الهداية

في اليوم الحادي عشر استيقظت على جلبة لم أتعود عليها في تلك البادية القاسية..
لقد رأيت جماهير الناس تسرع إلى شيء لم أتبينه.. فرحت أسرع من غير أن أدري لم، ولا أين..
ولكني من خلال أصوات الجموع التي كانت ترتفع بقوة عرفت سر تلك السرعة، وسر تلك الجموع..
سأحكي لك بعض ما سمعت، وبعض ما رأيت.. ثم أترك لك بعد ذلك حرية الحكم على ما رأيت وما سمعت.
كان أول صوت سمعته صوت امرأة، وقد عرفت أنها سمية.. تلك التي حدثتك عنها عند حديثي عن المستضعفين.. كانت تصيح بصوتها الجهوري قائلة: ها قد جاء الزمن الذي تعود فيه رحمة الإسلام لتشمل العالمين.. لقد بلينا بمن شوهها من الفقهاء والعلماء وحكام السوء والوزراء الظلمة والعمال الطغاة المرتشين..
واليوم لن يبقى واحد منهم.. سنرميهم جميعا في ذلك الجحيم الذي رموا الأمة فيه أمدا طويلا..
لن يحكمنا منذ اليوم فرعون.. ولن يفتي لنا منذ اليوم بلعم بن باعوراء.. ولن يحدثنا منذ اليوم كعب الأحبار.. ولن يقص علينا وهب بن المنبه.
قال صوت آخر.. وكان أشبه الأصوات بصوت أبي ذر يصيح: منذ اليوم لن يبقى خبز الفقراء بيد الأغنياء.. منذ اليوم سيستعيد الفقراء حقوقهم التي اكتنزها الأغنياء..
قال صوت آخر: منذ اليوم سنعيش الإسلام الحقيقي.. ذلك الإسلام الذي لا يعرف إلا الرحمة والسلام والعدالة والرفق.. ذلك الإسلام الذي أراد المحرفون أن يشوهوه، ليحجبوا شمسه عن العالمين..
قال صوت آخر: منذ اليوم سنطلق كل أولئك الفقهاء والمفسرين الذين اتخذوا الدين حرفة.. فراحوا يفسرون كلام ربهم وهدي نبيهم بحسب أهوائهم..
قال آخر: لن يحتكر كلام ربنا ورسالته إلينا أحد من الناس.
قال آخر: ولن يحتكر سنة نبينا أي كان..
قال آخر: منذ اليوم سنقوم بحملة لتنظيف ذلك الهدي السامي الممتلئ بالرحمة من أولئك البدو الجفاة الغلاظ الذين شوهوا رحمة نبينا، ورفق ديننا، وسماحة شريعتنا..
تعالت الأصوات الكثيرة.. والتي انضمت إليها الجموع الغفيرة.. وقد سمعت أن صدى تلك الأصوات قد وصل إلى البلاد المجاورة.. فراحت هي الأخرى تفعل ما تفعل جارتها، وتنادي بما تنادي..
كان لي شوق عظيم لأرى ما تفعل هذه الجموع الثائرة.. لكن رسالة مستعجلة من أخي وصلتني ذلك المساء حالت بيني وبين تحقيق تلك الأمنية الغالية..
ذهبت إلى المطار، ثم ذهبت إلى أخي في مقره الحساس.. وهناك.. وقبل أن أدخل عليه سمعت صوتا يتحدث معه.. كان أشبه الأصوات بذلك الشيطان الذي سلم له القوم عقولهم وقلوبهم فراح يملؤها بمكره وكيده.
سمعته يقول لأخي، وهو غاضب غضبا شديدا: لقد عادوا أخيرا.. لست أدري ما الذي جاء بهم.. لقد استعملت كل وسائلي لتنسى أسماؤهم.. وتهمل أخبارهم.. وترمى في أتون الجحيم بدعهم وأفكارهم.
لكنهم مع ذلك عادوا..
في عهد محمد اجتهدت في أن يطردوا.. لكن ربه أعلمه بهذا الكيد، فأنزل عليه قوله:{ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)} (الأنعام)
لم أيأس من ذلك.. ولذلك ما إن مات حتى رحت أملأ عقول أمته من بعده بطردهم.. طردهم جميعا.. فلا يمكن أن تتحقق أحلامنا ما دامت سمية وعمار وبلال وأبو ذر وغيرهم من المستضعفين المتحررين يملأون ديار الإسلام.
لقد اجتهدت بكل ما أطقت لأحول من الإسلام دين البرجوازيين والمستبدين والكهنة.. وقد استطعت أن أصل إلى كثير مما أرمي إليه.
لكني الآن أشعر بالعجز.. ولست أدري لم..
قال أخي: هون عليك.. فإن لك من قوة العقل وحدة الذهن وصفاء المقصد ما يخرجك من هذا العجز المؤقت الذي تقف فيه..
غضب الرجل الشيطان غضبا شديدا على أخي، وراح يقول له بقوة مصحوبة ببعض الجنون: أتتهمني – ويلك – بالعجز؟
قال أخي معتذرا: لا.. لا.. لا تفهمني خطأ.. أردت فقط أن أهون عليك عندما رأيتك حزينا.
ضحك الرجل الشيطان بصوت عال، وقال: أتتهمني – أيضا – بالحزن؟.. ألا تعلم أن الحزن هو حرفة المستضعفين.. وأنا لست منهم.. أنا أشرف من أن أحزن، وأعظم من أن يصيبني ما يصيب ذلك الطين من الحزن.
قال أخي: لا بأس عليك.. ولكن ما الذي جئتني من أجله.. هل لديك خطة جديدة..
لقد أرسلت رسالة إلى أخي، وهو الآن على وشك الحضور.. فما الوظيفة الجديدة التي تريد منه أن ينفذها؟
قال الرجل الشيطان: أخوك.. نعم أخوك.. إنه هو الآخر يشعرني بالعجز.. لكني مع ذلك لن أيأس.. فما دمت أنت معي، فأخوك معي.
إذا جاءك هذه المرة.. فاحبسه هنا.. واشغله قدر ما أطقت بالكنيسة وأعمال الكنيسة.. فلن يغسله من درنه إلا ذلك.. لقد أصابه كثير من غبار محمد.. وفي هذه الرحلة أصابه غبار أولئك المستضعفين المتحررين.. ولذلك حاول أن تلين معه قدر ما أطقت.
وفر له كل ما يحتاجه.. فلا يمكنه ولا يمكن معه أن تحلم بتحقيق ذلك المطلب العالى إلا بهذا.
قال أخي: هذا دوري مع أخي.. فما دوري مع غيره؟
قال الرجل الشيطان: أرسل أولئك الذين تعرفهم.. أرسلهم ليعيدوا قتل سمية، وجلد بلال، ونفي أبي ذر.. فلا يمكن أن يقضى على الإسلام، وفيه مثل أولئك.
قال أخي: ولكن قتلهم وجلدهم ونفيهم سيثير فتنة كبرى قد لا نطيق تحملها.
قال الرجل: وهل نحن هم الذين نفعل ذلك.. إنهم بأيديهم يفعلون ذلك.. ولذلك إن حصلت الفتنة فلن تحرق غيرهم.
قال أخي: متى يبدأ التنفيذ؟
قال الرجل: لقد بدأ التنفيذ.. ولم يبق من دور إلا دورك أنت.. ولكني لن أقوله لك جهرا.. فأسلم إلي أذنك وصدرك لأحشو فيه دورك الخطير في هذه المرحلة الجديدة.
بعد قوله هذا لم أسمع شيئا إلا شيئا كصلصلة الجرس.. لم أتبين منه شيئا.
مكثت قليلا، ثم دخلت، وقد فوجئت إذ رأيت أخي وحيدا في مجلسه ينتظرني.
قلت له، والغرابة تملؤني: لقد سمعت رجلا يحدثك.. فأين ذهب؟.. وكيف خرج؟
ضحك أخي بصوت عال، وقال: دعنا منه.. وحدثني عنك.. كيف حالك؟.. وما الذي فعلته؟
قلت بغضب: لن أجيبك حتى تخبرني.
قال: لقد كان ذلك الرجل معي.. وقد حدثني عنك.. وهو يدعوني إلى الاهتمام بك والحرص عليك.. وقد وعدني بأن ذلك الكرسي المقدس في انتظارنا.. وأن جلوسنا عليه لم يبق له إلا فترة محدودة جدا.
قلت: بأي ثمن اشتريت هذا الكرسي؟
قال: بثمن إخلاصي للمسيح، ولدين المسيح.
قلت: أي إخلاص هذا؟.. أنا أرى أنك قد استسلمت استسلاما كليا للشيطان.
ابتسم أخي، وقال: أي شيطان تتحدث عنه؟
قلت: هذا الرجل الذي كان معك لا أرى إلا أنه الشيطان..
قال: كيف تقول هذا؟.. هو رجل منا.. نعم إن لديه من القوى والطاقات ما لديه.. ولكنه مع ذلك ليس إلا رجل منا.. لقد أكرمه المسيح بكرامات كثيرة.. فلذلك أعتبره القديس الأعظم الذي لا هم له إلا حرب الهرطقات، وكسر العقبات التي تقف في وجه المسيح ورسالة المسيح.
قلت: لقد صرت أخاف عليك وعلى نفسي من هذه الأحلام التي لست أدري نهايتها.
قال: لا عليك.. أنا أعلم من أين جئت.. وماذا رأيت.. وما الذي اخترق طبلة أذنك.. وأنا فخور بك مع كل ذلك.. فأنت الذي توضع في النار ثم لا تحترق.. ولذلك سأكلفك في هذه الأيام ببعض الخدمات المرتبطة بالكنيسة.. حتى تمحو آثار ذلك الدرن الذي أصابك من بلاد محمد.
قال ذلك، ثم أسرع إلى مكتبه.. وراح يعطيني بعض الأوراق.. وهو يقول: هذه هي وظيفتك الجديدة.. لن أغامر بعد اليوم بإرسالك إلى بلاد محمد..
***
التفت الغريب إلي،
وقال: هذه هي رحلتي إلى رحمة الإسلام، وقد استفدت منها أشعة كثيرة كان لها تأثيرها
الكبير في اهتدائي إلى الإسلام.
هذا الكتاب
تحاول هذه الرواية أن تصور – عبر النماذج الكثيرة – سعة الرحمة التي جاء بها الإسلام، والتي مثلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن تمثيل.. وفي نفس الوقت حاولت أن تظهر المشاريع التي استعملت كل ما أوتيت من قوة شيطانية لتشويه هذه القيمة، وتحويل دين الرحمة إلى دين قسوة وغلظة وجفاء.
وتدور أحداثها باختصار حول مشروع يقوم به المفسدون في الأرض مستثمرين التشويهات التي حصلت في الدين عبر تاريخه الطويل لينشروا في قرية من القرى.. هي نموذج مصغر عن الأمة جميعا.. أن الإسلام دين ظلم وعدوان.. وأنه خال تماما من الرحمة والإنسانية..
لكن هؤلاء – وفي أثناء تنفيذهم لمشاريعهم – يجدون من الصالحين الذين يمثلون الدين الإلهي الصحيح من يصحح لهم تصوراتهم.. ويبين لهم الحقيقة التي اختلطت بالزيف.. والصدق الذي اختلط بالكذب.
وبناء على ذلك ينتصر المشروع الإلهي على المشروع الشيطاني.. فلا يملك أصحاب المشروع الشيطاني إلا التسليم أو الإسلام..