الهداية

الهداية

في اليوم الحادي عشر انتظرت بولس صباحا لنذهب للتداريب الميدانية كما تعودنا.. لكنه لم يأت، وقد احترت في سر ذلك، وخفت أن يكون قد أصابه مكروه، فذهبت إلى بيته، وسألت عنه، فلم أجده..

سألت جيرانه، فلم يعرف أحد أين ذهب، ولا متى غادر بيته.

ظللت أبحث يومي ذلك.. فلم أظفر بأي معلومة توصلني إليه.

وهكذا ظللت أبحث أسبوعا كاملا.. ولكني لا أعثر على أي معلومة، لا من قريب، ولا من بعيد.

ذهبت إلى الشرطة، فابتسموا، وقالوا: أنت كمن يبحث في بحر عميق عن إبرة.. فكف عن بحثك.. فلم يسبق لأحد ضاع في هذه البلاد أن عاد، إلا أن يعود بمحض رضاه.

مضى شهر على غيابه، ولم يأت..

ثم مضى شهر ثان، فلم يأت..

وفي الشهر الثالث، لم يأت.. ولكني رأيته.. وما أعجب ما رأيت.

في ذلك اليوم الذي رأيته فيه سرت إلى عاصمة الهند، لبعض المصالح لي هناك، وفي أحد الشوارع الكبرى من المدينة رأيت إعلانا عن إلقاء محاضرة من طرف قس أسلم.

اهتممت كثيرا للموضوع إلى درجة انشغالي عما جئت من أجله.

لقد كان الحضور كثيرا، والقاعة مكتظة، ولكني تمكنت بعد جهد جهيد من رؤية المنصة، فقد كنت أحب أن أرى هذا القس الذي تخلص من قيوده.

لم يطل بي الزمن حتى اعتلى عبد القادر وعبد الحكيم المنصة، ثم أخذ عبد القادر مكبر الصوت، وقال: يشرفنا أن يجلس معنا اليوم رجل امتلأ قلبه بالإيمان، وامتلأ محبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. إنه نموذج حي لقوله تعالى:{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة:83)

فهذا الرجل كان مخلصا للمسيح u غاية الإخلاص، وقد هداه حبه للمسيح إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ربما يوجد هناك الكثير ممن مر بتجربته، ولكنه لم يجرؤ على أن ينطق بالإيمان، أو ينضم إلى المؤمنين، ولكن هذا الرجل المخلص استطاع أن يتخلص من كل قيوده، ويضم إلى إيمانه بالمسيح وإخلاصه للمسيح إيمانه بمحمد وإخلاصه لمحمد.

ما انتهى من قوله هذا حتى اعتلى بولس المنصة أمام تكبيرات الجمهور الحاضر، وقال: قبل أن أعلن لكم عن أعظم قرار اتخذته في حياتي، أود أن أشكر هذين الرجلين الفاضلين اللذين كانا سببا لهذا القرار الخطير.

لقد امتلأ عقلي بأوهام كثيرة أفرزها جهلي بالإسلام، وجهلي بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد كنت أغلق عيني، وأصم آذاني، فلا أرى، ولا أسمع إلا ما يذكره قومي عن محمد، وعن الإسلام، وقد أتيح لي في هذه البلاد أن أسمع من المسلمين أحاديث عذبة عن نبيهم كان عقلي وقلبي يفتقر إليها.

لقدأوهمني أساتذتي الذين تعلمت على أيديهم بأن محمدا في أحسن أحواله لا يعدو كونه بطلا قوميا، أو مصلحا اجتماعيا، أو رجلا عبقريا، لا علاقة له بالسماء، ولا بخوارق السماء.

ولكني في هذه البلاد، وبفضل هذين الرجلين، عرفت أنه لا يوجد في العالم رجل له من الخوارق ما لمحمد، بل إن خوارقه لا تزال ممتدة تشهد له بأنه رسول من الله.

لقد أيد الله رسله بمعجزات كثيرة على قدر من لقيهم من الناس، ولكن معجزات محمد لا تكاد تعد، وهي فوق ذلك بيننا حاضرة لا يزال عطاؤها ممتدا.

بعد هذا..

أريد أن أحذر أولئك المسلمين البسطاء الذين يريدون أن يلغوا هذا الجانب العظيم من جوانب النبوة لإرضاء أقوامنا، لأقول لهم ما قال الله تعالى:{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } (البقرة: 120)

لقد ذكر الله تعالى السبب الوحيد لرضاهم عنكم، وهو انسلاخكم عن دينكم وهويتكم ونبيكم.

أما قبل ذلك، فسيظلون يطالبونكم بالتخلي عن كل ذرة تربطكم بدينكم إلى أن يحولوه دينا كديننا نحن الذي بعناه لأباطرة الرومان مقابل رضاهم عنا.

بعد هذا، اسمحوا لي أن أنطق أمامكم بأعظم حقيقة ينطق بها كل الوجود (لا إله إلا الله.. محمد رسول الله)

صاح الجمع مكبرين، ولم أدر إلا وأنا أصيح معهم مكبرا من غير شعور.

***

 ما وصل الشيخ من حديثه إلى هذا الموضع حتى عادت الكهرباء، وانطفأت تلك السرج العجيبة التي كانت تضيء لنا.. وكأن الكهرباء عادت تأمرنا بلسان حالها أن نعود لعالم الأسباب.. عالم الحكمة والسنن التي أمرنا الله بالتزامها.

قلت للشيخ: لقد ظفرت في هذه الرحلة بأشعة كثيرة من شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال: لم أظفر بتلك الأشعة فقط.. بل ظفرت معها بمعان عميقة خففت من غلواء عقلي المتثاقل إلى الأسباب..

لقد علمت أن الأسباب التي نراها، ولا نرى غيرها، والتي تستعبدنا، وتسجننا في سجونها الضيقة خرافة امتلأت بها عقولنا، فراحت تفرضها على الله مقدرها وواضع قوانينها فرضا.

وقد أكسبني ذلك أملا عظيما في الله.. فصرت أشعر بأن الله قادر علي كل شيء.. فليس هناك شيء مستحيل أمام الله.

قلت: ألم تكفك تلك الأشعة لتعلن إسلامك كما أعلن ذلك القس؟

قال: لا.. لقد كانت الأشعة كافية.. ولكن أوهاما كثيرة لا تزال تعلق بصدري، وتكاد تخنقني، فلذلك كلما اقتربت أبعدتني، وكلما أردت أن أتصل بمصدر النور فصلتني..

لقد كان ذلك سببا من الأسباب.. وهو أهم الأسباب..

لقد كان البداية لبحث مفصل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن الحقائق العظيمة التي جاء بها الإسلام.. والتي انتهت بأعظم هدية أهداها الله لي، وهي هدايته لنبيه ودينه.

هذا الكتاب

هذا الكتاب من الكتب التي حاولت فيها – من خلال الأدلة الكثيرة – أن أبين البراهين الدالة على صدق رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن كل ما في الكون يدل عليها.

وهي تختص بالخوارق التي خرقها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما خرقها قبل ذلك لرسله عليهم الصلاة والسلام، لتكون دليلا على توليتهم من الله تعالى لذلك المنصب الخطير الذي من خلاله يعرّفون بالله، وبالطريق إليه، وبحقائق الوجود.

وقد رجعت لإثبات ذلك إلى كل المصادر التي نقلت الخوارق المختلفة سواء لدى هذه الأمة أو لدى من قبلها من الأمم، وخصوصا اليهود والنصارى، ولهذا قارنت بين كل نوع من أنواع الخوارق مع مثيلاته لدى المسيح عليه السلام خصوصا، ولدى أنبياء بني إسرائيل عموما، وذلك لإثبات أن رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تختلف مع سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى: { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *