تاسعا ـ حروب

في مساء اليوم التاسع.. وفي دار الندوة الجديدة.. دخل دوج مارلت([1]).. الرسام.. بوجه لم يصعب علي أن أتبين ما فيه من تغير.
ابتدرته الجماعة قائلة: ما الذي فعلت!؟.. ما نسبة نجاحك!؟.. هل هناك نتائج إيجابية!؟
لم يجبهم بشيء.. بل ألقى بين أيديهم القرص الذي سجل فيه حواره التجريبي، ثم قال: هو ذا التسجيل بين أيديكم.. وهو سيجيبكم أفضل مني.. فأنا إلى الآن لا أكاد أعرف شيئا.
ابتدر أخي.. ووضع القرص في القارئ.. وبدأ شريط الأحداث:
رأينا دوج يحتمع إلى نفر من الناس في ميدان الحرية، ثم يخاطبهم قائلا: هل تعرفون محمدا؟
قال أحدهم: ومن لا يعرف محمدا، وهو الشمس التي نستقي من دفئها، ونتنور من نورها.. ولولاها ما كانت للكون ألوانه التي نراها([2]).. ولا كان لنا السكينة التي نحياها.
قال آخر: ومن لا يعرف محمدا.. وهو النبيل المتسامح الرحيم اللطيف الودود..
وقال غيرهما أوصافا مثل هذه..
لم يجبهم دوج بشيء.. بل نزع ـ في ثقة عجيبة ـ الغلاف عن لوحة كبيرة كان يحملها، وهي تحمل صورة رجل يحمل سيوفا كثيرة يقتل بها كل شيء يجده أمامه، ثم قال: هذا هو محمد.. إن هذه الصورة تمثل الإرهاب الذي كان يمارسه محمد.. ألا ترون كثرة السيوف التي تمتلئ بها هذه اللوحة.. إن كل سيف منها يمثل معركة من المعارك الكبرى التي خاضها محمد إما بنفسه.. أو بالمرتزقة الذين أغراهم بالجنة ليقوموا بأشنع المعارك في تاريخ الإنسانية.
قال ذلك، ثم أشار إلى سيف من السيوف، وقال: هذا السيف ـ مثلا ـ يمثل غزوة سيف البحر.. لاشك أنكم لم تسمعوا بها.. إنها من المعارك الكبرى التي خاضها محمد مع المرتزقة الذين صاحبوه.
أشار إلى سيف آخر، ثم قال: وهذه غزوة رابغ.. وهذه بواط العشيرة.. وهذه سفوان وتسمى غزوة بدر الأولى.. وهذه غزوة بدر الكبرى.. وهي من الحروب الكبرى التي خاضها محمد.. وهذه غزوة بني قينقاع.. وهذه غزوة أحد.. وهذه غزوة حمراء الأسد.. وهذه غزوة بني النضير.. وهذه غزوة بني المصطلق.. وهذه غزوة الخندق.. وهذه غزوة بني قريظة.. وهذه غزوة الحديبية.. وهذه غزوة خيبر.. وهذه غزوة عمرة القضاء.. وهذه غزوة فتح مكة.. وهذه غزوة حنين.. وهذه الطائف.. وهذه غزوة تبوك.
لقد بلغت غزوات محمد التي غزا فيها بنفسه تسعاً وعشرين غزوة.. أما سراياه.. أي الغزوات التي لم يقُدها بنفسه، بل أرسل إليها بعض أصحابه، فعددها تسع وأربعون. وقيل إنها تزيد على سبعين([3])..
هل يمكن لنبي أن يفعل هذا.. هل يمكن لنبي أن يخوض كل هذه الحروب..!؟
تأملوا حياة المسيح المتسامح.. وقارنوها بحياة هذا النبي المقاتل.. بل الذي لا يهدأ عن الحرب.
عودوا إلى الكتاب المقدس ذلك الكتاب المملوء بالسلام .. وأحرقوا تلك المصاحف التي كتبها لكم محمد، ليأمركم من خلالها أن تقاتلوا الناس كافة.
قام بعض الجمع غاضبا، وهو لا يكاد يسمع صوت الحكيم الذي أمرهم بالهدوء، فقام دوج يحتمي بالحكيم، ويقول: إن ما تفعلونه هو الإرهاب.. فمحمد الذي تتبعونه.. وتركتم له عقولكم هو الذي جعلكم إرهابيين تريدون أن تقمعو الفن النبيل بالسلاح الذي لم يعلمكم محمد غيره.. لأنه لم يكن لديه إلا السلاح.. ولم يكن يمارس في حياته غير الإرهاب.
قال الحكيم: مهلا ـ يا أخي ـ لا ينبغي أن تصب الزيت في النار، فتحرقهم، وتحرق نفسك.
قال دوج: بل ينبغي أن أصبها حتى أحرق ذلك الذوبان في محمد.. والذي جعلهم يمارسون الإرهاب بكل أصنافه.
قال الحكيم: ألا ترى أن ما تمارسه الآن نوع أخطر من الإرهاب نفسه؟
قال دوج: لا.. أنا فنان مبدع.. وقد استطعت بريشتي أن أصور الحقيقة التي عجزت جميع أسفار الدنيا أن تصورها.
قال الحكيم: إنك تصور ما توهمته حقيقة.. ونحن لا نعتب عليك وهمك.. ولكن نعتب عليك إصرارك عليه.
نحن وإياك نشبه مدعيا ومتهمين.. فأنت المدعي ونحن المتهمون.. فهل ترى من العقل والأدب أن تتهم شخصا، ثم لا تسمح له أن يغضب لأنك تتهمه من دون بينة.. ثم لا تعطي له بعد ذلك الفرصة لأن يدافع عن نفسه، ويدفع التهم التي تكلها له؟
سكت دوج، فقال الحكيم: هذا نوع من الإرهاب.. إنك ـ يا أخي ـ تقيم بتصرفك هذا محاكمة عسكرية، ليس فيها شهود ولا محامون..
قال: ولكن محمدا مات.. ولا حرج علي أن أرسمه بأي صورة أشاء.
قال الحكيم: أرأيت لو أن رساما لا يقل عنك إبداعا انتظر حتى تموت أمك، ثم رسمها بصورة مومس بغي.. هل تقبل ذلك؟.. أم هل تعتبر ذلك من الحرية؟
قال دوج: لا شك أني لا أقبل.. ولكن هي أمي..
قال الحكيم: وهذا محمد.. وهو بالنسبة لكل مسلم أعظم حرمة من أبيه وأمه وأخيه وزوجه وولده.. إنه بالنسبة للمسلمين أحب إليهم من أنفسهم.. إنه بالنسبة لهم العين التي بها يبصرون.. والأذن التي بها يسمعون.. والروح التي بها يحيون..
وأنا أقول لك بكل صراحة.. لو أنك رسمت هذه الصورة.. وقلت للناس: هذه صورة فلان من الناس من المسلمين.. ربما لو قلت ذلك لن يهتم أحد.. ولن يبالي أحد حتى من رسمته لا يبالي.. أما محمد.. فهو القداسة بعينها.. ولا ينبغي للقداسة ان تلطخ.
قال دوج: ولكني ذكرت لكم أدلتي.. ألم تر كل تلك السيوف.. إن كل سيف منها دليل قائم بذاته.. إن كل سيف منها لم يضعه محمد حتى ملأه دماء.
انتفضت الجماعة غاضبة، فقال الحكيم: مهلا ـ يا جماعة ـ إن هذا الرجل ـ على ما يبدو ـ طالب حق.. وقد ذكر لنا من خلال صورته هذه الشبه التي تحيك في نفسه، وتحول بينه وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. والأدب الذي أدبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا لأن نحل له الإشكالات التي وقع فيها، ونجيبه عن الشبه التي جعلته يعتقد في نبينا هذا.
قال دوج: لا.. أنا لست واقعا في أي شبهة.. بل أنا متأكد من كل ما فعلته مصر عليه غاية الإصرار.
قال الحكيم: لا بأس.. ولكن المنطق العلمي يدعوك لأن تسمع لنا، ثم تجيبنا بعد ذلك بما تشاء أن تجيبنا به.
قال دوج: وهل لأمثالكم منطق علمي حتى يمكن أن نسمع له؟
قال الحكيم: لا بأس.. سنعرض عليك ما عندنا.. ولك الحرية بعد ذلك أن تقبله أو أن ترده.
قال دوج: أنا فنان مبدع.. وليس للفنان المبدع أن يضيع وقته مع أمثالكم.
قال الحكيم: لا بأس.. اعتبرنا مادة لفنك.. اسمع لنا.. ثم صور ما تشاء مما نقوله بما تشاء من ألوانك.
سكت دوج، فقال الحكيم: إن ما ذكرته من شبه يستدعي البحث العلمي في ثلاثة أمور:
أما أولها.. فهو في شرعية الحرب من خلال مصادركم ومن خلال مصادرنا، باعتبار المصادر هي الأساس الذي نتلقى منه أفكارنا وسلوكنا وحياتنا.
وأما الثاني.. فهو النظر في أسباب الحروب التي مارسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ونقارنها بالحروب التي مارسها رجال الكتاب المقدس وغيرهم على امتداد تاريخ البشرية.
وأما الثالث.. فهو النظر في الأخلاق التي صاحبت حروب محمد.. والتي صاحبت حروبكم.
نظر إلى الجماعة، وقال: أظن أن هذه الأمور الثلاثة التي نقارن فيها بيننا وبين الآخر تكفي للدلالة على حقيقة الحروب التي مارسها محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال دوج: لا بأس.. سأستمع لك.. ولكن ذلك لا يعني أنني أوافقك.
قال الحكيم: أنا لا يهمني أن توافقني أو تخالفني.. بل يهمني شيء واحد هو أن أذكر لك ما عندي من الحقائق، وترد عليك بما لديك منها لنصل إلى الحقيقة.. فليس لنا من هدف في هذه الحياة إلا الوصول إلى الحقيقة.
قال رجل من الجمع: فلنبدأ من الأول.. من شرعية الحرب من خلال مصادرهم، ومن خلال مصادرنا.
قال الحكيم: أما مصادرهم، فكثيرة، منها ما يرجع إلى فلسفاتهم ومذاهبهم وتصوراتهم للحياة.. وهذه لا يمكن أن نجد فيها إلا استباحة سفك الدماء لأي سبب من الأسباب.. ولذلك سنستبعد هذه المصادر.
وسنكتفي بأنظف مصادرهم وأقدسها.. وهي المصادر التي فخر علينا بها هذا الفنان الآن.. وهي أسفار الكتاب المقدس.
أخرج من محفظته نسخة من الكتاب المقدس، ثم قال: لدي نسخة من الكتاب المقدس.. أنا لا أكف عن مطالعتها.. وسأذكر لكم منها موقف هذا الكتاب من الحروب.. ثم نقارن هذا الموقف بما تقوله مصادرنا.. لنرى من خلال هذه المقارنة مدى شرعية الحرب بين مصاردهم ومصادرنا.
سنكتفي من الكتاب المقدس بهذه الأسفار: التكوين ـ العدد ـ التثنية ـ يوشع ـ القضاة ـ صموئيل الأول ـ الملوك الثانى ـ حزقيال.
أما فى سفر العدد، فنرى موسى بعد خروجه بقومه من مصر يرسل رسلا يتحسسون أمر أرض كنعان ـ فلسطين ـ ليستقروا فيها.. ففيه:(فساروا حتى أتوا موسى وهارون وكل جماعة بنى إسرائيل إلى برية فاران إلى قادش، وردوا إليهما خبرًا وإلى كل الجماعة، وأروهم ثمر الأرض وأخبروه، وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التى أرسلتنا إليها، وحقا إنها تفيض لبناً وعسلاً وهذا ثمرها غير أن الشعب الساكن فى الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جداً وأيضا قد رأينا بنى عناق هناك} (العدد: 13 / 26-29)
وجاء فى سفر صموئيل الأول:(فأجاب نابال عبيد داود وقال: من هو داود ومن هو ابن يسى قد كثر اليوم العبيد الذين يقحصون كل واحد من أمام سيده، أآخذ خبزى ومائى وذبيحى الذى ذبحت لجارى وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم؟ فتحول غلمان داود إلى طريقهم ورجعوا وجاءوا وأخبروه حسب كل هذا الكلام، فقال داود لرجاله: ليتقلد كل واحد منكم سيفه وتقلد داود سيفه وصعد وراء داود نحو أربعمائة رجل ومكث مائتان مع الأمتعة } (صموئيل الأول: 25/10-14)
وفى سفر الملوك الثانى:(وكان ميشع ملك موآب الثانى صاحب مواش، فأدى لملك إسرائيل مائة ألف خروف ومائة ألف كبش بصوفها، وعند موت آخاب عصى ملك موآب على ملك إسرائيل وخرج الملك يهورام فى ذلك اليوم من السامرة وعد كل إسرائيل وذهب وأرسل إلى يهو شافاط ملك يهوذا يقول: قد عصى على ملك موآب، فهل تذهب معى إلى موآب للحرب؟)(الملوك الثانى: 3/4 – 8)
وفى سفر حزقيال:(وكان إلى كلام الرب قائلا: يا ابن آدم اجعل وجهك نحو أورشليم وتكلم على المقادس وتنبأ على أرض إسرائيل وقل لأرض إسرائيل هكذا قال الرب هأنذا عليك وأستل سيفى من غمده فأقطع منه الصديق والشرير من حيث إنى أقطع منك الصديق والشرير فلذلك يخرج سيفى من غمده على كل بشر من الجنوب إلى الشمال فيعلم كل بشر أنى أنا الرب سللت سيفى من غمده لا يرجع أيضاً) (حزقيال:21 /1 – 5)
وفى سفر يوشع:(وأنتم قد رأيتم كل ما عمل الرب إلهكم هو المحارب عنكم انظروا: قد قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين ملكاً حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التى قرضتها والبحر العظيم نحو غروب الشمس والرب إلهكم هو ينفيهم من أمامكم ويطردهم من قدامكم فتملكون أرضهم كما كلمكم الرب إلهكم) (يوشع: 23/3-5)
وفى سفر القضاة:(وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوا بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل وسكان الجنوب والسهل) (القضاة: 18/27-30)
وفيه:(فأما هم فقد أخذوا ما صنع ميخاً والكاهن الذى له وجاءوا إلى لايش إلى شعب مستريح مطمئن فضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار ولم يكن مَنْ ينقذ لأنها بعيدة عن صيدون ولم يكن لهم أمر مع إنسان وهى فى الوادى الذى لبيت رحوب فبنوا المدينة وسكنوا بها ودعوا اسم المدينة دان باسم دان أبيهم الذى ولد لإسرائيل ولكن اسم المدينة أولا: لايش)
وفى سفر صموئيل الأول:(وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب ونزلوا عند حجر المعونة، وأما الفلسطينيون فنزلوا فى أفيق واصطف الفلسطينيون للقاء إسرائيل واشتبكت الحرب فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضربوا من الصف فى الحقل نحو أربعة آلاف رجل) (صموئيل الأول: 4/1-4)
وفى سفر التكوين:(فحدث فى اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابنى يعقوب شمعون ولاوى أخوى دينة أخذ كل واحد منهما سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف لأنهم بخسوا أختهم، غنمهم وبقرهم وكل ما فى المدينة وما فى الحقل أخذوه وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما فى البيوت) (التكوين: 34/25-29)
وفى سفر التكوين:(فلما سمع إبرام أن أخاه سبى جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر وتبعهم إلى دان وانقسم عليهم ليلاً هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى حوبة التى من شمال دمشق واسترجع كل الأملاك واسترجع لوطاً أخاه أيضاً وأملاكه والنساء أيضاً والشعب) (التكوين: 14/14 – 16)
وفى سفر العدد:(فقال الرب لموسى لا تخف منه لأنى قد دفعته إلى يدك مع جميع قومه وأرضه فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الساكن فى حبشون فضربوه وبنيه وجميع قومه حتى لم يبق لهم شارد وملكوا أرضه) (العدد: 21/34-35)
وفى سفر العدد:(ثم كلم الرب موسى قائلا ضايقوا المديانيين واضربوهم لأنهم ضايقوكم بمكايدهم التى كادوكم بها) (العدد: 25/16)
وفيه نرى نرى أن الله قد أمر موسى ـ عليه السلام ـ أن يشن حرباً على أقوام قد عبدوا غير الله.. ففيه:(وكلم الرب موسى فى عربات مو آب على أردن أريحا قائلا: كلم بنى إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم) (العدد: 33/ 50-53)
ومثل ذلك ما ورد فى سفر صموئيل:(فقال داود للفلسطينى: أنت تأتى إلى بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتى إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم.. فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل) (صموئيل:45- 47)
وفى سفر صموئيل الأول:(فذهب داود ورجاله إلى قعيلة وحارب الفلسطينيين وساق مواشيهم وضربهم ضربة عظيمة وخلص داود سكان قعيلة)(صموئيل الأول: 23/6)
وفى سفر المزامير:(يسبح داود الرب ويمجده لأنه يعطيه القوة على محاربة أعدائه: الذى يعلم يدى القتال فتحنى بذراعى قوس من نحاس.. أتبع أعدائى فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم أسحقهم فلا يستطيعون القيام، يسقطون تحت رجلى تمنطقنى بقوة للقتال تصرع تحتى القائمين على وتعطينى أقفية أعدائى ومبغضى أفنيهم) (المزامير: 18/35-41)
هذه بعض النصوص التي تدل على مشروعية الحرب والقتال، فالحرب ـ حسب هذه النصوص ليست شيئا مكروها.. بل هي دائما تتم بمباركة الرب ومعونته، وكأن الرب ـ حسب تعبير التوراة ـ قد استل سيفه من غمده فلا يرجع، كما في سفر (حزقيال:21/5)
قال دوج: أنت ترجع للعهد القديم.. ولكن العهد الجديد يقول:(من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر)
قال الحكيم: وهو يقول كذلك:(لا تظنوا أنى جئت لأرسى سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسى سلاماً، بل سيفاً، فإنى جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها والكنة مع حماتها، وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته) (إنجيل متى: 10/34-36)
قال رجل من القوم: فحدثنا عن موقف القرآن من الحرب.
قال الحكيم: لنعرف موقف القرآن الكريم من الحرب لا بد أن نقرأ القرآن الكريم جميعا لنرى فيه مدى حرمة الإنسان.. حرمة الإنسان بكل ما يرتبط به من نفس ومال وعرض وحرية.. وغيرها.
لقد ذكر القرآن من الأمور المنكرة التي ذكرتها الملائكة متعجبة منها (سفك الدماء)، قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:30)
وذكر القرآن الكريم قصة ابني آدم، وأثنى كل الثناء على الابن الذي تعفف عن قتل أخيه، فقال تعالى:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)} (المائدة)
وذكر الله تعالى قصة قتل موسى للقبطي، وكيف ندم على ذلك، مع كونه لم يقتله متعمدا، فقال:{ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} (القصص)
أرأيتم ندم موسى ـ عليه السلام ـ على قتله، مع كونه كان ظالما.. بل اعتبر ذلك من عمل الشيطان.. ثم استغفر الله.. واعتبر نفسه ظالما بفعله ذلك!؟
قارنوا هذا بما ورد في التوراة من نفس الحادث.. حيث لا يبدي فيه موسى أي ندم على فعله.. لتروا مدى ما يحمله الكتاب المقدس من مشروعية لسفك الدماء.
قال دوج: أنت تنتقي من القرآن ما يحلو لك.. لماذا لا تقرأ الآيات القرآنية الكثيرة التي تحتوي على كلمة (قتال)..
لقد قرأت كتب العالم المقدسة.. فلم أجد لفظا مستعملا بهذه الكثرة التي استعمل بها القرآن كلمة (القتال) وما في معناها.. إنها تزاحم كلمة الصلاة.. بل تكاد تفوق عليها.
قال الحكيم: صدقت.. لقد وردت كلمة القتال في القرآن كثيرا.. ولكن العبرة ليس بكثرتها، وإنما بنوع الأوامر المرتبطة بها.
قال دوج، وهو يضحك بصوت عال: القتل هو القتل.. ولا يفوح من هذه المادة إلا روائح الدماء.
قال الحكيم: دعنا من هذا الأسلوب.. ولنتحدث حديث العقلاء.. إن المنطق العلمي يستدعي النظر في كل جملة أو آية وردت فيها كلمة القتال في القرآن لنحلل المراد منها.. ثم نرى بعد ذلك ما نوع القتال الذي يطلب القرآن من المسلمين القيام به.. هل هو قتال إرهابيين ظلمة.. أم هو قتال أهل الحق دفاعا عن حقهم.
التفتت الجماعة إلى دوج، وقالت: صدق الرجل.. وقد ألزمك الحجة.. ولا مناص لك من أن تذكر له هذه المواضع التي ورد فيها لفظ القتال لنرى المراد منها.
قال دوج: أول ما يصادفك في القرآن هذه الآية التي نسخت جميع ما ورد في القرآن من الأمر بالسلام:{ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } (التوبة:36) ([4])
قال الحكيم: أنت تقص الآية، وتقطعها عن سياقها.. فالآية لا تأمر إلا بقتال المقاتلين.. لقد جاء فيها:{ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التوبة:36)
ثم إن الله تعالى لم يأمر المؤمنين بالقتال كافة إلا بعد أن أمرهم بالدخول في السلم كافة، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة:208)
وليس في القرآن ناسخ ومنسوخ.. كل ما في القرآن محكم.. فكلام الله:{ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (فصلت:42)
ثم لماذا تعتبر الآية منسوخة، ولا تعتبرها ناسخة؟
قال دوج: هذا ما ذكره المفسرون.
قال الحكيم: أنت تنتقي من المفسرين من تشاء، كما تنتقي من القرآن ما تشاء.. وهو منهج لا علاقة له بالعلم ولا بالمنطق.
قال دوج: فإذا عزلنا المفسرين، فمن يعبر عن القرآن؟
قال الحكيم: القرآن .. القرآن هو الوحيد الذي له الحق في التعبير عن نفسه.. ألا ترى أني حينما أذكر لك الكتاب المقدس لا أذكر لك قول أي شارح ولا أي مفسر؟
قالت الجماعة: نعم.. لاحظنا ذلك.. فالمسلمون في حوارهم لا يستخدمون إلا النصوص المقدسة.
قال الحكيم: لأنه لا يحق لأحد أن يملي على الله ما يقصد.. ثم إن الله الذي علم كل شيء كيف ينطق وكيف يفهم غيره لا يعجز عن أن يفهمنا مراده من غير حاجة إلى من يعقب عليه([5]).
قال دوج: لا بأس.. لن أذكر لك كلام أحد من المفسرين.. سأقتصر على القرآن.. إن معي مصحفا.. وسأقرأ عليكم منه ما يفند ما يدعيه هذا الرجل.
قال الحكيم: كل القرآن حديث عن السلام.. حتى الآيات التي توهمتها تدعوا للحرب هي في أصلها تنطلق من حب السلام.. ومن البحث عن السلام..
اقرأ علي ما شئت منها لتعرف من خلالها أن القرآن لم يأذن بالقتال إلا للضرورة القصوى التي استدعت ذلك وفي حدود ضيقة جدا.. ولولا ذلك لظلت الحرب، وظل معها سفك الدماء جريمة من الجرائم الكبرى التي تتنافى مع وظيفة الخلافة التي أنيطت بالإنسان في الأرض.
فتح دوج المصحف، وقد وضع فيه علامات محددة على المواضع التي يريد قراءتها، ثم قال: لقد ورد في القرآن.. في (البقرة:190):{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
قال الحكيم: واصل قراءة الآية، فهي تجيبك.
واصل دوج:{.. الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } (البقرة:190)
قال الحكيم: أرأيت.. لقد حددت الآية الصنف الذي تجب مقاتلته، وهو من يقاتلهم دون من عداهم.. ومع ذلك لم تكتف بذلك.. بل نهت عن الاعتداء بأبلغ الصيغ.. وهي الإخبار بأن الله لا يحب المعتدين.. وهذه الكلمة تمثل عند المؤمنين الصادقين قمة أنواع الزجر.. لأن كل مؤمن صادق لا يهتم في حياته بشيء كاهتمامه بحب الله له، ورضاه عنه.. فإذا علم أن الله لا يحب من تصرف تصرفا أو سلك سلوكا معينا كان أبعد الناس عنه.
نظر إلى دوج، ثم قال: هل ترى سلاما أعظم من السلام الذي دعت له هذه الآية؟
قال دوج: ولكنها أمرت بالقتال!؟
قال الحكيم: وهل ترى من الحكمة والعقل والسلام أن يسلم أهل الحق رقابهم لأعدائهم ليستأصلوها كما يشاءون!؟ .. هل هذا هو السلام!؟
سكت دوج، فقال الحكيم: لو كان هذا هو السلام لما بقي على وجه الأرض إلا المجرمون.
فتح دوج المصحف على موضع آخر، وراح يقرآ:{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} (البقرة:191)
قال الحكيم: واصل قراءة الآية.. ما بالك تقطعها.
واصل دوج:{ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َ} (البقرة:191)
قال الحكيم: ألا ترى أن الآية الكريم تدعو إلى معاملة المعتدين بالمثل.. ثم تعلل ذلك للنفوس المؤمنة الكارهة لسفك الدماء بأن الفتنة التي يوقعها هؤلاء المجرمون أعظم من القتل.
فتح دوج المصحف، وراح يقرأ:{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة:193).. ألا ترون أن هذه الآية تأمر بالقتال لأجل نشر الدين؟
قال الحكيم: لا.. إنها لا تأمر بالقتال لنشر الدين.. وإنما تأمر به لحفظ الدين.
قال دوج: كلاهما سواء.
قال الحكيم: لا.. بل هما مختلفان.. فالقتال لنشر الدين إكراه.. وقد حرم الإكراه، وقد قال تعالى:{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة:256).. أما القتال لحفظ الدين، فهو قتال ضد الذين توجهوا برماحهم وسيوفهم للدين ليستأصلوه.
لقد ذكر القرآن ذلك، فقال تعالى مبينا علة الإذن بالقتال:{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} (الحج)
ومع ذلك.. فقد جعل القرآن لذلك القتال المضطر إليه غاية ينتهي إليها، وهي انتهاء المعتدين عن عدوانهم، فقال تعالى:{ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } وقد وضعت الآية بذلك شعار المؤمنين في قتالهم.. وهو أنهم لا يقاتلهم إلا الظالمين.. أما من عداهم، فلا يجوز بحال من الأحوال سفك دمائهم.
قرأ دوج قوله تعالى:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216)، ثم قال: ألا ترون هذه الآية كيف تحض على القتال؟
قال الحكيم: في قوله تعالى:{ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } دليل على أن الإسلام لم يحضهم على القتال إلا للضرورة..ومع ذلك، فإن المسلم لا يقاتل من يقاتله حبا في سفك الدماء، وإنما لأنه لا يمكن أن يدافع عن نفسه وعن دينه إلا بذلك.
قرأ دوج قوله تعالى:{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة:194)
قال الحكيم: أنت ترى الآية تأمر بالمعاقبة بالمثل.. وعدم تجاوز المثل.
قال دوج: وهذه نقطة الاختلاف الكبرى بين المسيحية والإسلام.. فالمسيح أمرنا بالتسامح وبمحبة أعدائنا لا بمجازاتهم بالمثل.
قال الحكيم: لكل شيء ميزانه المحدد.. فقد يصلح التسامح في أحوال معينة، ومع بعض الناس.. ولكنه لا يصلح في كل الأحوال، ولا مع كل الناس.
ولهذا، فإن القرآن بالنسبة للأفراد، وفي الأحول الخاصة التي لا ترتبط بها المصالح العامة يحض على العفو والحلم ومقابلة الإساءة بالإحسان، كما قال تعالى:{ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34)
ولكن مع ذلك، فإن المعاملة بالمثل حق من الحقوق لا يلام فاعله، قال تعالى:{ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
هذا كله في المصالح الخاصة.. أما المصالح العامة فإن التشدد في الحفاظ عليها شريعة عادلة لا يختلف العقلاء في اعتبارها.
قال دوج: التسامح لا يتجزأ.
قال الحكيم: ولكنك إن تسامحت مع المجرم أخذت حق البريء.. وإن تسامحت مع القاتل ظلمت المقتول.. وإن تسامحت مع المتكبر اعتديت على المستضعف.
قال دوج: كيف ذلك؟
قال الحكيم: أرأيت لو أن قانون العقوبات نص في بلد من البلدان على تكريم اللصوص، وعدم عقوبتهم..ماذا سيحصل؟
لم يجب دوج، فنطق أحد الحاضرين، وقال: حينها ستصبح كل البلدة لصوصا.
قال الحكيم: فهذا ما يطلبه هذا الفنان المبدع من الإسلام.. إنه يطلب أن يستسلم أهل الحق لأهل الباطل، ويدعوا لهم البلاد والعباد، ليتصرف المستكبرون بما تهواه نفوسهم، وكل ذلك من أجل شيء واحد، وهو أن لا يصفهم المستكبرون بالإرهاب..
إنه يطلب من جهة المستضعفين أن تلقي أسلحتها، بينما لا يتجاسر أن يقول كلمة واحدة لأولئك المستكبرين الذين ملأوا الأرض أسلحة ودمارا.
لم يجب دوج بشيء، بل فتح المصحف، وراح يقرأ:{ يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:217)
ثم قال: ألا ترون القرآن كيف يحض على القتال في الأشهر الحرم.. وهي الأشهر التي اتفق العرب على ألا قتال فيها؟
قال الحكيم: إن القرآن يكره النفاق، ويكره أساليب المنافقين.
قال دوج: وما علاقة هذا بالنفاق؟
قال الحكيم: إن هؤلاء المشركين يشبهون أولئك المستعمرين الجشعين الذين يقتلون العباد، وينهبون البلاد، ثم يسنوا بعد ذلك من القوانين ما شاءوا، فإن خالفها بعضهم رموه بما شاءت لهم أهواؤهم أن يرموه به.
إن هؤلاء المشركين الذين بدا لهم أن يعظموا الأشهر الحرم نسوا أن يعظموا الحرم نفسه.. الحرم الذي عذبوا فيه المؤمنين.. بل الحرم الذي أرادوا أن يقتلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولهذا، فإن القرآن يذكر المبررات التي تبيح استعمال السلاح في هذه المواقف، وهي مبررات لا يمكن لعقل سليم أن يرفضها.
قرأ دوج قوله تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:146)
ثم قال: ألا ترون القرآن كيف يعتبر القتال سنة من سنن الأنبياء والصالحين؟
قال الحكيم: لولا الأسلحة التي ووجه بها الصالحون ما اضطروا للقتال.. وفي الآية دليل على شدة العناء الذي لاقاه هؤلاء من أعدائهم.
قرأ دوج قوله تعالى:{ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} (آل عمران).. وفي القرآن:{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:111)
ثم قال: ألا ترون هذا الإغراء الذي يغري به القرآن من قاتل في سبيل الله؟
قال الحكيم: إن تقييد القرآن للقتل بهذه الكلمة العظيمة:{ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } دليل على شرف هذا القتال وشرف القضية التي يحملها.. فهؤلاء لم يقاتلوا من أجل مصالحهم المحدودة، بل قاتلوا من أجل الحق الذي وهبوا أنفسهم له.
قال دوج: وهو نشر الإسلام.
قال الحكيم: لقد ذكرت لك أن الإسلام لا يمكن أن ينشر بالسيف.. لأن الإسلام هو تسليم النفس لله.. وتسليم النفس لله لا يكون إلا عن طواعية مطلقة.
قال دوج: فلم يقاتلون إذن؟
قال الحكيم: لنصرة المستضعفين وإزالة الحواجز التي تقف بينهم وبين حريتهم.. وسترى في الآيات التي ستقرؤها هذا المقصد القرآني الشريف الذي يميز الجهاد في الإسلام عن كل قتال في الدنيا.
قرأ دوج قوله تعالى:{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (آل عمران:195)
قال الحكيم: أنت ترى في هذه الآية الكريمة كيف ذكر الله تعالى عذر هؤلاء المقاتلين الذي دفعهم للقتال.. فقد أخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيل الله.
ولو أن أعداءهم لم يفعلوا هذا بهم ما قاتلوهم ولا قتلوهم ولا عرضوا أنفسهم للقتل بسبب ذلك.
قرأ دوج قوله تعالى:{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:74)
ثم قال: ألا ترون في هذه الآية كيف يأمر القرآن بقتل من يهتمون بالحياة الدنيا ويعمرونها؟
قال الحكيم: أخطأت في فهمك لكلام الله.. فهؤلاء الذين يشرون الحياة الدنيا الذين أمر المؤمنون بقتالهم إنما يشرونها بالظلم والاستبداد والاستعمار.. ولو أنهم اشتروها بالطرق المشروعة لما عرض لهم أحد.
قرأ دوج قوله تعالى:{ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75)
قال الحكيم: هذه الآية هي سيدة آي الباب.. وهي الحكم الذي يرجع إليه في فهم كل ما يرتبط بالقرآن الكريم من آيات القتال والجهاد.
قال دوج: ولكن مثل هذا الأمر بالقتال لا نجده في المسيحية.
قال الحكيم: لأن المسيحية لم تكن في يوم من الأيام.. هي ولا سائر الأديان.. دين الخلاص..
غضب دوج، وقال: كيف تقول ذلك.. والمسيحية هي دين الخلاص؟
قال الحكيم: الخلاص بمفهومه الشامل الذي يعني الحياة بجميع أركانها لم يكتمل إلا في الإسلام.. فإن كان المسيحي ومثله كل متدين بأي دين من الأديان، يسعى لخلاص نفسه.. فإن المسلم مطالب بأن يخلص كل المستضعفين.. ولهذا فإن الجهاد في الإسلام لا ينسخ أبدا ما دام هناك من يكتوي بنيران الظلم والعبودية والقهر.
فإن وجد من يريد أن ينسخ الجهاد فعليه أن يخلص الأرض من المستكبرين المستبدين الظالمين.. وحينذاك، فلن يرفع مسلم سلاحا في وجه أحد.. فإن رفعه قتل به.
قرأ دوج قوله تعالى:{ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} (النساء:90)
قال الحكيم: هذه الآية كذلك مرجع من المراجع الكبرى التي يفهم بها معنى الجهاد.. فالقتال لا يوجه إلا للمقاتلين.. فإن اعتزل الظالمون أو طلبوا السلام وجب على المسلمين أن يجيبوهم له.
وقد صرحت بذلك آية أخرى يقول فيها الله تعالى:{ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (لأنفال:61)
انتفض دوج، وقال: أين تجد هذا في واقع المسلمين.. وأعداؤهم يطلبون منهم السلام، وهم يأبون إلا الحرب؟
ابتسم الحكيم، وقال: أرأيت لو أن رجلا غصب أرضك، واستولى على أملاكك، فإن غضبت وثرت، أرسل لك بكبرياء من يطالبك بالسلام، فإن شرطت عليه أن يرجع لك حقوقك أولا رفض، وقال: ليس عندي إلا السلام.
فهل تراك تقبل؟
سكت دوج، فقال الحكيم: هذا ما حصل مع المسلمين في كل معاركهم مع أعدائهم.. استعمروا أرضهم، ونهبوا ثرواتهم.. فإذا ما قام أحد منهم يطالب بحقه اعتبر إرهابيا، واعتبر المعتدي مسالما.
قرأ دوج قوله تعالى:{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (لأنفال:17)
ثم قال: ألا ترون كيف يحرض إله المسلمين المسلمين على القتال؟
قال الحكيم: القتال من أجل الحق شرف.. لأن السكوت عن الظلم والهوان والذلة مهانة وذلة وضعف.. والله لا يعين أمثال هؤلاء.
قرأ دوج قوله تعالى:{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (لأنفال:39)
قال الحكيم: لقد علل الأمر بالقتال في هذه الآية بسد ذرائع الفتنة، والفتنة هي الصد عن سبيل الله وقهر المستضعفين والاستيلاء على حقوقهم.
قرأ دوج قوله تعالى:{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(48)} (الأنفال)
قال الحكيم: هذه الآية تبين جنس الذين يقوم المؤمنون بقتالهم.. فهم قوم مستكبرون طاغون ظالمون.. لا يحترمون الإنسان ولا يبالون بسفك الدماء.. وهم فوق ذلك حلفاء للشياطين.
قرأ دوج قوله تعالى:{ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } (التوبة:5)
قال الحكيم: واصل قراءة الآية والآيات التي بعدها.. فلا يمكن أن تفهم أي كلام بتقطيعه كما تشتهي.
نظر دوج إلى الحكيم، ثم راح يقول: سأقرأ ما تشتهي إلى أن توقفني.. ولكنك لن تشم في هذه الآيات إلا روائح الدماء.
أخذ يقرأ:{ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)}(التوبة)
أوقفه الحكيم، وقال: هل هناك كتاب في الدنيا يتكلم عن أعدائه ـ الذين استعملوا كل الأساليب الخسيسة لاستئصاله ـ بهذا الأسلوب!؟
إنه يتحدث عن حقوق أعدائه الكثيرة.. ويطلب من المسلمين الذين أصابهم ما أصابهم من أعدائهم أن يوفوهم بها في لحظات نصرهم.
إنه يطلب من المسلمين أن يجيروا المشركين الذين لم يكن لهم إلا شعار واحد هو استئصال المؤمنين.
وهو عندما يأمر بالقتال يقصره على أئمة الإجرام دون غيرهم من العامة والبسطاء.
ثم هو يأمر المرة بعد المرة بالتسامح مع هؤلاء وقبولهم إخوانا في الله إن تابوا عن سلوكهم الذي كانوا يسلكونه.
هنا انتفض دوج، وقال: هذا هو الإكراه بعينه.
قال الحكيم: لا.. ليس هذا إكراها.. لقد جاء الإسلام في بيئة جاهلية وثنية تمتلئ بالكهانة والسحر ووأد البنات وظلم المرأة والعبيد.. فلذلك لم يرض من هؤلاء إلا الإسلام، بعد أن أتاح لهم فرصة التفكير فيه.. أما غيرهم من أهل الكتاب، فلم يتعرض لهم عربا كانوا أو غير عرب.
قال دوج: أليس هذا إكراها؟
قال الحكيم: وهل فرض الدولة للقيم الحضارية على الشعب إكراه .. هل إذا أمرته بالنظاقة والنظام والحفاظ على حقوق الآخرين ظلم وإكراه.
قال دوج: ولكن الإسلام ليس هذا فقط؟
قال الحكيم: بل هذا هو الإسلام.. الإسلام هو القيم النبيلة التي لو بحثت في جميع أسفار العالم المقدسة وغير المقدسة.. فلن تجد أنبل منها ولا أكرم منها ولا أشرف منها.
قال دوج: هكذا أنتم ـ معشر المسلمين ـ لا تعرفون غير الفخر.
قال الحكيم: المسلمون لا يفخرون بأنفسهم.. بل يعترفون بقصورهم عن تمثيل الإسلام في صورته المثلى.. ولكنهم يعتقدون أن الله الذي خلق هذا الكون ووفر له جميع أسباب الهداية لم يضيع البشر.. بل أرسل لهم من أنوار الهداية ما يرفع عنهم كل ظلمة، ويملؤهم بكل حقيقة.
قال دوج: دعنا من هذا.. وأجبني: ألم يحو القرآن كلمة الإرهاب؟
ابتسم الحكيم، وقال: أجل.. لقد وردت مادة (رهب) ومشتقاتها في القرآن الكريم في اثني عشر موضعا..
انتفض فرحا، وهو يقول: أرأيتم.. لقد ذكرت لكم بأن القرآن هو كتاب الإرهاب.. إنه يذكر الإرهاب اثني عشر مرة.
التفت الجمع إلى الحكيم، وفي عيونهم تساؤلات كثيرة، فقال: سأقرؤها عليكم واحدة واحده:
أما الأولى.. فهي قوله تعالى:{ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة:40)([6])، والرهبة هنا تعني الخوف من الله.. فالخوف هو السوط الذي يكسر نوازع الشر في الإنسان.
وأما الثانية، فقوله تعالى:{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة:82)([7])، فالرهبان الصادقون هم الذين حملهم الخوف من الله إلى اعتزال كل ما يبعدهم عنه أو ما يغضبه عليهم.
وأما الثالثة، فقوله تعالى حكاية عن السحرة:{ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (لأعراف:116)([8])، فالسحرة استعملوا سلاح سحرهم للتاثير في بث الرعب في الحاضرين.
وأما الرابعة، فقوله تعالى:{ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (لأعراف:154)، وهي تتحدث عن تأثير مخافة الله في السلوك الصالح.
وأما الخامسة، فقوله تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (لأنفال:60)
انتفض دوج قائلا: هذه هي الآية التي أريدها.. إنها الآية التي تشرع الإرهاب، وتأمر المؤمنين به.
ابتسم الحكيم، وقال: بل هذه آية السلام.. فهي تشرع للسلام.. وتأمر المؤمنين بالإعداد له.
قال دوج: كيف ذلك، وهي تنص صراحة على إرهاب الأعداء؟
قال الحكيم: ألم تفهم من الآيات السابقة أن الخوف جند من جند الله التي يقمع بها الله نوازع الشر في الإنسان؟
قام رجل من الجمع، وقال: هذا صحيح.. وأنا عالم نفس.. وأعلم أن الخوف الذي يستعمل استعمالا صحيحا له تأثير كبير في حياة صاحبه..
ولهذا، فإن المتهور ـ الذي نزع الخوف من نفسه ـ قد يقع في المهالك التي لا يقع فيها من تسلح بسلاح الخوف.
قال الحكيم: تصور لو أن دولة من الدول رفعت كل ما يملؤها بالهيبة في نفوس أعدائها.. فلم يكن لها جيش ولا شرطة ولا أمن يحفظ شوارعها وحدودها.. هل يمكن لهذه الدولة في عالم يمتلئ بالذئاب أن يبقى لها وجود؟
قالت الجماعة: لا.. بل ستصبح هذه الدولة ورعيتها مطمعا لكل طامع.
قال الحكيم: فلذا كان في تسلحها بأنواع القوة ردعا لأعدائها، فلا يفكر أحد ـ مجرد تفكير ـ في المساس بها.
قالت الجماعة: ذلك صحيح.
قال الحكيم: وبذلك يكون الإرهاب هو السلام.. فالقوة لا تداويها إلا القوة، ولهذا فإن الله تعالى قال في بيان الحكمة من تشريع القصاص:{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:179).. فبالقصاص تتحقق الحياة.
قال دوج: ولكن لم اعتبر القرآن إعداد العدة هو وسيلة السلام؟
قال الحكيم: لأن من البشر من لا يخاف إلا السلاح.. فهو لا يخاف الله.. ولذلك يحتاج إلى سلاح يردعه.. لقد ذكر القرآن ذلك، فقال:{ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } (الحشر:13)
أغلق دوج المصحف، وقال: لا طاقة لي بجدالك في هذا.. فالقرآن قد وضع لكم المخارج التي تجادلون بها عنه.. ولهذا سأنزل بك إلى الواقع.. وسأقتصر منه على واقع محمد.. ذلك الواقع الذي لم يكن فيه إلا القتال.
لقد قرأت سير المصلحين والأنبياء.. فلم أجد واحدا منهم حمل من السيوف ما حمل محمد..
أشار إلى اللوحة، وقال: لقد سجلت في هذه اللوحة تلك المعارك الكثيرة التي خاضها محمد، والتي لازال المسلمون يتباهون بها إلى اليوم.
قال الحكيم: وحق لهم أن يتباهوا.. فليس هناك حرب في الدنيا أنظف من الحرب التي خاضها المسلمون..
لقد كانوا ثلة قليلة مستضعفة سامها أعداؤها الخسف.. ولكن الله من عليها، وأعطاها من القوة بحيث استطاعت أن تنتصر على جميع أعدائها وفي مرحلة وجيزة هي أقرب إلى الإعجاز منها إلى الواقع.
ألم يزل الأوروبيون ـ ومثلهم كل البشر ـ يرددون بافتخار ما حصل في تاريخهم من انتصاراتهم؟
سكت دوج، فقال: فأنتم تفخرون بانتصارات وهمية كان أكثرها لمصالح محدودة، ثم تريدون من المسلمين أن يستحوا من المعارك التي انتصر فيها الحق على الباطل، والقيم النبيلة على الجاهلية..
قال دوج: فأنت تقر بأن دعوة محمد كانت دعوة قتال لا دعوة سلام؟
قال الحكيم: السلام الشامل يستدعي أن تقهر المعتدين وتردهم إلى صوابهم.. إنه مثل العملية الجراحية التي تستأصل بها الأدواء.. فلا يمكن للجسم أن يظل سليما مسالما، وتلك الأدواء تنهشه، وتقتله.
توجه دوج إلى الجمع، وقال: ولكن ألا ترون من العجب أن يخوض نبي من الأنبياء في فترة وجيزة كل تلك الحروب!؟
انظروا هذه السيوف الكثيرة التي تمتلئ بها هذه اللوحة.
ابتسم الحكيم، وقال: إنك تكاد تحول من لوحتك وثيقة تاريخية..
ثم توجه إلى الجمع، وقال: فلنسكت عن الكلام المجرد.. ولنبحث في حقائق التاريخ عن هذه الغزوات لنرى حقيقتها وأسبابها ودوافعها وما نتج عنها لنحكم بعد ذلك.
قال دوج: إن التاريح ينقضي دون الانتهاء من ذكر هذه التفاصيل التي تريد أن نذكرها.
قال الحكيم: لا مناص لطالب الحق أن يعرف التفاصيل.. وقد كان من علامات صدق المسلمين أن سجلوا تاريخهم حرفا حرفا وكلمة كلمة.. وبسطوا حياة نبيهم بجميع تفاصيلها ليرى الكل مدى الصفاء والطهر والقداسة التي كان يسلكها محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته.
قال دوج: كيف تقول ذلك.. وقد قام بكل تلك الحروب؟
قال الحكيم: قبل أن أحدثك عن بعض تفاصيل تلك الحروب أريد أن أضع بين يديك عدد القتلى الذين سقطوا في تلك الحروب جميعا.. ثم قارنها بعد ذلك بما شئت من حروب الدنيا.
لقد ذكر المؤرخون أن عدد القتلى الذين سقطوا في جميع الحروب التي مارسها المسلمون في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ سواء كانت غزوات أو سرايا أو مناوشات ـ والتى ابتدأت فى السنة الثانية للهجرة ودامت حتى السنة التاسعة ـ أى ما يقرب من ثمان سنوات ـ لم يزد عدد المقتولين من الفريقين ـ المسلم وغير المسلم ـ على ألف وثمانية عشر نفساً (1018).. المسلمون منهم 259 شهيداً.. وغير المسلمين 759 قتيلاً.
قارن هذا العدد بما سقط في الحرب العالمية الأولى من قتلى.. فبين سنة 1914 – 1918 م بلغ عدد القتلى سبعة ملايين، والمصابون واحد وعشرون مليون نفس.
أما الحرب في العالمية الثانية، سنة 1939م، فعدد المصابين لا يقل عددهم عن خمسين مليون نفساً.
لاشك أنكم نيستم هذه الحروب العالمية التي خضتموها.. ونسيتك تلك القنابل التي دككتم بها البيوت على أهليها.. ولم تذكروا إلا دفاع محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه، وعن القيم النبيلة التي أرسله الله ليقيمها.
بالإضافة إلى هذا.. فإن حروب محمد حروب صاحب رسالة ومبدأ.. أما الحروب العالمية التي خضتموها، فلم تكن تحمل إلا نفسا جشعة بشعة حريصة سفاكة للدماء..
التفت للجمع، وقال: سننظر في هذه المعارك التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولننظر حقيقتها وأسبابها.. لنكتشف الحقيقة من الواقع بعد أن عرفناها من خلالها مصدرها المقدس ([9]).
التفت إلى دوج، وقال: أرني أول سيف من السيوف التي سلها محمد على أعدائه.
أشار دوج إلى سيف من السيوف، وقال: هذا.. إنه يرمز إلى سرية (سيف البحر)
قال الحكيم: لقد وقعت هذه السرية في رمضان من سنة الأولى للهجرة، وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها ثلاثين رجلاً من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل، فلبغوا سيف البحر، فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجني ـ وكان حليفاً للفريقين جميعاً ـ بين هؤلاء وهؤلاء حتى جحز بينهم فلم يقتتلوا.
التفت إلى دوج، وقال: ما تنقم على هذه السرية.. وأنت ترى أنه لم يسفك فيه دم؟
قال دوج: أنقم على إرسالها.. فكيف يرسل نبي سرية لتعترض قافلة؟.. إن هذا سلوك قاطع طريق لا سلوك نبي.
قال الحكيم: لا ينبغي للعاقل ان يستعجل في إرسال أحكامه.. فلنسأل التاريخ عن دوافع هذه السرية.. ولك أن تقارن بعد ذلك موقف محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأي موقف تصفه بالنبل أو الحضارة.
أولا.. أنت تعلم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم خرج من مكة المكرمة مكرها بعد أن كاد له أعداؤه كل المكايد لقتله..
ومثل ذلك خرج أصحابه من غير أن يأخذوا معهم دينارا ولا درهما..
ومع ذلك، فإن المسلمين لم يحركوا ساكنا في مواجهة أعدائهم إلا بعد أن جاءهم الإذن الإلهي بحقهم في استرداد حقوقهم.. قال تعالى:{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40)(الحج)
التفت للجمع، وقال: هل ترون نبلا أعظم من هذا النبل الذي تحمله هذه الآيات..
وهل يمكن لقاطع طريق أن يكون دافعه ما تدعو إليه هذه الآيات!؟
التفت إلى دوج، وقال: ومع ذلك.. لم يكن هذا هو الدافع الوحيد..
اقرأ التاريخ.. وستجد فيه تلك المكايد التي ظل المشركون يدبرونها للمسلمين غير مكتفين بما سلبوهم من أموال، وما مارسوه قبل ذلك بهم من أنواع الأذى.
لقد ذكر المؤرخون بأسانيد كثيرة لا تقل عن الأسانيد التي نقلت بها أحداث المعارك التي ترمون بها محمدا صلى الله عليه وآله وسلم تلك المؤامرات الدنيئة التي كانت تدبر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن ذلك أنهم كتبوا إلى عبد الله بن أبي سلول، بصفته رئيس الأنصار قبل الهجرة، يقولون له:(إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم)
وبمجرد بلوغ هذا الكتاب قام عبد الله بن أبي ليمتثل أوامر المشركين من أهل مكة، وقد كان يحقد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما يراه أنه استبله ملكه.
يقول عبد الرحمن بن كعب: فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقيهم، فقال: (لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر ما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقالوا أبناءكم وإخوانكم)، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفرقوا([10]).
لقد امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن القتال إذ ذلك، لما رأى خوراً أو رشداً في أصحابه، ولكن يبدو من تصرفاته أنه كان متواطئاً مع قريش، فكان لا يجد فرصة إلا وينتهزها لإيقاع الشر بين المسلمين والمشركين، وكان يضم معه اليهود، ليعينوه على ذلك.
ومع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقد بلغته كل هذه الأنباء ـ لم يدبر أي مؤامرة لقتل هؤلاء مع أنهم كانوا معه في المدينة، وكان من السهل استئصالهم.
ليس هذا فقط.. بل إن قريشاً كانت تعتزم على شر أشد من هذا، وتفكر في القيام بنفسها للقضاء على المسلمين .
التفت إلى الجمع، وقال: لم يمارس المشركون هذه المكايد فقط.. بل راحوا يحرمون سكان المدينة التي آوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حقهم في زيارة الكعبة التي كانت مباحة للعرب جمعيا..
فقد روي أن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمراً، فنزل على أمية بن خلف بمكة، فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف البيت، فخرج به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمناً وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعك ما هو أشد عليكم منه: طريقك على أهل المدينة.
التفت إلى دوج، وقال: قارن هذا بما يحدث في العالم من أنواع المظالم بسبب الحفاظ على الأمن القومي..
قارن هذا بما فعله الأمريكان الذين تعتبرونهم مثلكم الأعلى بالمستضعفين في العالم بسبب شيء بسيط حصل لهم.
قال دوج: كيف تسميه بسيطا.. وقد قتل فيه الآلاف؟
قال الحكيم: ولكن المجرمين انتقموا لهم بمئات الآلاف.. لقد دمرت لهم بناية واحده.. لسنا ندري من دمرها إلى الآن.. فراح المجرمون ـ بما امتلأوا به من إجرام ـ يدمرون بلادا كاملة.. بلادا آوت الحضارة لآلاف السنين..
راح المجرمون الذين يلبسون لباس الحضارة يمحونها بجرة قلم، ثم يسبون محمدا والقيم النبيلة التي جاء بها محمد.
طأطأ الجمع رأسه أسفا، لكن دوج حاول أن يبدل الموضوع، فأشار إلى سيف من السيوف، وقال: هذا سيف يشير إلى سرية رابغ.
قال الحكيم: لقد وقعت هذه السرية في شوال سنة 1 من الهجرة ([11])، وقد بعث لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستين رجلاً من المهاجرين، فلقوا أبا سفيان – وهو في مائتين – على بطن رابغ، وقد ترامي الفريقان بالنبل، ولم يقع قتال.
التفت الحكيم إلى دوج، وقال: أنت ترى أن هذا السيف الثاني الذي عددته من جملة السيوف لم يقتل أحدا.. وفي عصرنا لا يعتبر مثل هذا حربا.. ولا تعتبر مثل هذه المعركة معركة.. إنها لا تختلف عن أي دورية بسيطة يقوم بها بعض الجنود لحماية الثغور.. ولكنكم لا تريدون إلا أن تهولوا، فتعتبروا كل حركة يقوم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليؤمن الجو لدعوته، ولمجتمع دعوته معارك لا تقل عن المعارك التي تمارسونها بما جبلتم عليه من حب للصراع.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا يشير إلى غزة الأبواء.. وقد وقعت في صفر سنة 2 هـ،. وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها بنفسه في سبعين رجلاً من المهاجرين خاصة يعترض عيراً لقريش، حتى بلغ ودان، فلم يلق كيداً .
وفي هذه الغزوة عقد معاهدة حلف مع بنى ضمرة ، وهذا نص المعاهدة: (هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمره، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا دين الله، ما بل بحر صوفة، وأن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه).
وهذه أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.
قال دوج: ألا تعجبون من نبي يغزو؟
قال الحكيم: إن هذا من دلائل كمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه.. فهو لم يكن يجلس في برج عاج يرمي الأوامر لأصحابه، وهو بمعزل عنها، بل كان يخوض معهم المعارك، ويتعرض معهم لجميع الأخطار التي يتعرضون لها.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا يشير إلى غزوة سفوان.. وقد وقعت في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ، وسببها أن قوات خفيفة من المشركين أغارت على مراعي المدينة، ونهبت بعض المواشي فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سبعين رجلاً لمطاردتهم، حتى بلغ وادياً يقال له: سفوان من ناحية بدر، ولكنه لم يدركهم.
التفت إلى دوج، وقال: ألا ترى الأذى الذي كان يتعرض له المسلمون، مع أن أعينهم لم تكن تنام، فكيف لو تركوا سيوفهم!؟
إنهم ـ حينها ـ يصبحون لقمة سائغة لأعدائهم الذين كانوا يتحينون أي فرصة للانقضاض عليهم.
لقد ذكر القرآن الكريم ذلك الجو المخيف الذي كان يعيش فيه المؤمنون، فقال:{ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً } (النساء:102).. أفتريدون من المسلمين أصحاب الرسالة المقدسة المخلصة أن يختبئوا كما اختبأ الحواريون، أو تريد منهم أن يسلموا محمدا للصلب كما سلم المسيح([12]) حتى تعتبروه صاحب سلام!؟
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا سيف يشير إلى سرية نخلة، وقد وقعت في رجب سنة 2 هـ، وقد بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جحش، وكتب له كتاباً، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه،. فسار عبد الله، ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: (إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكلة والطائف، فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم)
فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أمضي إلى بطن نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منها بخبر، وقد نهى أن استكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها، فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأنا ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم، فسلك الطريق على الحجاز حتى إذا كان ببعض الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، فتخلفا عن رهط عبد الله بن جحش ليبحثا عن البعير ومضى الستة الباقون.
حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرت عير لقريش تحمل تجارة، فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون، فقتلت السرية عمراً ابن الحضرمي وأسرت اثنين وفر الرابع وغنمت العير، وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة، فإذا هي في اليوم الأول من رجب ـ وقد دخلت الأشهر الحرم ـ التي تعظمها العرب، وقد عظمها الإسلام وأقر حرمتها.
هنا انتفض دوج، وكأنه قد ظفر بضالته التي ظل يبحث عنها، وقال: أرأيتم كيف يحطم المسلمون شعائر السلام.. فيقاتلون في الأشهر الحرام([13])؟
ابتسم الحكيم، وقال: ما شاء الله.. إنك تردد كلمات أبي سفيان وأبي جهل وعبد الله بن أبي.. أولئك الذين لا يعرفون الحرمات إلا عندما ترتبط بمصالحهم.
إنك الآن تكرر نفس موقف المشركين.. فإن قريشا قالت حينها: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال.
وقد استغلت اليهود هذه الفرصة، فراحت تقول: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله.. عمرو عمرت الحرب.. والحضرمي: حضرت الحرب.. وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب.
أتدري.. لقد كانت هذه الغزوة لمن تأمل فيها دليلا على السلام العظيم الذي كان يحمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحمله معه أصحابه الطاهرون.
لقد روى المؤرخون أنه لما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام)، ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً.
وهو نفس موقف سائر المسلمين..
هل ترى هذا موقف مسالمين، أم مواقف محاربين!؟
قال دوج: ولكنهم قبلوا الغنيمة بعد ذلك.
قال الحكيم: لقد كان من سماحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أطلق سراح الأسيرين.. ولم يكتف بذلك، بل أدى دية المقتول إلى أوليائه.
قال دوج: ولكن القرآن برر ما فعله المؤمنون.. وفي ذلك خطر عظيم.
قال الحكيم: بل في ذلك صدق عظيم.. وتربية عظيمة.. فالسلام لا يعني البلاهة والخمود والرضوخ.. بل يعني المقاومة والحياة والبقاء..
ولهذا فإن القرآن الكريم اعتبر ما يفعله المشركون من حرب الحق وأهل الحق أعظم من القتل الذي استنكروه على المسلمين.
لقد نزل في ذلك الموقف الحرج قوله تعالى:{ يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (البقرة:217)
وقد فند هذه الآية كل قول، وفصلت في الموقف بالحق، فقد صرحت بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله.
ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟
ثم إن المسلمين لم يبدأوا القتال، ولم يبدأوا العدوان.. بل إن المشركين هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله، والكفر به وبالمسجد الحرام.. لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله:
لقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون، وقد كفروا بالمسجد الحرام، وانتهكوا حرمته؛ فآذوا المسلمين فيه، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة، وأخرجوا أهله منه، وهو الحرم الذي جعله الله آمناً، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته.
وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام.. وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل.. وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام.
ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات؛ الذين يتخذون منها ستاراً حين يريدون، وينتهكون قداستها حين يريدون! وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم، لأنهم عادون باغون أشرار، لا يرقبون حرمة، ولا يتحرجون أمام قداسة، وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة!
لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل. وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي.. وهم المعتدون ابتداء، وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء ([14]).
قال دوج: ولكن.. ألم تكن هناك حلول أخرى؟
قال الحكيم: بلى.. لقد كانت هناك حلول كثيرة.
قال دوج: فلماذا لم يستعملها محمد.. واستعمل السيف بدلها.
قال الحكيم: لقد استعمل محمد طيلة ثلاثة عشر سنة كل الحلول مع قومه.. لكنهم أبوا.. فتركهم وطلب منهم أن يتركوه، فأبوا.. وظلوا لا يكتفون بالإباء، بل يأبون وينهون.. ولا يكتفون بالنهي، بل يشرعون جميع أسلحتهم ضده.
فهل من الحكمة أن يستسلم لهم أم يواجههم؟
فإذا استسلم لهم يموت دينه وتموت دعوته.. أو يقوم بين أصحابه من يمثل دور بولس ليصبح الخلاص الذي جاء به محمد خلاصا كهنوتيا أقرب إلى الأسطورة منه إلى الواقع.
أم يواجههم.. وهذا الذي اختاره محمد صلى الله عليه وآله وسلم..
إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه، ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان!
وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد.. إنه يحرم الغيبة.. ولكن لا غيبة لفاسق.. فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه.
وهو يحرم الجهر بالسوء من القول، ولكنه يستثني إلا من ظلم.. فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول، لأنه حق، ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه!
ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلا مستوى الأشرار البغاة، ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة.. إنه فقط يدفع المسلمين إلى الضرب على أيديهم، وإلى قتالهم وقتلهم، وإلى تطهير جو الحياة منهم.
وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات.. حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة، كما أرادها الله([15]).
سكت دوج، فقال الحكيم: لقد كان من رحمة الله أن آتت تلك السرايا التي أرسلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكلها..
فقد علمت قريش، ومعها كل من كان يتربص بالمسلمين الدوائر أن للمسلمين من اليقظة ما يجعل أعداءهم أبعد الناس عن الطمع فيهم.
وبعد سرية عبد الله بن جحش ـ على الخصوص ـ تحقق خوف المشركين وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريباً، ثم يقلتوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم، لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم، ويأخذوا طريق الصلاح والموادعة ـ كما فعلت جهينة وبنو ضمرة ـ ازدادوا حقداً وعيظاً، وصمم صناديدهم وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل من إبادة المسلمين في عقر دارهم.
وفي تلك الأيام الشديدة التي قرر فيها الأعداء هذه القرارات الخطيرة خرج حكم الجهاد من الإذن الذي يدل على الإباحة إلى الوجوب الذي يجعله لا يختلف عن الصلاة وغيرها من شعائر الدين..
هنا انتفض دوج، وقال: أرأيتم.. ها هو محمد يحول الإرهاب إلى ركن من أركان الدين كالصلاة.
قال الحكيم: وهل يمكن لشخص من الناس أن يقيم الصلاة، وهو لا يأمن على نفسه وأهله ودينه.. إن المسلم عندما يحمل سيفه ليجاهد به يحمله لأشرف غرض يمكن أن يحمل من أجله سيف.
إنه يحمله من أجل حماية التوجه لله بالعبودية.. حتى لا تتسلط الشياطين على هذه الأرض، ليحولوها ماخورا من مواخير الرذيلة.
التفت إلى دوج، وقال: أخبرني عن جنود الحضارة.. ماذا فعلوا بسيوفهم وبنادقهم ومدافعهم وأسلحتهم التي تنشر الدمار في كل مكان!؟
إن كنت لا تعرف الإجابة، فاذهب إلى كل مكان وطئه الاستعمار لترى الإرهاب الحقيقي..
أمن المنطق أن تعتبر الذي يحمل السلاح ليدافع به عن نفسه وعن حريته وعن دينه وعن المستضعفين إرهابيا، ولا تعتبر المعتدي الظالم إرهابيا.. إن هذا المنطق لا يمكن أن يحمله إنسان يحترم عقله وإنسانيته.
سكت دوج، فقال الحكيم: لقد أنزل الله تعالى في ذلك الظرف الخطير قوله:{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } (البقرة:190: 193)
لقد نزلت هذه الآيات بعد وقعة سرية عبد الله بن جحش في شهر شعبان سنة 2 هـ..
قاطعه دوج، وقال: أرأيتم.. ها هو الإسلام يتبدل كما تتبدل الحرباء.. ففي مكة حاول أن يظهر بمظهر المسالم اللطيف.. وحاول محمد حينها أن يتقمص شخص المسيح.. ولكنه ما إن وجد العصابة التي تلتف حوله حتى راح يتخلى عن جميع مبادئه، ليظهر بصورته الحقيقية([16]).
ابتسم الحكيم، وتوجه له قائلا: هل ترى من العقل أن تلبس معطفك الشتوي الذي يلبسه أهل القطب الشمالي في الصيف.. وفي صحراء إفريقيا.
ضحكت الجماعة، فقال الحكيم: لو فعلت ذلك أو فعله أحد من الناس لا شك أنه يرمى بالجنون..
قال دوج: ما الذي تقصد بهذا؟
قال الحكيم: لا شك أن كل عقل يلبس لكل حالة لبوسها.. فما يصح لبسه في الصيف لا يصح لبسه في الشتاء.. وما يصح في ألاسكا لا يصح في الكاميرون.
قال دوج: فهمت.. أنت تريد أن تذكر بأن المدينة ليست مثل مكة.
قال الحكيم: المدينة ومكة كلها بلاد الله.. ولكن الظروف المختلفة.. والعقول المختلفة هي التي تملي على العاقل التصرفات المناسبة..
هل ترى من الحكمة أن يزج محمد بكل من يتبعه بصدق في الهاوية!؟
وهل ترى من العقل أن يقبل محمد أن يوضع أتباعه في مثل تلك الأخاديد التي وضع فيها المسيحيون الذي صدقوا في اتباعهم للمسيح!؟
إن الإسلام لو قبل ذلك لكان دين موت لا دين حياة.. فلذلك أمر أتباعه بأن يحملوا السلاح.. ولكن يحملوه بحقه.. وحقه أن لا يعتدوا به على الناس.. بل يكتفوا بتوجيهه لمن يريد أن يقضي عليهم أو يقضي على دينهم أو يقضي على حقوق المستضعفين الذين وكل المسلمون بحمايتهم.
سكت دوج، فقالت الجماعة: حدثنا عن سيف آخر.. من السيوف التي استعملها محمد ضد أعدائه.
أشار الحكيم ـ ساخرا ـ إلى سيف من السيوف، وقال: لست أدري.. ربما كان أخونا.. هذا الفنان المبدع.. يريد بهذا السيف غزوة بدر.. فإن كان يريدها.. فسأحدثكم عنها.. فإن في أحاديثها ما ينسخ تلك الوساوس التي تملأ بها الشياطين عقول من ألغوا عقولهم.
أما سبب هذه الغزوة، فهو أن عيراً لقريش أفلتت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذهابها من مكة إلى الشام، فلما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض أصحابه ليقوموا باكتشاف خبرها، فلما رأوها أسرعوا إلى المدينة وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخبر.
التفت دوج إلى الجمع ضاحكا، وقال: هذا عقل محارب.. وتفكير محارب.. لا تفكير نبي!؟
قال الحكيم: صدقت في الأولى.. ولم تصدق في الثانية.. لقد كان لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من العبقرية في القيادة ما يدل على أنه ليس بشرا عاديا.. ولكن ذلك ـ عند العقلاء ـ لا يلغي دعوى النبوة، بل يؤيدها ويقويها..
إن السبب الذي جعلكم لا تقبلون هذا النوع من التفكير هو تصوركم الحقير للدين ولرب الدين وللمتدين.. فأنتم لا ترونه إلا بصورة المتماوت الميت الذي لا يفعل في حياته إلا أن يدير خده الأيسر لمن يضربه على خده الأيمن..
أما المفهوم الذي جاءنا به الإسلام، فهو يختلف عن ذلك تماما..
الإسلام جاءنا بالقوة بجميع معانيها.. قوة النفس، وقوة الروح، وقوة الاتصال بالله، وقوة الحفاظ على حقوق عباد الله.. وغيرها من القوى الكثيرة التي تجعل المؤمن إنسانا إيجابيا لا سلبيا.. فاعلا لا مفعولا.. صانعا للظروف لا خاضعا لها.
سكت دوج، فقالت الجماعة: عد بنا إلى بدر.. فإنك قد شوقتنا إليها.
قال الحكيم: لقد كانت تلك العير التي أراد المسلمون أن يلاقوها تحمل ثروات طائلة لكبار أهل مكة ورؤسائها.. فهي تحمل ألف بعير موقرة بأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي.. ولم يكن معها من رجال الحرب إلا نحو أربعين رجلا.
لقد كانت هذه فرصة ذهبية للمسلمين، ليستردوا بعض حقوقهم التي سلبهم إياها أهل مكة.. وهي كذلك فرصة ذهبية للمسلمين ليفرضوا بها وجودهم في تلك الغابة التي تمتلئ بالذئاب.
في ذلك الحين نادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه قائلا: (هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها)
وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم مطلق الحرية في الخروج.. فلم يعزم على أحد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، وذلك لأنه لم يكن يتوقع عند هذا الانتداب أنه سيصطدم بجيش مكة ـ بدل العير ـ ذلك الاصطدام العنيف في بدر.
واستعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.. ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالا بليغا، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرس أو فرسان، وكان معهم سبعون بعيرا يعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد([17]).
في طريقهم إلى بدر.. وبعد أن علم المسلمون ما ينتظرهم من بأس قريش.. التحق أحد المشركين راغبًا بالقتال مع قومه، فرده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: (ارجع فلن أستعين بمشرك)، وكرر الرجل المحاولة، فرفض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع حاجته الشديدة، حتى أسلم الرجل والتحق بالمسلمين.
قال دوج: أليست هذه عنصرية؟
قال الحكيم: لا.. هذا من حرص رسول الله على صفاء الدين.. فلم يكن يهمه الانتصار بقدر ما يهمه نوع الانتصار.
قال دوج: وهل للانتصار أنواع؟
قال الحكيم: لقد علمنا ديننا أن كل انتصار لا يكون شريفا هزيمة.. ولذلك، فإن هذا المشرك قد يشوه صورة انتصار المسلمين حين يتخلق في الحرب بأخلاق المشركين لا بأخلاق المسلمين.
قال دوج: وما علاقة الأخلاق بالحرب؟
قال الحكيم: كل شيء في ديننا له علاقة بالخلق، بل إن الخلق هو روحه التي يستمد منها حقيقته والجزاء المعد له.
قالت الجماعة: عد بنا إلى ما كنا فيه.
قال الحكيم: لقد مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الغزوة مثال القائد الصادق المتواضع ليكون عبرة لكل قائد مسلم يسير على طريقه.. ومن ذلك ما رواه ابن مسعود قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: وكانت عقبة رسول الله، قال: فقالا: نحن نمشي عنك. فقال:(ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما)
ومن أخلاق القائد العظيمة التي تجلت في هذه الغزوة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثرة استشارته لأصحابه ([18])..
ومن ذلك أنه لما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم نجاةُ القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم استشار أصحابه في الأمر، فأبدى بعض الصحابة عدم ارتياحهم للمواجهة الحربية مع قريش، حيث إنهم لم يتوقعوا المواجهة ولم يستعدوا لها، ولذلك حاولوا إقناع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بوجهة نظرهم، وقد صور القرآن الكريم، موقفهم وأحوال الفئة المؤمنة في ذلك الحين، فقال:{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} (الأنفال)
هنا انتفض دوج، وقال: أرأيتم.. كيف يزعم هذا الرجل أن محمدا محب للسلام، وها هو يختار القتال.. بل إن قرآنه يأتي ليأمر بالقتال؟
ابتسم الحكيم، وقال: أرأيت لو أن هذا الموقف وقفه أي زعيم من زعماء العالم الغيورين على أقوامهم.. ماذا ستراه يفعل؟
سكت دوج، فالتفت الحكيم إلى الجمع، وقال: فلنفرض أن عدوا من الأعداء داهم بلادنا هذه.. وفي نيته أن يستأصلنا من جذورنا.. ماذا سترى لزعيمنا المخلص أن يفعل.. هل يسلم بلاده ورقاب رعيته، أم أنه يحضهم على المقاومة؟
قال الجمع: خائن هو إن لم يدعهم إلى المقاومة.. وجبناء هم إن انتظروا حتى يأمرهم.
قال الحكيم: وهذا ما حصل مع المسلمين.. فالصادقون من المسلمين وأهل السبق منهم خصوصا لم يرتابوا في ضرورة مواجهة العدو..
وقد كان للمقداد بن الأسود في ذلك الموقف موقف لا ينساه له التاريخ.. لقد قال عبد الله بن مسعود عنه: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عُدلَ به.. أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى:{ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } (المائدة:24)، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وبين يديك وخلفك. فرأيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أشرق وجهه وسرَّه([19]).
لكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف بقوله ذلك.. بل راح يقول:(أشيروا عليَّ أيها الناس).. وقد كان يقصد الأنصار بذلك؛ لأنهم غالبية جنده، ولأن بيعة العقبة الثانية لم تكن في ظاهرها ملزمة لهم بحماية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خارج المدينة.
وقد أدرك سعد بن معاذ، وهو حامل لواء الأنصار، مقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك فنهض قائلاً: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟.. فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أجل)، فقال سعد: (لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله)([20])
فلما قال سعد ذلك سُرَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال:(سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)
بعد أن رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدى استعداد جنده للمقاومة والجهاد نظمهم كما ينظم كل قائد جنوده، وعقد اللواء الأبيض وسلَّمه إلى مصعب بن عمير، وأعطى رايتين سوداوين إلى سعد بن معاذ، وعلي بن أبي طالب، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة.
وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل المعركة شيخا من العرب، فسأله عن جيش قريش، وعن محمد وأصحابه، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا أخبرتنا أخبرناك)، فقال: أو ذاك بذاك؟ قال: نعم، فقال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به جيش المسلمين، وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه جيش المشركين فعلاً، ثم قال الشيخ: لقد أخبرتكما عما أردتما، فأخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(نحن من ماء)، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الشيخ، وبقي هذا الشيخ يقول: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟
ضحكت الجماعة، فاغتاظ دوج، وقال: ألا تعجبون من نبي يخادع؟
التفت له الحكيم، وقال: وهل تريد من محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ينشر إعلانا للمشركين عن جيشه وخطته ليضربوه كما يحلو لهم!؟.. إن أي حرب في الدنيا تستدعي أمرين كلاهما حرص عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل غزواته:
تستدعي أولا التكتم الشديد حرصا على حياة الجيش وتحقيق الانتصار، وقد أرشد القرآن الكريم المسلمين إلى أهمية هذا، فقال:{ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} (النساء:83)، وقد تحلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الكتمان في عامة غزواته، فعن كعب بن مالك قال: (ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها..)([21])
وتستدعي ثانيا التعرف على قدرات الخصم.. ليخطط للمعركة بحسبها، فقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزواته حرصه على معرفة جيش العدو والوقوف على أهدافه ومقاصده؛ لأن ذلك يعينه على رسم الخطط الحربية المناسبة لمجابهته وصد عدوانه.
لا أرى أن أحدا من العقلاء ينكر مثل هذا السلوك.. فإن أنكره فإن عقله ليس عقل محارب.. ولا ينبغي لمثل هذا أن يقود أمة تكتنفها أعداؤها.. فغن قادها لم يقدها إلا إلى حتفها.
التفت إلى الجمع، وقال: ومع ذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الذي يجوز فيه الكذب حرصا على مصلحة الجيش.. ولا أحد يجادل في جواز هذا النوع من الكذب.. ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اكتفى بالتعريض عن الكذب.. فالنبي يستحيل أن يكذب.
قالت الجماعة: عد بنا إلى ما كنا فيه.
قال الحكيم: بعد أن جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما احتاج إليه من معلومات عن قوات قريش سار مسرعًا، ومعه أصحابه إلى بدر ليسبقوا المشركين إلى ماء بدر، ليَحُولوا بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عند أدنى ماء من مياه بدر مكتفيا بذلك.
لكن بعض الصحابة.. هو الحباب بن المنذر.. رأى أن هناك مكانا آخر أهم من ذلك المكان، فذهب.. وهو الجندي البسيط.. إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال بأدب: يا رسول الله.. أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم ـ أي جيش المشركين ـ فننزله ونغور ـ نخرب ـ ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا، فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.
فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الاقتراح، ونهض بالجيش إلى أقرب ماء من العدو فنزل عليه، ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار.
انتفض دوج، وقال: أليست هذه دناءة.. كيف يمنع المقاتلون من الماء؟
ابتسم الحكيم، وقال: حتى يصير الماء سببا لحياتهم.. وحياة المسلمين.. وسببا لتحقيق السلام الذي جاءوا لتهديمه.
قال دوج: كيف ذلك؟
قال الحكيم: أليسوا هم الذين قدموا للقتال عازمين على استئصال المسلمين؟
قال دوج: بلى..
قال الحكيم: ففي إمكانهم أن يرجعوا إذن.. وفي عطشهم ما قد يجعلهم يرجعون، فيحفظوا حياتهم وحياة المسلمين.
قال دوج: ولكنهم لم يرجعوا.. أفيحرمون من الماء؟
قال الحكيم: أفتريد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحضر لهم الطعام إذا جاعوا.. ثم يضمد جراحهم إذا جرحوا..
ضحك الجمع، فقال الحكيم: هذه حرب.. ومع أن الأخلاق هي التي تحكم حروب المسلمين.. فإن العاقل لا يرى في هذا أي مساس بالخلق النبيل العالي.. فهؤلاء الذين استفزهم الشيطان بما استفزهم به ينبغي أن يصرفوا بأي وسيلة.. ولو بتعريضهم للعطش.
نظر الحكيم إلى دوج، وقال: أتدري كيف كان هؤلاء الذين تدافع عنهم.. لقد وصف القرآن الكريم كيفية خروجهم، فقال:{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } (لأنفال:47)
ووصف المؤرخون بعض ذلك، فذكروا أن أبا جهل وأصحابه الخارجين يوم بدر لنصرة العير، خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة بعث خُفاف الكناني، وكان صديقا لأبي جهل، بهدايا إليه مع ابن عم له، وقال: إن شئت أمددتك بالرجال، وإن شئت أمددتك بنفسي مع ما خف من قومي، فقال أبو جهل: إنا كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فوالله ما لنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرًا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرًا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم، حتى تسمع العرب بمخرجنا؛ فتهابنا آخر الأبد([22]).
وقد وصف القرآن الإصرار العظيم الذي قدم به المشركون لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعصبين لما هم فيه من الباطل، فقال تعالى:{ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (لأنفال:19)
ذكر عبد الله بن ثعلبة ـ في تفسير هذه الآية ـ أن أبا جهل قال حين التقى القوم في بدر:(اللهم أقطعُنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه ـ أي أهلكه ـ الغداة، فكان المستفتح)([23])
وفي ذلك الجمع المستكبر كان هناك بعض العقلاء.. ولكنهم غلبوا على أمرهم، فاستسلموا للطائشين من قومهم.. والذين أوردوهم المهالك.
لقد حالت كبرياء الجاهلية بينهم وبين اتخاذ القرار السليم مع أن كل واحد منهم كان يشعر في قرارة نفسه بمدى القدرة التي يحملها محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه.
قالت الجماعة: لقد شوقتنا.. فحدثتنا عن المعركة.. كيف بدأت، وإلام انتهت؟
قال الحكيم: بعد نزول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين معه على أدنى ماء بدر من المشركين ـ كما أشار الحباب ـ اقترح بعض الصحابة، وهو سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بناء عريش له يكون مقرًا لقيادته ويأمن فيه من العدو، وكان مما قاله في اقتراحه: (يا نبي الله ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك) فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرًا ودعا له بخير، ثم بنى المسلمون العريش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تل مشرف على ساحة القتال.
قال دوج: ألا ترون إلى هذا الرجل كيف يتناقض فيما بينه وبين نفسه.. لقد زعم الساعة بأن محمدا لم يتميز في شيء عن أصحابه.. ولكنا نراه هنا يتميز بذلك العريش الذي خص به من دونهم.. فهم يخوضون المعركة بينما هو في عريشه.
قال الحكيم: لا ينبغي أن يتكلم في مثل هذه المسائل إلا من لهم علاقة بالقيادة والمعارك..
قال دوج: وهل لك علاقة بذلك؟
قال الحكيم: لا أزعم لنفسي ذلك.. ولكني أعلم أني إذا ما رأيت رأسي معرضا للأذى حميته بيدي.. فتجرح دونه.
قال دوج: كلنا نفعل ذلك.. فما فيه مما نحن فيه؟
قال الحكيم: إن القائد في المعركة هو رأس الجيش المفكر والمدبر والمنظم والآمر والناهي.. بالحفاظ عليه يحفظ الجيش، وبالتفريط فيه يتضرر جميع الجيش.. ولهذا قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعريش.. وهو لم يقترحه ابتداء.. ولكنه رأى المصلحة فيه.
وهي مصلحة لا ترتبط بشخصه.. بل لا ترتبط بذلك الجيش فقط.. بل ترتبط بالدعوة الإسلامية جميعا.. ولذلك عمد المشركون في غزوة أحد إلى بث إشاعة مقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليؤثروا في أصحابة.
سكت قليلا، ثم قال: سأقص عليك من واقع هذه الغزوة ما قد يدلك على العاطفة العظيمة التي كانت تربط هذا القائد العظيم بجنده:
كان صلى الله عليه وآله وسلم في بدر يعدل الصفوف، ويقوم بتسويتها، وكان بيده سهم لا ريش له يعدل به الصف، فرأى رجلاً، وقد خرج من الصف، فطعنه صلى الله عليه وآله وسلم في بطنه، وقال له:(استوِ يا سواد) فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بطنه وقال: (استقد) فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: (ما حملك على هذا يا سواد) قال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخير.
قالت الجماعة: لا نشك فيما ذكرت.. وليس هناك قائد عاقل يرمي نفسه في أتون المعركة.. لأنه لا مصلحة له ولا لجيشه في ذلك.
قال الحكيم: ومع ذلك.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشارك في المعارك بكل ما أوتي من قوة.
قالت الجماعة: فحدثنا كيف بدأت المعركة.. وإلام انتهت ([24])؟
قال الحكيم: لقد ابتكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في قتاله مع المشركين يوم بدر أسلوبًا مهما في مقاتلة المعتدين يسمى بـ (نظام الصفوف)([25])
وهو تطبيق لقوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصف:4)
وصفة هذا الأسلوب: أن يكون المقاتلون على هيئة صفوف الصلاة، وتقل هذه الصفوف أو تكثر تبعًا لقلة المقاتلين أو كثرتهم.. فتكون الصفوف الأولى من أصحاب الرماح لصد هجمات الفرسان، وتكون الصفوف التي خلفها من أصحاب النبال، لتسديدها من المهاجمين على الأعداء.
وقد كان لهذا الأسلوب ثماره العظيمة.. فقد أثر في إرهاب الأعداء الذين هالهم ذلك النظام العجيب الذي لم يتعودوه.
بالإضافة إلى هذا، فقد جعل في يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوة احتياطية عالج بها المواقف المفاجئة في صد هجوم معاكس، أو ضرب كمينٍ غير متوقع، واستفاد منه في حماية الأجنحة من خطر المشاة والفرسان.
ويعد تطبيق هذا الأسلوب لأول مرة في غزوة بدر سبقًا عسكريًا تميزت به المدرسة العسكرية الإسلامية على غيرها([26]).
وليس عنصر المفاجأة خاصا ببدر.. بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يباغت خصومه كل مرة بأسلوب قتالي جديد.. ليحقق الانتصار بأقل عدد من الخسائر.
قال رجل من القوم: أنا رجل لي علاقة بهذا الموضوع.. وما ذكرته صحيح.. بل إن ما ذكرته يجعلني ممتلئا بالإعجاب بشخص نبيكم..
أنا مسيحي.. نعم.. ولا أنكر ذلك.. ولكني في هذا المجال أسلم لمحمد أكثر من تسليمي للمسيح.. فلا ينبغي للقائد إلا أن يكون جندي ميدانه.. فيعرف كيف يحمي جنده والمبادئ التي يحملها جنده.. وإلا كان خائنا لهم.
قال الحكيم: بورك فيك.. وقد ذكر المؤرخون من أساليب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قيادة المعركة ما يدل على براعته العسكرية:
ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتبع أسلوب الدفاع، ولم يهاجم قوة قريش.. بل كانت توجيهاته التكتيكية التي نفذها جنوده بكل دقة سببًا في زعزعة مركز العدو، وإضعاف نفسيته، وبذلك تحقق النصر الحاسم بتوفيق الله على العدو برغم تفوقه.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يتصرف في كل موقف حسب ما تدعو إليه المصلحة؛ وذلك لاختلاف مقتضيات الأحوال والظروف، وقد طبق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الجانب العسكري أسلوب القيادة التوجيهية في مكانها الصحيح.
ومن ذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة برمي الأعداء إذا اقتربوا منهم، فقال:(إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل).. وسر ذلك هو أن الرمي يكون أقرب إلى الإصابة في هذه الحالة.
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن سل السيوف إلى أن تتداخل الصفوف، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم)
ومن ذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة بالاقتصاد في الرمي، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(واسْتَبْقُوا نَبْلَكم)([27])
بالإضافة إلى ذلك كله، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يضييع أي فرصة يمكنه الاستفادة منها في كسب المعركة.. فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يهمل حتى فرصة الاستفادة من الظروف الطبيعية أثناء قتال العدو، ومن ذلك ما فعله صلى الله عليه وآله وسلم قبل بدء القتال يوم بدر، حيث أصبح ببدر قبل أن تنزل قريش، فطلعت الشمس وهو يصفهم فاستقبل المغرب وجعل الشمس خلفه فاستقبلوا الشمس.
وهذا يدل على حسن تدبيره صلى الله عليه وآله وسلم واستفادته حتى من الظروف الطبيعية لما يحقق المصلحة لجيشه، وإنما فعل ذلك لأن الشمس إذا كانت في وجه المقاتل تسبب له عَشا البصر، فتقل مقاومته ومجابهته لعدوه.
قال دوج: لقد تخلى محمد إذن عن ربانيته ونبوته في هذه الغزوة ليلبس لباس القائد العسكري.
قال الحكيم: إن كل لباس يلبسه محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو لباس ناتج عن نبوته.. فالنبوة لا تعني ما تتصوره من السلبية أو الأسطورة أو الارتباط المجرد بعالم الغيب.. النبوة أكمل من ذلك بكثير..
فالنبي هو الإنسان الذي أهله الله لأن يصير نموذجا للإنسان الكامل الذي يريده الله([28]).
وبما أن من البشر قادة وجنودا.. فالله تعالى بحكمته يعرض النبي لهذه المواقف جميعا حتى يكون نموذجا تطبيقيا للكمال في هذه الجوانب.
سأذكر لك ما يدل على ربانية النبي وصدقه في ذلك الموقف العظيم..
لما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما يقوم به كل قائد من تنظيم الجيش، وإعطاء الأوامر، والتحريض على القتال، رجع إلى العريش يدعو ربه، ويناشده النصر الذي وعده، ويقول في دعائه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تُعبد في الأرض أبدًا)
وبقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، حتى أنزل الله تعالى في ذلك الموقف قوله:{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } (لأنفال:9)
وبعد أن دعا صلى الله عليه وآله وسلم ربه في العريش، واستغاث به خرج من العريش، فأخذ قبضة من التراب، وحصَبَ بها وجوه المشركين وقال: (شاهت الوجوه)، ثم أمر صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها، ففعلوا، فأوصل الله تعالى تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبقَ أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله.
لقد سجل القرآن الكريم تلك الرمية المباركة، فقال:{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (لأنفال:17)
قال الجمع: لقد ملأت نفوسنا شوقا إلى أحاديث هذه الغزوة.. فأخبرنا كيف بدأت.. عسى لصاحبنا من الشبهات ما يريد إثارته عنها؟
سكت دوج، فقال الحكيم: لقد بدأت المعركة.. كما كانت تبدأ المعارك في ذلك الحين.. وقد كان البادئ في بدايتها هم المشركون.. ليخرس ذلك كل لسان يزعم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان هو المعتدي..
لقد ذكر المؤرخون بأسانيدهم التي لا ترد أن أفرادا من جيش المشركين هم عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد قاموا في وجه المسلمين يطلبون منهم المبارزة.
التفت إلى دوج، وقال: ما رأيك في هذا الموقف الذي بدأت هذه الغزوة التي تتخذونها سخريا.. هل ترون من الحكمة أو من العقل أو من السلام أن يجبن المسلمون، ويستسلموا لعدوهم ليملوا عليهم بعد ذلك من شروط.. أو ترون من الحكمة أن يخرجوا لهم؟
سكت دوج، فقالت الجماعة: إن هذا لا يجادل فيه عاقل.. فحدثنا ماذا فعل المسلمون؟
قال الحكيم: حين قال المشركون ذلك يتحدون المسلمين خرج إليهم ثلاثة من الأنصار.. لكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أرجعهم؛ لأنه أحب أن يبارزهم بعض أهله وذوي قرباه، ليكون أول المضحين عن هذه الدعوة قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته.. لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعض أهله، فقال: (قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي)
فبارز حمزة شيبة فقتله، وبارز علي الوليد وقتله، وبارز عبيدة بن الحارث عتبة فضرب كل واحد منهما الآخر بضربة موجعة، فكر حمزة وعليَّ على عتبة فقتلاه، وحملا عبيدة وأتيا به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ما لبث أن استُشهد متأثرا من جراحته وقد قال عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (أشهد أنك شهيد)
وبذلك يكون أول شهيد في هذه المعركة من أهل رسول الله وقرابته حتى يخرس كل لسان..
لقد نزل في هؤلاء الستة قرآن جاء فيه:{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)} (الحج)
هذه بداية المعركة.. وأنتم ترون أنها انطلقت من جيش المشركين..
وهكذا استمرت.. فعندما شاهد المشركون قتل الثلاثة الذين خرجوا للمبارزة استشاطوا غضبًا وهجموا على المسلمين هجومًا عامًا، صمد له المسلمون، وهم واقفون موقف الدفاع، يكتفون برميهم بالنبل كما أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان شعار المسلمين: أَحَد أَحَد.
ثم أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجوم المضاد محرضًا لهم على القتال وقائلا لهم: (شدوا) وواعدًا من يقتل صابرًا محتسبًا بأن له الجنة.
قال الجمع: هذه بداية المعركة.. فكيف كانت نهايتها؟
قال الحكيم: لقد أنجز الله وعده، فغلبت الفئة القليلة المستضعفة الفئة الكثيرة المستكبرة.. وكان قتلى المشركين سبعين رجلا، وأسر منهم سبعون، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا، منهم ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.
ولما تم الفتح وانهزم المشركون أرسل صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن رواحة وزيدا بن حارثة ليبشرا المسلمين في المدينة بنصر الله للمسلمين وهزيمة المشركين.
وكان من حكمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المعركة كحكمته في سائر المعارك أنه بقي في موقع المعركة ثلاثة أيام، فعن أنس أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال.
وفي ذلك الموقف قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدفن قتلى المشركين، ثم وقف يخاطبهم، ويقول: (بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس)
ثم خاطبهم يسميهم قائلا: (يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا)، فقال عمر: يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال: (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب)([29])
التفت الحكيم إلى دوج، وقال: هذا هو سيف بدر الذي ملأتم الدنيا بسببه ضجيجا.. هل يملك أحد في تاريخه معركة أشرف من هذه المعركة؟.. وهل يملك أحد من الأسباب أشرف من تلك الأسباب التي خاض بها المسلمون هذه المعركة؟
سكت دوج، فأشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: سننتقل إلى سيف آخر.. وهو سيف يسميه المؤرخون (غزوة بني سُلَيم)
قال دوج: ألم يكتف محمد بانتصاره.. وبالهيبة التي كان يبحث عنها.. حتى يعود إلى إشهار سيفه من جديد؟
قال الحكيم: ما كان لنبي أن يدع سيفه قبل أن يأمره الله بذلك.. إن النبي صاحب رسالة.. وصاحب مبدأ.. ولا راحة له إلا بتأدية ما كلف به.
ولذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وهو رسول الله المعصوم.. لم يغتر بالنصر الذي نصره الله به.. فلذلك بقي يرسل استخباراته لتخبره ما يكيد له الأعداء..
وكان أول ما نقلت استخبارات المدينة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد بدر أن بني سليم وبني غَطَفَان تحشد قواتها لغزو المدينة، فلذلك استفاد صلى الله عليه وآله وسلم من عنصر المفاجأة، فباغتهم في مائتي راكب في عقر دراهم، وبلغ إلى منازلهم في موضع، يقال له: الكُدْر. ففر بنو سليم.. وأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلمفي ديارهم ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة.. وكانت هذه الغزوة في شوال سنة 2 هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام.
قال دوج: إن هؤلاء بدو.. وليسوا من أعدائه من قريش.. فما الذي جعله يلتفت لهم!؟
قال الحكيم: التفاتهم له هو الذي جعله يلتفت لهم.. ومكايدهم له هي التي جعلته يكيد لهم..
لقد كانت معركة بدر أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين، وكانت معركة فاصلة أكسبت المسلمين نصراً حاسماً شهد له العرب قاطبة.. ولكنها كانت في نفس الوقت مثار سخط من كثيرين:
أولهم المشركون الذين منوا بخسائر فادحة مباشرة.. ويليهم اليهود الذين كانوا يرون عزة المسلمين وغلبتهم ضرباً قاصماً على كيانهم الديني والاقتصادي.. ويليهم المنافقون الذين اشتد خوفهم من انتصار هذا الدين الذي يمتلئون له بغضا.
وكان رابع هؤلاء البدو الضاربون حول المدينة، والذين ورد ذكرهم في قوله تعالى:{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (التوبة:101).. وهؤلاء كانوا أصحاب سلب ونهب، فاستبد بهم القلق، واضطربوا لهذا الانتصار، وخافوا أن تقوم في المدينة دولة قوية تحول بينهم وبين اكتساب قوتهم عن طريق السلب والنهب، فجعلوا يحقدون على المسلمين .
أنت ترى أن الانتصار في بدر كما كان سبباً لشوكة المسلمين وعزهم وكرامتهم كان سبباً لحقد جهات متعددة، وكان للحكيم العاقل أن يلبس لكل حالة لبوسها.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا سيف يشير إلى غزوة السويق.. ويسرني أن أحدثكم.. فليس في حياة نبينا ما يستحيا من ذكره.
كان سبب هذه الغزوة أن أبا سفيان قدم بمائتي فرس من مكة، وسلك طريق النجدية حتى نزلوا حي بني النضير، وهم من اليهود ليلا، واستقبلهم سلام بن مشكم سيد بني النضير، فأطعمهم وسقاهم، وكشف لهم عن أسرار المسلمين، وتدارس معهم إحدى الطرق لإيقاع الأذى بالمسلمين.
ولم يكن ذلك وحده ما فعله أبو سفيان.. بل قام بمهاجمة ناحية العُريض، وهو وادٍ بالمدينة في طرف حرة واقم، فقتل رجلين وأحرق نخلاً وفر عائدًا إلى مكة.
وأنت تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشعر بمسؤوليته على الرعية التي وكلت إليه حمايتها، فلذلك تعقبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مائتي رجل من المهاجرين والأنصار.
لكنه لم يتمكن من إدراكهم؛ لأن أبا سفيان ورجاله قد جدوا في الهرب، وجعلوا يتخففون من أثقالهم، ويلقون السويق([30])التي كان يحملونها لغذائهم، وكان المسلمون يمرون بهذه الجرب فيأخذونها، حتى رجعوا بسويق كثير، لذا سميت هذه الغزوة بغزوة السويق، وعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بعد أن غاب عنها خمسة أيام دون أن يلقى حربا([31]).
قهقه دوج بصوت عال، وقال: ألم يكفهم ما غنموه من السويق؟
قال الحكيم: ومع ذلك لا يستحي قومك.. فيضعون هذه الغزوة التي سد فيها المسلمون بعض جوعهم في نفس الخانة التي يضعون فيها حروبهم الطاحنة التي تقتل العباد، وتحرق البلاد.
سكت دوج، فنظر الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا سيف يشير به فناننا المبدع إلى غزوة ذي أمر.. وما أدراك ما غزوة ذي أمر([32])؟
قالوا: فحدثنا عنها..
قال الحكيم: لقد جاءت الأخبار من قِبَل الرجال الذين جعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عيونا تحفظ المدينة.. بأن رجال قبيلتي ثعلبة ومحارب تجمعوا بذي أمر بقيادة دُعثور بن الحارث المحاربي، يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإغارة على المدينة، فخرج صلى الله عليه وآله وسلم في أربعمائة وخمسين من المسلمين بين راكب وراجل، فأصابوا رجلا كان يحمل أخبارًا عن قومه أسرَّ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد دخل في الإسلام.
أما المشركون من بني ثعلبة ومحارب، فما لبثوا أن فروا إلى رؤوس الجبال عند سماعهم بمسير المسلمين، وبقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نجد مدة تقارب الشهر دون أن يلقى كيدًا من أحد وعاد بعدها إلى المدينة.
وفي هذه الغزوة أسلم دعثور بن الحارث الذي كان سيدًا مطاعًا بعد أن حدثت له معجزة على يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أصاب المسلمين في هذه الغزوة مطرٌ كثيرٌ فابتلت ثياب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل تحت شجرة ونشر ثيابه لتجف، واستطاع دُعثور أن ينفرد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسيفه، فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ قال: (الله)، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (من يمنعك مني) قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعًا أبدًا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفه، فلما رجع إلى أصحابه فقالوا: ويلك، ما لك؟ فقال: نظرت إلى رجل طويل فدفع صدري فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعًا، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام([33]).
وقد نزل في شأن هذه الغزوة قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (المائدة:11)
التفت الحكيم إلى دوج، وقال: ألا ترى كيف كان للرعب تأثيره النفسي في حفظ هذه القبيلة التي قصدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلولا انتصارات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السابقة لغامر هؤلاء بأنفسهم.. ولكن القوة التي تمتع بها المسلمون هي التي حفظتهم.
ثم ألا ترى في موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الذي يريد قتله ما يدلك على نبوته.
تغيرت لهجة الحكيم فجأة، وقال محاطبا دوج بقوة: هل ترى أن هذا الرجل الذي حصل منه كل هذا بشرا عاديا!؟
هل ترى من هذا الرجل العظيم الذي يهب عند كل حاجة ليحمي المسلمين بنفسه رجلا ظالما قاتلا مستبدا إرهابيا؟
سكت دوج، فقال الحكيم: لو بحثت في جميع قادة الدنيا.. فلن تجد قائدا له هذه الروح.. وهذه الأخلاق.. وهذا الإيمان.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: هذا السيف يشير به فناننا المبدع إلى غزوة بحران.. وقد وقعت هذه الغزوة في شهر جمادى الأولى من السنة الثالثة للهجرة، وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثمائة من المسلمين حتى بلغ بحران بين مكة والمدينة يريد قتال بني سليم، فوجدهم قد تفرقوا، فانصرف عنهم، وعاد إلى المدينة بعد أن أمضى خارجها عشر ليالٍ.
قال دوج: أنا لا أرى سببا لهذه الغزوة، ولهذا فهي نوع من الإرهاب.
قال الحكيم: إذا أردت بالإرهاب بث الرعب في الظالم حتى لا يظلم، وفي السارق حتى لا يسرق، وفي المعتدي حتى لا تحترق نفسه، ويحرق غيره بنيران العداوة، فذلك صحيح.. فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان بين قوم ممتلئين بقيم الاعتداء.. ولم يكن يردعهم إلا قوة تردهم إلى رشدهم.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل فناننا المبدع يشير بهذا السيف إلى سرية القردة..
وسبب هذه الغزوة أن قريشا لما تيقنت أن طريق الشام من جهة المدينة قد أُغلق في وجه تجارتها، ولا يمكنهم الصبر عنها لأن بها حياتهم، أرسلوا عِيراً إلى الشام من طريق العراق، وكان فيها جمع من قريش منهم أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، فجاءت أخبارهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأرسل لهم زيدبن حارثة في مائة راكب يترقبونهم، وكان ذلك في جمادى الآخرة، فسارت السرية حتى لقيت العِير على ماء اسمه القَرْدَة بناحية نجد، فأخذت العِير وما فيها، وهرب الرجال، وقد خمَّس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه الغنائم ـ التي بلغت قيمتها مائة ألف درهم ـ حينما وصلت له.
التفت إلى الحكيم، وقال: أنت ترى أن أكثر هذه الغزوات يمر بدون أي ضحايا، فكيف تشير إليها بالسيوف.
قال دوج:ولكنها نهبت أموالا.
قال الحكيم: لقد كانت تلك الأموال بعض حقوق المسلمين التي أكلها المشركون، ولذلك استردها المسلمون عبر هذه السرايا.
ثم أضيف لك شيئا مهما قد تكون غفلت عنه.. كما غفل عنه الكثير، وهو أن المشركين كان في إمكانهم أن يوقفوا هذه السرايا، وأن يأمنوا على نفوسهم وقوافلهم لو أرادوا.. ولكنهم لم يريدوا.
قال دوج: تقصد إسلامهم!؟
قال الحكيم: بل أقصد إقامتهم لهدنة أو صلح بينهم وبين المسلمين.. لقد كان في إمكانهم ذلك.. وسيجدون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل ذلك .. ولكنهم لم يفعلوا.. فكانوا بذلك هم المعتدين.
قال دوج: ومن أخبرك بأن محمدا سيقبل لو عرضوا عليه ذلك؟
قال الحكيم: لقد عرضوا عليه ذلك.. وبشروط مجحفة.. وفي وقت كان فيه أقوى من هذه الفترة.. ومع ذلك قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرصا على السلام.
التفت الحكيم إلى دوج مشيرا إلى سيف من السيوف، وقال: ألست تقصد بهذا السيف غزوة بني قينقاع..!؟
لم ينتظر أن يجيبه، بل قال: نعم.. لا أظنك إلا تقصدها.. فإن كنت تقصدها، فهي أول غزوة ترتبط باليهود .. قتلة الأنبياء.. الذين امتلأتم لهم حبا واحتضانا مع اعتقادكم بأنهم قتلوا المسيح.. وليس ذلك إلا لسبب وحيد هو أنهم من أشد الناس لنا بغضا.. وكم يقرب البغض من أباعد.
قال الجمع: حدثنا عن هذه الغزوة.
قال الحكيم: ربما سمعتم ببنود المعاهدة([34]) التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع اليهود في أول مقدمه للمدينة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حريصاً فيها كل الحرص على تنفيذ ما جاء فيها.
ولم يأت من المسلمين ما يخالف هذه المعاهدة في حرف من حروفها.. ولكن اليهود الذين ملأوا تاريخهم بالغدر والخيانة ونكث العهود، لم يلبثوا أن تمشوا مع طبائعهم القديمة، وأخذوا في طريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والاضطراب في صفوف المسلمين.
ومن الأمثلة على ذلك أن شاس بن قيس ـ وكان شيخاً يهودياً شديد الضغن على المسلمين، مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون، فغاظه ما رأي من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلَةَ بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتي شاباً من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بُعَاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جَذَعَة ـ يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم ـ وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة: الحَرَّة ـ السلاح السلاح، فخرجوا إليها، وكادت تنشب الحرب.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: (يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم)
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس.
ومن ذلك أنهم كانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار، ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشك في قلوب الضعفاء.
وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن إن كان لهم به ارتباط مإلى، فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء، وإن كان له عليهم يأكلونـه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه، وكانوا يقولون: إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت، فليس لك علينا من سبيل.
كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلموأصحابه يصبرون على كل ذلك؛ حرصاً على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة.
لكنهم لما رأوا أن الله قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في بدر، وأنهم قد صارت لهم عزة وشوكة وهيبة في قلوب الناس تميزت قدر غيظهم، وكاشفوا بالشر والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذي.
وكان أعظمهم حقداً كعب بن الأشرف.. كما أن شر طائفة من طوائفهم الثلاث هم يهود بني قينقاع، كانوا يسكنون داخل المدينة ـ في حي باسمهم ـ وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحرب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود.
فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذي كل من ورد سوقهم من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم.
وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدي، وحـذرهم مغـبة البغـي والـعدوان، ولكن ذلك لم يزدهم إلا شرا.
وقد صبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون إلى أن حصل منهم ما لا يمكن أن يصبر مؤمن عليه:
لقد حدث المؤرخون أن أن امرأة من العرب قدمت بجَلَبٍ لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فَعَمَد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ـ وهي غافلة ـ فلما قامت انكشفت، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ـ وكان يهودياً ـ فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
ولما وصل الأمر إلى هذه الدرجة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، فلما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2 هـ، ودام الحصار خمس عشرة ليلة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكتفوا.
وحينئذ قام عبد الله بن أبي بن سلول ـ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم نفاقه ـ فألح على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصدر عنهم العفو، فقال: يا محمد، أحسن فـي موالى ـ وكـان بنـو قينـقاع حلفـاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكرر ابن أبي مقالته فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(أرسلني)، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً، ثم قال: (ويحك، أرسلني)، ولكن المنافق مضى على إصراره وقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالى أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني والله امرؤ أخشي الدوائر.
وعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا المنافق ـ الذي لم يكن مضي على إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب ـ بالحسنى، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذْرُعَات الشام.
وبهذه العقوبة الرادعة لاذت القبائل اليهودية بالصمت والهدوء فترة من الزمن..
قال دوج: ألا تعتبر هذا إرهابا؟
قال الحكيم: لا.. بل فعل بهم رسول الله عين العدل والحكمة والرحمة..
قال دوج: أي عدل وأي حكمة وأي رحمة هذه التي تتحدث عنها؟
قال الحكيم: أما العدل.. فإن كل مجرم لابد أن ينال عقوبته ليستتب الأمن.. وهؤلاء الذين لم يرحموا امرأة يمكن أن يصدر منهم أي شيء بعد ذلك.
قال دوج: والحكمة!؟
قال الحكيم: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعامل بحزم مع هذه الأمور وأمثالها لما استطاع أن يؤسس ذلك المجتمع الفاضل الذي أسسه.. ولا استطاع أن ينشر تلك القيم الرفيعة التي نشرها.. فالحكمة تقتضي تقديم المصالح العليا على كل شيء.
قال دوج: والرحمة!؟
قال الحكيم: لقد رحمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاكتفى بإخراجهم.. وكان يمكنه أن يفعل أكثر من ذلك.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل فناننا المبدع يشير بهذا السيف إلى (غزوة أحد)
انتفض دوج فرحا، وقال: أجل.. تلك هي الغزوة التي انتقم الله فيها من محمد وأصحاب محمد.
ابتسم الحكيم، وقال: بل هي تلك الغزوة التي نصر الله فيها محمدا وأصحاب محمد..
قال دوج: كيف تقول ذلك.. والكل يتفق على أن محمدا مني فيها بهزيمة أسقطت هيبته، وجعلته عرضة لكل طامع!؟
قال الحكيم: وذلك بعض النصر الذي تحقق بهذه الغزوة.
قال دوج: إنك تحيرني.. أو أنك تتناقض مع نفسك..كيف يتحول طمع الأعداء فيك إلى نصر؟
قال الحكيم: عندما تتوفر لأعدائك الفرص لأن يظهروا طمعهم فيك.. ثم ينصرك الله عليهم يكون سبب نصرك الأول عليهم هو طمعهم فيك.. فلولا طمعهم ما تحقق نصرك.
قال دوج: لم أفهم ما الذي تقصد بالضبط.
قال الحكيم: بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحول ما يتصوره الناس هزيمة إلى نصر.. فالحكيم العاقل لا تتصرف فيه الظروف، بل هو الذي يتصرف فيها، وهو الذي يحولها بعد ذلك كما شاء([35]).
قال دوج: لا أزال أنتظر دليلا على ذلك.
قال الحكيم: لا يمكنني أن أذكر لك ذلك إلا بعد أن يعرف الجمع أحداث هذه الغزوة وما تلاها ليستنتجوا بعد ذلك ما ذكرته لك من تحول الهزيمة إلى نصر.
قال الجمع: نعم.. ذلك صحيح.. فنحن نسمع بهذه الغزوة.. ولكنا لم نتشرف بعد بمعرفة تفاصيلها.
قال الحكيم: لقد كانت هذه الغزوة إفرازا من إفرازات الأحقاد التي كانت تمتلئ بها قلوب المشركين من قريش منذ أعلن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعوته فيهم، فقد قابلوا الإسلام منذ ابتدأ بالمواجهة.. لقد كانوا ينفقون أموالهم في الصد عن سبيل الله، وإقامة العقبات أمام الدعوة الإسلامية، ومنع الناس في الدخول في الإسلام، ثم بعد ذلك سعوا إلى القضاء على الإسلام والمسلمين ودولتهم الناشئة.
قال تعالى يصور جهودهم المتواصلة لاستئصال الإسلام:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (لأنفال:36)
وقد ازدادت هذه الأحقاد بعد هزيمتهم في غزوة بدر، ولذلك شرعوا في جمع المال لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمجرد عودتهم من بدر.
وبعد أن استكملت قريش قواها في شوال من السنة الثالثة من الهجرة، عبأت جيشها المكون من ثلاثة آلاف مقاتل، ومعها من تبعها من القبائل العربية المجاورة، خرجت لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصطحبين معهم النساء والعبيد.
وقد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تفعله قريش من استعدادها لحرب المسلمين.. فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ضمنها جميع تفاصيل الجيش،، وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة وجد في السير، حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة، التي تبلغ مساحتها خمسمائة كيلومتر، في ثلاثة أيام وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مسجد قباء.
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتابع أخبار قريش بدقة بواسطة عمه العباس، قال ابن عبد البر: (وكان العباس يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب أن يقدم على رسول الله فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن مقامك في مكة خير)([36])
وقد كانت المعلومات التي قدمها العباس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غاية الدقة، فقد جاء في رسالته: (أن قريشًا قد أجمعت المسير إليك، فما كنت صانعًا إذا حلوا بك فاصنعه، وقد توجهوا إليك وهم ثلاثة آلاف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير، وأوعبوا من السلاح)
وبعد أن تأكد صلى الله عليه وآله وسلم من المعلومات التي وصلته عن استعداد قريش وخروجها لحربه حرص صلى الله عليه وآله وسلم على حصر تلك المعلومات على المستوى القيادي، خوفًا من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات المسلمين قبل إعداد العدة، ولذلك حين قرأ أبي بن كعب رسالة العباس أمره صلى الله عليه وآله وسلم بكتمان الأمر، وعاد مسرعًا إلى المدينة.
وبعد أن جمع صلى الله عليه وآله وسلم المعلومات الكاملة عن جيش كفار قريش جمع أصحابه وشاورهم في البقاء في المدينة والتحصن فيها أو الخروج لملاقاة المشركين، وكان رأي النبي صلى الله عليه وآله وسلم البقاء في المدينة، وقال:(إنا في جنة حصينة)، فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن رجالاً من المسلمين ممن كان فاته بدر، قالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا.
قال ابن إسحاق: فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيته، فلبس لأمته، فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر وعرضتم بغيره، فاذهب يا حمزة فقل لنبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرنا لأمرك تبع) فأتى حمزة فقال له: (يا نبي الله إن القوم تلاوموا، فقالوا: أمرنا لأمرك تبع)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل)
قال دوج: كيف يفعل محمد هذا.. ألم يكن له من الحكمة ما يجعله يعمل رأيه ما دام قد أرى بأنه الصواب؟
قال الحكيم: لقد أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا أمرين:
الأول: أن يعلمنا أن المستشير ينبغي أن يحترم رأي من يستشيره، فيعمله إذا اقتضى المقام ذلك.
والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما عزم على الخروج بسبب إلحاحهم، ثم عادوا فاعتذروا إليه، أراد أن يعلمهم درسًا آخر ـ هو من أهم صفات القيادة الناجحة ـ وهو عدم التردد بعد العزيمة والشروع في التنفيذ، لأن من آثار ذلك أنه ييزعزع الثقة بها ويغرس الفوضى بين الأتباع.
سكت الحكيم، فقالت الجماعة: ثم ماذا؟
قال الحكيم: لقد اشتد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الأيام في التجهير للقتال وحراسة المدينة.. فصار كل واحد من الصحابة يصحب سلاحه ولا يفارقه، حتى عند نومه، وأمر صلى الله عليه وآله وسلم بحراسة المدينة، واختار خمسين من أشداء المسلمين ومحاربيهم.
وقد اختار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخروجه الوقت المناسب، فقد تحرك بعد منتصف الليل، حيث يكون الجو هادئًا، والحركة قليلة، وفي هذا الوقت بالذات يكون الأعداء، غالبا، في نوم عميق لأن الإعياء ومشقة السفر قد أخذا منهم مجهودًا كبيرًا.
ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم اختار الطريق المناسب الذي يسلكه حتى يصل إلى أرض المعركة، وذكر صفة ينبغي أن تتوافر في هذا الطريق وهي السرية، حتى لا يرى الأعداء جيش المسلمين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (من رجل يخرج بنا على القوم من طريق لا يمر بنا عليهم؟)، فأبدى أبو خيثمة استعداده قائلا: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم، حتى سلك به في مال لربعي بن قيظي، وكان رجلاً منافقًا ضرير البصر، فلما أحس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المسلمين، قام يحثو في وجوههم التراب، وهو يقول: إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي، وقد ذكر أنه أخذ حفنة من تراب بيده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد، لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال لهم: لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر، وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني الأشهل قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه.
قال رجل من الجمع: إن جسارة رجل في هذا الموقف الشديد على سب محمد.. وترك محمد له من غير عقوبة.. لا يدل إلا على حلم عظيم، وسعة لا يمكن أن تكون في صدر إرهابي أو مستبد.
قال الحكيم: لم يكتف المنافقون بذلك فقط.. بل إنهم ـ كموقفهم في جميع الغزوات ـ لم يكن لهم دور إلا التثبيط، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يمس أحدا منهم بسوء.
في ذلك اليوم الشديد..وعندما وصل جيش المسلمين الشواط ـ وهو اسم بستان بين المدينة وأحد ـ انسحب ابن سلول بثلاثمائة من المنافقين، وهم ثلث الجيش، بحجة أنه لن يقع قتال مع المشركين، ومعترضًا على قرار القتال خارج المدينة قائلا: (أطاع الولدان ومن لا رأي له، أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا)
لقد كان هدف المنافقين من هذا بث الهزيمة النفسية في قلوب المؤمنين وتحطيم معنوياتهم.. ولكن الله علمهم أن من رحمة الله بهم أن لا يدخل هؤلاء ساحة المعركة.
لقد اقتضت حكمة الله أن يمحص الله الجيش ليظهر الخبيث من الطيب، حتى لا يختلط المخلص بالمغرض، والمؤمن بالمنافق، قال تعالى:{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} (آل عمران)
في ذلك الموقف الشديد تميز المخلصون من المنافقين.. في ذلك الموقف حاول عبد الله بن حرام إقناع المنافقين بالعودة فأبوا، فقال: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه.
وفي هؤلاء المنخذلين نزل قول الله تعالى:{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)} (آل عمران)
قال رجل من الجمع: إن ما تذكره من عدم حصول نزاع داخلي بين المسلمين مع توفر جميع دواعيه يدل على أن كل النزاعات التي تحصل الآن بين المسلمين ليس لها أصل في الإسلام.
قال الحكيم: أجل.. فإن المسلمين في ذلك الحين كانوا يسمعون المنافقين بل كانوا يرون منهم ما لو حصل بين بعض هذه الجماعات الآن لاعتبروه من مبررات سفك الدماء.. ولكن المسلمين الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حرمة الدماء كانوا أوسع صدرا من أن يقعوا في هذا.
قال دوج: ولكن أمر الرجوع لم يخص ابن أبي ابن سلول وحده.. بل إني أعلم أن بني سلمة، وبني حارثة قررتا أن ترجعا.. وفي ذلك دليل على تضعضع المسلمين.
قال الحكيم: لقد حصل بعض ما ذكرت.. لا كل ما ذكرت.. فقد ثبت الله هاتين القبيلتين وعصمهما، ونزل في ذلك قوله تعالى:{ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} (آل عمران)
وهذا لا يفهم منه ما استنتجت.. وإنما يفهم منه شيء واحد هو ما تسمونه أنتم الآن بالديمقراطية..
لقد وفر صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ورعيته من الحرية ما لم يوفرها زعيم من زعماء الدنيا.. فهل ترى زعيما من الزعماء يترك طائفة من جيشه، وهو أحوج ما يكون إليها؟
ألا تعتبرون ذلك في عرفكم خيانة عظمى ليس لها من عقوبة إلا القتل؟.. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل أحدا بهذا السبب وكان في إمكانه أن يفعل؟
قالت الجماعة: حدثنا عن المعركة.. كيف بدأت؟.. وإلام انتهت؟.. وكيف زعمت انتصار المسلمين فيها؟
قال الحكيم: لما تجمع المسلمون للخروج، رأى الرسول جماعة من اليهود يريدون أن يخرجوا مع عبد الله بن أبي بن سلول ـ قبل انسحابه بجيشه ـ للخروج مع المسلمين، فقال الرسول: (أو قد أسلموا؟) قالوا: لا يا رسول الله، قال: (مروهم فليرجعوا؛ فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين)
قال دوج: فهي حرب دينية إذن.
ابتسم الحكيم، وقال: إن أردت بالدينية أنها تحكم القيم الدينية، فذلك صحيح، فقيم الحرب الدينية في الإسلام تختلف عنها في اليهودية … أما إن أردت بالدينية الحرب التي تسعى لنشر الدين، فأنت تعلم، وكل الناس يعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الغزوة لم يخرج إلا مكرها للدفاع عن المجتمع الذي أسسه.
سكت قليلا، ثم التفت إلى الجمع، وراح يواصل حديثه عن أحداث غزوة أحد، قال: في منتصف الطريق انخذل عن المسلمين عبد الله بن أبي بن سلول ومعه ثلاثمائة من المنافقين ـ كما ذكرت لكم ذلك من قبل ـ فبقي عدد المسلمين سبعمائة رجل فحسب، ثم مضى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى وصل إلى ساحة أحد، فجعل ظهره للجبل ووجهه للمشركين، وصف الجيش، وجعل على كل فرقة منه قائدا، واختار خمسين من الرماة، ليحموا ظهر المسلمين من التفاف المشركين وراءهم، وقال لهم: (احموا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، وارشقوهم بالنبل؛ فإن الخيل لا تقوم على النبل، إنا لا نزال غالبين ماثبتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم)
ثم ابتدأ القتال، وكان النصر الكامل حليف المسلمين في البداية.. لكن بعض المسلمين اغتروا بذلك، فراحوا ينغمسون في أخذ الغنائم التي وجدوها في معسكر المشركين، ورأى ذلك من وراءهم من الرماة، والذين كلفوا بحماية ظهر المسلمين، فقالوا: ماذا نفعل وقد نصر الله رسوله؟ ثم فكروا في ترك أمكنتهم لينالهم نصيب من الغنائم، فذكرهم رئيسهم بوصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فأجابوا بأن الحرب قد انتهت، ولا حاجة للبقاء حيث هم.
قال دوج مقاطعا الحكيم: أرأيتم المسلمين، وشوقهم للغنائم؟
قال الحكيم: المسلمون بشر.. وفيهم من شهوات البشر وحرصهم ما فيه، ودور الدين هو أن يضبطهم ويربيهم لا أن يقمعهم أو يقمع ما جبلوا عليه من فطرة.
وقد كان هذا الحدث على الخصوص من تقدير الله الذي يرتبط بتربية المسلمين في كل الأجيال عبر تربيته لذلك الجيل.
لقد رأى خالد، وكان قائد ميمنة المشركين خلو ظهر المسلمين من الرماة، فكرَّ عليهم من خلفهم، فما شعر المسلمون إلا والسيوف تناوشهم من هنا وهناك، فاضطرب حبلهم، واختلفوا فرقا بحسب ما لكل منهم من نضج في الإيمان والسلوك، فقد كانت هذه الغزوة ـ بتقدير الله محكا لذلك ـ:
فمنهم طائفة لم تهمها إلا نفسها، حيث أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها، وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل.
ومنهم طائفة اختلطت بالمشركين، والتبس العسكران فلم يتميزا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض.. وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضي، وتاه منها الكثيرون؛لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح: إن محمداً قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقي بأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان.
قال دوج، والفرح باد على وجهه: هكذا تكون الهزيمة، وإلا فلا.
قال الحكيم: بل هكذا يكون النصر، وإلا فلا.
قال دوج: ماذا تقصد؟
قال الحكيم: عندما انتصر المسلمون في بدر ظهر كثير من المغرضين.. لاشك أنك تعرفهم.. فإن لم تكن تعرفهم فإن أصحاب المبادئ من رؤساء الأحزاب يعرفونهم.
فقد يبدأ رئيس الحزب حزبه بطائفة من المبادئ الفاضلة، فلا يستجيب له إلا نفر قليل، فإذا ما أرى المغرضون نجاحه في بعض الانتخابات انضموا إليه بما نفوسهم من أغراض خسيسة قد تسيء إلى المبادئ التي انطلق منها ذلك الزعيم.
وفي ذلك الحين يكون الفشل في الانتخابات انتصارا للمبادئ في وجه المغرضين.
قال دوج: ربما أفهم هذا.. ولكن ما علاقته بالنصر؟
قال الحكيم: لقد كان المسلمون في تلك المرحلة مقبلون على انتصارات كثيرة، وعلى تأسيس جميع مؤسسات المجتمع الإسلامي، وكان لابد أن يمحص الناس حتى يظهر الصادقون المضحون الثابتون من غيرهم.. وكانت هذه الغزوة سببا لذلك.
قالت الجماعة: ثم ماذا حصل؟
قال الحكيم: لقد أشيع أن الرسول قد قتل، ففر بعضهم عائدا إلى المدينة، واستطاع المشركون أن يصلوا إلى الرسول، فأصابته حجارتهم حتى وقع([37])وأغمي عليه، ودخلت حلقتان من المغفر في وجنته صلى الله عليه وآله وسلم وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه في حفرة.
قال دوج: ألا تعجبون من رجل يدعي أن الملائكة تتنزل بنصره، وقد حصل له من الهوان في هذا المحل ما حصل؟
قال الحكيم: والعجب منكم أكثر، فأنتم تزعمون أن المسيح.. وهو ابن الله في تصوركم.. لم يكتف أعداؤه بجرحه.. بل صلبوه وأهانوه إهانة عظيمة.
قال دوج: ذلك ليفدي البشر من الخطيئة.
قال الحكيم: وهذا ليعلم كل قائد كيف يكون القائد الحقيقي.. فالقائد في المفهوم الإسلامي هو الذي يصيبه ما يصيب جنوده من أنواع الأذى.. لا الذي يقبع في قصره يلقي الأوامر، وينتظر النياشين.
قال دوج: لقد زعمت بأن المسلمين انتصروا.. وها نحن نرى محمدا نفسه يكاد يقتل.
قال الحكيم: إن عدم قتله مع توفر الدواعي لذلك أكبر انتصار..
قالت الجماعة: فهل ثبت محمد في ذلك الموقف الشديد؟
قال الحكيم: أجل.. ومن يثبت إن لم يثبت محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأبي هو وأمي.. لقد ثبت وثبت معه رجال لا تزال الأمة تسبح بالثناء عليهم.. فهم قدوة كل جيل في التضحية والفداء والإيثار..
منهم أبو دجانة، الذي تترس على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليحميه من نبال المشركين، فكان النبل يقع على ظهره.
ومنهم نسيبة أم عمارة الأنصارية، التي تركت سقاء الجرحى، وأخذت تقاتل بالسيف، وترمي بالنبل، دفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصابها في عنقها، فجرحت جرحا عميقا، وكان معها زوجها وابناها، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (بارك الله عليكم أهل بيت) فقالت له نسيبة: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: (اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة) فقالت بعد ذلك: (ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا) وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في حقها: (ما التفت يمينا وشمالا يوم أحد، إلا ورأيتها تقاتل دوني) وقد جرحت يومئذ اثني عشر جرحا، ما بين طعنة برمح وضربة بسيف.
التفت الحكيم إلى دوج، وقال: إن بروز مثل هذه النماذج.. والتي لو لم يحصل ذلك الموقف ما ظهرت.. دليل على أن النصر الذي تحقق في أحد نصر لا يمكن تصور حدوده.. لقد ظلت هذه المواقف وغيرها درسا يستفيد كل من يقدم روحه في سبيل الله لنصرة الحق والدفاع عن المستضعفين.
قالت الجماعة: فماذا فعل محمد؟
في ذلك الموقف الشديد، أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللواء لعلى بن أبي طالب بعد مقتل حامله مصعب بن عمير.. ثم استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه الذي طوقه المشركون من كل جانب، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصمت حتى لا يعرف موضعه المشركون.. لكن ذلك الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فأسرعوا إليه حتى تجمع حوله حوالى ثلاثين رجلاً من الصحابة.
وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم لعرقلة الانسحاب إلا أن بسالة المسلمين لم تمكنهم من ذلك.
في ذلك الموقف الحرج تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة، وهو أحد فرسان المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: لا نجوت إن نجا، وقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمواجهته، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصِّمَّة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وعطف عبد الله بن جابر، وهو فارس من فرسان مكة على الحارث بن الصِّمَّة، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه.
وهكذا.. إلى أن بلغت هذه الكتيبة إلى شعب الجبل، وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل.
في ذلك الموقف جاء أبي بن خلف مسرعا نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوتُ إن نجا، فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(دعوه)، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله وأبصر تَرْقُوَتَه من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدحرج منها عن فرسه مراراً.
فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد، قالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة:(أنا أقتلك، فوالله لو بصق على لقتلني)، فمات بسَرِف وهم قافلون به إلى مكة.
نظر دوج إلى الجماعة وقال متهكما: ألا تعجبون من نبي يفعل هذا؟
التفت الحكيم إلى دوج، وقال: وكيف لا يفعله؟.. وهل ترى من الحكمة في ذلك الموقف أن يسلم محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه للقتل أم يدافع عن نفسه؟
سكت دوج، فقال الحكيم: فأخبر قومك أن هذا الرجل من المشركين هو الوحيد الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جميع حياته.. ولا تنس أن تخبرهم عن سبب قتله..
قال رجل مسلم من الجماعة: فهل ظل المسلمون في تماسكهم في ذلك الموقف الشديد؟.. ألم يحاول المشركون اختراقهم؟
قال الحكيم: بلى.. لقد كان هدف المشركين هو القضاء على الإسلام.. ولم يكن هدفهم ذلك النصر المحدود.. لذلك استمروا في تتبعهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وقاموا بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا)
ثم كلف أصحابه بأن يقفوا في وجه هذا الهجوم..
ولما يئس المشركون من مواصلة المعركة وتحقيق الهزيمة الكاسحة بالمسلمين لجأوا إلى الشهداء يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف ويبقرون البطون..
ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مقره من الشِّعب خرج على بن أبي طالب حتى ملأ دَرَقَته ماء من المِهْرَاس([38]) فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحاً فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: (اشتد غضب الله على من دَمَّى وجه نبيه)
وقال سهل: والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كان يسكب الماء، وبما دُووِي ؟ كانت فاطمة ابنته تغسله، وعلى بن أبي طالب يسكب الماء بالمِجَنِّ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها فاستمسك الدم.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادي: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل من أصحابه: (قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد).
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بن أبي طالب، فقال: (اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد جَنَبُوا الخيل، وامْتَطُوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم)، قال على: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووَجَّهُوا إلى مكة.
التفت الحكيم إلى دوج، وقال: أنت تبحث عن سر نصر أحد.. فهذا سر من أسراره..
لقد جاء المشركون ليقضوا على الإسلام، وليدخلوا المدينة وينهبوها.. ولكنه لم يحصل شيء من ذلك..
كل ما حصل هو أن عدد شهداء المسلمين كان أكبر من عدد شهداء المشركين([39]).. وليس ذلك هو مقياس النصر أو الهزيمة.. فمقياس النصر والهزيمة هو تحقيق أحد الطرفين للغاية التي دخل بها المعركة.
وقد دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعركة بنية الحفاظ على كلمة الله أن تظل عليا.. ودخل المشركون بنية القضاء على الإسلام.. ولم يتحقق شيء مما قصده المشركون.. وتحقق كل شيء قصده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
لقد قال المستشرق جيورجيو ـ مناقشاً آراء المؤرخين الإسلاميين كباحث عسكري، انطلاقاً من مفهوم النصر والخسارة في الحرب ـ:(يذكر المؤرخون الإسلاميون أن المسلمين خسروا في معركة أحد، وهذا الرأي يحتاج إلى مناقشة. ولو أننا تحدثنا مع متخصص حربي في مسألة خسارة المعركة، وسألناه: ما هي علامة الخسارة الحربية؟، لأجاب إن كان جيش الخصم المنتصر احتل البلاد، وأزال جيش العدو، عد عندئذ منتصراً، أما أن احتل دولة ما ولم يتمكن من أبادة جيشها فلا تعتبر الدولة خاسرة. فألمانيا في الحرب العالمية احتلت روسيا كلها، ووصلت جيوشها حتى شواطيء نهر الفولغا، ولأنها لم تستطع دحر جيش روسيا دحراً كاملاً فإن ألمانيا لم تعتبر منتصرة تماماً. فالدولة تعتبر ظافرة بشرطين: أولهما احتلال الدولة المغلوبة، وثانيهما إخماد حركة الجيش.
والمشركون في معركة أحد لم يستطيعوا احتلال المدينة، كما لم يوفقوا إلى إفناء جيش محمد، فمع أنهم شتتوا جيش المسلمين، فإن فلوله عادت فتجمعت في اليوم الثاني، فعندما عاد محمد إلى مدينه (كما سنذكر) كان تحت سيادته جيش منظم. فعن وجهة نظر محارب متخصص – برأيي- لم يخسر المسلمون في معركة أحد، إنما وقعوا في تجربة مفاجئة وحسب، لأن جيش مكة لم يفن جيش المسلمين، كما لم يحتل المدينة)([40])
وفوق ذلك.. فإن الشهداء الذين تصور المشركون أنهم بقتلهم انتصروا لم تكن دماؤهم إلا رايات لنصر عظيم ظل يتشرف به المسلمون كل حين..
اسمعوا ـ أيها الجمع ـ إلى هذا الانتصار الذي رسمه سعد بن الربيع بدمائه الزكية، قال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع. فقال لي: (إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تجدك؟) قال: فجعلت أطوف بين القتلي، فأتيته وهو بآخر رمق، فيه سبعون ضربة ؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلام، قل له، يا رسول الله، أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته.
أرأيتم النصر العظيم الذي رسمه هذا الرجل العظيم بشهادته..
التفت إلى دوج، وقال: لا شك أنك توافقني في أن هذه الميتة الشريفة نصر عظيم.. إنها لا تقل عن ذلك الموقف الثابت الذي نسبتموه للمسيح وهو على خشبة الصليب.
سكت قليلا، ثم قال: لم يكن ذلك هو الموقف الوحيد.. كان ذلك اليوم كله مواقف لا يزال يتزين بها التاريخ.. ولا زالت تملأ قلوب الأحرار..
عندما كان المسلمون يتفقدون الجرحي وجدوا الأُصَيرِِم ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: ما الذي جاء بك، أحَدَبٌ على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (هو من أهل الجنة)
وكان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة، قال لقومه: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق،.قالوا:إن اليوم يوم السبت. قال:لا سبت لكم.. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالى لمحمد، يصنع فيه ما شاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل.فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (مُخَيرِيق خير يهود)
بعد هذه المواقف النبيلة من الجرحى والشهداء أشرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الشهداء فقال: (أنا شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يُجْرَح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة، يَدْمَي جُرْحُه، اللون لون الدم، والريح ريح المِسْك)
سكت قليلا، ثم قال: بعد كل هذه المواقف النبيلة انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راجعاً إلى المدينة، وفي الطريق مر بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير إليها حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جَلَلٌ.
وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو، وسعد آخذ بلجام فرسه، فقال: يا رسول الله، أمي، فقال: (مرحباً بها)، ووقف لها، فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ، فقالت: أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت المصيبة ـ أي استقللتها ـ ثم دعا لأهل من قتل بأحد، وقال: (يا أم سعد، أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً). قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: يا رسول الله، ادع لمن خلفوا منهم، فقال: (اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخَلفَ على من خُلِّفُوا)
وعندما عاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مساء ذلك اليوم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: (اغسلي عن هذا دمه يا بنية، فوالله لقد صدقني اليوم)، وناولها على بن أبي طالب سيفه، فقال: وهذا أيضاً فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (لئن كنت صدقت القتال، لقد صدق معك سهل بن حُنَيف([41]) وأبو دُجَانة)
في تلك الليلة بات المسلمون في المدينة يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها، ولكن المشركين اكتفوا بما حققوه، ولم يطمعوا في المزيد.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، ثم قال: لعل صديقنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية أبي سلمة..
سكت دوج، فقال الحكيم: لقد كان من آثار النصر الخفي الذي وهبه الله للمؤمنين في أحد أن أبرز الحاقدون للإسلام عن أنيابهم.. وكان منهم بنو أسد بن خزيمة.. وكان لذلك إرسال هذه السرية.
لقد نقلت استخبارات المدينة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن طلحة وسلمة ابني خويلد يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فسارع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلاً من المهاجرين والأنصار، وأمر عليهم أبا سلمة، وعقد له لواء، فباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وأصاب المسلمون إبلا وشاء لهم فاستاقوها، وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حرباً.
قال دوج: فقد عاد المسلمون إلى النهب.
قال الحكيم: هذا ليس نهبا.. بل هو من الغنائم المشروعة في الحروب.. وليس الغرض منها إلا ردع الوساوس التي قد لا يردعها إلا حرصها على الحياة والمال.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى بعث الرجيع .. لا أظن إلا أنه يشير إليه.. إن هذا البعث دليل على الخيار الصعب الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
لقد كان بين قوم لا يرعون حرمة، ولا يوفون بعهد.. بل يستعملون كل الوسائل لتحقيق المآرب التي يصبون إليها.
في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوم من عَضَل وقَارَة، وذكروا أن فيهم إسلاماً، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم نفرا من أصحابه([42])، وأمر عليهم مَرْثَد بن أبي مَرْثَد الغَنَوِي أو عاصم بن ثابت، فذهبوا معهم، فلما كانوا بالرجيع([43]) غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلاً ليعينوهم على قتلهم، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، فأخذ عاصم ومن معه أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا: إنا والله لا نريد قتلكم، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم، وقالوا ذلك لأنهم يريدون أن يسلموهم لكفار قريش، ويأخذوا في مقابلتهم أجراً لعلمهم أنه لا شيء أحب إلى قريش من أن يأتوا بأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم يمثلون به ويقتلونه بمن قُتل منهم ببدر وأُحد، فأبوا أن يقبلوا منهم.
فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهداً، وقاتلوا حتى قُتلوا.
وأما زيد وخبيب وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا، فأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق، ثم أخذ واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وأما خبيب بن عدي وزيد بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فباعوهما.
وكان شراؤهما في ذي القعدة، فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرام، فقتلوا زيداً، وأما خبيب فقد مكث أسيراً حتى خرجت الأشهر الحرام ثم أجمعوا على قتله.. ولما خرجوا به من الحرم ليقتلوه قال: ذروني أصلِّ ركعتين، فتركوه فصلى ركعتين، ثم قال خبيب: لولا أن يقولوا جزعَ لزدت، وما أبالي على أي شِقَّي كان لله مصرعي ثم قال:
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم أخذ يدعو عليهم قائلا:(اللهم أحصهم عدداً وخذهم بدداً)، ثم خرج به أبو سروعة بن الحارث فضربه فقتله
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى ما حصل في بئر معونة.. فإن كان يقصده، فهو من أكبر الأدلة على نجاعة الأسلوب الذي اختار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتعامل به مع أولئك الأجلاف الغلاظ.
في ذلك الشهر نفسه الذي وقعت فيه مأساة الرَّجِيع وقعت مأساة بئر مَعُونة.. وهي مأساة أشد وأفظع من الأولى.
وقد بدأت هذه المأساة عندما قدم أبا براء عامر بن مالك المدعو بمُلاَعِب الأسِنَّة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فدعاه إلى الإسلام، فلم يسلم، ولم يبعد، فقال : يا رسول الله، لو بعثت أصحابك إلى أهل نَجْد يدعونهم إلى دينك لرجوت أن يجيبوهم، فقال: (إني أخاف عليهم أهل نجد)، فقال أبو براء : أنا جَارٌ لهم، فبعث معه نفرا كثيرا من أصحابه([44])، فساروا يحتطبون بالنهار، يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن ويصلون بالليل، حتى نزلوا بئر معونة، فنزلوا هناك، ثم بعثوا حرام بن مِلْحَان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عامر بن الطُّفَيْل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم، قال حرام : الله أكبر، فُزْتُ ورب الكعبة.
ثم استنفر هذا الرجل الماكر لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عُصَيَّة ورِعْل وذَكَوان، فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقاتلوا حتى قتلوا .
وقد تألم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأجل هذا الغدر ألما شديدا حتى دعا على هذه القبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه، فعن أنس قال : دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحاً، يدعو في صلاة الفجر على رِعْل وذَكْوَان ولَحْيَان وعُصَية، ويقول:(عُصَية عَصَتْ الله ورسوله)
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى غزوة بني النضير.. فإن كان يشير إليه، فسأحدثكم عنها.
هذه مواجهة أخرى بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين اليهود..
لاشك أنكم تعلمون مقدار الحقد الذي كان يحمله اليهود للمسلمين.. ولكنهم لضعفهم لم يكن لهم وسيلة يحققون بها أحقادهم سوى المؤامرات والدسائس..
وشاء الله أن يكون ما حصل في أحد سببا من أسباب طمعهم في المسلمين.. وشاء الله كذلك أن لا يبقى في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء الخادعون.
بدأت قصة هذه الغزوة عندما خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه، طالبا منهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْرِي ـ وكان ذلك واجبا عليهم حسب بنود المعاهدة ـ فقالوا : نفعل يا أبا القاسم، اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك.
فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه طائفة من أصحابه.
وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحي، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال عمرو بن جحاش: أنا، فقال لهم سَلاَّم بن مِشْكَم: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه.. ولكنهم أبوا إلا أن ينفذوا ما عزموا عليه.
وفي ذلك الوقت أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بما هموا به، فنهض مسرعاً وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه، فقالوا : نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما هَمَّتْ به يهود.
وما لبث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم : (اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه)
ولم يجد يهود مناصاً من الخروج، فأقاموا أياماً يتجهزون للرحيل، بيد أن رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بعث إليهم أن اثبتوا وتَمَنَّعُوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونك،م وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان..
وقد نص القرآن الكريم على مقولته، فقال:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(الحشر:11)
وهناك عادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.
لقد كان الموقف شديد الحرج للمسلمين بعد أن تبنى أعداؤهم هذا الأسلوب الخطير أسلوب الاغتيال والخداع..
ولذلك لم يجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدا من الخروج إليهم.. فلذلك ما إن وصله جواب حيي بن أخطب حتى كبر وكبر أصحابه، ثم نهض لمناجزة القوم، فاستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وسار إليهم، وعلى بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهي إليهم فرض عليهم الحصار.
والتجأ بنو النضير إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بقطعها وتحريقها، وفي ذلك أنزل الله تعالى قوله:{ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (الحشر:5)
وبعد خمسة عشر يوما، وبعد أن اعتزلتهم قريظة فلم تُعنهم، وخذلهم ابن أُبي وحلفاؤهم من غطفان، فأيسوا من نصرهم، قالوا: نخرج عن بلادك، فقال: لا أقبله اليوم، ثم قال لهم: أخرجوا منها، ولكن دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة، فرضوا بذلك ونزلوا عليه.
فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عما استحسن من خشبه كبابه وكنجاف به، فيضعه على ظهر بعيره، فينطلق به فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام.
ولما أيقن بنو النضير بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل وقد كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها ويحملونها على الإبل.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة ذات الرِّقَاع.. فإن كان يشير إليها، فهي من الغزوات التي توجه بها صلى الله عليه وآله وسلم إلى أولئك الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخري.
ولما كان هؤلاء البدو لا تجمعهم بلدة أو مدينة، ولم يكونوا يقطنون الحصون والقلاع، كانت الصعوبة في فرض السيطرة عليهم وإخماد نار شرهم تمامًا تزداد بكثير عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر؛ ولذلك لم تكن تجدي فيهم إلا حملات التأديب ولهذا قام المسلمون بمثل هذه الحملات مرة بعد أخرى.
ومن ذلك هذه الغزوة التي قصد بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فض اجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للإغارة على أطراف المدينة، وقد خشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينقضوا على المدينة بعد خروجه لبدر الثانية.
وقد حدث جابر عن بعض ما حصل في هذه الغزوة، فقال:: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين: فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أتخافني؟ قال: (لا)، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: (الله). قال جابر: فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا، فجئنا، فإذا عنده أعرابي جالس. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا. فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فها هو ذا جالس)، ثم لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أشار الحكيم إلى سيف آخر، ثم قال: لعل هذا السيف يشير إلى غزوة بدر الثانية([45])، وهذه الغزوة دليل آخر من أدلة ما نصر الله به نبيه من النصر الخفي يوم أحد.
لا شك أنكم تذكرون ذلك الموعد الذي ضربه أبو سفيان للمسلمين بالالتقاء في بدر بعد سنة من غزوة أحد.
قال الجمع: أجل.. نذكر ذلك.. فما الذي حصل؟
قال الحكيم: أما المسلمون.. وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد حضروا أنفسهم لذلك الموعد خير تحضير، فبعد أن خضدوا شوكة الأعراب، وكفكفوا شرهم، أخذوا يتجهزون لملاقاة قريش عدوهم الأكبر.
ففي شعبان سنة 4هـ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لموعده في ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه على بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وانتهي إلى بدر، فأقام بها ينتظر المشركين.
وأما أبو سفيان فخرج في ألفين من مشركي مكة، ومعهم خمسون فرساً، حتى انتهي إلى مَرِّ الظَّهْرَان على بعد مرحلة من مكة فنزل بمَجَنَّة، وهو ماء في تلك الناحية.
وقد كان في خروجه متثاقلاً خائفا من عقبي القتال مع المسلمين، فلما نزل بمر الظهران خار عزمه، فاحتال للرجوع، وقال لأصحابه: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا.
وقد تبعه جيشه الذي لم يكن له أي طاقة معنوية بقتال المسلمين.
وكان أبو سفيان قد بعث ـ قبل ذلك ـ إلى المدينة شخصاً اسمه نُعَيْم ليرجف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة العدو ليحملهم على عدم الخروج، وذلك ليكون له عذر في الرجوع إلى مكة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يبال بما سمع من كثرة عدد الجيش وتثبيط همة الناس، فقال: (والذي نفسي بيده لو لم يخرج معي أحد لخرجت وحدي)
وأقام صلى الله عليه وآله وسلم ببدر ثمانية أيام ينتظر العدو، وباع المسلمون ما معهم من التجارة فربحوا بدرهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة، وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم، وتوطدت هيبتهم في النفوس، وزالت كل آثار ما حصل يوم أحد.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى غزوة دُوَمة الجندل.. فإن كان يريد ذلك، فهذه الغزوة من الغزوات التأديبية التي أراد بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يملأ المنطقة التي تحيط به أمنا، فلا حياة مع الخوف.
لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد بدر الصغري في المدينة ستة أشهر، ثم جاءت إليه الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل([46]) تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها، وأنها قد حشدت جمعاً كبيرا تريد أن تهاجم المدينة، فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين لخمس ليال بقين من ربيع الأول سنة 5هـ، وأخذ رجلاً من بني عُذْرَة دليلاً للطريق يقال له: مذكور.
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يسير بالليل ويكمن النهار حتى يفاجئ أعداءهم وهم غارون، فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ما شيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب.
أما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحداً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أياماً، وبث السرايا وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحداً، ثم رجع إلى المدينة.
وبهذه الغزوة استطاع المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقفوا في وجه كل من تحدثه نفسه بزرع الرعب في نفوس الآمنين.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة الأحزاب.. فإن كان يريدها.. فهي من الغزوات التي تبرر الخيار الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمواجهة الشديدة مع هؤلاء الذي لا يقنعهم سوى المنطق الذي تفرضه السيوف.
وقد كان الهدف المعلن من هذه الغزوة ـ التي خطط لها جميع أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين واليهود والمنافقين ـ هو القضاء على الإسلام قضاء كليا.
وقد بدأت المؤامرة بخروج عشرين رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير([47]) إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، وكانت قريش قد أخلفت موعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها.
ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَفَان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
وقد حدث أنه لما دعت اليهود قريشاً لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا لهم: سنكون معكم حتى نستأصله، ارتابوا في أمرهم، لأن دين اليهود قريب من الإسلام وبعيد عن عبادة الأصنام كل البعد وقريش عباد أصنام، ولذلك قالوا لهم: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟
قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا واستعدوا للحرب.
وقد نزل في ذلك قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً } (النساء:50)
وقد كان هذا القول من علماء اليهود داعية لألم الأستاذ ولفنسون الذي قال:(والذي يؤلم كل مؤمن بإله واحد من اليهود والمسلمين على السواء، إنما هو تلك المحادثة التي جرت بين نفر من اليهود وبين قريش الوثنيين حيث فضل هؤلاء النفر من اليهود أديان قريش على دين صاحب الرسالة الإسلامية)([48])
ولكن الأحقاد التي كانت تملأ قلوب اليهود هي التي كانت تحكم ذلك الوقت لا العلم ولا المنطق.
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتحزبهم وخروجهم لمحاربته أمر بحفر الخندق حول المدينة في الجهات التي لم تكن حصينة لتعوق العدو المهاجم.
وقد أشار عليه صلى الله عليه وآله وسلم بحفره سلمان الفارسي اقتداء بما كان الفرس يفعلونه للدفاع في الحرب، قال سلمان: يا رسول الله كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا.
وقد اشتغل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحفر الخندق بنفسه ليقتدي به المسلمون، وليشجعهم على العمل، فاشتغل المسلمون معه، أما المنافقون فكانوا يتوانون وينصرفون بدون إذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويستثقلون العمل ويثبطون العزائم وتباطأ رجال من المنافقين وصار الواحد منهم ينصرف إلى أهله من غير استئذان.
وفي هذا الموقف الحرج الذي اجتمعت فيه كل هذه الجموع على حرب المسلمين نقضت قريضة عهدها.. وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وانتهز المنافقون هذه الفرصة لتثبيط العزائم..
لقد صور الله تعالى تلك المخاوف التي كانت تملأ قلوب المسلمين، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)} (الأحزاب)
وقد ذكر موقف المؤمنين بجنب هذه الشدائد، فقال:{ وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} (الأحزاب:22)
في ذلك الموقف الشديد خرجت فوارس من قريش على خيلهم بعد أن تهيأوا للقتال حتى وقفوا خارج الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم يمموا مكاناً من الخندق ضيقاً، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم السبخة بين الخندق وسلع وخرج عليّ بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي اقتحموها، وخرج عمرو بن عبد ود، وطلب المبارزة، فبارزه عليّ بن أبي طالب فقتله.
وفي ذلك الموقف الشديد الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعصب الحجر على بطنه من الجوع أرسل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشترون جيفة عمرو بعشرة آلاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(هو لكم.. ولا نأكل ثمن الموتى)
وقد خرجت خيله منهزمة، حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة، ومن بني مخزوم نوفل بن عبد الله بن المغيرة وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة فقال: يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه فنزل إليه عليّ فقتله، ومن الذين كانوا يناوشون المسلمين خالد بن الوليد وعمرو بن العاص.
ورُمِي سعد بن معاذ يومئذ بسهم فقال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعد: عرّق الله وجهك في النار، فأصاب الأكحل منه فقطعه، فقال سعد: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، ونقل سعد وهو مجروح إلى خيمة رُفيدة، وقد كانت امرأة تداوي الجرحى في المسجد.
وكما استعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق وسيلة لحماية المدينة.. فقد استعمل أسلوبا آخر لعله لا يرضي صاحبنا الفنان.. إنه أسلوب الخدعة الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم:(الحرب خدعة)
انتفض دوج قائلا: ألا تعجبون من نبي يقول هذا.. ألا تعجبون من نبي يخادع، ويدعو إلى الخدعة؟
قال الحكيم: إذا كانت الخدعة وسيلة لحقن الدماء وإحلال السلام كانت أسلوبا مشروعا.. بل كانت أسلوبا واجبا.. وليس هناك من أمة في الدنيا إلا وتلجأ إليها إذا لم تجد غيرها.
قال الجمع: فكيف حصل ذلك؟
قال الحكيم: لقد جاء جاء نُعيم بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة)
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية، فقال لهم: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد، وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتكم، البلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وإن قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم وبلدهم بغيره فليسوا كهيئتكم إن رأوا نُهْزَة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت برأي ونصح.
ثم خرج حتى أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان ومن معه من رجال قريش: يا معشر قريش قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً، وقد بلغني أمر رأيت حقاً عليّ أن أبلغكموه نصحاً، فاكتموا عليّ، قالوا: نفعل ذلك، قال: فاعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم، فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعث إليكم يهود يلتسمون منكم رهناً من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليَّ ولا أراكم تتهمونني، قالوا: صدقت، قال: فاكتموا عليّ، قالوا: نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس، وكان ما صنع الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفرٍ من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: تعلمون والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن أنتم تريدون القتال، فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كانوا غير ذلك تشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم وخَذل الله بينهم، وبذلك نجحت الخدعة.
وبعد توفير المؤمنين كل أسباب النصرة الممكنة أرسل الله الريح في ليال شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنيتهم، وأصيبوا بالبرد، وماتت مواشيهم، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً، وكان حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال حذيفة: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً، كما قال تعالى:{ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الأحزاب: 9).
وقد وصف حذيفة ذلك الموقف الشديد، فذكر أن أبا سفيان بن حرب قام فقال:(يا معشر قريش لينظر امرؤ جليسه)، قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان:(يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل)، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه، فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم.
هذه خطبة أبي سفيان في الجيش، وكان قائدهم ولا بقاء للجند بعد رجوع القائد ونصيحته لهم بالعودة، ولا شك أنهم سئموا الإقامة ولم يروا فائدة من الانتظار أكثر مما انتظروا، وقد ساءت حالهم بسبب اشتداد البرد وهبوب الريح وعدم رغبة بني قريظة في القتال، وقد كانوا يؤملون دخول المدينة، فكان الخندق عقبة في سبيلهم بالرغم من كثرة عددهم.
ولما سمعت غطفان بما فعلت قريش تشمروا راجعين إلى بلادهم تاركين ما استثقلوا من متاعهم فغنمه المسلمون، وانصرف المسلمون عن الخندق ورجعوا إلى المدينة ووضعوا السلاح بعد أن حاصرهم المشركون خمسة عشر يوماً، وانصرف صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة الخندق، وقد قال بعد انصراف الأحزاب:(لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا)، وقد كان كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كانت هذه الغزوة آخر محاولة من أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قريش ومن حالفهم للقضاء على الإسلام.
ومع عظم الجيش المعد لهذه الغزوة ـ التي كان يمكن أن تقضي على الإسلام في مهده لولا حنكة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلا أن خسائر الطرفين فيها لم تكن كبيرة، فقد ذكر ابن إسحاق أنه استشهد من المسلمين يوم الخندق ستة لا غير: ثلاثة من الأوس وهم: سعد بن معاذ، وأنس بن أوس، وعبد الله بن سهيل، وثلاثة من الخزرج وهم: الطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة، وكعب بن زيد.
أما عدد قتلى المشركين فثلاثة: منبه بن عبد العبدري أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله المخزومي، وعمرو بن عبد وُدّ.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لا شك أن صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة بني قريظة.
قال دوج: أجل.. إن هذه الغزوة أكبر وصمة عار في تاريخ المسلمين.. ولن تستطيع مهما حاولت أن تغسل هذه الوصمة.
قال الحكيم: اصبر علي.. فما كان لك أن تستعجل الحكم قبل أن تسمع القضية ومواطن الاحتمال فيها.. لنرى ما يقول العقل والمنطق والحكمة.
لقد وقعت هذه الغزوة مباشرة بعد غزوة أحد([49]) وكانت متوجهة لبني قريظة([50])، لا شك أنكم تعلمون جريمتهم الكبرى التي فعلوها في غزوة الأحزاب.. لقد كان مصير الإسلام والمسلمين بين أيديهم، ولولا ما قدره الله من الفتنة بينهم ما بقيت للمسلمين باقية.. لقد كانوا بمثابة الباب الذي فتح على حصن المسلمين..
ولذلك ما إن انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الخندق ودخل المدينة هو وأصحابه ووضعوا السلاح.. وجاء وقت الظهيرة حتى أتى جبريل u رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معتجراً بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوَقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال:(نعم)، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مؤذناً، فأذن في الناس من كان سامعاً مطيعاً، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّ بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة وابتدرها الناس، وكان عدد من خرج إلى القتال ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثين فرساً.
دنا عليّ من الحصن، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار وغرز اللواء عند أصل الحصن، فسمع من بني قريظة مقالة قبيحة في حقه صلى الله عليه وآله وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك ألاّ تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: لِمَ؟ أظنك سمعت لي منهم أذى، قال: نعم يا رسول الله، لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حصونهم قال:(يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟)، قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولاً.
ومرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفرٍ من أصحابه بالصوْرَين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال:(هل مرّ بكم أحد؟)، قالوا: يا رسول الله قد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة، عليها قطيفة ديباج فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ذلك جبريل بُعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم)
وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب..
فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له، فلما كلمه الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟)، قالوا: بلى، قال:(فذاك إلى سعد بن معاذ)، وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خيمة امرأة من المسلمين يُقال لها رُفَيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب نفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقومه حين أصابه السهم بالخندق:(اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب)
وقد كان حكم سعد في بني قريظة معروفاً، لأنه لما أصيب في غزوة الخندق قال:(اللهم لا تمتني حتى تقرّ عيني في بني قريظة)، وقد بقي مجروحاً إلى أن استدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليحكم في بني قريظة، فأتاه قومه فاحتملوه على حمار، وأقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما ولاك ذلك لتُحسن فيهم، فلما أكثروا عليه، قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه.
فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(احكم فيهم)، قال:(فإني أحكم فيهم أن تقتل مُقاتِلتُهم، وأن تُسبى ذراريُّهم، وأن تُقسم أموالهم)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله)، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون النساء والذرية في دار ابنة الحارث امرأة من بني النجار، وأمر بالأسارى أن يكونوا في دار أسامة بن زيد، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم أمر بقتل كل المقاتلين، فبعث إليهم فجاءوا إليه أرسالاً تضرب أعناقهم، ويلقون في تلك الخنادق، وكان فيهم عدو الله الأكبر حُييّ بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم.
ولم يقتل من النساء إلا امرأة واحدة، هي بنانة امرأة الحكم القُرَظي، وقد كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد، فقتلته.
قال دوج: أترى أن هذا التصرف يمكن أن يقوم به نبي؟
قال الحكيم: نعم.. فالنبي هو الحكيم العدل الذي يضع الأمور في مواضعها الصحيحة.. إنه يمثل عدالة الله وحكمته، كما يمثل رحمته وفضله.. وحكمة الله وعدله تقتضي المعاقبة على الجرائم..
قال دوج: وقد تقتضي العفو عنها.
قال الحكيم: للعفو مواضعه، وللعقوبة مواضعها.. لقد رأينا عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بني النضير واكتفائه بإجلائهم عن المدينة.. فماذا فعلوا؟
قال رجل من الجماعة: لقد كانوا سببا في تأليب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الحكيم: فالحكمة تقتضي ـ إذن ـ أن يظهر القائد من الحزم ما يحمي به من يقوده.
سكت قليلا، ثم التفت إلى دوج، وقال: أرأيت لو دخلت الأحزاب على المسلمين من جهة بني قريظة ماذا يمكن أن يحصل؟
سكت دوج، فقال الحكيم: لقد كان أهل المدينة جميعا ـ وهم آلاف مؤلفة ـ عرضة للذبح والقتل والأسر.. فكيف تستنكر عقوبة من عرض هؤلاء لهذا؟
ثم لماذا تستنكرون هذا، والقنبلة الواحدة من قنابلكم تلقونها على المدن والقرى.. فتحصد من البشر بل من المدنيين أضعاف هذه الأعداد.. مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل إلا المحاربين.
سكت قليلا، ثم قال: ومع ذلك فقد كان بين يدي القرظيين سبل كثيرة للنجاة، ولكنهم ـ لكبرهم وعنادهم ـ أبوا أن يسلكوها، وآثروا القتل عليها، بل تكبروا حتى على الاعتذار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الجريمة الكبيرة التي اقترفوها.
لقد روي أنه لما أتى بحييّ بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أما والله ما لمتُ نفسي في عداوتك، ولكنه من يَخذل الله يُخذل، ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره وملحمة قد كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه وضربت عنق كعب بن أسد سيد بني قريظة.
فأنت ترى إصرار هذا الرجل على عناده وكبره إلى آخر لحظة.
ومثله ما روي أن ثابت بن قيس استوهب الزبير بن باطا وأهله وماله ـ وكانت للزبير يد عند ثابت ـ فوهبهم له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له ثابت بن قيس: قد وهبك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك، فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه: سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود .
وعلى خلاف هؤلاء رفاعة بن سموأل القرظي الذي استوهبته أم المنذر سلمي بنت قيس النجارية، فوهبه لها فاستحيته، فأسلم .
وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم.
وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدي ـ وكان رجلاً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي، فخلي سبيله حين عرفه، فلم يعلم أين ذهب.
سكت قليلا، ثم توجه لدوج قائلا: ألا ترى من العدل أن يحكم الغالب المغلوبين بما ارتضوه من قوانين؟
قال دوج: ذلك صحيح..
قال الحكيم: فقد حكم سعد بإقرار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بني قريظة بما نصت عليه قوانينهم، بل بما نص عليه كتابهم المقدس.
قال دوج: كيف ذلك؟
قال الحكيم: لقد جاء في سفر التثنية:(حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريماً)(التثنية: 20/1)
لقد علق مولانا محمد علي، على هذا النص بقوله:(وهكذا حكم سعد وفقا للشريعة الموسوية بقتل ذكور بني قريظة وبسبي نسائهم وأطفالهم وبمصادرة ممتلكاتهم.. ومهما بدت هذه العقوبة قاسية، فقد كانت على درجة الضبط للعقوبة التي كان اليهود ينزلونها- تبعاً لتشريع كتابهم- بالمغلوبين من أعدائهم، فأي اعتراض على قسوة هذه العقوبة هو في الواقع انتقاد لا شعوري للشريعة الموسوية، وتسليم بأن شريعة أكثر إنسانية يجب أن تحل محلها، وأيما مقارنة بالشريعة الإسلامية في هذا الصدد خليق بها أن تكشف ـ في وضوح بالغ ـ أي قانون رفيق عطوف رحيم قدمه الإسلام إلى الناس)([51])
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل هذا السيف يشير إلى غزوة بني لحيان..
لقد وقعت هذه الغزوة في أول شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة (يونيه – يوليه سنة 627 م)
أما سببها، فلعلكم تذكرون مأساة الرجيع.. تلك المأساة التي ذهب ضحيتها عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم غدرا وعدوانا.. لقد كان بنو لحيان هم الذين غدروا بهؤلاء العشرة وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرى ـ من الحكمة ـ أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم، واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأي أن الوقت قد آن ليطبق حكم العدالة على هؤلاء الغادرين ليكونوا عبرة لغيرهم.
فخرج إليهم في مائتين من أصحابه، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهي إلى بطن غُرَان ـ واد بين أمَجَ وعُسْفَان ـ حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم، وسمعت به بنو لحيان فهربوا في قمم الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُرَاع الغَمِيم لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة، وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة ذي قرد.. فإن كان يشير إليها، فإن سببها يدل على الجو الذي كان يحيط برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي كان يفرض عليه أن يظهر بمظهر القائد الحازم لتنعم الرعية بالأمن الذي كانت تفتقده.
لقد وقعت هذه الغزوة في ذي قرَد، وهو ماءٌ على نحو بريد من المدينة، مما يلي بلاد غطفان، وقد حصلت في ربيع الأول سنة ست (يوليه سنة 627 م)([52])
أما سببها، فهو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم المدينة لم يقم إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينةُ بن حصن بن بدر في خيل لغطفان على لقاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالغابة، وكانت عشرين لقحة، وفيها رجل من بني غفار وامرأته، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح.
والرجل الذي قتلوه هو ابن أبي ذر واسمه ذر، وكان يرعى الإبل، وامرأته التي أسروها اسمها ليلى، وقد نجت لأنهم أوثقوها وكانوا يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانطلقت وركبت ناقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً على حين غفلتهم، فانطلقت ولما علموا بها طلبوها فأعجزتهم.
ولما أغاروا على اللقاح في يومهم ذلك جاء الصريخ فنادى: الفزع الفزع، ونودي يا خيل الله اركبي.. فركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خمسمائة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم كعادته، وخلف سعد بن عبادة في 300 رجل يحرسون المدينة، وعقد لواء للمقداد في رمحه، وقال: امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على إثرك.
وكانت نتيجة هذه الغزوة أنهم أدركوا العدو فهزموه وقتلوا رؤساءه واستنقذوا اللقاح، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، وسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بلغ ذا قرد في اتجاه خيبر فالتجأ العدو إلى بني غطفان.
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية كرز بن جابر الفهري التي وقعت في جمادى الأولى سنة ست.
فليعلم أن سببها هو أن أناساً من عكل وعُرَينة يبلغ عددهم نحو ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبايعوه على الإسلام وتلفظوا بكلمة التوحيد وكانوا حين قدموا المدينة سقاماً مصفرة ألوانهم عظيمة بطونهم، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا أهل ضرع (أي ماشية وإبل) ولم نكن أهل ريف وكرهنا الإقامة بالمدينة، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل فأمر لهم بذود من الإبل ومعها راع، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة وصحت أجسامهم باتباعهم إشارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان عبداً له، اسمه يسار، وحين قتلوه مثلوا به فقطعوا يدهُ ورجله وجعلوا الشوك في عينيه واستاقوا الذود وحُمل يسار ميتاً إلى قباء فدفن هناك.
وقد كان جزاء هؤلاء المجرمين أن بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آثارهم خَيلاً من المسلمين قريباً من العشرين وأمّر عليهم كرز بن جابر الفهري فلقحهم فجاء بهم فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع أيديهم وأرجلهم وسمّر أعينهم ولم يفلت منهم أحد وتركوا في ناحية الحرة في الشمس حتى ماتوا.
وقد أنزل الله في هؤلاء قوله تعالى:{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:33)
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة خيبر..
قال دوج: أجل.. لقد توجهت هذه الغزوة لأولئك اليهود البسطاء لتزرع فيهم الرعب.. وتنشر بينهم القتل.
قال الحكيم: أنت تعلم أن أولئك اليهود البسطاء هم الرأس المدبر للكثير من المؤامرات والدسائس التي أرادت أن تجهز على الإسلام.. وأنت تعلم أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافقين وبغطفان وأعراب البادية، وكانوا هم أنفسهم يتهيأون للقتال، فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متوصلة، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة، وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين، مثل سلام بن أبي الحُقَيْق، وأسِير بن زارم، ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك، وإنما أبطأوا في القيام بهذا الواجب ؛ لأن قوة أكبر وأقوي وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت مجابهة للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين.
قال رجل مسلم من الجمع: لقد سمعنا كثيرا في خلال حديثك عن هؤلاء.. فحدثنا كيف تعامل معهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال الحكيم: لقد وقعت هذه الغزوة سنة سبع من الهجرة، وكان معه 1600 من المسلحين، منهم 200 فارس.. وقد استنفر صلى الله عليه وآله وسلم من حوله ممن شهد الحديبية يغزون معه، وجاء المخلفون عنه في غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقال:(لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا).. لأن الله قد وعد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عند انصرافه من الحديبية في سورة الفتح بمغانم كثيرة بقوله تعالى:{ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } (الفتح:20)
وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه:(قفوا)، ثم قال:(اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها أقدموا بسم الله)
فلما أصبح خرجت اليهود إلى زروعهم بمساحيهم ومكاتلهم، ودفع رايته العقاب إلى الحباب بن المنذر، ودفع راية لسعد بن عبادة، ونزل بواد يقال له الرجيع بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم، وكانوا حلفاءهم ومُظاهرين لهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن غطفان تجهزوا وقصدوا خيبر، فسمعوا حساً خلفهم فظنوا أن المسلمين خلفوهم في ذراريهم فرجعوا وأقاموا وخذلوا أهل خيبر، وكان أهل خيبر 10.000 مقاتل.
ومكث صلى الله عليه وآله وسلم سبعة أيام يقاتل أهل حصن النطاة يذهب كل يوم بمحمد بن مسلمة للقتال ويخلف على محل العسكر عثمان بن عفان، فإذا أمسى رجع إلى ذلك المحل ومن جرح من المسلمين يحمل إليه ليداوي جرحه، وكان اليهود كعادتهم يحاربون أمام الحصون لأنهم يخشون الحرب في الميدان، فإذا انهزموا عادوا إلى حصونهم وأغلقوها دونهم.
ولما كانت الليلة السادسة أتى رجل من يهود خيبر في جوف الليل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره أنه خرج من حصن النطاة من عند قوم يتسللون من الحصن في هذه الليلة ويذهبون إلى حصن يجعلون به ذراريهم ويتهيأون للقتال وأخبره أن في حصن الصعب من حصون النطاة، في بيت فيه تحت الأرض منجنيقاً ودبابات ودروعاً وسيوفاً فإذا دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوقفه على أسراره.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأخذه الشقيقة في بعض تلك الأيام فيبعث أناساً من أصحابه فلم يكن فتح ومنهم أبو بكر وعمر.
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم لمحمد بن مسلمة:(لأعطين الراية غداً لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا يولي الدبر يفتح الله عز وجل على يديه فيمكنه من قاتل أخيك)
وفي الغد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليّ ، وكان أرمد شديد الرمد، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد عصب عينيه فعقد له لواءه الأبيض وتفل في عينيه ودلكهما فبرأ حتى كأن لم يكن بهما وجع، وقال عليّ: فما رمدت بعد يومئذ، ثم دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ بقوله:(اللهم اكفه الحر والبرد)، قال عليّ: فما وجدت بعد ذلك لا حراً ولا برداً، فكان يلبس في الحر الشديد القباء المحشو الثخين ويلبس في البرد الشديد الثوب الخفيف فلا يبالي البرد([53]).
فلما أخذ عليّ الراية قال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن لم يطيعوا لك بذلك فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)
فخرج عليّ حتى ركز الراية تحت الحصن، ثم خرج إليه أهل الحصن، وكان أول من خرج إليه منهم الحارث أخو مرحب وكان مشهوراً بالشجاعة فقتله عليّ وانهزم اليهود إلى الحصن (وهو حصن ناعم) ثم خرج إليه مرحب لابساً درعين ومتقلداً سيفين ومعتماً بعمامتين، ولبس فوقهما مغفراً وحجراً قد ثقبه قدر البيضة، ومعه رمح فبرز له عليّ ثم حمل مرحب على عَلِيّ وضربه فطرح ترسه من يده، فتناول عليّ باباً كان عند الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه الحصن، ثم إن علياً ضرب مرحباً فتترس فوقع السيف على الترس فقده وشق المغفر والحجر الذي تحته والعمامتين وفلق هامته حتى أخذ السيف بالأضراس.
وكان أول حصن فتحه المسلمون وهو حصن الناعم من حصون النطاة على يد عليّ ، ثم القموص، ولم يزل القتال ناشباً بين المسلمين واليهود، والمسلمون يفتحون حصونهم حصناً بعد حصن حتى أتموا فتحها جميعاً.
وقد قُتل من اليهود في جميع هذه المعارك 93 واستشهد من المسلمين 15 رجلاً.
وقد فتحت الحصون كلها عنوة إلا حصن الوطيح وحصن سُلالم فقد مكث المسلمون على حصارها أربعة عشر يوماً فلم يخرج أحد منهم فهمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحمل عليهم وأن ينصب عليهم المنجنيق فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية والخروج من خيبر وأرضها بذراريهم وألا يصحب أحد منهم إلا ثوباً واحداً، فصالحهم على ذلك وعلى أن ذمة الله تعالى ورسوله بريئة منهم إن كتموه شيئاً، فتركوا ما لهم من أرض ومال، ووجد المسلمون في الحصنين المذكورين 100 درع و400 سيف و1000 رمح و500 قوس عربية بجعابها ووجدوا في أثناء الغنيمة صحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدفعها إليهم.
وقد أشاد الأستاذ ولفنسون بهذا التصرف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:(ويدل هذا على ما كان لهذه الصحائف في نفس الرسول من المكانة العالية ممَّا جعل اليهود يشيرون إلى النبيّ بالبنان ويحفظون له هذه اليد حيث لم يتعرض بسوء لصحفهم المقدسة ويذكرون بإزاء ما فعله الرومان حين تغلبوا على أورشليم وفتحوها سنة 70 ب.م، إذ أحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم وما فعله المتعصبون من النصارى في اضطهاد اليهود في الأندلس حيث أحرقوا أيضاً صحف التوراة، هذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممن ذكرناهم وبين رسول الإسلام)([54])
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى سرية([55]) مؤتة([56]) التي أرسلها صلى الله عليه وآله وسلم لحرب الروم في جمادى الأولى سنة 8 هـ (سبتمبر سنة 629 م)
فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أرسل الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى أمير بصرى من جهة هرقل وهو الحارث بن أبي شمر الغساني، فلما نزل مؤتة تعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، وهو من أمراء قيصر على الشام فقال: أين تريد لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم، فأوثقه وضرب عنقه ([57]).
وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نقلت إليه الأخبار، فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب.
بالإضافة إلى ذلك، فقد أراد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه السرية الكبيرة تأديب عرب الشام التابعين للدولة الرومانية، والذين دأبوا على استفزاز المسلمين وتحديهم وارتكاب الجرائم ضد دعاتهم.
وقد أمّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مولاه زيد بن حارثة على هذه السيرة وندب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس وقال:(إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس، فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلاً من بينهم يجعلونه عليهم أميراً)
وقد قال رسول الله يوصي الجيش قبل خروجه:(أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً، اغزوا باسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا كبيراً فانياً ولا منعزلاً بصومعة ولا تقربوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناءً)
ولما فصل الجيش من المدينة سمع العدو بمسيرهم، وقام شرحبيل بن عمرو الغساني، فجمع أكثر من مئة ألف من الروم، وضم إليهم القبائل القريبة الموالية، فلما نزل المسلمون معان من أرض الشام بلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء، فأقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنخبره بعدد عدونا؛ فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، فشجع الناسَ عبدُ الله بن رواحة على المضي فقال:(إن التي تكرهون للتى خرجتم لها، إياها تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا كثرة ولا قوة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فربما فعل، وإن تكن الأخرى فهي الشهادة وليست بشر المنزلتين)، فقال الناس: لقد صدق ابن رواحة.
فمضوا إلى مؤتة، ووافاهم المشركون تحت إمرة إثيودور أخي هرقل فجاء منهم من لا قبل لأحد به من العدد الكثير الزائد على مئة ألف والسلاح والخيل وآلات الحرب مع من انضم إليهم من قبائل العرب المتنصّرة من بني بكر ولخم وجذام مئة ألف، فقاتل الأمراء الثلاثة يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل المسلمون معه بشجاعة على صفوفهم حتى قتل طعناً بالرماح، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فقاتل قتالاً شديداً فقطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره فقطعت يساره فاحتضنه وقاتل حتى قتل ووجد فيه بضع وسبعون جرحاً ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة وتقدم به وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم نزل عن فرسه وقاتل حتى قتل.
ثم أخذ اللواء ثابت بن أقرم العجلاني البلوي حليف الأنصاري وكان من أهل بدر فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل فاصطلحوا على خالد بن الوليد.
ثم نظر إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان، فقال: لا آخذه، أنت أحق به، أنت رجل لك سن، فقد شهدت بدرًا، فقال ثابت: خذه أيها الرجل فوالله ما أخذته إلا لك، فأخذه خالد الذي قاد المسلمين إلى الانسحاب من المعركة بعد أن علم استحالة الاستمرار فيها.
قال دوج: ولكن ما سعى المسلمون لتحقيقه في هذه الغزوة لم يتحقق.. لقد رضوا من الغنيمة بالإياب؟
قال الحكيم: لا.. لقد كانت هذه الغزوة من أكبر الانتصارات التي من الله بها على المؤمنين.. ذلك أن مجرد التفكير في مواجهة الروم في ذلك الوقت لا يخطر على بال أحد.. فلذلك كان لمجرد التصدي لهم تأثيره العميق في كل المحيطين بالمسلمين.. ولذلك كانت هذه الغزوة مقدمة لفتح مكة، وما تلاها من فتوح الإسلام.
قال دوج: ولكنهم لم يزيدوا على أن انهزموا وأثبتوا فشلهم.
قال الحكيم: ليس بهذا المنطق يحكم الخبراء على الانتصار والهزيمة.. تصور الحادثة لتعرف مقدار النصر الذي حازه المؤمنون.. لقد كانت الروم في ذلك الوقت أعظم قوة في الأرض.. وتصدي المسلمين لها، ومواجهتها له تأثيره الكبير في تلك القبائل التي أكلتها الحرب.. وفي قريش.. التي لانت بعدها لينا لا مثله لين.
ولهذا لما عاد جيش المسلمين إلى المدينة تصور الناس أنهم انهزموا، فصاروا يقولون لهم:(أنتم الفرارون) لكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صحح لهم ذلك، وقال:(بل هم الكرارون)
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى فتح مكة..
قال دوج: أجل.. فكيف تجرأ على أن يدخل بجنوده إلى تلك المدينة المقدسة مع أنه كان قد صالح أهلها؟
قال الحكيم: أولا.. لقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل مكة.. وكثير من الذين دخلوا مكة في هذا الفتح من أهلها الذين أخرجوا منها بغير حق.
وثانيا.. لقد كانت مكة محلا لانحرافات كثيرة.. وكان الدين الذي يشرع للاستبداد والظلم ينطلق من مكة.. أفترى في تطهير هذه البلاد من تلك الانحرافات إرهابا!؟
وثالثا.. لقد حاربت قريش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أرسله الله.. أفترى في نصر الله له عليهم إرهابا!؟
ومع ذلك فقد دخلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير قتال.. وبعد أن دخلها، وكانت قريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع بهم.. فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فقال:(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثُرَة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سِدَانَة البيت وسِقاية الحاج، ألاوقتيل الخطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولاد.
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات:13)
ثم قال: (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟)
قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: (فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته:{ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } اذهبوا فأنتم الطلقاء)
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة حنين([58])، تلك الغزوة التي قادها صلى الله عليه وآله وسلم في 10 شوال سنة ثمان من الهجرة.. فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو أنه لما فتح الله مكة على رسوله والمؤمنين، وخضعت له قريش، خافت هوازن وثقيف، وقالوا: قد فرغ محمد لقتالنا، فلنغزه قبل أن يغزونا، وأجمعوا أمرهم على هذا.. بل قيل: إنهم كانوا يستعدون للقتال قبل فتح مكة، وذلك حين سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة، وهم يظنون أنه إنما يريدهم.
وكان جملة من اجتمع من بني سعد وثقيف 4000 وانضم إليهم من سائر العرب جموع كثيرة وكان مجموعهم كلهم نحو 30.000 مقاتل، وقيل: 20.000 وكانت هوازن رماة.
وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم 12.000 مقاتل، منهم 10.000 الذين جاءوا معه من المدينة لفتح مكة و2000 من الذين أسلموا في فتح مكة.
وفي هذه الغزوة لما انشغل المسلمون بالغنائم استقبلهم العدو بالسهام، فعادوا منهزمين لا يلوي أحد على أحد، وانكشفت خيل بني سليم مولِّية وكانت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فتبعهم أهل مكة والناس فانهزموا، وكانت هوازن رماة.
وقد ثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الموقف الشديد كما ثبت في غزوة أُحُد وكان ثباته سبباً في كسب الموقعة، فإنه انحاز ذات اليمين ومعه نفر قليل قيل: إنهم لم يبلغوا مئة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركض وهو على بغلته نحو هوازن وهو يقول:(أنا النبيُّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)
وأخذ كفاً من تراب فرماه في وجوه العدو قائلاً:(شاهت الوجوه)، فانهزموا، وهذا الرمي وقع مثله في غزوة بدر وهو من معجزاته الحسية ([59]).
ولما ثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبق معه إلا بعض أصحابه، قال لعمه العباس: اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السَّمُرَة، وكان العباس عظيم الصوت، وفي رواية: قال له: ناد يا أصحاب البيعة يوم الحديبية، يا أصحاب سورة البقرة، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنَت على أولادها فأمرهم أن يصدقوا الحملة على العدو، فاقتتلوا قتالاً شديداً فنظر إلى قتالهم فقال:(الآن حمي الوطيس)، فولى المشركون الأدبار والمسلمون يقتلون ويأسرون فيهم ويتبعون آثارهم وقتل بعض المسلمين ذرية العدو، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الذرية وقال:(من قتل قتيلاً فله سلبه)
ثم قدم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم أربعة عشر رجلاً ورأسهم زهير بن صرد وفيهم أبو برقان عم رسول الله من الرضاعة وهو من بني سعد، وقد جاءوا مسلمين فسألوه أن يمن عليهم بالسبي، فرضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي المسلمون بما رضي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وردّوا عليهم نساءهم وأبناءهم.
وقد أنزل الله تعالى في هذه الموقعة قوله:{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جَزَآء الْكَفِرِينَ } (التوبة: 25، 26)
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة الطائف، تلك الغزوة التي قادها صلى الله عليه وآله وسلم في شوال سنة ثمان من الهجرة.
فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو أن مالك بن عوف وجمعاً من أشراف قومه لحقوا بالطائف عند انهزامهم في حنين، وقد كانت ثقيف رَمّوا حصنهم، وأدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم وأغلقوه عليهم، وتهيأوا للقتال.
وسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزل قريباً من حصن الطائف وعسكر هناك، فرموا المسلمين بالنبل رمياً شديداً حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلاً.
فارتفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى موضع مسجد الطائف الذي أنشىء بعد ذلك، ودام حصار الطائف ثمانية عشر يوماً، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج لنا فهو حر، فخرج منهم بضعة عشر رجلاً فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برفع الحصار، وكانت حكمته صلى الله عليه وآله وسلم في رفع الحصار واضحة؛ فالمنطقة المحيطة بها لم تعد تابعة لها، بل صارت ضمن سيادة المسلمين، ولم تعد تستمد قوتها إلا من امتناع حصونها، فحصارها ورفعه سواء أمام القائد المحنك، وقد استشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حوله في عملية الحصار، فقال نوفل بن معاوية الديلي: ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل، فضج الناس من ذلك وقالوا: نرحل، ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(فاغدوا على القتال)، فغدوا، فأصبت المسلمين جراحات، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إنا قافلون غدا إن شاء الله)، فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضحك، فلما ارتحلوا واستقلوا، قال:(قولوا: آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون)، وقيل: يا رسول الله، ادع الله على ثقيف، فقال:(اللهم اهد ثقيفًا وائت بهم)
أشار الحكيم إلى سيف آخر، وقال: لعل صاحبنا الفنان يشير بهذا السيف إلى غزوة تبوك.. أو غزوة العُسرة.. أو الغزوة الفاضحة([60]).. والتي كانت في رجب سنة تسع من الهجرة (سبتمبر – أكتوبر سنة 630 م)
فإن كان ذلك كذلك، فليعلم أن سببها هو أن الأنباء وصلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأنباط الذين يأتون بالزيت من الشام إلى المدينة بأن الروم جمعت جموعا كثيرة، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من مستنصرة العرب، وجاءت في مقدمتهم إلى البلقاء، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسبقهم قبل أن يغزوه.
وقد وصلت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخبار عن تلك الحملة، وأن عدداً من القبائل المسيحية انضمت إلى الروم لقتال المسلمين، ولذا سارع إلى إعداد جيش لملاقاة العدو عند الحدود الفاصلة بين الجزيرة العربية وسورية، تم تجهيزه على جناح السرعة وقوامه 30 ألف مقاتل بينهم عشرة آلاف فارس، كما انضم إليه الكثير من القبائل العربية أثناء مسيرته، مما دفع الروم إلى العدول عن حرب المسلمين، كما فر رؤساء القبائل المسيحية حين يئسوا من وصول الحملة البيزنطية، وبعدها صالحوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إذ أدركوا أن قوة الإسلام جعلت دولة الروم العظمى تخشى مواجهتها.
أشاح الحكيم بوجهه عن اللوحة، وقال: دعنا من هذه اللوحة الآن.. فنحسب أنا شرحناها بما يكفي.. ولنبحث في الركن الثالث من الأركان التي أسسنا عليها حديثنا.. لعلكم تذكرونه.
قال رجل من الجمع: أجل.. لقد ذكرت أنه النظر في الأخلاق التي صاحبت حروب محمد.. والتي صاحبت حروب غيره.
قال الحكيم: أجل.. فالأخلاق عند أصحاب الفطر السليمة هي الأساس الذي يحكم من خلاله على الأشياء..
ويسرني قبل أن أبدا في ذكر الأخلاق التي انصبغت بها حروب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ بعض النصوص من الكتاب المقدس.. ذلك الكتاب الذي يحاكمنا به هؤلاء القضاة.
لقد جاء فيه:(فحرمناها كما فعلنا بسيحون ملك حشبون محرمين كل مدينة: الرجال والنساء والأطفال. لكن كل البهائم وغنيمة المدن نهبناها لأنفسنا) (تثنية 3: 6- 7)
وفيه:(فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعد) (تثنية 13: 15- 17)
وفيه:(حين تقرب من مدينة لتحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريما.. )(تثنية 20: 10- 18)
وفيه:(فهتف الشعب وضربوا بالأبواق. وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن الشعب هتف هتافا عظيما، فسقط السور في مكانه، وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه، وأخذوا المدينة. وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ – حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف.. وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها. إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب) (يشوع 6: 20- 24)
سكت قليلا، ثم قال: لعلك تقول بأن هذه النصوص من العهد القديم.. ومسيحية العهد الجديد تختلف كثيرا.. بل تختلف اختلافا جذريا.
إن قلت ذلك.. فإن جميع المسيحيين يقولون بأن الكتاب المقدس لم ينسخ ولا يمكن أن ينسخ … ويستشهدون بقول المسيح: (السموات والأرض تزولان وكلمتى لا تزول)
ومع ذلك، فلا نفتقر في العهد الجديد لمثل هذه النصوص، ففي رسالة بولس إلى العبرانيين يقول:(بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعدما طيف حولها سبعة أيام. بالإيمان راحاب الزانية لم تهلك مع العصاة، إذ قبلت الجاسوسين بسلام. وماذا أقول أيضا؟ لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون، وباراق، وشمشون، ويفتاح، وداود، وصموئيل، والأنبياء، الذين بالإيمان قهروا ممالك، صنعوا برا، نالوا مواعيد، سدوا أفواه أسود، أطفأوا قوة النار، نجوا من حد السيف، تقووا من ضعف، صاروا أشداء في الحرب، هزموا جيوش غرباء، أخذت نساء أمواتهن بقيامة. وآخرون عذبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل. وآخرون تجربوا في هزء وجلد، ثم في قيود أيضا وحبس. رجموا، نشروا، جربوا، ماتوا قتلا بالسيف، طافوا في جلود غنم وجلود معزى، معتازين مكروبين مذلين) (عبرانيين 11: 30 – 36)
التفت الحكيم إلى الجمع، وقال: ألا ترون بولس يقر كل ما ورد في العهد القديم.. ألا ترونه يثني على كل ما فعله أولئك المجرمون من سفك دماء وجرائم حرب.. بل يعتبر كل ذلك تقوى وإيمان وخير…!؟
ليس ذلك فقط.. ففى العهد الجديد:(لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا. فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها) (متى 10: 34-40)
وفيه:(جئت لألقي نارا على الأرض … أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلا أقول لكم! بل انقساما. لأنه يكون من الآن خمسة في بيت واحد منقسمين: ثلاثة على اثنين واثنان على ثلاثة. ينقسم الأب على الابن والابن على الأب والأم على البنت والبنت على الأم والحماة على كنتها والكنة على حماتها) (لوقا 12: 49-53)
وفيه:(أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا 19: 27)
وفيه:(فقال لهم: (لكن الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك. ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا. لأني أقول لكم إنه ينبغي أن يتم في أيضا هذا المكتوب: وأحصي مع أثمة. لأن ما هو من جهتي له انقضاء، فقالوا: يا رب هوذا هنا سيفان، فقال لهم: يكفي!) (لوقا 22: 36-37)
وفيه:(لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم؟ وأية شركة للنور مع الظلمة؟ وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟ وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟ وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان؟) (كورنثوس الثانية 6: 14-16)
هذا عن المسيحية.. أما عن الجرائم التي حدثت طيلة عهود التاريخ البشري، فلا يمكن حصرها..
فى مصر قتل جستنيان الأول عام 560م مائتي ألف فى الإسكندرية وحدها من أجل رفضهم اعتناق المسيحية.
وفى النرويج ذبح الملك (أولاف) كل من رفض اعتناق المسيحية.
وفى روسيا فرض فلاديمير عام 988م المسيحية على كل الروس بالقوة.
وفى الجبل الاسود قاد الأسقف الحاكم دانيال بيتروفيتش عملية ذبح غير المسيحيين ليلة عيد الميلاد عام 1703م.
ليس هذا سلوك برابرة تلك العصور فقط.. بل ما زال هذا هو سلوك أهل الحضارة إلى اليوم..
طأطأ دوج رأسه، ولم يجد ما يجيب، فقال رجل من الجمع متهكما: هلا تفضلت ـ حضرة الفنان البارع ـ فرسمت لنا صورة بالجرائم التي وقعت فيها هذه الأمم المتحضرة؟
ضحك آخر، وقال: ومن يملك ثمن اللوح الذي يرسم فيه صورة ذلك..؟
قال آخر: وبأي آلة يمكن أن يحملها..؟
قال آخر: وأي مداد هذا الذي يكفي لتصويرها؟
قال الحكيم: لقد نسي هؤلاء قول المسيح:(من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها بحجر).. فراحوا ـ وهم الملطخون بجميع الجرائم ـ يرمون الطهر والنبل والكرم والسماحة بكل ما امتلأت به نفوسهم من أحقاد.
قال رجل من الجمع: حدثتنا عن أخلاقهم، فحدثنا عن أخلاق محمد في حروبه.
قال الحكيم: حتى نختصر حديثنا، فسنتحدث عن ناحيتين ترتبطان بكل حروب الدنيا، لنرى أنواع الأخلاق التي صاحبتهما في حروب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي حروب غيره.
وهما: الدوافع التي دفعت للحرب، والوسائل التي استعملت فيها.
قال رجل من الجمع: لقد حدثتنا بتفصيل عن الأسباب التي دفعت محمدا إلى حروبه.
قال الحكيم: يجمع كل ما ذكرناه من تفتصيل سببان:
أما السبب الأول، فهو الدفاع عن النفس، وقبلها عن المبادئ.. ولذلك كان المؤمنون يقدمون أنفسهم قرابين للمبادئ النبيلة التي يحملونها.
لقد ذكر القرآن الكريم هذا السبب، واعتبره مبررا لحمل السيوف، فقال:{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج:39)
التفت إلى دوج، وقال: اذهب.. وابحث ـ بعقل وحكمة ـ في أكثر الغزوات التي غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم تجد هذا السبب هو الدافع الأساسي لخوض تلك الغزوات..
وعندما تفرض الحرب على إنسان، فهو بين أمرين:
إما الاستسلام.. وبالاستسلام تموت المبادئ، وينتصر الظلم والاستبداد.. ولو فعل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لرحت ترسم لوحة بجبن المسلمين وخوفهم وتزلزل أقدامهم أمام أعدائهم.
وإما قبول الحرب المفروضة.. وهذا ما فعله المسلمون.. وقد كتب الله لهم النصر، لأنهم لم يكن لهم هدفهم في حروبهم إلا الدفاع ونصرة الحق الذي يحملونه، وقد شهد الله تعالى لهم بذلك، فقال:{ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } (النساء:76)
أما السبب الثاني، فهو الخلاص.. لقد كان الدافع الذي دفع المسلمون في حروبهم جميعا ـ حتى الدفاعية منها ـ هو تخليص المستضعفين من قيود المستكبرين.. لقد ذكر الله هذا الدافع، فقال:{ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)}(النساء: 75)
لقد أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تلك الغزوات والسرايا كسر شوكة السلطات الطاغية والمتجبرة التي كانت تحكم تلك البلاد، وتحول بين شعوبها وبين الاستماع إلى هدي الإسلام.
لقد كانت تلك السلطات ترى أن لها الحرية في هذا الجانب، فلذلك لا تريد إلا أن يبقى الناس على دينها ومذهبها، ولا يفكر أحد في اعتناق دين آخر، ما لم يأذن له كسرى أو قيصر، أو الملك أو الأمير.
لقد عبر القرآن على لسان فرعون قديما حينما أسلم سحرته، وآمنوا برب موسى وهارون، فقال لهم:{ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)}(الأعراف)
التفت إلى دوج، وقال: لقد رأيت ـ عند سردنا للغزوات والسرايا ـ كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم يؤمر على كل قرية يفتحها أميرا منهم.. وكيف أنه لم يكن يطلب منهم أي جباية تخصه، بل كل ما كان يطلبه منهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم لترد على فقرائهم.. ويكتفي منهم بذلك.
قارن ذلك بجشع المستعمرين من هذه الحضارة الطاغية الذين أسسوا حضارتهم على تخريب البلاد، وهلاك العباد.. ولم يكتفوا بنهب خيرات الشعوب التي استعمروها، ولا باستذلالها وتسخيرها في مصالحها.. بل راحوا ـ فوق ذلك ـ وبعد خروجهم منها ينشرون الفتن بين أهلها، ليكملوا ما بدأه المستعمر من خراب.
قال رجل من الجمع: عرفنا الدوافع، ولا يشك أحد من الناس في شرفها، فقد ظل محمد في جميع حياته كما هو إنسانا بسيطا أقرب إلى الفقر منه إلى الغنى.. وقد كان في إمكانه أن تبني له القصور، وينعم بما نعم به المترفون، ولكنه أبى كل ذلك.. وليس ذلك من خلق المستبد أو المستعمر أو الذي يغلب مصالحه على مصالح غيره.
قال آخر: اقتنعنا بهذا، فحدثنا عن الآخلاق التي صاحبت تنفيذ محمد لما تتطلبه هذه الدوافع الشريفة.. فقد تكون الدوافع شريفة، ولكن الطريق إليها خاطئ.
قال الحكيم: لقد عرفتم من خلال ما سردنا من آيات القرآن، ومن خلال ما سردنا من حوادث السيرة أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم اضطر إلى استعمال السلاح اضطرارا.. ومع ذلك، ومع أنه أبيح له هذا الاستعمال إلا أنه أبيح مقيدا بقيود كثيرة ترفعه إلى مستويات عالية لا نجد لها في تاريخ المبادئ مثيلا.
قال دوج: من السهل ادعاء مثل هذا.
قال الحكيم: ومن السهل إثبات مثل هذا.
قال رجل من القوم: فأثبت لنا وله ذلك.
قال الحكيم: سأذكر لكم أربع تشريعات مرتبطة بهذا.. وسأترك لكم كل الفرصة لتبحثوا في جميع حروب الدنيا لتجدوا نظيرا لها..
قال الحكيم: أما التشريع الأول، فهو حرص الإسلام على المعاهدات التي تحفظ السلام.. وهو ما يؤكد حرص الإسلام على السلام.
لقد رأيتم في عرضنا لغزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما وهبه الله من القوة بعد غزوة الأحزاب.. بل كان يمكنه بعد فترة وجيزة من صلح الحديبية أن يفتح مكة.. ولكنه لم يفعل حرصا على المعاهدة التي أقامها معها.
ونفس الشيء حصل مع جميع اليهود.. فلم يبدأهم صلى الله عليه وآله وسلم بالحرب حتى بدأوه.. ولم ينفذ فيهم بعد خيانتهم له إلا ما استوجبته قوانين العدالة التي يرتضونها، بل التي أسس عليها كتابهم المقدس.
ولمّا أسرت قريش حذيفة وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا خارجين إلى بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم)
وقد ردّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أبا بصير للمشركين، وأبَى أن يقبله بعد أن عاد إليه وفاءً بالعهد الذي بينه وبين المشركين.
والمؤمنون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك يتأدبون بما ورد في القرآن الكريم من الأمر بالوفاء بالعهود.. قال تعالى:{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (النحل:91)، وقال تعالى:{ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } (الاسراء:34)
وقد وصف الله تعالى الذين ينقضون العهد بالخسران، فقال:{ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (البقرة:27).. بل وصفهم بما هو أخطر من ذلك، فقال:{ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد:25)
ولذلك، فإن القرآن الكريم يصف أعداء الإسلام بالخيانة، وذلك ليقرر في المؤمنين أن الخيانة ليست من أخلاقهم، ولا من دينهم، قال تعالى:{ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} (لأنفال:56)
وفي مقابل هذا أمر المؤمنون بإتمام مدة العهد، قال تعالى:{ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4)
وعلى هذا الميثاق القرآني كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يربي أصحابه، وسراياه التي كان يرسلها، وجيوشه التي كان يغزو بها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا دين لمن لا عهد له)([61])
وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناقض العهد بالنفاق، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)([62])
بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر خائن العهد خصما له، فقال:(من ظلم معاهدا أو انتقصه أوكلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)([63])
وأخبر عن بعض الجزاء الذي يعانيه الغادر، فقال:(لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به)([64])
وانطلاقا من هذه النصوص، فقد ورد الأمر بالتعامل مع كل من تربط بينهم وبين المسلمين أي علاقة أو أي ميثاق بمقتضى ما تمليه تلك المعاهدات، ولا يجوز خيانتها بحال من الأحوال إلا إذا ظهرت من العدو بوادر الخيانة، قال تعالى:{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (لأنفال:58)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد ذلك ويوضحه: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدا ولا يشدنه حتى يمضى أمده أو ينبذ إليهم على سواء)([65])
قال رجل من الجمع: حدثتنا عن الخلق الأول، أو التشريع الأول، فحدثنا عن التشريع الثاني، أو الخلق الثاني.
قال الحكيم: الخلق الثاني هو النبل.
قال الجمع: فما النبل؟
قال الحكيم: لا يعتبر في شريعتنا الجهاد جهادا إلا من النبلاء.. أولئك الذين يحملون نفوسا طيبة، وهمما رفيعة، وأرواحا يقدمونها هدايا لكل هدف نبيل.
لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَمِيَّة، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال:(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)([66])
التفت إلى دوج، وقال: أتدري ما معنى القتال حمية؟
قال نيورن: لا.. فما هو؟
قال الحكيم: هو ما تسمونه القتال من أجل القومية والوطنية.. وغيرها.
قال دوج: أفترى الإسلام محاربا لهذه القيم السامية؟
قال الحكيم: الإسلام يحترم القيم الإنسانية الرفيعة التي تضع البشر جميعا في محل واحد، فلا تفرق بين إنسان وإنسان، ولا بين شعب وشعب.. ولذلك يعتبر كل الحروب التي تقوم في سبيل رفعة وطن على حساب وطن، أو تسلب خيرات وطن لأجل وطن آخر قتال حمية يتنافى مع النبل الذي دعا له الإسلام.
إن فهمت هذا فهمت نبل المجاهد المسلم.
فهو ينطلق لأجل إعلاء كلمة الله.. وكلمة الله تعني القيم النبيلة من العدالة والرحمة ونصرة المستضعفين..
وهو في ممارسته للجهاد لا يمارسه إلا بذلك النبل الذي انطلق منه.. فجند الله رهبان بالليل فرسان بالنهار.. أصحاب عبادة وخلق.
قارن هؤلاء بجيوش العالم جميعا.. أولئك الجيوش الذين جعلوا من ثكناتهم مواخير للرذيلة والانحراف حتى أصبحت الجندية مرادفة للرذيلة والانحراف.
قال دوج: كيف تقول هذا.. وكيف تصف هؤلاء بهذا النبل، وقد ورد القرآن يصفهم بالشدة والغلظة.
قال الحكيم: صدقت.. لقد قال الله تعالى آمرا المجاهدين في سبيله بالغلظة مع من يقاتلهم:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:123)، وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (التوبة:73)
ولكن هذه الغلظة تمتلئ بالرحمة..
ضحك دوج ساخرا، وقال: كيف ذلك.. كيف تجتمع الغلظة مع الرحمة؟
قال الحكيم: لقد قال تعالى مبينا ذلك:{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (لأنفال:57).. لقد قال المفسرون في معنى هذه الآية:(معناه: غلِّظ عقوبتهم، وأثخنهم قتلاً؛ ليخاف من سواهم من الأعداء وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة)
قال دوج: فالآية تحث المؤمنين على استعمال أسلوب التخويف.
قال الحكيم: إذا كان التخويف هو وسيلة السلام الوحيدة فلا حرج من استعماله.. وليس هناك في الدنيا أمة من الأمم إلا وتستعمله.
تصور لو أن المجرمين لم تمتلئ قلوبهم من الإرهاب المعد لهم في السجون والمقاصل.. إنهم لو أتيح لهم قوانين رحمة كما يريدون لأصبحت الأرض جميعا ملكا لهم، يقتلون من يشاءون، ويحيون من يشاءون.
قال رجل من الجماعة: فما الخلق الثالث؟
قال الحكيم: الإنسانية..
ضحك دوج، وقال: إن الحرب قتل للإنسان، فكيف تكون إنسانية؟
قال الحكيم: عندما يكون هدف المحارب هو قضيته فقط.. ولا يكون له أي غرض سواها.. وعندما تكون نفسه مشحونة بالإيمان الذي يطهرها من كل الأحقاد تكون الحرب إنسانية.
قال رجل من الجماعة: فما مظاهرها في جهاد المسلمين؟
قال الحكيم: مظاهرها كثيرة.. منها مثلا: رحمة القتيل بالإجهاز عليه، وعدم تركه لآلامه، كما أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)([67])، فقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث بالإحسان في القتل، واعتبر إحداد الشفرة من إراحة الذبيحة.
وقد نص على هذا المظهر الإنساني قوله تعالى:{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ)(محمد:4)، فقد أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين بضرب الرقاب، وهي أقرب المناطق التي تيسر الموت الرحيم.
وبما أن المقاتل بين أن يقتل من يقاتله أو يأسره، فقد خص الله تعالى موضعين فقط للمقاتل، أما أولهما فضرب الرقاب، وأما الثاني فضرب البنان الذي هو رؤوس الأصابع، وذلك لمن يريد أسره حتى لا يبقي فيه عاهة مستديمة قال تعالى:{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (لأنفال:12)
التفت دوج، وقال للجمع: هل سمعتم مثل هذا.. إن القرآن يأمر بضرب الرقاب، إنه يقول بكل قسوة:{:{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } (محمد:4)
ابتسم الحكيم، وقال: وما تريد منه أن يقول في هذا الموضع؟.. هل تريد أن يقول: فإذا لقيتم الذين كفروا فسلموهم رقابهم.. أو تراه يقول لهم:(فانثروا الورود والرياحين في وجوههم)
إن المقام مقام شدة، ولا يردع الشدة مثل الشدة.
لقد أدرك الشاعر الحكيم ذلك، فقال:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
وقال آخر:
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم
وقال آخر:
والناس إن تركوا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
ومع ذلك، فالقرآن لم يأمر بالقتل فقط، بل أمر معه بالأسر..
انتفض دوج بشدة قائلا: ماذا تقول!؟.. ألا تتحرج من الحديث عن الأسر في الإسلام!؟.. إن الإسلام يأمر بقتل الأسرى، ولا يتعامل معهم بأي رحمة؟
ولن نستطيع أن تجادلني في هذا، فقد قال القرآن كلمته فيها، ففيه:{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (لأنفال:67).. والآية واضحة، فهي تنهى عن الإبقاء على الأسرى، وتأمر بالقضاء عليهم.
ابتسم الحكيم، وقال: أنت تفهم من القرآن ما يحلو لك.. بل أنت تحمل من القرآن من المعاني ما لا يطيق.
سأزيل عنك هذا الوهم..
إن الآية التي ذكرتها لا تفهم إلا في ضوء قوله تعالى:{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } (محمد:4)
قال دوج: ألا يحتمل أن تكون هذه الآية منسوخة بتلك الآية؟
قال الحكيم: القرآن كله محكم { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (فصلت:42)
قال دوج: ولكن التعارض بينهما واضح.
قال الحكيم: التعارض واضح في الأذهان التي لم ترتق لتفهم أسرار التعابير القرآنية.
فهاتان الآيتان تبينان أسلوبا من أساليب الحرب الدفاعية.
أما الآية التي ذكرتها، فتأمر بأن يبدأ المقاتلون بتحطيم قوة عدوهم وكسر شوكتهم، فإذا أثخنوا في قتل أعداءهم حتى يكون عندهم خوف ورعب.. وحينذاك ـ حين تنهار قوة العدو ـ يبدأ استعمال الأسلوب الثاني، وهو أسلوب الأسر، قال تعالى:{ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)(محمد:4)، فالأسر يكون بعد الإثخان وليس معه أو قبله، فليس ثمت نهي عن الأسر، وإنما أمر أن يكون الإثخان هو الأول، وبعده يأتي الأسر.
سكت الحكيم قليلا، ثم قال: سأذكر لك بعض مظاهر إنسانية التعامل مع الأسير في الإسلام، ثم قارنها بما شئت.
فمن حقوق الأسير عدم إكراهه على ترك دينه، فلا يُكره على الدخول في الإسلام، وإنما يُدعى إلى الإسلام بالتي هي أحسن، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (لأنفال:70)، ففي الآية استمالة للأسرى، وتجديد الدعوة لهم، وفتح باب التوبة أمامهم، وترغيبهم بما يعوضهم عما دفعوا من الفداء، ويعدهم إن هم دخلوا في الإسلام طائعين مختارين بالرزق الوفير في الدنيا والآخرة والمغفرة لما سلف من ذنوبهم قبل الإيمان، وفي هذا دليل واضح على أنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام.
ولم يقع قط أن أكره أسير على أن يدخل في الإسلام..
سأضرب لك مثالا عن كيفية تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع بعض أسراه، روى ابن إسحاق عن أبي هريرة أن خيلاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذت أسيرا، ولا يشعرون من هو حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:(أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي)، فربطوه بسارية من سواري المسجد بأمره صلى الله عليه وآله وسلم لينظر حسن صلاة المسلمين، واجتماعهم عليها فيرق قلبه، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(ماذا عندك يا ثمامة؟)، قال: عندي خير يا محمد إن تَقْتل تَقْتُل ذا دم، وإن تُنْعِم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه حتى كان الغد، ثم قال له:(ما عندك يا ثمامة؟)، قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال:(ما عندك يا ثمامة؟)، قال: عندي ما قلت لك، فقال:(أطلقوا ثمامة)
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ثم قال: والله يا محمد ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، وقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخير الدنيا والآخرة وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة يلبي وينفي الشريك عن الله قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت لله رب العالمين مع محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا والله تأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال دوج: كيف تزعم أن نبيكم يحسن معاملة الأسرى، وقد ذكرت أنه ربطه بسارية من سواري المسجد.
ابتسم الحكيم، وقال: إن هذا الحديث يفهم على ضوء قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة)
إن من معاني قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تغلوا) هو وضع الأغلال في أيدي الأسارى، فقد نهت الشريعة الإسلامية عن وضع الأغلال بأيدي الأسرت، وأمرت بتركهم أحرارا من دون تقييد أو تحديد لحركتهم.
قال دوج: ولكن ما أمر به محمد من تقييده يتنافى مع هذا.
قال الحكيم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقيد يديه بالأغلال ليعذبه بذلك، وإنما وضعه في موضع يستطيع معه أن يرى المسلمين ورحمة المسلمين وإنسانية المسلمين، ولو أنه رأى غير ذلك لما عاد بعد أن أطلق سراحه ليسلم، بل ويحسن إسلامه، ويثبت في الوقت الذي ارتد فيه الناس على أعقابهم.
قال رجل من الجمع: واصل حديثك عن حقوق الأسير في الإسلام.
قال الحكيم: من حقوق الأسير التي نص عليها القرآن الكريم إعطاؤه ما يكفيه من الطعام والشراب، كما قال تعالى:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} (الانسان:8-9)، ففي هاتين الآيتين دليل على أن إطعام الأسير قربة يتقرب بها المؤمن إلى ربه سبحانه وتعالى، وفيهما أن المؤمن يؤثر الأسير حتى على نفسه، وفي قوله:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } دليل على أنه لم يطعمه مما فضل من قوته، وإنما يطعمه من طيب طعامه مع حاجته إليه ومحبته له.
ولذلك نص العلماء على أن منع الطعام عن الأسير من الكبائر، كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(عُذبتْ إمرأة في هرة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)([68])
فلما كان الحبسُ مانعاً للمحبوس من التصرف في أمر معاشه وكسبه وجب على حابسه أن يقوم بحقه، ولو كان ذلك في حق الحيوان، فما بالك بالإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى.
سكت قليلا، ثم قال: ومن حقوق الأسير حقه في الكسوة والثياب المناسبة التي تليق به وتجدر بمثله، وقد روي في الحديث عن جابر قال: لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس، ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لى له قميصاً، فوجدوا قميص عبد الله بن أبيّ يقدر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياه)([69])
ومن حقوقه حقه في المأوى والسكن المناسب أياً كان، فقد يُسكن في المسجد أو يُسكن في سجن خاص ويكون ملائماً أو حتى في بيوت بعض المؤمنين، وفي عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن هناك دار خاصة للأسرى ولا للسجن، ولهذا ربما سجن الأسير في المسجد، وربما وزع الأسرى على المسلمين في بيوتهم إلى أن يُنظر في شأنهم.
ومما يدل لذلك ما روي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل ناساً من الأسرى الذين كانوا يتقنون القراءة والكتابة يُعلمون أولاد الأنصار القراءة والكتابة، وجعل ذلك فداءهم وفكاكهم([70])، ومن المعلوم أن الأسير كي يُعلم ويكتب لابد أن يكون طليقاً غير مقيد ولا مربوط، وقادراً على الذهاب والإياب، والوثاق إنما جُعل لمنعه من الهرب فإذا أمكن منعه بلا وثاق فلا حاجة إليه.
ومن حقوق الأسير في الإسلام عدم تعريضه للتعذيب بغير حق، ولم ينقل في الشرع أنه أُمر بتعذيبهم..
قال دوج: نبيكم لم يعذب الأسرى، ولكنه قتلهم.
قال الحكيم: نعم.. لقد قتل النبي بعض الأسرى، وذلك لأن لهم سوابق وجرائم استوجبت قتلهم، ومع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل من الأسرى خلال حروبه الطويلة إلا عددًا قليلاً كانوا من أكابر عتاة المشركين وقادة الحرب الضروس الفاجرة ضد الإسلام وأهله، ويمكن أن نطلق عليهم حسب التعبير المعروف اليوم (مجرمي حرب)
التفت إلى دوج، وقال: هذه بعض حقوق الأسرى في الإسلام، فقارنها بما شئت من اتفاقات دولية.. ولا تنسى مقارنتها بالواقع كذلك، فأكثر اتفاقات البشر مأسور لم يمن عليه بالخروج من الورق، ومن قيود الحبر.
قال رجل من الجمع: فحدثنا عن الخلق الرابع.
قال الحكيم: الرحمة..
ابتسم دوج، وقال: الحرب قتال.. فكيف تصاحبها الرحمة؟
قال الحكيم: عندما يمارس المجاهد النبيل ما تتطلبه الحرب من قتال لا يمارسه بقسوة، وإنما يفعل ذلك من باب الضرورة.. يفعله، وهو يود في كل لحظة أن يتوقف خصمه عن قتاله ليكيف عن قتاله.
لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:{ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (لأنفال:61)
وقد روي في الحديث أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهبوا يتطرقون، فلقوا أناسا من العدو فحملوا عليهم فهزموهم فشد رجل منهم فتبعه رجل يريد متاعه فلما غشيه بالسنان قال: إني مسلم إني مسلم، فأوجره السنان فقتله، وأخذ متيعه فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للقاتل: أقتلته بعد أن قال إني مسلم؟! قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذا، قال: أفلا شققت عن قلبه؟ قال: لم يا رسول الله؟ قال: لتعلم أصادق هو أو كاذب! قال: وكنت عالم ذلك يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما كان يعبر عنه لسانه إنما كان يعبر عنه لسانه.
قال الحسن ـ راوي الحديث ـ: فما لبث القاتل أن مات فحفر له أصحابه فأصبح وقد وضعته الأرض، ثم عادوا فحفروا له فأصبح وقد وضعته الأرض إلى جنب قبره.
قال الحسن: فلا أدري كم قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كم دفناه مرتين أو ثلاثة كل ذلك لا تقبله الأرض، فلما رأينا الأرض لا تقبله أخذنا برجليه فألقيناه في بعض تلك الشعاب، فأنزل الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء:94)
قال الحسن:(أما والله ما ذاك أن تكون الأرض تجن من هو شر منه ولكن وعظ الله القوم أن لا يعودوا)([71])
سكت قليلا، ثم قال: لقد كان في إمكان كل تلك الدماء التي سفكت أن لا تسفك لو أن أصحابها تخلوا عن غرورهم وكبرهم.. لقد رأيتم كيف سيق بنو قريظة بعد خيانتهم إلى المقصلة برؤوس مرفوعة تكبرت عن مجرد الاعتذار عما بدر منها من خيانة.
وقد رأيتم كيف عفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كل من ارتكب جرائم كبرى استحق لأجلها أن يهدر دمه، ولكنه بمجرد اعتذاره عفي عنه، ومحيت كل ذنوبه، وصار واحدا من أمته صلى الله عليه وآله وسلم..
نظر إلى دوج، وقال: هذا هو الوجه الأول من وجوه الرحمة..
أما الوجه الثاني، فتوجهت به تشريعات الإسلام لكل من لا ناقه له في الحرب ولا جمل.. كالنساء والصبيان والشيخ الفانِي والأجير والعابد في صومعته وغيرهم.. فهؤلاء وردت النصوص الشديدة بتحريم المساس بهم.
ففي الحديث: وُجِدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والصبيان([72]).
وفي حديث آخر: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوةٍ، فرأى النَّاس مجتمعين على شيءٍ، فبعث رجلاً، فقال:(انظر علام اجتمع هؤلاء)، فجاء، فقال: على امرأةٍ قتيلٍ. فقال: (ما كانت هذه لتقاتل). قال: وعلى المقدمة خالد، فبعث رجلاً، فقال: (قل لخالد: لا يقتلنَّ امرأةً ولا عسيفًا)([73])
التفت إلى الجمع، وقال: انظر رحمة الجهاد في الإسلام.. حتى العسيف الذي هو الأجير، فالعمال الأجراء حتى لو حضروا المعركة لايجوز قصدهم بالقتال إذا كانت خدماتهم لا تتصل بالقتال، فغيرهم ممن لم يحضروا إلى ساحة المعارك هم أولى بأن تشملهم تلك الحصانة من أن توجه إليهم الأسلحة، ولو كانوا في بلاد الأعداء.
لقد كانت هذه التعاليم المضمخة بعطر الرحمة توجه لكل جيش أو لكل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا بعث جيشاً قال له:(انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولاتغلوا)([74])
***
بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد (دوج مارلت) ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..
التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.
أما أنا..
فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه
وآله وسلم.
([1]) أشير به إلى رسام أمريكي معروف بهذا الاسم، توزع رسوماته على مئات الجرائد في أمريكا والعالم، وقد سبق له النشر في عدد من أكبر الجرائد الأمريكية مثل (واشنطن بوست) و(نيويورك تايمز)، وقد نشر في 23 / 12 / 2002م رسما يسخر من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حيث صور رجلا يرتدي ثيابا عربية اسمه محمد، يقود شاحنة محملة صواريخ نووية، من نوع الشاحنة التي استخدمها توماس ما كفاي مفجر مبنى التجارة الفيدرالي في أوكلاهوما سيتي عام 1995م وكتب تحت الرسمة عنوان (ماذا يقول محمد..؟)
كما رسم في إحدى الصحف الفرنسية رسما يمثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزوجاته الطاهرات بطريقة حقيرة وقببيحة، وقد كتب أعلى الرسم (بار محمد) وفي أسفل الرسم (انتخاب ملكة جمال البطاطس عند محمد)
كما يرسم في مجلة موجهة للأطفال وعامة الناس، تصدر في مدينة لا فيجاس الأمريكة بعنوان (المحمدية صدقها وإلا…) يوجد بداخلها سخرية بشخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونبوته، واستهزاء بالأحاديث والتعاليم النبوية بطريقة وحقيرة، تغرس في أذهان الأطفال وعامة الناس التنفير من الإسلام ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وتصور المسلم في صورة العربي البدائي الإرهابي.
([2]) يسيء البعض فهم مثل هذه التعابير، فيرمي قائلها بالشرك، لأنه لا يتصور في العبارة إلا وجها واحدا، وهو أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو خالق ألوان الكون، أو الكون، ولكن مرادنا من أمثال هذه التعبيرات هو أن الحقائق التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي التي طبعت الكون في أذهان المؤمنين بها بالصورة الجميلة التي يروها بها، قال الإمام بديع الزمان:( ان حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم – المادية والمعنوية – بشهادة آثارها حياة لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني بشهادة حقائقه الحيوية روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل.. أجل.. أجل.
فاذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره، مات الكون وتوفيت الكائنات، واذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جنّ جنونه وفقدت الكرة الأرضية صوابها، وزلزل عقلها، وظلت بلا شعور، وأصطدمت باحدى سيارات الفـضاء، وقامت القيامة)
([3]) عدد غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي غزاها بنفسه بناء على ما ذكره ابن إسحاق 27 غزوة وبعوثه وسراياه 38، قال الطبري: وكانت غزواته بنفسه ستاً وعشرين غزوة.. والكلام المثبت في الأصل بناء على المزاعم التي يزعمها المسيحيون في كتبهم ومواقعهم.
([4]) هذا ما يفعله المسيحيون في كتبهم ومواقعهم من وجوه التلاعب بالقرآن.. بل إنهم أحيانا يمزجون بين آيات مختلفة ليستدلوا بها على ما يريدون.
([5]) ذكرنا في مواضع كثيرة أنه ليس من المنهج العلمي اعتبار التفاسير القرآنية أو شروح الحديث أو كلام أي كان من العلماء حجة يحتج بها على الإسلام.. فالإسلام لا يمثله إلا مصادره الأصلية المقدسة التي ثبتت عن طريق القطع.. وما عدا ذلك يمكن قبوله ورفضه، ولذلك لا يستطيع أي كان أن يناظر بمثل تلك النقول.
([6]) ومثل هذا قوله تعالى:{ وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (النحل:51)، وقوله تعالى:{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الانبياء:90)
([7]) ومثل هذا قوله تعالى:{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:31)’، وقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة:34)، وقوله تعالى:{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:27)
([8]) وقريب من هذا قوله تعالى لموسى ـ عليه السلام ـ:{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} (القصص:32)، فهو من الخوف العادي الذي يعتري أي إنسان.
([9]) سنركز هنا – خلافا لما ذكرناه في الطبعة الأولى – على أهم السرايا والغزوات، والتي تثار الشبه حولها، ويقاس عليها غيرها مما لم نذكره، وقد اضطررنا لذكر بعض التفاصيل هنا من باب الرد العلمي على ما يذكر في كتب المبشرين من أنواع الشبهات الكثيرة المثارة حول هذه الغزوات، والتي قد يشكل الجهل بها درعا لمرورها.
بالإضافة إلى أن من مقاصدنا من هذه السلسلة التعريف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعرض سيرته وشمائله وما يرتبط به صلى الله عليه وآله وسلم مما تمس الحاجة إليه.. وقد رجعنا في هذا إلى مصادر السيرة المعتمدة قديما وحديثا.. وهي من الكثرة والاتفاق بحيث لا نحتاج أن نوثق كل مرة لها.
([10]) سنن أبي داود (3/213)
([11]) هكذا ذكر غير واحد من أهل السير، وذكر أبو الاسود في مغازيه، ووصله ابن عائذ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما وصل إلى الابواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين رجلا، فذكر القصة، فتكون في السنة الثانية، وصرح به بعض أهل السير.
([12]) بحسب زعم المسيحيين.
([13]) نرى في كتب المسيحيين ومواقعهم حملة شديدة على هذه السرية، وهو أمر لا يستغرب من نفوس حاقدة تستغل كل ما يقوله أعداء الإسلام مهما كان نوعهم.
([14]) انظر: في ظلال القرآن، بتصرف.
([15]) انظر: في ظلال القرآن، بتصرف.
([16]) من المؤسف أن نجد مثل هذه الشبهة مما يملأ الكتب والمواقع التبشيرية، بل يقوله ناس لهم حظ كبير من القداسة في مجتمعاتهم.. ولسنا ندري بأي عقل يفكر هؤلاء.
([17]) استخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد المنذر، واستعمله على المدينة.
ودفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري، وكان هذا اللواء أبيض.
وقسم جيشه إلى كتيبتين:
أما الكتيبة الأولى فكتيبة المهاجرين، وأعطى رايتها علي بن أبي طالب، ويقال لها: العقاب.
وأما الكتيبة الثانية، فكتبية الأنصار، وأعطى رايتها سعد بن معاذ.
وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو- وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش – كما سبق – وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده صلى الله عليه وآله وسلمكقائد أعلى للجيش.
([18]) انظر فصل (استبداد) من هذا الجزء.
([19]) رواه البخاري.
([20]) رواه مسلم.
([21]) البخاري (2/2947)
([22])انظر: تفسير القرطبي (8/25)
([23]) رواه أحمد.
([24]) ذكرنا في رسالة (معجزات حسية) ما يرتبط بهذه الغزوة وغيرها من الغزوات من الإمداد الإلهي، فصل (انتصارات)
([25]) القيادة العسكرية، د. محمد الرشيد ص401.
([26]) الرسول القائد، خطاب، ص111، 116، 117.
([27]) رواه البخاري.
([28]) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (النبي الإنسان) من هذه السلسلة.
([29]) رواه البخاري.
([30]) السويق: هو أن تحمص الحنطة والشعير ثم يطحن باللبن والعسل والسمن.
([31]) انظر: السيرة لابن هشام (3/51)
([32]) وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمقبل معركة أحد، قادها في المحرم سنة 3 هـ.
([33]) انظر هذه القصة وغيرها مما يشبهها من حماية الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في رسالة ( معجزات حسية) من هذه السلسلة.
([34]) عرضنا تفاصيلها في رسالة (النبي الإنسان) من هذه السلسلة.
([35]) سنرى التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (النبي الإنسان)من هذه السلسلة.. ونحن نحاول في إثبات نوع النصر في أحد الرد على الشبه الكثيرة المرتبطة بهذا والتي تمتلئ بها مواقع المبشرين.. والتي تستدل بالهزيمة على عدم صحة دعوى النبوة.
([36]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/812)
([37]) وكان سبب وقوع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ابن قمئة علاه بالسيف فلم يؤثر السيف فيه إلا أن ثقل السيف أثر في عاتقه فشكا صلى الله عليه وآله وسلم منه شهراً وقُذف رسول الله بالحجارة حتى وقع لشقه.
([38]) قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيراً. وقيل: اسم ماء بأحد.
([39]) اتفقت جل الروايات على أن قتلي المسلمين كانوا سبعين، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار؛ فقد قتل منهم خمسة وستون رجلاً، واحد وأربعون من الخزرج، وأربعة وعشرون من الأوس، وقتل رجل من اليهود. وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط.
وأما قتلى المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلاً، ولكن الإحصاء الدقيق ـ بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير، والتي تتضمن ذكر قتلي المشركين في مختلف مراحل القتال ـ يفيد أن عدد قتلي المشركين سبعة وثلاثون، لا اثنان وعشرون، والله أعلم . انظر: الرحيق المختوم.
([40]) ك. جيورجيو: نظرة جديدة في سيرة رسول الله، ص267.
([41]) هو من كبار الصحابة المغمورين، وقد أجمعت الأمة على جلالته وصحبته، وممّا كتبه الإمام الرضا للمأمون في محض الإسلام، وشرائع الدين: والذين مضوا على منهاج نبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يغيّروا ولم يبدلوا، مثل: سلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وأبي الهيثم بن التيهان، وسهل بن حنيف.. (عيون أخبار الرضا، باب 35، ج2، ص134)
([42]) ستة نفر في قول ابن إسحاق، وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشرة.
([43]) وهو ماء لهُذَيلِ بناحية الحجاز بين رَابِغ وجُدَّة.
([44])كانوا أربعين رجلاً في قول ابن إسحاق، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين.
([45])وتعرف هذه الغزوة ببدر الموعد، وبدر الثانية، وبدر الآخرة، وبدر الصغرى.
([46]) دُومَة الجنْدَل مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال وبعدها من المدينة خمس عشرة ليلة وهي أقرب بلاد الشام إلى المدينة وبقرب تبوك.
([47]) منهم سلام بن مشكم ورئيسهم كنانة بن أبي الحقيق النضري وحييّ بن أخطب وهوذة بن قيس الوائلي وأبو عامر الفاسق.
([48]) تاريخ اليهود: 142.
([49])وقعت في ذي القعدة سنة خمس – إبريل سنة 627 م.
([50])بنو قُرَيْظَة قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذ سعد بن معاذ.
([51]) حياة محمد ورسالته، ص 175.
([52]) وفي البخاري أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام وبعد الحديبية بعشرين يوماً.
([53]) ذكرنا النصوص الكثيرة الدالة على هذا ومثله في رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.
([54]) تاريخ اليهود ببلاد العرب، ص 170.
([55]) سمى البخاري هذه السرية غزوة، وإن لم يخرج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكثرة جيش المسلمين فيها.
([56]) من عمل البلقاء وهي مدينة معروفة بالشام على مرحلتين من بيت المقدس جنوب شرق البحر الميت.
([57])هذا هو السبب الذي ذكره أغلب المؤرخين إلا أن ابن إسحاق لم يذكر سبباً لهذه السرية.
([58])حُنينٍ وادٍ في طريق الطائف إلى جنب ذي المجاز بينه وبين مكة ثلاث ليال وتسمى غزوة أوطاس اسم لموضع كانت به الموقعة وهو واد في ديار هوازن، وتسمى الغزوة أيضاً غزوة هوازن، وهوازن اسم قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون.
([59]) انظر: رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.
([60]) ذكره الزرقاني في (شرح المواهب اللدنية)، وسميت بهذا الاسم لأن هذه الغزوة كشفت عن حقيقة المنافقين، وهتكت أستارهم، وفضحت أساليبهم العدائية الماكرة، وأحقادهم الدفينة، ونفوسهم الخبيثة، وجرائمهم البشعة بحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
([61]) رواه أحمد.
([62]) رواه البخاري.
([63]) رواه أبو داود.
([64]) رواه البخاري ومسلم.
([65]) رواه أبو داود والترمذى وقال: حديت حسن صحيح.
([66]) رواه البخاري ومسلم.
([67])رواه مسلم.
([68]) رواه البخاري ومسلم.
([69]) رواه البخاري.
([70]) رواه أحمد وغيره.
([71]) رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل.
([72]) رواه البخاري ومسلم.
([73]) رواه أبو داود.
([74]) رواه أبو داود.