كنت أسمع بحبه للأدب العربي وللفنون الإسلامية.. ولم أكن أدري سر ذلك إلى أن التقيته في ذلك اليوم المبارك.. فعلمت سر ذلك الحب.

في ذلك اليوم من أيام الربيع، خرجت إلى منتزه من المنتزهات الطبيعية التي لم تمتد إليها بعد يد الإنسان.. وقد احترت إذ رأيت المنتزه خاليا، وكأن الجماهير زهدت في الطبيعة العذراء، فراحت تبحث عن الطبيعة التي تلاعبت بها يد الصناع.

لكني رأيت رجلا مستلقيا على عشب ذلك المنتزه، وهو يترنم بشعر عربي فصيح، يتغنى به، ويكاد جسمه يرقص مع ترنيماته.

لم أشأ أن أكدر عليه صفوه، ولكني في نفس الوقت كنت مشتاقا أن أحدثه، فقد ناسب ذوقه ذوقي وسلوكه سلوكي.. فأنا أحب الشعر، وأتذوقه كما لا أتذوق أي فن من الفنون، وخاصة إذا امتزج مع الألحان الطيبة التي تحيله نغمات روحية رفيعة.

استلقيت مثل استلقاءته.. غير بعيد عنه.. ورحت أترنم بقول علي بن أبي طالب:

ليس الجمال بأثوابٍ تزينُنا    إِن الجمالَ جمالُ العقلِ والأدبِ

فانتفض الرجل من مكانه، وأسرع يحث الخطا إلي، وقال: أعد علي ما كنت تقرأ.

أعدت عليه البيت، لكن بقراءة سريعة له..

قال:  لا.. أعده كما كنت تقرؤه.. فلا ينبغي أن يهان الشعر هكذا.

أعدت قراءته كما طلب مني، فقال: أرأيت.. هذا هو الأدب.. وهذا هو الفن.. وهذا هو الذوق الرفيع الذي يرفع الإنسان إلى الإنسان.

قلت: أراك مهتما بالأدب العربي.. ألك علاقة بالعرب؟.. أم أنك عربي؟

قال: أنا لم يجذبني إلى هذا الأدب كونه عربيا؟

قلت: فما الذي جذبك إليه؟

قال: أنا رجل أحب الفنون الرفيعة، وأشعر أن إنسانية الإنسانية لا تكتمل إلا بالفن الرفيع الذي ينمي ذوقه، ويصقل مداركه، ويحيله طائرا جميلا يحلق في سماء الكون.

قلت: ما دمت بهذه الصورة.. فارحل إلى أمريكا.. ففيها بلدة يقال لها (هوليود) تنتج في كل يوم من أنواع الفنون ما أنتجته البشرية في عمرها جميعا.

قال: قد عرفت تلك البلدة.. وسكنت فيها.. وامتلأت بالغثاء منها ومن أهلها ومن فنها.

قلت: فاذهب إذن إلى المتاحف العالمية.. هنا في باريس واحد منها.. اذهب وانظر إلى تلك اللوحات الزيتية التي تباع بملايين الدولارات..

قال: قد ذهبت.. ولكني لم أشعر بشيء.. تلك اللوحات لا تمثل لي أي شيء.. لأن كل شخص يقرأ منها ما يشاء.

قلت:  وما الحرج في ذلك؟

قال:  أنا أبحث عن الفن الرفيع الذي يرفعني.. لا الفن الذي يضعني أو يحدث في تأثيرا مؤقتا سرعان ما يزول.

قلت: أنت تبحث عن الفن المرتبط بالإيمان.

قال:  أجل..

قلت:  فاذهب إلى الكنائس، فهي تمتلئ بالصور والأيقونات.

قال: لقد زرت الكثير منها.. ولكني لم أر إلا آلهة تزاحم إله الكنيسة..

قلت: أراك لا يعجبك شيء..

قال: بلى.. لقد ظفرت بغايتي..

قلت: أين؟

قال:  عند محمد.. وعند ورثة محمد.

قلت: أنت مسلم إذن؟

قال: إلى هذه الساعة لست مسلما.. ولكني أشعر أنه ليس هناك دين يستحق أن يتبعه عاقل وذواقة مثل الإسلام.

قلت: لم؟

قال: لقد بحثت في دور الفن وألوانه وأنواعه ورجاله عن فن يحلق بالإنسان إلى الآفاق العليا من مراقي الكمال.. فلم أجده إلا في دين محمد.

قلت من غير أن أشعر:  من أنت؟.. لكأني بك أحد من أبحث عنهم.

قال: ما تقصد؟

تداركت الموقف، فقلت: لا أقصد شيئا.. لكن من أنت؟

قال:  أنا (هاملتون جيب)

قلت: أعرفك.. أنت العالم والمستشرق المعروف.

قال: أجل.. وفوق ذلك أنا الباحث عن الفنون العاشق لها.

قلت: أعلم حبك للأدب العربي.. ما الذي جذبك إليه؟

قال:  حبي للفن.. والأدب بالنسبة لي أرفع أنواع الفنون وأرقها وأبلغها في التعبير عن المشاعر.

قلت: فهل تحدثني عن نتيجة أبحاثك؟

قال:  أجل.. لقد وجدت بعد تأمل طويل أن الفن الرفيع هو الفن الذي يحقق غايتين جليلتين كلاهما ترفعان الإنسان إلى أعلى مدارج الكمال.

قلت:  ما هما؟

قال:  التهذيب والتوحيد.

قلت:  ما تقصد بذلك؟.. وما وجه الحصر في ذلك؟

قال: لقد وجدت أن الإنسان معدن لا يختلف عن سائر المعادن.. هو كسبيكة الذهب.. وسبيكة الذهب لا يعرف جمالها إلا بعد صقلها وتزيينها وتهذيبها.

قلت:  والتوحيد.

قال: ليس للعقود ولا الأسورة أي قيمة ما لم تؤد الغاية منها..

قلت: فأنت ترى أن الغاية من الفن هي الوصول إلى التوحيد.

قال:  أجل.. لأن الغاية من الفن أن يوصلك إلى السكينة.. ولن تجد السكينة في غير التوحيد.

قلت: فهل تحدثني عما توصلت إليه.

قال:  يسرني ذلك.. فأنا لا أبشر إلا بذلك.

فنون الجاهلية

قلت: فهل سنبدأ بالحديث عن فنون الجاهلية؟

قال:  أجل.. فلا يعرف الإسلام من لا يعرف الجاهلية.. ولا تعرف الثمرة الطيبة إلا بمقارنتها بالثمرة الخبيثة.

قلت: فبأي جاهلية نبدأ؟

المسيحية:

قال:  بالجاهلية التي عقدت البساطة.. وعددت التوحيد.. وحرفت التهذيب.

قلت:  من تقصد؟

قال: المسحية التي عقدتها الكنيسة.

قلت: ولكن المسيحية دين.. وليست مدرسة فنية.

قال: لكل دين مدرسته الفنية.. ويستحيل أن تكون هناك فكرة في الدنيا لا تعبر عن نفسها بأسلوب فني.

قلت:  فكيف عبرت المسيحية عن نفسها؟.. ولماذا اعتبرت تعبيرها جاهلية؟

قال: لقد بحثت المسيحية في الفنون التي تستطيع بها أن تعبر عن ذاتها، فلم تجد إلا الصور والتماثيل.

قلت:  لم اختارتها دون غيرها؟

قال:  هي لم تختر.. ولكنها فرضت عليها.. المسيحية لم يكن لها من الحصون ما كان للإسلام، فلذلك اخترقت، وسهل التلاعب بها إلى أن صارت وثنية، أو اقتربت من الوثنية.

فكما اخترقت المسيحية في عقيدتها وشريعتها.. فقد اخترقت أيضا في فنونها.. بل تحولت فنونها إلى طقوس شعائرية لا تختلف عن طقوس الوثنيين.

قلت:  ولكن شريعة التوراة تحرم التصوير ونحت التماثيل وتعده من أعمال الوثنيين.

قال:  وشريعة التوراة دعت إلى تقديس السبت.. فهل تراه مقدسا عندنا؟

قلت:  لا..

قال: فكذلك هذا.. وكذلك غيره..

أنت تعلم أن المسيحية كلها ـ بجميع شعائرها وطقوسها ـ عبارة عن محدثات تروق لرجال الدين.. فيجتمعون.. وسرعان ما يقررون.. وسرعان ما تتحول قراراتهم المشبعة بأهوائهم.. أو المشبعة بأهواء السلطة التي تحكمهم إلى دين.. ثم نأتي نحن لنصفها بالقداسة، ونظل نتعبد بها.

قلت: أهذا ما حصل مع الفن المسيحي؟

قال:  أجل.. لقد نشأت عبادة الصور والتماثيل كأي بدعة أخرى ـ محدودة النطاق ـ ثم نمت تدريجياً وانتشرت في أرجاء واسعة لكنها لم تدخل في صلب الديانة المسيحية بصفة رسمية إلا في مجمع نيقية الثاني([2]).

يقول ول ديورانت: (كانت الكنيسة أول أمرها تكره الصور والتماثيل وتعدها بقايا من الوثنية وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدف إلى تمثيل الآلهة، ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر كل هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية، ولما أن تضاعف عدد القديسين المعبودين نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم وظهرت لهم ولمريم العذراء كثير من الصور، ولم يعظم الناس الصور التي يزعمونها أنها تمثل المسيح فحسب بل عظموا معها خشبة الصليب حتى لقد أصبح الصليب في نظر ذوى العقول الساذجة طلسماً ذا قوة سحرية عجيبة)

ويذكر ديورانت كيف انتشرت هذه الوثنية بين العامة كانتشار النار في الهشيم، فقال: (وأطلق الشعب العنان لفطرته، فحول الآثار والصور والتماثيل المقدسة إلى معبودات يسجد لها الناس ويقبلونها ويوقدون الشموع ويحرقون البخور أمامها ويتوجونها بالأزهار ويطلبون المعجزات بتأثيرها الخفي.. وفي البلاد التي تتبع مذهب الكنيسة اليونانية بنوع خاص كنت ترى الصور المقدسة في كل مكان في الكنائس والأديرة والمنازل والحوانيت وحتى أثاث المنازل والحلي والملابس نفسها لم تخل منها، وأخذت المدن التى تتهدد أخطار الوباء أو المجاعة أو الحرب تعتمد على قوة ما لديها من الآثار الدينية، أو على ما فيها من الأولياء والقديسين.. للنجاة من الكوارث)([3])

قلت:  لقد سمعت أن بعض قومنا قاموا في وجه هذا النوع من الوثنية.

قال:  نعم.. لقد حصل ذلك بتأثير الإسلام([4]).. ولكن ذلك ـ للأسف ـ لم يتم بالصورة المثلى.. فقد ظل المتعصبون من رجال الدين هم الحكم في هذا.. بل إنه اجتمع مجلس من أساقفة الغرب دعا إليه البابا (جريجورى الثاني) وصب اللعنة على محطمي الصور والتماثيل.

   وفي مجمع نيقية الثاني سنة 787 صدر القرار التالي، والذي عدل نوعا ما كان سائدا من عبادتهم: (إنا لا نحكم بأن توضع الصور في الكنائس والأبنية المقدسة والملابس الكهنوتية فقط، بل في البيوت وعلى الجدران في الطرقات، لأننا إن أطلنا مشاهدة ربنا يسوع المسيح ووالدته القديسة والرسل وسائر القديسين في صورهم شعرنا بالميل الشديد إلى التفكير فيهم والتكريم لهم، فيجب أن تؤدى التحية والإكرام لهذه الصور، لا العبادة التي لا تليق إلا بالطبيعة الإلهية)([5])

سكت قليلا، ثم قال: ليت الأمر اقتصر على المسيح وأمه، بل إن الكنيسة تجرأت فصورت الله كما تصور المخلوقين..

لقد قال الفنان الذي هرب من المسيحية إلى الإسلام (ناصر الدين دينيه): (الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي لم يتخذ فيه الإله شكلاً بشريا أو ما إلى ذلك من الأشكال.. أما في المسيحية فإن لفظ الله تحوطها تلك الصورة الآدمية لرجل شيخ طاعن في السن قد بانت عليه جميع دلائل الكبر والشيخوخة والانحلال، فمن تجاعيد الوجه غائرة إلى لحية بيضاء مرسلة مهملة تثير في النفس ذكرى الموت والفناء، ونسمع القوم يصيحون (ليحي الله) فلا نرى للغرابة محلاً، ولا نعجب لصيحاتهم وهم ينظرون إلى رمز الأبدية الدائمة، وقد تمثل أمامهم شيخاً هرماً قد بلغ أرذل العمر، فكيف لا يخشون عليه من الهلاك والفناء، وكيف لا يطلبون له الحياة؟ كذلك (يا هو) الذي يمثل به طهارة التوحيد اليهودي، فهم يجعلونه في مثل تلك المظاهر المتهالكة تراه في متحف الفاتيكان ونسخ الإنجيل القديمة المصورة)([6])

والعجب أن أحد علمائنا الكبار يقول مقررا: (لا يمكننا أن نفهم الله إلا عن طريق تصوره بالصور البشرية)([7])  

التفت إلي، وقال: أتدري كيف تسربت هذه الوثنية إلى المسيحية؟

قلت:  لا..

قال:  لقد كان الهدف الأكبر لمبشرينا هو إدخال أكبر عدد من الناس، ولو على حساب المبادئ والقيم والقوانين التي تحفظ صفاء الدين.. وهذا ما تختلف فيه مع الإسلام اختلافا جذريا.

سأضرب لك مثالا على ذلك.. لقد دخلت بعض الجزر البريطانية في المسيحية.. وكانت شديدة التمسك بوثنيتها.. ودار بينهم وبين الكنيسة صراع طويل، ولما رأى البابا (جريجورى) ذلك اصطنع اللين مع من بقى في إنجلترا من الوثنيين، وأجاز تحويل الهياكل إلى كنائس بأن تحول عادة التضحية بالثيران في يسر ولطف إلى ذبحها لأنعشهم لمديح الله، وبهذا كان كل ما طرأ على الإنجليز من تغير، هو تحولهم من أكل لحم البقر حين يحمدون الله إلى حمد الله حين يأكلون لحم البقر)([8])  

 التيه:

قلت: لقد طلق الناس الكنيسة.. فهل وجدوا فنا صالحا يخدم ما وجدته من أهداف بعدها؟

قال: الفن مثل الثمرة.. وكما أن الثمرة لا تلام على نوعها ولونها، فكذلك لا يلام الفن؟

قلت:  فمن الملوم؟

قال:  البذرة.. البذرة هي التي تنتج الثمرة.. كما قال المسيح: (هل تجتنون من الشوك عنبا، أو من الحسك تينا.. هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارا جيدة، وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارا ردية) (إنجيل متى:7/16-17)

قلت: فما البذرة؟

قال: هي الأفكار التي تملأ عقل صاحبها وقلبه، فيأبى إلا أن يعبر عنها بما يطيق من صنوف التعبير.

قلت: فهمت هذا.. ولكني سألتك عن أنواع الفنون التي هرع إليها قومنا بعد أن طلقوا الكنيسة.

قال: قد أجبتك.. لقد توزعت عقولهم تبحث عن أي شيء يغطي ذلك اللهث وراء الحقيقة.

قلت:  فهل وجدوها؟

قال:  للأسف قل من وجدها.. مع أنها كانت أقرب إليهم من حبل الوريد.

قلت:  فما الذي منعهم منها؟

قال: أنفسهم.. الكبر الذي كانت نفوسهم ممتلئة به منعهم.. فلذلك وقعوا في وديان سحيقة لم تزدهم إلا بعدا عن الحقيقة.

قلت: هذا كلام عام أريد تفاصيله.

قال: كثيرة هي تفاصيله.. ولكني سأذكر لك نماذج عن ذلك التيه الذي وقع فيه قومنا، ووقع فيه الفن بسبب ضياعهم.

الكلاسيكية الجديدة:

قلت:  فما النموذج الأول؟

قال: أول قبلة التفت إليها قومنا ـ بعد أن طلقوا الكنيسة ـ جذورهم الأولى.. وجاهليتهم الأولى.. لقد وجدوا أن الكنيسة لم تلب مطالبهم النفسية.. فعادوا إلى الخلف يبحثون عنها.

قلت: تقصد المدرسة الكلاسيكية؟

قال:  أجل.. فقد اقترن ما نسميه (عصر النهضة) الأوربية بالحركة التى نشأت فى إيطاليا، واستهدفت بعث الآداب الإغريقية القديمة التي أطلق عليها أسم (الآداب الإنسانية) تمييزا لها عن كتابات رجال الكنيسة اللاهوتية.

لقد فوجئت أوروبا الغارقة فى سبات القرون المظلمة بنور الحضارة الإسلامية فانبهرت به وأحست بواقعها المرير تحت ضغط الكنيسة التى جثمت على فكرها وشعورها وسلوكها وأفقدتها الإحساس بإنسانيتها.

وهذه اليقظة المفاجئة أوقعت النفسية الأوربية فى مأزق حرج إذ تصادم فى داخلها دافع ومانع قويان: الأول دافع الاستمتاع بنور الإسلام والدخول فى فردوس حضارته حيث التوازن الفريد بين الدنيا والآخرة، وبين الروح والجسد، ففى ظله تنطلق إنسانيتهم لتعبر عن ذاتها بعيداً عن أغلال الرهبانية وشطط الكنيسة.

والآخر مانع التعصب والعداوة الحاقدة للإسلام وحضارته تلك التى عمقتها الحروب الصليبية.

وكان المانع أقوى من الدافع، فخرجت أوربا من ذلك التناقض النفسى بالبحث عن وسيلة تتيح لها الخلاص من براثن السلطة الكهنوتية الطاغية دون أن تتخلى عن تعصبها وعداوتها للإسلام وأهله ولم تكن تلك الوسيلة سوى عملية (اجترار الماضى) ببعث تراثها الوثنى الإغريقى والالتصاق به لاسيما جوانبه الشهوانية البهيمية.

قلت: لقد كان للكنيسة بعض سلطة في ذلك الحين.. فكيف لم تثر عليه؟

قال: نعم.. لقد أزعج هذا التوجه الكنيسة.. ولكنه ـ مع ذلك ـ كان أفضل لديها من إقبال أتباعها على الإسلام.

لقد حاولت جهدها أن تسير الموجة لصالحها، وتسيطر على الوضع بحيث تبقى عقائدها وتصوراتها تصبغ الأدب، وتظل بصماتها بارزة فى فنه المنحوت والمرسوم، ولكن عوامل التحرر والانطلاق كانت أقوى من حواجزها، واستطاع عصر النهضة أن يخطو خطوات كبيرة وجريئة للوصول إلى علمانية كاملة للأدب والفن عليها قام الأدب العلمانى الحديث وارتكز([9]).

قلت: أراك تتكلم عن هذا النوع من الفن باعتباره جاهلية.. ولكني بحسب ما أعلم هو الفن الذي تولى التعبير عن العواطف الإنسانية العامة.. وربطه بالمبادئ الأخلاقية، ووظفه لخدمة الغايات التعليمية واحترام التقاليد الاجتماعية السائدة.

قال: هذا ما يقال.. وفيه بعض الحقيقة.. وفيه كثير من الباطل.. سأذكر لك بعض خصائص هذا التوجه لترى نواحي الجاهلية فيه.

لقد كانت الخطوة الأولى التي خطاها هذا النوع من الفن في انفلاته من الكنيسة هو إحياء الآداب الإغريقية.. حيث استطاع أدباء وفنانو النهضة النفاذ إلى عالم آخر خارج من مألوف عصرهم ولا أثر فيه لشيء من اللاهوتيات.

لقد نفذوا أول الأمر من كوة صغيرة، لكنها ظلت تتسع حتى انتفض بناء الكنيسة والتقاليد من أساسه، وطلعوا على الفكر الأوروبى بمفاهيم جديدة ومعايير سبقوا بها النهضة الفكرية العقلانية، وذلك ما يعده الفكر الحديث أعظم مآثر النهضة.

قلت: لقد وضعت معيارين للحكم على الفنون، هما التوحيد والتهذيب.. فهل ترى هذا النوع من الفن مناقض لهما؟

قال: كل المناقضة.. ولا ينبغي أن يكون الأمر إلا كذلك.. فلا يمكن لمن زرع شوكا أن يجني عنبا.

قلت: فحدثني عن دلائل ذلك.

قال: هذه المدرسة كما ذكرت لك ـ أو هذا العصر ـ انطلق رد فعل على الكنيسة وعلى انحرافات الكنيسة..

ولذلك كان أول ما اهتم به هو الحياة الدنيا.. والإنسان.. لأن الكنيسة كانت تلغي كليهما.

قلت: هذا مكسب جيد.

قال:  ولكنه مكسب منحرف.. لأنه لم ينتج فعلا.. وإنما نتج رد فعل.. ورد الفعل صراع.. والصراع لا يأتي بخير.

لقد كانت الكنيسة تحصر كل النشاط الفكرى والفنى لأتباعها فى مجال الحديث عن الثالوث والقديسين والملائكة والمعجزات وكبت المشاعر والأحاسيس الإنسانية أيا كانت ما لم تكن فى حدود دائرتها اللاهوتية.

ولهذا جاءت هذه الحركة تناقض ذلك تماما حتى أطلق عليها وصف (الإنسانية)

لقد قام دانتى (ت 1321م) فى هذا المجال بمثل ما قام به (مكيافيللى) فى مجال السياسة، فقد خرج على الكنيسة خروجاً صريحاً، وناقص تقاليدها ومقاييسها، وابتداء منه أخذ الأدب الأوربى بحل الإنسان شيئا فشيئا محل (الإله).. وبذلك انتقضت عروة التوحيد.. وارتباط الفن بالغاية الكبرى من وجود الإنسان.

لقد صار الاهتمام بالإنسان ـ الذى نبه إليه دانتى ومعاصروه ـ المنطلق لمحاولة تأليه الإنسان وتصويره على أنه اله حقيقى، وهى المحاولة التى بدأت فى القرن التاسع عشر واكتملت على يد (سارتر) وأشياعه فى هذا القرن مروراً بتأليه الطبيعة الذى دعا إليه عصر التنوير.

ذكر (داونز) ذلك، فقال: (يقف (دانتى) كما وقف صديقه ومعاصره المصور الرسام (جيوتو) على رأس حقبة جديدة فى تطور الفكر البشرى، ولما كان كلاهما فناناً عظيماً، فإنهما عبرا أصدق تعبير عن ذلك الشيء الجديد الذي ربما كان يجيش فى صدور الكثير من معاصريهم، ولكنهم لم يستطيعوا الإفصاح عنه كما أفصحا)

ويقول: (وهذا الشيء الجديد هو (الإنسانية).. أو هو بتعبير آخر الاهتمام بشئون الإنسان فى الحياة الدنيا.

ونستطيع أن نتفهم خطورة هذا الجديد الذى يزاحم القديم إذا قارناه بالعقائد المسيطرة على أذهان الناس فى ذلك العصر عن الحياة والكون … ومؤداها أن الحياة الدنيا ليست إلا تمهيداً لاستقبال الحياة الأخرى، وقد هيمن هذا الاعتقاد على الناس فى القرون الوسطى جيلاً بعد جيل تحت سطوة الكنيسة وسيطرتها العاتية على جميع نواحى النشاط الإنسانى وجميع المؤسسات الاجتماعية بينما كان علم العلماء كله يدور حول المبادئ الدينية والعقائد الكنسية)

ويقول: (ثم جاء عقب ذلك عصر الاستنارة، وهو أول تبديل جديد طرأ على الناس فى نظرتهم للحياة، فاتجهوا إلى أحضان الطبيعة يستوحون منهما أسرار الكون ووضعوا ثقتهم المطلقة فى مقدرة العقل الإنسانى)

ويقول: (وقد نادى بهذا نفر من عباقرة ذلك العصر، … كان مجالهم الفكرى فى ناحية الاهتمام بشؤون الإنسان فى هذه الدنيا وترك الاهتمام بشؤون الآخرة)

ويقول: (وأما (جيوتو) فكان فنان هذه النهضة كما كان دانتى شاعرها فقد أخذ جيرتو يرسم على جدران كنائس مدينة (أسيزى) صوراً وأقاصيص لحياة القديس فرانسيس عرض بها رسوماً من الناس والطبيعة والطير والحيوان والزهور من واقع الحقيقة والمشاهدة وهو حدث جديد فى الفن وخروج التقليد القديم فى تصوير العذراء والطفل وتصوير القديسين).

ويقول: (إن ملحمة الكوميديا كانت حدثاً جديداً فى الأدب، حدثاً ضخماً لم يسبق له مثيل، فليس إذن من العجب أن يدعوها الناس بلقب (الإلهية) لأنهم شعروا عند ظهورها أن أدبا أوروبيا جديداً قد انبثق فجره)

ويقول: (إن الناس كانوا يعتقدون ما علمتهم الكنيسة من أن كل إنسان يكفر بالمسيحية جزاؤه جهنم، وأما من يؤمن بها فمآله إلى الجنة، وجاء دانتى فخرج من تلك العقيدة القديمة وأقام موازين جديدة للعقاب والثواب على أساس من الأخلاق.. وعندما ننظر اليوم إلى الوراء نجد شاعراً يوزع بالقسطاس العقاب والثواب بدلاً من أن يوزعها البابا، فإننا لا نرى فى عمله شيئا خارقاً غير أنه بالقياس إلى عصره كان لا شك انقلاباً خطيراً)

ويقول: (وقد صدق الشاعر بوب عندما عبر عن فلسفة القرن التالى (18) بقوله: (إن خير دراسة يقوم بها البشر هى دراستهم للإنسان)، وقد كان شكسبير قبله خير من قام بهذه الدراسة، والحق أن شكسبير يمثل أرقى ما بلغت إليه حركة النهضة الأوربية بأجمعها، وهى فى لبابها تتلخص فى اكتشاف الجنس البشرى لقيمته وأهميته التى كانت قد ضاعت على مر العصور)([10])

وبذلك بدأ الانحراف الثاني للفن.. وهو الانحراف عن غاية التهذيب..

وذلك شيء منطقي.. فكل فن يبتعد عن التوحيد لابد أن يبتعد عن التهذيب.. ويكون بعده عن التهذيب بقدر بعده عن التوحيد.

وبما أن هذا المذهب ابتعد كثيرا عن التوحيد.. فقد ابتعد بمثل ذلك عن التهذيب..

لقد عاد المذهب المناهض للكنيسة وللرهبانية، فأحيا الإباحة الرومانية، وأعاد معها إحياء المذهب الأبيقورى فى التمتع بضروب الملذات والانغماس في الشهوات الجسدية.

وهكذا كان عصر النهضة يتسم بطابع كلاسيكى خاص يقدس الجسد، ويعبد اللذة فى وقت لا تزال الرهبانية فيه هى المثل الأعلى، ووجه زعماء ذلك العصر أنظار الناس إلى مثالب الرهبانية بحجة منافاتها (للإنسانية)، وهو الوصف الذى كانوا يتسترون به.

وكمثال على ذلك هذه القصيدة المبتذلة:

                   نحن فى تجوالنا مغتبطون مشرقون …

                   نأكل حتى الشبع نشرب حتى الثمالة …

                   نمرح إلى الأبد ننهل من الجحيم …

                   تلتصق صدور بعضنا ببعضنا …

وعندما نشأ أدب علمانى عامى لم يجد إلا أن يصدر من نفس التمتع الوثنى بخيرات الحياة الرفيع منها والوضيع، فالشعراء المغنون (التروبادور) حولوا الفروسية المسيحية إلى تمجيد للحب الإنسانى … ومن الجدير بالملاحظة أن أكثر هذه القصائد صراحة وواقعية نشأت من الثقافة البرجوازية فى المدن، فالأقاصيص الفرنسية البذيئة وصفت بصورة حاذقة التمتع بضروب الحياة كما كان يحصل فى الواقع وتميزت بشغف خاص بسرد قصص الماكرين الأوغاد ومثالب الكهنة كما نجد ذلك فى قصائد شوسر ومعرض صور الأوغاد التى رسمها بوكاشيو.

لقد رسم بعضهم صورة للفن في ذلك العصر، فقال: (انفجرت العاصفة بكامل عنفها على رأس الراهب، ذلك أن فشل الراهب فى تحقيق الطهارة التى بشر بها جعلت أدب القرون الوسطى منذ ولادته يعطى لزلات الراهب صورة أكثر بشاعة، وصورته بأنه أكثر حيوانية من سواه، وجاء أحذق الإيطاليين وأجرؤهم إطلاقاً لورنزفالا … فأنكر فى كتابه (حياة الرهبانية) كل قيمة للتقشف والقداسة، وذهب أبعد من ذلك فى رسالته عن اللذة التى يتفق فيها مع المذهب الأبيقورى، فأعلن أن المرأة المتزوجة بل المستهترة أيضا هى أفضل من الراهبة، لأنها تسعد الرجل أما الراهبة فهى تعيش فى تبتل لا فائدة منه، وينعت موت الإنسان فى سبيل بلاده أو من أجل أى مثل أعلى بأنه لا يقره العقل.

وهذا التحول المفاجئ يوحى فى بعض الأحيان بالرجوع إلى ما يشبه الوثنية الخالصة، ويمثل الفن الإيطالى أحسن تمثيل المزج الكامل بين المسيحية والوثنية فلو ألقينا نظرة على بعض الرسوم الشهيرة هل نستطيع التفريق بين الله والملاك والعذراء والصبى وكيوبيد والقديس)  

وقال: (ثار الإيطاليون على الأخلاق المسيحية، واستبدلوا بها مجرد التمتع بالملايين من أشكال الجمال … لكن الشعوب الشمالية وجدت فى الحياة أكثر من الجمال وقد مثل هذه الروح فيما كتب رابليه الكبير …

وتتجسم روح ثورة النهضة فى مقطع يطلب منارابليه فيه (أن نهرب من أولئك الرعاع ذوى العقول الزائفة الماكرين والقديسين المزورين الوقورين الهيئة المرائين مدعى الإيمان، الإخوان الخشنين الرهبان الذين يلبسون النعال … أهرب من هؤلاء الرجال عليك بكراهيتهم واحتقارهم قدر ما أكرههم أنا وإننى لأقسم لك أنك إن فعلت فستجد نفسك أفضل حالاً)([11])

هذه هي بداية جاهلية التيه والضياع.. وقد تلى هذه الجاهلية جاهليات أخرى عمقت ما بدأ به هذه الجاهلية من البعد عن الله.. والبعد عن الإنسان.

الرومانسية:

قلت: لقد خرجت أوروبا من عصر النهضة وابتدأ ما يسمونه (العصر الحديث)

قال: ولم تطق أوروبا الاستمرار مع (الكلاسيكية).. بل ارتدت عليها كما ارتدت على الكنيسة..

قلت: لقد ارتدت عليها فيما يسمى (عصر التنوير)([12])..

قال:  أجل.. وقد بدأ مذهب فني جديد.. أو عصر فني جديد.. هو (الرومانسية)

قلت: إن سمعة الرومانسية بيننا طيبة، فهي مذهب فني يهتم بالنفس الإنسانية وما تزخر به من عواطف ومشاعر وأخيلة.

قال: ولكنه اهتمام منصرف عن الركنين الأساسين اللذين يجعلان الأدب سلما للكمال والتهذيب والإصلاح.

قلت:  ما تقصد؟

قال:  لعل أصدق تعبير عما حصل في ذلك العصر هو ما قاله مؤلفو كتاب (ثلاثة قرون من الأدب).. لقد قالوا: (إن القرن الثامن عشر لم يخصص للدين، وإنما خصص للعلم والسياسة، فلم يعد زعماؤه قساً مسيحيين … بل فلاسفة طبيعيين ….. لقد كان التغير عميقاً ومن نواح عدة كان القديم والجديد عن طرفى نقيض، فالتطلع إلى ما وراء أشياء هذا العالم قد تراجع أمام التطلع إلى أشياء هذا العالم، لقد أصبح القديسين الدائر حول محور الله عالما إنسانيا محوره هذا العالم والحياة التى كانت تسير بهذا الكتاب المقدس، ولم يعد العالم مكاناً حيث العناية الإلهية دائمة الحضور والفعل تضبط وتدير كل ما يحدث حتى التافه منه (!) حتى الله ذاته لم يعد شخصياً، أبا يحب ويرهب، بل أصبح قوة عاقلة سحيقة البعد لا شخصية، (علة أولى) أدارت الآلة وتركتها تعمل بنظام كامل وفق نواميس رياضية وفيزيائية ويسوع ابن الله أصبح يسوع ابن الإنسان(؟!))

(ولم يعد موضوع البحث للجنس البشرى هو الله، بل الإنسان)

(وتحسين حال الإنسان يمكن توقعها لا عن طريق الدين بقدر ما يمكن توقعها عن طريق العلم والتربية والسياسة التى بها يستطاع إصلاح المجتمع)

هذه هي الميزة الأول للرومانسية، وعنها نشأ (تأكيدها على سيادة القلب وحياة النفس الداخلية).. أي حصر كل الاهتمامات فى حدود الكائن البشرى، بل فى أعماق النفس الفردية.

ولهذا ينتقد الرومانسيون الكلاسيكية بأن الهدف منها تصوير البشر، لا كما هم فعلياً ولكن كما هم مثالياً..مما جعل الأدب تقليدا وليس تعبيراً، ولذلك فقد أهمل الرومانسيون الملاحم وحوروا المسرحيات، ونحوا بالأدب منحى شخصياً داخلياً، فالكتابة الفنية تأتى فى صورة اعترافات أو سيرة ذاتية والشعر يصبح غنائيا عاطفياً يعبر عن المعانى الوجدانية للبشر كالعشق والفرح والألم ويبتغى ـ بالدرجة الأولى ـ إثارة السامع وامتاعه.

وكان من أبرز العوامل الاجتماعية المهيئة لذلك طابع الفروسية التى كانت فى ريعان شبابها إذ احتضنت الرومانسية حتى اندمجت فى كيانها، وأصبح الرومانسيون اللسان المعبر عن الحياة الفروسية بخصائصها وفضائلها.

وقد أفصح بعض زعماء المذهب عن علاقة (رد الفعل) القائمة بين الاتجاه الرومانسى والمسيحية، فالمسيحية كما عرفوها تكبت الإنسان  و(تصيبه بالميلانخوليا)، ومن ثم فهى مسؤولة عما أصاب الإنسانية من الانطواء والكآبة  (وقد عزا الناقد الرومانسى الألمانى شليجل الكآبة إلى الدين المسيحى الذى جعل الإنسان منفياً يشتاق إلى وطنه البعيد)([13]

وانطلاقاً من ذلك وتمشياً مع التركيز على التعبير عن الذات جهد أولئك فى أن يحولوا الشرق الصوفى المسيحى الذى كان يتجه إلى الله أو (يسوع) إلى حب عذرى أو إباحى يعبر عنه فى أسلوب غنائى، ويتجه إلى الجمال الخارجى للمحبوب الذى كان فى الغالب امرأة وأحياناً (الطبيعة)

 قلت: فقد انحرفت الرومانسية بالفن إذن عن الغايات التي ذكرتها.

قال: أجل.. وذلك شيء طبيعي.. فقد انتشرت في ذلك العصر عبودية إلهين مقدسين بدل أقانيم الكنيسة هما (الطبيعة والعقل).. الطبيعة التي حلت محل (الله).. والعقل الذي حل محل (الوحى)

وقد وثق الهاربون من طغيان الكنيسة العلمى فى مقدرة العقل وثوقاً أعمى، وكان لكشف كوبرنيكس وقانونين جاليلو ونيوتن ومبادئ بيكون وديكارت العقلية أعظم الأثر فى تمجيد العقل بل عبادته، ولما كان جل همم إغاظة الكنيسة والانتقام من عبوديتها فقد اشتطوا وغلوا فى ذلك إلى أبعد الحدود.

لكنهم ما كادوا يلتقطون أنفاسهم وتستقر أعصابهم من مطاردة الكنيسة حتى بدأ بعضهم يبحث عما إذا كان إله (العقل) جديراً بما أعطى من قيمة وتقديس أم لا؟ 

وكانت النتيجة مرة.. وهى أن العقل عاجز حقاً عن تفسير الطبيعة، وإذ كان كذلك فهو أعجز عن تفسير النفس الإنسانية وفهمها.

واستطاعوا أن يكتشفوا طريقاً آخر أرحب من العقلانية بمنطقها الجامد وقوالبها المحددة، وأقوى من العقل اختراقاً للأسرار وتبديداً للغموض، ألا وهى (الشعور العاطفى)، ذلك الشعور الذى يمتطى آفاق الخيال الواسعة، فيسبر أغوار الذات الإنسانية العميقة ويستجلى جمال الطبيعة.

وهكذا أخذ الرومانسيون يرتفعون رويداً رويداً عن الأرض ويحلقون فى الفضاء السحيق ولكن إلى غير الله.. ومن غير طريق المسيحية.

كانوا يتحدثون عن الحب، ويبحثون عن الجمال، ويفلسفونها فى أساليب ضبابية كثيفة، كما كانوا يتحدثون عن الشياطين والملائكة والسحر والعوالم المجهولة فى محاولات دائبة ويائسة لاستكناه أسرار الكون وتحقيق السعادة الداخلية.

وأصبحوا ينقبون عن الحقائق الأبدية ـ لا فى الكتاب المقدس، ولا فى المؤلفات العقلية ـ ولكن فى صفحة الطبيعة الخلابة ومناظرها الحالمة، وكل هذا أفضى بهم إلى مثالية معرفة جوفاء أعظم فى بعض جوانبها من تلك التى انتقدوها على الكلاسيكيين.

ونتيجة أخرى مهمة هى أن الرومانسية باعتقادها أن غاية النشوة وقمة السعادة تكمن فى أن يطلق الإنسان عنان نفسه لتذوب فى حب الطبيعة ويفنى الصوفى فى معبوده ولذا أحلت (الطبيعة) محل (الله) والشعور محل العقل.

وبهذا تكشفت الرومانسية عن صورة وثنية جديدة (وكل الكلام الجميل المعسول الذى قيل لتبرير هذه الوثنية: أن الطبيعة (محراب) الله وأن الجمال (صورة الله).. إننا نعبد الله فى خلقه … إلى آخر هذه الجمل (الرومانتيكية) البراقة.. كل هذا الكلام لا يستطيع أن يخفى تلك الروح الوثنية الغارقة فى الوثنية التى تعبد المحسوس فى حقيقة الأمر لأنها تعجز عن إدراك (الله) بالروح … والروح غنية بالمحسوسات)([14])  

لقد عبر روسو ـ رائد الرومانسية ـ  عن ذلك أوضح تعبير فى (راهب سافوى) الذى هو صورة لذاته، إنه راهب بالفعل، ولكنه يختلف جذرياً عن رهبان الكنيسة، فهو راهب فى صومعة الطبيعة يسبح بحمدها ويقدس لها.

وفى كتابات روسو (الاعترافات مثلاً) وقصائد بوب (مقال عن الإنسان) وجوته (فاوست) وكذلك كيتس ولامارتين وأضرابهم نماذج واضحة للمذهب الرومانسى فى أوج مجده.

الواقعية:

قلت:  لقد ارتددنا على الرومانسية كما ارتددنا على الكلاسيكية.

قال: ذلك شيء طبيعي.. لقد عبر القرآن عن هذه الارتدادات التي تصيب من لا يصيب الحق، فقال:{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور:39)

فالظمآن حسبما تشير إليه هذه الآية يظل ظمآن ما دام لا يجد إلا السراب.. وحبه للماء يجعل يلهث وراء كل سراب طمعا في أن يكون ماء.. ولكن السراب لا يتحول إلى ماء.

قلت:  فأين القرار؟

قال:  لقد ذكرته الآية:{ وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ }.. القرار لا يكون إلا عند الله.. ولا يكون إلا في التوحيد.. لقد قال القرآن:{ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} (القمر:3)

القرار والسكينة والطمأنينة مفردات لا يمكن أن توجد إلا في النصوص المقدسة التي لم تمتد إليها يد العابثين.

قلت: فما السراب الجديد الذي خلف الرومانسية؟

قال: عقلك يدل عليه..

قلت:  لم أفهم..

قال:  ما دامت الرومانسية التي هي هروب للخيال لم تطفئ ظمأ الإنسان.. فإنه سيفر من الخيال ليبحث عن الواقع..

قلت:  فقد خلفتها الواقعية إذن؟

قال:  أجل.. وبئس الخلف كان.. لقد وقعت الواقعية في رذائل لم تسبق إليها.

قلت:  كيف كان ذلك؟

قال: لقد كانت الرومانسية بخيالها الجانح صورة صادقة لما يمكن أن يسمى (عصر الهروب).. الهروب من طغيان الكنيسة، والهروب من نير الإقطاع، والهروب من تقاليد الماضي([15]).. وجاءت الثورتان الفرنسية والصناعية وجاءت الحروب الدينية والقومية، وتغيرت ملامح الحياة تغيراً بارزا،ً فكان لا بد لصورة الحياة (الأدب) أن تتغير كذلك.

في هذا العصر ـ الذي دخلت فيه الآلة حياة الإنسان ـ لم ينحصر الاهتمام بالإنسان دون الآلة فحسب، بل اقتصر ـ من الإنسان ـ  على وضعه الدنيوى ومكانته الاجتماعية.. وعلى واقعه المعيشى وجزء معين من نزواته ورغباته والظروف المحيطة به التى يتأثر بها سلباً وإيجاباً.

وكعادتنا في السقوط الحر سقطنا سقوطاً مفاجئا من الفضاء السحيق إلى الوحل الهابط.

لقد كانت الرومانسية تحاول تصوير أعلى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من القوة والمثالية فى مواجهة تحدى الإله أو الطبيعة أو حتى نزواته وأهوائه، فجاءت الواقعية لتصوره فى أدنى ما يمكن أن يصل إليه من الهبوط فى لحظات الضعف القاتلة.

لقد كان الإنسان ـ في الرومانسية ـ يصارع الأقدار، ويحاول إخضاع الطبيعة.. ولكنه في (الواقعية) ينهزم بضعف أمام نزوة عابرة ولذة ساقطة.

لقد أخذ الواقعيون على الرومانسية أنها في جميع أعمالها الفنية تقتصر على تصوير الإنسان المثالى واللحظة المثالية والمنظر المثالى.. ولذلك راحوا للواقع يصورونه، بل يفضحونه من غير محاولة تهذيبه ورفعه.

نظر إلى الأفق البعيد، وقال: لقد كان انحراف الكنيسة هو السبب في كل تلك المصائب.. ولهذا جوزيت بما صنعت..

لقد كال لها هذا النوع من الفن من الهجوم ما لم يتجرأ عليه من سبقه..

يقول مؤلف (قصة الفكر الغربى): (يرد كثيراً فى الأدب الشعبى الوسيط ذكر القسيس الجشع والقسيس الفاسق والقسيس المغرور الذى تشغله أمور الدنيا، وكذلك لا يعطينا شوسر صورة طيبة عن رجال الدين.. ومع ذلك فلم يكن فى كل هذا إلا قليل من المرارة وإنما كان يرمى إلى إنزال القسيس إلى المستوى البشرى العام ولم يقصد إلى تحدى بناء المسيحية الفلسفى والدينى أى نظرتها الشاملة إلى الكون كما قصد إلى تحديها فى أيام فولتير وتوم بين)

اللامعقول:

قلت: ثم ارتددنا على الواقعية..

قال: بسبب ضغوط الواقع ارتددنا على الواقعية.. فسقطنا في أوحال اللامعقول.

قلت:  اللامعقول!؟

قال: أجل.. ونحن لا نزال نئن تحت وطأة هذا النوع من الفن.

قلت: كيف سقطنا كل هذا السقوط؟

قال: لقد اجتمعت أسباب كثيرة.. أهمها الدجالون..

قلت: الدجالون!؟

قال: أنت تعرفهم.. ولعلك مررت في حياتك بمن حدثك عنهم([16]).

قلت:  من تقصد؟

قال:  من أعطوا صورة للإنسان انحرفت بها عن معنى الإنسان.. فصار الإنسان غير الإنسان.

قلت: فهمت قصدك.. أنت تريد داروين.. وماركس.. وفريزر.. وفرويد وغيرهم من بناة الفكر الذي تنبني عليه هذه الحضارة.

قال:  أجل.. وقد كان لداروين وفرويد أعظم الأثر فى ذلك:

فالداروينية ولدت فى النفسية الأوربية شعورين عميقين لا يمكن للفن الأوروبى مهما تعددت مدارسه ومناهجه إلا أن يكون تعبيراً عن أحدهما:

أما الأول، فحيوانية الإنسان التى تلغى المشاعر الروحية تماماً، وتجعل الكائن البشرى كتلة من اللحم كأى حيوان آخر لا هم له إلا إرواء غرائزه البهيمية، والحصول على أكبر قسط من المتاع الجسدى المحض.

وأما الثاني، فالشعور بتفاهة الحياة وحقارتها ونفى أي غاية سامية لوجودها، وهو الشعور الذى عبرت عند مدارس الضياع المختلفة تحت أسماء وشعارات شتى([17]).

وأما الفرويدية، فقد عمقت الاتجاه الحيواني موصلة إياه إلى الحضيض.. وقد صاغته فى فلسفة نظرية منمقة تجعل الوصال الجنسى هو الغاية والوسيلة، بل تجعله محور الحياة ومحور البحث ومناط التفكير وعلة العلل.

وعمقت كذلك الشعور بالضياع والحيرة، لأن فلسفتها الجنسية ـ حول العقل الباطن واللاوعى واللاشعوري والأنا المثالية ـ قدمت العوض المعاكس للإيمان والإحساس الروحى.

 قلت: هذه البذور.. فما الثمار؟

قال: لا يجنى من الشوك إلا الشوك.. لقد جنينا وجنت أخلاقنا وقيما من ذلك الزقوم الذي غرسه أولئك الشياطين ما لا نزال نصلى بناره.

قلت: أفصح.. وفصل.. فلا دليل أقوى من التفصيل.

قال: أول ثمرة جنيناها من شعورنا بحيوانيتنا وضياعنا هو الإباحية المفرطة..

قلت:اسمح لي بأن أصارحك بأننا في جميع مراحلنا تاريخنا الأدبي والفني لم ننفك عن الإباحية.. لقد قال برنتن: (إن الخشونة والفحش من الصفات الدائمة تقريباً فى ثقافتنا الغربية)([18])

فالأغانى البذيئة ومثلها المسرحيات المبتذلة فى عصر النهضة، ثم عبادة اللذة والجمال فى الرومانسية،  ثم الدعوة الصريحة إلى الفجور فى الأدب الواقعى.. وتظل الصورة تفحش إلى أن تصل إلى الأدب المكشوف.

قال:  وقد كان هذا النوع من الفن الذي سقطنا فيه مرحلة خطيرة من مراحل سقوطنا في حمأة الرذيلة..

لقد ظهر فنانون كثيرون في ذلك العصر كرسوا فنهم وحياتهم كلها للإباحية..

لن أحتاج لذكر أمثلة لذلك.. فأنت تعرف (الفريددى موسيه) شاعر (الليالى) الذى كان أبيقورياً بأوسع معانى الكلمة.

ومثله (بروسبير) صاحب قصة (كولومبيا).. وألكسندر دوماس، الكبير والصغير.. الصغير المشهور بقصة (غادة الكاميليا).. والكاتبة العربيدة (جورج ساند) صاحبة (ليليا) و(أنديانا).. وغيرهم كثير.

إن أدب كل هؤلاء محصور فى تمجيد الرذيلة وتبرير أعمال العاهرات والإشفاق عليهن، ودخل هذا الاتجاه مرحلة أتم بالمدرسة (الطبيعية) التى يتزعمها الكاتب اليهودى (أميل زولا) وهى مدرسة إباحية متخصصة.

لقد قال تولستوى عن هذا الاتجاه سنة 1898: (أصبح المقياس الوحيد للفن الجيد والفن الردئ هو اللذة الشخصية، فالخير هو ما يبعث اللذة فى نفوسهم وهذا هو الجميل، وبذا ارتدوا إلى تصور الإغريق البدائيين الذين أدانهم أفلاطون، وطبقاً لهذا الفهم فى الحياة تكونت نظرية فى الفن)([19])

ويقول: (إننا نشبه الفن المعاصر ـ مع غرابة هذا التشبيه  ـ بامرأة تبيع جسدها لإرضاء الذين يبتغون اللذة بدلاً من أن تجعله مستودعاً للأمومة، فالفن المعاصر يشبه العاهر فى أدق التفاصيل فهو مثلها ليس وقفا على عصر معين، وهو مثلها مبهرج، وهو مثلها قابل للبيع دائما، وهو مثلها كله إغراء وكله هدم)

ثم جاءت الحرب الأولى، فاكتسب هذا الاتجاه قوة واستشرت رذائله فى الأوساط العامة وانهال الإقبال على إنتاجه الرخيص ووجدها الهدامون والمتكسبون فرصة لنفث سمومهم واستغلال مشاعر الناس واللعب بعواطفهم وإثارة غرائزهم.

أما ما يسمى الأدب المكشوف الذى لا يصح أن يسمى أدباً بحال، فهو فى بلادنا ملء السمع والبصر.. يملأ الحوانيت.. ويستنفذ الصحافة.. ويسيطر على دور العرض السينمائى.. ويستغرق أوقات الملايين من الناس.. حتى الأطفال تكتب لهم مسلسلات جنسية وروايات جنسية ومسرحيات جنسية.

قلت: هذه الثمرة الأولى.. فما الثمرة الثانية؟

قال: الضياع والتيه.. فكل المذاهب الفكرية الفلسفية الاجتماعية عجزت عن إعطاء الإنسان أى نوع من أنواع الثقة والطمأنينة.

لقد كان دورها منحصرا في رد الفعل.. منحصرا فى اجتثاث موروثات الكنيسة الهشة.

وأمام العملاق الميكانيكى الرهيب وسيطرة الآلة الطاغية شعر الإنسان بأنه قد سحق وأن وجوده قد تضاءل إلى حد أدنى مما كان عليه وهو يواجه جبرية الكنيسة واضعا مصيره بين يدى قدرها المحتوم.

لقد تحققت نبوءة شبنجلر وتكهنات أورويل عن مستقبل القطيع البشرى، وأصبحت مشكلة الإنسان العظمى فى الحياة هو وجوده حياً، فالكلمة التى قالها أوغسطين: (أصبحت أنا نفسى مشكلة بالنسبة لنفسى) لم تعد خاصة بالفلاسفة بل باتت ترددها شفاه الفرد العادى من أجيال الضياع.

قلت: هذه فرصة عظيمة للبحث عن الحقيقة.. والوصول لها.

قال:  ولكن اللامعقول كان متغطرسا متكبرا عن الحقيقة وعن البحث عن الحقيقة.. فلذلك آثر لذة الضياع والتيه على لذة الوصول.

إن هذا الفن يصرح بكل برودة: (إننا لا نؤمن أبداً بالمعانى الجامدة الجاهزة التى يقدمها النظام الإلهى القديم للإنسان وعلى أثره نظام القرن التاسع عشر العقلانى، ولكننا نضع كل أملنا فى الإنسان: إن الأشكال التى خلقها هى التى تستطيع إعطاء العالم معنى)([20])  

قلت: لم هذا التكبر على النظام الإلهي؟

قال: وهم الحرية.. مع اختلاط المدارك التي جعلتهم يرون الكون متناقضا تعجز عقولهم عن تفسيره.

ولم يظل هذا الاعتقاد فكرة مجردة، بل بنى عليه الدستور العلمى للفن الذى ينص على أن (الفن للفن)

لقد قال يعضهم تحت عنوان (الالتزام الوحيد الممكن للكاتب هو الأدب): (ليس الصواب الزعم أننا نخدم فى روايتنا قضية سياسية مهما كانت قضية تبدو لنا عادلة، وحتى لو كنا فى حياتنا السياسية نحارب فى سبيل انتصارها، إن الحياة السياسية تضطرنا دون انقطاع إلى افتراض معانى (كذا) معروفة: معانى تاريخية، معانى أخلاقية، إن الفن أكثر تواضعاً أو أكثر طموحاً، ففى نظره ليس هناك من شىء معروف مسبقاً، وقبل العمل لا يوجد شىء: لا يقين ولا قضية ولا رسالة فالظن أن عند الروائى شيئا يريد أن يقوله وأنه يبحث بعد ذلك كيف يقوله يمثل أخطر عمل مناقض للحقيقة)([21])  

قلت: هذه الثمرة الثانية.. فما الثمرة الثالثة؟

قال: مدارس الضياع.

قلت: ما مدارس الضياع!؟

قال: هي مدراس كثيرة تأسست من بذرة اللامعقول لتزيد في ضياع الإنسان عن حقيقة الإنسان.

قلت: فهلا عرفتني ببعضها؟

قال: لعلك تعرفها.. بل لا بد أنك تعرفها.. فنحن نصبح في مدرسة.. ونمسي في أخرى..

قلت:  حدثني عنها.

قال:  تعرف الوجودية!؟

قلت: تلك التي تنتسب إلى جان بول سارتر (ولد 1905م)الفيلسوف والأديب صاحب (الغثيان)، و(الذباب)، و(الباب المغلق).. وعشيقه سيمون دي بوفوار التي قضت حياتها كلها معه دون عقد زواج تطبيقاً لمبادئ الوجودية([22]).

قال: نعم.. فالوجودية ليست سوى ثورة سلبية يائسة، لم تستطيع أن تشخص الداء فضلاً عن تقديم الدواء، وكل ما تستطيع أن تقول بصدق أنها قدمته للإنسانية هو عرض بعض جوانب المأساة البشرية، تلك المأساة التى تعبر عنها جملة واحدة (البحث عن الإله).. فهى ترفض الإيمان بالله كما تصوره الأديان ولكنها لا تجد البديل.

والإنسان الذى تحاول تأليهه محصور مقهور أمام القدر الكونى وأمام سيطرة الآلة وأما وضعه التاريخى المحدد.

وهي تهرب من الضياع والتناقض إلى شعارات شتى كالحرية عند سارتر، والعبث عند البير كامو.

قلت: أعرف الوجودية.. وأعرف مدى ضياعها.. فاذكر لي غيرها؟

قال: السريالية.. فهي مدرسة حديثة تهتم بالشعر والرسم.. وتبتدئ من الخط الذى تبتدئ منه الوجودية، ولكنها تفترق عنها فى الإيغال في اللامعقول والأعراض عن الخوض فى حقائق التاريخ والمشادات الفكرية والبحث المنطقى فيما يفوق الإدراك إلى الخوض فى أعماق المجهول بلا موضوعية.

قلت: أعرفها.. وهي ترجع في أصلها إلى نظرية فرويد عن العقل الباطن، فهي تريد أن تجعل من العقل الباطن الحقيقة النفسية بالذات، وتحول الفن إلى كتابة آلية لإيضاحه.

قال: ومنها فن التفسخ.. وهو نوع من أدب الضياع الذي يميل إلى التشاؤم والابتذال ويتميز بأن أبطاله هم نوع من الكائنات التى فقدت الثقة وبمستقبلها والتى لا تؤمن أبدا بإمكان قيامها اليوم بحياة إنسانية.

ومنها الفن العدمي، وهو نوع أخر أكثر تشاؤما وقنوطاً، وإنتاجه هو عبارة عن ذلك العمل المؤلم الذى يصرخ بصوت عال فى كل صرخة من صرخاته المبتورة (إن الإنسان قد مات)

وغيرها من الفنون الكثيرة التي تولد كل يوم..

فنون الإسلام

قلت: عرفت فنون الجاهلية.. وأحسب أن كل الناس يعرفونها، فهم يصبحون عليها ويمسون.. فحدثني عن فنون الإسلام.

قال: فنون الإسلام تنطلق من القرآن.. فالقرآن لوحة فنية عظيمة.. بل مدرسة فنية عريقة نشأت على أساسها جميع الفنون الإسلامية.

قلت: هل طبقت المقاييس التي ذكرتها على الفن الإسلامي؟

قال: أجل.. وقد وجدت المعاني الإسلامية العظيمة مصاغة بقوالب غاية في الجودة.

التهذيب:

قلت: فلنبدأ بالتهذيب.. فقد ذكرت أنه غاية جليلة من غايات الفن.

قال: لقد رسم القرآن للفن الإسلامي الأسلوب الصحيح الذي يرفع به الواقع من الانحطاط إلى الارتفاع.. ومن السقوط إلى الصعود.

اقرأ سورة يوسف في القرآن، وقارنها بكتابنا المقدس([23]) لترى سر تلك النزعة النبيلة التي صاحبت الفن الإسلامي مقارنة بأدبنا وفننا الذي استوحى بذاءته وفحشه من نفس القصة في الكتاب المقدس.

قلت: فننا يصور الواقع كما هو.. ويحاول أن يعالجه من خلال ذلك.

قال: وهذا سر انحرافه وجاهليته.. الفن الراقي النبيل هو الذي يملأ النفس طهرا وعفافا وسموا.. وهو الذي يعين النزعة الطيبة في النفس، لا الذي يعين الشياطين عليها.

إن الواقع الذي يبحث عنه فننا هو الواقع الهابط.. المنسلخ من الدين.. ومن القيم.. ومن الأخلاق!

ففى الفترة التى استغرقتها الرومانسية وارتدت بعدها إلى الواقع كان الناس قد ساروا خطوات على خط العلمانية المنسلخة من الدين فهبطوا، فجاءت الواقعية لترصد واقعهم حيث هم.. ثم تقول هذا هو الواقع البشرى!

فأما كون هذا هو الواقع الذى كان عليه الناس وقتئذ فهذا حق لا شك فيه، وأما أن هذا الواقع البشرى على إطلاقه فأمر يكذبه التاريخ، وتكذبه فترات الهدى فى حياة البشرية، التى ارتفع الناس فيها إلى قمم  تبدو ـ فى هذا الواقع المنحرف ـ كأنها خيالات، ولكنها كانت واقعا عاشه الناس بالفعل، وينبغى أن يحاولوا على الدوام أن يعودوا إلى ذلك المستوى السامق أو يعودوا إلى قريب منه.

قلت: أتريد من الفن أن يدارى على هبوط الناس وأن يصورهم فى صورة غير واقعية من أجل إرضاء المثل العليا([24]).

قال: لا.. فالفن المزور لا يستطيع أن يعيش.. لكن هناك فرقا بين تصوير الواقع على أنه واقع، وأنه واقع منحرف عن الأصل الذى كان ينبغى أن يكون عليه، وبين تصويره على أنه هو الواقع الإنسانى الذى لا يمكن تعديله أو لا ينبغى تعديله أو لا يعنينا تعديله!

كلاهما تصوير للواقع. ولكن أحدهما يصور الواقع المنحرف بروح الإنكار، ويدعو إلى الارتفاع عنه، والآخر يعطيه شرعية الوجود فتكون النتيجة الحتمية – دائما – مزيدا من الهبوط.

لقد ذكر القرآن في سورة يوسف نموذجا للواقع، فقد ورد في قصة يوسف:{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}(يوسف)

ولكن هذه ليست اللقطة الأخيرة.. إنما اللقطة الأخيرة هى الأوبة والتوبة والترفع والارتفاع:{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)}(يوسف)

ونموذج الواقعية الهابطة هو الأدب الذى يدعى الواقعية وهو فى الواقع يدعو إلى الهبوط.. وهبه صادقا فى ادعاء الواقعية، فلماذا يصر على التقاط اللحظات الهابطة وحدها ويتجنب لحظات الارتفاع!؟ ثم لماذا لا يسمى الهبوط باسمه الحقيقى وهو الهبوط!؟

قلت: إن ما ذكرته من هذه القيود هو الذي جعل الفن الإسلامي فنا هزيلا متخلفا عن سائر الفنون.. فإذا ما قارنا الأدب الإسلامي بالآداب الاغريقية والرومانية، فإننا نرى كثيراً من الألوان الفنية ـ غير الشعر ـ تنقصه، مثل القصة والمسرحية والملاحم الشعرية.

ومثل ذلك يقال في فن النحت.. فلا نجد في الحضارة الإسلامية أي تماثيل كتلك التماثيل التي تركها الرومان وغيرهم من أصحاب الحضارات العريقة.

قال: صدقت في هذا.. ولكن هل هذا من النقص أم من الكمال؟

قلت: ما تقصد؟

قال: أرأيت لو أن أحدهم ظل طول الليل يسرد عليك حكايات كاذبة مملوءة بالخرافة والمجون ليمتعك.. أتختاره أم تختاره الذي يحكي لك قصة قد تكون قصيرة، ولكنها بمنتهى النظافة والجمال والعفاف؟

قلت: بل أختار الثاني.

قال: وهذا ما فعل المسلمون.. لقد أنف شعرهم من أن يضع الملاحم التي تحشر نفسها في صياغاته آلهة الشر والخير والنار والحرب والشعر والجمال، وكان يأنف من روايات الأساطير الميثولوجية لمنافاتها لاعتقاداته، وخروجها على مألوف تصوراته لله والقوى التي يرمز اليها بما وراء الطبيعة.

قلت: فأين توجه؟

قال: إلى شعر نظيف يشكل البيت الواحد منه موسوعة قيمة في الأخلاق الرفيعة.. أو إلى القصة القصيرة التي تملأ النفس بالإيمان والتقوى والصلاح.. أو إلى الإنشاد الطيب الذي يعمق المعاني الجميلة في النفوس..

قلت: والنحت والتصوير؟

قال: لقد توجه المسلمون إلى الخطوط يصوغون منها أجمل اللوحات الفنية المعبرة.

قلت: ذلك لا يكفي.

قال: لكل شعب من الشعوب طريقة تعبيره الفني.. وربما تكون لك بعض الأمور لا أهمية لها، ولكن في نظر آخرين تكتسي أهمية كبرى.

الفن ـ يا صاحبي ـ أذواق.. والذوق ملك لصاحبه، والكمال في الفن هو استخدام الذوق لخدمة التربية النبيلة.

قلت: ولكن ما ذكرته من هذه المعاني لم يحصل.. فأغلب الشعر العربي يضم مدائح كاذبة، ترفع البشر من الحكام والقواد وزعماء القبائل والعشائر الى مصاف المثالية المغرقة، فجودهم كالبحر أو الريح المرسلة، وشجاعتهم فوق التصور، وأخلاقهم لا مأخذ فيها، ولا ضعف في بنائها، وبيانهم معجز لا ركاكة ولا إسفاف، ووجوههم مشرقة كالشموس أو البدور.. ومن هنا يرمون الشعر والشعراء بالنفاق والكذب الصراح، والتزلف وإغفال جانب الجماهير في المطالبة بحياة أسعد وأرغد..

قال: إن كل ما ذكرته صحيح.. ولكنه يصب في صالح الفن الإسلامي، وفي خدمته لهذه الغاية العظمى من الفن غاية التهذيب.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألا ترى أن فننا يتوجه ليصور واقع المنحرفين كما هو بمجونه وصراعه وانحرافه.

قلت: أرى ذلك.. فهو على الأقل يصور الواقع.

قال: ولكنه يملأ النفوس بالكدورات.. إن الفن مدرسة.. والنفوس تتلقى منها.. وهي في تلقيها تنشغل عن الوقائع بالمفاهيم والقيم.. ولذلك تمتلئ بقيم الإجرام إذا أدمنت مشاهد الإجرام.

قلت: وشعر المديح الذي اشتهر في الإسلام.

قال: إن الشاعر في مدائحه يحاول ان يرسم صورة مثالية رائعة لما يجب أن يكون عليه الممدوح، إن فضيلة الكرم اذا وضحت في الأذهان، واتخذت أغنية أو قصيدة تترنم بها المحافل، وارتبطت بشخصية من الشخصيات، فإن إشاعة مثل هذه الفضيلة يؤدي الى ترسمها والنسج على منوالها، فتسود فضيلة الكرم فعلاً.. والتغني بالعدالة والحرية والنبل، وربط الممدوح بها، يلفت النظر إليها ويجعلها بالممارسة والحديث الطويل عنها حقيقة كائنة.

لقد مدح المتنبي بقصائده الكثير من الأمراء.. وامتلأ شعره حكمة بسبب ذلك، ولكنا نرى العامة يرددون شعره من غير أن يعرفوا أميرا من الأمراء.. فقد انشغلوا بالغاية عن الواسطة.

قلت: ولكن القرآن ذم الشعر.. ففيه:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} (الشعراء:224)

قال: القرآن لم ينه عن الشعر.. بل وجهه نحو الوجهة النبيلة، ولهذا، فقد جاء بعد تلك الآية السابقة تعليل سر ذلك، واستثناء الذين آمنوا:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} (الشعراء) 

وقد قال محمد يبين الغاية التي ينبغي أن يتوجه لها الشعر: (إن من الشعر حكما)([25])

قلت: أجل ذلك ما صحيح.. وقد قال الشاعر يبين الدور العظيم الذي قام به الشعر في هذا المجال:

ولولا خِلالٌ سَنَّها الشِّعْرُما درى  بناةُ المعالي كيفَ تُبْنى المكارمُ

التوحيد:

قلت: عرفت الغاية الأولى من غايات الفن.. فحدثني عن الغاية الثانية.

قال: الغاية الثانية هي التوحيد.. وهي عبودية الفن لله.

قلت: ما تقصد؟

قال: لقد عرفنا كيف توجهت الفنون في جميع الجاهليات إلى خدمة الآلهة المزاحمة لله.

قلت: أجل.

قال: مقابل هذا، فقد توجه الفن الإسلامي إلى التوحيد الذي يملأ القلوب معرفة لله ومحبة له.

قلت: أين أجد هذا في الفن الإسلامي؟

قال: اذهب إلى دواوين الصالحين الكثيرة لترى تلك الأشعار الرقيقة في محبة الله وذكر كمالاته.

قلت: ولكن ليس الفن شعرا وحده.

قال: فاذهب إلى تلك المجالس التي تترنم بتلك القصائد لتحولها إلى ألحان تموج بجميع معاني الإيمان.

قلت: قد سمعت بعضها وأثرت في نفسي تأثيرا عميقا.

قال: فقارن ذلك بما تسمعه من قومك من أنواع الغناء والموسيقى التي تملأ النفس بالضياع والقلب بالألم.

***

ما وصل (سير هاملتون جيب) من حديثه إلى هذا الموضع حتى سالت دموع حارة من عينيه لم يملك حبسها، فقلت له: ما يبكيك؟

قال: أمران.. كلاهما ملأ قلبي بحزن وانقباض وكآبة.

قلت: ما هما؟

قال: أما أولهما فهو من آلت إليه قيادة الفن في عصرنا.

قلت: ما به؟

قال: هم لم يكتفوا بما وصل إليه الإنسان من انحراف عن إنسانيته، بل راحوا يعمقون هذا السقوط.. فكل يوم ينتج لنا الشياطين الذين يحتكرون وسائل الإعلام من ألوان الغثاء ما يزيد به تيه الإنسان عن الإنسان.

قلت: عرفت هذا.. وأنا أتألم له بمثل تألمك.. فما الثاني؟

قال: أولئك المسلمون..

قلت: ما بهم؟

قال: أراهم يعرضون دينهم والحقائق العظيمة التي جاء بها في أسلوب جاف قاس جعلهم وجعل دينهم عرضة للتهكم.

قلت: فما تريد منهم؟

قال: ما يريد المريض من طبيبه؟

قلت: العلاج.

قال: والعلاج يحتاج إلى مسكنات ومهدئات وتطييب نفس، فلا يمكن للطبيب أن يغرس سكينه لاستئصال الآلام من دون كل ذلك.

قلت: أجل..

قال: ولكن أولئك االمسلمين لم يفعلوا هذا في مداواتهم للبشرية، وأتاحوا بذلك المجال للمجرمين لينحرفوا بالبشرية عن مسارها الصحيح.

قال ذلك، ثم انصرف، وانصرفت خلفه ومعي بصيص جديد من النور اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


([1])  هو سير هاملتون الكساندر روسكين جب Sir Hamilton R. A. Gibb (1895 – 1967)، ولد في الإسكندرية، ثم انتقل إلى اسكتلندا وهو في الخامسة من عمره للدراسة هناك ولكنه كان يمضي الصيف مع والدته في الإسكندرية. التحق بجامعة أدنبرة لدارسة اللغات السامية. عمل محاضراً في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن عام 1921وتدرج في المناصب الأكاديمية حتى أصبح أستاذً للغة العربية عام 1937 وانتخب لشغل منصب كرسي اللغة العربية بجامعة أكسفورد. انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليعمل مديراً لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد بعد أن عمل أستاذاً للغة العربية في الجامعة.

هو إمام المستشرقين الإنكليز المعاصرين، وهو عضو مؤسس في المجمع العلمي المصري، تفرغ للأدب العربي وحاضر بمدرسة المشرقيات بلندن.

بالإضافة إلى اهتمامه اللغوي فقد أضاف إلى ذلك الاهتمام بتاريخ الإسلام وانتشاره وقد تأثر بمستشرقين كبار من أمثال تومارس آرنولد وغيره.

ومن أقواله التي جعلتنا نختاره لهذا الفصل:( إذا رأى أحد أن إلحاح القرآن على فعل الخير غير كثير أثبتنا له بالحجة القاطعة خطأه وسقنا إليه ذلك التعريف الشامل للبر في تلك الآية العظيمة:{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (البقرة 177)، فالبر إذن تاج الإيمان الحق، حين يدرك المؤمن أخيرًا أن الله شاهد أبدًا، ويستجيب لشهوده في كل أفكاره وأعماله ) (دراسات في حضارة الإسلام، ص 254)

وقوله:( هذه، إذن، هي الرسالة التي بلغها القرآن إلى الجيل الأول من المسلمين وظل يبلغها إلى جميع الأجيال منذ ذلك العهد. فالقرآن سجل لتجربة حية مباشرة في ميدان الألوهية، تجربة ذات طرفين: واحد مطلق وآخر متصل بشؤون الحياة العامة، ودعوة للمخلوق كي ينظم حياته ليتمكن من الأخذ بنصيب في تلك التجربة. وحين يتبع المسلم أوامر القرآن ويسعى ليستكنه روح تعاليمه، لا بفكره فحسب بل بقلبه وروحه أيضًا، فإنه يحاول أن يستملك شيئًا من الرؤى الحدسية ومن التجربة التي كانت للرسول الحبيب. ويعظم في عينيه مغزى كل آية فيه، لإيمانه بأنه كلام الله. ولو لم يكن هذا الإيمان شعبة من عقيدته لما تناقصت قيمته لديه من حيث هو منبع حي للإلهام والاستبصار الديني ) (دراسات في حضارة الإسلام، ص 254) انظر: قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل.

([2])  انظر الكتب التي تتحدث عن العلمانية التي سبق ذكرها.

([3])  قصة الحضارة 24/154.

([4])  انظر الفصل الأول من هذه الرسالة.

([5])  محاضرات في النصرانية: 164.

([6])  أشعة خاصة بنور القرآن: 25.

([7])  الله واحد أم ثالوث: 14.

([8])  قصة الحضارة 14: 368.

([9]) انظر: مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب.

([10])  كتب غيرت وجه العالم: مقتطفات: من 362 – 368.

([11])  مقتطفات من: راندال: 2/185 – 198.

([12])  لا شك أن الثورة الفرنسية (1798م) هي أحد العوامل الكبرى التي كانت باعثاً ونتيجة في آن واحد للفكر الرومانسي المتحرر والمتمرد على أوضاع كثيرة، أهمها الكنيسة والواقع الفرنسي وما فيه.

([13])  ثلاثة قرون من الأدب: 1/134.

([14])  جاهلية القرن العشرين: 226 – 227.

([15])  انظر: جاهلية القرن العشرين: 221.

([16])  انظر الفصول السابقة، خاصة (قيم) و(إنسانية)

([17])  كما سنرى في هذا المبحث.

([18])  قصة الفكر الغربى: 297.

([19])  دراسات أدبية: يوسف الشارونى: 84.

([20])  معجم الأدب المعاصر: 62، 63.

([21])  معجم الأدب المعاصر:63.

([22])  ترجع بذور مذهب الوجودية إلى الكاتب الدانمركي كيركا جورد 1813-1855م وقد نمى آراءه وتعمق فيها الفيلسوفان الألمانيان مارتن هيدجر الذي ولد عام 1889م، وكارك يسبرز المولود عام 1883م.. وقد أكد هؤلاء الفلاسفة أن فلسفتهم ليست تجريدية عقلية، بل هي دراسة ظواهر الوجود المتحقق في الموجودات.

والفكر الوجودي لدى كيركاجورد عميق التدين، ولكنه تحول إلى ملحد إلحاداً صريحاً لدى سارتر.

([23])  انظر هذه المقارنة في (الكلمات المقدسة)

([24])  انظر: مذاهب فكرية معاصرة، ومنهج الفن الإسلامي، لمحمد قطب.

([25]) )  الترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن ماجة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *