الهداية

الهداية

في  ختام رحلتي القصيرة المباركة إلى الإسكندرية ركبت الطائرة، وبمجرد استقراري على كرسيها أخذت المصحف الذي أعطانيه سائق الشاحنة، ورحت أقرأ فيه بحرارة.. لست أدري كيف انجذبت إليه كل ذلك الانجذاب.. لقد كانت المعاني تلوح لي من كلماته، وكأنه بحر زاخر لا ساحل له.

لقد انشغلت عن الطائرة، وركاب الطائرة.. وكل شيء.. إلى أن كدنا نصل إلى البلاد التي جئت منها، فالتفت إلى الذي بجانبي، فإذا به ذلك الهادي الذي أهداه الله إلي، بصمته وسكينته ووقاره، التفت إلي، وابتسم، وقال: لقد عدت تحمل كتابا مقدسا آخر..

قلت: لا.. هذا القرآن.. هذا قرآن المسلمين.. هو كتاب مقدس عندهم.

قال: ولكني رأيتك تغرق في بحره.. ورأيت أسارير وجهك تنم عن مشاعر لم أرها في المرة السابقة؟

قلت: لست أدري.. أرى هذا الكتاب يتحدث بلغة غريبة.

قال: لابد أن تكون لغة الكتاب المقدس لغة غريبة.. لأنها من مصدر غير الإنسان.

قلت: ولكنها توجه للإنسان.. فكيف تكون غريبة عنه؟

قال: هي توجه لكل الإنسان بكل لطائفه وطاقاته.. أما سائر الكلمات، فتوجه لبعض لطائف الإنسان، وتغفل عن غيرها.. قد تتوجه إلى العقل، وقد تتوجه إلى النفس، وقد تتوجه إلى المشاعر.. قد تخاطب فردا، وقد تخاطب مجموعا.. وقد تتحدث مع زمان، وتغفل عن زمان.. وقد تتحدث إلى مكان، وتغفل عن أمكنة.. 

قلت: والكلمات المقدسة؟

قال: تجمع الكل.. ويجتمع لديها الكل.. وهي لذلك كلمات غريبة في نظمها وأسلوبها ومعانيها وموضوعاتها.. لأن الذي قالها فوق الكل، ومبدع الكل.

قلت: أشعر بهذا نحو القرآن.

قال: فهو كلمات مقدسة إذن.

قلت: لا أجرؤ أن أقول ذلك.. ولا أجرؤ أن أقر بذلك.. مع أني أشعر أنه كذلك.

قال: فاذبح توأمك إذن.

قلت: هو أخي.. فكيف تريد مني أن أذبحه؟

قال: اذبح تلك الخيوط التي تربطك به، أو تجعلك أسيرا له.

قلت: ولكنه يموت إن بقي وحده.

قال: ولكن قلبك وعقلك وروحك وسرك يموت إن بقي مرتبطا به.

قلت: فما أعمل؟

قال: أنت الذي تعمل.. وأنت الذي تفكر ماذا تعمل.. وأنا لا طاقة لأن أرشدك لشيء.. فأنت الذي تبني، وأنت الذي تهدم.

قلت: إن في نفسي من آثار البابا الذي زارنا ما لا يمحى.

قال: فابحث عن الأشعة التي تنمحي بنورها كل الظلمات.

قلت: قد ظفرت بكثير من الأشعة.. لكنها لم تطفئ ظلمتي بعد.

قال: فليصحبك الشوق إلى الأشعة.. فإن الشوق ينير درب الأشعة.

قلت: أتريد مني أن أبحث أنا عن الأشعة.. لا أن أتركها تبحث عني؟

قال: كن صادقا في طلبها فقط.. وهي تأتيك، بل تهرول إليك.

جاءت المضيفة.. وأخذته كعادتها.. وتركتني أسير حيرتي.

***

 التفت الشيخ إلي،  وقال: كانت هذه هي رحلتي إلى الكلمات المقدسة، وقد تعرفت من خلالها على القرآن الكريم.. وعرفت أنه بحد ذاته شمس عظيمة.. كل آية فيه، بل كل كلمة، بل كل حرف، شعاع من الأشعة يدل على الله.. ويدل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. ويدل على الإنسان.

لقد ظل ذلك المصحف الذي أهداه إلي ذلك المتنعم بجمال القرآن يصاحبني إلى اليوم.. كنت أقرأ فيه.. وأبكي أحيانا كثيرة.. وترتجف جميع أوصالي..

ولكني ما إن ألتقي أخي التوأم حتى تنسدل الحجب على قلبي لتجعلني أتعذب.. فلا أنا مع محمد.. ولا أنا مع أخي..

ولكني كنت أشعر في كل قراءة للقرآن الكريم أن تلك الخيوط التي تربطني بأخي بدأت تتقطع، وأن تلك الأشعة التي تقربني من محمد بدأت تجتمع ليتشكل منها في الأخير الخيار الذي اخترته لحياتي.. وهو أن أعيش صحبة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وصحبة الكلمات المقدسة التي تنزلت عليه.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *