تاسعا ـ الخطاءون

في اليوم التاسع.. سرت إلى سجن من السجون بعد أن سمعت أن بعض أصحابنا ذهبوا إليه ليقنعوا السجناء بقساوة الإسلام في تعامله مع المذنبين.. وقد قدر الله أن أرى في زيارتي تلك من الأشعة ما نسخ كثيرا من الظلمات التي كانت تقبع فيها روحي.
سأحدثك من البداية..
عند اقترابي من باب السجن هرول إلي بواب السجن، وهو يقول، والبشر يطفح على وجهه: أبشر.. حضرة الأب هنا.. وهو يعظ أهل السجن.. ويوشك أن يتحولوا جميعا إلى المسيحية ليتطهروا بالطهارة التي لم يظفروا بها في الإسلام..
ابتسمت شاكرا له، وقد تذكرت بموقفه هذا تلك الحماسة التي كان يبديها (المبشر بولس) الذي ذكرت قصته في روايتك (المعجزات الحسية)
عندما دخلت القاعة المعدة للمحاضرة وجدت جميع السجناء ينصتون باهتمام لما يحدثهم به ذلك الأب الذي يريد أن ينشر فيهم من المعاني ما أعلم تمام العلم أنه لم يكن مقتنعا به..
ولذلك كان التردد يبدو عليه.. وكان يكرر الكلمات.. ويعيدها.. وكأنه يستعرض شيئا قد حفظه عن ظهر قلب، فهو يردده حرفا حرفا من غير أن يفهم له أي معنى، أو يقتنع منه بأي معنى.
كان من ضمن ما سمعته منه قوله: لقد أرسلني المسيح إليكم لأنقذ أرواحكم من تلك العقد التي يوقعكم فيها الإسلام حينما يشعركم بالذنب.. وحينما يملؤكم بالحزن على ذنوبكم..
نحن في المسيحية لا نفعل ذلك.. نحن نملؤكم بالمسرة والسعادة حتى ولو كنتم مذنبين.. بل نحن نبشركم بما بشرنا به بولس حين قال في رسالته إلى أهل رومية: (بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون. لأنه لا فرق. إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. متبررين مجاناً بنعمه بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السلفة بإمهال الله لإظهار بره في الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع. فأين الافتخار. قد انتفى بأي ناموس. أبناموس الأعمال. كلا. بل بناموس الإيمان. إذا نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس) (رومية: 3: 22 ـ 28)
كما نبشركم بما ورد في نفس السفر من قوله: (لأنه أن كان بخطيئة واحد مات الكثيرون فبالأولى كثيراً نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين.. وليس كما بواحد قد أخطأ هكذا العطية. لأن الحكم من واحد للدينونة. وأما الهبة فمن جرى خطايا كثيرة للتبرير. لأنه أن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيرا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح. فإذا كما بخطيئة واحدة صار الحكم إلى جميع الناس لتبرير الحياة. لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة هكذا أيضا بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبراراً} (رومية: 5: 15 ـ 19)
قال ذلك.. ثم راح يغرق في حالة وجدانية رقيقة قائلا: حينما تؤسس حياتكم على صخرة الإيمان بربنا يسوع المسيح، وتعاليم الكتاب المقدس العظيم، وتعودون إلى كتابات الآباء الأولين فإنكم ستشعرون حتما بالثقة والطمأنينة والفخر حينما ترون الكنيسة وهي تعيش الإيمان المسلم من الرب ذاته للرسل الأطهار.
ليكن هدفنا من التعلم أن نمارس ما نتعلمه في حياتنا لكي نستفيد بكل حسن من أجل نمو حياتنا في الإيمان، وانتصارنا على الحية القديمة المدعو إبليس، متطلعين إلى الحياة الأبدية حينما نحيا في حضرة إلهنا، نتمتع به ونتذوق حلاوته.
فجأة.. ومن غير المنتظر أو المتوقع.. رفع سجين من السجناء يده يطلب السؤال.. كان سجينا ذكيا فطنا، خبيرا بالمسيحية، عالما بها وبنقاط ضعفها، وهو فوق ذلك يحمل من الصبر ما يصل به إلى غايته ولو في أطول الطرق وأضيقها..
رأى القس يده المرفوعة، فلم يملك إلا أن يأذن له، فلم يكن يتوهم أن هذه اليد المرفوعة ستنسخ كل ما ذكره من الأحاديث..
قال السجين: أجبني حضرة الأب الفاضل.. لقد ذكرت لنا أننا لن نتطهر إلا عندما نتعمد.. وعندما ندخل الكنيسة.. وقد كنت عارفا بالمسيحية وبكنائسها، وقد رأيت فيها شيئا لست أدري مدى صحته.. ومدى علاقته بالمسيح وبالمسيحية.
قال القس، وقد بدا عليه بعض الإرباك: ما هو؟
قال السجين: سر الاعتراف.. لقد رأيت الكنيسة تمارس ما تسميه سر الاعتراف، فهل توجد أدلة كتابية وتاريخية وآبائية تدل على ضرورة أن يكون الاعتراف أمام الكاهن؟.. وهل الاعتراف لله لا يكفي حتى نحتاج إلى الاعتراف أمام الكاهن؟
استجمع القس أنفاسه، وكأنه يهم بالقيام بحرب ضروس، ثم قال: للإجابة على سؤالك هذا ينبغي أن نعلم حقيقتين هامتين.. أولاهما: أن الوحيد القادر على غفران الخطايا هو الله عن طريق دم المسيح المسفوك على عود الصليب.. والثانية: عن حياتنا المسيحية، فكل مسيحي هو عضو في جسد المسيح الحي الذي هو كنيسته المجيدة، ورأس هذا الجسد هو المسيح له كل المجد.
ومن أجل بنيان هذا الجسد أعطى الله المواهب الروحية المتكاملة، فقد أعطي البعض أن يكونوا رسلا، والبعض أنبياء، والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلمين لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح.
ولذلك ينبغي عليك أن لا تحزن إذا وجدت نفسك بحاجة إلى آخر لكي يعمل معك ومن أجلك فبالتأكيد أن الله أعطاك موهبة روحية ولكنه لم يعطك كل المواهب والوظائف اللازمة لتسير في طريق الكمال.
واعلم أيضاً أنك حينما تخطئ فإنك لا تسئ إلى نفسك فقط وإنما تسئ أيضاً إلى الجسد الذي تنتمي إليه (الكنيسة)، كما أنك تسئ أيضاً إلى الله القدوس البار.. ولذا فإن الإنسان حينما يخطئ يطالب بأن يندم على خطيئته ويكرهها، ثم يقر بها أمام الكنيسة وحينها يقوم الله بغفران هذه الخطايا.
وهذا ما فهمه المسيحيون الأوائل، وهذا ما نراه في سفر الأعمال حينما يقول: (وكان كثيرون من الذين آمنوا يأتون مقرين ومخبرين بأفعالهم) (أعمال: 19: 1.).. وقد أعطيت الكنيسة ممثلة في الرسل ومن خلفهم من الأساقفة هذا السلطان من الرب يسوع حينما قال: (كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السموات) (متى: 16: 19)
وقال في سلطة الكنيسة: (وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة، وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار، الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء) (متى 18: 17، 1)
وبعد قيامته قال لتلاميذه بعدما نفخ في وجوههم: (اقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياه تغفر لهن ومن أمسكتم خطاياه أمسكت) (يوحنا: 20: 22، 23)
قال السجين: لكن.. ألا يمكن أن يكون المسيح قد أراد أن يكون هذا السلطان عاما للجميع، وليس للرسل والكهنة فقط.. وبذلك يستطيع كل واحد منا أن يحل ويربط كالرسل تماماً؟
قال القس: لا.. هذا لا يمكن.. فالخطاب الموجه في الآيات السابقة كان موجها لقادة الكنيسة ممثلة في الرسل، كما أن أهل كورنثوس لم يستطيعوا ممارسة هذا السلطان إلا حينما مارسه الرسول بولس مع زاني كورنثوس الشهير (1كو 5: 1- 5)
ولا ينبغي أن تنسى أن مواهب الروح قد قسمت على الجميع، وكما يقول الرسول: (فإني أقول بالنعمة المعطاة لي لكل من هو بينكم أن لا يرتئي فوق ما ينبغي آن يرتئي بل يرتئي إلى التعقل كما قسم الله لكل واحد مقدارا من الإيمان) (رومية: 12: 3)
وهذا ما فهمه جميع الآباء في القرون الأولى ومارسوه بكل قوة وتكلموا عنه وكتبوه في كتاباتهم التي مازالت باقية حتى اليوم ولا يستطيع أحد التشكيك فيها، ولا أظن أن شخصاً منصفاً محبا لله ومهتماً بخلاص نفسه ينكر آيات الكتاب وتفاسيرها ومن مارسوها ليقدم بدعة لا سند لها من الكتاب أو التاريخ أو أقوال الآباء.. وهل يستطيع أحد أن بخرج لنا آية من العهد الجديد تقول: (لا تعترفوا على يد الكهنة)؟
من الأقوال المحكية في ذلك قول القديس كبريانوس (200 – 258م): (فليعترف كل منكم أيها الأخوة الأحباء بإثمه مادام من إثم في هذا العالم وما دام ممكناً قبول اعترافه وما دامت المغفرة بواسطة الكهنة مقبولة عند الله)
وبقول العلامة ترتليان (160 – 240م): (إن كثيرين ينتبهون إلى الخجل أكثر من الخلاص فيهربون من الاعتراف سترة لهم ويؤخرونه من يوم إلى يوم كمن أصابه مرض في الأعضاء المستحى منها فأخفى عن الأطباء مرضه فيباد بخجله.. فإذا أخفينا نفوسنا عن معرفة الناس هل تخفى عن الله، وهل الأولى لنا أن نهلك وذنوبنا مخفية من أن نحل وهي مكشوفة في التوبة)
لن أورد لك الآن كل أقوال الرسل أو شهادة آباء الكنيسة من الأجيال المختلفة أو شهادة التاريخ أو الكتب الطقسية والتي تحتوي على الكثير عن الاعتراف على يد الكهنة.. ولكني سأذكر لك شهادات المحتجين أنفسهم على سر الاعتراف من (البروتستانت)
لقد قال مارتن لوثر([1]) في كتاب تعليم الدين المسيحي المختصر (ويعتبر من أهم كتاباته وهو عن طريق السؤال والجواب) في الفصل الخامس عن الاعتراف: (عنوان: ماذا يجب أن يُعلَم الشخص المبتدئ عن الاعتراف؟ سؤال: ما هو الاعتراف؟
الإجابة: للاعتراف جزءان: أولهما أن يقر الشخص بخطاياه، وثانيهما أن يتلقى المعترف الحل من المعرف confessor (الشخص الذي يتلقى الاعتراف) كما من الله نفسه بدون شك في ذلك و باعتقاد راسخ أن الله قد غفر خطاياه من خلال المعرف.
سؤال: ما هي الخطايا التي يجب أن يعترف بها الناس؟
الإجابة: حينما نتحدث مع الله يجب أن نذكر مع الشعور بالخزي والذنب جميع خطايانا، حتى التي لا نعلم عنها شيئاً تماماً كما نفعل في (يا أبانا)،ولكن حينما نجلس مع المعرف (أب الاعتراف) نذكر الخطايا التي فعلناها بإرادتنا والتي نشعر بها في قلوبنا.
ويقول:(إني أعتبر الاعتراف الشخصي شيئاً ثمينا جداً ونافعاً للصحة الروحية، آه.. في الحقيقة من المؤلم جداً لكل المسيحيين إذا لم يكن هناك اعتراف خاص ويجب أن يشكروا الله بكل قلوبهم أن الاعتراف مسموح ومتاح لهم)([2])
ويقول:(من الممكن أن يكون للتوبة صفة سر من الأسرار المقدسة لكنني أبكي على انتهاك الكنيسة([3]) لهذا السر)
ويقول جون كلفن([4]) عن الأسرار:بماذا نعرف أننا أعضاء في جسد المسيح؟ بالاعتراف جهاراً بالإيمان والحياة المستقيمة والشركة في الأسرار المقدسة التي توحدنا في معرفة الله والمسيح.
ويقول:(يكون الاعتراف خاصاً لله وحده، أو لرعاة الكنيسة اختياريا بهدف الراحة والشعور بتأنيب الضمير، أو عاماً أمام الكنيسة كلها)
قال السجين: هل تسمح لي ـ حضرة الأب الفاضل ـ أن أعترف أمامك وأمام هذا الجمع ببعض الشبهات التي تخطر على بالي في هذا الباب، وتكدر علي بذلك صفو اتباع المسيح ودين المسيح؟
قال القس: تحدث.. قل ما تشاء.. فستجد عني الجواب الكافي والشافي.
قال السجين([5]): أنت تعلم ـ حضرة الأب الفاضل ـ أن الأساس الأول في المسيحية هو عقيدة الخلاص([6])، فالمسيح المخلص نزل من السماء وصلب ومات ليخلص المؤمنين من وزر الخطيئة الأولى التي تحملتها البشرية قرونا طويلة..
قال القس: أجل.. فالابتلاء ليس إلا نتيجة للعنة الخطيئة التي أوقعها الإله على آدم وذريته بعد السقوط، وقد أشار إلى ذلك معجم اللاهوت الكاثوليكي، فذكر أن سبب العذاب والألم والموت هو الخطيئة عينها.. أي الخطيئة الأصلية.
قال السجين:
وهذا يعني أن موت المسيح كان لرفع هذه اللعنة.
قال القس: أجل.. فموت المسيح كان كفارة وفداء عن العقوبة التي وقعت على الجنس البشري كله بسقوط نائبه الأول.
قال السجين: بناء على هذا، فإن المؤمن المسيحي يتحول بعد الفداء إلى حالة النقاء التي خلق عليها الإنسان الأول قبل السقوط.. خاليا من الخطيئة ولعنتها.. سعيداً كما كان قبلها.
قال القس: أجل.. ذلك صحيح.
قال السجين: ولكنا لو تناولنا هذا الأمر من منظور واقعي فسنجد أن الحياة المسيحية لم تتغير، فما زالت – كما عرفها التاريخ – تشوبها المكاره، ويعتريها الشقاء.. والمؤمن المسيحي ما زال مثقلاً بالمصائب يشقي ويتعب، والشرور لم تزل تحيط بمجتمعات ترفع الصليب فوق رؤوسها.. أليس كذلك حضرة الأب الفاضل؟
سكت القس، فقال السجين: إذاً لم صلب المسيح ومات، ما دام ذلك لم يغير معالم الواقع المر؟.. وأين الخلاص الذي وعدنا به؟
لم يجب القس بأي جواب، فقال السجين: لقد رأيت أن المؤمنين بالمسيح أمام هذه التناقضات انقسموا إلى قسمين.. أما أولهما، فحاول تطبيق تعاليم المسيح المثالية اعتقاداً منهم أنهم نالوا الخلاص بإيمانهم به، منتظرين تغيير حالهم تحقيقاً لوعد قدم لهم من رجال الكنيسة، ليفاجئوا بأن الشقاء ما زال ملازماً لهم والمصائب تزورهم بين الحين والآخر، الأمر الذي أصابهم بخيبة مريرة دفعتهم للابتعاد عن الكنيسة ورجالها، رافضين سلطانها وتعاليمها، فقد أثبتت التجربة الواقعية لهم فساد أقوال رجالها وتعاليمهم.
وقسم آخر اتبع هواه مرتكباً المخازي غير آبه بالفضائل الأخلاقية اعتماداً منه على الخلاص الذي وعد به من قبل الكنيسة.. فبإيمانه يخلص لا بالأعمال، فالفاسق والصالح سواء بإيمانهما بالمسيح الفادي.. وهكذا ابتعد هذا القسم عن الكنيسة، فما الداعي للارتباط بها وتنفيذ تعاليمها ما دام المسيحي قد نال الخلاص بإيمانه القلبي لا بالأعمال..
وهكذا أصبح المؤمن المسيحي في وضع لا يحسد عليه، فما كاد يفرح بالخلاص المزعوم حتى اعتراه الأسى، فقد وقع بما خلص منه، فها هي ذي خطاياه تضيق خناقها عليه بسلاسل الشقاء والألم والحزن.
وهذا ما أرادت الكنيسة أن يحدث، فهي تريده مهزوماً ضعيفاً لاجئا إليها يبحث عن النجاة، والإجابة عن هذه القضايا التي عجز العقل عن فهمها، فكيف يحمل وزر خطيئة أبويه وخطيئته الشخصية، في حين يحمل أبواه وزر خطيئتهما فقط، وإذا كان العدل تحقق بصلب المسيح فداء من الخطيئة الأولى وميراثها، فهذا الفداء نعمة لآدم وحواء الذين نجوا بالفداء من خطيئتهما، وأصبحا نقيين من الدنس كحالتهما الأولى قبل السقوط، أما ابن آدم فبعد الفداء من الخطيئة الأصلية،ما زالت عليها الخطايا الفعلية التي صدرت منه نتيجة ميراث فساد الطبيعة الذي انتقل إليه من أصله الأول.
التفت السجين إلى القس، وقال: فما السبيل للنجاة من هذه الخطايا إذا كانت التوبة والأعمال لا تؤدي إليها؟
سكت القس، فقال السجين: لقد عمدت الكنيسة عند رؤية أتباعها وهم على هذه الحالة من الإضطراب، أن تصدرت عقولهم مقررة أن مفتاح النجاة بأيدي رجالها، فهي التي بإمكانها غفران هذه الخطايا الفردية أو جزء منها مقابل الاعتراف وأداء التعويض الذي يقرره رجل الدين.
ولتطفي على ذلك ثوب الشرعية أصدرت قانونا بمنح هذه الصلاحية لرجل الدين، وهو الصادر عن المجمع الثاني عشر المنعقد في روما عام 1215 م.. فقد كان من أهم قرارات هذا المجمع ما نصه: (الكنيسة البابوية تملك الغفران وتمنحه لمن تشاء)
ولكن رجال الكنيسة، وعلى رأسهم البابا الرئيس الأعلى للكنيسة كلها حسب التعليم الكاثوليكي من ذرية آدم، فإذا غفرت خطيئتهم الأصلية بالفداء كما يقرر دينهم، فما زالت خطاياهم الشخصية تلاحقهم أينما ذهبوا، فكيف يتسنى لمخطئ تبرئة مخطئ؟ وكيف يمنح الغفران من هو في حاجة إليه
ولتفادي هذا الاحتجاج الذي ترتفع به أصوات الكثيرين، أصدروا قراراً آخر يفيد عصمة البابا، وهو القرار الصادر عن المجمع العشرين المنعقد في روما عام 1869 م.
وهكذا أصبحت قرارات الكنيسة قرارات تتسم بالعصمة من الضلال فرأسها البابا معصوم، وعصمته تلك تنتقل بالتالي لقراراته..
قال القس: ولكن الكنيسة استمدت هذا السلطان من وعد المسيح وأمره إذ قال لبطرس: (وأعطيك مفتاح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السموات) (متى: 16 ـ 19)
والمسيح وهو يعطي هذا السلطان لبطرس لم يعطه إياه كفرد، بل كتلميذه المعترف والمؤمن بلاهوت المسيح عندما قال: (أنت هو المسيح ابن الله)
وقد أكد المسيح هذا بما لا يدع مجالاً للبس، إذ بين أن هذا سلطان الكنيسة كلها: (وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة وأن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء وكل تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء ) (متى: 18: 17و18)
وقد تأيد هذا السلطان بأمر المسيح قبل الصعود عندما قال:(دفع إلى كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والإبن والروح القدس ) (متى: 28: 18 و19) وهذا حق لأن الكنيسة كمنظمة على الأرض ينبغي أن يكون لها سلطان يقرر وينظم ويدعم كيانها ورسالتها وأعمالها.
ابتسم السجين، وقال: وهكذا أرست الكنيسة سلطانها في نفوس أتباعها بنصوص من الأناجيل، وبقرارات مجمعية، لتتحول بعد ذلك لكيفية استثمار هذه السلطة، فأصدرت ما أسمته بالوصايا الخمس، وجعلت تطبيقها ملزما لكل مسيحي بعد التعميد وبلوغه السابعة من العمر.. من أهم تلك الوصايا، الوصية الرابعة.. والتي تنص على ضرورة الاعتراف السنوي (إذا كانت هناك خطايا مميتة)
لم تكتف الكنيسة بهذا.. فسلطانها لا يدعم بالاعتراف فحسب.. ولهذا ذهبت إلى ضرورة التعويض الذي يوازي الخطيئة.. وهو تعويض يفرضه الكاهن اعتماداً على فطنته الروحية في تحديده.
أما لو امتنع المسيحي عن أداء التعويض الذي فرض عليه من قبل الكاهن، فسيكون مصيره دخول المطهر بعد الموت مباشرة كمرحلة تطهيرية قبل يوم الدينونة.. هذا ما ذكره معجم اللاهوت الكاثوليكي بقوله:(الإنسان يخضع لهذه المرحلة التطهيرية إذ يموت مبررا بالنعمة بمقدار ما تكون حالة العقاب (المستحق) لا تزال موجودة فيه ولم تزول بزوال الخطايا بالغفران يوم التبرير، وبمقدار ما بالإمكان أن تزيل هذه الحالة عقوبات تعويضه.
أما عن طبيعة هذه المراحل الصحيحة وعن مكان هذه العقوبات فليس لنا في الكتاب المقدس أي دليل.. ولا يجب أن تمنعنا كلمة المطهر من أن نجد كلمة أصح وأحسن لندل على هذه المراحل التي نوهنا عنها.. التي تعني حرفيا النار المطهرة)
بهذا استطاعت الكنيسة إرساء سلطانها على أتباعها، فلا بد لهم من طاعتها طاعة تامة، فهي مؤسسة بأمر المسيح معصومة الرأس وقراراتها إلزامية مما أهلها لغفران خطايا رعاياها بحسب ما ترى، وعلى المؤمن المسيحي إن أراد الخلاص من خطاياه الشخصية التقدم إلها مرة كل عام على الأقل ليعترف ويتلقى أمرها بتنفيذ التعويض.
كأني بها ـ وهي تدعو إلى هذه المعاني، وتثبتها في نفوس أتباعها ـ تريد من كل فرد منهم أن يدفع ضريبة للكنيسة لتتمكن من إدارة شئونها وتوسعة سلطانها وسيطرتها على أتباعها.
وهذا ما حصل بالفعل.. فمطامع رجال الكنيسة لم تزل تتزايد وتتسع، حتى أصدروا صكوك الغفران التي عادت عليهم بمزيد من الأرباح.
ولقد نقل ويل ديورانت عن أحد المعارضين ـ وهو كاثوليكي ـ المساوئ التي نتجت عن فرض صكوك الغفران فقال: (إن المساوئ ذات الصلة بصكوك الغفران تنشأ كلها تقريباً من سبب واحد وهو أن المؤمنين بعد أن يشهدوا مراسم التكفير، وهي الشرط المقرر المعترف به لنيل المغفرة، يتطلب أن يقدموا من المال ما يتناسب مع ثرائهم، وبذلك أصبح المال الذي يؤدي للأعمال الخيرية، وهو الذي يجب أن يكون من للأعمال الخيرية، وهو الذي يجب أن يكون من الأعمال النافلة التي لا يلزم بها إنسان، أصبح هذا المال في بعض الحالات هو الشرط الأساسي لغفران الذنوب.. وكثيرا ما أصبح المال لا العمل الصالح هو الغاية المقصودة من الغفران.. ولسنا ننكر أن العبارات التي صيغت فيها قرارات البابوية يخيل إلى الإنسان معها أنها لا تحيد مطلقا عن عقائد الكنيسة، وأن الاعتراف والندم والأعمال الصالحة المنصوص عليها في هذه العقائد هي الشرط الأساسي لنيل المغفرة، إلا أن الجانب المالي كان يبدوا واضحاُ في جميع الأحوال وكان للهبات المالية المقام الأول في هذا الأمر كله مما يسربل الكنيسة بالعار ويجعلها مضغة في الأفواه.. اتخذت صكوك الغفران شيئاً فشيئاً صورة الصفقات المالية، وأدى هذا إلى الكثير من النزاع بين السلطات الزمنية التي كانت تتطلب على الدوام حظها من هذه الموارد.. ولا يقل عن بيع صكوك الغفران دلالة على حب الكنيسة للمال قبولها أو طلبها المال أو الهبات أو الوصايا نظير تلاوة الأدعية والصلوات التي يقولون أنها تقصر المدة التي تقضيها روح الميت في المطهر لتعاقب عن ذنوبها.. وكان الصالحون الأتقياء من الناس يخصصون من أموالهم جزءاً كبيراً لهذا الغرض لتنجو به روح قريب لهم أو ميت فارق الحياة الدنيا أو ليقصروا المدة هم أنفسهم في المطهر بعد موتهم أو يلغوها إلغاءاً تاما.. ولهذا أخذ الفقراء يشكون من أن عجزهم عن أداء الأموال نظير الأدعية والصلوات أو لابتياع صكوك الغفران يجعل الأغنياء على الأرض لا الوادعين هم الذين يرثون ملكوت السموات، ولقد كان كوليس حصيفاً حين أمتدح المال لأن (من يمتلك المال يستطيع نقل الأرواح إلى الجنة)([7])
التفت السجين إلى القس الذي لزم الصمت، ثم قال: سأنقل لك ولجميع أصدقائي من السجناء نصا لأحد صكوك الغفران.. لقد قرأته في كتاب (سوسنة سليمان في أصول العقائد والأديان) لمؤلفه رجل الدين المسيحي (نوفل أفندي نوفل).. لقد ذكر هذا الأب الفاضل ترجمة لأحد صكوك الغفران التي كانت تباع في مدينة ويتمبرغ الألمانية (التي كان مارتن لوثر يدرس فيها) عام 1513 م.
اسمعوا نص الصك.. (ربنا يسوع المسيح يرحمك يا فلان، ويُحِلُّكَ باستحقاقات آلامه الكلية القداسة، وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحـلك من جميع القصاصات والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتهان وأيضا من جميع الافراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة، ومن كل علة ولئن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا والكرسي الرسولي، وأمحو جميع العجز وكل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر، وأردك حديثا إلى الشركة في أسرار الكنيسة وأقرنك في شركة القديسين، وأردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك حتى أنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذابات والعقاب ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح، إن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة حتى تأتي ساعتك الأخيرة… باسم الآب والابن والروح القدس الواحد، آميــن)
سكت السجين قليلا، ثم قال: ليت الكنيسة اكتفت بتلك الأموال التي كانت تدر عليها من صكوك الغفران.. لقد ذهب بها الجشع والظلم إلى أن تستعمل هذه الصكوك في سفك دماء الأبرياء..
اندهش السجناء لهذا، فراح السجين يقول: لا تندهشوا.. هذه هي الحقيقة التي ذكرها التاريخ([8]).. لقد كانت الكنيسة تواجه – في مرحلة من مراحلها- بألد أعدائها وأخطرهم.. إنهم أولئك المسلمون الطيبون.. فقد كانت الحروب الصليبية قد استعر أوراها، وبدأت تلوح علامات الهزيمة للصليبيين، وبلغ ضعف الحماس الديني في نفوس الأوربيين مبلغاً كبيراً، وفقد المقاتلون ثقتهم في الكنيسة نتيجة لخيبة أملهم في النصر الذي وعدتهم وعداً قاطعاً، ولم يروا للمسيح والملائكة والقديسيين أثر في معاركهم، بل على العكس تخيلوا أنهم يقفون ضدهم تماماً، وبذلك اهتز موقف الكنيسة وأيقنت أن وعودها المعسولة بالنصر، وقراراتها الشفوية بالمغفرة للمشتركين في الحرب لم تعد تؤدى مفعولاً مؤثراً، فقررت الكنيسة تجسيد هذه الأماني في وثيقة خطية محسوسة يحملها المقاتل، ويندفع للاشتراك في الحملة الصليبية وهو على ثقة وعزم.
وتنفيذاً لذلك استخدمت من جديد (صكوك الغفران) لأداء أرذل وظيفة..
لقد كانت ـ كما ذكر المؤرخون ـ توزع على المشتركين في الحروب الصليبية ضد المسلمين..
وبهذا.. أصبجت هذه الصكوك حكرا على أحد رجلين:
إما صاحب مال.. يشترى الصك من الكنيسة حسب التسعيرة التي تحددها.
أو صاحب سيف.. يبذل دمه في سبيل نصرة الكنيسة والدفاع عنها وحراسة مبادئها.
أما ما عدا هذين.. فيظل محروما لا يملك ثمن الصك.. ولذلك يظل المسكين أسير صراع نفسي مرير وشعور بالحرمان قاتل.
وهكذا فالكل مضحون، والكل خاسرون، والكنيسة هي الرابح الوحيد من هذه الصكوك..
لم يجد القس ما يجيبه به، فراح السجين يلتفت إلى زملائه، ويقول: أتدرون ما نهاية هذه الصكوك المشؤومة؟
قال السجناء: ما نهايتها؟
قال السجين: لقد كانت هذه البدعة ـ أول أمرها ـ من أسباب قوة الكنيسة ودعائم شموخها.. فمن ناحية المكانة الدينية ارتفعت منزلة رجال الدين في نظر السذج والجهلة بعد أن منحهم المسيح هذه الموهبة العظيمة، وخيل إليهم أنه ما دام أعطاهم حق المغفرة للناس فبديهي أنه غفر لهم، بل قدسهم ووهبهم من روحه كما يدعون، وبذلك تجب طاعتهم والتزلف إليهم وتملقهم على من أراد التقرب إلى المسيح والحصول على رضاه، وإذ قد آمن الناس – ملوكاً وصعاليك – بحق الغفران، فقد سهل عليهم أن يؤمنوا بمقابلة (حق الحرمان)، ولم يزدادوا طمعاً في ذاك إلا وازدادوا رهبة لهذا.
ومن الوجهة المادية أثرت الكنيسة من عملية بيع الصكوك ثراء فاحشاً حتى أصبحت بحق أغنى طبقات المجتمع الأوروبي آنذاك بما تكدس في خزائنها من أموال وتدفق عليها من عطايا وهبات.
ومن الوجهة السياسية قويت الكنيسة وتدعمت سلطتها بالجحافل البربرية التي تطوعت للقتال في سبيلها من أجل الحصول على الغفران.. وبالمقابل انخفضت سلطة الملوك الذين كانوا جنودا للكنيسة بأنفسهم في الحروب الصليبية، إلا من تردد منهم أو حاول التملص من قبضتها فعوقب بالحرمان كما حدث لفريدريك الثاني([9]).
كل هذه الثمار جنتها الكنيسة من جراء هذه المهزلة..
ولكن الحصاد الخبيث الذي حصدته من جرائها لا يمكن وصفه..
لقد كانت تلك الصكوك مسماراً في نعش الكنيسة، وبداية لنهايتها، وكانت خسارتها بها عظيمة عظم جنايتها:
فمن الوجهة الاقتصادية تلى الإقبال الهائل على شراء الصكوك انكماش وفتور كالذي يصيب أي بدعة أو ظاهرة جديدة بعد فترة من ظهورها، فنضبت الكثير من موارد الكنيسة في حين ازدادت طمعا وشراهة.. فاضطرت إلى عرض الصكوك بطريقة مبتذلة، فكان الآباء والقساوسة يتجولون في الإقطاعيات، ويبيعونها بأسعار مخفضة، ثم زهيدة، وكلما ازداد العرض قل الطلب وتولد لدى الناس شعور داخلي بأن شراءها إضاعة للمال فيما لا فائدة فيه، أو على الأقل فيما ليس مضمون العاقبة.
وفي الوقت نفسه داهمت المسرح المالي فئة جديدة من الناس أخذت تظهر بوضوح منافسة للطبقتين البارزتين آنذاك (النبلاء) و (رجال الدين) تلك هي الطبقة البورجوازية وحصلت تحولات أخرى كانت بمثابة المؤشر لنهاية النظام الإقطاعي بجملته.
ومن ناحية المكانة الدينية لرجال الدين، فقد بدأت تلك الهالة القدسية المحيطة بهم تتبخر شيئاً فشيئاً بعد زمان من ظهور هذه المهزلة وابتداء الناس يعتقدون أنهم كانوا مخطئين في ذلك الاندفاع الأعمى والتسليم الأبله، وعمق ذلك الاعتقاد تنافس القساوسة على بيع الصكوك مقروناً بسيرتهم السيئة وفجورهم الفاضح، وعجب الناس إذ رأوا كثيراً من الأشرار والطغاة يتبوءون مقاعدهم في الملكوت ببركة الصكوك التي منحها لهم رجال الدين، فكان ذلك إيذاناً بالشك في قداسة رجال الدين أنفسهم ومدى صلاحهم واستحقاقهم للملكوت في ذواتهم.
ومن ناحية المركز السياسي والنفوذ الدنيوي، فقد كان لصكوك الغفران وما أحاط بها من ظروف وملابسات أثره البالغ في العلاقة بين الكنيسة من جهة والملوك والأمراء والنبلاء من جهة أخرى، فقد رأوا أن قبضة الكنيسة تزداد استحكاماً مع الأيام وأنهم وشعوبهم ليسوا إلا أدوات أو صنائع رجال الدين يمنون عليهم بالعفو إن رضوا ويعاقبونهم بالحرمان إن سخطوا، كما أن الثراء الذي حصلت عليه الكنيسة جعلها تبدو منافساً قوياً لأصحاب الإقطاعيات وكبار الملاك، فكان يسيطر على الجميع شعور موحد بالعداوة لها والحقد عليها.
لذلك لم تكد بوادر الاستنكار ضد تصرفاتها ـ لا سيما صكوك الغفران ـ تبرز للعيان حتى انتهزها الملوك والأمراء فرصة سانحة لحماية الحركات المعارضة وتأجيج سعيرها، ولولا أن بعض المصلحين الكنسيين ـ ولوثر خاصة ـ وجدوا الحماية والعطف من الأمراء والنبلاء لما نجوا من قبضة الكنيسة ونتائج قرارات حرمانها.
أما من الناحية الاجتماعية، فقد كانت صكوك الغفران سبباً مباشراً في انبعاث الشرارة الأولى التي اندلعت نيرانها فيما بعد، فالتهمت الأوضاع الاجتماعية وأودت بالتعاليم الكنسية والتقاليد الدينية كافة.
وبذلك.. فقد ساعدت صكوك الغفران بصفة مباشرة على هدم التعاليم الدينية من أساسها والاستهتار بكل المعتقدات والأصول الإيمانية بجملتها وأسهمت في انتشار فكرة إنكار الآخرة والجنة والنار التي لا يقوم دين بغيرها.
ولا زالت إلى الآن شاهداً قوياً ومستنداً قاطعاً لكل أعداء الدين في الغرب، حيث نشأ عن الكفر برجل الدين وتصرفاته كفر بالدين ذاته وما يتصل به من سلوك وخلق.
لقد كان الخيار الصعب الذي وضعه أعداء الدين أمام الإنسان الأوروبي هو إما أن يؤمن بصكوك الغفران فيحكم على نفسه تلقائياً بالجمود والغباء والرجعية المتناهية، وإما أن يكفر بها فيلزمه بالإطار الذي يحويها بكامله إطار الدين والغيبيات، لا سيما الآخرة.
التفت السجين إلى القس، وقال: هل رأيتني زدت حرفا واحدا على ما نطق به التاريخ؟
قال القس: أنت تكرر ما يقوله الهراطقة.. ولذلك لن أجيبك بشيء.. فلا يجدي الكلام مع الهراطقة شيئا([10]).
قال السجين: ألم تأمركم الكنيسة والمسيح بأن تظهروا الحقائق بنور الإيمان، وتردوا على الشبهات بسيف العلم؟
لم يجد القس إلا أن يقول: أرانا قد خرجنا عن الموضوع.
قام بعض السجناء، وقال: لا يا حضرة القس.. نحن لم نخرج عن الموضوع.. لقد جئتنا لتحدثنا عن البشارة التي جاء بها المسيح للمذنبين.. وكل ما حدثنا به صاحبنا لم يخرج عن هذا الباب.
سكت القس، فقال السجين وهو يلتفت إلى زميله: أنا متعجب كل العجب من معرفتك بكل هذا مع كونك سجينا مثلنا.. ومع كونك فوق ذلك مسلما.. فما علاقتك بالمسيحية؟
قال السجين: أنت تريد مني أن أحدثك عن نفسي..
قال: إن كان حديثك عن نفسك ضروريا لتفهمنا حقيقتك وحقيقة ما تقوله فحدثنا.
قال السجين: إذا وافق زملاؤك.. ووافق قبل ذلك حضرة الأب الفاضل.. فسأحدثك.. وسأذكر لكم في حديثي رحلتي التي وصلت بها إلى البشارة الحقيقية التي بشر الله بها المذنبين.. وبسبب تلك البشارة ترونني الآن بينكم.
رفع جميع السجنا أصواتهم يطلبون منه أن يحدثهم.. ولم يجد القس إلا أن يأذن له، فقد كان يحب أن يبدو بمظهر المسالم المتسامح.
سار السجين إلى المنصة، وراح يقول: أنتم تعلمون أني مسلم.. وربما تتوهمون أني ولدت مسلما.. وهذا خطأ..
لقد ولدت مسيحيا.. بل ولدت في عائلة مسيحية متدينة.. كان والدي وكثير من أهلي من رجال الكنيسة الكبار.. ولهذا تلقيت في صغري مبادئ الكنيسة وعلومها .. بل ومغاليقها وأسرارها.
ولكن الله قدر أن أقع في جريمة من الجرائم.. فعلتها بإصرار وترصد.. لا شك أنكم تعرفون جريمتي.. إنها الجريمة التي من أجلها سلمت نفسي لهذا السجن..
لقد قتلت نفسا بريئة بغير حق.. ولم يرني أحد، وأنا أقتلها.. ولم يكن لدى الشرطة التي بحثت عن الجاني أي دليل تصل به إلي.. بل كان أهل القتيل فوق ذلك يجلونني ويحترمونني غاية الاحترام، فلم يكونوا يتصورون أبدا أني أنا الجاني الذي سلبهم قريبهم.
قال بعض السجناء: فكيف صرت بيننا؟
قال السجين: نعم.. الشرطة لم تستطع أن تقبض علي لتعاقبني.. لكن ضميري كان يؤنبني كل حين.. وكانت صورة القتيل تتراءى لي في أحلامي فتملأها بالكوابيس.
وبما أني من أسرة متدينة – كما ذكرت لكم – فقد أسرعت إلى الكنيسة أشكو إليها حالي، وقد قرأ علي القس من كلام بولس ما قرأته لكم.. وحكى لي من خطايا الأنبياء ما حكى لي.. وعندما هممت بالانصراف، قال لي: يكفيك أن تعترف أمامنا.. ونحن سنخلصك من كل ذنوبك..
فعلت كل ما طلبه مني.. ولكن ضميري لم يطمئن لما فعلته.. فقد كنت أراه نوعا من النفاق الذي لا يجدي شيئا..
وقد زاد من همي أني عندما تأملت النصوص التي كان القسس يستدلون بها على أن للكنيسة حق الغفران رأيتها نصوصا لا تدل على ما توهموه..
بل إني رأيت أن النص الذي يستدلون به على قدرة المسيح على غفران الخطايا لا يدل على هذا المراد.
انتفض القس قائلا: كيف هذا؟.. النص واضح لا ريبه فيه.. لقد قال المسيح:(إن لإبن الانسان سلطاناً على الارض أن يغفر الخطايا) (متى:9 /6)
قال السجين: لنفهم النص – حضرة الأب الفاضل – نحتاج إلى العودة إلى الواقعة التي قيل فيها.. فاسمح لي أن أرددها بين يديك، لأذكر لك من خلالها ما فهمته منها، أو ما يصح أن يفهم منها..
لقد بدأ الإصحاح التاسع من إنجيل متى بذكر هذه الواقعة هكذا: (فدخل السفينة، واجتاز وجاء إلى مدينته. وإذا مفلوج يقدمونه إليه مطروحا على فراش. فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج: ثق يا بني. مغفورة لك خطاياك.. وإذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم هذا يجدف. فعلم يسوع أفكارهم فقال: لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم. أيما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال قم وامش؟ ولكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا. حينئذ قال للمفلوج. قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك. فقام ومضى إلى بيته. فلما رأى الجموع تعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا) (متى: 9 /1)
انظر.. إن المسيح لم يقل للمفلوج: ثق يا بني لقد غفرتُ لك خطاياك! بل أنبأه قائلا: مغفورة لك خطاياك.. والفرق واضح بين الجملتين، فالجملة الثانية لا تفيد أكثر من إعلام المفلوج بأن الله تعالى قد غفر ذنوبه، وليس في هذا الإعلام أي دليل على ألوهية المسيح، لأن الأنبياء والرسل المؤيدين بالوحي يطلعون، بإطلاع الله تعالى لهم على كثير من المغيبات والشؤون الأخروية، ومنها العاقبة الأخروية لبعض الناس..
قال القس: ولكن المسيح قال بعد ذلك:(ولكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا)، فنسب غفران الخطايا لنفسه.
قال السجين: إن هذ النص – كنصوص كثيرة في الكتاب المقدس – لا يصح حمله إلا على معناه المجازي.. أي على معنى أن ابن الإنسان (المسيح) خوله الله أن يعلن غفران الخطايا.. وذلك لأن الجملة الأخيرة في النص السابق تقول: (فلما رأى الجموع ذلك تعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا)، فالغافر بالأصل والأساس هو الله تعالى، ثم هو الذي منح هذا الحق للمسيح وأقدره عليه، لأن المسيح كان على أعلى مقاما من الصلة بالله والكشف الروحي ولا يتحرك إلا ضمن حكمه وإرادته فلا يبشر بالغفران إلا من استحق ذلك.
ومما زادني علما بأن غفران المسيح للذنوب هو تخويل إجمالي من الله تعالى له بذلك، وليس بقدرة ذاتية له، هو أن المسيح، في بعض الحالات، كان يطلب المغفرة للبعض من الله تعالى فقد جاء في إنجيل (لوقا:23 /34):(فقال يسوع: يا أبتاه ! اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون)
انظر – حضرة الأب الفاضل – كيف طلب المسيح من الله غفران ذنبهم، ولو كان إلـها يغفر الذنوب بذاته ومستقلا، كما ادعوا، لغفر ذنوبهم بنفسه؟
قال بعض السجناء: بعد ما علمت ماذا فعلت؟
قال السجين: بعد ما علمت أن الكنيسة أعجز من أن تغفر خطيئتي الكبرى التي وقعت فيها رحت أبحث عن الخلاص..
ومما زاد في حرصي على الخلاص أني رأيت الكثير من رجال الكنيسة الذين يزعمون أنهم يخلصون الناس واقعون في أسر نفوسهم وشهواتهم وأهوائهم.. حتى من كان في نظر الناس قديسا.. كان في الحقيقة زنديقا ممتلئا بالأرجاس والخطايا ([11]).
قال سجين آخر: فأين وجدت الخلاص؟
قال السجين: لقد تعذبت كثيرا قبل أن أجد الخلاص.. وذات يوم بكيت أمام الله وسألته بصدق أن يخلصني من أسر خطيئتي..
وقد هداني الله أن أسير إلى أرض لا أزال إلى الآن أجهل محلها.. كانت مضمخة بعطر الطهارة الجميل([12]).. وقد تطهرت فيها.. بل أيقنت بأن الله طهرني.
قال السجناء: كيف ذلك.. ونحن نراك الآن بيننا؟
قال السجين: سأقص عليكم قصتي وقصة تلك الأرض.. ثم سر وجودي بعد ذلك في هذا السجن.. فكل ذلك له علاقة بما نحن فيه..
قال السجناء: فحدثنا.. فما أجمل حديثك؟
قال السجين: بعد أن امتلأت بالعذاب.. وبعد أن سألت الله بصدق أن يطهرني.. سرت على غير هدى إلى أن وجدت نفسي في تلك الأرض الممتلئة بالطهارة..
كان أول ما شدني إليها أني مررت على بيت من بيوتها، فسمعت قارئا يقرأ من القرآن قوله تعالى:{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (الزمر:53)
كان يقرأ الآية من أعماق وجدانه.. وكنت خلال قراءته لها لا أسمعه هو بل أسمع الله، وهو يخاطبني من خلالها، وكأنه يبشرني بتحقيق مطلوبي الذي سرت في الأرض من أجله.
أسرعت إلى البيت الذي سمعت فيه القراءة، ورحت أدق بقوة.. وما هي إلا لحظات حتى فتح لي رجل مملوء بالأنوار الباب.. وهو يقول لي: أحسنت بدق الباب.. فقد خطوت بذلك أول خطوة في طريق الطهارة.
احترت في قوله هذا، وقلت: من أنت؟.. وكيف عرفت أني أبحث عن الطهارة؟
ابتسم، وقال: أما اسمي، فهو (الفضيل)([13]).. وأما كيف عرفت.. فذلك لأني كنت في يوم من الأيام مثلك.. كنت ممتلئا بالدنس إلى أن طهرني الله..
كنت في بداية حياتي أقطع الطريق.. وذات ليلة خرجت لأقطع الطريق، فإذا أنا بقافلة قد انتهت إلي، وقد سمعت بعضهم يقول لبعض: اعدلوا بنا إلى هذه القرية، فإن أمامنا رجلا يقطع الطريق يقال له الفضيل.. فلما قالوا ذلك أصابتني رعدة.. ولم أجد نفسي إلا وأنا أصيح فيهم:(يا قوم.. أنا الفضيل جوزوا.. والله لأجتهدن أن لا أعصي الله أبدا).. ثم إن الله رقق قلبي، فأضفتهم تلك الليلة.. ثم خرجت أرتاد لدوابهم علفا.. وعندما رجعت سمعت قارئا يقرأ قوله تعالى:{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } (الحديد:16).. فأصابتني أنوار من الإيمان، فصحت وأنا مضمخ بعطرها:(والله لقد آن)
ثم يسر الله أن أجد رجالا من أهل الله دلوني على طريق التوبة ومراحلها.. وقد سرت فيها جميعا إلى أن ألقى الله في روعي أنه قد تاب علي، وقبلني..
قلت: فهلا دللتني على المراحل التي عبرتها.. فقد امتلأت نفسي بالدنس.
قال الفضيل: ذلك واجب علي.. لقد نذرت نفسي لهذا..
قلت: فهل أبدأ معك السير؟
قال: لقد بدأت.. مذ دققت باب بيتي بدأت السير..
قلت: فهل أعترف لك بجريمتي؟
قال: معاذ الله.. أنا عبد.. والعبد أضعف من أن يحاسب عبدا مثله.
قلت: فكيف أسير إذن.. وأنت لا تعلم ذنبي؟
قال: الله يعلمه.. والله هو الغفار ولست أنا ولا أحد من الناس.. أنا مجرد دليل مرشد أدلك على ما دلني الله عليه.
قلت: فهيا.. دلني على المراحل التي تعبر بي إلى الطهارة التي امتلأت نفسي شوقا إليها.
قال: لقد ذكرت لك أني مررت بمراحل في الطريق.. وإني الآن بفضل الله في آخرها.
قلت: فما هي هذه المراحل؟
قال: أربع.. أما أولاها، فالأمل.. وأما الثانية، فالدينونة.. وأما الثالثة، فالتصحيح.. وأما الرابعة، فالترقي.
قلت: فما وجه الانحصار في هذه المراحل؟
قال: أول ما تحتاجه في الطهارة الأمل في أن تتطهر.. فلا يمكن لليائس أن يسير خطوة واحدة في أي طريق، فكيف يمكن أن يسير في طريق الله؟
قلت: والدينونة؟
قال: بعد أن تمتلئ بالأمل في فضل الله تستيقظ من سبات الغفلة، لتبحث عن ذنوبك، فتمحوها بكير الخشية، ودموع الندم..
قلت: والتصحيح؟
قال: الذنوب تحدث خللا في النفس والعقل والقلب والروح.. والمجتمع.. والأمة.. والإنسان.. والكون.. ولن تتحقق بالطهارة حتى تصلح ما أفسدته الذنوب.
قلت: والترقي؟
قال: من اكتفي بالتطهير، ولم يحدث نفسه بالترقي في معارج الله أوقعته نفسه في أودية الهوى، وعاد للذنب شعر أو لم يشعر.
قلت: فهل ستسير بي في هذه المراحل؟
قال: بل سأسير معك.. فأنا أضعف من أن أسير بك.
استغرق السجين في صمت عميق قطعه عليه أصحابه بقولهم جميعا: فماذا حصل؟.. هل سرت معه في طريق الطهارة؟
قال: أجل.. وقد كانت أياما حلوة تلك الأيام.. لقد شعرت بنفسي، وكأني أستحم في بحر لجي ممتلئ بجميع عطور الإيمان.. وشعرت، وكأن الله أرسل أمطار الطهارة من كل صوب لتطهرني من ذلك الدنس الذي ملأ حياتي ألما.
قال بعض السجناء، وقد هزه ما ذكره: فحدثنا.. فما أشوقنا للطهارة.
قال آخر: ابدأ بنا من المرحلة الأولى.. تلك التي سماها لك الفضيل بالأمل.
قال: في بداية الطريق سار بي الفضيل إلى رجال مختلفين.. كلهم كانوا من التوابين([14]).. وقد تعلمت على أيديهم أن الله الرحيم الرحمن تكرم على عباده، فأعطاهم من فضل مغفرته ما لا يقدر بثمن..
كان أولهم رجلا يقال له (مالك بن دينار)([15]) .. وقد ذكر لي في أول لقاء لي معه سبب توبته فقال:(كنت شرطيا، وكنت منهمكا على شرب الخمر، ثم إن الله يسر لي فتزوجت امرأة صالحة وقعت مني أحسن موقع، فولدت لي بنتا، فشغفت بها، فلما دبت على الأرض ازدادت في قلبي حبا، وألفتني وألفتها.. وكنت إذا وضعت المسكر بين يدي جاءت إلي وجاذبتني، وأهرقته.. فلما تم لها سنتان ماتت، فأكمدني حزنها، فلما كانت ليلة النصف من شعبان، وكانت ليلة الجمعة بت ثملا من الخمر.. فرأيت فيما يرى النائم كأن القيامة قد قامت، ونفخ في الصور، وبعثرت القبور، وحشر الخلائق وأنا معهم، فسمعت حسا من ورائي، فالتفت، فإذا أنا بتنين أعظم ما يكون أسود أزرق قد فتح فاه مسرعا نحوي، فمررت بين يديه هاربا فزعا مرعوبا، فمررت في طريقي بشيخ نقي الثوب طيب الرائحة، فسلمت عليه، فرد السلام، فقلت: أيها الشيخ أجرني من هذا التنين أجارك الله، فبكى الشيخ، وقال لي: أنا ضعيف وهذا أقوى مني وما أقدر عليه، ولكن مر وأسرع فلعل الله أن يتيح لك ما ينجيك منه.. فوليت هاربا على وجهي، فصعدت على شرف من شرف القيامة، فأشرفت على طبقات النيران، فنظرت إلى هولها وكدت أهوي فيها من فزع التنين، فصاح بي صائح: ارجع فلست من أهلها، فاطمأننت إلى قوله ورجعت ورجع التنين في طلبي، فأتيت الشيخ، فقلت: يا شيخ سألتك أن تجيرني من هذا التنين فلم تفعل، فبكى الشيخ وقال: أنا ضعيف، ولكن سر إلى هذا الجبل فإن فيه ودائع المسلمين فإن كان لك فيه وديعة فستنصرك، فنظرت إلى جبل مستدير من فضة وفيه كوى مخرمة وستور معلقة على كل خوخة وكوة مصراعان من الذهب الأحمر مفصلة باليواقيت مكوكبة بالدر، على كل مصراع ستر من الحرير، فلما نظرت إلى الجبل وليت إليه هاربا والتنين من ورائي حتى إذا قربت منه صاح بعض الملائكة: ارفعوا الستور وافتحوا المصاريع وأشرفوا فلعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوه، فإذا الستور قد رفعت والمصاريع قد فتحت فأشرف علي من تلك المخرمات أطفال بوجوه كالأقمار، وقرب التنين مني فتحيرت في أمري فصاح بعض الأطفال: ويحكم أشرفوا كلكم فقد قرب منه عدوه، فأشرفوا فوجا بعد فوج، وإذا أنا بابنتي التي ماتت قد أشرفت علي معهم، فلما رأتني بكت وقالت: أبي والله، ثم وثبت في كفة من نور كرمية السهم حتى مثلت بين يدي، فمدت يدها الشمال إلى يدي اليمنى، فتعلقت بها ومدت يدها اليمنى إلى التنين فولى هاربا، ثم أجلستني، وقعدت في حجري، وضربت بيدها اليمنى إلى لحيتي/ وقالت يا أبت:{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } (الحديد:16)، فبكيت: وقلت: يا بنية وأنتم تعرفون القرآن، فقالت: يا أبت نحن أعرف به منكم، قلت: فأخبريني عن التنين الذي أراد أن يهلكني، قالت: ذلك عملك السوء قويته، فأراد أن يغرقك في نار جهنم، قلت: فأخبريني عن الشيخ الذي مررت به في طريقي، قالت: يا أبت ذلك عملك الصالح أضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء، قلت: يا بنية وما تصنعون في هذا الجبل؟ قالت نحن أطفال المسلمين قد أسكنا فيه إلى أن تقوم الساعة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم.. فانتبهت فزعا، وأصبحت، فأرقت المسكر، وكسرت الآنية، وتبت إلى الله عز وجل)
ثم حدثني عن فضل الله على عباده بقبوله لهم إذا رجعوا إليه.. وقرأ علي من القرآن الكريم آيات سمعت الله يحدثني فيها عن نفسه، وأنه لطيف بعباده عليم بهم يغفر خطاياهم وذنوبهم..
سأقرأ عليكم بعض ما قرأه لتدركوا عظم فضل الله على عباده:
قال تعالى:{ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (البقرة:225)
وقال:{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران:31)
وقال:{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران:129)
وقال:{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة:34)
وقال:{ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة:39)
وقال:{ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة:74)
وقال:{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة:98)
وقال:{ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام:54)
وقال:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (لأنفال:70)
وقال:{ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة:27)
وقال:{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة:102)
وقال:{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (:15)
وقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الحديد:28)
انظروا كيف يخلص إله المسلمين عباده من كل حرج.. إنه لا يطلب منهم أن يلجأوا لأي كاهن ولا لأي رجل دين.. بل يكفيهم أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه.. فليس لأحد سلطان المغفرة إلا لله.. كما قال تعالى:{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (التوبة:104)، وقال:{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } (الشورى:25)
أما البشر.. فإن سلطانهم الوحيد الذي أتيح لهم في هذا الباب أن يستغفر بعضهم لبعض.. ويعفو بعضهم عن بعض.. لقد خول الله تعالى ذلك لرسول الله كما خوله لكل مؤمن بغض النظر عن رتبته ووظيفته، قال تعالى يخاطب رسوله في شأن أصحابه:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)
وقال يخاطبه في شأن أعدائه:{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة:13)
بل إن الله تعالى قد منع رسوله مع عظيم مرتبته وقربه من حق الاستغفار في بعض المحال، فقال تعالى:{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:80)
وأخبره عن إبراهيم u أن استغفاره لأبيه لم يكن إلا بسبب موعد وعده إياه.. قال تعالى:{ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة:114)
ثم حدثني عن الآثار الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي تملأ المؤمن أملا يقينا في فضل الله على عباده بقبولهم إذا رجعوا إليه.. اسمحوا لي أن أذكر لكم بعض ما ذكر لي من النصوص المقدسة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتمتلئوا بمعانيها كما وفقني الله فامتلأت..
لقد كان منها هذا الأثر الإلهي العظيم الذي لم أجد مثله في أي سفر من أسفارنا المقدسة.. (يا ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى.. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك.. يا ابن آدم إنك لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة)([16])
لقد هزني هذا الأثر هزا.. بل جعلني أشعر بقرب الله وفضله وكرمه العظيم.. مما لم أشعر بمثله في حياتي قط.
وكان منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(والذى نفسى بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله لغفر لكم)([17])
وكان منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهو يقرب حب الله لتوبة عبده وقبوله لهم إذا رجعوا إليه:(لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ، وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده، عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده) ([18])
وكان منها هذا الأثر الإلهي الذي يحكيه صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه من قوله لعباده:(إذا تقرب إلي العبد شبرا تقربت إليه ذراعا وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة) ([19])، وقوله:(يا ابن آدم قم إلي أمش إليك وامش إلي أهرول إليك) ([20])
وكان منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن شئتم أنبأتكم ما أول ما يقول الله – عز وجل – للمؤمنين يوم القيامة وما أول ما يقولون له؟)، فقال الصحابة: نعم يا رسول الله، فقال: (إن الله – عز وجل – يقول للمؤمنين هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا.. فيقول: لم؟ فيقولون:(رجونا عفوك ومغفرتك)، فيقول: (قد وجبت لكم مغفرتي)([21])
وكان منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(بينما رجل مستلق إذ نظر إلى السماء وإلى النجوم فقال: إنى لأعلم أن لك ربا خالقا، اللهم اغفر لى فغفر له) ([22])
وأخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينشر الأمل في نفوس الخطائين، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف)([23])
وأخبرني أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: واذنوباه، مرتين أو ثلاثا.. فقال له النبى صلى الله عليه وآله وسلم: قل: اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبى، ورحمتك أرجى عندى من عملى، فقالها ثم قال له: عد، فعاد، ثم قال له: عد، فعاد، فقال له: (قم قد غفر الله لك)([24])
ثم سار بي إلى بعض الحكماء.. ومن أفواههم تلقيت من حكمة الأمل في عفو الله ما ملأ صدري اتساعا..
ومما رووه لي ما أوحاه الله تعالى إلى داود u من قوله:(أحبني وأحب من يحبني وحببني إلى خلقي)، فقال:(يا رب، كيف أحببك إلى خلقك؟)، قال:(اذكرني بالحسن الجميل واذكر آلائي وإحساني وذكرهم ذلك فإنهم لا يعرفون مني إلا الجميل)
وحدثوني أن لصاً كان يقطع الطريق في بني إسرائيل أربعين سنة، فمر عليه عيسى u وخلفه عابد من عباد إسرائيل من الحواريين، فقال اللص في نفسه: هذا نبي الله يمر وإلى جنبه حواريه لو نزلت فكنت معهما ثالثاً، قال: فنزل يريد أن يدنو من الحواري ويزدري نفسه تعظيماً للحواري ويقول في نفسه: مثلي لا يمشي إلى جنب هذا العابد، قال: وأحس الحواري به، فقال في نفسه: هذا يمشي إلى جانبي، فضم نفسه ومشى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، فمشى بجنبه فبقي اللص خلفه، فأوحى الله تعالى إلى عيسى – عليه الصلاة والسلام -: (قل لهما ليستأنفا العمل)
وحدثوني أنه كان في بني إسرائيل شاب عبد الله تعالى عشرين سنة، ثم عصاه عشرين سنة، ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته، فساءه ذلك، فقال: (إلهي إني أطعتك عشرين سنة، ثم عصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟) فسمع قائلاً يقول – ولا يرى شخصاً -: (أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأهملناك وإن رجعت إلينا قبلناك)
وحدثوني أنّ رجلاً من بني إسرائيل كان يقنط الناس ويشدّد عليهم، فيقول الله تعالى يوم القيامة له:(اليوم أويسك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها)
وحدثوني أن عليا قال لرجل أخرجه الخوف إلى القنوط لكثرة ذنوبه: (يا هذا يأسك من رحمة الله أعظم من ذنوبك)
وحدثوني عن محمد الباقر قوله: (أنتم أهل العراق تقولون أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله:{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (الزمر:53)، ونحن – أهل البيت – نقول: أرجى آية في كتاب الله تعالى قوله تعالى:{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى:5)
ورووا لي عن الجنيد قوله: (إن بدت عين من الكرم ألحقت المسيئين بالمحسنين)
ورووا عن أبان بن أبـي عياش أنه رئي في النوم، وكان يكثر ذكر أبواب الرجاء فقال: أوقفني الله تعالى بـين يديه فقال: ما الذي حملك على ذلك؟ فقلت: أردت أن أحببك إلى خلقك، فقال: قد غفرت لك)
ورووا أنه لقي في حياته مالكا بن دينار، فقال له: إلى كم تحدث الناس بالرخص؟ فقال: يا أبا يحيـى، إني لأرجو أن ترى من عفو الله يوم القيامة ما تخرق له كساءك هذا من الفرح.
وحدثوني أن يحيـى بن معاذ كان يقول في مناجاته: يكاد رجائي لك من الذنوب يغلب رجائي إياك مع الأعمال؛ لأني أعتمد في الأعمال على الإخلاص وكيف أحرزها وأنا بالآفة معروف، وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف.
ثم سار بي إلى قوم من الناس.. لم يحدثوني إلا بما تسلم له العقول السليمة..
قال لي أحدهم: تأمل([25]) – يا أخي – فضل الله على عباده.. وانظر لطائف نعمه عليهم في الدنيا، وعجائب حكمه التي راعاها في فطرة الإنسان حتى أعد له في الدنيا كل ما هو ضروري له في دوام الوجود كآلات الغذاء وما هو محتاج إليه كالأصابع والأظافر، وما هو زينة له كاستقواس الحاجبين واختلاف ألوان العينين وحمرة الشفتين وغير ذلك مما كان لا ينثلم بفقده غرض مقصود.. وإنما كان يفوت به مزية جمال.
فالعناية الإلهية التي لم تقصر عن عباد الله في أمثال هذه الدقائق حتى لم يرض لعباده أن تفوتهم المزايد والمزايا في الزينة والحاجة كيف يرضى بسياقهم إلى الهلاك المؤبد.
قال آخر: بل إذا نظر الإنسان نظراً شافياً علم أن أكثر الخلق قد هيئ له أسباب السعادة في الدنيا، حتى إنه يكره الانتقال من الدنيا بالموت، وإن أخبر بأنه لا يعذب بعد الموت أبداً مثلاً أو لا يحشر أصلاً، فليست كراهتهم للعدم إلا لأن أسباب النعم أغلب لا محالة، وإنما الذي يتمنى الموت نادر، ثم لا يتمناه إلا في حال نادرة ورافعة هاجمة غريبة، فإذا كان حال أكثر الخلق في الدنيا الغالب عليه الخير والسلامة، فسنة الله لا تجد لها تبديلاً، فالغالب أن أمر الآخرة هكذا يكون، لأن مدبر الدنيا والآخرة واحد، وهو غفور رحيم لطيف بعباده متعطف عليهم.
قال آخر: وانظر في حكمة الشريعة وسنتها في مصالح الدنيا ووجه الرحمة للعباد بها، حتى كان بعض العارفين يرى آية المداينة في البقرة من أقوى أسباب الرجاء. فقيل له: وما فيها من الرجاء؟ فقال: الدنيا كلها قليل، ورزق الإنسان منها قليل، والدين قليل عن رزقه، فانظر كيف أنزل الله تعالى فيه أطول آية ليهدي عبده إلى طريق الاحتياط في حفظ دينه، فكيف لا يحفظ دينه الذي لا عوض له منه؟
وقال آخر: الناظرون بنور البصائر، المستمدون من أنوار القرآن علموا أن كل قلب سليم مقبول عند الله ومتنعم في الآخرة في جوار الله تعالى.. وعلموا ان القلب خلق سليماً في الأصل، وكل مولود يولد على الفطرة، وإنما تفوته السلامة بكدورة ترهق وجهه من غبرة الذنوب وظلمتها.. وعلموا أن نار الندم تحرق تلك الغبرة، وأن نور الحسنة يمحو عن وجه القلب ظلمة السيئة، وأنه لا طاقة لظلام المعاصي مع نور الحسنات كما لا طاقة لظلام الليل مع نور النهار، بل كما لا طاقة لكدورة الوسخ مع بياض الصابون.
وكما أن الثوب الوسخ لا يقبله الملك لأن يكون لباسه، فالقلب المظلم لا يقبله الله تعالى لأن يكون في جواره..
وكما أن استعمال الثوب في الأعمال الخسيسة يوسخ الثوب، وغسله بالصابون والماء الحار ينظفه لا محالة، فاستعمال القلب في الشهوات يوسخ القلب، وغسله بماء الدموع وحرقة الندم ينظفه ويطهره ويزكيه، وكل قلب زكي طاهر فهو مقبول، كما أن كل ثوب نظيف فهو مقبول.
لأجل كل ذلك وغيره عليك بالتوبة والتزكية والتطهير.. وأما القبول فمبذول قد سبق به القضاء الأزلي الذي لا مرد له.
وقال آخر: لا تتوهم أن التوبة تصح ولا تقبل.. فإنك أن فعلت ذلك صرت كمن يتوهم أن الشمس تطلع والظلام لا يزول، والثوب يغسل بالصابون والوسخ لا يزول.
قاطعه آخر، وقال: إلا أن يغوص الوسخ لطول تراكمه في تجاويف الثوب وخلله فلا يقوى الصابون على قلعه.. فمثال ذلك أن تتراكم الذنوب حتى تصير طبعاً وريناً على القلب فمثل هذا القلب لا يرجع ولا يتوب.. نعم قد يقول باللسان تبت فيكون ذلك كقول القصار بلسانه قد غسلت الثوب.. وذلك لا ينظف الثوب أصلاً ما لم يغير صفة الثوب باستعمال ما يضاد الوصف المتمكن به.
بعد أن أيقنت بفضل الله على عباده بمغفرة ذنوبهم من غير حاجة إلى دم يسفك، أو اعتراف بين يدي أي أحد من خلقه.. وبعد أن امتلأت نفسي رجاء لذلك.. وصرت من حيث لا أشعر أحتقر ما وقعت فيه من الذنب بجانب فضل الله.. جاءني الفضيل، وقال: لقد عبرت المرحلة الأولى.. ولو وقفت عندها لسقطت بك في هاوية لا تقل عن الهاوية التي كنت فيها.
قلت: وما هي هذه الهاوية؟
قال: هاوية الأماني.. فالرجاء إن لم يضبط بضابط الخشية تحول إلى أماني تبعد صاحبها عن الله.. لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال:(الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانى) ([26])
بل ذكر ذلك ربنا – تبارك وتعالى – فقال محذرا لعباده:{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً } (النساء:123)
وقال محذرا لهم من الوقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب من قبلهم حين سقطوا في هاوية الغرور:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (لأعراف:169).. وقال:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25} (البقرة).. وقال:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (المائدة:18)
قلت: أراك تريد أن ترتد على ما لقنني إياه أهل الله من سعة فضل الله؟
قال: لا.. لا أريد أن أمحو تلك المعرفة العظيمة التي تنطق بها كل الحقائق.. ولكني أريد أن أحفظك من سوء التعامل معها.
قلت: هل يمكن أن يسيء أحد من الناس التعامل مع الحقائق؟
قال: أجل.. وقد ضرب لنا القرآن الكريم الأمثلة على ذلك.. وكان منها مثل الذي اغتر بآيات الله التي وهبت له، فراح يسقط في أودية الهوى.. قال تعالى:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) } (الأعراف)
وكان منها مثل اليهود الذين وضعهم الله في محل أفضلية، فأرسل لهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ليكونوا أنموذجا للأمة الصالحة.. لكنهم اغتروا وراحوا يستعلون على خلق الله بما آتاهم الله من فضله.. لقد ذكر الله ذلك عنهم، ورد عليهم، فقال:{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) } (البقرة)
هذه أمثلة قرآنية.. وإن شئت أمثلة من الواقع، فلن تعدمها.. ألست ترى الكريم يرتد عليه اللئيم؟
قلت: بلى..
قال: فهكذا الأمر في تعامل عباد الله مع ربهم.. فمنهم من يهجم به ما يتوهمه رجاء على معصية الله.. فيغفل عن الله، ويسلك غير السبيل الذي أمر بسلوكه.
قلت: فما المخرج؟
قال: لقد سرت المرحلة الأولى التي قطعت بها حجاب اليأس والقنوط.. والآن عليك أن تسير المرحلة الثانية.. والتي تقطع بها حجاب الغرور والأماني.
قلت: فهل ستسير بي؟
قال: لقد ذكرت لك أن الله هو الذي يسير بنا.. فهلم معي إلى نفر من أولياء الله لترى من أحوالهم.. وتسمع من أحاديثهم ما ييسر عليك قطع هذه المرحلة.
سرت معه إلى غابة كانت في ضاحية المدينة.. وأمام شجرة من أشجارها رأيت رجلا ممتلئا بالأنوار.. يخاطب نفسه، وكأنه يخاطب غريمه.. وكان مما سمعته منه قوله([27]):(يا نفس.. ما أعظم جهلك.. تدعين الحكمة والذكاء والفطنة، وأنت أشد الناس غباوة وحمقا..
أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار، وأنك صائرة إلى إحداهما على القرب.. فما لك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو، وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم، وعساك اليوم تختطفين أو غدا، فأراك ترين الموت بعيدا، ويراه الله قريبا.
أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن البعيد ما ليس بآت..
أما تعلمين أن الموت يأتى بغتة من غير تقديم رسول، ومن غير مواعدة ومواطأة، وأنه لا يأتى في شىء دون شىء، ولا في شتاء دون صيف، ولا في صيف دون شتاء.
ويحك يا نفس.. إن كانت جراءتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك، وإن كان مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك وأقل حياءك.
ويحك يا نفس.. لو واجهك أخ من إخوانك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه ومقتك له، فبأى جسارة تتعرضين لمقت الله وغضبه وشديد عقابه.. أفتظنين أنك تطيقين عذابه.. هيهات هيهات جربى نفسك إن ألهاك البطر عن أليم عذابه فاحتبسى ساعة في الشمس أو قربى أصبعك من النار ليتبين قدر طاقتك..
أتغترين بكرم الله وفضله واستغنائه عن طاعتك وعبادتك، فما لك لا تعولين على كرم الله تعالى في مهمات دنياك، فإذا قصدك عدو فلم تستنبطين الحيل في دفعه ولا تكلينه إلى كرم الله تعالى.
ويحك يا نفس.. ما أعجب نفاقك ودواعيك الباطلة، فإنك تدعين الإيمان بلسانك، وأثر النفاق ظاهر عليك: ألم يقل لك سيدك ومولاك:{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } (هود:6) بينما قال في شأن الآخرة:{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } (لنجم:39).. فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة وصرفك عن السعى فيها فكذبته بأفعالك، وأصبحت تتكالبين على طلبها تكالب المدهوش المستهتر.. ووكل أمر الآخرة إلى سعيك فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر.. ما هذا من علامات الإيمان، لو كان الإيمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟
ويحك يا نفس.. كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب، وتظنين أنك إذا مت انفلت وتخلصت.. وهيهات هيهات.. أتحسبين أنك تتركين سدى؟.. فإن كان هذا من إضمارك فما أكفرك وأجهلك.. أما تتفكرين أنه مماذا خلقك: من نطفة خلقك فقدرك، ثم السبيل يسرك، ثم أماتك فأقبرك، أفتكذبينه في كونه إذا شاء أنشرك.. فإن لم تكونى مكذبة، فما لك لا تأخذين حذرك، ولو أن شخصا أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك في مرضك لصبرت عنه وتركته وجاهدت نفسك فيه.. أفكان قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات وقول الله تعالى في كتبه المنزلة أقل عندك تأثيرا من قول يهودى يخبرك عن حدس وتخمين وظن مع نقصان عقل وقصور علم..
بل العجب أنه لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقربا لرميت ثوبك في الحال من غير مطالبة له بدليل وبرهان، أفكان قول الأنبياء والعلماء والحكماء وكافة الأولياء أقل عندك من قول صبى من جملة الأغبياء، أم صار حر جهنم وأغلالها وأنكالها وزقومها ومقامعها وصديدها وسمومها وأفاعيها وعقاربها أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمها إلا يوما أو أقل منه؟
ما هذه أفعال العقلاء.. بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك وسخروا من عقلك، فإن كنت يا نفس قد عرفت جميع ذلك وآمنت به فما لك تسوفين العمل والموت لك بالمرصاد ولعله يختطفك من غير مهلة، فبماذا أمنت استعجال الأجل، وهبك أنك وعدت بالإمهال مائة سنة أفتظنين أن من يطعم الدابة في حضيض العقبة يفلح ويقدر على قطع العقبة بها.. إن ظننت ذلك فما أعظم جهلك.
ويحك يا نفس.. لا ينبغى أن تغرك الحياة الدنيا، ولا يغرنك بالله الغرور.. فانظرى لنفسك فما أمرك بمهم لغيرك، ولا تضيعى أوقاتك.. فالأنفاس معدودة، فإذا مضى منك نفس فقد ذهب بعضك، فاغتنمى الصحة قبل السقم، والفراغ قبل الشغل، والغنى قبل الفقر، والشباب قبل الهرم، والحياة قبل الموت، واستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها.
ويحك يا نفس.. انزعى عن جهلك، وقيسى آخرتك بدنياك، فما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة، وكما بدأنا أول خلق نعيده، وكما بدأكم تعودون، وسنة الله تعالى لا تجدين لها تبديلا ولا تحويلا.
ويحك يا نفس.. ما أراك إلا ألفت الدنيا، وأنست بها، فعسر عليك مفارقتها، وأنت مقبلة على مقاربتها، وتؤكدين في نفسك مودتها، فاحسن أنك غافلة عن عقاب الله وثوابه وعن أهوال القيامة وأحوالها فما أنت مؤمنة بالموت المفرق بينك وبين محابك، أفترين أن من يدخل دار ملك ليخرج من الجانب الآخر فمد بصره إلى وجه مليح يعلم أنه يستغرق ذلك قلبه ثم يضطر لا محالة إلى مفارقته أهو معدود من العقلاء أم من الحمقى؟
أما تعلمين أن الدنيا دار لملك الملوك ومالك فيها إلا مجاز وكل ما فيها لا يصحب المجتازين بها بعد الموت.
***
هزني هذا الكلام هزا، فالتفت إلى الفضيل الذي كانت عيناه تغرورقان بالدموع، وقلت: من هذا؟.. وماذا يفعل؟
قال: هذا رجل من أهل الله.. كان مسرفا على نفسه.. وكانت له أم صالحة.. وكانت لا تكف عن وعظه، تقول له: يا بني اذكر مصارع الغافلين قبلك، وعواقب البطالين قبلك، اذكر نزول الموت.. فلم يزل كذلك حتى قدم رجل من أهل الله يقال له (أبو عامر البناني)، وكان واعظ أهل الحجاز، ووافق قدومه رمضان، فسأله إخوانه أن يجلس لهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأجابهم، وجلس ليلة الجمعة بعد انقضاء التراويح، واجتمع الناس، وجاء الفتى فجلس مع القوم، فلم يزل أبو عامر يعظ وينذر ويبشر إلى أن ماتت القلوب فرقا واشتاقت النفوس إلى ربها وإلى فضل ربها.. فوقعت الموعظة في قلبه.. فتغير لونه، ثم نهض إلى أمه فبكى عندها طويلا، ثم قال:
زممت للتوبة أجمالي = ورحت قد طاوعت عذالي
وأبت والتوبة قد فتحت = من كل عضو لي أقفالي
لما حدا الحادي بقلبي إلى = طاعة ربي فك أغلالي
أجبته لبيك من موقظ = نبه بالتذكار سعيد أغفالي
كر يا أم هل يقبلني سيدي = على الذي قد كان من حالي
واسوءتا قد إن ردني خائبا = ربي ولم يرض بإقبالي
ثم قال: (إلهي عصيتك قويا، وأسخطتك جلدا.. وها أنا أريد التوجه إليك، وأنا ضعيف..وأريد خدمتك وأنا نحيف.. فليت شعري هل تقبلني؟)
قال ذلك.. ثم جد في العبادة واجتهد.. إلى أن لاحت عليه أنوارها.. وامتلأ قلبه بأسراها.
بعد أن انتهى الرجل من حسابه لنفسه، اقتربنا منه، وقلت له: كأني بك لم تسمع ما ورد في سعة فضل الله.. فلذلك أراك تحاسب نفسك محاسبة الغريم.. بل تحاسبها محاسبة العدو لعدوه.
قال: وما لي لا أحاسبها.. وقد جربتها عندما أرخيت لها العنان، فأسقطتني في المهالك التي لولا أن الله أنقذني منها لكنت من الهالكين..
قال ذلك، ثم نظر إلى الأفق البعيد، وراح يردد بصوت ممتلئ بحشرجة الدموع([28]): إن لله عباداً نصبوا أشجار الخطايا نصب روامق القلوب، وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندماً وحزناً، فجنوا من غير جنون، وتبلدوا من غير عي ولا بكم، وإنهم هم البلغاء الفصحاء العارفون بالله ورسوله، ثم شربوا بكأس الصفاء فورثوا الصبر على طول البلاء، ثم تولهت قلوبهم في الملكوت وجالت أفكارهم بين سرايا حجب الجبروت، واستظلوا تحت رواق الندم وقرؤوا صحيفة الخطايا فأورثوا أنفسهم الجزع حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع، فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا، واستلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بحبل النجاة وعروة السلامة، وسرحت أرواحهم في العلا حتى أناخوا في رياض النعيم وخاضوا في بحر الحياة وردموا خنادق الجزع وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم واستقوا من غدير الحكمة وركبوا سفينة الفطنة وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى وصلوا إلى رياض الراحة ومعدن العز والكرامة، فهذا القدر كاف في بيان أن كل توبة صحيحة مقبولة لا محالة.
قلت: أفلا تحدثني بالذي حركك إلى هذه الحال.. فإني أجد قلبي قاسيا دونها.
قال: لقد حدثني شيخي (أبا عامر البناني) الذي فتح الله قلبي على يديه أن الناس في الآخرة ينقسمون إلى أربعة أصناف([29]): هالكين، ومعذبين، وناجين، وفائزين.
وضرب لي مثلا على ذلك من الدنيا بأن أي حاكم إذا استولى على إقليم من الأقاليم، فإنه يقتل بعضهم، وهم الهالكون، ويعذب بعضهم مدة ولا يقتلهم فهم المعذبون، ويخلى بعضهم فهم الناجون، ويخلع على بعضهم فهم الفائزون.
وهكذا، فإن الناس في الآخرة هكذا يتفاوتون، فمن هالك، ومن معذب مدة، ومن ناج يحل في دار السلامة ومن فائز.
والفائزون ينقسمون إلى من يحلون في جنات عدن، أو جنات المأوى، أو جنات الفردوس.
والمعذبون ينقسمون إلى من يعذب قليلاً، وإلى من يعذب ألف سنة.. وإلى من يعذب أكثر من ذلك.
وكذلك الهالكون الآيسون من رحمة الله تتفاوت دركاتهم.
قلت: فحدثني عن رتبة الهالكين([30]).. ومن هم أهلها؟
قال: لقد ذكر لي شيخي عن أشياخه أن هذه الرتبة لا تكون إلا للجاحدين، والمعرضين المتجردين للدنيا، المكذبين بالله ورسله وكتبه.. فإن السعادة الأخروية في القرب من الله والنظر إلى وجهه، وذلك لا ينال أصلاً إلا بالمعرفة التي يعبر عنها بالإيمان والتصديق، والجاحدون هم المنكرون، والمكذبون هم الآيسون من رحمة الله تعالى أبد الآباد وهم الذين يكذبون برب العالمين وبأنبيائه المرسلين، إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا محالة، وكل محجوب من محبوبه فمحول بينه وبين ما يشتهيه لا محالة فهو لا محالة يكون محترقاً نار جهنم بنار الفراق، ولذلك قال العارفون: (ليس خوفنا من نار جهنم، ولا رجاؤنا للحور العين، وإنما مطالبنا اللقاء، ومهربنا من الحجاب فقط)
قلت: عرفت هذه الرتبة.. وامتلأ قلبي مخافة منها.. فحدثني عن رتبة المعذبين.. ومن هم أهلها؟
قال: لقد ذكر لي شيخي عن أشياخه أن هذه الرتبة هي رتبة من تحلى بأصل الإيمان، ولكن قصر في الوفاء بمقتضاه، فإن رأس الإيمان هو التوحيد، وهو أن لا يعبد إلا الله، ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهه هواه، فهو موحد بلسانه لا بالحقيقة..
لقد رتب الله الاستقامة على الإيمان، فقال:{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } (الاحقاف:13)، وقال:{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } (فصلت:30)
ولما كان الصراط المستقيم الذي لا يكون التوحيد إلا بالاستقامة عليه أدق من الشعر وأحد من السيف مثل الصراط الموصوف في الآخرة، فلا ينفك بشر عن ميل عن الاستقامة ولو في أمر يسير، إذ لا يخلو عن اتباع الهوى ولو في فعل قليل، وذلك قادح في كمال التوحيد بقدر ميله عن الصراط المستقيم، فذلك يقتضي لا محالة نقصاناً في درجات القرب، ومع كل نقصان ناران: نار الفراق لذلك الكمال الفائت بالنقصان، ونار جهنم كما وصفها القرآن، فيكون كل مائل عن الصراط المستقيم معذباً مرتين من وجهين.
ولكن شدة ذلك العذاب وخفته وتفاوته بحسب طول المدة إنما يكون بسبب أمرين، أحدهما: قوة الإيمان وضعفه، والثاني: كثرة اتباع الهوى وقلته، وإذ لا يخلو بشر في غالب الأمر عن واحد من الأمرين، قال الله تعالى:{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً } (مريم:71)
ولذلك قال أولياء الله العارفون به: (إنما خوفنا لأنا تيقنا أنا على النار واردون وشككنا في النجاة)
ولذلك، فإن مدة الورود تختلف بحسب استقامة العبد.. فقد يجوز بعضهم على النار كبرق خاطف ولا يكون له فيها لبث، بين اللحظة وبين سبعة آلاف سنة درجات متفاوتة من اليوم والأسبوع والشهر وسائر المدد وأن الاختلاف بالشدة لا نهاية لأعلاه، وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب.. كما أن الملك – في الدنيا – قد يعذب بعض المقصرين في الأعمال بالمناقشة في الحساب ثم يعفو، وقد يضرب بالسياط، وقد يعذب بنوع آخر من العذاب.
ويتطرق إلى العذاب اختلاف ثالث في غير المدة والشدة، وهو اختلاف الأنواع، إذ ليس من يعذب بمصادرة المال فقط كمن يعذب بأخذ المال، وقتل الولد، واستباحة الحريم، وتعذيب الأقارب، والضرب.. فهذه الاختلافات ثابتة في عذاب الآخرة دل عليها قواطع الشرع، وهي بحسب اختلاف قوة الإيمان وضعفه وكثرة الطاعات وقلتها وكثرة السيئات وقلتها.
أما شدة العذاب فبشدة قبح السيئات وكثرتها، وأما كثرته فبكثرتها، وأما تنوعه، فبحسب اختلاف أنواع السيئات.
وهذا هو المعني الذي يشير إليه قوله تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } (فصلت:46)، وقوله تعالى:{ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } (غافر:17)، وقوله تعالى:{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } (النجم:39)، وقوله تعالى:{ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (الزلزلة)، إلى غير ذلك مما ورد في النصوص المقدسة من كون العقاب والثواب جزاء على الأعمال.. وكل ذلك بعدل لا ظلم فيه، وجانب العفو والرحمة أرجح([31]).
قلت: فهلا ذكرت لي ما عساه يلين من قبي ما قسا؟
قال: لقد ذكر لي أن كل من أحكم أصل الإيمان، واجتنب جميع الكبائر، وأحسن جميع الفرائض من الأركان التي جاء بها الإسلام، ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لم يصر عليها.. فإن هذا يشبه أن يكون عذابه المناقشة في الحساب فقط.. فإنه إذا حوسب رجحت حسناته على سيئاته، إذ ورد في الأخبار أن الصلوات الخمسة والجمعة وصوم رمضان كفارات لما بينهن، وكذلك اجتناب الكبائر بحكم نص القرآن مكفراً للصغائر، وأقل درجات التكفير أن يدفع العذاب إن لم يدفع الحساب، وكل من هذا حاله فقد ثقلت موازينه، فينبغي أن يكون بعد ظهور الرجحان في الميزان وبعد الفراغ من الحساب في عيشة راضية.
نعم التحاقه بأصحاب اليمين أو المقربين ونزوله في جنات عدن أو في الفردوس الأعلى، يتبع أصناف الإيمان، لأن الإيمان إيمانان: تقليدي كإيمان العوام يصدقون بما يستمعون ويستمرون عليه، وإيمان كشفي يحصل بانشراح الصدر بنور الله حتى ينكشف فيه الوجود كله على ما هو عليه، فيتضح أن الكل إلى الله مرجعه ومصيره، فهذا الصنف هم المقربون النازلون في الفردوس الأعلى، وهم على غاية القرب من الملأ الأعلى.
هذا صنف من يناقش الحساب.. وهم من وقاهم الله من الوقوع في الكبائر..
أما من ارتكب كبيرة أو كبائر، أو أهمل بعض أركان الإسلام، فإن تاب توبةً نصوحاً قبل قرب الأجل التحق بمن لم يرتكب، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والثوب المغسول كالذي لم يتوسخ أصلاً.
أما إن مات قبل، فإن أمره مخطر عند الموت، إذ ربما يكون موته على الإصرار سبباً لتزلزل إيمانه، فيختم له بسوء الخاتمة، لا سيما إذا كان إيمانه تقليدياً، فإن التقليد وإن كان جازماً فهو قابل للانحلال بأدنى شك وخيال، والعارف البصير أبعد أن يخاف عليه سوء الخاتمة، وكلاهما إن ماتا على الإيمان يعذبان – إلا أن يعفو الله – عذاباً يزيد على عذاب المناقشة في الحساب، وتكون كثرة العقاب من حيث المدة بحسب كثرة مدة الإصرار، ومن حيث الشدة بحسب قبح الكبائر، ومن حيث اختلاف أصناف السيئات، وعند انقضاء مدة العذاب ينزل البله المقلدون في درجات أصحاب اليمين، والعارفون المستبصرون في أعلى عليين.
وقد حدثني عن أشياخه أن أكثر ما يدخل الموحدين النار مظالم العباد، فديوان العباد هو الديوان الذي لا يترك، فأما بقية السيئات، فيتسارع العفو والتكفير إليها، ففي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (أتدرون ما المفلس؟) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: (إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار) ([32])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم) ([33])
قلت: عرفت هذه الرتبة.. فحدثني عن رتبة الناجين.. ومن هم أهلها؟
قال: لقد ذكر لي شيخي عن أشياخه أن هذه الرتبة هي رتبة من لم يخدموا فتخلع عليهم الجوائز، ولم يقصروا فيعذبوا.
قلت: فهل يوجد مثل هؤلاء؟
قال: لقد ذكر لي شيخي عن أشياخه أن هذا حال المجانين والصبيان من الكفار والمعتوهين والذين لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد([34])، وعاشوا على البله وعدم المعرفة، فلم يكن لهم معرفة ولا جحود، ولا طاعة ولا معصية، فلا وسيلة تقربهم ولا جناية تبعدهم، فما هم من أهل الجنة ولا من أهل النار.
قلت: على العموم.. لا علاقة لي بهذه الرتبة.. فحدثني عن الرتبة الأخير.. تلك الرتبة التي ذكرت أنها رتبة الفائزين.
قال: الفائزون هم المقربون السابقون.. الذين ذكرهم الله، وذكر نعيمهم فقال:{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} (الواقعة)
وذكر نعيمهم، فقال:{ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (السجدة:17)
وذكرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال يحكي عن ربه – تبارك وتعالى -:(أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ([35])
قلت: لقد ملأتني شوقا إليهم.. فمن هم؟
قال: هؤلاء هم الذين لا يطلبون من الله إلا الله.. فهم لا يطلبون إلا لذة النظر إلى وجه الله الكريم.. فهو عندهم غاية السعادات، ونهاية اللذات.
وهم الذين يرددون كل حين مع رابعة العدوية – عندما أجابت من سألها: كيف رغبتك في الجنة؟ – فقالت: (الجار ثم الدار)
إنهم الذين شغلهم حب رب الدار عن الدار وزينتها، بل عن كل شيء سواه حتى عن أنفسهم.
وإن مثالهم مثال العاشق المستهتر بمعشوقه، المستوفي همه بالنظر إلى وجهه والفكر فيه، فهو – في حال الاستغراق – غافل عن نفسه، لا يحس بما يصيبه في بدنه.
قال ذلك، ثم رفع يديه إلى السماء، يقول: إلهى كيف أيأس من حسن نظرك بعد مماتى ولم تولنى إلا الجميل في حياتى.. إلهى إن كانت ذنوبى قد أخافتنى فإن محبتى لك قد أجارتنى، فتول من أمرى ما أنت أهله، وعد بفضلك على من غره جهله.
إلهى لو أردت إهانتى لما هديتنى، ولو أردت فضيحتى لم تسترنى، فمتعنى بما له هديتنى، وأدم لى ما به سترتنى.
إلهى ما أظنك تردنى في حاجة أفنيت فيها عمرى.
إلهى لولا ما قارفت من الذنوب ما خفت عقابك، ولولا ما عرفت من كرمك ما رجوت ثوابك.
***
تركناه، وانصرفنا إلى رجل آخر من أهل الله.. كان يعرف بين الناس بدينار العيار.. وقد رأيته كصاحبه جالسا مع نفسه، وهو يحمل عظما نخرا، وهو يقول:(ويحك.. كأني بك غدا قد صار عظمك هكذا رفاتا، والجسم ترابا، وأنا اليوم أقدم على المعاصي)
ثم رفع يديه إلى السماء، وقال: (إلهي إليك ألقيت مقاليد أمري إليك.. فاقبلني وارحمني)
بعد أن مررت على من ذكرت لكم من أهل الله وغيرهم شعرت في نفسي بآلام شديدة نتيجة تذكري للذنوب الكثيرة التي كانت تملأ نفسي بالظلمات.
قال سجين من السجناء: فأنت لم تتغير إذن.. فما فائدة تينك المرحلتين اللتين قطعتهما، وقد بدأت بالألم، وانتهيت إلى الألم؟
قال السجين: لا.. فرق كبير بين الألمين.. أما الألم الأول، فكان محفوفا باليأس والجهل والتخبط والأهواء والاستغلال.. وأما الثاني، فمحفوف بالأمل في فضل الله..
الألم الأول ألم المرض اليائس.. وأما الثاني، فألم المريض الراجي، وهو يتناول دواءه المر.. وفرق كبير بين الألمين..
قال السجين: فكيف خرجت من الألم؟
قال: لقد ذهبت إلى المرشد.. شيخي الفاضل (الفضيل بن عياض).. وقد أخبرني أني أصبحت جاهزا لقطع المرحلة الجديدة.. مرحلة التصحيح.
وقال لي: الرجوع إلى الله يقتضي علما بفضل الله، وبعظم ضرر الذنوب وكونها حجاباً بين العبد وبين مولاه..
فإذا عرف العبد ذلك معرفة محققة تألم قلبه لا محالة بسبب فوات المحبوب.. وهذا الألم هو الندم.. وقد اعتبره أولياء الله محرك التوبة الأكبر، ووقودها الأعظم.. ولذلك عرفوا التوبة بأنها (ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ).. وعرفوها بأنها (نار في القلب تلتهب، وصدع في الكبد لا ينشعب)
وهو لا يكفي ولا يؤثر إلا إذا كان له من القوة ما يدفع الإرادة لتدارك الأخطاء، وتصحيحها، وقد ذكر أولياء الله ذلك.. وعرفوا به الرجوع إلى الله، فقالوا في تعريفهم للتوبة إنها (خلع لباس الجفاء، ونشر بساط الوفاء)، وقال سهل التستري: (التوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة)
وهذا التصحيح يرتبط بالحال والماضي والاستقبال:
أما في الحال فبالترك للذنب الذي كان ملابساً له.
وأما في الاستقبال، فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر.
وأما في الماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر.
قلت: فكيف أجبر ما فات؟.. وكيف أصحح ما هو آت؟
قال: لكل ذنت من الذنوب عظم أو صغر ثلاثة آثار: آثار على علاقتك بالله، وآثار على علاقتك بنفسك، وآثار على علاقتك بالخلق.. والعاقل هو الذي يستثمر الألم ليحرك من الإرادة ما يصحح به ما فسد من هذه العلاقات.
قلت: فهلم سر بي لأصحح علاقتي مع الله.
قال: سأسير معك.. هلم بنا إلى سوق من الأسواق.. إنه سوق عجيب لن ترى فيه من البضاعة إلا ما يقربك لله.. إنه السوق الذي أشار إليه قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)} (فاطر)
وأشار إليه قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} (الصف)
سرت معه إلى هذا السوق العجيب الذي ذكره لي.. وقد تعجبت إذ رأيت في مدخله رجلا واقفا.. ليس أمامه شيء.. والناس ملتفون حوله، وهو يصيح فيهم قائلا: انتبهوا.. االمعاصي سلسلة في عنق العاصي لا يفكه منها إلا الاستغفاروالتوبة.. والصراط كثير الاضطراب تحت أقدام السالكين لا يسكنه إلا قول رب سلم سلم.. والنار مسعرة الضرام لا يطفئ لهيبها إلا نور الإيمان.. والموقف شديد الحر لا يكن منه إلا ظل العرش.. والقبر مطبق الظلمة لا ينوره إلا مصباح اليقين.. والجنة مغلقة الأبواب في وجوه طلابها لايفتحها إلا كلمة الإخلاص.. وشفاعة الرسول بغية كل مريد لا تنال إلا بالتوحيد.. والشيطان جاثم على قلب الإنسان لا يفر عنه إلا بالذكر..
اذكروا البر الرحيم كما يذكر الأحباب العشاق.. فمن مسه الشيطان ليس له غير ذكر الله ترياق.
يا فرسان ميدان ذكر الله أطلقوا الأعنة.. يا فرسان ميدان ذكر الله أشرعوا الأسنة، ولا تطعموا في وجدان حلاوة الذكر وقلوبكم مشغولة بوسواس الفكر.
كيف يكون حبيب الرحمن من هو للشيطان سمير؟ كيف يطمع في الوصول من لا يجد في المسير؟
تالله ووالله لا ينال العلى رخي البال، إنما تلك رتبة الأبطال.. خاطروا بالنفوس والأموال.. هكذا هكذا تنال المعال.
هزتني الموعظة كما هزت الجموع المحيطة بالرجل، فسألت الفضيل عنه، فقال: هذا رجل نذر نفسه أن يعظ عباد الله، ويرقق قلوبهم ليصححوا علاقتهم بالله.. إنه من بغداد.. ويقال له (ابن الجوزي) ([36])
سمعنا مواعظ أخرى منه، وبكينا كما بكت الجموع..
ثم سرت معه إلى محل من المحلات كان صاحبه ينشر أمامه مصحفا عتيقا.. وكان يقرأ من مواضع متفرقة منه بخشوع، والدموع تنهمر من عينيه، وكان جميع من يستمع إليه يبكي لبكائه..
كان من الآيات التي سمعتها منه قوله تعالى:{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة:199).. وقوله:{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285).. وغيرها من الآيات الكثيرة.
سألت الفضيل عنه، فقال: هذا رجل من أهل الله نذر نفسه لكتاب ربه.. فهو لا يتكلم به.. ولا يقرأ في حياته غيره.
قلت: فما باله لا يقرأ إلا آيات الاستغفار؟
قال: هو يطلب ممن حوله أن يستغفروا ربهم.. ويخبرهم أن ذلك هو شأن عباد الله الصالحين من الأولياء والمرسلين..
تركناه يرتل بخشوع.. والناس من حوله يخشعون لخشوعه.. ثم سرنا إلى محل من المحلات كان صاحبه ينشر أمامه أوراقا يقرأ منها أحاديث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسألت الفضيل عنه، فقال: هذا رجل من أهل الله.. نذر نفسه أن لا يذكر عباد الله إلا بأحاديث رسول الله.. إنه معروف في هذا السوق، وهم يلقبونه بابن أبي الدنيا([37]).
ابتسمت، وقلت: ولم لم يلقبوه بابن أبي الآخرة ما دام يذكرهم بالآخرة؟
قال: لقد لقبه بذلك رجال من أهل الدنيا.. كان لهم من الغنى والسعة ما لهم.. ولكنهم لم يجدوا من اللذة ما وجدوه في صحبته.. فلذلك أطلقوا عليه هذا اللقب.
سأذكر لكم بعض ما سمعت من هذا الرجل الفاضل:
لقد حدثنا عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال حاكيا عن ربه عز و جل:(يا ابن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني أغفر لكم.. وكلكم فقير إلا من أغنيت، فاسألوني أعطكم.. وكلكم ضال إلا من هديت، فاسألوني الهدى أهدكم.. ومن استغفرني، وهو يعلم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي.. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أشقى رجل واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة.. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زادوا في سلطاني مثل جناح بعوضة.. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر، وذلك أني جواد ماجد واحد عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون) ([38])
وحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاكيا عن ربه تبارك وتعالى:(يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي.. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي.. يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) ([39])
وحدثنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (قال إبليس: وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) ([40])
وحدثنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ألا أدلكم على دائكم ودوائكم.. ألا إن داءكم الذنوب، ودواءكم الاستغفار) ([41])
وحدثنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب) ([42])
وحدثنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفار كثير) ([43])
وحدثنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار) ([44])
وحدثنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما من مسلم يعمل ذنبا إلا وقف الملك ثلاث ساعات، فإن استغفر من ذنبه لم يكتبه عليه ولم يعذبه الله يوم القيامة) ([45])
وحدثنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر صقلت، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله تعالى:{ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين:14) ([46])
وحدثنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن للقلوب صدأ كصدإ النحاس، وجلاؤها الاستغفار) ([47])
وحدثنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فر من الزحف) ([48])
تركناه يروي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وانصرفنا إلى رجل آخر اجتمع الناس حوله يسألونه، ويجيبهم.. سألت الفضيل عنه، فقال: هذا مفتي التائبين.. إنه رجل من أهل الله يقال له (ابن رجب)
اقتربنا منه، فسمعنا سائلا يقول له: يا مولانا.. حدثنا عن أفضل طريقة للاستغفار حتى نسلكها؟
قال ابن رجب: أفضلها أن يبدأ العبد بالثناء على ربه.. ثم يثنى بالإعتراف بذنبه.. ثم يسأل الله المغفرة.. فهذا ما وردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(سيد الإستغفار أن يقول العبد: (اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك وأنا على عهدك، ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) ([49])
قال الرجل: فهل يقتصر على هذا؟
قال ابن رجب: لا.. لقد ورد التوسع في ذلك.. ومن ذلك أن يقول العبد: (أستغفر الله العظيم الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه).. فقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أن من قاله غفر له وإن كان فر من الزحف) ([50])
وعن خباب بن الأرت قال: قلت يا رسول الله كيف نستغفر؟ قال: قل (اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) ([51])
وفي الحديث: (ما رأيت أحدا أكثر أن يقول: (أستغفر الله وأتوب إليه) من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الرجل: فكم يستغفر فى اليوم؟
قال ابن رجب: كلما أكثر العبد من الاستغفار كان أفضل، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر فضل ذلك: (من أكثر من الإستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)([52])
وحدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه، فقال: (والله إنى لأستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة) ([53])
وفي حديث آخر قال:(إنه ليغان على قلبى، وإنى لأستغفر الله فى اليوم مائة مرة) ([54])
وعن حذيفة قال: قلت يا رسول الله إنى ذرب اللسان، وإن عامة ذلك على أهلى فقال: أين أنت من الإستغفار؟ إنى لأستغفر الله فى اليوم والليلة مائة مرة) ([55])
وحاسب بعضهم نفسه من وقت بلوغه، فإذا زلاته لا تجاوز ستا وثلاثين، فاستغفر الله لكل زلة مائة ألف مرة، وصلى لكل زلة ألف ركعة، وختم فى كل ركعة منها ختمة.. قال: (ومع ذلك فإنى غير آمن من سطوة ربى أن يأخذنى بها فأنا على خطر من قبول التوبة)
قال الرجل: فما تقول فيمن كثرت ذنوبه وسيئاته حتى فاقت العدد والإحصاء؟
قال ابن رجب: ليستغفر الله من الذنوب التي يعلمها، والتي لا يعلمها، فقد وعد الله بالمغفرة عليها جميعا، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب) ([56])
قال آخر: فما ما هو الاستغفار التام الموجب للمغفرة؟
قال ابن رجب: هو ما قارن عدم الإصرار على المعصية.. لقد ذكر الله ذلك، فقال:{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} (آل عمران)
انظر كيف قرن الله هذا الاستغفار بوعد أهله بالمغفرة.. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) ([57])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه) ([58])
قال الرجل: لقد ضيقت علينا بهذا الأبواب.. فمن يضمن لنفسه العصمة من الذنوب؟
قال ابن رجب: ليس المراد بعدم الإصرار عدم الوقوع.. فقد يصر الشخص على شيء ويعزم عليه، ولكنه ينكث عزمه.. فالمراد مما ذكرت هو أن يعاهد الله أن لا يقع في الذنب بجزم وتأكيد، فإن قدر ووقع في الذنب عاد إلى الاستغفار من جديد..
لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة) ([59])
وأخبرنا (أن عبدا أذنب ذنبا فقال: رب أذنبت ذنبا فاغفر لى، قال الله تعالى: علم عبدى أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدى. ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا آخر فذكر مثل الأول مرتين أخريين) ([60]).. وفى رواية أنه قال فى الثالثة: (قد غفرت لعبدى فليعمل ما شاء) ([61])
بعد أن نفح علينا من سوق التوبة ما نفح من أنوار الإيمان، رأيت كدورات كثيرة في نفسي، كتلك الكدورات التي يجدها من طال عهده بعدم دخول الحمام، فسألت صاحبي عنها، فقال: نفسك تطالبك بالاغتسال.. وهذا علامة صدقك في طريق التوبة، فأبشر.
قلت: فهل هناك حمام يمكن أن أغسل فيه نفسي من أدرانها؟
قال: أجل.. فكما للتوبة سوقها، لها حمامها.
قلت: فهلم بي إليه.. فما أحوج نفسي إلى الطهارة.
سرت معه إلى حمام التوبة.. وقد رأيت على بابه لافتة كتب فيها قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) } (البقرة)، فسألت الفضيل عنها، فقال: في هذه الآية الكريمة يقرن الله التوابين بالمتطهرين.. ليبين أن التوبة الحقيقية النصوح هي التي تطهر الروح من المعصية، ومن آثار المعصية، كما يطهر الماء الجسد من الأوساخ، وما تحدثه الأوساخ في الجسم من آثار.
قلت: فهما طهارتان إذن؟
قال: أجل.. ولا تكتمل إحداهما إلا بالأخرى.. وإلا كان نفاقا.. لقد قال أبو حامد يذم من بالغ في الطهارة الظاهرة غافلا عن أدرانه الباطن:(لقد انتهت النوبة الآن إلى طائفة يسمون الرعونة نظافة، فيقولون: هي مبنى الدين، فأكثر أوقاتهم في تزيينهم الظواهر، كفعل الماشطة بعروسها.. والباطن خراب مشحون بخبائث الكبر والعجب والجهل والرياء والنفاق ولا يستنكرون ذلك ولا يتعجبون منه، ولو اقتصر مقتصر على الاستنجاء بالحجر أو مشى على الأرض حافيا أو صلى على الأرض أو على بواري المسجد من غيرسجادة مفروشة أو مشى على الفرش من غير غلاف للقدم من أدم، أو توضأ من آنية عجوز أو رجل غير متقشف أقاموا عليه القيامة وشدوا عليه النكير ولقيوه بالقذر وأخرجوه من زمرتهم واستنكفوا عن مؤاكلته ومخالطته.. فسموا البذاذة التي هي من الإيمان قذارة، والرعونة نظافة.. فانظر كيف صار المنكر معروفا، والمعروف منكرا، وكيف اندرس من الدين رسمه كما اندرس حقيقته وعلمه) ([62])
قلت: فكيف أتخلص من هذه الرعونة التي تحدث عنها أبو حامد؟
قال: في هذا الحمام يوجد رجال كثيرون من أهل الله تعلموا عن ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف ينظفون البواطن..
قلت: فهلم بنا ندخل إليهم.. فما أحوج نفسي للطهارة.
دخلت معه.. فوجدت مظهرا عجيبا.. وجدت أقواما كثيرين من الناس.. كل منهم ينفرد برجل يخاطبه بكل أساليب الخطاب اللطيف منها والعنيف.. والعجيب أنهم مع كل هذه الزحمة لا يبدو عليهم الانشغال إلا بما هم فيه.. فلا يلتفت أحدهم للآخر، ولا يكاد ينتبه له.
سألت الفضيل عن عدم انشغال بعضهم ببعض، فذكر لي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا)، فسئل: يارسول الله النساء والرجال جميعا، ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض) ([63])
فسألته عن سر هذا الحديث، فقال: العاقل هو من بدأ بالنظر في عيوب نفسه، وانشغل بها، فلا يمكن أن يتطهر من لا ينظر في مرآة الروح ليرى ما لصق بروحه من أنواع الأدران.
قلت: فالنظر إلى النفس حجاب.
قال: والانشغال بعيوب الناس عن عيوب النفس أعظم منه.. فـ (ربما كنت مسيئاً فأراك الإحسان منك صحبتك إلى من هو أسوأ حالاً منك) ([64])
اقتربنا من أحد هؤلاء المتطهرين، فسمعنا المرشد يخاطب المتطهر قائلا: اعلم أن من أطاع هواه أعطى عدوه مناه.. وأن راكب الشهوات لا تستقال عثراته.. وأن من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته..
لقد قال الصادق، وهو يربي الصادقين: (احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فإنه ليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم)، وقال لبعضهم:(لا تدع النفس وهواها، فإن هواها في رداها وترك النفس وما تهوى أذاها وكف النفس عما تهواه دواها)
وروي في الحديث أن رجلاً اسمه مجاشع قال: يا رسول الله كيف الطريق إلى معرفة الحق ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (معرفة النفس)، فقال: فكيف الطريق إلى موافقة الحق؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (مخالفة النفس)، فقال: فكيف الطريق إلى رضا الحق؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (سخط النفس)، فقال: فكيف الطريق إلى طاعة الحق ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (عصيان النفس)، فقال: فكيف الطريق إلى ذكر الحق؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (نسيان النفس)، فقال: فكيف الطريق إلى قرب الحق؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (التباعد عن النفس)، فقال: فكيف الطريق إلى أنس الحق؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الوحشة عن النفس)، فقال: فكيف الطريق إلى ذلك ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الاستعانة بالحق على النفس) ([65])
***
سرنا إلى آخر، وكان اسمه الصفار([66]) على حسب ما علمت بعد ذلك، فسمعناه يقول لصاحبه: إن الخطر كل الخطر في النفوس الممتلئة بالظلمات، إنها تزين كل رذيلة، وتقبح كل محمدة.. ألا ترى أن جرأة الإنسان على قتل أخيه الإنسان ومصادرة حقه في الحياة أكبر جريمة بشعة؟
قال الرجل: بلى..
قال المرشد،: لقد تحدث القرآن الحكيم عن أول جريمة قتل وقعت على الأرض حيث قتل قابيل بن آدم هابيل، وقد نسب القرآن الكريم هذه الجريمة إلى النفس، فقال تعالى:{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة:30)
ومثل ذلك اعتبر الخوف حالة نفسية، فقال تعالى:{ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} (طـه:67)
واعتبر البخل مرضا نفسيا، فقال تعالى:{ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9)
والنفس هي التي تزين للإنسان وتدفعه للارتداد عن الدين وسوء التعامل مع قضاياه، كما حصل للسامريّ، صاحب نبي الله موسى (عليه السلام)، والذي أضل المؤمنين بتوجيههم لعبادة عجل صنعه من الحليّ، قال تعالى:{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)} (طه)
وأهواء النفس سبب مخالفة الأنبياء والعدوان عليهم، قال تعالى:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} (البقرة)
وأخوة نبي الله يوسف (عليه السلام) إنما قاموا تجاهه بتلك الجريمة النكراء، حيث ألقوه في قاع الجبّ، وهو ذلك الصغير الوديع المتفرد في جماله وحسنه، إنما صنعوا ذلك لانحراف نفسي أصابهم، قال تعالى على لسان أبيهم يعقوب (عليه السلام):{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} (يوسف)
والحسد حالة مرضية نفسية بين الأفراد أو الأمم والمجتمعات، قال تعالى:{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} (البقرة)
والتكبر مرض يعشعش في أرجاء النفس، قال تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)} (الفرقان)
والإعراض عن دين الله ورسالة الأنبياء إنما ينشأ من حالة انحراف نفسي يطلق عليه القرآن (سفاهة)، قال تعالى:{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ… (130)} (البقرة)
ولهذا، فإن أهم يما يجب على العاقل تطهير نفسه.. لأن ذلك مفتاح سعادته.. وهو مفتاح الاستخدام السليم لما منحه الله من طاقات وقدرات.. أما مع انحراف النفس فكل المكاسب والإمكانات التي ينالها الإنسان في هذه الحياة قد تصبح وبالاً عليه، ووسائل دمار تصيبه والآخرين بالشر والضرر.
فالعلم أو المال أو القوة أو الجمال أو أي إمكانية أخرى إذا كانت تحت تصرف نفس شريرة فاسدة، أو تَحْكُمُها قراراتٌ شهوانية من وحي الهوى، فإنها قد تجلب الخسار والشقاء والدمار لصاحبها وللآخرين.
ومآسي البشرية في الماضي والحاضر هي سجل كبير لشواهد وأدلة هذه الحقيقة الواضحة.
لذا كان من الطبيعي أن تركز النصوص المقدسة على مسألة الاهتمام بإصلاح النفس كمنطلق لإصلاح الإنسان والحياة كما قال تعالى:{.. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.. (11)} (الرعد)
***
سرنا إلى آخر، وقد علمت أن اسمه (الصادق) ([67]) كانت عليه سيما أنوار الورثة من أهل البيت.. سمعته يخاطب صاحبا له يقال له (عبدالله بن جندب البجلي الكوفي).. وكان مما سمعته منه قوله: يا عبدالله: لقد نصب إبليس حبائله في دار الغرور فما يقصد فيها إلا أولياءنا، ولقد جلت الآخرة في أعينهم حتى ما يريدون بها بدلاً.
يا ابن جندب: حق على كل مسلم أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها وإن رأى سيئة استغفر منها لئلا يخزى يوم القيامة.. طوبى لعبد لم يغبط الخاطئين على ما أوتوا من نعيم الدنيا وزهرتها.. طوبى لعبد طلب الآخرة وسعى لها.. طوبى لمن لم تلهه الأماني الكاذبة…
يا ابن جندب: إنما المؤمنون الذين يخافون الله ويشفقون أن يسلبوا ما أعطوا من الهدى، فإذا ذكروا الله ونعماءه وجلوا وأشفقوا، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً مما أظهره من نفاذ قدرته، وعلى ربهم يتوكلون.
يا ابن جندب: يهلك المتكل على عمله. ولا ينجو المجترئ على الذنوب، والواثق برحمة الله..
يا ابن جندب: من سره أن يزوجه الله الحور العين، ويتوجه بالنور، فليدخل على أخيه المؤمن السرور.
يا ابن جندب: أقل النوم بالليل والكلام بالنهار، فما في الجسد شيء أقل شكراً من العين واللسان، فإن أم سليمان قالت لسليمان (عليه السلام): يا بني إياك والنوم فإنه يفقرك يوم تحتاج الناس إلى أعمالهم..
يا ابن جندب: إن للشياطين مصائد يصطاد بها فتحاموا شباكه ومصائده.
يا ابن جندب: من أصبح مهموماً لسوى فكاك رقبته فقد هون عليه الجليل ورغب من ربه في الربح الحقير. ومن غش أخاه وحقره وناواه جعل الله النار مأواه، ومن حسد مؤمناً انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء.
يا ابن جندب: الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحط بدمه في سبيل الله يوم (بدر) و (أحد) وما عذب الله أمة إلا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم.
يا ابن جندب: بلغ معاشر شيعتنا([68]) وقل لهم: لا تذهبن بكم المذاهب فوالله لا تنال ولايتنا إلا بالورع والاجتهاد في الدنيا ومواساة الإخوان في الله، وليس من شيعتنا من يظلم الناس.
يا ابن جندب: إنما شيعتنا يعرفون بخصال شتى: بالسخاء والبذل للإخوان، وبأن يصلوا الخمسين ليلاً ونهاراً..
يا ابن جندب: كل الذنوب مغفورة سوى عقوق أهل دعوتك، وكل البر مقبول إلا ما كان رئاءً..
يا ابن جندب: إن أحببت أن تجاور الجليل في داره وتسكن الفردوس في جواره فلتهن عليك الدنيا، ولا تدخر شيئاً لغد. واعلم أن لك ما قدمت وعليك ما أخرت..
صبر نفسك عند كل بلية في ولد أو مال أو رزية، فإنما يقبض عاريته ويأخذ هبته ليبلو فيها صبرك وشكرك.
وارج الله رجاءً لا يجريك على معصيته وخفه خوفاً لا يؤيسك من رحمته…
ولا تغتر بقول الجاهل ولا بمدحه فتكبر وتجبر وتعجب بعملك، فإن أفضل العمل العبادة والتواضع…
يا ابن جندب: لا تتصدق على أعين الناس ليزكوك، فإنك إن فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك، ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تطلع عليها شمالك، فإن الذي تتصدق له سراً يجزيك علانية على رؤوس الأشهاد في اليوم الذي لا يضرك إن لا يطلع الناس على صدقتك..
يا ابن جندب: الخير كله أمامك، وإن الشر كله أمامك ولن ترى الخير والشر إلا بعد الآخرة، لأن الله جل وعز جعل الخير كله في الجنة والشر كله في النار، لأنهما الباقيان، والواجب على من وهب الله له الهدى وأكرمه بالإيمان، وألهمه رشده وركب فيه عقلاً يتعرف به نعمه، وأتاه علما وحكماً يدبر به أمر دينه ودنياه، أن يوجب على نفسه أن يشكر الله ولا يكفره، وأن يذكر الله ولا ينساه، وأن يطيع الله ولا يعصيه…
أما أنه لو وقعت الواقعة، وقامت القيامة، وجاءت الطامة ونصب الجبار الموازين لفصل القضاء وبرز الخلائق ليوم الحساب، أيقنت عند ذلك لمن تكون الرفعة والكرامة، وبمن تحل الحسرة والندامة فاعمل اليوم الدنيا بما ترجو به الفوز في الآخرة..
يا ابن جندب: قال الله جل وعز في بعض ما أوحى: (إنما أقبل الصلاة ممن يتواضع لعظمتي، ويكف نفسه عن الشهوات من أجلي، ويقطع نهاره بذكري ولا يتعظم على خلقي، ويطعم الجائع، ويكسو العاري، ويرحم المصاب، ويؤوي الغريب، فذلك يشرق نوره مثل الشمس، أجعل له في الظلمة نوراً، وفي الجهالة حلما، أكلأه بعزتي وأستحفظه ملائكتي، يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، فمثل ذلك العبد عندي كمثل جنات الفردوس لا يسبق أثمارها، ولا تتغير عن حالها..
***
سرنا إلى آخر، وقد علمت بعد ذلك أن اسمه (الكاظم) ([69]).. وقد رأيت عليه ما رأيت على صاحبه من سيما أهل بيت النبوة الذين أخبر القرآن الكريم بطهارتهم، وقد سمعته يخاطب تلميذا له يقال له (هشام بن الحكم البغدادي).. وكان مما سمعته منه قوله: يا هشام: كل شيء دليل، ودليل العاقل التفكر.
يا هشام: لو كان في يدك جوزة، وقال الناس في يدك لؤلؤة ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة.. ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس: أنها جوزة ما ضرك وأنت تعلم أنها لؤلؤة.
يا هشام: إن الله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول.
يا هشام: قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.
يا هشام: إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرضى بالدون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك ربحت تجارتهم..
يا هشام: إن كان يغنيك ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيء من الدنيا يغنيك..
يا هشام: إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب ؟ وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض..
يا هشام: إن العقلاء زهدوا في الدنيا، ورغبوا في الآخرة، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة ومطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته..
يا هشام: إن الله جل وعز حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا:{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) } (آل عمران) حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها.
يا هشام: لا دين لمن لا مروة له، ولا مروة لمن لا عقل له، وإن أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطراً، أما أن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها..
يا هشام: إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد ما لا يقدر عليه ولا يرجو ما يعنف برجاءه، ولا يتقدم على ما يخاف العجز عنه..
يا هشام: رحم الله من استحيا من الله حق الحياء، فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وذكر الموت والبلى، وعلم أن الجنة محفوفة بالمكاره، والنار محفوفة بالشهوات.
يا هشام: من كف نفسه عن أعراض الناس أقاله الله عثرته يوم القيامة ومن كف غضبه عن الناس كف الله عنه غضبه يوم القيامة.
يا هشام: إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه.
يا هشام: أصلح أيامك، الذي هو أمامك، فانظر أي يوم هو وأعد له الجواب، فإنك موقوف ومسؤول، وخذ موعظتك من الدهر وأهله، فإن الدهر طويلة قصيرة، فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك، واعقل عن الله وانظر في تصرف الدهر وأحواله، فإن ما هو آت من الدنيا، كما ولى منها، فاعتبر بها…
وقال علي بن الحسين: إن جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها بحرها وبرها وسهلها وجبلها عند ولي من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظلال…
ثم قال: ألا حر يدع هذه اللماظة لأهلها – يعني الدنيا – فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها، فإنه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس
يا هشام: إن كل الناس يبصر النجوم، ولكن لا يهتدي بها إلا من عرف مجاريها ومنازلها، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة، ولكن لا يهتدي بها منكم ألا من عمل بها.
يا هشام: إن كل نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيئة تؤاخذ بها…
يا هشام: بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه إذا شاهده، ويأكله إذا غاب عنه، إن أعطي حسده وإن ابتلى خذله..
يا هشام: لا يكون الرجل مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو.
يا هشام: إن مثل الدنيا مثل الحية مسها لين وفي جوفها السم القاتل، يحذرها الرجال ذووا العقول ويهوي إليها الصبيان بأيديهم..
يا هشام: صبر على طاعة الله، واصبر عن معاصي الله. فإنما الدنيا ساعة فما مضى منها فليس تجد له سروراً ولا حزناً. وما لم يأت منها فليس تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنك قد اغتبطت.
يا هشام: مثل الدنيا مثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله.
يا هشام: إياك والكبر، فإنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر. الكبر رداء الله فمن نازعه رداءه أكبه الله في النار على وجهه.
يا هشام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه، فإنه يلقى الحكمة. والمؤمن قليل الكلام كثير العمل والمنافق كثير الكلام قليل العمل…
يا هشام: أوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام): قل لعبادي: لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدهم عن ذكري وعن طريق محبتي ومناجاتي، أولئك قطاع الطريق من عبادي، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة محبتي ومناجاتي من قلوبهم…
يا هشام: أوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام): يا داود حذر فأنذر أصحابك عن حب الشهوات، فإن المعلقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبة عني…
يا هشام: إياك والكبر على أوليائي والاستطالة بعلمك فيمقتك الله، فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك. وكن في الدنيا كساكن دار وليست له. إنما ينتظر الرحيل…
يا هشام: مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة. ومشاورة العاقل الناصح يمن وبركة ورشد وتوفيق من الله. فإذا أشار عليك العاقل الناصح فإياك والخلاف فإن في ذلك العطب.
وإذا مر بك أمران لا تدري أيهما خير وأصوب، فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه، فإن كثير الصواب في مخالفة هواك..
يا هشام: من أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه، وما أوتي عبد علما فازداد للدنيا حباً إلا ازداد من الله وازداد الله عليه غضباً.
***
سرنا إلى آخر، وقد سمعته يقول لصاحبه: من علامة صدق التوبة أن تتمكن مرارة الذنوب من قلب التائب بدلاً عن حلاوتها، فيستبدل بالميل كراهية، وبالرغبة نفرة.. وقد روي أن الله تعالى قال لبعض أنبيائه – وقد سأله قبول توبة عبد بعد أن اجتهد سنين في العبادة ولم ير قبول توبته -:(وعزتي وجلالتي لو شفع فيه أهل السموات والأرض ما قبلت توبته وحلاوة ذلك الذنب الذي تاب منه في قلبه)
قال الرجل: فالذنوب هي أعمال مشتهاة بالطبع فكيف يجد مرارتها؟
فرد عليه صاحبه: من تناول عسلاً كان فيه سم ولم يدركه بالذوق واستلذه ثم مرض وطال مرضه وتناثر شعره وفلجت أعضاؤه، فإذا قدم إليه عسل فيه مثل ذلك السم وهو في غاية الجوع والشهوة للحلاوة، فهل تنفر نفسه عن ذلك العسل أم لا؟
قال الرجل: لا شك أن نفسه تنفر منه.. بل إن نفسه ربما تنفر عن العسل الذي ليس فيه سم لشبهه به.
قال المرشد: فهكذا الأمر مع التائب.. فإن كل ذنب ذوقه ذوق العسل وعمله عمل السم، ولا تصح التوبة ولا تصدق إلا بمثل هذا الإيمان.
قال الرجل: ولكن مثل هذا الإيمان عزيز؟
قال المرشد: ولهذا عزت التوبة وعز التائبون، فلا ترى إلا معرضاً عن الله تعالى متهاوناً بالذنوب مصراً عليها.
قال الرجل: فحدثني كيف أطهر نفسي من ذنوبي الماضية؟
قال المرشد: لقد ذكر المربون أن التائب الناصح هو من يرد فكره إلى أول يوم بلغ فيه، ويفتش عما مضى من عمره سنة سنة وشهراً شهراً ويوماً يوماً ونفساً نفساً، وينظر إلى الطاعات ما الذي قصر فيه منها؟ وإلى المعاصي ما الذي قارفه منها؟ فإن كان قد ترك صلاة أو صلاها في ثوب نجس أو صلاها بنية غير صحيحة لجهلة بشرط النية فيقضيها عن آخرها، فإن شك في عدد ما فاته منها حسب من مدة بلوغه وترك القدر الذي يستيقن أنه داء ويقضي الباقي وله أن ياخذ فيه بغالب الظن ويصل إليه على سبيل التحري والاجتهاد.
وأما الصوم فإن كان قد تركه في سفر ولم يقضه أو أفطر عمداً أو نسي النية بالليل ولم يقض؛ فيتعرف مجموع ذلك بالتحرى والاجتهاد ويشتغل بقضائه.
وأما الزكاة فيحسب جميع ماله وعدد السنين من أول ملكه – لا من زمان البلوغ فإن الزكاة واجبة في مال الصبي – فيؤدي ما علم بغالب الظن أنه في ذمته.
وأما الحج فإن كان قد استطاع في بعض السنين ولم يتفق له بالخروج والآن قد أفلس فعليه الخروج، فإن لم يقدر مع الإفلاس فعليه أن يكتسب من الحلال قدر الزاد، فإن لم يكن له كسب ولا مال فعليه أن يسأل الناس ليصرف إليه من الزكاة أو الصدقات ما يحج به، فإنه إن مات قبل الحج مات عاصياً..
قال الرجل: هذا طريق التفتيش عن الطاعات وتداركها.. فكيف أفتش عن المعاصي؟
قال المرشد: يجب على التائب أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصثره ولسانه وبطنه ويده ورجله وفرجه وسائر جوارحه، ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه حتى يطلع على جميعها صغائرها وكبائرها ثم ينظر فيها، فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى من حيث لا يتعلق بمظلمة العباد، كنظر إلى غير محرم واعتقاد بدعة، وشرب خمر وغير ذلك مما لا يتعلق بمظالم العباد، فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها، وبأن يحسب من حيث الكبر ومن حيث المدة ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات أخذاً من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(اتق الله حيث كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها)، بل من قوله تعالى:{ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} (هود)، فيكفر سماع الملاهي الفاسقة بسماع القرآن وبمجالس الذكر، ويكفر الرغبة عن المسجد بالاعتكاف فيه مع الاشتغال بالعبادة، ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حلال هو أطيب منه وأحب إليه.
وسر ذلك أن المرض إنما يعالج بضده، فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب بمعصية فلا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها، والمتضادات هي المتناسبات، فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكن تضادها، فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة والبرودة.
بعد أن فتح الله علي في حمام التوبة ما فتح سألت المرشد عن التصحيح الثالث، وهو تصحيح العلاقة مع الخلق، فقال: تعال معي إلى محكمة التوبة.. فسترى هناك كيف يصحح الصالحون علاقتهم مع الخلق..
قلت: وهل للتوبة محكمة؟
قال: كما للتوبة سوقها وحمامها، فلها محاكمها.
قلت: فمن القضاة فيها؟
قال: القاضي فيها واحد.
قلت: فمن هو؟
قال: هو الذي لا يظلم عنده أحد مثقال ذرة.
قلت: الله؟
قال: أجل.. فالله هو الديان، وهو القاضي الأعلى.. ولذلك لا يمكن أن ينجو ظالم من موازين عدالته.
قلت: ولكن موازين العدالة الإلهية تنصب في الآخرة لا في الدنيا.
قال: والموازين تملأ بأعمال الدنيا..
قلت: فما علاقة ذلك بالتوبة؟
قال: العاقل هو الذي يزن أعماله قبل أن توزن عليه.. والعاقل هو الذي يبحث عن خصومه في الدنيا ليعقد معهم من العلاقة الصالحة ما يجعله بمنجاة من مطالبتهم له في الآخرة.
قلت: فهلم سر بي إلى هذه المحكمة، فإن لي من الخصومات ما أخاف منه على نفسي.
سرت معه إلى محكمة التوبة.. وهناك وجدت كثيرا من الناس يجري ويلهث، وكأن شيئا يخافون أن يضيع منهم.
استوقفت أحدهم، وقلت له: أراك تعدو، وكأنك تبحث عن شيء.. فأخبرني عساني أبحث معك عنه.
قال: لقد اغتبت في يوم من الأيام بعض الناس.. وها أنا أبحث عنه لأستحله في الدنيا قبل أن يخاصمني بها في الآخرة..
ضحكت قائلا: لا تخف.. ونم مطمئنا.. فلن يطالبك بشيء.
قال: أأنت ملك من ملائكة الحساب؟
قلت: لا.. ولكن ما تفعل الغيبة أمام ما يفعله المجرمون من القتل والسلب والنهب؟
قال: أنت لا تعلم إذن خطورة المعاصي المتعدية.. لقد ورد في الحديث عن عائشة قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حسبك من صفية كذا وكذا – قال بعض الرواة تعني قصيرة – فقال: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته – أي لأنتنته وغيرت ريحه – قالت: وحكيت له إنسانا فقال: (ما أحب أني حكيت إنسانا وإن لي كذا وكذا)([70])
وعن أنس قال: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس بصوم يوم وقال: (لا يفطرن أحد منكم حتى آذن له)، فصام الناس حتى إذا أمسوا فجعل الرجل يجيء فيقول: يا رسول الله إني ظللت صائما، فأذن لي فأفطر فيأذن له والرجل حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله فتاتان ظلتا صائمتين وإنهما يستحييان أن يأتياك فأذن لهما فليفطرا، فأعرض عنه، ثم عاوده، فأعرض عنه، ثم عاوده فأعرض عنه، فقال: (إنهما لم يصوما، وكيف صام من ظل هذا اليوم يأكل لحم الناس، اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين فلتتقيآ فرجع إليهما)، فأخبرهما فاستقاءتا فقاءت كل واحدة علقة من دم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فقال: (والذي نفسي بيده لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النار)([71])
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى، فذكر منهم ورجل كان يأكل لحوم الناس بالغيبة ويمشي بالنميمة)([72])
ونظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في النار فإذا قوم يأكلون الجيف؟ فقال: من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال:(هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)([73])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)([74])
وقال:(إن الرجل ليؤتي كتابه منشورا فيقول يا رب فأين حسنات كذا وكذا عملتها ليست في صحيفتي ؟ فيقال له محيت باغتيابك الناس)([75])
قال ذلك، ثم انصرف مسرعا..
استوقفت آخر، وقد رأيته يحمل صررا كثيرة من أنواع الأموال، فسألته عنه، فقال لي والدموع تنهمر من عينيه: أنا المفلس.
قلت: عجبا.. كيف تكون مفلسا، وأنت تحمل كل هذه الأموال؟
قال: ليتهم يقبلوها مني مقابل ما أسأت إليهم.
قلت: من هم؟
قال: خصومي.. الذين اغتبتهم وبهتهم.. ألم أقل لك: إني أنا المفس.
قلت: المفلس في تصوري هو الذي لا مال له ولا متاع.
قال: ذلك تصور أهل الدنيا.. أما المفلس الحقيقي، فهو الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:(إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار)([76])
قال ذلك، ثم انصرف مسرعا يبحث عن خصومه.
رأيت رجلا منفردا برجل يخاطبه بشدة، فسألت صاحبي عنه، فقال: هذا محام من المحامين مع موكله.
قلت: عجبا.. لم أكن أتصور أن هناك محامين في هذه المحكمة.
قال: هلم بنا إليه لنسمع ما يقول لموكله.
اقتربنا منه، فسمعناه يقول لموكله بلهجة شديدة: اعلم أنه لا ينجو من خطر الموازين الإلهية إلا من حاسب فى الدنيا نفسه، ووزن بميزان الشرع أعماله وأقواله وخطراته ولحظاته.
قال الموكل: فما السبيل إلى النجاة؟
قال المحامي([77]): لا تتحقق النجاة إلا بحسابك لنفسك لتتدارك ما فرط من تقصيرك فى فرائض الله تعالى، وأن ترد المظالم حبة بعد حبة، وتستحل كل من تعرضت له بأي لون من ألوان الإساءة.
بهذا الطريق وحده يمكنك أن تضمن النجاة.. وإلا فإن من مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه، فهذا يأخذ بيده، وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يتعلق بلببه، هذا يقول ظلمتنى، وهذا يقول شتمتنى، وهذا يقول استهزأت بى، وهذا يقول ذكرتنى فى الغيبة بما يسوءنى، وهذا يقول جاورتنى فأسأت جوارى، وهذا يقول عاملتنى فغششتنى، وهذا يقول بايعتنى فغبنتنى وأخفيت عنى عيب سلعتك، وهذا يقول كذبت فى سعر متاعك، وهذا يقول رأيتنى محتاجا وكنت غنيا فما أطعمتنى، وهذا يقول وجدتنى مظلوما وكنت قادرا على دفع الظلم عنى فداهنت الظالم وما راعيتنى.
فبينا أنت كذلك وقد انشب الخصماء فيك مخالبهم، وأحكموا فى تلابيبك أيديهم، وأنت مبهوت متحير من كثرتهم حتى لم يبق فى عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته فى مجلس إلا وقد استحق عليك مظلمة بغيبة أو خيانة أو نظر بعين استحقار وقد ضعفت عن مقاومتهم ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله يخلصك من أيديهم إذ قرع سمعك نداء الجبار جل جلاله:{ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } (غافر:17) فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة وتوقن نفسك بالبوار وتتذكر ما أنذرك الله تعالى على لسان رسوله حيث قال:{ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)} (إبراهيم)
فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس، وتناولك أموالهم، وما أشد حسراتك فى ذلك اليوم إذا وقف ربك على بساط العدل، وشوفهت بخطاب السياسة، وأنت مفلس فقير عاجز مهين لا تقدر على أن ترد حقا أو تظهر عذرا، فعند ذلك تؤخذ حسناتك التى تعبت فيها عمرك وتنقل إلى خصمائك عوضا عن حقوقهم.
فانظر إلى مصيبتك فى مثل هذا اليوم إذ ليس يسلم لك حسنة من آفات الرياء ومكايد الشيطان، فإن سلمت حسنة واحدة فى كل مدة طويلة ابتدرها خصماؤك وأخذوها، ولعلك لو حاسبت نفسك وأنت مواظب على صيام النهار وقيام الليل لعلمت أنه لا ينقضى عنك يوم إلا ويجرى على لسانك من غيبة المسلمين ما يستوفى جميع حسناتك فكيف ببقية السيئات من أكل الحرام والشبهات والتقصير فى الطاعات، وكيف ترجو الخلاص من المظالم في يوم يقتص فيه للجماء من القرناء فقد روى أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى شاتين ينتطحان فقال:(يا أبا ذر أتدرى فيم ينتطحان ؟)، قلت: لا، قال:(ولكن الله يدرى وسيقضى بينهما يوم القيامة)([78])
فكيف أنت يا مسكين فى يوم ترى صحيفتك خالية عن حسنات طال فيها تعبك، فتقول أين حسناتى، فيقال نقلت إلى صحيفة خصمائك، وترى صحيفتك مشحونة بسيئات طال فى الصبر عنها نصبك، واشتد بسبب الكف عنها عناؤك، فتقول: يا رب هذه سيئات ما قارفتها قط، فيقال: هذه سيئات القوم الذين اغتبتهم وشتمتهم وقصدتهم بالسوء وظلمتهم فى المبايعة والمجاورة والمخاطبة والمناظرة والمذاكرة والمدارسة وسائر أصناف المعاملة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب، ولكن سيرضى منكم بما هو دون ذلك بالمحقرات، وهى الموبقات، فاتقوا الظلم ما استطعتم، فإن العبد ليجىء يوم القيامة بأمثال الجبال من الطاعات، فيرى أنهن سينجينه، فما يزال عبد يجىء فيقول: رب إن فلانا ظلمنى بمظلمة فيقول: امح من حسناته، فما يزال كذلك حتى لا يبقى من حسناته شىء، وإن مثل ذلك مثل سفر نزلوا بفلاة من الأرض ليس معهم حطب فتفرق القوم فحطبوا فلم يلبثوا أن أعظموا نارهم وصنعوا ما أرادوا)([79])
ولما نزل قوله تعالى:{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} (الزمر)، قال الزبير: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا فى الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: (نعم ليكررن عليكم حتى تؤدوا إلى كل ذى حق حقه)، فقال الزبير: والله إن الأمر لشديد([80]).
فأعظم بشدة يوم لا يسامح فيه بخطوة، ولا يتجاوز فيه عن لطمة، ولا عن كلمة، حتى ينتقم للمظلوم من الظالم.. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(يحشر الله العباد عراة غرلا بهما – قال الراوي: قلنا ما بهما؟ قال: ليس معهم شىء – ثم يناديهم ربهم تعالى بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغى لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد من أهل النار عليه مظلمة حتى أقتصه منه، ولا لأحد من أهل النار أن يدخل النار، ولأحد من أهل الجنة عنده مظلمة حتى أقتصه منه، حتى اللطمة)، قلنا: وكيف وإنما نأتي الله عز و جل عراة غبرا بهما؟ فقال:(بالحسنات والسيئات)([81])
فاتق الله عبد الله.. وإياك ومظالم العباد بأخذ أموالهم، والتعرض لأعراضهم، وتضييق قلوبهم، وإساءة الخلق فى معاشرتهم.. فإن ما بين العبد وبين الله خاصة فالمغفرة إليه أسرع، ومن اجتمعت عليه مظالم وقد تاب عنها وعسر عليه استحلال أرباب المظالم فليكثر من حسناته ليوم القصاص، ويسر ببعض الحسنات بينه وبين الله بكمال الإخلاص بحيث لا يطلع عليه إلا الله، فعساه يقربه ذلك إلى الله تعالى، فينال به لطفه الذى ادخره لأحبابه المؤمنين فى دفع مظالم العباد عنهم.
ما وصل المحامي من حديثه إلى هذا الموضع حتى صرخ موكله صرخة عظيمة، ثم راح يلهث كما يلهث أصحابه بحثا عن مظالمه ليستحلها في الدنيا قبل أن يطالب بها أهلها ببين يدي الله.
***
في ساحة تلك المحكمة العجيبة، شد انتباهي رجال يحملون أوراقا وأقلاما، وبين أيديهم رجل يسألونه، فيجيبهم، فيكتبون كل ما يقول باهتمام شديد.. سألت صاحبي عنه، فقال: هذا هو المدعي العام.. وهو يجيب الجناة عن الطريق الذي يصححون به جناياتهم.
اقتربنا منه، فسمعت بعضهم يقول له: ما يفعل الجاني قاتل النفوس ظلما ليصحح توبته؟
التفت إليه، وقال: إن جرى منه قتل خطأ فتوبته بتسليم الدية ووصولها إلى المستحق، إما منه، أو من عائلته.. وإن كان عمداً موجباً للقصاص، فبالقصاص، فإن لم يعرف فيجب عليه أن يتعرف عند ولي الدم، ويحكمه في روحه، فإن شاء عفا عنه، وإن شاء قتله.. ولا تسقط عهدته إلا بهذا، ولا يجوز له الإخفاء..
سأله آخر: فما يفعل من تناول مالا بغصب أو خيانة أو غبن في معاملة كترويج زائف، أو ستر عيب من المبيع أو نقص أجرة أجير أو منع أجرته؟
التفت إليه، وقال: يجب أن يفتش عنه أولا من حد بلوغه، بل من أول مدة وجوده، فإن ما يجب في مال الصبي يجب على الصبي إخراجه بعد البلوغ، إن كان الولي قد قصر فيه، فإن لم يفعل كان ظالماً مطالباً به، إذ يستوي في الحقوق المالية الصبي والبالغ، وليحاسب نفسه على الجبات والدوانق من أول يوم حياته إلى يوم توبته قبل أن يحاسب في القيامة، وليناقش قبل أن يناقش فمن لم يحاسب نفسه في الدنيا طال في الآخرة حسابه، فإن حصل مجموع ما عليه بظن غالب ونوع من الاجتهاد ممكن فليكتبه أسامي أصحاب المظالم واحداً واحداً وليطف في نواحي العالم وليطلبهم وليستحلهم أو ليؤد حقوقهم.
فإن عجز فلا يبقى له طريق إلا أن يكثر من الحسنات حتى تفيض عنه يوم القيامة فتؤخذ حسناته وتوضع في موازين أرباب المظالم، ولكن كثرة حسناته بقدر كثرة مظالمه فإنه إن لم تف بها حسناته حمل من سيئات أرباب المظالم فيهلك بسيئات غيره.. فهذا طريق كل تائب في رد المظالم وهذا يوجب استغراق العمر في الحسنات لو طال العمر بحسب طول مدة الظلم فكيف وذلك مما لا يعرف؟ وربما يكون الأجل قريباً؟ فينبغي أن يكون تشميره للحسنات والوقت ضيق أشد من تشميره الذي كان في المعاصي في متسع الأوقات.
أما أمواله الحاضرة فليرد إلى المالك ما يعرف له مالكاً معيناً وما لا يعرف له مالكاً فعليه أن يتصدق به، فإن اختلط الحلال بالحرام فعليه أن يعرف قدر الحرام بالاجتهاد ويتصدق بذلك المقدار كما سبق تفصيله في كتاب الحلال والحرام.
سأله آخر: فما يفعل من تناول أعراض الناس بما يسوءهم أو يعيبهم في الغيبة؟
التفت إليه، وقال: يطلب كل من تعرض له بلسان أو آذى قلبه بفعل من أفعاله، وليستحل واحداً واحداً منهم، ومن مات أو غاب فقد فات أمره ولا يتدارك إلا بتكثير الحسنات لتؤخذ منه عوضاً في القيامة.
وأما من وجده وأحله بطيب قلب منه فذلك كفارته وعليه أن يعرفه قدر جنايته وتعرض له، فالاستحلال المبهم لا يكفي، وربما لو عرف ذلك وكثرة تعديه عليه لم تطب نفسه بالإحلال وادخر ذلك في القيامة ذخيرة يأخذها من حسناته أو يحمله من سيئاته، فإن كان في جملة جنايته على الغير ما لو ذكره وعرفه لتأذى بمعرفته يعظم آذاه مهما شوفه به فقد انسد عليه طريق الاستحلال، فليس له إلا أن يستحل منها ثم تبقى له مظلمة فليجبرها بالحسنات كما يجبر مظلمة الميت والغائب.
وأما الذكر والتعريف فهو سيئة جديدة يجب الاستحلال منها، ومهما ذكر جنايته وعرفه المجني عليه فلم تسمح نفسه بالاستحلال بقيت المظلمة عليه فإن هذا حقه، فعليه أن يتلطف به ويسعى في مهماته وأغراضه ويظهر من حبه والشفقة عليه ما يستميل به قلبه، فإن الإنسان عبد الإحسان، وكل من نفر بسيئة مال بحسنة فإذا طاب قلبه بكثرة تودده وتلطفه سمحت نفسه بالإحلال، فإن أبى إلا الإصرار فيكون تلطفه به واعتذاره إليه من جملة حسناته التي يمكن أن يجبر بها في القيامة جنايته، وليكن قدر سعيه في فرحه وسرور قلبه بتودده وتلطفه كقدر سعيه في أذاه، حتى إذا قاوم أحدهما الآخر أو زاد عليه أخذ منه ذلك عوضاً في القيامة بحكم الله به عليه، كمن أتلف في الدنيا مالاً فجاء بمثله فامتنع من له المال من القبول وعن الإبراء فإن الحاكم يحكم عليه بالقبض منه شاء أم أبى، فكذلك يحكم في صعيد القيامة أحكم الحاكمين وأعدل المقسطين.
بعد أن عرفت ما عرفت من أسرار التصحيح تاقت نفسي لمعرفة أسرار الترقي.. وقد دفعني إلى ذلك شعوري أن المكتفي بتصحيح ما وقع فيه من أخطاء دون مواصلة السير إلى ربه محجوب برؤية ذنوبه عن رؤية ربه..
وحينما خطر هذا الخاطر على خاطري رحت أسرع إلى الفضيل لأقول له: لقد أصبحت جاهزا للمرحلة الأخيرة، فحدثني عنها.
نظر إلي مبتسما، وقال: هل امتلأت نفسك بهمة المريدين الذين لا يقر لهم قرار دون السير إلى مولاهم.. أولئك الذين نعتهم ربهم، فقال وهو يخاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في شأنهم:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } (الكهف:28)
قلت: لا أدعي لنفسي هذه المرتبة السنية.. ولكني مع ذلك أشعر أنها أحب الأشياء إلى نفسي.. فمن الغبن أن يتوقف المسافر عن سفره لضر أصابه.
قال: المحبة بذر الإرادة.. فأبشر..
قلت: فإلى أي محل سنسير؟
قال: سأسير بك إلى ولي من أولياء الله.. كان قمة من قمم الصفاء.. وروضة من رياض الفضيلة.. ومعراجا من معارج أهل الله للسير إلى الله.. وهو فوق ذلك كله باب مدينة العلم([82])..
قلت: هلم بي إليه.. فما أشوق نفسي لأولياء الله.
سرت مسافات طويلة بشوق عظيم إلى أن رأيت رجلا هو كالشمس أو قريب من الشمس.. مع صاحب له يقال له همام كان رجلا عابدا، فقال له: يا إمام صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم؟
فتثاقل الإمام عن جوابه ثم قال: يا همام، اتق الله وأحسن فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
رأيت أن همام لم يقنع بما قال له الإمام، فراح يعزم عليه، فأجابه الإمام بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (أما بعد، فإن الله سبحان وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم، لانه لا تضره معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه. فقسم بينهم معايشهم، ووضعهم من الدنيا مواضعهم. فالمتقون فيها هم أهل الفضائل.. منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع.. غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، وقصروا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء.. لولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم شوقا إلى الثواب، وخوفا من العقاب. عظم الخالق في أنفسهم وصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها متنعمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذبون.. قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، ومعونتهم في الاسلام عظيمة.. وصبروا أياما قصيرة فأعقبتهم راحة طويلة وتجارة مربحة يسرها لهم رب كريم.. أرادتهم الدنيا ولم يريدوها، وطلبتهم فأعجزوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها.. أما الليل فصافون أقدامهم تالين لاجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا.. يحزنون به أنفسهم ويستبشرون به دواء دائهم.. فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا وتطلعت نفوسهم إليها شوقا وظنوا أنها نصب أعينهم.. وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، يمجدون جبارا عظيما، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله في فكاك رقابهم.. وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء.. قد براهم الخوف بري القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض. ويقول: قد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم. لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير. فهم لانفسهم متهمون.. ومن أعمالهم مشفقون إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له فيقول: (أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بنفسي مني، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون إنك أنت علام الغيوب وستار العيوب)، فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين وحزما في لين وإيمانا في يقين وحرصا في علم وعلما في حلم وقصدا في غنى وخشوعا في عبادة وتجملا في فاقة وصبرا في شدة وطلبا في حلال ونشاطا في هدى وتحرجا عن طمع. يعمل الاعمال الصالحة وهو على وجل. يمسي وهمه الشكر ويصبح وهمه الذكر. يبيت حذرا ويصبح فرحا، حذرا لما حذر من الغفلة، وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة. وإن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب. قرة عينه فيما لا يزول. وزهادته فيما لا يبقى. يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل. تراه قريبا أمله، قليلا زلله، خاشعا قلبه، قانعة نفسه، منزورا أكله، سهلا أمره، حريزا دينه، ميتة شهوته، مكظوما غيظه، قليلا شره، كثيرا ذكره، صادقا قوله.. الخير منه مأمول، والشر منه مأمون. وإن كان في الغافلين كتب في الذاكرين. وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين. يعفو عمن ظلمه. ويعطي من حرمه. ويصل من قطعه. وبعيدا فحشه. لينا قوله. غائبا منكره. حاضرا معروفه. مقبلا خيره. مدبرا شره. في الزلازل وقور. وفي المكاره صبور. وفي الرخاء شكور. لا يحيف على من يبغض. ولا يأثم فيمن يحب. ولا يدعي ما ليس له ولا يجحد حقا هو عليه. يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه. ولا يضيع ما استحفظ. ولا ينسي ما ذكر. ولا يتنابز بالالقاب. ولا يضار بالجار. ولا يشمت بالمصائب. سريعا إلى الصلوات مؤديا للامانات. بطيئا عن المنكرات. يأمرون بالمعروف وينهى عن المنكر. لا يدخل في الباطل ولا تخرج من الحق. إن صمت لم يغمه صمته. وإن نطق لم يقل حظه. وإن ضحك لم يعل صوته قانع بالذي هو له. لا يحمح به الغيظ ولا يغلبه الهوى ولا يقهره الشح. يخالط الناس ليعلم. ويصمت ليسلم. ويسأل ليفهم. ويتجر ليغنم. ولا يعمل الخير ليفخر به. ولا يتكلم به لتتجبر به على من سواه. وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له. نفسه منه في غناء. والناس منه في راحة أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه. بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة. ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة. ليس تباعده تكبرا وعظمة، ولا دنوه لمكر ولا خديعة) ([83])
***
بعد أن سمعت هذه الكلمات العذبة الممتلئة بالأنوار امتلأت بهمة عظيمة دفعتني لأن أسير إلى هذه الإمام، والدموع تنهمر من عيني، وأنا ممتلئ بأشواق عظيمة.
ما إن رآني الإمام حتى قال: مرحبا بالتائب الذي يبحث عن الطهارة.
قلت: أنا بين يديك.. ولعل الله أطلعك من شأني ما يكفيني هم السؤال.
قال: أنت تبحث عن الترقي.. والترقي لا يكون إلا بالتصحيح.. فسر إلى أولياء القتيل.. وأخبرهم خبرك.. وكل ما فعلوه بك، فاعلم أنه مراد الله فيك.
قلت: أخاف أن يحبسوني.. ولعل ذلك يحول بيني وبين السير الذي أعزم عليه.
قال: ألم تسمع إلى الصديق، وهو يقول:{ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } (يوسف:33)؟
قلت: بلى..
قال: لم طلب يوسف السجن؟
قلت: لقد خير بين الرذيلة والسجن.. فاختار السجن.
قال: وأنت مخير بين أن يقف القتيل وأولياء القتيل يوم القيامة خصماء لك.. وبين أن تستحل منهم اليوم.. فاختر لنفسك ما تراه.
قلت: لأن أطهر اليوم خير من أن أطهر غدا.
قال: فسر إليهم.. وأخبرهم عن شأنك.. وما فعلوه بك.. فارض به.
قلت: والسير إلى الله؟
قال:{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } (الحديد:4)
قلت: فما أعمل في السجن إن أدخلوني إليه؟
قال: ما كان يعمله يوسف.. لقد اتخذ السجن مسرحا للدعوة إلى الله.. ألم تسمع قوله لصاحبيه:{ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} (يوسف)
قلت: هذا ما بشر به يوسف.. فبم أبشر أنا؟
قال: بما علمك الفضيل.. بشر المتألمين من السجناء أن رحمة الله الواسعة تنتظرهم إن هم تنعموا بشمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تطل على العالمين.
ما إن قال ذلك حتى شعرت بأشواق تشدني إلى السجن، بل تحيله في ناظري قصرا من القصور لا يقل في جماله عن كل القصور التي يتنافس عليها أهل الدنيا.
أسرعت بمجرد رجوعي إلى بلدي إلى أقرب مركز للشرطة، وهناك أخبرتهم عن جريمتي، واعتذرت بكل صنوف الاعتذار لأهل القتيل، وها أنا الآن بينكم أحاول أن أرقع من أمري ما تخرق، وأصحح ما وقعت فيه نفسي من أنواع الدنس.
والحمد لله.. لقد ملأني الله في هذا السجن بأنوار من الإيمان والسعادة والرحمة لم أجد لها مثيلا في حياتي جميعا.
***
قال السجين ذلك، ثم التفت إلى السجناء، وقال: هذه قصتي أزفها إليكم بعجرها وبجرها، عسى الله أن يبصركم بها، وأن يرفع همتكم في هذا السجن لتسيروا إليه، فلا خير إلا عنده، ولا رحمة إلا لمن سلك سبيله.
ما إن انتهى السجين من كلامه حتى صاح جميع أهل السجن بالتهليل والتكبير.. والعجب أن صاحبي كان من جملة المهللين والمكبرين.. وقد رأيت على وجهه من سيما الإيمان والصدق ما دلني على صدق تهليله وتكبيره.
خرجت من السجن.. وأنا
أشعر بأن أشعة كثيرة تتنزل علي من شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لتمحو بعض
أكداس الظلمات التي كانت نفسي غارقة فيها.
([1]) مارتن لوثر (1483 – 1546م)، ألماني، وهو قائد حركة الاحتجاج – ويسميها المحتجون بحركة الإصلاح – حينما احتج على بابا روما ليو العاشر سنة 1517 بسبب صكوك الغفران.
([2]) تاريخ الكنيسة، القس جون لوريمر، ترجمة عزرا مرجان، 4/136.
([3]) المقصود الكنيسة الكاثوليكية حينما باعت مغفرة الخطايا بصكوك للغفران، وأفشت بعض أسرار المعترفين.
([4]) جون كلفن (1509 –1564م) من مواليد فرنسا، عاش في سويسرا، وقاد هناك أحد تيارات الاحتجاج.
([5]) استفدنا هذه الردود من: (الإثم الفردي والغفران في تصور الكنيسة)، للدكتورة: أميمة بنت أحمد شاهين.
([6]) انظر الردود المفصلة على هذه العقيدة في رسالة (أسرار الإنسان) من هذه السلسلة.
([7]) قصة الحضارة: 1/51، 52 .
([8]) ذكرنا هذا في رسالة (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة، ونعيده هنا مع بعض التصرف، وقد ذكرنا هناك المراجع التي رجعنا إليها، ومن أهمها (العلمانية) لسفر الحوالى، و(مذاهب فكرية معاصرة) لمحمد قطب.
([9]) هو الإمبراطور (فريدريك الثاني)، وهو أعظم زعيم تحدى سلطات الكنيسة واستطاع مقاومتها مدة غير يسيرة، ويرجع ذلك إلى المؤثرات الإسلامية في ثقافته وشخصيته، فقد كان مجيدا للعربية مغرما بالحضارة الإسلامية، حتى أن الكنيسة اتهمته باعتناق الإسلام وسمته (الزنديق الأعظم)، أما المفكرون المعاصرون فيسميه بعضهم (أعجوبة العالم) وبعضهم (أول المحدثين)، انظر حول سيرته كتاب الزنديق الأعظم، وفصل أعجوبة العام، ج3، ويلز.
([10]) هذا الأسلوب يستعمل كثيرا في حديث الدعاة للمسيحية والمناظرين فيها، وهم يستعملونه كمخرج من كل إرباك قد يقعون فيه.. وللأسف يستعمله بعض دعاة المسلمين حينما يرمون بالبدعة من تقف بهم الحجج دون إفحامهم.
([11]) ذكرنا الكثير من الأمثلة على هذا في رسالة (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.
([12]) للمؤلف رسالة مختصة بالبحث في أسرار الطهارة وكيفية التطهير اسمها (عيون الطهارة)
([13]) أشير به إلى الفضيل بن عياض، وقد اخترناه لما روي عنه من التوبة التي سنذكرها كما ذكرها ابن قدامه في كتاب (التوابين)..
([14]) سنذكر هنا بعض سير التائبين ، وأخبارهم مذكورة بالتفصيل في كتاب التوابين لابن قدامة.. وقد تصرفنا في بعض الأحداث بما يقتضيه المقام.. فلذلك نرجو الرجوع للمصدر لمن أراد الروايات الحقيقية.
([15]) هو مالك بن دينار البصري، أبويحيى (ت 131 هـ) من رواة الحديث، كان ورعا، يأكل من كسبه.
([16]) رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح.
([17]) رواه أحمد.
([18]) رواه البخاري ومسلم.
([19]) رواه البخاري.
([20]) رواه أحمد.
([21]) رواه أحمد.
([22]) رواه ابن أبى الدنيا فى كتاب (حسن الظن)
([23]) رواه الترمذي والنسائي وغيرهما.
([24]) رواه الحاكم.
([25]) انظر: الإحياء.
([26]) رواه الترمذي وقال حديث حسن، ورواه ابن ماجه.
([27]) نقلنا هذا الخطاب مع النفس من كلام لأبي حامد في الإحياء.. وفيه من التصرف ما يقتضيه المقام.
([28]) هذا الكلام في الحقيقة لذي النون المصري.
([29]) استفدنا المعاني التي نذكرها هنا من (الإحياء) من (كتاب التوبة)، وتصرفنا فيها بما يقتضيه المقام.
([30]) تحدثنا عن الرحمة الخاصة بهذا الصنف في رسالة (أسرار الأقدار)
([31]) انظر: رسالة (أسرار الأقدار)
([32]) رواه أحمد ومسلم والترمذي.
([33]) رواه أبو داود.
([34]) هذا مذهب كثير من العلماء في هذه المسألة.. وهناك مذاهب أخرى ذكرناها بالتفصيل في رسالة (أسرار الأقدار)، وقد رأينا أن الأرجح فيها خلاف هذا القول.. وهو أن الله – بحسب ما ورد في كثير من النصوص – يكلف هؤلاء ببعض التكاليف، فإن نجحوا فيها دخلوا الجنة وإلا أصابهم العذاب..
([35]) رواه البخاري ومسلم.
([36]) وهو – كما هو معروف – من الخطباء المشهورين..
([37]) هو عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان القرشي الاموي، مولاهم، البغدادي، أبو بكر، المعروف بابن أبي الدنيا (208 – 281 هـ) كان حافظا للحديث، مكثرا من التصنيف.. له مصنفات اطلع الذهبي على 20 كتابا منها، ثم ذكر أسماءها كلها، فبلغت 164 كتابا، منها (الفرج بعد الشدة) و(مكارم الاخلاق) و(ذم الملاهي) وغيرها كثير.
([38]) رواه مسلم والترمذي وحسنه وابن ماجه والبيهقي واللفظ له.
([39]) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
([40]) رواه أحمد والحاكم، وقال الحاكم صحيح الإسناد.
([41]) رواه البيهقي.
([42]) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
([43]) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقي.
([44]) رواه البيهقي بإسناد لا بأس به.
([45]) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
([46]) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
([47]) رواه البيهقي.
([48]) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قال المنذري: وإسناده جيد متصل.. ورواه الحاكم من حديث ابن مسعود وقال: صحيح على شرطهما إلا أنه قال: يقولها ثلاثا.
([49]) رواه البخارى.
([50]) رواه أبو داود والترمذى.
([51]) رواه النسائى في عمل اليوم والليلة.
([52]) رواه أبو داود.
([53]) رواه البخارى.
([54]) رواه مسلم.
([55]) رواه أحمد.
([56]) رواه الترمذي والنسائي والحاكم وصححه.
([57]) رواه أحمد.
([58]) رواه ابن أبى الدنيا، قال ابن رجب: ورفعه منكر ولعله موقوف.
([59]) رواه أبو داود والترمذى.
([60]) رواه البخاري ومسلم.
([61]) رواها مسلم.
([62]) الإحياء.
([63]) رواه البخاري ومسلم.
([64]) حكمة من حكم ابن عطاء الله.
([65]) انظر: عوالي اللئالي:1/246، بحار الأنوار: 70/72، مستدرك الوسائل: 11/138.
([66]) أشير به إلى العلامة الجليل حسن الصفار، وهو من كبار العلماء المعاصرين، وقد استفدنا هذا الكلام الوارد هنا من كتابه (النفس منطقة خطر) بالتصرف الذي اقتضاه المقام.
([67]) أشير به إلى الإمام الكبير (جعفر الصادق)، وقد ذكرناه في مواضع مختلفة من هذه السلسلة وغيرها، وانظر الحديث الافتراضي معه في فصل (العارف) من (النبي الإنسان)
([68]) المراد بهذا التعبير هنا ليس ما قد يتوهم من الفرقة المعروفة، وإنما المراد بهم كل مسلم متمسك بالإسلام المحمدي الأصيل .. الصادق في إسلامه.. فكل مسلم شيعة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ويدل لهذا حرص أهل البيت جميعا على الحفاظ على وحدة المسلمين وعدم تصديع صفهم بأي خلاف.
([69]) أشير به إلى الإمام الكبير (موسى الكاظم)
([70]) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح والبيهقي.
([71]) رواه أبو داود والطيالسي وابن أبي الدنيا والبيهقي.
([72]) رواه ابن أبي الدنيا والطبراني.
([73]) رواه أحمد.
([74]) رواه أبو داود.
([75]) رواه الأصبهاني.
([76]) رواه مسلم.
([77]) بعض هذه الخطبة منقول بتصرف من كلام لأبي حامد في الإحياء.
([78]) رواه أحمد.
([79]) رواه أحمد والبيهقى فى الشعب مقتصرا على آخره (إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لى ضرب لهن مثلا الحديث، أما أول الحديث فرواه مسلم مختصرا من حديث جابر (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون فى جزيرة العرب، ولكن فى التحريش بينهم)
([80]) رواه أحمد واللفظ له والترمذى وقال حسن صحيح.
([81]) رواه أحمد بإسناد حسن.
([82]) أشير به إلى إمام الأئمة علي بن أبي طالب .
([83]) هذه الخطبة الجليلة مروية عن علي وقد ورد في خاتمتها أن هماما لما سمع هذه الموعظة صعق صعقة كانت نفسه فيها.. فقال علي أما والله لقد كنت أخافها عليه. ثم قال: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها. فقال له قائل: فما بالك أنت يا أمير المؤمنين؟ فقال: (ويحك إن لكل أجل وقتا لن يعدوه وسببا لا يتجاوزه. فمهلا لا تعد لمثلها، فإنما نفث الشيطان على لسانك)