الهداية

ختمت الأيام العشرة التي كانت مقررة لي في هذه الرحلة الأولى في حياتي إلى تلك البلاد المقدسة.
لا أخفيك أني قد رجعت بمشاعر متباينة لا أستطيع تمييزها..
هل كنت فرحا لأني اكتشفت أشياء جديدة لم أكن أعرفها.. أو لأني سمعت حوارا عقليا، كان أخي، وكان الكثير ممن لاقيتهم يحرص على أن لا أخوضه؟
أو كنت حزينا.. لأن معارفي التي كنت أبشر بها، وأحرص عليها بدأت تتسرب إليها تلك الأشعة التي أخمدت نار فارس، وحطمت أبراج قيصر.
لست أدري أي المشاعر تغلب في تلك اللحظات التي امتطيت فيها الطائرة، وجلست فيها مسترخيا على كرسيها.
في تلك اللحظات خطر على بالي ذلك الرجل العجيبب الذي جلس بجانبي.. كم تمنيت أن يعود ليجلس بجانبي من جديد.. لأسمع منه كلام العقل والحكمة.
ما خطر هذا الخاطر على خاطري حتى التفت، فوجدته أمامي يقرأ الجريدة، ففرحت كثيرا، وقلت: مرحبا بك.. ها نحن نعود جميعا.. كما سرنا جميعا.
ابتسم بهدوء، ثم عاد ليغوص في قراءة جريدته، سألته: ما تقرأ؟
قال: أقرأ هذه الجريدة.
قلت: أرى ذلك.. ولكني أقصد أي موضوع هذا الذي ملأ فكرك انشغالا به؟
قال: لقد أوردت هذه الصحيفة خبرا مهما، فأنا أفكر في مدى صدقه.
قلت: وما أوردت؟
قال: لقد نقلت عن وكالات الفضاء الأمريكية والأوروبية والروسية.. بل عن جميع وكالات الفضاء العالمية أخبارا مؤكدة بأن الشمس ستنكسف بعد أسبوع في أجزاء كثيرة من أرض اليونان.
قلت: هذا خبر أكيد.. فهذه جريدة محترمة.. والذين نقلت عنهم لا يقلون عنها احتراما.. ثم كيف اجتمعوا على إيراد مثل هذا الخبر؟
قال: ولكن ألا يمكن أن يكونوا قد اجتمعوا على الكذب علي وعلى الناس؟
قلت: وما يجديهم الكذب.. إن هؤلاء خبراء علماء.. لا يشك في صدقهم ولا علمهم إلا معاند، ثم إن سائر الأنباء التي ذكروها، والتي أثبتت الأيام صدقها تدل على صدقهم الدائم.
قال: ألا يمكن أن يكونوا قد اجتمعوا على الكذب في هذا الخبر خاصة؟
قلت: يستحيل ذلك.. فالجرائد الكثيرة نقلت ذلك.. ووكالات الفضاء كلها اتفقت على ذلك.. ولا عليك.. اصبر أسبوعا واحدا، وسيأتيك بالأخبار من لم تزود.
قال: ألوكالات الفضاء الأرضية كل هذه المصداقية؟
قلت: ألست من الأرض حتى تعبر عنها بوكالات الفضاء الأرضية؟
قال: نعم أنا من الأرض.. ولكني منشغل بالسماء.. أقول لنفسي: ما بال البشر يطبقون على تصديق وكالات الفضاء الأرضية.. ثم هم أنفسهم يطبقون على تكذيب وكالات الفضاء السماوية.
قلت: ما تقصد؟.. وهل هناك وكالات فضاء سماوية؟
لم تمهله المضيفة حتى يجيبني.. لقد جاءت وطلبت منه أوراقه، فسار معها.. أسرعت لأدركه، لأسأله عنه وعن سره، وعن وكالات الفضاء السماوية.. فلم أجده.. سألت المضيفة.. فابتسمت.. ولم تقل شيئا..
رجعت إلى مكاني.. وأنا أفكر في هذه الوكالات السماوية، وعن الأخبار التي جاءت بها.. فلم يخطر على بالي إلا ما استفدته من رحلتي من البشارات بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت في نفسي: نعم.. نحن نرمي بالجنون كل من كذب نبأ نطق به الخبراء في شأن من الشؤون الأرضية التي قد لا يضرنا الجهل بها كثيرا.. ولكنا في شؤون السماء.. بل في شؤون الحقائق الأزلية التي ينبني عليها الكون، وتنبني عليها حياتنا نمتلئ جهلا وغفلة وكبرياء.. ثم لا نضحك على أنفسنا، ولا نعود لنراجعها لنعرف ما وقعنا فيه من أخطاء.
عدت لأراجع كل ما سمعته من بشارات.. وقلت في نفسي: نعم.. قد يكون بعضها متكلفا.. وقد يكون بعض القائلين بها متكلفين.. ولكن كيف يجتمع كل أولئك.. وتجتمع معهم كل تلك الوكالات السماوية على شيء واحد هو التبشير بمحمد..
ألا يستدعي ذلك بحثا جادا عن محمد؟
ألا يستدعي بحثا في حياته، وفيما جاء به؟
نحن نبحث عن المجرمين، وتفاصيل حياتهم ومنجزاتهم.. فلم لا نتعامل مع محمد، ولو من هذا المنطلق، لنرى حقيقته من خلال المصادر الصحيحة، لا المصادر التي لا تريد إلا تشويهه..
سرني هذا الخاطر.. وما وصلت إلى بلدي، حيث استقبلني أخي التوأم، حتى رحت أسرد عليه هذا الخاطر، وأقول له: لم لا نبحث في حياتي محمد، كما نبحث في حياة غيره.. لنرى حقيقته.. فلا أرى شيئا ينفر من المجرم غير حياته الممتلئة بالإجرام.
انتفض أخي غاضبا، وقال: إياك أن تقترب من محمد.. إن شمسه حارقة.. لم يقترب منها أحد إلا أحرقته.. فإن شئت أن تعيش مسيحيا، وتموت مسيحيا، وتنعم بالخلاص الذي جاء به المسيح، فسد هذا الباب، ولا تأكل من شجرة محمد.. فمن أكل منها هبط من جنة المسيح، كما هبط آدم من جنة الخلد.
قلت: ولكن.. ما الذي يمنعنا من دراسته؟.. نحن ندرس الكثير من الفلاسفة والأباطرة.. بل والمجرمين..
قال: محمد مختلف.. إنه شيء مختلف تماما.. ولن أستطيع أن أقول لك غير هذا.
لم يجبني أخي التوأم بغير هذا.. لكنه لما رأى ما أصابني من حزن وألم لما أجابني به، قال: أنسيت الهمة العظيمة التي كنت تحملها.. وكنت أحملها معك.. أنسيت همتنا للترقي.. أنسيت البابا..
قلت: لا.. لم أنس.. فهل ترى محمدا يحول بيني وبين البابا؟
قال: ليس في العالم من يحول بينك وبين البابا غير محمد..
طأطأت رأسي.. ولم أجد ما أجيبه به، فقال: ارفع رأسك.. وهنئنا على أول نجاح حصل لنا..
قلت: أي نجاح؟
قال: لقد رقيت أنا وأنت درجة جديدة في سلم الكنيسة.. ونحن الآن سائران في السلم الذي نصعد به إلى كرسي البابا.
قلت: ما الذي تقصد؟
قال: نتيجة لنجاحك في المهمة التي كلفت بها.. فقد أرسلوا لي هذه الترقية.
قلت: ولكني لم أنجح في مهمتي التي وكلت بها.
قال: ألم تعد إلينا والصليب في رقبتك، والمسيح على شفتيك؟
قلت: بلى..
قال: فهذا نجاح لا يعدله نجاح.. لم يذهب إلى تلك البلاد أحد إلا رمى صليبه، واحترق بشمس محمد.. فهنئ نفسك بنجاتك.
***
التفت إلي البابا، وقال: كانت هذه هي رحلتي الأولى إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد كانت تنبيها مهما انطلقت منه سائر الرحلات، أو كانت بذرة نبتت منها شجرة اهتمامي بالبحث عن حقيقة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .. والتي انتهت بفضل الله بتلك الهدية العظيمة التي أهداها لي ربي حين خلصني من نفسي ومن توأمي ومن كل تلك الحجب التي كانت تحول بيني وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.