بشارة سليمان

في اليوم الخامس خرجت طالبا النزهة والاستجمام، فقصدت حديقة تضم أصنافا من الطيور والحيوانات.. فأهل القرية ـ كما لاحظت من خلال سلوكهم ـ محبون للحيوانات محترمون لها.
في الحديقة لفت انتباهي رجل في منتهى الهيبة والوقار، بل يظهر من خلال أمور كثيرة أن له رئاسة ما يمارسها، ولكنه مع ذلك يتجول على حيوانات الحديقة، ويتفقدها واحدا واحدا، وكأنها رعية من رعيته، يحرص عليها، ويعتني بها.
ومما زاد عجبي من الرجل، ومن الحديقة، ومن أهل القرية أنهم جعلوا جناحا خاصا بالنمل.. وهذا ما لم أره في أي حديقة من حدائق الدنيا.
رأيت الرجل يسير نحو هذا الجناج، وهو يحمل معه ألوانا من الطعام، تتبعته، فإذا به يلقي السلام على النمل، ثم يرمي الطعام إليهن.
احترت في سلوكه، وفي شخصه، وفي حقيقته.. وقد كانت هذه حبالا كثيرة دعتني إلى التعرف عليه.
اقتربت منه، وسلمت عليه، وسألته: أراك تحن على النمل.
قال: أجل.. أنا سليمان.. جعل الله سليمان بابي إلى الهداية.. فأنا أسير على قدمه.
قلت: أي سليمان ذلك الذي كان بابك؟.. وكيف تسير على قدمه؟
قال: ألا تعرف سليمان النبي؟
قلت: بلى.. ومن لا يعرف سليمان؟
قال: فما تعرف عنه؟
قلت: أعرف عنه أشياء كثيرة لا حاجة لذكرها هنا.
قال: لا.. أنت تفر بقولك هذا.. أنت تحمل صورة خاطئة عن سليمان النبي، فلذلك تستحيي من ذكرها.
قلت: لست أدري لم تحرص على الحديث عن سليمان.. وماذا يفيدك الحديث عنه.
قال: لا تقل هذا.. لقد رزقني الله محبة عظيمة لسليمان.. فلذلك ترى حياتي كلها تسير على نهجه.
قلت: لم أفهم..
قال: لقد كان سليمان نبيا ملكا.. وأنا بحمد الله عمدة هذه القرية.. وقد كان سليمان يتفقد رعيته ويحرص عليها، وها أنت تراني أتفقد رعيتي، وأحرص عليها، وأقدم الطعام لها.
ضحكت، وقلت: أأنت عمدة قرية النمل.. أم عمدة قرية البشر؟
قال: أنا عمدة القرية جميعا ببشرها ونملها وكل طيورها وحيواناتها.. وهذا اليوم مخصص لتفقد الحيوانات والاهتمام بها، أليسوا إخوانا لنا ائتمننا الله عليهم؟
قلت: وما علاقة ذلك بسليمان؟
قال: لقد آتى الله سليمان النبي حبا عظيما وتواضعا عظيما أمام كل الحيوانات.. ألم تسمع قصته مع النمل؟
قلت: وهل له قصة مع النمل؟
قال: أجل.. لقد قصها الله علينا، فقال :{ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (النمل:18 ـ 19)
ألا ترى كيف امتلأ سليمان بالتواضع لهذه النملة.
قلت: ولكني لم أر سليمان يتفقد النمل كما تتفقده.
قال: لقد أشار القرآن الكريم إلى تفقده لرعيته من الحيوانات، فقال :{ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} (النمل:20)، فقد شعر سليمان بغيبة الهدهد، فراح يبحث عنه.
قلت: والنمل!؟
قال: القرآن الكريم يذكر الحقائق المجملة، ويدع التفصيل للعقول.. أم أنك تريد أن تجعل من الرسالة الخاتمة قصة لسليمان وحيوانات سليمان؟
حركت رأسي بالموافقة، وقلت: أجل.. صحيح هذا.. إن حياة سليمان تستدعي أسفارا ضخمة.
قال: هذا هو سليمان في قرآننا ملك رحيم أواب امتلأ بالإيمان والرحمة، فوهبه الله من الفضل العظيم ما جعله قمة من قمم الهداية وشمسا من شموسها.. قال الله عنه :{ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (النمل:16)، وقال عنه :{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (صّ:30)، وقال عنه :{ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} (النمل:36)
كان يقرأ خاشعا بصوت جميل، فقلت: لقد ذكرتني قراءتك برجل التقيت به أمس.. كان حدادا، وكان صاحب صوت جميل، وكان ذا علم بالكتاب.
ابتسم، وقال: هل التقيته؟
قلت: ما به؟.. أو من يكون الرجل؟
قال: ذلك والدي.. إنه نشيط جدا.. إنه لا يمضي دقيقة من حياته في غير العمل الصالح.. حتى إنه لا يطرق بمطرقته طرقة إلا صحبها بذكر الله وترتيل آياته.
قلت: فأنت ولد عاق إذن؟
قال: معاذ الله.. كيف يكون سليمان عاقا لداود؟
قلت: فأنت عمدة البلدة كما تذكر، فكيف تترك أباك يمارس الحدادة؟
قال: هو يحب أن يأكل من عمل يده.. هو يحب داود.. وقد كان داود يعمل بيبده مع أنه كان ملكا.. إن العمل باليد شرف للمؤمن لا إهانة له.
ومع ذلك.. فقد سبقني إلى حكم هذه القرية.. بل سلم حكمها لي برضا أهل القرية زاعما أن لدي من القدرات التنظيمية ما ليس له.
صمت، فقال: وماذا تحمل أنت عن سليمان؟
لم أدر ما أقول، فقال:أنت تحمل صورة مشوهة عن سليمان.. وأنت معذور في ذلك.. فالكتاب المقدس الذي شوه بتحريف صورة النبيين هو الذي حملك على ذلك.
قلت: كف عن هذا.. أتسخر من كتابي؟
قال: معاذ الله أن أسخر من شيء.. ولكن أجبني: ألست وقومك تعتقدون أن سليمان ارتد في آخر عمره.. وهو الوقت الذي تتوجه فيه القلوب إلى الله.. مع أن جزاء المرتد في الشريعة الموسوية هو الرجم حتى لو كان المرتد نبيا ذا معجزات كما مصرح بذلك الباب الثالث عشر، والسابع عشر من سفر الاستثناء، بل لا يعلم من موضع من مواضع التوراة، أنه يقبل توبة المرتد، ولو كان توبة المرتد مقبولة، لما أمر موسى بقتل عبدة العجل، حتى قتل ثلاثة وعشرين ألف رجل على خطأ عبادته.
قلت: صدقت في هذا..
قال: ليس ذلك فقط.. بل أنتم تعتقدون أنه بنى المعابد العالية للأصنام في الجبل قدام أورشليم، وهذه المعابد كانت باقية مئتي سنة حتى نجسها، وكسر الأصنام يوسنا بن آمون ملك يهوذا في عهده، بعد موت سليمان بأزيد من ثلثمائة وثلاثين سنة.. لا يمكنك أن تخالفني في ذلك، فقد جاء ذلك صريحا في الباب الثالث والعشرين من سفر الملوك الثاني.
قلت: صدقت في هذا..
قال: ليس ذلك فقط.. بل أنتم تعتقدو أنه تزوج نساء من سائر الشعوب، التي منع الله من الزواج منهن، كما في الباب السابع من الاستثناء: (ولا تجعل معهم زيجة فلا تعط ابنتك لابنه، ولا تتخذ ابنته لابنك)
قلت: صدقت في هذا..
قال: ليس ذلك فقط.. بل انتم تعتقدون أنه تزوج ألف امرأة، وقد كانت كثرة الأزواج محرمة على من يكون سلطان بني إسرائيل في الآية السابعة عشر من الباب السابع عشر من سفر الاستثناء: (ولا تكثر نساؤه لئلا يخدعن نفسه)
قلت: صدقت في هذا..
قال: ليس ذلك فقط.. بل أنتم تعتقدون أن نساءه كن يبخرن ويذبحن للأوثان، مع أنه ورد في الباب الثاني والعشرين من سفر الخروج: (من يذبح للأوثان فليقتل)، فكان قتلهن واجباً.
بل أنتم تعتقدون أن هؤلاء النسوة أغوين قلبه، فكان رجمهن واجباً على ما هو مصرح به في الباب الثالث عشر من سفر الاستثناء، وهو ما أجرى عليهم الحدود إلى آخر حياته.
قلت: صدقت في كل هذا.. ولكن الله تواب رحيم.
قال: كل هذه كبائر لابد لها من توبة.. فهل ثبتت توبة سليمان في كتبكم؟
صمت، فقال: لقد قرأت الكتاب المقدس مرات لا تحصى.. ولم أظفر بشيء.. بل لو تاب لهدم المعابد التي بناها، وكسر الأصنام التي وضعها في تلك المعابد، ورجم تلك النساء المغويات.. على أن توبته ما كانت نافعة لأن حكم المرتد في التوراة ليس إلا الرجم.
صمت، فقال: أتفرس فيك أنك رجل دين.
قلت: لا حاجة للتفرس، فثيابي تدل علي، وتنم عني.
قال: أخرج كتابا مقدسا من جيبه، وقال: اقرأ ما ورد في الباب الحادي عشر من سفر الملوك الأول.
فتحت الكتاب، فقرأت: (وكان سليمان الملك قد أحب نساء كثيرة غريبة، وابنة فرعون، ونساء من بنات الموابيين، ومن بنات عمون، ومن بنات أدوم، ومن بنات الصيدانيين، ومن بنات الحيثانيين من الشعوب الذين قال الرب لبني إسرائيل لا تدخلوا إليهم، ولا يدخلوا إليكم لئلا يميلوا قلوبكم إلى آلهتكم، وهؤلاء التصق بهم سليمان بحب شديد وصار له سبعمائة امرأة حرة، وثلثمائة سرية، وأغوت نساءه قلبه فلما كان عند كبر سليمان أغوت نساءه إلى آلهة أخر، ولم يكن قلبه سليماً للّه ربه مثل قلب داود أبيه وتبع سليمان عستروت إله الصيدانيين وملكوم صنم بني عمون وارتكب سليمان القبح أمام الرب ولم يتم أن يتبع الرب مثل داود أبيه ثم نصب سليمان نصبة لكاموش صنم مواب في الجبل الذي قدام أورشليم، ولملكوم وثن بني عمون وكذلك صنع لجميع نسائه الغرباء، وهن يبخرن، ويذبحن لآلهتهن فغضب الرب على سليمان حيث مال قلبه عن الرب إله إسرائيل الذي ظهر له مرتين ونهاه عن هذا الكلام أن لا يتبع آلهة الغرباء، ولم يحفظ ما أمره به الرب فقال الرب لسليمان: إنك فعلت هذا الفعل، ولم تحفظ عهدي ووصاياي التي أمرتك بهن، أشق شقاً ملكك، وأصيره إلى عبدك(سفر الملوك الأول :11/ 1 ـ 11)
بعد أن أنهيت القراءة، قال: كل ما قرأته كذب وتخليط على نبي عظيم.. ولن تجد تبرئة لهذا النبي إلا في القرآن الكريم، فالله تعالى يقول عنه :{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} (البقرة: 102)، ويقول عنه :{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (صّ:34 ـ 35)
قرأ هذا، ثم جلس يتأمل النمل، ويرمي الطعام إليهن.
جلست لجلوسه، وقلت: لقد ذكرت لي أن سليمان هو بابك إلى الهداية.
قال: أجل.. لقد كنت على دينك.. لقد كنت مسيحيا، كما كان أبي..أما أبي، فقد استنار بشعاع داود ليصل إلى شمس محمد.. وأما أنا، فاستنرت بشعاع سليمان لأصل إلى تلك الشمس العظيمة التي استنارت بها الكائنات.
قلت: وبأي أشعة سليمان استنرت؟
قال: بأشعة كثيرة.. منها ما ورد في المزامير من قوله: (ويملك من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض، أمامه تجثو أهل البرية، وأعداؤه يلحسون التراب، ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة، ملوك شبا وسبإ يقدمون هدية، ويسجد له كل الملوك، كل الأمم تتعبد له، لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين إذ لا معين له، يشفق على المسكين والبائس ويخلص أنفس الفقراء، من الظلم والخطف يفدي أنفسهم، ويكرم دمهم في عينيه، ويعيش ويعطيه من ذهب شبا، ويصلّي لأجله دائماً، اليوم كله يباركه، تكون حفنة بر في الأرض في رؤوس الجبال، تتمايل مثل لبنان ثمرتها ويزهرون من المدينة مثل عشب الأرض يكون اسمه إلى الدهر، قدام الشمس يمتد اسمه، ويتباركون به، كل أمم الأرض يطوّبونه، مبارك الرب الله إله إسرائيل الصانع العجائب وحده، ومبارك اسم مجده إلى الدهر ولتمتلئ الأرض كلها من مجده، آمين ثم آمين)(المزمور 72/8-19)
قلت: هذه النبوءة تتحدث عن المسيح..
قال: وما دليلك على ذلك.. لقد قال قرآننا :{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111)
قلت: دليل واضح لا يمكن الشك في قوته.. لقد ورد في النبوءة: (ملوك يقدمون هدية له).. وهذا لا يصدق إلا على المسيح.
قال: لقد زعمتم أن الملوك صلبوه.. فكيف ترون أنهم قدموا له هدية، أم أن الصليب هو هديتهم له؟
قلت: إن هذه النبوءة تتحدث عن أولئك المجوس الذين قدموا هدية للمسيح بعد مولده.
قال: وهل كانوا ملوكا؟
صمت، فقال: أنتم تتعلقون بقشة.. إن هذه البشارة ينطق كل حرف منها بمحمد.. بل هي تكاد تصرح باسمه.
قلت: لا أرى اسمه في البشارة.
قال: وهل رأيت اسم المسيح حين حملت البشارة عليه؟
صمت، فقال: إن كنت تبحث عن الحقيقة.. فهلم نبحث عنها، ونقارن مدى انطباق كل عبارة من عبارات البشارة على محمد أو المسيح.
لقد كان لكلامه حلاوة تأسر القلوب، فلذلك لم أملك إلا أن أقبل العرض الذي عرضه علي.
قال: فلنبدأ بما ورد في البشارة من قوله:(ويملك من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض، أمامه تجثو أهل البرية).. ألا ترى أن هذه البشارة تتعلق بنبي صاحب رسالة عالمية؟
قلت: أجل.. وقد كان المسيح كذلك.. ألا ترى المسيحية تعم بقاع الأرض؟
قال: دعنا من الواقع.. ولنذهب إلى الكتاب المقدس ليخبرنا بالحقيقة..
قلت: أي حقيقة؟
قال: حقيقة المسيحية.. هل هي ديانة عالمية، أم هي ديانة مختصة بشعب إسرائيل؟
قلت: ما تقصد؟
قال: أنت تفهم قصدي.. أجبني: هل أرسل المسيح للناس كافة، أم أرسل لبني إسرائيل خاصة؟
لم أجد ما أقول، فقد كانت النصوص الكثيرة في الكتاب المقدس تؤيد الرجل فيما يذهب إليه، لكني قلت: المسيح هو شمس الحقيقة التي تضيء العالم أجمع..
قال: أنت تفر من الحقائق إلى الأشعار.. ولذلك سأنوب عنك في الإجابة.
لقد بحثت في الأناجيل التي هي المصدر الأول للتعرف على دعوة المسيح، فدلتني على أن دعوة المسيح قاصرة على شعب اليهود فقط، بل إن البشارة بمجيئة قبل مولده تشير إلى أن رعايته ستكون لشعب اليهود فقط.. أليس ذلك صحيحا، أم تراني وصلت إلى نتائج خاطئة؟
لم أجد ما أقول، فقال: لك الحق.. هذا كلام مجمل.. ولا ينبغي الاكتفاء بالمجمل.. أنت تبحث عن التفاصيل.
لقد بدأت بحثي بإنجيل متى، وكان أول ما رأيت فيه ما حكاه متى عن الله من قوله:(وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل)(متى:2 : 6)
أليس في قوله:(يرعى شعبي إسرائيل) إشارة واضحة على أن دعوة المسيح ستكون لشعب اليهود فقط؟
قلت: ليس بالضرورة.. فدخول شعب إسرائيل في دعوة المسيح لا يلغي دخول غيرهم.
قال: ولكن النصوص تخصص شعب إسرائيل فقط بدعوة المسيح.. وقد كان في إمكانها أن تقول: (يخلص الإنسان) أو (يخلص العالمين) لتشمل إسرائيل وغيرهم من الشعوب.
لا بأس.. لقد جاءت نصوص أخرى أكثر صراحة:
لما جاء الملاك إلي مريم العذراء، وبشرها بولادة يسوع أخبرها بأنه يكون على بيت يعقوب، كما في لوقا: (فقال لها الملاك : لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله، وها أنت ستحبلين أبناً وتسمينه يسوع.. ويعطيه الرب كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد)(لوقا 1 : 30)
ولما جاء الملاك الذي ظهر ليوسف النجار، قال له: (فَسَتَلِدُ ابْناً، وَأَنْتَ تُسَمِّيهِ يَسُوعَ، لأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ)(إنجيل متى:1 : 21)
إن قول الملاك: (يخلص شعبه) دليل على أن دعوة المسيح خاصة ببني إسرائيل.
ولما اختار المسيح اثنى عشر تلميذاً ليكونوا تلاميذه ومساعديه في نشر دعوته كان اختياره لهم من بين اليهود أنفسهم، وأخبرهم أن دينونتهم خاصة بشعب إسرائيل، كما جاء في إنجيل متى أثناء نقله للمحاورة بين المسيح وبين أحد تلاميذه، وهو بطرس، فقد جاء فيها: (فأجاب بطرس حيئذ، وقال له: ها نحن قد تركنا كـل شيء وتبعناك، فماذا يكون لنا؟ فقال يسوع: الحق أقول لكم، إنكم أنتم الذين تبعتموني فـي التجديد، متى جلس ابن الانسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثنى عشـر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر)(متى 19 : 27)
فالمسيح يخبرهم أنهم يدينون أسباط إسرائيل فقط، ولم يذكر لهم أنهم يدينون شعوب العالم، وفي هذا إشارة إلى أن رسالته وهم من بعده قاصرة على شعب اليهودية المتفرع من أسباط الاثنى عشر.
وعندما رفضت أورشليم رسالة المسيح ناجاها بكلام يستفاد منه أن رسالته خاصة بشعب اليهود فقط، فقد قال:(يا أورشليم يا أورشليم.. يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا)(متى 37 : 23)
قلت: كل ما ذكرته يدل على أن المسيح أرسل إلى شعب إسرائيل.. ولكن ليس هناك نص ينفي إرساله إلى غيرهم.
قال: لا.. هناك نصوص كثيرة تكاد تصرح بذلك.. إن المسيح عندما أرسل تلاميذه لينشروا دعوته بين اليهود كرر لهم الوصية في أن يقصروا الدعوة على اليهود، بل إنه حذرهم من دخول مدن الأمم الأخرى، ولو كانـوا جيراناً لليهود، وقد ذكر إنجيل متى (10 : 5) ذلك، فقال: (هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً : إلى طريق أمم لا تمضوا إلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)
ليس ذلك فقط.. بل إن المسيح لما بدأ الدعوة إلى الله أعلن أنها قاصرة على بني إسرائيل، ولا تمتد إلى غيرهم، لذلك تجده يقول في متى (15 : 24):(لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)
ألا ترى أن (إلا) أداة للحصر، وهي تدل على انحصار رسالة المسيح ضمن الشعب الاسرائيلي؟
قلت: ولكن.. ألم تقرأ ما ورد في إنجيل (متى: 38):(اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم)
قال: إن هذا النص معارض بكل النصوص التي سبق ذكرها.. ولهذا ذهب المحققون إلى أن هذه العبارة إلحاقية بإنجيل متى، لأنها لم تذكر في بقية الأناجيل.
ألا ترى من الغرابة أن يختص متى بهذه الرواية دون غيره؟
لقد اتفقت الاناجيل الثلاثة على إيراد قصة دخول المسيح أورشليم راكباً على جحش، فهل كان ركوبه على جحش أهم من عالمية الرسالة!؟
بل إن الكثير من النصوص في إنجيل متى يشير إلى أن رسالة المسيح مختصة بإسرائيل، فقد ورد في إنجيل متى (2 : 1):(وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ ؟))
وينقل متى أن التهمة التي وجهت للمسيح هي أنه ملك اليهود: (فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي، فَسَأَلَهُ الْوَالِي: (أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟) فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: (أَنْتَ تَقُولُ) (متى 27: 11)
قلت: فقد ورد في إنجيل يوحنا ما يدل على عموم تخليصه، ألم تقرأ: (ولي خراف أخرى ليست من هذه الحظيرة، وينبغي أن آتي بتلك)(يوحنا: 16:10).. وجاء في نفس الإنجيل (32:12): (وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع)
قال: من قصد بالخراف الذين من الحظائر الأخرى؟
قلت: قصد بهم كل من يؤمن به من جميع الأمم؟
قال: لا.. إن مقصد المسيح واضح.. إنه يقصد ما ورد في إنجيل متى (24:15):(لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)
قلت: ولكن خراف إسرائيل من حضيرته.
قال: لا.. لقد كان كل سبط من إسرائيل يشكل حضيرة خاصة.. فلهذا كان قصده من سائر الحظائر، أي الأسباط الإحدى عشر الأخرى.
قلت: وما تقول فيما جاء في نفس الإنجيل (32:12): (وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع)
قال: هل سيجذب المسيح إليه جميع الناس من آمن به ومن لم يؤمن؟
قلت:لا.
قال: إذن من قصد المسيح بالجميع ؟
قلت: أي أن جميع الأمم ستتبعه.
قال: لا.. هذا النص يفهم على ضوء النصوص السابقة.. لأن كلام المسيح جميعا يتعلق ببني إسرائيل.. فلا يخرج كلامه عن أصله إلا بدليل قوي صريح.
صمت قليلا، ثم أضاف: فنبوءة سليمان لا تنطبق في هذا الجانب على المسيح.
قلت: فهل تنطبق على محمد؟
قال: أجل.. بل إنها لا تنطبق إلا عليه، فنصوص كتابه المقدس، وحياته، وأقواله كلها تدل على أن نبوته عامة للعالمين.
إن رسالة محمد تخاطب كل الأمم، وكل الأجناس، وكل الشعوب، وكل الطبقات.. هي ليست خاصة بشعب إسرائيل الذي راح يزعم الخيرة لنفسه، ويرمي سائر الخلق في أتون الرذالة.
إن القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة رادا بها على اليهود والنصارى، فيقول:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (المائدة:18)
قلت: ربما قال اليهود هذا.. أما نحن فلا نقوله.
قال: ألستم تحملون عنصرية بغيضة تجاه الأجناس الأخرى؟
قلت: لا..
قال: فبماذا تفسر ما ورد في الإنجيل من أن امرأة مؤمنة من كنعان([1])، وهم سكان فلسطين قبل مجيء بني إسرائيل، جاءت المسيح، وأنها ظلّت تتوسل إليه، ولكنه لم يُلبّ طلبها إلا بعد أن أهدرت كرامتها، وقورنت بالكلاب، ورضيت.
أأترك لك قراءة النص.. أم أقرؤه أنا؟
صمت، فقال: لا بأس.. سأقرأه أنا لأنال أجر قراءته.. لقد جاء في إنجيل متى، وهو الإنجيل الذين تستندون إليه في نسبة العالمية للمسيحية:(ثم غادر يسوع تلك المنطقة، وذهب إلى نواحي صور وصيدا، فإذا امرأة كنعانية من تلك النواحي، قد تقدمت إليه صارخة: (ارحمني ياسيد، ياابن داود! ابنتي معذبة جدا، يسكنها شيطان) لكنه لم يجبها بكلمة، فجاء تلاميذه يلحون عليه قائلين: (اقض لها حاجتها. فهي تصرخ في إثرنا!)، فأجاب: (ما أرسلت إلا إلى الخراف الضالة، إلى بيت إسرائيل!)، ولكن المرأة اقتربت إليه، وسجدت له، وقالت: (أعني ياسيد!)، فأجاب: (ليس من الصواب أن يؤخذ خبز البنين ويطرح لجراء الكلاب!)، فقالت: (صحيح ياسيد؛ ولكن جراء الكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أصحابها!)(متى 15: 23 ـ 27)
قال: ولكن المسيح أجاب المرأة.. فقد ورد في (متى: 28): (فأجابها يسوع:(أيتها المرأة، عظيم إيمانك! فليكن لك ما تطلبين!) فشفيت ابنتها من تلك الساعة)
قلت: أرأيت لو أن شخصا لم يلب طلبك البسيط بالنسبة له إلا بعد أن أهان كرامتك، واحتقرك، بل سماك كلبا، ثم لم يلبه إلا بعد إلحاح شديد، بل بعد سجودك له.. أتعتبر مثل هذا إنسانا محترما لا يحمل أي عنصرية.
سكت، فقال: ومع ذلك أنتم تسمونه إلها.. هل الإله هو الذي يفضل شعبا على شعب.. وأمة على أمة؟
سكت، فقال: إننا نجد هذه العنصرية المقيتة تفوح من آيات الكتاب المقدس، ألم تقرأ ما جاء في إنجيل يوحنا: (ورأى يسوع نثنائيل قادما نحوه فقال عنه: (هذا إسرائيلي أصيل لا شك فيه!) (يوحنا:ا/47)
لست أدري كيف تذكرت قائد المئة الرومي والذي جاء المسيح إليه بدلا من أن يذهب هو بنفسه إلى المسيح، فقلت: ولكن.. ألم تقرأ ما ورد في (لوقا 7: 1 ـ 10):(وبعدما أتم إلقاء أقواله كلها في مسامع الشعب، دخل بلدة كفرناحوم. وكان عند قائد مئة عبد مريض قد أشرف على الموت، وكان عزيزا عليه. فلما سمع بيسوع، أرسل إليه شيوخ اليهود، متوسلا إليه أن يأتي وينقذ عبده. ولما أدركوا يسوع، طلبوا إليه بإلحاح قائلين: (إنه يستحق أن تمنحه طلبه، فهو يحب أمتنا، وقد بنى لنا المجمع). فرافقهم يسوع. ولكن ما إن أصبح على مقربة من البيت، حتى أرسل إليه قائد المئة بعض أصدقائه، يقول له: (ياسيد، لا تكلف نفسك، لأني لا أستحق أن تدخل تحت سقف بيتي. ولذلك لا أعتبر نفسي أهلا لأن ألاقيك. إنما قل كلمة، فيشفى خادمي: فأنا أيضا رجل موضوع تحت سلطة أعلى مني، ولي جنود تحت إمرتي، أقول لأحدهم: اذهب! فيذهب؛ ولغيره: تعال! فيأتي؛ ولعبدي: افعل هذا! فيفعل). فلما سمع يسوع ذلك، تعجب منه، ثم التفت إلى الجمع الذي يتبعه، وقال: (أقول لكم: لم أجد حتى في إسرائيل إيمانا عظيما كهذا!) ولما رجع المرسلون إلى البيت، وجدوا العبد المريض قد تعافى)
قال: بلى.. قرأت ذلك.
قلت: فهل ترى في هذا أي مظهر من مظاهر العنصرية؟
قال: فرق كبير بين المرأة الكنعانية البسيطة، وهذا القائد.. إن كتبة الإنجيل رغم رفضهم لضعفاء الأمم حتى وإن آمنوا،لا نجدهم يحتقرون أولي النفوذ والقوة، كملة اليهود من قبلهم الذين كانوا على مدى تاريخهم ترتعد فرائصهم من أولي البأس والسلطان.. حتى إنهم ينافقونهم، ويخدمونهم، ويسجدون لهم.
ألم تقرأ ما قاله بولس، وهو ينافق السلطة الوثنية الغالبة في عصره:(على كل نفس أن تخضع للسلطات الحاكمة. فلا سلطة إلا من عند الله، والسلطات القائمة مرتبة من قبل الله. حتى إن من يقاوم السلطة، يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيجلبون العقاب على أنفسهم. فإن الحكام لا يخافهم من يفعل الصلاح بل من يفعل الشر. أفترغب إذن في أن تكون غير خائف من السلطة؟ اعمل ما هو صالح، فتكون ممدوحا عندها، لأنها خادمة الله لك لأجل الخير. أما إن كنت تعمل الشر فخف، لأن السلطة لا تحمل السيف عبثا، إذ إنها خادمة الله، وهي التي تنتقم لغضبه ممن يفعل الشر. ولذلك، فمن الضروري أن تخضعوا، لا اتقاء للغضب فقط، بل مراعاة للضمير أيضا. فلهذا السبب تدفعون الضرائب أيضا، لأن رجال السلطة هم خدام لله يواظبون على هذا العمل بعينه. 7فأدوا لكل واحد حقه: الضريبة لصاحب الضريبة والجزية لصاحب الجزية، والاحترام لصاحب الاحترام، والإكرام لصاحب الإكرام)(روميه 13/1 ـ 7)
ومن قبله قال المسيح كما في (متى 22/21):(أعطوا ما للقيصر للقيصر، وما لله لله)
وليس هذا المقت والاحتقار للشعوب المستضعفة جديدا.. بل هو قديم قدم الكتاب المقدس:
ألستم تقرأون في (المزامير: 82/6ـ7):(أنا قلت: (إنكم آلهة، وجميعكم بنو العلي. لكنكم ستموتون كالبشر)؟
ألستم تقرأون في (التكوين: 9/ 25 ـ 26): (ليكن كنعان ملعونا، وليكن عبد العبيد لإخوته)، ثم قال: (تبارك الله إله سام. وليكن كنعان عبدا له، ليوسع الله ليافث فيسكن في خيام سام. وليكن كنعان عبدا له)، رغم أن الذي شاهد عورة أبيه هو حام والد كنعان؟
ألستم تقرأون في (تكوين 21/ 10)(فقالت لإبر اهيم: (اطرد هذه الجارية وابنها، فإن ابن الجارية لن يرث مع ابني إسحق)، فقد جعل اليهود إسماعيل عم إسرائيل ابن جارية، وجعلوا إسحاق أبا إسرائيل ابن حرة، وجعلوه هو ابن أبيه الوحيد، متجاهلين أسبقية من جعلوه ابن الأمة؟
ألستم تقرأون في (صموئيل: 1/ 43): (فقال الفلسطيني لداود: (ألعلي كلب حتى تأتي لمحاربتي بعصي؟)؟
ألستم تقرأون في (مزامير: 60/8):(موآب مرحضتي، وعلى أدوم ألقي حذائي)؟
ألستم تقرأون في (تثنية 20/ 10ـ 15): (وحين تتقدمون لمحاربة مدينة فادعوها للصلح أولا. فإن أجابتكم إلى الصلح واستسلمت لكم، فكل الشعب الساكن فيها يصبح عبيدا لكم. وإن أبت الصلح وحاربتكم فحاصروها فإذا أسقطها الرب إلهكم في أيديكم، فاقتلوا جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم، وكل ما في المدينة من أسلاب، فاغنموها لأنفسكم، وتمتعوا بغنائم أعدائكم التي وهبها الرب إلهكم لكم. هكذا تفعلون بكل المدن النائية عنكم التي ليست من مدن الأمم القاطنة هنا) ؟
ألستم تقرأون في (صموئيل 1/ 15 : 3):(فاذهب الآن وهاجم عماليق.. لا تعف عن أحد منهم بل اقتلهم جميعا رجالا ونساء، وأطفالا ورضعا)؟
ألستم تقرأون في (إشعياء 61/ 5 ـ 6):(ويقوم الغرباء على رعاية قطعانكم، وأبناء الأجانب يكونون لكم حراثا وكرامين. أما أنتم فتدعون كهنة الرب،.. فتأكلون ثروة الأمم وتتعظمون بغناهم)؟
ألستم تقرأون سفر يشوع.. ذلك السفر الذي يفوح بروائح العنصرية التي لا تقل عن عنصرية هتلر.. بل تزيد عليها.. سأقرأ لك شيئا أبتغي بذلك الأجر.. أليست قراءة الكتب المقدسة تقربنا إلى الله وإلى المسيح !؟
بدأ يقرأ: (ودمروا المدينة وقضوا بحد السيف على كل من فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ حتى البقر والغنم والحمير. ثم أحرق الإسرائيليون المدينة بالنار بكل ما فيها واستحيا يشوع راحاب الزانية)(يشوع 6/ 21)
وورد فيه: (رجع المحاربون الإسرائيليون إلى عاي وقتلوا كل من فيها. 25فكان جميع من قتل في ذلك اليوم من رجال ونساء اثني عشر ألفا، وهم جميع أهل عاي. 26.. حتى تم القضاء على جميع أهل عاي) (يشوع 8/ 24)
أأزيدك أم تكتفي بهذا؟
سكت، فقال: كيف تقارن هذا بما ورد في القرآن الكريم عن رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها رحمة للعالمين، قال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الانبياء:107).. إن هذه الآية صريحة في التوجه العالمي لرسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فليس في كل النصوص المقدسة الإسلامية: (إنما أرسلت لخراف إسماعيل الضالة).. بل إن فيها :{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (لأعراف:158)
وفيها:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1)
وفيها :{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (الأنعام: 90)
وفيها :{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (صّ:87)
وفيها :{ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (القلم:52)
ولهذا أثنى الله على أمة الإسلام في كتابه حين خاطبها فقال :{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آل عمران: 110)
فالله برحمته أخرج هذه الأمة إلى الناس، وتولى رعايتها، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بعد أن رغب بنو إسرائيل عن تولي هذه المهمة.
ثم التفت إلي، وقال: أرى أن الجزء الأول من البشارة ينطبق انطباقا تاما على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهلم بنا إلى الجزء الثاني.
لم أدر إلا وأنا أردد من غير شعور: (وأعداؤه يلحسون التراب، ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة، ملوك شبا وسبإ يقدمون هدية، ويسجد له كل الملوك، كل الأمم تتعبد له)
قال: أنتم تستدلون بهذا الجزء على جعل النبوءة في المسيح.
قلت: أجل.. فقد ورد في الكتاب المقدس ذكر سجود المجوس له، كما في (متى: 2: 1 ـ 2):(وبعدما ولد يسوع في بيت لحم الواقعة في منطقة اليهودية على عهد الملك هيرودس، جاء إلى أورشليم بعض المجوس القادمين من الشرق، يسألون: (أين هو المولود ملك اليهود؟ فقد رأينا نجمه طالعا في الشرق، فجئنا لنسجد له)
وفي (متى: 2: 11 ـ 12):(ودخلوا البيت فوجدوا الصبي مع أمه مريم. فجثوا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا، ذهبا وبخورا ومرا. ثم أوحي إليهم في حلم ألا يرجعوا إلى هيرودس، فانصرفوا إلى بلادهم في طريق أخرى)
قال: ألا ترى أن هذا هو التكريم الوحيد الذي حصل للمسيح في حياته؟
صمت، فقال: من قال لك بأن هؤلاء المجوس أعداء له.. لقد نصت البشارة على أن أعداء هذا الموعود يلحسون التراب.
قلت: أجل..
قال: فهل تحقق هذا في المسيح؟
صمت، فقال: لم يتحقق.. إن المسيح ـ بحسب الإنجيل ـ نال الكثير من الهوان، بل إن أعداءه تسلطوا عليه، فصلبوه.
لست أدري كيف قلت من غير أن أشعر: أنا مقر بأن هذه البشارة لم تتحقق في المسيح.. فهل تحققت في محمد؟
انتفض قائلا: هل ترى الشمس؟
قلت: وكيف لا أراها؟
قال: فهل يمكن أن يجادل أحد في الشمس؟
قلت: لا.. إلا إذا كان مغرما بالمخالفة، مشتهيا للجدل.
قال: فكذلك ما أمد الله به نبيه من نصر ومنعة وحماية رغم كل المخاطر التي حاقت به..
لقد كان أعداء محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكثرة والقوة ما لا يقارن به أعداء المسيح، ومع ذلك نصر الله نبيه إلى أن أكمل دعوته، ونزل عليه ما ثبت كمالها.
بل إن هذه الانتصارات جاءت كنبوءات غيبية امتلأ بها القرآن الكريم، وكأنه يتحدى كل القوى التي واجهت محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من أن تفعل شيئا في مواجهته:
فالله تعالى يقول لرسوله وللمؤمنين:{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55)
فقد وعد الله المؤمنين في هذه الآية بجعل الخلفاء منهم وتمكين الدين المرضي لهم، وتبديل خوفهم بالأمن، فوفى وعده في مدة قليلة.. بل إنه في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم استطاع المسلمون أن يفتحوا مكة، وخيبر والبحرين، ومملكة اليمن، وأكثر ديار العرب.
بل إن الله تعالى أخبر بأن هذا الدين سيظهر على الدين كله، قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة:33)
وبشره بأنه سيأتي اليوم الذي يدخل الناس فيه دين الله أفواجا، فقال :{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } (النصر:1 ـ 3)
بل إن القرآن الكريم يتحدى الأعداء بالغلبة، فيقول :{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} (آل عمران:12 ـ 13)
أخبرني يا صاحبي.. هل ترى في كتابكم المقدس أي وعد بمثل هذا النصر؟
قلت: ولكن المسيحية انتصرت، وخضع الرومان.. وانتشرت في العالم، وهي الآن من أكثر الديانات في العالم انتشارا.
قال: نعم هي انتشرت.. ولكنها لم تنتشر بالطريقة التي انتشر بها الإسلام.. لقد كانت بين أمرين: المحافظة على صفائها الذي جاء به المسيح، أو تحولها إلى مزيج من الديانات لترضي أذواق الرومان والشعوب التي دخلت فيها.. ولكنها للأسف اختارت الثاني.. فحصل لها ما حصل من التحريف.
ومع ذلك.. فالبشارة التي جاء بها سليمان لا ترتبط بهذا، لقد أخبرت بأن الله سيكفي هذا المبشر أعداءه، وسينصره عليهم.. فهل حصل للمسيح؟
قلت: حصل في عالم الروح..
قال: لا.. البشارة تشمل الروح والجسد.
قلت: أنت تعرف بأن المسيح أوذي كثيرا.
قال: أنا أعرف ذلك.. وأعرف أن كثيرا من الأنبياء قتلوا في ذات الله، وهذا شرف لهم.. ولكني أبحث عن سر النبوءة.. النبوءة لغز يحتاج إلى عقل يفكك مفرداته وتراكيبه ليعرف المراد منه.. ولا علاقة لها بكمال التصرف أو نقصانه.. فنحن لا ننقص من قدر المسيح إن قلنا: إن النبوءة لا تنطبق عليه.. كما لا ننقص من قدر محمد إن قلنا بأن الكثير من النبوءات لا ينطبق عليه، وإنما ينطبق على المسيح أو غير المسيح.
قلت: فهل حصل لمحمد هذه الكفاية التي ذكرتها؟
قال: نعم.. حصلت له في حياته، وبعد مماته([2]).. واسمح لي أن أسوق لك من النصوص ما يثبت ذلك.. وكلها تحقيق لنبوءة قرآنية تقول :{ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} (الحجر:95)، وتحقيق لنبوءة أخرى تقول :{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة:67).. فهل أنت مستعد لسماعي.
قلت: لا بأس.. تكلم بما شئت.
قال: أما في حياته صلى الله عليه وآله وسلم فقد رويت الأخبار الكثيرة ـ التي يفيد في مجموعها التواتر ـ عن عناية الله بنبيه وحفظه له وانتقامه من أعدائه:
ومن ذلك أن أبا لهب وابنه عتبة تجهزا إلى الشام، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إلى محمد، ولأوذينّه في ربه، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنفذ وعيده، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك)
ثم انصرف عنه، فرجع إلى أبيه، فقال: يا بني ما قلت له؟ فذكر له ما قاله، فقال: فما قال لك؟ قال: قال:(اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك) قال: يا بني، والله ما آمن عليك دعاءه!
فساروا حتى نزلوا بالشراة، وهي أرضٌ كثيرة الأسد، فقال أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة، والله ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة، وافرشوا لابني عليها، ثم افرشوا حولها، ففعلنا، فجاء الأسد فشمَّ وجوهنا فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة، فإذا هو فوق المتاع فشمَّ وجهه، ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه!! فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا يتفلت من دعوة محمد.
والله يكفي نبيه كيف شاء، وبما شاء:
فقد يقذف الله الخوف في قلب من يتعرض له بالأذى ليحول ذلك بينه وبين ما أراد، وقد روي من ذلك أن غورث بن الحرث قال: لأقتلن محمدًا، فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به. فأتاه فقال: يا محمد أعطني سيفك أشمّه، فأعطاه إياه فرعدت يده، فسقط السيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(حال الله بينك وبين ما تريد)
ومن ذلك ما يروى أن أبا جهل قال لقومه: (واللات والعزى لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه في التراب)، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يصلي ليطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل: مالك؟ فقال: (إن بيني وبينه خندقًا من نار وهولاً وأجنحة)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا)
ويروي ابن عباس أن رجالاً من قريش اجتمعوا في الحجر، ثم تعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف أن لو قد رأوا محمدًا لقد قمنا إليه مقام رجل واحد، فقتلناه قبل أن نفارقه، فأقبلت ابنته فاطمة تبكي حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت:(هؤلاء الملأ من قومك لقد تعاهدوا لو قد رأوك قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل واحد إلا قد عرف نصيبه من دمك)، فقال: (يا بنية آتيني بوضوء)، فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: هاهو ذا، وخفضوا أبصارهمن وسقطت أذقانهم في صدورهم، فلم يرفعوا إليه بصرًا، ولم يقم منهم إليه رجل، فأقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قام على رؤوسهم، وأخذ قبضة من التراب ثم قال: (شاهت الوجوه)، ثم حصبهم بها فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصا حصاةٌ إلى قتل يوم بدر كافرًا.
وقد يوفر الله من أسباب الهلاك التي تبدو طبيعية ما ينصر به نبيه، ويهلك به أعداءه، ومن ذلك ما يروى عن عامر بن الطفيل وأربد بن قيس اللذين تآمرا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم..
واسمع القصة..
لقد كان عامر بن الطفيل شيطان نجد الذي غدر بأصحاب بئر معونة ومعه شيطان مثله هو أربد بن قيس، قد اتفقا على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم غدراً وغيلة، بحيث يشغل عامر بن الطفيل بالحديث، ويأتي أربد بن قيس من خلفه ويطعنه بالخنجر، ولكن الله عز وجل حبس يد أربد وشلها، ونجا الله رسوله من غدر الكافرين، وفى طريق عودتهما أرسل الله على أربد بن قيس وجمله الذى يركبه صاعقة من السماء فأحرقته، أما عامر بن الطفيل فأصيب بغدة في عنقه فصار يخور مثل البعير المنحور حتى هلك.
ومن ذلك ما حصل لعقبة بن أبي معيط الذي وضع رجله على عنق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقطعت عنقه.
لقد جاء والرسول صلى الله عليه وآله وسلم ساجد خلف المقام بالكعبة، فوضع رجله على عنق الرسول، وغمزها فما رفعها حتى كادت تخرج عينا الرسول من مكانها، ثم جاء مرة أخرى بسلا شاة، فألقاه على كتف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ساجد، فجاءت فاطمة فطرحته عن كتف أبيها.
فكان عاقبته أن يقع أسيراً في غزوة بدر، ويؤخذ من بين الأسرى، وتضرب عنقه، ثم يلقى في قليب بدر.. وهكذا كان جزاء من سولت له نفسه وضع قدمه على العنق المبارك الشريف، تقطع عنقه، ويلقى في المزابل.
ومن ذلك أن يخرق الله له السنن الكونية ليحفظه، ويعصمه، ومما يروى في ذلك المرأة التي جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بشاة مشوية دست فيها سمًا كثيرًا، فلما لاك النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها مضغة لم يسغها، وقال: (إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم)، ثم دعا باليهودية فاعترفت.
ومن ذلك أن يقذف الله الهدى في قلب من آذاه، فيتوب، حتى يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أحب إليه من ماله وولده ووالده والناس أجمعين.. ومما يروى في ذلك قصة أبي سفيان بن الحارث أخي النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاع، فقد كان يألف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيام الصبا وكان له تربًا، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاداه أبو سفيان عداوةً لم يعادها أحدًا قط، وهجا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهجا أصحابه.. ثم شاء الله أن يكفي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لسان أبي سفيان وهجاءه، لا بإهلاكه وإنما بهدايته
حدث أبو سفيان عن نفسه، قال: ثم إن الله ألقى في قلبي الإسلام، فسرت وزوجي وولدي حتى نزلنا بالأبواء، فتنكرت وخرجت حتى صرت تلقاء وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما ملأ عينيه مني أعرض عنّي بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى.
قالوا: فما زال أبو سفيان يتبعُهُ، لا ينزلُ منزلاً إلا وهو على بابه ومع ابني جعفر وهو لا يكلمه، حتى قال أبو سفيان: والله ليأذنن لي رسول له أو لآخذن بيد ابني هذا حتى نموت عطشًا أو جوعًا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رق لهما فدخلا عليه.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحدى أعداءه، فيخرج بين أظهرهم من غير أن يروه، ومما يروى في ذلك أن أبا جهل، قال لأصحابه: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكا، فإذا متم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جِنَانٌ خير من جنان الأرْدُن وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تُعَذَّبون بها. وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك، وفي يده حفنة من تراب، وقد أخذ الله على أعينهم دونه، فجعل يَذُرّها على رؤوسهم، ويقرأ :{ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ }(يس:1 ـ 2)
التفت إلي، وقال: أرى أن الجزء الثاني من البشارة ينطبق انطباقا تاما على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهلم بنا إلى الجزء الثالث.
لم أدر إلا وأنا أردد من غير شعور: (لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين إذ لا معين له، يشفق على المسكين والبائس ويخلص أنفس الفقراء، من الظلم والخطف يفدي أنفسهم، ويكرم دمهم في عينيه، ويعيش ويعطيه من ذهب شبا، ويصلّي لأجله دائماً، اليوم كله يباركه، تكون حفنة بر في الأرض في رؤوس الجبال، تتمايل مثل لبنان ثمرتها ويزهرون من المدينة مثل عشب الأرض)
قال: أنتم تستدلون بهذا الجزء على جعل النبوءة في المسيح.
قلت: أجل.. فقد ورد في الكتاب المقدس النصوص الكثيرة من رحمة المسيح..
قال: وورد فيه النصوص الكثيرة من قسوته.
انتفضت غاضبا، وقلت: ما تقول يا رجل؟
قال: أنا لا أقول.. بل الكتاب المقدس هو الذي يقول.. أنا لست سوى قارئ للكتاب المقدس لا مؤلفا له.
قلت: فأين ترى قسوة المسيح؟
قال: أنت تعلم المواقف التي ألصقتموها بها.. والتي نبرئه منها.
قلت: لا أذكر أي موقف.
قال: سأقرأ لك ما قد يذكرك.. وسأكتفي بموقفين تتجلى فيهما رحمة المسيح بالمرأة المستضعفة.
أخذ الكتاب المقدس، وراح يقرأ: (ثم غادر يسوع تلك المنطقة، وذهب إلى نواحي صور وصيدا، فإذا امرأة كنعانية من تلك النواحي، قد تقدمت إليه صارخة: (ارحمني ياسيد، ياابن داود! ابنتي معذبة جدا، يسكنها شيطان) لكنه لم يجبها بكلمة، فجاء تلاميذه يلحون عليه قائلين: (اقض لها حاجتها. فهي تصرخ في إثرنا!)، فأجاب: (ما أرسلت إلا إلى الخراف الضالة، إلى بيت إسرائيل!)، ولكن المرأة اقتربت إليه، وسجدت له، وقالت: (أعني ياسيد!)، فأجاب: (ليس من الصواب أن يؤخذ خبز البنين ويطرح لجراء الكلاب!)، فقالت: (صحيح ياسيد؛ ولكن جراء الكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أصحابها!)(متى 15: 23 ـ 27)
هذا هو الموقف الأول..
أما الموقف الثاني، فإهانته لأمه وسط الحضور، وقوله لها: (مالي ولك يا امرأة) (يوحنا:2 : 4)؟
أهكذا تكون الرحمة بالأم؟
صمت، فقال: أما محمد.. فقد وصفه ربه بأنه ـ أساسا ـ رحمة للعالمين، فقال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الانبياء:107)
قلت: أي رحمة تزعمها لمن نزل عليه الأمر بالجهاد والقتال؟
قال: إن الجهاد الذي يضحي فيه المؤمن بنفسه وماله من أجل نصرة المستضعف أعظم مظهر من مظاهر الرحمة، لقد علل الله الأمر بالجهاد بالرحمة، فقال :{ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75)
فقد علل الله قتال المستكبرين بنصرة المستضعفين..
أجبني..
أرأيت لو كنت تسير في الطريق، وكانت امرأة لا تعرفها تسير في نفس الطريق.. فتعرض لها بعضهم بسوء، أكنت تتركها لهم؟
قلت: لا.. بل أنهرهم عنها.
قال: فإن لم يستجيبوا؟
قلت: استعمل كل الوسائل.
قال: فإن لم يستجيبوا إلا لصوت القوة.
قلت: حينذاك لا بد من استعمالها إن كانت لدي طاقة.
قال: فقد أمرنا ديننا بالإعداد لهذه القوة حتى نستعملها في حال الحاجة، وهي التي نسميها الجهاد..
أجبني.. ألم يخبر المسيح بشرعية الجهاد.. ألم يمارس النبيون الذين تنقلون أخبارهم في الكتاب المقدس الجهاد في حياتهم ضد أعدائهم.
ثم أخبرني.. أيهما أكثر رحمة قوله تعالى:{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين}(البقرة:190 ـ 191)
وقوله تعالى:{ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75)
وقوله تعالى:{ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} (النساء: 90)
وقوله تعالى:{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (لأنفال:47)
وقوله تعالى:{ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (لأنفال:61)
وقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (لأنفال:70)
وقوله تعالى:{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} (التوبة:6)
أهذه النصوص التي تفوح بالرحمة والأدب مع كونها تتحدث عن القتال.. أو ما ورد في الكتاب المقدس من الحديث عن هذه الناحية بالذات..
ولنبدأ بما يقول سفر حزقيال [ 9 : 5 ] من قول الرب: (اعبروا في المدينة خلفه واقتلوا. لا تترأف عيونكم ولا تعفوا. أهلكوا الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء. ولكن لا تقربوا من أي إنسان عليه السمة، وابتدئوا من قدسي). فابتدأوا يهلكون الرجال والشيوخ الموجودين أمام الهيكل. وقال لهم: (نجسوا الهيكل واملأوا ساحاته بالقتلى، ثم اخرجوا). فاندفعوا إلى المدينة وشرعوا يقتلون)
ألا تعلم يا صاحبي أن الكتاب المقدس هو الكتاب الوحيد على وجه الأرض الذي يأمر بقتل الأطفال؟
ليس هذا فقط، لقد جاء في سفر يشوع [ 6 : 16 ]:(قال يشوع للشعب: اهتفوا، لأن الرب قد وهبكم المدينة. واجعلوا المدينة وكل ما فيها محرما للرب،…. أما كل غنائم الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد، فتخصص للرب وتحفظ فى خزانته. فهتف الشعب، ونفخ الكهنة في الأبواق. وكان هتاف الشعب لدى سماعهم صوت نفخ الأبواق عظيما، فانهار السور في موضعه. فاندفع الشعب نحو المدينة كل إلى وجهته، واستولوا عليها. ودمروا المدينة وقضوا بحد السيف على كل من فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ حتى البقر والغنم والحمير)
انظر الرحمة التي يحملها الكتاب المقدس للرجال والنساء والأطفال حتى البقر والغنم والحمير..
وفي سفر هوشع [ 13 : 16 ] يقول الرب: (تجازى السامرة لأنها تمردت على إلهها. بالسيف يسقطون. تحطم أطفالهم، والحوامل تشق)
وفي سفر إشعيا [ 13 : 16 ] يقول الرب: (وتحطم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نساؤهم)
أين هذا الأوامر الاجرامية المثبتة في كتابكم المقدس من وصية محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمقاتلين حينما كان يقول لهم: (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة، ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)
وكان يقول لهم: (سيروا باسم الله، وفي سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدا)
قلت: أنت تحدثني بما في أسفار الأنبياء.. لا بكلام المسيح..وتقارن بينها وبين ما جاء به محمد.
قال: لقد أبقى المسيح ـ كما تذكرون ـ أسفار الأنبياء كما هي، بل أخبر أنه لم يأت لينقض الناموس.. أي أن كل ما ذكر هنا أقره المسيح.
ومع ذلك، فأنتم تروون قوله: (لا تظنوا أني جئت لأرسي سلاما على الأرض. ما جئت لأرسي سلاما، بل سيفا فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكنة مع حماتها. وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته)(إنجيل متى :10)
ليس ذلك فقط.. فللرحمة مجالاتها المختلفة التي جاء الإسلام جميعا لرعايتها.. فهو رحمة للمعوزين، وللقاصرين، وللمستضعفين، وللمذنبين، وللرجال، وللنساء، وللأطفال، وللكائنات.. إن محمدا ودين محمد رحمة محضة.. فإن كنت صادقا، فسيقيض الله لك من يدلك على رحمة محمد ودين محمد([3]).
نظر إلي، وقال: أظن أن هذا الجزء لا ينطبق على أحد في العالم كما ينطبق على محمد.. فلنبحث في جزء آخر.
لم أدر إلا وأنا أقرأ: (يكون اسمه إلى الدهر، قدام الشمس يمتد اسمه، ويتباركون به، كل أمم الأرض يطوّبونه، مبارك الرب الله إله إسرائيل الصانع العجائب وحده، ومبارك اسم مجده إلى الدهر ولتمتلئ الأرض كلها من مجده، آمين ثم آمين)
قال: إن هذا الجزء من البشارة يتحدث عن خلود دين هذا المبشر به.
قلت: بلى.. وقد تحقق ذلك في المسيحية.
قال: إن أردنا الخلود مجرد البقاء.. فقد تحقق ذلك في المسيحية واليهودية وكل الديانات.
قلت: وهل الخلود يعني شيئا آخر غير البقاء؟
قال: نعم.. الخلود الصحيح هو الذي يجتمع فيه البقاء مع الصفاء.. فالبقاء الظاهر وحده لا يعني شيئا.
قلت: لم أفهم ما الذي تريد قوله؟
قال: لا يمكنني الآن أن أفسر لك ذلك.. فهو يحتاج علوما كثيرة لا يكفي هذا المجلس لذكرها.. ولكني سأكفتي بذكر خلاصة لك.. وستجد من يبين لك مدى صدقها.
قلت: ما هي؟
قال: لا يوجد دين في الأرض لا يزال غضا طريا كما أنزل إلا دين محمد.. ولا يوجد كتاب مقدس يقرأ بنفس الحروف والكلمات التي أنزل بها إلا كتاب محمد.. ولا توجد سيرة نبي تحمل نموذجا كاملا للإنسان الكامل غير سيرة محمد.. ولا توجد تعاليم في أي دين من الأديان يمكنها أن تبني المدينة الفاضلة، والمجتمع الفاضل إلا تعاليم محمد..
قلت: حسبك.. أراك ترسل الأحكام هكذا جزافا.. فإن كل حكم من هذه الأحكام يستدعي الأسفار الضخمة لإثباته([4]).
قال: ولذلك قلت لك: إنني لا أستطيع أن أذكر لك في هذا المحل كل ما يمكنه أن يثبت لك خلود هذا الدين..
قلت: لا بأس لن أطالبك الآن بإثبات ذلك.. ولكن ألا ترى أن المسيحية قد حصل لها من الخلود ما حصل لدين محمد؟
قال: أي مسيحية تلك التي حصل لها هذا الخلود؟
قلت: المسيحية واحدة.. الدين الذي جاء به المسيح.
قال: إن أردت ذلك.. فالمسيحية لم تبق إلا فترة قصيرة في حياة بعض الصادقين الذين ظلوا مخلصين للمسيح ولما جاء به المسيح.. وتلك الثلة القليلة الباقية سرعان ما انضمت إلى محمد بمجرد مجيئه، بل كانت تتلهف لمجيئه.
قلت: وسائر المسيحية؟
قال: لقد وقعوا بين مطرقة بولس، وسنديان أباطرة الرومان.
قلت: لم أفهم ما الذي تريده؟
قال: كما أني لم أستطع أن أبين لك في هذا المحل سر خلود الإسلام.. فلن أستطيع أن أثبت لك سر خلود المسيحية.. ولكن إن كنت صادقا، فسيقض الله لك من يعلمك ما فعل بولس، وما فعل الأباطرة بالمسيح ودين المسيح.
قلت: لقد انتهينا من الحديث عن هذه النبوءة، فهل أتركك مع رعيتك.. لقد شغلتك عنها.
قال: لا.. لا عليك إنها تحب مثل هذه الأحاديث، وتأنس لها، إنها تحب محمدا وتحن له.. ألم تسمع بحنين الجذع لمحمد؟.. ألم تسمع بمحبة جبل أحد لمحمد؟
صمت، فقال: ربما لم تكفك تلك البشارة التي ذكرتها لك.. لدي أخت لها.. سأذكرها لك لعلك تنال منها بصيصا يهديك إلى شمس محمد.
في كتاب نشيد الأناشيد، وفي الجزء الخامس منه نرى وصفا لرجل يذكر اليهود أنه سليمان، بينما تذكرون أنتم أنه المسيح، والمتكلم في النص مجهول لكنه يبدو لنا أنه أنثى.
اليهود يرجحون أن المتكلم هو زوجة سليمان المسماة شولميث، و أنها تصف سليمان نفسه، وأنتم تذكرون أن لديكم أدلة قوية على أن الخطاب هو للمسيح.
فإن كان هذا صحيحاً فإننا أمام نبوءة تتعلق بموعود يأتي.. فلنبحث عن الأوصاف التي ذكرت لنرى على من تنطبق: هل على سليمان، كما يقول اليهود.. أو على المسيح، كما تقولون أنتم.. أو على غيرهما.. وربما يكون محمدا..
لقد أحضرت معي الجزء الخامس من نشيد الأناشيد.. خذه واقرأ علي..
أخذت الكتاب المقدس، ورحت أقرأ هذا الحوار:
(بَنَاتُ أُورُشَلِيمَ): بِمَ يَفُوقُ حَبِيبُكِ الْمُحِبِّينَ أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ؟ بِمَ يَفُوقُ حَبِيبُكِ الْمُحِبِّينَ حَتَّى تَسْتَحْلِفِينَا هَكَذَا؟
(الْمَحْبُوبَةُ): حَبِيبِي أَبيَضٌ وَ أَزْهَرُ (متورد)، عَلَمٌ بَيْنَ عَشَرَةِ آلاَفٍ. رَأْسُهُ ذَهَبٌ خَالِصٌ وَغَدَائِرُهُ مُتَمَوِّجَةٌ حَالِكَةُ السَّوَادِ كَلَوْنِ الْغُرَابِ. عَيْنَاهُ حَمَامَتَانِ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ، مَغْسُولَتَانِ مُسْتَقِرَّتَانِ فِي مَوْضِعِهِمَا. خَدَّاهُ كَخَمِيلَةِ طِيبٍ (تَفُوحَانِ عِطْرَاً) كَالزُهُوْرِ الحُلْوَة، وَشَفَتَاهُ كَالسُّوْسَنِ تَقْطُرَانِ مُرّاً (صمغ ذكي الرائحة) شَذِيّاً. يَدَاهُ حَلْقَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ مُدَوَّرَتَانِ وَمُرَصَّعَتَانِ بِالزَّبَرْجَدِ، وَجِسْمُهُ عَاجٌ مَصْقُولٌ مُغَشًّى بِالْيَاقُوتِ. سَاقَاهُ عَمُودَا رُخَامٍ قَائِمَتَانِ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ نَقِيٍّ، طَلْعَتُهُ كَلُبْنَانَ، كَأَبْهَى أَشْجَارِ الأَرْزِ. فَمُهُ عَذْبٌ، نعم: إِنَّهُ مَحَمَد. هَذَا هُوَ حَبِيبِي وَهَذَا هُوَ صَدِيْقٍي يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ([5])!
انفضت غاضبا، وقلت: هذا كتاب محرف.. لا يوجد في الكتاب المقدس اسم محمد.. فكيف أثبت هنا؟
قال: صدقت.. أنت تقصد المقطع رقم 16.. هذا النص ترجمة حرفية للنص العبري.. أما كلمة محمد.. فتركناها في هذه الترجمة كما هي من غير أن نتصرف في ترجمتها باعتبارها علما.. الأعلام لا تترجم في جميع لغات العالم ما عدا في الكتاب المقدس خاصة إذا تعلق الأمر بمحمد.
إن هذا المقطع يحتوي على الكلمة العبرية مَحَمَد فهل هي مصادفة أن يكون إسم الشخص الذي نتبأ عنه كاسم نبينا؟
الكلمة العبرية (محمد) تتألف من الحروف العبرية الأربعة (ميم حيت ميم داليت)، وهي نفس الأحرف العربية (ميم حاء ميم دال)، والفرق الوحيد بين مَحَمَد ومُحُمَّد هو التشكيل.. وهذا التشكيل لم يخترعه اليهود إلا في القرن الثامن الميلادي، أي بعد حوالي مئة سنة من بدء الإسلام ([6]).
زيادة على هذا، فإن كلمة مُحُمَّد في العربية والعبرية لها معنى واحد هو صيغة التفضيل من الرجل المحمود، أما كلمة مَحَمَد فإن لها حسب قاموس (بن يهودا) أربعة معان، وهي: (المحبوب، المُشتهَى، النفيس، المحمّد).. وبالطبع فإن المترجمين للكتاب المقدس يميلون لاختيار أول ثلاث كلمات لإبعاد القارئ عن الكلمة الحقيقية.
التفت إلي، وقال: ها هو اسم النبي الموعود في الكتاب المقدس.. فابحثوا عمن ينطبق عليه هذا الاسم.. ولن تجدوا غير محمد رسول الله.
قال ذلك، ثم انصرف إلى حيواناته يطعمها، ويتفقدها.
أما
أنا، فانصرفت بحيرة جديدة، وببصيص من النور اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى
الله عليه وآله وسلم.
([1]) وفي رواية مخالفة،أن المؤمنة من اليونان من أصل سوري فنيقي (فنيقيا هي لبنان أو ساحل سوريه)
([2]) انظر الأدلة الكثيرة المثبتة لهذا في رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة، وسنكتفي هنا ببعض النماذج من باب الضرورة الفنية.
([3]) انظر في هذه السلسلة الجزء المسمى (رحمة للعالمين)، ففيه التفاصيل الكثيرة المثبتة لذلك.
([4]) انظر تفاصيل الأدلة المثبتة لهذا في رسالة (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة، فصل (صمود).
([5]) عبارة (يا بنات أورشليم) هي أيضا ترجمة غير صحيحة ففى الأصل العبرى نجد كلمة ابن أو بن ( בנ ) برقم ( 1121 ) والجمع منها بنى وبنو وهذه الكلمة تقال للذكور من الأولاد، مثلها مثل العربية تماما.. فمن أين جاءت كلمة البنات. (انظر: نبي أرض الجنوب)
([6]) هذا هو الفرق بين كلمة مَحَمَد
و كلمة مُحُمَّد
والتشكيل لم يكن موجوداً في العبرية القديمة، وإضافة التشكيل للغة العبرية إنما تم في القرن الثامن الميلادي، فمن المحتمل أن يكون الحاخام الذي قام بتشكيل نشيد الأناشيد قد أخطأ في هذه الكلمة، أو أنه تعمد ذلك ليمعن في إبعاد قارئي الكتاب المقدس عن الإسلام الذي كان قد انتشر قبل قرن من إضافة التشكيل للغة العبرية.