الهداية

  الهداية

بعد انتهاء تلك السنة التي تشرفت فيها بلقاء أولئك المستشرقين الذين قطفت على أيديهم ثمارا مباركة من شجرة النبوة، جاءتني رسالة من أخي التوأم يبشرني فيها بتحوله إلى الفاتيكان، واستلامه فيها منصبا محترما قد يرفعه في المستقبل لأن يصبح من مستشاري البابا وخصوصه.

وقد طلب مني أن أزوره في الفاتيكان حيث يقيم.. أو حيث أصبح مقر إقامتنا.

لم أملك إلا أن ألبي طلبه، وأحزم متاعي لأخرج من فرنسا.

في طريقي دخلت مكتبة لأشتري جريدة.. فرأيت صاحب المكتبة يتفرج على فيلم إسلامي يحكي قصة بداية الإسلام.. فبقيت أتفرج معه بعض الوقت.

وقد شد انتباهي في الفيلم قصة جعفر بن أبي طالب مع النجاشي.. لقد كنت قرأتها من قبل.. ولكني في ذلك الحين رأيتها بجميع مشاعري..

لقد سأله النجاشي ملك الحبشة: (ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟)

فقال جعفر: (أيها الملك، إنا كنا قوما أهل جاهلية ؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلغ، ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمر بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة، – فعدد عليه أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به واتبعناه)

رأيت صاحب المكتبة مستغرقا في هذا المشهد، فاقتربت منه، وحييته، وسألته: هل أنت مسلم؟

قال: قبل ساعة لم أكن مسلما.. لكني الآن.. والآن فقط نضج الإسلام في قلبي.. لقد اكتملت جميع الأشعة.. وأنا الآن أبصر شمس محمد، وهي تملأ الآفاق.. فيا بشراي، وأنا أتنعم بدفئها وحنانها.

قلت: فما الذي جذبك إلى الإسلام.. وأنت ترى الكل ينفر منه.

قال: لقد وضع أولئك الحسدة الحقدة على الإسلام أول بذور الإسلام في قلبي.. وأحسبني مدينا لهم بالشكر ما حييت.

قلت: ما تقول؟

قال: لقد رسموا صورة مشوهة للإسلام في نفسي.. ولكن نفسي التي تعرف ألوان الطلاء التي يستعملونها لم تقبل منهم تلك الصورة.. فرحت أبحث في الثمرات المختلفة.. ثمرات الأديان.. وثمرات الأفكار.. وثمرات المذاهب.. ورحت أقارن ذلك بالإسلام.. فوجدت ما بهرني.

لقد نطق جعفر بالحقيقة.. فليت لنا أمثال جعفر في هذا الزمان.

قلت: أي جعفر تقصد؟

قال: ذلك الذي كان يتحدث.. إنه ابن عم محمد.. وقد أوى إلى النجاشي، وهو حاكم مسيحي عاقل.. وقد كان لجعفر من الذكاء والفطنة والإيمان بحيث عرف كيف يخاطب الحاكم..

لم يشأ أن يدخل معه في جدل عقيم.. بل راح يحدثه عن الثمرات.. عن الحصاد العظيم الذي جنته البشرية من زرع محمد..

إن ذلك الحصاد هو وحده الذي يكفي لكل عاقل لكي يعرف طيبة البذور التي طلب محمد من البشرية أن تغرسها.

أخذ الجريدة من يدي، وأخذ يقرأ عناوينها.. وقد صادف أن كانت العناوين مملوءة بإفرازات هذه الحضارة السامة.. وقال: هذه ثمراتهم.. وتلك ثمرات الإسلام، ولا نجاة للبشرية إلا بالإسلام.

***

 لما وصل الغريب من حديثه إلى هذا الموضع التفت إلي، فرآني في غاية السرور، وقد انزاحت عني تلك الكآبة التي كانت تعلو وجهي، وتملؤني بالإحباط، وقال: هذه حكايتي مع ثمار شجرة النبوة.

قلت: أكل هذه ثمار للنبوة؟

قال: هذه بعض ثمار النبوة.. ولا يمكن لأي بشر في الدنيا أن يحيط بثمار النبوة علما..

إن الفضل العظيم الذي من الله به على البشرية بإرسال نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن حده ولا حصره ولا الإحاطة به..

إن الحياة جميعا تتوقف على هذا الفضل العظيم كما تتوقف حياة الأرض على تلك الأشعة الدافئة الحنون التي ترسلها الشمس.

قلت: فهل أسلمت بعدها..

قال: لا .. لقد ظلت الشياطين تنفخ في عقلي وقلبي من الشبهات ما كان يصرفني عن كل خطوة أخطوها لإعلاني إسلامي.. لكني عندما امتلأت بالضعف والتواضع، ولجأت إلى ربي أن يتداركني برحمته وهدايته، أرسل لي من الأنوار ما أراني الأمور على حقيقتها.. فامتلأت بفضل الله بأنوار الهداية، ورفعت عن قلبي أدران الغواية.

هذا الكتاب

تجري أحداث هذه الرواية بين مبشر مسيحي – هو بطل الرواية، وهو الذي أسلم بعد ذلك، وحكى قصته للمؤلف – ومجموعة من المستشرقين المنصفين الكبار الذين بهرتهم القيم العظيمة التي جاء بها الإسلام، فشهدوا شهادات صادقة كانت أحسن رد على شهادات المجحفين والمناوئين من المبشرين والمستشرقين والمستغربين.

وتدور أحداث الرواية في جامعة السربون وما حولها.. وفيها مقارنات كثيرة بين كل ثمرة جاء بها الإسلام من خلال مصادره المقدسة، والثمار التي جاءت بها سائر الأديان والمذاهب السماوية أو الوضعية.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *