الهداية

بعد أن أنهى الرجل الغريب حديثه عن قصة الرجال العشرة، وما نال على أيديهم من أشعة شمسه صلى الله عليه وآله وسلم.. سألته: فما الذي حصل بعد ذلك؟
قال: في اليوم الحادي عشر.. استيقظت في الصباح الباكر.. ورحت ـ كما تعودت في الأيام العشرة التي حكيت لك حكايتها ـ أنتظر صيحة السجان باسم السجين الجديد الذي يراد أن ينفذ فيه حكم الإعدام.
لا أكتمك أني مع كل ذلك الحزن الذي كان يصيبني مساء كل يوم، وأنا أشاهد الرجال على خشبات الصلبان، وهم يمثلون البطولة والتضحية والفداء في أرقى درجاتها.. كنت إلى جانب ذلك الألم أشعر بشوق عظيم لتلك الأحاديث الجميلة الممتلئة بالحكمة والعقل.. والتي تزودت منها من أشعة شمسه صلى الله عليه وآله وسلم ما كاد يملؤني بالأنوار.
قلت: فما الذي حصل؟.. ألم يصح السجان في ذلك اليوم؟.. ألم يصح في اليوم الحادي عشر؟
قال: بلى.. لقد صاح.. ولكنه صاح بصوت مختلف تماما.. وبكلام مختلف تماما.
قلت: ماذا قال؟
قال: لقد بدأ حديثه باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله الأطهار.. ثم ألقى التحية علينا، وأخبرنا أن مسؤول السجن سيلتقي بنا ذلك اليوم في ساحة السجن.
ثم سرعان ما فتحت لنا الزنازن.. فخرجنا منها، ونحن لا نصدق ما سمعنا.
في ساحة السجن.. جلسنا ننتظر ما سيحصل..
خشينا في البدء أن يكون ذلك نوعا من العبث بنا.. وأنه يراد منا أن نجلس جميعا.. ثم يقام بتصفيتنا جميعا.. فقد سمعنا أن ذلك حصل مرات كثيرة.. لكن الأمر كان مختلفا تماما.
لقد جاء مسؤول السجن، وقال بعد أن ألقى تحية ممتلئة بالسلام: أولا.. اسمحوا لنا أن أن نعتذر لكم عن الذي حصل لكم بسببنا.. اعذرونا.. فلم نكن نتصرف بمحض إرادتنا.. لقد كانت هناك جهات كثيرة تتصرف فينا.. وتملي أوامراها.. جهات في الداخل.. وجهات من الخارج.. ولم يكن لنا معها من الأمر شيء.
لا أقول هذا لأتخلص من مسؤوليتي ومسؤولية من معي عما جرى لكم.. ولكني أقوله لتدركوا الحقيقة..
لقد كنا مجرد دمى في هذا السجن.. يذهب بأحدنا.. ويؤتى بغيره.. ويغتال كل من يرفض أن يتولى أي مسؤولية تلقى على عاتقه..
لن أطيل عليكم.. أما أنا وجميع المسؤولين في هذا السجن.. فسنعرض أنفسنا مختارين على العدالة.. العدالة الحقيقية التي لا تعرف الأهواء، ولا تؤثر فيها الطباع والأعراق والأمزجة.
أما أنتم.. فنحن نعرف من دخل منكم ظلما.. وهذا سيخرج الآن.. ومنكم من دخل بسبب جنايات ارتكبها.. فهذا سنحيله على العدالة كما نحيل أنفسنا.. ولن يجد في العدالة التي جاء بها الإسلام إلا ما يرضيه.
صاح رجل من السجناء، وقد ملأه العجب: ما الذي حصل؟.. هل نحن لا نزال على الأرض؟
قال المسؤول عن السجن: أجل.. أنتم لا تزالون على الأرض.. أنتم تعلمون أن الأيام دول.. وقد كانت للباطل دولة.. والآن ـ وبفضل الله ـ سقطت دولة الباطل لتبنى على أنقاضها دولة الحق.. لقد قال تعالى يبشر بهذا:{ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128)، وقال :{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}(الأعراف: 137)
صاح الرجل: أبهذه البساطة؟
قال: ليس بالبساطة التي تتصورها.. ألم تر تلك الدماء التي سالت.. والرؤوس التي قطعت.. والجماجم التي عبث بها؟.. لقد أنبت الله من كل ذلك.. ومن كل تلك الأفواه والأيدي.. أنبت من كل ذلك دولة الحق والعدل والإيمان.
صحت: ودولة الباطل.. ما الذي حصل لها؟
التفت إلي، وقال: ما حصل لجميع دول الباطل والظلم والجور.. للباطل نهاية حتمية لابد أن ينتهي إليها.. ألم تسمع ذلك من أحاديث خبيب بن عدي، والحسين بن علي، وزيد بن علي، وميثم التمار، وعمار بن ياسر، وحطيط الزيات، وسعيد بن جبير، والنّفس الزّكيّة، وحجر بن عدي، ومحمد باقر الصدر.. وغيرها كثير؟
قلت: وما أدراك أنت بهذه الأسماء؟
قال: هذه الأسماء هي التي أسقطت دولة الباطل.. وهي التي أقامت دولة الحق.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لقد كان الناس يحملون صورة مشوهة عن عدالة الإسلام.. لقد كانوا يتصورون أن حكم الإسلام ليس إلا أياد تقطع، وظهور تجلد، ورؤوس تفصل عن أجسادها.. ويرون فيه الاستبداد والظلم والعدوان.. ولكنهم ما إن سمعوا أحاديث خبيب وإخوانه حتى انقلبت الصورة في أعينهم.. وانقلبت مع انقلابها عروش الباطل، لتقوم على أنقاضها عروش الحق.
قلت: وما أدرى الناس بأحاديث هؤلاء؟
ابتسم، وقال: هذا سر.. كنا نقوم به في هذا السجن.. لقد احتلنا على من كان يحتال علينا.. فارتد كيده في نحره.
صاح رجل منا: ألا تتفضل علينا بإطلاعنا على هذا السر؟
قال: بلى.. سأفعل.. فنحن وإن أخطأنا فقد أصبنا.. وإن أسأنا، فقد أحسنا.
قلنا: ما تقصد؟
قال: لقد كان الطواغيت من الداخل والخارج يرسلون بزبانيتهم كل يوم يطلبون دما جديدا ورأسا جديدة.. وكانوا لا يرضون من الرؤوس إلا من عظمت حكمته وعقله.. وكانوا فوق ذلك كله، وإمعانا في تلبية شهواتهم لدمائنا، يفرضون علينا أن نصور حادث الإعدام بدقة.. وأن نرسل لهم بصورة المعدومين وهم على خشبات الصلبان ليتمتعوا بمناظرهم، كما يتمتعون برؤية رؤوسهم وهي مفصولة عن أجسادهم.
وقد فعلنا ما أمرنا به بدقة.. وذلك هو خطؤنا.
قلنا: فما صوابكم؟
قال: لقد استغلت إدارة سجننا بعض الثغرات القانونية، فراحت تسمح للمحكوم عليهم بالإعدام أن يجتمعوا بأهل السجن ليحدثوهم عن دعوتهم وفكرهم الذي يقدمون أرواحهم ضحايا من أجله..
قال رجل منا: لقد امتلأنا بالاستغراب لذلك التصرف.
قال: لقد مزجنا خطأنا بذلك الصواب الوحيد..
قلنا: وما جدواه؟
قال: إن جدواه لا يمكن أن تتصور.. لقد سجلنا بدقة.. صوتا وصورة.. كل ما حصل.. وكنا ننسخ من تلك التسجيلات نسخا كثيرة ننشرها عبر الوسائل المختلفة لتصل كل بيت، وتسمعها كل أذن، وتراها كل عين.
قلنا: فكيف سمحت لكم الطواغيت بذلك؟
قال: لقد علمنا أننا في حرب معهم.. وعلمنا أن الحرب خدعة.. فلذلك رحنا نستعمل كل ما أتيح لنا من وسائل أهل السلام لنصل إلى ذلك.
قلنا: فلم لم تحتالوا لأهل الذين قدموا أرواحهم ضحايا؟
قال: ربما يكون ذلك خطأ أو تقصيرا وقع منا.. ونحن راضون أن نحاكم عليه.. ولكن الأمر من الصعوبة بحيث لا يمكن لأحد في الدنيا أن يقف في وجه أولئك المتعطشين للدماء.. ولذلك رحنا نستثمر تلك الدماء التي أسالها المجرمون لنحول منها معاول تهدم صروحهم، وتجمد الدماء في عروقهم.
بعد أن قال مسؤول السجن هذا.. تقدم السجان الذي كان يسوق السجناء إلى حبل المشنقة، وقال: إن أذن لي مدير السجن أن أتحدث فعلت.. فلدي معلومات مهمة ترتبط بأولئك الذين نفذ فيهم حكم الإعدام.
أشار إليه مدير السجن أن يتحدث، فقال: اعذروني أن أقف بينكم.. وأنا الرجل الذي طالما نظرتم إلي بحقد وكراهية لا ألومكم عليهما.. فأنا نفسي كنت أكره نفسي.. وكنت أود لو أذن لي أولئك الكرام الطيبون أن أشنق بدلهم.. لقد كنت أقف معهم أمام حبل المشنقة، وفي قلبي من الأحزان ما لا تستطيع الدنيا جميعا تحمله.. ولكني مع ذلك لم أكن أملك إلا أن أطيعهم وألبي رغبتهم.
قال رجل منا بعجب: تلبي رغبتهم.. أم تلبي رغبة مسؤوليك؟
نظر إليه السجان، وقال: في الحقيقة كنت أعتبرهم المسؤولين الحقيقيين الذين تجب طاعتهم.. كنت أعتبرهم أولياء الأمر الذين أمر الله أن نمد أيدينا إليهم بالمبايعة والطاعة.. ليس ذلك خروجا مني عن الحاكم.. لأني أعلم أن الحاكم الذي كان يحكم هذه البلاد نفسه لم يكن يملك من الأمر شيئا..
لقد كنا مستعمرين لذلك المجرم الكبير الذي ينهب ثرواتنا، ويمتص عرقنا، ويتسلى في الأخير بالتفرج على خير أبنائنا، وهم يقدمون للمشانق.
قال الرجل: فكيف اعتبرتهم أولياء أمرك.. وأنت تقدمهم إلى الموت.. أم أن ذلك هو عربون طاعتك لهم؟
قال السجان: لقد كنت أنفذ ذلك طاعة لهم..
استغربنا جميعا، وقلنا: كيف ذلك؟
قال: كنت أعرف الخطة التي أعدها مدير السجن.. والتي أراد بها أن يستثمر دماء الضحايا في سبيل تلك الغاية النبيلة التي حدثكم عنها.. هو ـ يحكم منصبه ـ لم يكن يملك إلا التنفيذ.. ولكني بحكم منصبي، وبحكم علاقتي السابقة بأولئك الشهداء الطيبين، جلست إليهم واحدا واحدا.. وأخبرتهم بما سيحصل لهم.. وخيرتهم بين أن أنقذهم من الموت الذي ينتظرهم، وبين أن يموتوا تلك الموتة التي رأيتموها..
قلنا: فهل اختاروا الموت؟
قال: أجل.. كلهم اختار أن يموت تلك الموتة الشريفة.. وكلهم ردد علي قصة تضحية عظيمة حدث بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه ليستلهموا منها معاني التضحية في سبيل المبدأ، ويعرفوا من خلالها عظمة تأثير التضحية في تحقيق المبادئ على أرض الواقع.
قلنا: فحدثنا عنها.
قال: لقد حدث رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر. فبعث إليه غلاما يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إِلَى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر، فقل: حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر.
فبينما هو عَلَى ذلك إذ أتى عَلَى دابة عظيمة قد حبست الناس. فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرا فقال: اللَّهم إن كان أمر الراهب أحب إليك مِنْ أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس. فرماها فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي نبي أنت اليوم أفضل مِني قد بلغ مِنْ أمرك ما أرى! وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي.
وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس مِنْ سائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنالك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي اللَّه تعالى فإن آمنت باللَّه دعوت اللَّه فشفاك. فآمن باللَّه فشفاه اللَّه تعالى. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك اللَّه. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل عَلَى الغلام.
فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ مِنْ سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل! فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي اللَّه تعالى. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل عَلَى الراهب.
فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عَنْ دينك فأبى، فدعا بالمِنْشار فوضع المِنْشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه.
ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عَنْ دينك فأبى فوضع المِنْشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه.
ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عَنْ دينك فأبى، فدفعه إِلَى نفر مِنْ أصحابه فقال: اذهبوا به إِلَى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عَنْ دينه وإلا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللَّهم اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إِلَى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم اللَّه تعالى.
فدفعه إِلَى نفر مِنْ أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر فإن رجع عَنْ دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به فقال: اللَّهم اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إِلَى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم اللَّه تعالى.
فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني عَلَى جذع، ثم خذ سهما مِنْ كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم اللَّه رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه عَلَى جذع، ثم أخذ سهما مِنْ كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال : ( بسم اللَّه رب الغلام)، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام. فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد واللَّه نزل بك حذرك: قد آمن الناس. فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم فيها النيران وقال من لم يرجع عَنْ دينه فأقحموه فيها أو قيل له اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك عَلَى الحق([1]).
بعد أن أنهى السجان حديثه، تقدم مدير السجن، وقال: سبحان الله.. لقد كان هذا الحديث هو الذي دلني على الخطة التي خططتها..
لقد رأيت كيف أثرت التضحية في سبيل المبدأ في الناس، وكيف آمنوا جميعا، فقلت في نفسي: من الخطأ العظيم أن أترك هذه الدماء الزكية التي يطلبها المجرمون تمر هكذا دون أن تستثمر.. فلذلك فعلت ما فعلت..
***
بعد أن حدثنا مسؤول السجن هذه الأحاديث التي ملأتنا بالعجب.. جاء رجل، وأخذ ينادي على من يؤذن له في الخروج.. وقد خرج ـ بحمد الله ـ أكثرنا.. ومن بقي منا بدت عليهم من علامات السرور والطمأنينة ما كان محجوبا.. وقد عومل مع ذلك من المسؤولين عن السجن أحسن معاملة.
بعد أن خرجنا رأينا الحياة في المدينة ممتلئة بمظاهر الاستبشار والفرح والسعادة..
لم أتجاسر أن أسأل الكبار عما حصل خشية أن أتهم أي تهمة، ولهذا استوقفت صبيا صغيرا، وسألته: ما الذي حصل؟.. لماذا أرى المدينة سعيدة؟
ابتسم، وقال: ألم تسمع يا عم بما حصل؟
قلت: ما الذي حصل؟
قال: لقد قدم ولي الله ومن معه من رجال الله، ليخرجونا من ظلمات الجور والاستبداد والظلم إلى أنوار العدل والسلام والأخوة.. ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.. ومن جور المذاهب والأفكار والأديان والأهواء إلى عدل الإسلام.
قلت: هل قدموا بسيوفهم.. أم أنهم جاءوا يحملون المدافع والمسدسات؟
قال: لقد جاءوا يحملون أكفان الحسين وإخوانه من الذين لم يرتضوا أحكام الطواغيت.
قلت: وما أدراك أنت من الحسين؟
قال: لقد كانت دماء الحسين.. ودماء الشهداء التي سالت ظلما هي التي أنبتت شجرة هذه الدولة.
قلت: ألا تخاف أن تكون دولة شعارات؟.. فما أكثر من يرمي الشعارات في هذا الزمان ليحقق بها من المكاسب ما تطلبه الأهواء.
قال: ما أسرع أن يفرق العقل بين البهرج الكاذب، والحق الصادق.. الفرق بينهما واضح.. وستعرفه لا محالة.
قال ذلك، ثم انصرف معتذرا.
استوقفت آخر، وسألته عن اسم الحاكم الجديد، فقال: اسمه (محمد).. لأنه جاء ليعيد الدولة التي أسسها محمد.
قلت: فكيف هو مسماه؟
قال: هو مسمى كل الخلفاء الراشدين المهديين الذين جمع الله لهم بين عبوديته والقيام بشؤون عباده.. أولئك الذين سمعوا الله، وهو يقول :{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } (صّ:26).. فراحوا يفتشون عن كل هوى، وعن كل شهوة، وعن كل أنانية ليقمعوها، ليخلصوا لربهم ولعبودية ربهم.
قلت: إن مثل هؤلاء عزيز.
قال: يمكن للرعية الصالحة أن توفرهم.
قلت: كيف ذلك؟.. الرعية أعجز من أن تفعل ذلك.. هي كالغنم لا يمكن أن تختار راعيها.
قال: الرعية بشر لا غنم.. وللبشر من العقول والقلوب والأرواح.. ولها فوق ذلك من المدد الإلهي ما يجعل منها طاقة هائلة لا يمكن لأي قوة في الدنيا أن تحطمها.
قلت: متى ذلك؟
قال: عندما تتخلص الرعية من الأهواء.. ومن التحزبات الضيقة.. ومن المصالح المحدودة.. وعندما تتوجه بكليتها إلى الله يقيض الله لها وليا من أوليائه ليحول من ظلماتها أنوارا.. ومن آلامها سرورا.. ومن الزلازل التي تحت أرضها وفي سمائها سكينة وطمأنينة ووقارا.
قلت: ولكن كيف ترتضون حاكما يأتيكم من غير صناديق الانتخاب.. تلك الصناديق التي تعبر عن إرادتكم؟
قال: بل تلك الصناديق لا تعبر إلا عن القمع والاستبداد.. لقد أمضينا طول عمرنا ننظر إليها، فلم تطعمنا إلا الجوع، ولم تكسنا إلا البرد، ولم تغطنا بغير السماء.
قلت: فهل هناك سبيل غيرها؟
قال: هذا السبيل الذي اخترناه وأجمعنا عليه، ولم نحتج في إجماعنا لأي صناديق.
قلت: من السهل أن تحكي الإجماع.. فما أدراك لعل الناس اختلفوا؟
قال: الناس يختلفون إن ارتبط الأمر بالأهواء.. ولكنهم لا يختلفون إن ارتبط الأمر بالحقائق.
قلت: لم أفهم.
قال: سأضرب لك مثالا يقرب لك ذلك.. أرأيت لو أن جمعا كبيرا من الناس فيهم الوجهاء والأمراء والعلماء.. وكل منهم له من حب الرئاسة ما يدفعه لأن يطلبها بكل السبل.. ثم سقط بينهم صريع يكاد الموت يفتك به.. أجبني: من يجرؤ منهم على الاقتراب لعلاجه؟
قلت: لا شك أنه الطبيب.. فليس للمرضى إلا الأطباء.
قال: أرأيت إن كان هناك أطباء كثيرون؟
قلت: لاشك أنهم سيسلمون الأمر إن كان صعبا لأكثرهم خبرة وعلما.
قال: فهل يحتاج هؤلاء لإجراء انتخابات؟
قلت: الأمر أعجل من ذلك.. وإن احتاجوا لذلك، فسيكون بين المختصين دون غيرهم.
قال: فهذا ما حصل لنا.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لقد قضى رجال كثيرون ممتلئون بالحكمة والعلم والخبرة طرفا طويلا من أعمارهم في الدعوة للعدالة، وقد أثبتوا بسلوكهم مدى صدقهم.. وقد وثقت فيهم الرعية أيما ثقة.. ولذلك ما إن استطاعت أن تحطم صروح الباطل حتى راحت تسرع إليهم لتطلب منهم أن ينفذوا تلك المشاريع التي قضوا أعمارهم كلها من أجلها.
قلت: فهل قبل هؤلاء؟
قال: وهل ترى الطبيب يهرب من مريضه؟
قلت: ولكن هذه مسؤولية.
قال: هم قبلوها.. لأنهم شعروا أنهم أهل لتلك المسؤولية.. بل إن بعض الناس ممن لم يفطن لهم الناس قدم وأخبر عن قدراته، وفعل كما فعل يوسف u عندما طلب أن يجعل على خزائن الأرض.. لقد قال للملك:{ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } (يوسف: 55)
قلت: ولكن قوانين العدالة تفترض وجود وسائل تعبر بها الجماهير عن رأيها.
قال: لقد وضع الطغاة تلك القوانين.. وليس لهم من غرض إلا استثمار تلك الوسائل لممارسة المزيد من الاستبداد والقمع..
سكت قليلا، ثم قال: إلى الأمس القريب كانت الجرائد.. ومعها جميع وسائل الإعلام.. لا تصيح إلا بحمد الطواغيت.. لا لأن الرعية كانت تحب هؤلاء الطواغيت.. ولكن لأن الطواغيت كانوا يملكون هذه الوسائل، وكانوا يفرضون بها من الآراء والتوجهات والمواقف ما يخدم مصالحهم.
قلت: فكيف استطعتم القضاء على ذلك كله؟
قال: ذلك طريق طويل.. وإن كنت صادقا فسيقيض الله لك من يدلك عليه لينتفع به جميع المستضعفون في الأرض، ليخرجوا من سجون الاستضعاف إلى القوة العظيمة التي منحهم الله إياها([2]).
قلت: فهل سمعتم البرنامج الذي تدار به أموركم في هذه الدولة الجديدة؟
قال: وكيف لا نسمع به.. إنه برنامج كتب منذ قرون طويلة..
قاطعته قائلا: منذ قرون طويلة !؟.. إن مثل هذا البرنامج لا يصلح لهذا العصر.
قال: أنت لا تعرف من وضع هذا البرنامج.. إن من وضعه لا يؤثر فيه المكان ولا الزمان.. لأنه هو الذي خلق المكان والزمان.
قلت: الله؟
قال: أجل.. الله.. الله هو الحاكم الأعلى.. ألم تسمع قوله تعالى :{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } (المائدة:49)؟
قلت: بلى.. ولكن الله يحكم في المسجد لا في الطريق والسوق..
قال: لقد جعل الله الأرض كلها مسجدا لنا لنعبده فيها.
قلت: أتصلون في الطريق؟
قال: الله يعبد في كل مكان.. فنحن نتصل بالله عبر الإحسان للفقير والمسكين.. وعبر التجارة الصادقة التي تمتلئ بالسماحة والنصح والرحمة.. وعبر العمل والإنتاج في كل المجالات التي تخدم الإنسان ولا تضر الكون.. وعبر أداء الحقوق.. الحقوق الكثيرة التي فرضها الله علينا نحو جميع الأشياء.
قلت: فما دور الحاكم إذن إن كان الله هو حاكمكم؟
قال: الحاكم هو إمامنا.. فصلاة الجماعة في اعتقادنا أفضل من صلاة الفذ.
قلت: لم أفهم.
قال: العمل الصالح يحتاج إلى تنظيم.. والحاكم هو الذي ينظم حياتنا.. ولذلك نحن لا نرتضي من الحكام إلا من له الخبرة والعلم.. كما لا نرتضي في وقوفنا للصلاة إلا من له الحفظ والفقه.
قلت: لا أزال لا أفهم.
قال: سأضرب لك مثالا يقرب لك ذلك.. أرأيت لو أنك حضضت الناس على التصدق على الفقراء والمساكين والاهتمام بهم.. ثم تركتهم بعد ذلك يتصرفون في هذا العمل الصالح من غير تنظيم.. هل يجدي هذا في القضاء على الفقر والمسكنة؟
قلت: لا أظنه يجدي.. فقد لا يفطن الناس لكثير من الفقراء.. وقد يبالغون في إعطاء بعض من يبدو لهم أنهم فقراء.. وقد يدخل الاحتيال في هذا الباب.
قال: فلذلك يحتاج هؤلاء إلى تنظيم.. وتحتاج صدقاتهم إلى تنظيم لتفعل مفعولها، وتؤدي الغرض منها.
قلت: ذلك صحيح.
قال: فهذا دور الحاكم..
قلت: هذا في الصدقات.
قال: وهو في كل شيء.. ليس للحاكم من دور سوى التنظيم والرعاية والحزم الذي يردع به أهواء النفوس..
قلت: والبرنامج الذي هو مشروعه؟
قال: ليس الحاكم هو الذي يضع البرنامج.
قلت: ومن يضعه إذن؟
قال: لقد علمنا نبينا أن ننزل الناس منازلهم.. فلذلك يتاح لكل جهة أن تضع المشاريع التي تحتاجها.. وليس للحاكم إلا أن يمدها بما تحتاجه.. وينظم تلك الحاجات.
قلت: لم كان الأمر كذلك؟
قال: حتى يبقى دور الحاكم محصورا وضيقا.. الشريعة الإسلامية ترى هذا.. لأن الاستبداد لا يأتي إلا من استيلاء الحاكم على كل السلطات.. وحينذاك تضيع الحقوق الكثيرة.
قلت: كيف تضيع؟
قال: عندما تتوقف المشاريع على الحاكم يصبح هم الناس البحث عن الحاكم الذي يقبل مشاريعهم.. وهنا يقع الصراع..
قلت: إن ما تقوله جميل.. ولكنه لا يصلح للمدنية المعاصرة.
قال: بل لا يصلح لها إلا هذا.. لقد طبق هذا في أجيال طويلة في بلاد المسلمين.. عزل فيها الحاكم إلا عن دوره التنظيمي الذي يحفظ به المجتمع من الفتنة.
قلت: قد يصلح ما تقول مع مجتمع كله يدين بالإسلام.. ولكنه لا يصلح مع مجتمع فيه أقليات.
ابتسم وقال: لقد كان من الشخصيات الكبرى التي اخترناها لتحكمنا شخصيات من مختلف الأديان والمذاهب والطوائف.. نحن لا نريد من هؤلاء أن يصلوا بنا.. بل نريد منهم أن ينظموا حياتنا بما لديهم من خبرة.. هل تراك تسأل الطبيب الذي يطبك عن دينه؟.. أو تراك تسأل الشرطي الذي ينظم حركة المرور عن مذهبه؟
قلت: لا..
قال: فكذلك نحن.. لا يهمنا من الحاكم إلا ما له من قدرات..
قلت: والشؤون الخاصة للأقليات.
قال: لقد علمنا ديننا أن نحترم الخصوصيات.. الحاكم العادل هو الذي ينشر العدل والفضيلة لا الذي يقهر الناس على اتباع دين أو مذهب.
قلت: لقد حصل في التاريخ مثل هذا.. ألا تذكر زمن المأمون؟
قال: نحن لا نستمد ديننا من التواريخ.. بل نستمده من مصدريه الأصليين: كلام ربنا، وهدي نبينا.
قلت: أنا متشوف لرؤية الحاكم الجديد، فكيف لي أن أراه؟
قال: تعال معي.. فقد علمت أنه سيلقي خطابا بعد ساعة.. والرعية كلها متشوفة لسماعه.
سرت معه إلى بيته.. وهناك أكرمني غاية الإكرام.. ولم يطل الأمر حتى ظهر الحاكم الجديد على شاشة التلفزيون.. وقد امتلأت بالعجب عندما رأيته.. لقد كان أشبه الناس بمحمد الوارث ومحمد الهادي والحكيم.. وكل أولئك الرجال العمالقة ([3]).. لقد صحت بمجرد أن رأيته: والله ما هذا بوجه كذاب.
قال لي صاحبي: الكذاب يعرف من وجهه.. والشعارات الخادعة تعرف من الناطقين بها.. إن هذا الرجل الذي تراه رجل ممتلئ بالحكمة والخير والرحمة.. لم نر منه منذ عرفناه إلا الخير والعقل والحكمة.
قلت: لقد سمعت أن هناك خلافا في اسمه.
قال: لأنه لا يذكر اسمه.. ولا يهتم باسمه.. منذ عرفناه وهو لا يتحدث إلا عن العدالة والخير والحقيقة.. هو لا يجد الوقت الكافي الذي يتحدث فيه عن نفسه..
أردت أن أتكلم.. فإذا بالحاكم يبدأ حديثه.. وسأنقل لك نص ما قال، فقد كان نصا مختصرا جامعا.. لقد قال: أيها الناس.. لقد وليتموني هذا الأمر.. ولا أجد نفسي أهلا له.. وإني لن أقول لكم في هذا الموقف إلا ما قاله الخلفاء الراشدون العدول..
وإني أشهدكم في هذا المحل أني لن أقبل معارضة ولا موالاة.. كلكم يجب أن يعارضني إن جرت أو استبددت أو ظلمت.. وكلكم يجب أن يواليني ويعينني إن أحسنت أو عدلت أو أنصفت.
وإني أدعو من هذا المحل كل من يتوسم في نفسه القدرة على أي إصلاح، أو كان لديه أي مشروع صالح أن يسرع ليعرضه على الأمة وعلى أهل الاختصاص منها.. ولا يمكنني إلا أن أضع نفسي في خدمته، وفي خدمة أي مصلح.. لا يهمني دينه ولا مذهبه ولا حزبه.. فأنا بحمد الله لم أقبل هذا الأمر منكم إلا لتحقيق العدل.. العدل الذي جاء به الأنبياء.. والذي حنت له النفوس في جميع أجيالها.
وأدعوكم فوق ذلك كله إلى العمل والإنتاج.. فلا يمكن لأمة أن تتحرر وهي لا تصنع خبزها.
وأدعوكم إلى أن تجتمعوا لتختاروا من تشاءون من أهل ولايتكم وأهل التدبير فيكم.
أما من عندنا من أخواننا من أصحاب المذاهب المختلفة.. فنحن نحترم خصوصياتهم.. فلهم حريتهم الدينية المطلقة.. بل إنهم شركاؤنا في تحقيق العدل.. فلا يمكن للعدل أن يستبد به أحد من الناس.
أما ما يثار بينكم من تخويفات بأننا سنقطع الأيدي ونفصل الرؤوس عن أجسادها.. فتلك وساوس شياطين.. إن ديننا دين حياة لا دين موت.. ودين إصلاح لا دين إفساد..
نعم.. في شريعتنا عقوبات رادعة.. ولكن الشريعة التي وضعت العقوبة أمرتنا بأن نتمهل في تنفيذها حتى لا نظلم أحدا من الناس.. ولهذا فإن من مشاريعنا الحالية استخدام كل الوسائل اللينة لمعالجة المخالفات.. ولن نستعجل بالعقوبات الشديدة حتى نرى أنكم قد توفر لديكم من القناعات ما يجعلكم تقبلون هذا النوع من العقوبات.. ولن نطبقه ـ في حال الاضطرار إلى تطبيقه ـ إلا وفق المقاييس الشرعية التي تراعي العدالة والحكمة.
قال ذلك، ثم انصرف.. وعلى وجهه من هالات النور ما ملأني بالمهابة.
قلت: فلم لم تبق في تلك المدينة بعد أن رأيت فيها ما رأيت؟
قال: لقد بقيت مدة فيها لأتأكد من مدى جدية الأمر.. وقد رأيت فوق ما سمعت.. لقد رأيت بعيني العدالة تمشي على الأرض في تلك المدينة الفاضلة التي تأسست على تعاليم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فكيف بدا لك أن تخرج منها؟
قال: تلك قصة أخرى..
قلت: فهل ستحدثني حديثها؟
قال: لا حاجة لكثير منها.. ذلك أنها لا ترتبط بالأشعة التي نلتها.. لقد أخبرتك أني لن أحدثك إلا عن الأشعة التي نلتها من شمسه صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فحدثني عن القليل الذي يرتبط بهذه الأشعة.
قال: لقد جاءتني رسالة من أخي تستحثني إلى الرجوع إلى بلادي.. وتستعجلني في ذلك.. فلم أجد إلا أن ألبي طلبه.. فأنت تعلم مدى الاتصال بيني وبينه.. إنه يكاد يكون نفسي التي بين جنبي.
في المطار.. وبينما أنا أهم بالركوب إذا بي أسمع مناديا ينادي باسمي.. فامتلأت من المخافة..
لقد خطر على بالي أنهم اكتشفوا أمري.. وعرفوا ما الذي جئت من أجله.. وأني لا محالة سأمر على وزارة الحزم لتنفذ في ما سنت هذه الدولة الجديدة من العقوبات الرادعة.
لكني ما إن دخلت إلى مكتب المسؤول الذي ناداني حتى رأيت ما ملأني بالعجب.
لقد رأيت المسئول الكبير نفسه ينهض من مكتبه، ويصافحني بحرارة، ويقول لي: اعذرنا أيها الأب الفاضل أن زجت بك حكومتنا السابقة في السجن.. لم يكن ذلك برضانا.. فلذلك تقبل منا هذه المكافأة كتعويض لك عن بعض الضرر الذي أصابك.
مد يده إلى ظرف.. فيه مبلغ محترم من المال، وقال: خذ هذا المال.. هذا بعض ما تستحقه.. فاعذرنا.
استحييت من قبض المال، وقلت: لا بأس.. استعينوا به على تسيير أموركم.. أنا ـ بحمد الله ـ ميسور الحال، ولا أحتاج أي مال.
رده إلي بإلحاح، وقال: لا.. هذا حقك.. والحق عندنا لا يتنازل عنه.
قلت: خذه أنت.. لقد سمحت لك به.
قال: لا يحق لي شرعا أن آخذه.. هذا بالنسبة لي رشوة.. لقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاملا، فجاءه العامل حين فرغ من عمله، فقال : يا رسول الله، هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقال له : أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فنظرت أيهدى لك أم لا؟ ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال : (أما بعد، فما بال العامل نستعمله، فيأتينا فيقول : هذا من عملكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يهدى له أم لا، فوالذي نفس محمد بيده، لا يغل أحدكم منها شيئا، إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، إن كان بعيرا جاء به له رغاء، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار، وإن كانت شاة جاء بها تيعر) ([4])
قلت: فتصدق به على الفقراء.. لقد سمحت لك أن تقوم بذلك بدلا عني، فأنت أعرف بهذه المدينة مني.
قال: هناك جهة مختصة بهذا.. ولها محال في كل الجهات.. ولها في هذا المطار مكتب خاص، فإن شئت أن تدفعه لها، فافعل..
قلت: دلني عليها.
ذهبت إليها، كما أرشدني، وقد تعجبت من سلوك هذه الجهة أيضا.. فهي لم تقبل مني هذا المبلغ بالسهولة التي تعودت بها الجمعيات الخيرية أن تقبل أموال المحسنين.
لقد دلني الموظف على المشاريع التي ينوون أداءها، وترك لي الفرصة لأن أختار الجهة التي أضع فيها مالي، وقد أعجبتني بعض ما طرح من مشاريع، فطلبت بأن يوضع المال فيها، فأعطاني وصلا بالمبلغ، وأخبرني أن لي الحق في أن أتأكد في أي وقت أشاء من وصول المال إلى محله.
ركبت الطائرة بعد ذلك..
وقد فوجئت عند نزولي منها بأمرين كلاهما ملآني بالعجب:
أما الأول، فقد وجدت حقيبتي في انتظاري في المطار، وقد وجدت كتبا أخرى بدل الكتب التي وضعت.. وكان من أهم ما لفت انتباهي منها كتاب اسمه (عدالة للعالمين).. لقد شد هذا الكتاب انتباهي.. فرحت أقرؤه بكل مشاعري.. وقد رأيت فيه من الأدلة على عدالة الإسلام ما قضى على كل الشبهات التي كانت تمتلئ بها نفسي.
وأما الثاني، فقد رأيت كاميرات الصحفيين مسلطة علي، بل قصدني الكثير من الصحفيين.. قال لي أحدهم: احك لنا ما حصل بالضبط.. وقال آخر: كيف نجوت منهم؟.. وقال آخر: ألم يحكموا عليك بالإعدام؟.. وقال آخر: ما الفدية التي قدمتها أو قدمها الفاتيكان حتى نجوت منهم؟.. وقال آخر: هل نجا جميع الجنود الذين استنقذوك من أيدي أكلة لحوم البشر؟
لم أجد ما أقول، فقد كانت الفوضى تملأ المكان، وكان الزحام الذي اختلطت فيه الأصوات يمنعني من أن أنبس ببنت شفة.
تدخلت الشرطة، وصرفت الصحفيين، وتركتني لأذهب مع أخي إلى بيتنا.. وهناك سألت أخي عن قصة الصحفيين، فقال لي: لا تهتم.. أنت تعرف الصحفيين.
لكنني ألححت عليه، فأخبرني أن هناك إشاعة قد انتشرت في البلد بأنه قد حكم عليك بالإعدام، وأن أولئك المسلمين الذين كنت بين أيديهم قد طلبوا فدية كبيرة لتخليصك..
ثم ابتسم، وقال: لقد كنت طيلة تلك الفترة حديث الخاص والعام.. حتى المسؤولين الكبار تحدثوا عنك.. وقد وعد وزير حربنا بأن يخلصك منهم من غير أي فدية.. ولعله الآن يتحدث عن البطولات التي قدمها جنوده لأجل تخليصك.
قلت: ولكني كنت في غاية الأمان.
قال: إياك أن تكرر هذا.. نحن في حرب مع أولئك.. ولا ينبغي أن يظهر للناس منهم إلا ما نريد أن نبديه.. ألا تريد لدين المسيح أن ينتصر؟
قلت: وما علاقة ذلك بدين المسيح؟
قال: لا يمكن أن يقوم للمسيح دين في هذه الدنيا.. وأولئك يحظون بأي سمعة.. إن أشعتهم أشعة حارقة لن تبقي معها أي دين من الأديان ولا مذهب من المذاهب.
قلت: ولكن الحق يوشك أن يظهر.. وإن سترت أنا فسيفضح غيري.
قال: لا تخف.. اسكت أنت فقط.. أما أولئك فيوشك لدولتهم التي أسسوها أن تنقض.
قلت: كيف عرفت؟
قال: سأذهب بك غدا إلى المحل الذي سترى فيه بعينك المصير الذي ستصير إليه دولة أولئك الدجالين.
في الغد سرت معه في دهاليز كثيرة إلى أن وصلت إلى قاعة كبرى.. وهناك رأيت اجتماعا كبيرا، وقد تعجبت إذ رأيتهم مسلمين، بل عربا يتناشدون الأشعار كما يتناشدها العرب، وقد سمعت من أسمائهم ( معاوية.. ويزيد.. ومروان.. والحجاج.. وزياد.. والوليد.. وشمر.. وابن ملجم)
فسألت أخي عنهم، فقال: من تراهم من الأشخاص هم الأرضة التي ستأكل عرش هذه المدينة الجديدة.
قلت: أنا أسألك عنهم.
قال: هم مسلمون كأولئك.. ولكن الفرق بين هؤلاء وأولئك هو أن هؤلاء تشربوا ما في تلك الكتيبات والمطويات.. وأما أولئك فلم يتشربو ما فيها.
قلت: ولكن من سيصدق هؤلاء، وهو يرى منجزات أولئك.
قال: من السهل أن يجد هؤلاء الحيل لذلك.. ألم يجد سلفهم في قميص واحد ما يقضي به على الدولة التي أسسها محمد؟
قلت: تقصد قميص عثمان!؟
قال: ولهؤلاء قمصان كثيرة.. وسيستخدمونها جميعا لينخروا ذلك البنيان الذي يريد أن يهوي بحضارتنا.
قال الغريب ذلك، ثم غرق في صمت حزين، فسألته عنه، فقال: لقد تحقق لهؤلاء ما طلبوا.. لقد نزلوا من على دباباتنا وطائراتنا ليقضوا على أولئك العدول الطيبين، ويمكنوا قومنا من استعمار أرضهم ونهب ثرواتهم وهتك أعراضهم وقتل رجالهم ونسائهم وأطفالهم من أجل أن ينعموا عليهم بنشر ديمقراطيتنا التي تحمي أيديهم من قطع الإسلام لها.
قال ذلك.. ثم غرق في صمته العميق الحزين..
قلت: ثم ماذا بعد؟
قال: هناك أشياء
كثيرة ترتبط بهذا.. لن أحدثك عنها، فلم يؤذن لي إلا في الأحاديث التي ترتبط بأشعة
شمسه صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا الكتاب
تدور أحداث هذه الرواية حول رحلة بطل القصة إلى بعض البلاد الإسلامية، حيث تعرض للاعتقال بسبب منشورات كان يحملها.. وهو شخص باحث عن العدالة، وصادق في بحثه، لكنه تعرض لشبهات كثيرة جعلته يحجب عن العدالة التي جاء بها الإسلام كان سببها ذلك التاريخ المشوه الممتلئ بالاستبداد والفساد، كما كان سببها أولئك العلماء الذين خلطوا دين الله بدين الملوك.. فشوهوا دين الله بذلك أعظم تشويه.
وفي السجن الذي مكث فيه بطل القصة مدة من الزمن، والذي تجمع فيه كل طالبي العدالة من مختلف الملل والنحل، حصلت المفاجأة حيث لقي عشرة من المسلمين الصادقين وضعوا في السجن بسبب دعوتهم لتحقيق العدالة التي جاء بها الإسلام.. وكان كل واحد منهم قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام يتحدث عن ركن من أركان العدالة، كما تقتضيه الفطرة، وكما جاء بها الإسلام، ويجيب عن الإشكالات التي تطرح عليه.
وفي الأخير تحصل أحداث كثيرة،
أدعها للقارئ ليتعرف عليها، ويحاول أن يقرأ من خلالها المنهج السلمي الرباني الذي
يحقق العدالة.. لا المنهج الشيطاني الذي استطاع به – من خلال أدواته الكثيرة – أن
يحول من الإسلام إلى دين عنف وإرهاب واستبداد..
(1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
([2]) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في سلسلة (حصون المستضعفين) من هذه السلسلة.
([3]) انظر الرسائل الأخرى من هذه السلسلة.
([4]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ مختلفة.