الهداية

الهداية

بعد انتهاء أيام المؤتمر العشرة أعلن المنظمون لذلك المؤتمر عن إقامة حفل بالمناسبة، دعوا إليه الكثير من الهيئات والعلماء والمختصين ليغدقوا عليهم من كرمهم من جهة، وليسمعوهم ما وصلوا إليه من نتائج من جهة أخرى.

في ذلك اليوم.. حضر جمع كثير من الناس إلى قاعة خاصة.. وكان من بينهم على غير العادة علي الذي أذن له في حضور الحفل، بل أرسلت له دعوة خاصة لحضوره.

وقد سرني حضوره سرورا عظيما.. لست أدري سببه، ولكني شعرت أن لوجوده في ذلك اليوم معنى خاصا.

لقد كان ذلك اليوم يوما مشهودا.. ولن أنساه ما حييت..

بدأ الحفل كالعادة بالقرآن الكريم.. ثم تلي بأنواع من الثناء العطر على المنظمين والمساهمين والمحسنين والحاكمين.. وغيرهم كعادة الاحتفالات العربية.

ثم تلي بتقديم بعض التكريمات، والتي خصصت للعلماء الأجانب الذين جاءوا معي، وقد طلب من العلماء أن يتقدموا إلى المنصة لينالوا تكريمهم.

فتقدموا، ثم طلب من أحدهم أن يقدم كلمة بالمناسبة.. وهنا حدثت المفاجأة التي سبق لي أن أشرت إليها.

أخذ عالم الفلك مكبر الصوت، وقال: اسمحوا لي ـ حضرة الجمع المبارك ـ أن أقول لكم بأني قد نلت جائزتي من أول يوم حضرت فيه هذه البلاد الطيبة.

تصور المنظمون أنه يقصدهم.. فبدت علامات السرور على وجوههم.

لكنه أخرج المصحف الصغير ـ الذي كان علي قد سلمه إياه ـ وقال: هذا المصحف هو أغلى تكريم.. وهو أغلى هدية نلتها في حياتي.. ولو لم آت لبلادكم إلا لأجل هذا المصحف لكان ذلك كافيا.

لقد ظللت طول حياتي أشتاق إلى أن أتعرف على ربي وخالقي وخالق الكون العظيم الذي أمتلئ إعجابا به وتعظيما له.

ولكني لم أكن أتصور أن بإمكاني أن أسمع هذا الخالق، وأن أتصل به، وأجلس بين يديه..

لقد كان ذلك حلما بعيدا.. أبعدني كتابي المقدس عنه من أول يوم تناولته فيه.

لكن القرآن الكريم.. هذا الكتاب العظيم حقق لي هذا الحلم.. وأنا الآن موقن تماما أن كل ما في هذا الكتاب كلام الله.. لأنه يستحيل على أي عقل مهما بلغ ذكاؤه أن يصل إلى مثل الحقائق التي قررها القرآن.

إن المعلومات المفصلة التي ظلت البشرية طوال عمرها تبحث عنها بجهد لا يكل، وهمة لا تمل يلخصها هذا الكتاب في كلمات قليلة، وفي جمل قصيرة.. وكأنه يتحداها جميعا..

سكت قليلا، ثم قال: هو لا يتحدى.. الله أعظم من أن يتحدى أحدا.. ولكن كلام الله يدل على علم الله.. كلام الله يدل على دقة صنع الله..

لقد ظللت طيلة هذه الأيام أقرأ القرآن الكريم، أبحث عن معلومة واحدة تتنافى مع ما تقوله الحقائق العلمية.. فلم أجد.. بل وجدت العلم يلهث لا لشيء إلا ليقرر حقائق القرآن..

لقد عرفت أن هذا القرآن معجزة علمية تدل على أنه كلام العليم الخبير.. فيستحيل على أي كان، حتى لو كان في القرون التي نضج فيها العلم واكتمل، وفي أرقى بلاد الحضارة، ومن عبقري لا تحد عبقريته تعلم وطاف جامعات العالم أن يأتي بمثل هذه الحقائق التي جاء بها القرآن.

فكيف تأتي هذه المعجزات العلمية من رجل أمي في بطن صحراء.. وفي بطن التاريخ.. لا مراجع له، ولا مراقب، ولا أجهزة متطورة، ولا لجان بحث..

إن العقل الصادق لابد أن يسلم لهذا الرجل بالنبوة.. ولا بد أن يسلم لكتابه بأنه كلمات الله المقدسة التي أنزلها عليه.

ولذلك أشهدكم جميعا بأني أعلن إسلامي لله..

صاح الجميع مكبرين..

استأنف يقول: ولهذا.. فإن هذا أعظم تكريم لي..

أما هذه الهدية التي شرفتموني بها، فإني أتقدم بها لمن كان سببا في هدايتي.. وهو رجل لا أعرفه.. التقيت به في مرصد فلكي.. ولم أره بعد ذلك..

ولعله الآن بينكم.. فإن كان كذلك.. فإني أطلب منه، بل أناشده الله أن يصعد إلى هذه المنصة، لينال هذه الجائزة من يدي عربون وفاء لما قدم لي.

بقي الجميع مشدوهين محتارين من هذا الرجل الذي نال ثناء هذا العالم العظيم..

التفت إلى علي، فوجدته مترددا في الصعود.. وحذيفة بجانبه، يشدد عليه في الصعود، ويذكره بمناشدة الله.

صعد علي إلى المنصة، فاحتار الجمع، وناجى بعضهم بعضا عن سر صعوده، بل حاول بعضهم أن يوقفه، لكنه استمر في سيره، وصعد المنصة، فأسرع إليه عالم الفلك يحتضنه، ويبكي.

بجرأة لا نظير لها، أخذ علي مكبر الصوت، وقال: اسمحوا لي أيها الجمع المبارك أن أحدثكم بشيء سبقني إليه هذا العالم الجليل.

إن القرآن الكريم كلام الله، وكتاب الحقائق الأزلية، ولذلك لا تخافوا عليه..

أعلم أن إخلاصكم وصدقكم دفعكم إلى الحرص على كتاب ربكم من أن يدنس ببعض الفهوم البشرية التي تذهب قداسته.

لا تخافوا من ذلك.. فكتاب الله لا يدنسه شيء.. لقد حاولت الإسرائيليات أن تدنسه، فلم تفلح.. وحاولت الفهوم القاصرة أن تحرفه، فلم تفلح.. ولن يستطيع أحد مهما كان أن يحرف معاني القرآن أو يغيرها أو يحملها ما لا تحتمل.

لا تخافوا على القرآن من هذه الناحية.

نهض رجل من الجمع، وقال: نحن نخاف عليه منك ومن أمثالك الذي يزجون بالقرآن في متاهات لا ندري نهايتها.

احمر وجه علي، وقال: أتدري ما الذي دفعك ودفع غيرك إلى هذا القول.

سكت الرجل، فقال علي: إنهما شيئان: أحدهما مرتبط بالعلم، والآخر مرتبط بالإيمان؟

أما الأول، فهو قصوركم في تعلم العلوم المرتبطة بالقرآن.. لقد أمركم الله بالنظر في السموات وفي الأرض وفي الإبل وفي الطعام وفي مصاير الأمم.. لكنكم غضضتم بصركم عن كل ذلك، ثم غضضتم أسماعكم عما وصل إليه العلماء مما يؤيد كتابكم وينصره.

ولما قصرت بضاعتكم أن تفهم ما قاله العلماء، وما توصلوا إليه رحتم تضعون الجدران بينكم وبينهم، ففرقتم بين العلم والقرآن.. مع أن القرآن هو أصل العلوم وأساسها ولبابها.

وأما الثاني، فهو ضعف إيمانكم بقوة القرآن.. لقد ولد القصور العلمي في نفوسكم عقدة نقص.. فتصورتم ـ من غير أن تصرحوا ـ أن القرآن أقل من أن يواجه هذه الثورة العلمية العظيمة.. فخفتم على القرآن أن يجرفه تيار العلم.

ولو أنكم صدقتم في إيمانكم لرحتم تتحدون بحقائق القرآن.. فيستحيل على حقائق القرآن أن تخالف حقائق العلم.

اخترق حذيفة الصفوف، وصعد المنصة، وأخذ مكبر الصوت من علي، فتصورت أنه سيخالفه كعادته، لكنه ـ خلافا للعادة ـ قال: اسمحوا لي أيها الجمع الكريم أن أقول لكم شيئا.. لابد لي من قوله..

أنتم تعلمون أني كنت من المنكرين لما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة.. لقد كنت من المنكرين له بشدة.. وكنت لذلك أختلف مع صديقي علي في هذا الموضوع.. ولكني الآن.. وفي هذه الأيام العشرة التي وقع فيها المؤتمر.. وبصحبة هؤلاء العلماء الأجلاء، تيقنت تماما صدق صديقي علي.. وصدق الفئة المؤمنة التي جعلها الله جنودا لنصرة دينه.

لقد كنت مثلكم ـ أصدقائي وإخواني ـ أضع كلام ربي في برج عاجي، أو في ستر مكنون، وأنا أحاول جهدي حمايته.. لكني الآن عرفت أن القرآن الكريم أعظم من أن يحميه أحد..

إن القرآن الكريم كلام الله الذي يجاهد به، وينتصر للدين بعلومه ومعارفه وحقائقه.. إنه جيش كامل مزود بجميع أنواع الأسلحة ليقتل جميع شبهات الشياطين والمردة والمنافقين..

فلا تخافوا على كلام الله.. ولا تفروا به من الزحف.. فقوة القرآن أعظم من أن تقاوم.

نهض بعض الشيوخ، ويظهر عليه أنه كان قد تتلمذ على حذيفة، وقال: يا شيخنا.. لقد كنت تقول خلاف هذا.. بل كنت تؤلب الخصومة على من يقول هذا.. فكيف رجعت عن قولك؟

حذيفة: لا يحل لعالم أن يظل على قول هداه الدليل إلى خلافه.

نعم.. لقد كنت أقول ما تقولون.. وكان ذلك بسبب خوفي على القرآن الكريم، لكني لما علمت المنهج الصحيح الذي يتبع في إبراز نواحي الإعجاز القرآني سلمت له.

قال الرجل: فكيف كان ذلك.. وما المراجع التي رجعت إليها؟

أشار حذيفة إلي علي، وإلى العلماء، وقال: هذا هو المرجع.. وهؤلاء هم المراجع.

احتار الجمع، فقال: سأقص عليكم القصة.. أنتم تتصورون أنه أقيم في هذه الأيام العشرة مؤتمر واحد.. لكنه في الحقيقة أقيم مؤتمران.

ازدادت حيرة الجمع، فقال حذيفة: لقد كان هناك مؤتمر في الصباح تقيمونه أنتم ويقيمه هؤلاء العلماء الأجلاء.. وكان في المساء مؤتمر آخر.. مؤتمر سري يقيمه علي بصحبة هؤلاء العلماء من غير أن يعلم أحد بذلك..

لقد كان علي يتنكر كل يوم في صورة وهيئة ليبين لهم من حقائق القرآن الكريم ما يدلهم على الله.

ثم التفت إلى العلماء الذين حضروا معي، والذين بدت عليهم الدهشة، وقال: اسمحوا لصديقي هذا.. لقد مثل معكم أدوارا لعلها لم تزعجكم.

عالم الغذاء: لا.. لقد كان هذا الرجل الفاضل هو النور الذي اهتديت به.. ولولا أن زميلي عالم الفلك تحدث بما تحدث به، لكنت حدثتكم بنفس حديثه.

وأنا أمامكم الآن أعلن بأن هذه الحقائق العظيمة التي جاء بها القرآن يستحيل أن يأتي بها بشر..

بدت الحيرة على جميع الحاضرين.. ولم يدروا ماذا يقولون..

أعطى رئيس الجلسة المكبر لسائر أصدقائي من العلماء، فلم يزيدوا على ما ذكر عالم الفلك وعالم الغذاء..

وانتهت الجلسة، وقام الجميع إلى علي يصافحونه بحرارة.. وكان علي ينظر إلي من بعيد، وهو يحيني بمحبة وصدق، ولكنه لا يجرؤ على الاقتراب مني تنفيذا لما طلبت منه.

***

في ذلك المساء جاءني عالم الفلك، وقال: بورك فيك، وفي الجو الذي وفرته لنا.. وأنا نيابة عن أصدقائي جئت لأقدم لك جزيل الشكر على ما وفرته لنا من راحة وعلم، واعلم بأنا سنكتم ما فعلته ما حيينا، كما أنا لن ننسى لك هذا الجميل ما حيينا..

قلت: سنرحل غدا إلى بلادنا..

قال: لقد قررت ـ مع زملائي ـ أن نبقى مدة في هذه البلاد.. فإن شئت أن تبقى معنا فعلت.

قلت: أشكركم.. لدي ارتباطات كثيرة، ولا أستطيع أن أبقى معكم هنا.. ولكن مع من ستبقون؟

قال: مع علي.. لقد قررنا أن ننشئ مركز أبحاث يهتم بهذه الناحية.. إن القرآن منجم ثمين لا ينبغي أن نقصر في البحث عن كنوزه.

قال ذلك، ثم نظر لي، وقال: لقد قال الجميع كلمتهم.. فما تقول أنت!؟

سكت، ولم أدر ما أقول..

لقد تعرضت في هذه الرحلة إلى أشعة كثيرة جدا ظلت تملؤني بالحنين لمحمد ودين محمد إلى أن جاء اليوم الذي اكتملت فيه أشعة نور الهداية في قلبي، وحينها لم أملك إلا أن أصرح بما صرح به أصدقائي من العلماء.

لكني عندما ذهبت لألتحق بهم، وألتحق بعلي، وجدت أن المغفلين من علماء تلك البلاد لفقوا بعض التهم لعلي، واتهموا العلماء بالجوسسة، وأغلقوا المركز الكبير الذي أسسوه، وصادروا كل ما فيه بحجة الحفاظ على الدين.

وبما أن اسمي من تلك الأسماء التي وجدوها في سجلات ذلك المركز، فقد صرت متهما عندهم مطلوبا لعدالتهم التي بناها لهم الشيطان.

قلت: عجبا .. لقد كنت أتصور أن الذي يطلبك هم قومك.

قال: الاثنان معا .. قومي وقومك .. أما قومي فلأني أملك من الأسرار ما يخافون من إفشائه.. وأما قومك فأنت أعلم بهم مني.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *