المقدمة

المقدمة

تحاول هذه الرواية – من خلال أحداثها وحواراتها – أن تناقش مناقشة علمية موضوعية أمرين، كلاهما له علاقة بكبريات الحقائق التي اهتم بها العقل الإنساني، كما اهتمت بها قبل ذلك وبعده الأديان والمذاهب الدينية والوضعية، وقد اختلفت الأنظار في الموقف منها:

أما الأول: فهو ما فطر عليه الإنسان من عشق للعدالة ومقتضياتها المرتبطة بنفسه وبالمجتمتع وبالأمة وبالعالم أجمع، بل بالكون جميعا..

فالإنسان على حسب ما تقتضيه جبلته التي فطره الله عليها يكره الظلم والجور والاستعمار والاستبداد، وكل ما يرشح منها جميعا، وهو يعتقد في قرارة نفسه الفطرية أن كل عقيدة تؤيد ما يخالف العدالة عقيدة شيطانية لا علاقة لها برب الوجود، لأن الوجود قائم بالعدل، ويستحيل على الذي أقام كونه على العدل أن يأمر بخلافه أو يرضى بخلافه.

وهو يعتقد كذلك – بحسب فطرته التي فطره الله عليها – أنه يستحيل على رب الوجود القائم بالعدل ألا ينبه عباده إلى ممارسة هذا العدل، أو أن يتركهم جاهلين بكيفية ممارسة ما يقتضيه، لأن الله لم يخلق الكون واعتزله، بل خلقه، وكان هو الحاكم عليه.. والملك عليه.. فالله هو الملك المالك.

وقد حاولنا لتقرير هذه الحقيقة الفطرية والاستفادة منها في البرهنة على حقانية رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن نثبت – من خلال المصادر المقدسة – أن هذا الدين يحوي كل ما تتطلبه الفطرة من مقتضيات العدالة لينسجم الإنسان مع الكون جميعا، مع التنبيه على أن الخلل الذي حصل في التطبيق التاريخي أو التراثي لهذا الدين لا يلغي قيم العدالة منه، ذلك أن دين الله هو ما نصت عليه المصادر المقدسة.. أما التاريخ والتراث فهما دين البشر، وفكر البشر.. وعليهما أثارة من أهواء البشر.. ولذلك لا يمكن محاكمة دين الله من خلالهما.

وأما الثاني: فهو بيان المنهج الشرعي الذي وضعه الله للإنسان – ابتلاء واختبارا –  للسعي لتحقيق العدالة في نفسه ومجتمعه والعالم.

وقد اتفقت الأديان الربانية والوضعية على أن هذا السعي يحتاج إلى قوم يضحون بأنفسهم في سبيل مواجهة الظلم والجور والاستبداد، لأنه لا يقوم قائم بهذه المهمة الخطيرة التي تهز عروش الطغاة إلا وتعرض للمواجهة وللأذى، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }  [آل عمران: 21] ، فقد قرن الله تعالى بين الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس، وأخبر أن كليهما تعرض للأذى بل للقتل.

وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله تعالى فيه مقال، فلا يقول : يا رب خشيت الناس، فيقول : فاياي كنت أحق أن تخشى)([1])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)([2])

وبناء على هذا كان قالب هذه الرواية التي تحاول أن تبرز هذه الحقائق الجليلة، وهي باختصار تدور حول رحلة بطل القصة إلى بعض البلاد الإسلامية، حيث تعرض للاعتقال بسبب منشورات كان يحملها.

وبطل القصة شخص باحث عن العدالة، وصادق في بحثه، لكنه تعرض لشبهات كثيرة جعلته يحجب عن العدالة التي جاء بها الإسلام كان سببها ذلك التاريخ المشوه الممتلئ بالاستبداد والفساد، كما كان سببها أولئك العلماء الذين خلطوا دين الله بدين الملوك.. فشوهوا دين الله بذلك أعظم تشويه.

وفي السجن الذي مكث فيه بطل القصة مدة من الزمن، والذي تجمع فيه كل طالبي العدالة من مختلف الملل والنحل، حصلت المفاجأة حيث لقي عشرة من المسلمين الصادقين وضعوا في السجن بسبب دعوتهم لتحقيق العدالة التي جاء بها الإسلام.. وكان كل واحد منهم قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام يتحدث عن ركن من أركان العدالة، كما تقتضيه الفطرة، وكما جاء بها الإسلام، ويجيب عن الإشكالات التي تطرح عليه.

وفي الأخير تحصل أحداث كثيرة، أدعها للقارئ ليتعرف عليها، ويحاول أن يقرأ من خلالها المنهج السلمي الرباني الذي يحقق العدالة.. لا المنهج الشيطاني الذي استطاع به – من خلال أدواته الكثيرة – أن يحول من الإسلام إلى دين عنف وإرهاب واستبداد.. 

هذه أحداث الرواية باختصار، أما أبطالها، فقد اخترت عشر شخصيات إسلامية كبرى كان لها دور كبير في الدعوة للعدالة، والتضحية بالنفس في سبيلها.. وهي جميعا محل اتفاق عند المعتدلين من الأمة جميعا بطوائفها المختلفة..

أما المتطرفون، فنحن لا نراعيهم في هذه الرسالة كما لم نراعهم في غيرها.. لأنهم – بسبب الانحرافات الفكرية التي أمليت عليهم، وغسلت بها عقولهم – لا يرضون إلا بما يخرب صفو الأمة، وصفو الحقيقة، وصفو الإنسانية.

والأمة والحقيقة والإنسانية أعز علينا من أن يكدرها أي أحد مهما كان.

وأنبه في الأخير إلى أن هذه الطبعة الجديدة تتميز باختصارها مقارنة بالطبعة السابقة، فقد حذفت الكثير من الروايات والتفاصيل التاريخية التي قد تجهد القارئ العادي في فهمها أو الاستفادة منها.. بالإضافة إلى أن مقاصد العدالة تتحقق في النصوص المقدسة وحدها، ولا حاجة للتفاصيل التاريخية التي تختلف الأمة في النظر إليها.

ونحن مأمورون بعرض رسالة الإسلام إلى العالم، لا بعرض تاريخ المسلمين للعالم.


([1])  رواه أحمد وابن ماجة.

([2])  رواه أحمد وابن ماجة وغيرهما.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *