الفصل الثاني: سر العدل

الفصل الثاني: سر العدل

السر الثاني من أسرار الأقدار هو سر العدل الإلهي، فجميع الأقدار الإلهية تحمل معاني العدل المطلق الذي لا تشوبه شوائب الظلم.

وهذا السر مقترن بالتوحيد اقترانا ضروريا لا انفصال لأحدهما عن الآخر، فالعدل يقتضي التوحيد، والتوحيد يقتضي العدل.

أما اقتضاء العدل للتوحيد، فإن الشخص إن كلف تكاليف مختلفة من جهات متعددة، ثم حوكم في محاكم مختلفة من قضاة متناقضين كان ذلك منتهى الجور، ولكن العدل الإلهي مستند إلى التوحيد الإلهي، فالعبد لا يكلف إلا من رب واحد، وهو الذي يتولى جزاءه، فلا يخاف ظلما ولا هضما.

أما اقتضاء التوحيد للعدل، فإن من أعظم أسباب الجور فقر الجائر لمن جار له بأي نوع من أنواع الافتقار، أو بغضه للمجور لعلة من العلل، والله تعالى الغني عن عباده، لا يفتقر لأحد منهم، وينزه عن العلل التي يقع بسببها الجور والظلم.

ولهذا ورد في النصوص الجمع بين التوحيد والعدل، ومن ذلك قوله تعالى حاكيا قول هود u لقومه:{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (هود:56)

فهذه الآية الكريمة تجمع بين سري العدل والتوحيد، بل تسند أحدهما للآخر:

أما سر التوحيد الذي هو أساس التوكل كما أنه أساس العدل، فقد عبر عنه بقوله:{ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا }  أي لا يخرج أي شيء عن قهره وسلطانه.

وأما سر العدل، والذي جاء مستدركا لما قد يفهم خطأ من التوحيد، فقد عبر عنه بقوله:{ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}  أي هو الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه، فإنه على صراط مستقيم.

ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الجمع بين العدل والتوحيد:( ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أعلمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحًا)، فقيل: يا رسول الله، أفلا نتعلمها؟ فقال:( بلى، ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها)([1])

ففي هذا الحديث جمع بين التوحيد والعدل..

التوحيد الذي يقتضيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك)

والعدل الذي يقتضيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( عدل في قضاؤك)

وفي كون هذا الدعاء سببا لجلاء الهم أسرار كثيرة.. ومما يتعلق منها هنا هو أن السبب في الهم في أكثر الأحيان هو الجور([2]).. وعدم انتظام الموازين بالنسبة للمهموم، فكان في تذكيره بالعدل علاجا روحيا وتربويا يعيد إلى سواء السبيل.

وهذا الدعاء يشبه قوله تعالى:{ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (هود: 56)

فقوله تعالى:{ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا }  مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ناصيتي بيدك، ماض في حكمك) وقوله تعالى:{ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}  مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( عدل في قضائك)، أي لا يتصرف في تلك النواصي إلا بالعدل والحكمة والمصلحة والرحمة.

 وقد وردت النصوص الكثيرة المخبرة عن عدل الله، ومثلها النصوص التي تنفي الظلم عن الله، وقد ذكرنا الكثير منها في محاله في الفصل الأول، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى:( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) ([3]) أي أنه تعالى منع نفسه من ظلم عباده.

ومنها الآيات الكثيرة التي تنص على امتناع الظلم عن الله، كما قال تعالى:{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (آل عمران:182)، وقال تعالى:{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} (غافر: 31)، وقال تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت:46)، وقال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (يونس:44)، وقال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:40)، وقال تعالى:{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} (طـه:112)، والهضم أن ينقص من جزاء حسناته، والظلم أن يعاقب بذنوب غيره، وكلاهما مما يتنافى مع العدل.

ومما يمكن الاستدلال له على هذا النصوص الكثيرة التي تمجد العدل وتأمر به وتخبر عن محبة الله تعالى للعادلين، بل تخبر عن الله أنه لا يحكم إلا بالعدل.

قال تعالى في تمجيد العدل:{ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه} (النساء: 58)، ففي قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه }  دليل على محبة الله للعدل، وهي محبة تدل على أنه من صفات الكمال.

ومثل ذلك قوله تعالى:{ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9)، وقد ورد في النصوص الكثيرة الإخبار بمحبة الله من اتصف بصفاته.

وقد جمع الله تعالى بين أمره بالعدل وإخباره عن اتصافه به في قوله تعالى:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل:76)

فهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام المعبودة من دون الله، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن، والذي يأمر بالعدل ويتصف به هو الله تعالى.

زيادة على هذا فإن من أسماء الله تعالى التي تتطلب وجود مقتضياتها اسم (العدل) وقد قرن في الحديث الجامع للأسماء الحسنى باسم (الحكم)، وهو جمع بين التوحيد والعدل، فالحكم يقتضي الوحدانية المطلقة.

وللغزالي في تحقيق معنى اسم العدل، وانطباقه على الله وحده، كلام طيب ننقله هنا مع بعض التصرف، قال:( العدل هو الذي يصدر منه فعل العدل المضاد للجور والظلم، ولن يعرف العادل من لم يعرف عدله، ولا يعرف عدله من لم يعرف فعله، فمن أراد أن يفهم هذا الوصف فينبغي أن يحيط علما بأفعال الله تعالى من ملكوت السموات إلى منتهى الثرى حتى إذا لم ير في خلق الرحمن من تفاوت، ثم رجع البصر فما رأى من فطور، ثم رجع مرة أخرى فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير، وقد بهره جمال الحضرة الربوبية وحيره اعتدالها وانتظامها، فعند ذلك يعبق بفهمه شيء من معاني عدله تعالى وتقدس)([4])

وانطلاقا من هذا المنهج العلمي الذي وصفه للتعرف من خلاله على كمال العدل الإلهي، أخذ يطبقه من خلال استقراء المجردات ودلالتها على العدل الإلهي، فقال:( وقد خلق أقسام الموجودات جسمانيها وروحانيها كاملها وناقصها، وأعطى كل شيء خلقه، وهو بذلك جواد، ورتبها في مواضعها اللائقة بها وهو بذلك عدل، فمن الأجسام العظام في العالم الأرض والماء والهواء والسموات والكواكب، وقد خلقها ورتبها فوضع الأرض في أسفل السافلين، وجعل الماء فوقها، والهواء فوق الماء والسموات فوق الهواء، ولو عكس هذا الترتيب لبطل النظام)

ثم قرب هذه المعاني العميقة بذكره لبعض مظاهر خلق الله، والتي رسمت فيها حقائق عدل الله، فقال:( ولعل شرح وجه استحقاق هذا الترتيب في العدل والنظام مما يصعب على أكثر الأفهام فلننزل إلى درجة العوام، ونقول: لينظر الإنسان إلى بدنه، فإنه مركب من أعضاء مختلفة، كما أن العالم مركب من أجسام مختلفة، فأول اختلافه أنه ركبه من العظم واللحم والجلد وجعل العظم عمادا مستبطنا واللحم صوانا له مكتنفا إياه والجلد صوانا للحم فلو عكس هذا الترتيب وأظهر ما أبطن لبطل النظام، وإن خفي عليك هذا فقد خلق للإنسان أعضاء مختلفة مثل اليد والرجل والعين والأنف والأذن فهو بخلق هذه الأعضاء جواد وبوضعها مواضعها الخاصة عدل لأنه وضع العين في أولى المواضع بها من البدن إذ لو خلقها على القفا أو على الرجل أو على اليد أو على قمة الرأس لم يخف ما يتطرق إليه من النقصان والتعرض للآفات، وكذلك علق اليدين من المنكبين، ولو علقهما من الرأس أو من الحقو أو من الركبتين لم يخف ما يتولد منه من الخلل وكذلك وضع جميع الحواس في الرأس فإنها جواسيس لتكون مشرفة على جميع البدن فلو وضعها في الرجل اختل نظامها قطعا وشرح ذلك في كل عضو يطول

وبالجملة فينبغي أن تعلم أنه لم يخلق شيء في موضع إلا لأنه متعين له ولو تيامن عنه أو تياسر أو تسفل أو تعلى لكان ناقصا أو باطلا أو قبيحا أو خارجا عن المتناسب كريها في المنظر وكما أن الأنف خلق على وسط الوجه ولو خلق على الجبهة أو على الخد لتطرق نقصان إلى فوائده)

وهذا المنهج الذي ذكره الغزالي.. وهو قبل ذلك منهج القرآن في التعريف بالله ([5]).. هو الذي نحاول أن نستعمله هنا للاستدلال العقلي به على عدل الله.

وهو استدلال تجمع عليه العقول.. فنحن في جميع أحكامنا على الأشياء أو الأشخاص ننطلق من الثمرات.. فالثمرة تدل على من غارسها.

ولهذا.. فإن النظر في الكون.. وفي الحياة.. وفي الإنسان.. يدلنا على أعماق كبيرة من عدالة الله يقصر اللسان عن التعبير عنها.

وسنقتبس من مشكاة العلم الحديث الذي كشفه الله للبشرية لتتعرف عليه بعض هذه الدلائل، ونحسبها كافية للعقل المسالم.. أما العقل المجادل، فلا يمكن أن يقتنع بشيء.

فالعلم الحديث([6]) ينص ـ بالأدلة القطعية التي لا يمكن تخلفها ـ على أنه لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين، ولما أمكن وجود حياة النبات.

ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو عليه، فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تترواح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية، وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق، ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض، ولكانت العاقبة مروعة، أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره.

وينص على أن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيميائي التي يحتاج إليها الزرع، والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر بالإنسان، إلا إذا عرض نفسه لها مدة أطول من اللازم.

وينص على أن الأوكسجين لو كان بنسبة 50 في المائة مثلا أو أكثر في الهواء بدلا من 21 في المائة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال، لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر.

ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10 في المائة أو أقل، فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور، ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان – كالنار مثلا – تتوافر له.

وكمثال على التوازن الذي ضبط الله به الحياة على الأرض، والذي نص عليه قوله تعالى:{ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} (الحجر:19) ما حصل قبل سنوات عديدة في استراليا حيث زرع نوع من الصبار كسياج وقائي، ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا، وزاحم أهل المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة.

ولم يجد الأهالي وسيلة تصده عن الانتشار ؛ وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق.

 وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار، ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الانتشار، وليس لها عدو يعوقها في استراليا.

وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار، ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد.

وكمثال على التوازن الذي ضبط الله به السماء، والذي نص عليه قوله تعالى:{ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } (الرحمن:7)هذا النظام الشمسي العجيب.. فالنظام الشمس واحد من أروع الأمثلة للتناسق الجميل الذي يمكن مشاهدته.. ففيه تسعة كواكب مع أربعة وخمسين تابعاً، وعددا غير معروف من الأجسام الصغيرة.

وفي تركيب المجموعة الشمسية نواجه مثالاً جميلاً من التوازن، وهو التوازن بين القوى النابذة، والتي يقابلها التجاذب الثقالي من أوليتها([7])، وبدون ذلك التوازن فسوف يقذف كل شيء في هذا النظام بعيداً في الأعماق الباردة للفضاء الخارجي.

والمدارات هي المسارات التي ترسمها الكواكب أو الأجسام أثناء دورانها حول أوليتها، فإذا تحرك جسم بسرعة بطيئة جداً فسوف يسقط على الأولية ويغوص فيها، أما إذا تحرك بسرعة أكبر، فالأولية سوف لن تتمكن من الإمساك به، وسوف يطير ذلك الجسم بعيداً في الفضاء، وبدلاً من ذلك لابد أن يتحرك كل جسم بالسرعة الصحيحة تماماً كي يحتفظ بمداره، والأكثر من ذلك هو أن التوازن يجب أن يختلف من جسم إلى آخر بسبب أن المسافة للكوكب مختلفة بحيث لا تغوص في الشمس ولا تقذف بعيداً عنها وتطير في أعماق الفضاء.

ويعتبر الفلكيون من أمثال (كبلر وغاليليو) من أوائل الذين اهتموا باكتشاف ذلك التوازن الأمثل، وقد اعترف هؤلاء أن تصميمه تم بتأن وتؤدة،و أن هناك إشارة للتدخل الإلهي في كل الكون.

وقد قال (إسحاق نيوتن) يذكر هذا التوازن ( النظام الرائع للشموس والكواكب والمذنبات يمكن أن تشرق من هذف وغرض لسلطة عليا لكائن قدير وعبقري.. وهو يحكمها كلها ليس كروح بل كسيد مالك لكل الأشياء وبسبب سلطته العليا الغالبة فهو يدعى بالسيد الإله القدير »

بالإضافة إلى ذلك التوازن الرائع فإن موقع الأرض في النظام الشمسي وفي الكون هو أيضاً آية أخرى على كمال العمل الإلهي في الخلق.

فقد بينت آخر الاكتشافات أهمية وجود الكواكب الأخرى للأرض، فحجم المشتري وموضعه مثلاً أتيا على نحو كانا فيه حديان، كما بينت الحسابات الفلكية ذلك، فأكبر كوكب في المجموعة الشمسية، وهو المشتري يقدم الثبات لمدارات الأرض، وكل الكواكب الأخرى.

وقد قال (جورج ويذرك)يفسر دور المشتري في حماية الأرض في كتابه (كيف يكون المشتري المميز:( بدون وجود كوكب ضخم متوقع بدقة حيث المشتري موجود، فإن الأرض كانت ستصطدم في الماضي ألوف المرات وبشكل تكراري بالمذنبات والشهب وغيرها من الحطام بين الكوكبية، فإذا لم يكن المشتري موجوداً فلن نكون موجودين لندرس أصل النظام الشمسي »

وكمثال على الدقة التي رسمت بها أبعاد الكون ما اكتشفه العلماء من أن أبعاد كواكب المجموعة الشمسة([8]) عن الشمس جارية على نسب مقدرة ومطردة تسير وفق (9) منازل أولها ( الصفر) ثم تليه ثمانية أعداد تبدأ بالعدد (3) ثم تتدرج متضاعفة هكذا: ( 3ـ 6 ـ 12ـ 24 ـ48ـ 96ـ 192 ـ384ـ).فإذا أضيف إلى كل واحد منها العدد (4) ثم ضرب حاصل الجمع بتسعة ملايين ميل، ظهر مقدار بعد السيارة التي في منزلة العدد عن الشمس. أي أنه بإضافة (4) إلى كل منزلة تصبح المنازل التسع هكذا ك (4ـ 7ـ10 ـ28ـ100ـ196ـ388).

فإذا أخذنا أعداد المنازل هذه وضربنا كل عدد منها بتسعة ملايين يظهر لنا بعد السيارة التي هي في منزلة ذلك العدد عن الشمس.فعطارد مثلاً يبلغ متوسط بعده عن الشمس(36) مليون ميل كما سبق القول.و بما أن منزلته في البعد هي الأولى فيكون رقمها (4) فإذا ضربنا 4*9 ملايين يكون حاصل الضرب (36) مليون ميل. وهكذا تسير النسبة في بعد كل سيار عن الشمس مع فروق مختلفة قليلة.

ولكنهم رأوا كيف تكون المنازل التي اكتشفوها في تفاوت الأبعاد تسع منازل في حين أن الكواكب المعروفة ثمانية.

 فقد وجدوا أن منزلة العدد (28) ليس فيها كوكب، بل يأتي ن بعد المريخ صاحب العدد(16)، كوكب المشتري الذي هو صاحب العدد (52).

فما هو السر في هذا الفراغ؟ إما أن تكون النسبة التي اكتشفوها غير مطردة وإما أن يكون هنالك كوكب غير منظور في مرتبة العدد (28) على 252 مليون ميل عن الشمس، أي بين المريخ والمشتري.

ومن عجائب النظام الباهر أنهم وجدوا أخيراً في هذا الفراغ الشيء الذي قدّروا أنه لابد من وجوده. ولكنهم لم يجدوه كوكباً كبيراً بل وجدوا كويكبات صغيرة كثيرة تدور كلها في الفراغ المذكور الذي بين المريخ والمشتري أي في نفس المنزلة التي حسبوها من قبل فارغة.

وكل هذه الحقائق التي ظفر العلم ـ بفضل ما أتيح له من وسائل ـ ببعض تجلياتها مما نص القرآن الكريم على اعتباره من تصريف الله لكونه وضبطه له بالموازين التي يقتضيها العدل، وكلها مما ينص على قوانينها قوله تعالى:{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (الفرقان: 2)، وقوله تعالى:{ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (الأنعام:96)، وقوله تعالى:{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (يّـس:38)

وبهذا النظام الدقيق والموازين المضبوطة قدر الله السموات جميعا منذ ابتداء خلقها، قال تعالى:) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت:12)

* * *

وكما أن كل شيء من الكائنات ينطق متحدثا بلسان بليغ عن عدل الله، فإن هناك عالما آخر، لا يقل شأنا له دلالته الكبرى على عدالة الله المطلقة، وهي عدالة الأمر الإلهي، فلله الخلق والأمر جميعا.

فالشريعة الربانية تفيض بمعاني عدالة الله، بل إن الله تعالى أخبر بأن من الأغراض الكبرى لإرسال الرسل إقامة العدل، قال تعالى:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25)

بل إن الله تعالى قرن الدعاة إلى العدالة بالرسل ـ عليهم السلام ـ واعتبر قتلهم كقتل الرسل، فقال:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران:21)

وأخبر أن كل ما ورد به القرآن الكريم من الأحكام أحكام تقوم على القسط، بل هي القسط عينه، قال تعالى:{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (لأعراف:29)

ودعا البشر الواعين لحقائق القرآن الكريم أن يكونوا دعاة للعدالة بمفهومها الواسع، فقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء:135)

بل إن القرآن يدعو المؤمنين إلى ممارسة ما تقتضيه العدالة، ولو كان ذلك في مصلحة الأعداء.. فالمؤمن لا تصرفه عداوته لأحد من الناس عن التعامل معه وفق ما تقتضيه شريعة العدل التي تتفق عليها العقول، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:8)

والقرآن الكريم ـ كشأنه في الانتقال من المجمل إلى المفصل، ومن الأحكام النظرية إلى التطبيقات العملية ـ يذكر نماذج عملية كثيرة يتحقق فيها العدل:

تبدأ بالخلافة التي هي حكم الرعية.. فالخليفة هو الذي يتخلق بوصف العدالة، ولا يجره الهوى إلى الجور، قال تعالى مخاطبا داود u:{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (صّ:26)

والله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره الولي الأول لأمر المؤمنين بأن يحكم بالعدل.. لا الرعية البسيطة المطيعة.. وإنما السماعين للكذب الأكالين للسحت، قال تعالى:{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (المائدة:42)

وفي هذه الآية رد بليغ على أولئك الذين يريدون فرض شريعة الاستبداد، ويجدون من بائعي دينهم من يفتيهم بذلك بحجة أن من الرعية من لا يفيدهم إلا سيف الحجاج.

والعدل ليس قاصرا على هذا.. وليس قاصرا على هؤلاء..

إنه يشمل الكل.. فالمؤمن الباحث عن الكمال الإنساني لن يصل إليه إلا بتحقيق العدل في كل الشؤون.. فالأخلاق الإسلامية كلها تقوم على العدل، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} (الاسراء:29)، فالله تعالى يأمرنا في هذه الآية بالتوسط الذي يقتضيه العدل.

وعلى ضوء هذه الآية وغيرها اعتبر علماء الأخلاق المسلمين العدل من أمهات أصول الأخلاق.. بل لا يمكن أن يتحقق أي تصرف بوصف الحسن ما لم يكس بوصف العدل.

يقول الغزالي ـ مبينا علاقة العدل بالأخلاق ـ:( فالعقل مثاله مثال الناصح المشير. وقوة العدل هي القدرة، ومثالها مثال المنفذ الممضي لإشارة العقل. والغضب هو الذي تنفذ فيه الإشارة، ومثاله مثال كلب الصيد فإنه يحتاج إلى أن يؤدب حتى يكون استرساله وتوقفه بحسب الإشارة لا بحسب هيجان شهوة النفس. والشهوة مثالها مثال الفرس الذي يركب في طلب الصيد فإنه تارة يكون مروّضاً مؤدّباً وتارة يكون جموحاً، فمن استوت فيه هذه الخصال واعتدلت فهو حسن الخلق مطلقاً. ومن اعتدل فيه بعضها دون البعض فهو حسن الخلق بالإضافة إلى ذلك المعنى خاصة كالذي يحسن بعض أجزاء وجهه دون بعض)([9])

ولذلك، فإن هذا الأصل هو الضابط لسائر الأوصاف والقوى الإنسانية، بل هو الأصل في اعتبارها أخلاقا، فـ (حسن القوّة الغضبية واعتدالها يعبر عنه بالشجاعة، وحسن قوّة الشهوة واعتدالها يعبر عنه بالعفة، فإن مالت قوّة الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة تسمى تهوّراً، وإن مالت إلى الضعف والنقصان تسمى جبناً وخوراً. وإن مالت قوّة الشهوة إلى طرف الزيادة تسمى شرهاً، وإن مالت إلى النقصان تسمى جموداً، والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة، والطرفان رذيلتان مذمومتان، والعدل إذا فات فليس له طرفا زيادة ونقصان بل له ضدّ واحد ومقابل وهو الجور، وأما الحكمة فيسمى إفراطها عند الاستعمال في الأغراض الفاسدة خبثاً وجربزة، ويسمى تفريطها بلهاً، والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة)

وانطلاقا من هذه الأصول النظرية يبني المؤمن حياته على رعاية موازين العدل التي لا يمكن أن يتحقق بالاستقامة بدونها.

والقرآن الكريم يذكر التفريعات الكثيرة في هذا الباب.. يل يحث عليها بكل صنوف الحث:

ففي العدل مع اليتامى الذي يصرف عن استغلالهم أو الإساءة إليهم يقول تعالى:{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} (النساء:127)

وفي إقامة الموازين يقول تعالى:{ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن:9)، وقال تعالى:{ يْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} (المطففين)

بل إن الله تعالى أرسل رسولا من الرسل ـ عليهم السلام ـ انحصرت دعوته ـ بعد توحيد الله ـ في الأمر بإقامة العدل، قال تعالى:{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)} (هود)

وفي المعاملة العادلة مع النفس، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض الصحابة، حين جار على حق نفسه بمداومة صيام النهار وقيام الليل: ( إن لبدنك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً)([10])

وفي المعاملة العادلة مع الزوجة، أو الزوجات، يقول تعالى:{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (النساء:3)

وفي المعاملة العادلة مع الأبناء والبنات يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم)([11])

وروي أن رجلا جاءه ابنه فقبله وأجلسه في حجره ثم جاءته ابنته فأجلسها إلى جانبه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( فما عدلت)([12])

وفي المعاملة العادلة مع من نحب يقول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء:135)

وفي المعاملة العادلة مع من نكره يقول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:8)

هذه بعض النماذج عن اهتمام الإسلام الذي هو شريعة الله بالعدل([13]).. ويستحيل على من يحض كل هذا الحض على العدل أن لا يتصف به.

* * *

والعدل والظلم كما يفهم من التعابير القرآنية لا يراد منه إلا ما نفهمه في تعابيرنا العادية من معانيهما.

فالعدل أن توضع الأشياء في مواضعها المناسبة لها، والظلم أن توضع في غير مواضعها.

أما من حرف هذا المعنى، ففسر العدل بالممكن، واعتبر أن كل ما يمكن فعله بالعبد فهو عندهم عدل.

وفسروا الظلم بأنه التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وأحالوا بذلك ـ عقلا ـ إمكانية الظلم على الله تعالى باعتباره ممتنعا لذاته، فلا يدخل تحت القدرة، فلا يقدر الرب تعالى على ما يسمى (ظلما) حتى يقال ترك الظلم وفعل العدل.

فهذا، وإن كان يحمل بعض بذور الحقيقة إلا أنه لا يتناسب مع ما يفهم من ظواهر النصوص القرآنية والنبوية السابق ذكرها.

فلهذا لا معنى عندهم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(عدل في قضائك)، بل هو بمنزلة أن يقال:( نافذ في قضائك)، أو هو نفس معنى ( ماض في حكمك) فيكون تكريرا لا فائدة فيه ([14]).

وعلى هذا القول أيضا لا يمدح الله بالعدل، ولا يحمد على ترك الظلم، لأنه لا يحمد على ترك المستحيل لذاته.

بل إن القول بهذا، وخاصة ما يشاع تردده بأن من عدالة الله أن يدخل التقي المؤمن جهنم، ويدخل العاصي الكافر الجنة نوع من أنواع الجراءة على الله والمناقضة لما ورد في النصوص، زيادة على الآثار العملية الخطيرة لهذا القول، والتي سنشير إلى بعضها في هذه المقدمة.

وفي مقابل هؤلاء من وضعوا قانونا للعدالة أرادوا فرضه على الله، واعتقدوا التعارض بين عدل الله وتوحيده، فنفوا التوحيد لأجل العدل، كما نفى من قبلهم العدل لأجل التوحيد.

فكلا الطرفين ابتعد عن الحق بقدر ابتعاده عن النصوص المعصومة أو تغليب بعضها على بعضها، أو إعمال بعضها وإهمال الآخر.

والحق لا يمكن أن يعرف إلا بالنظر من جميع الزوايا ولجميع الحقائق، فالحقائق من الدقة والكمال والتوازن والتناسق ما يحيل تنافر بعضها عن بعض.

* * *

 وقد نتج عن الانحرافات السابقة من تغليب التوحيد على العدل اعتقاد جبر الإنسان على أفعاله، فهو كالسجين الذي لا حرية له، بل إن السجين عند هؤلاء أكثر حرية من الإنسان.

وهؤلاء الذين تصوروا أنهم غلبوا التوحيد ـ معرفة بالله ـ شوهوا التوحيد بما تصوروه من ظلمه لعباده وجوره عليهم.

ولذلك ورث هذا القول من تجرأ على الله يحتج عليه بأنه سبب كل البلايا، وأصل كل فساد.

وقد ذكر ابن القيم وغيره الكثير من المتجرئين على الله بسبب عدم إدراكهم لحقيقة العدالة الإلهية ([15]):

ومما ذكروه عن بعضهم قوله – وقد عوتب على ارتكابه معاصى الله ـ:( إن كنت عاصياً لأمره فأنا مطيع لإرادته)

وجرى عند بعض هؤلاء ذكر إبليس وإبائه وامتناعه من السجود لآدم، فأخذ الجماعة يلعنونه ويذمونه، فقال:( إلى متى هذا اللوم؟)، ولو خلى لسجد، ولكن منع، وأخذ يقيم عذره فقال بعض الحاضرين:( تباً لك سائر اليوم، أتذب عن الشيطان وتلوم الرحمن؟)

وقد وقع بعض أدعياء المعرفة بالله في هذا المنزلق الخطير، فتصوروا أن من مقتضيات المعرفة بالله جحود عدالة الله وحكمته في خلقه، فتعرفوا إلى الله من زاوية محددة أملتها عليهم مواجيدهم، وغفلوا عن الزوايا الكثيرة التي تمليها عليهم النصوص.

وقد ذكر مرعي بن يوسف الحنبلي المقدسي دوافع تأليفه لرسالة ( رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر) فقال:( إن بعض دراويش متصوفة الفقراء الذين وقعوا في الإباحة والآثام، وطووا بساط الشرع، ورفعوا قواعد الأحكام، وسووا بعقولهم بين الحلال والحرام كان لا يصوم ولا يصلي منهمكا على المحرمات كالخمور ونحوها من اللذات، فاعترض عليه في ذلك،فأجاب بما مضمونه أنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف، وأن هذا مقدر علي، وأنا لا أقدر على رفع ما قدره الله علي)([16])

وتصور بعضهم أن العارف لا تضره الذنوب كما تضر الجاهل، وربما سول له الشيطان بأن ذنوبه خير من طاعات الجهال.

مع أن النصوص تخبر بأنه يحتمل من الجاهل مالا يحتمل من العارف، بل إذا عوقب الجاهل ضعفا عوقب العارف ضعفين، ولهذا قال تعالى في نساء النبي:{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} (الأحزاب:30)

وعادة مثل هؤلاء كعادة من غلبت عليه الأهواء، فهو لا يستجيب للمخالف بسبب، وهو أن المتكلم لم يرق درجات الكمال، أو أن علم الأوراق حجبه عن علم الأذواق، قال ابن القيم بعد الإنكار على مثل هذه الأقوال:( فإن قيل هذا كلام بلسان الحال بالشرع، ولو نطقت بلسان الحقيقة لعذرت الخليقة، إذ هم صائرون إلى مشيئة الله فيهم وما قضاه وقدره عليهم ولا بد، فهم مجار لأقداره، وسهامها نافذة فيهم، وهم أغراض لسهام الأقدار لا تخطئهم ألبتة،ولكن من غلب عليه مشاهدة الحكم الشرعي لم يمكنه طلب العذر لهم، ومن غلب عليه مشاهدة الحكم الكوني عذرهم فأنت معذور في الإنكار علينا بحقيقة الشرع، ونحن معذورون في طلب العذر بحقيقة الحكم وكلانا مصيب)([17])    

* * *

والعلة الكبرى التي يستند لها المغلبون للتوحيد على العدل، هو تغليب ما ورد في النصوص من توحيد الله المقتضي لتوحيد علمه ومشيئته وقدرته على ما ورد في النصوص من عدل الله الذي يقتضي التعامل مع كل أحد بحسب عمله.

والذي غلب أحد النظرين على الآخر ليس حجم النصوص الواردة في التوحيد، بل إن ما ورد في العدل الإلهي أكثر بكثير مما ورد في التوحيد المرتبط بالقدر، فالقرآن الكريم كله أوامر تكليفية وبيان للعدل الإلهي في الأمر بها أو المجازاة عليها.

وليس كذلك بسبب النظرة العرفانية، فالعارف ـ كما ذكرنا ـ هو من عرف الله بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فلم يطفئ ـ لذلك ـ نور توحيده نور ورعه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعرف العارفين بالله، بل هو سراج المعرفة بالله الذي تشع من خلاله جميع كواكب المعرفة وأقمارها:( إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)([18])، فجمع صلى الله عليه وآله وسلم بين العلم بالله وتقوى الله.

وإنما السبب هو سوء الفهم للنصوص، أو النظر للنصوص من زاوية واحدة، ولذلك سنتحدث في هذا الباب عن وجوه الجمع بين التوحيد والعدالة مقدمين النصوص على غيرها محاولين فهم النصوص على ظواهرها البسيطة الفطرية التي لا تعقيد فيها ولا إلغاز.

وسنرى المدى الذي عبرت به النصوص عن عدالة الله المطلقة في جميع النواحي المرتبطة بالقدر.

وقد حاولنا حصر الحديث في الجوانب الأساسية الثلاثة للعدل، بحسب ما تقتضيه القسمة العقلية، وهي: عدالة التكليف، وعدالة الهداية، وعدالة الجزاء.

فعدالة التكليف تقتضي أن لا يكلف المكلف إلا بحسب استطاعته، وبعد توفر كل ما يتعلق بالتكليف من أسباب ووسائل.

وعدالة الهداية تقتضي أن لا يهدى إلا الراغب في الهداية، ولايضل إلا الراغب في الضلالة.

وعدالة الجزاء تقتضي أن يجازى كل مكلف بحسب عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فلا يتساوى القاعد مع العامل، ولا الطائع مع العاصي.

أولا ـ عدالة التكليف

المراد بالتكليف في المصطلح الإسلامي هو الوظيفة التي ندب لها البشر على هذه الأرض، وقد عبر عن هذه الوظيفة في القرآن الكريم تعابير مختلفة، لكل منها دلالته الخاصة، ولكل منها علاقته بالعدل الإلهي في التكليف.

فقد عبر عن التكليف بكونه أمانة، كما قال تعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72)، ثم قال بعدها:{ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الأحزاب:73)

فهاتان الآيتان تجمعان جميع دلائل العدالة الإلهية في تكليف الإنسان:

وأول ذلك أن الإنسان خير في قبول التكليف، فقبله عن طواعية تامة ورضى خالص، بل إنه تعالى ـ من باب العدالة المطلقة ـ قدم عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، ليكون للإنسان أسوة في حال الامتناع، ولكنه رضي عن طواعية تامة بهذا التكليف.

قال ابن عباس مصورا هذه الحقيقة الضخمة التي انطلق منها التكليف:( يعني بالأمانة الطاعة عرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقنها، فقال لآدم:( إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟)، قال:( يا رب وما فيها؟) قال:( إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت)، فأخذها آدم فحملها)([19])

فهذا النص الذي يبعد أن يقوله ابن عباس بمجرد الرأي يذكر أن الإنسان عرف كل ما يتعلق بالأمانة والجزاء المرتبط بها حتى قبل التكليف عن بينة.

زيادة على هذا جاء في الآية الثانية الإخبار بالجزاء الذي يرتبط بالقدر الذي تؤدى به الأمانة لا بأي ارتباط آخر، وهو ما يقتضيه العدل.

أما إخباره تعالى بأن الإنسان ظلوم جهول، ففيه دلالة قوية على السر الذي جعله مستعدا لتحمل الأمانة، فظلمه يحمل بذور العدل، وجهله يحمل طاقة التعلم، فكانت طاقاته التي وهبها تؤهله لهذا التكليف.

***

وعبر عن التكليف بالخلافة، كما قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:30)

وليس المراد بالخلافة التي تتحدث عنها الآية الكريمة الخلافة الممثلة في شخص آدم u، بل هي شاملة للجنس البشري كله، بدليل أن ما تخوف منه الملائكة من الإفساد في الأرض وسفك الدماء لم يتحقق في آدم u، وإنما تحقق في البشرية على امتدادها التاريخي.

وقد أشارت آيات كريمة أخرى إلى هذا الاستخلاف العام، ومنها قوله تعالى على لسان هود u لقومه:{ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } (لأعراف: 69)، وقوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً} (فاطر:39)

وقد ورد في النصوص التعبير عن الخلافة التي تعني الحكم، كما قال تعالى:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (صّ:26)، وهي فرع من الخلافة التي أسندت لكل إنسان، أو هي فرع متقدم عليها.

وهذه النصوص جميعا، والتي ورد التعبير فيها عن التكليف بالخلافة تشير إلى عدالة الله المطلقة:

فالتعبير بالخليفة، أو اصطلاح ( الخلافة) نفسه يقتضي حرية المكلف فيما استخلف فيه وعدم تقيده إلا بالموازين التي أمره مستخلفه بإقامتها.

فالخلافة مسؤولية، والمسؤولية لا يقوم بها إلا الكائن الحر، فبدون الاختيار والحرية لا تتحقق المسؤولية.

ولهذا استنتجت الملائكة من إخبار الله لها بأنه سيجعل خليفة على الأرض أنه سيجعل الكائن الحر المختار، ومثل هذا يمكن أن يصلح في الأرض، ويمكن أن يفسد فيها، لأن الاختيار والإردة تسويان بين الجهتين.

وفي قوله تعال:{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (يونس:14)، وقوله تعالى على لسان موسى u:{ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (لأعراف: 129) إشارة إلى هذه الحرية التي أوتيها الإنسان ليستقيم تكليفه، فقد عبر تعالى عن غاية التكليف بأنها مجرد النظر إلى أعمالهم لا حملهم على أعمالهم أو إجبارهم عليها، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الدنيا حلوة خضرة، وإن اللّه مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء)([20])

والله تعالى مع إخباره عن علمه بحقيقة هذا الخليفة والذي رد به على الملائكة، لم يحاسب الخلق على علمه فيهم، بل ترك لأعمالهم المجال لذلك.

ثم إن الله تعالى أشار في هذه الآيات إلى أن نتيجة الاستخلاف هي التي تحدد مصير الإنسان، فتجعله من الكافرين أو من المؤمنين قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً} (فاطر:39)

* * *

 وعبر عن التكليف بالعبادة،كما قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذريات:56)، فقد حصر الله تعالى غاية الخلق في هذه الآية في العبادة.

وقد وردت النصوص الكثيرة في القرآن الكريم تخبر عن هذه الغاية التي هي تفسير للأمانة والخلافة السابق ذكرهما، ومن ذلك قوله تعالى في إخباره عن الغاية من إرسال الرسل:{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، وقال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الانبياء:25)، وقال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الانبياء:25)

فالتكليف الذي كلف البشر بأدائه إذا هو العبادة، فما معنى العبادة؟

وهل للتكليف بالعبادة علاقة بالعدل الإلهي؟

اتفق المعرفون للعبادة بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والاعمال الباطنة والظاهرة.. فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الامانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من ألوان العبادات.

وتشمل كذلك ما له علاقة بالأحوال والمعارف كحب الله ورسوله وخشية الله والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وغيرها.

وهذه الألوان جميعا، والتي تتلون بها عبادة الله تعالى، تستلزم ركنين:

الركن الأول هو الذلة المطلقة لله، كما يقال: طريق معبد اذا كان مذللا قد وطئته الاقدام.

والركن الثاني هو كون ذلك الخضوع ناشئا عن طواعية تامة لله تعالى، وهذا هو الجانب الذي أبته السموات والأرض من تحمل الأمانة، لأن الركن الأول من العبادة، وهو الخضوع المطلق لله،والذي لا سلطة للخاضع فيه ولا اختيار هو عمل الكون جميعا، كما قال تعالى:{ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} (الانبياء:19)، وقال تعالى:{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (الرعد:15)، وقال تعالى:{ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران: 83)

وقد اختلف في التعبير عن علة الخضوع الناشئ عن الطواعية، فذهب الأكثر إلى العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية التذلل لله تعالى مع غاية المحبة له.

وسر ذلك أن من خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له، لم يكن عابدا له، كما قد يحب الرجل ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلي العبد من كل شيء.

وعبر فريق آخر عن هذه العلة بأنها المعرفة، كما قال محمد عبده: (تدل الأساليب الصحيحة، والاستعمال العربي الصراح، على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود، لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدرك تفهمها وماهيتها، وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه، فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال ( إنه عبده) وإن قبل موطئ أقدامه، ما دام سبب الذل والخضوع معروفا، وهو الخوف من ظلمه المعهود، أو الرجاء في كرمه المحدود، اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن الملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى، واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا، لأنهم أطيب الناس عنصرا، وأكرمهم جوهرا، هؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإلحاد، فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقية)

وهذه العلة الثانية هي التي أشار إليها من فسر من السلف العبادة في الآية السابقة بأنها المعرفة.

ولا تنافر بين الرأيين، فالحب حصاد المعرفة، والمعرفة بذور الحب، فلا يمكن للإنسان أن يحب من لا يعرف.

أما علاقة العبادة بعدالة التكليف، فظاهرة، لأن الله تعالى لم يكلف خلقه أن يعبدوه أو يعرفوه أويحبوه رغم أنوفهم، بل ترك ذلك لعقولهم وقلوبهم لتعبد الله عن طواعية تامة واختيار تام، ثم تتحمل بعد ذلك نتيجة اختيارها.

* * *

انطلاقا من هذه المعاني التي يتأسس عليها التكليف، وتتجلى فيها عدالة التكليف في أوج قمتها، نتحدث في هذا الفصل عن ثلاثة جوانب نراها أساسية قد لا تقوم العدالة في هذا الجانب إلا بها:

أما الأول، فهو أن يكون المكلف في أصل خلقته نقيا طاهرا بحيث لا تؤثر فيه الجبلة التي ولد عليها في نوع اختياره، لأنه لو ولد شريرا مفسدا، فإنه قد لا يفطن حال بلوغه سن التمييز إلى حقيقة الخير الذي أودع فيه.

وأما الثاني، فهو أن يكون للمكلف من الأدوات والوسائل ما يستطيع به أن يقاوم العقبات التي تعترض طريق تكليفه، فيلس من العدالة أن يرمى بالجندي الأعزل في ساحات المعارك الهوجاء.

وأما الثالث، فهو أن يتناسب الاختبار مع الطاقات المعطاة والمؤهلات المختلفة لكل مكلف، فليس من العدل أن يكلف المكلف فوق ما تحتمله طبيعته التي طبع عليها أو الظرف الذي وجد فيه.

وسنتحدث عن كل جانب من هذه الجوانب في مبحث خاص:

1 ـ الفطرة الأصلية:

كما أن الممتحن في أي امتحان نزيه يحضر أوراقا بيضاء نقية ليجيب عليها، لأنه لا يمكنه أن يجيب على أوراق مملوءة قد لا يجد مكانا فيها لوضع إجابته، أو قد تختلط فيها إجابته بما كتب سابقا في تلك الأوراق.

فكذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ خلق الله البشر في أصل جبلتهم صفحات بيضاء، مستعدة لكل أعباء التكليف ومهماته، ليملؤوا بعد ذلك هذه الصفحات البيضاء بما يختارونه من إجابات.

وكون البشر على هذه الصورة من القضايا المسلمة عقلا، فلا خلاف بين شعوب الأرض في براءة الطفولة، وفي استعدادها لكل أنواع التلقي، ولذلك اتفقت هذه الشعوب على اختيار عمر الطفولة للتوجيه العلمي والتربوي الذي تبنى عليه جميع حياة الصبي.

وقد دلت النصوص على ما دل عليه العقل، بل اعتبرت النصوص ذلك من مظاهر عدل الله ورحمته بعباده.

وقد سمى الله تعالى هذه الجبلة الأصلية الطيبة البسيطة التي جبل عليها الإنسان باسم الفطرة، وهي تدل على ما جبل عليه الإنسان من استعداد للخير، والذي قد يتحول بالتحريف إلى الشر، قال تعالى:{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:30)

ففي الآية الكريمة إشارة إلى أن الفطرة الأصلية مستعدة للخير استعدادا جبليا، وأن التغيير الطارئ عليها ليس ناشئا من طبيعتها الخلقية، وإنما نشأ من مؤثرات خارجية اقتضاها التكليف.

وفطرة الإنسان في ذلك تشبه فطر الأشياء المختلفة، فالله تعالى ـ مثلا ـ خلق الماء طاهراً مطهراً، فلو ترك على حالته التى خلقه الله عليها ولم يخالطه ما يزيل طهارته لم يزل طاهراً، ولكنه بمخالطة المؤثرات الخارجية من الأنجاس والأقذار تتغير أوصافه ويخرج عن الخلقة التى خلق عليها.

وقد بينت النصوص الكثيرة هذه المؤثرات الخارجية لتفاديها، أو لإصلاح ما أفسدته هذه المؤثرات من الفطرة الأصلة.

وأول هذه المؤثرات كما يخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي المهد الذي ربي فيه الإنسان، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء؟)([21])

ومن هذه المؤثرات الشياطين، وهي أخطر المؤثرات، ولذلك اشتد التحذير منه في القرآن الكريم، وإلى هذا المؤثر يشير قوله تعالى حكاية لقول الشيطان:{ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (النساء: 118 ـ 119)

فالشيطان في هاتين الآيتين يتوعد بتغيير الفطرة الأصلية التي فطر عليها البشر، والتي تشمل كل شيء حتى ما يتعلق منها بالجانب الخلقي.

وإلى هذا المؤثر ـ أيضا ـ يشير قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي:( قال اللّه عزّ وجلَّ: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم)([22])

وليس من المؤثرات الخارجية ـ كما قد يتوهم ـ أن الله تعالى يملي عليه الشر، ويزينه له، فذلك محال على الله تعالى.. أما النصوص التي قد توهم ذلك، فسنتحدث عنها في محلها من الفصل المتعلق بعدالة الهداية.

 وقد تحدث العلماء هنا على الجمع بين قوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (التغابن:2) وبين خلق الإنسان على الفطرة الأصلية، وكأن هناك تناقضا بين الأمرين.

ونرى أن الجمع بينهما لا يحتاج إلى كل ذلك التكلف، فالآية الكريمة لا تخبر عن كون الفطرة الأصلية للكافر فطرة كافرة بدليل النصوص السابقة، وإنما تخبر عن المواقف التي يتخذها الإنسان ليختار على أساسها طريق الكفر أو طريق الإيمان.

ومثل هذا ما ورد في الحديث الشريف من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)([23])، فهذه الأحوال التي يختلف بموجيها الغادون إنما هي نتيجة لسلوكاتهم لا لأمر فرض عليهم.

* * *

بل إن الله تعالى ـ رحمة بعباده، وتغليبا لأوصاف الرحمة السابقة لأوصاف الغضب ـ أودع في فطرهم الأصلية توحيده ومعرفته، بل نبههم إلى المؤثرات التي يمكن أن تبعدهم عن فطرتهم الأصلية، وإلى ذلك كله الإشارة بقوله تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (لأعراف:172) والعذر الثاني الذي نبهوا إليه هو ما ورد في قوله تعالى:{ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (لأعراف:173)

وقد وردت النصوص الكثيرة الشارحة للمراد بهذا الميثاق الذي تحمله الفطر الأصلية، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن اللّه أخذ الميثاق من ظهر آدم u بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلاً قال:{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ }، قالوا: { بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } )([24])

وهذا النص يدل على أن تتمة الميثاق ـ تشتمل زيادة على حقائق التوحيد ـ تنبيههم إلى العقبات التي تعترض سبيل الفطرة الأصلية.

فهاتان الآيتان الكريمتان والنصوص المفسرة لها تشير إلى الحقائق الأساسية المودعة في الفطرة الأصلية، والتي هي التربة الطيبة التي ينبت من طيبتها كل الثمار الطيبة.

فالله تعالى أودع ـ كما نتص هاتان الآيتان الكريمتان ـ معرفته في فطرة الإنسان، فلذلك كانت معرفة الله معرفة عقلية، فيمكن أن يعرف الإنسان المجرد من الأهواء والآثار الخارجية الله تعالى ويستدل على توحيده، بل على الكثير من صفات كماله من دون حاجة إلى الوحي في كل ذلك فالوحي السابق يغني عن الوحي اللاحق في هذا المجال.

ولذلك أخبر القرآن الكريم عن أن الفطرة الأصلية للمشركين تنطوي عل حقائق الإيمان التي لم يطمع الشيطان في إزالتها، فاكتفى بتحريفها، كما قال تعالى مخبرا عن المعارف الإيمانية للمشركين:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} (العنكبوت: 61)، وقال تعالى:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (لقمان:25)

بل إن الله تعالى يخبر عن معرفتهم ببعض أوصاف كمال الله وأسمائه الحسنى، قال تعالى:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزخرف:9)

ولذلك ينطلق القرآن الكريم من هذه المعارف الأصلية التي هي بقايا من فطرهم الأصلية ليصلح ما أفسدته المؤثرات الخارجية، وبذلك يعتمد الوحي اللاحق على الوحي السابق، كما قال تعالى:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (الزمر:38)

وبذلك أمكن أن يحاسب الإنسان على ما أودع في فطرته الأصلية من معارف الإيمان، كما ورد في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال، فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي)([25])

ومراعاة لهذه الفطرة الأصلية المؤمنة نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الذرية في الحروب، فقد ورد في الحديث عن الأسود بن سريع قال: غزوت مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أربع غزوات، قال: فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فاشتد عليه، ثم قال:( ما بال أقوام يتناولون الذرية؟)، فقال رجل:( يا رسول اللّه أليسوا أبناء المشركين؟)، فقال: (إن خياركم أبناء المشركين، ألا إنها ليست نسمة ولد تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها يهودانها وينصرانها)([26])

بل ورد في رواية أخرى من روايات حديث المولود:( ما من مولود إلا يولد على هذه الملة)([27])، وفي ذلك دليل صريح على نوع المعرفة التي يحملها الذرية.

قد يقال هنا: فلماذا قتل الخضر u ذلك الغلام بتلك الحجة التي ذكرها، وهي قوله:{ وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} (الكهف:80)، ويؤيد هذا ما ورد في الروايات من كونه كان صبيا صغيرا؟

والرد عل هذا أنه لم يرد في القرآن الكريم ولا في الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن مميزا حال قتله، بل قد ورد ما يدل على أنه كان كافرا في الحال.

أما تسميته غلاما، فلا تمنع من كونه مكلفا قريب العهد بالصبى، ولهذا لم ينكر عليه موسى u قتله بسبب صغره، وإنما أنكر عليه قتله لكونه زاكيا طاهرا لم يستوجب القتل.

2 ـ مؤهلات التكليف:

كما يقتضي التكليف الذي هو نوع من أنواع الاختبار أن لا يكون الإنسان مشحونا في أصل الخلقة بما يعوقه من تحقيق ما أنيط به من التكاليف، وذلك بأن يولد على الفطرة الأصلية، فإنه يقتضي كذلك أن يكون المكلف مؤهلا لأداء ذلك التكليف، وذلك بتوفير كل ما يحتاجه من طاقات ومعارف من جهة، وبتفريغه للاختبار من جهة أخرى.

طاقات التكليف:

أما الشق الأول، فيشير إليه قوله تعالى بعد ذكره إرادته في جعل الإنسان خليفة على الأرض، فقد قال بعدها:{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:31)

وفي هذه الآية الكريمة نستشف الكثير من الحقائق المرتبطة بمؤهلات التكليف، ومنها أن الله تعالى ـ جعل آدم u خليفة ـ ووفر له من العلم ما يستطيع أن يؤدي به مهمة الخلافة.

وقد عبر الله تعالى عن هذا العلم الذي أوتيه الإنسان في بدء الخلق بأنه علم الأسماء كلها، وقد وردت الأقوال الكثيرة في معنى الأسماء كلها التي تعلمها آدم u، ثم تميز بها بعد ذلك على الملائكة.

وبما أن المسألة تكاد تكون معروضة للاجتهاد، فليس فيها من النصوص الصريحة ما يحيلها مسألة توقيفية، فإنا نرى والله أعلم أن آدم u علم من الأسماء ما تقتضيه خلافته على الأرض، وهذا يشمل نوعين من الأسماء:

الأسماء المتعلقة بالمستخلف فيه: وهو كل ما يتعلق بحياته على الأرض من معارف أساسية، ومن لغة يستطيع بواسطتها بناء علاقاته وإنماء معارفه.

وإلى هذا النوع الإشارة بالروايات الواردة عن ابن عباس وغيره من أنه:( علمه أسماء جميع الأشياء كلها جليلها وحقيرها)، وقال ابن عباس 🙁 علمه أسماء كل شيء حتى الجفنة والمحلب)([28])

وهذه الروايات وغيرها تدل على أن اللغة مأخوذة توقيفا، وأن الله تعالى علمها آدم u جملة وتفصيلا، ولم يرد في النصوص ما يحدد هذه اللغة التي علمها آدم u، لعدم الحاجة إلى ذلك.

وروي من جهة أخرى ما يدل على أن آدم u عرف بخصائص الأشياء التي يتعامل معها ومنافعها ومضارها، وفي هذا روي عن بعضهم قوله: علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة، وسمي كل شيء باسمه وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه. قال النحاس: وهذا أحسن ما روي في هذا.

وهذا يدل ـ كذلك ـ على ان المعارف الأساسية للإنسان في جميع المجالات معارف توقيفية لا اجتهادية.

الأسماء المتعلقة بالمستخلف عليه: وهو أيضا من المعارف الأساسية التي يحتاج إليها في أداء وظيفة الخلافة، لأنه ـ كما ذكرنا ـ في مناسبات مختلفة ـ بأن جميع الكون، دقيقه وجليله يستند إلى أسماء الله التي تمده بمعاني الوجود التي هو عليها.

ويدل على هذا أن القرآن الكريم لم يذكر كلمة (الأسماء) معرفة إلا وأراد بها الأسماء الحسنى، كما قال تعالى:{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (لأعراف:180)، وقال تعالى:{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (الاسراء:110)، وقال تعالى:{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (طـه:8)، وقال تعالى:{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحشر:24)

أما الأسماء الورادة نكرة، فلها بعض الدلالة، لأنها وردت في التسميات الخاطئة للأوثان التي عبدت من دون الله، وكأن أسماء الله بذلك أعيرت ـ من باب الشرك ـ لتلك الأوثان، قال تعالى عن يوسف u:{ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (يوسف: 40)، وقال تعالى:{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (لنجم: 23)

ويدل على هذا أيضا ـ من باب الرواية ـ ما ورد من أنه عرض على الملائكة ـ عليهم السلام ـ الأسماء لا المسميات، كما قال ابن عباس وغيره:(عرض الأسماء) وفي قراءة ابن مسعود التفسيرية:( عرضهن)، فأعاد على الأسماء دون الأشخاص، لأن الهاء والنون أخص بالمؤنث. وفي قراءة أبي:( عرضها)

وهذه الروايات تتكامل مع الروايات الأخرى الدالة على أنه عرض على الملائكة ـ عليهم السلام ـ الأشياء ليسميها الملائكة بأسمائها، كما قال ابن مسعود وغيره:( عرض الأشخاص)، ويدل عليه قوله تعالى:( عرضهم)، وقوله:( أنبئوني بأسماء هؤلاء)

فدل كلا القولين على أن آدم u تعلم أمورا حسية عرضت على الملائكة بأعيانها، وتعلم أمورا معنوية لها علاقة بأسماء الله كما ذكرنا، وبذلك يجتمع كلا القولين، والله أعلم.

وقد يقال هنا: فكيف جهل الملائكة ـ عليهم السلام ـ مع قربهم من الله تعالى هذه الأسماء؟

والجواب على ذلك يرجع إلى ما ذكرنا سابقا من أن أسماء الله التي لا يحصرها الحاصر، والتي لها تعلق بكل الأشياء لا يعرف كل شيء منها إلا ما له علاقة به.

فالملائكة ـ عليهم السلام ـ مفطورون على الطاعة، وتستحيل في حقهم المعصية، فلذلك قد لا يدركون من أسماء الله التي يعرفونها ما يتعلق بالمغفرة والتوبة، فذلك لما عرضت هذه السماء أخبروا عن جهلهم بها وردوا العلم فيها إلى الله.

ولعله لأجل هذا أسرع آدم u بالتوبة بمجرد اقتراف المعصية لما علمه من أسماء الله المقتضية لذلك.

* * *

 قد يقال هنا: إن كل ما ذكر من مؤهلات التكليف يخص آدم u، فكيف يكون العدل في تكليف البشرية جميعا بمؤهلات وهبت لفرد منها؟

والجواب عن هذا أنه مع أن المعارف التي تلقاها آدم u ورثها لذريته، إلا أن رحمة الله تعالى لم تكتف بهذا التوريث الذي قد يدخل فيه من التحريف ما ينحرف به مسار الإنسان، بل زودت الإنسان بمعلمين دائمين للأسماء والحقائق، ولهذا قال تعالى لآدم u بعد نزوله إلى الأرض:{ اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 38)

ولذلك أخبر الله تعالى أنه لم يخل القرى من الأنبياء والرسل المقومين لأقوامهم والمعرفين بالفطرة الأصلية، والمعلمين للأسماء، والهادين إلى الإجابات الصحيحة على اختبارات التكليف، قال تعالى:{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر:24)، وقال تعالى:{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (النحل:36)

فهاتان الآيتان الكريمتان تدلاَّن على أن كل الأمم السابقة أرسل الله لها من ينذرها، ويعرفها بوظيفتها، وبمقتضيات هذه الوظيفة، ولذلك نبه من قد يتصور أن الأنبياء مقصورون على ما ورد ذكرهم في القرآن الكريم إلى وجود غيرهم، فقال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78)

ولذلك من الأخطاء الشائعة اعتقاد النبوة خاصة بمناطق معينة كالشام والحجاز ونحوها، بل على سلالات معينة كسلالة إبراهيم u، بل إن النبوة تشمل الأرض جميعا، ولكن القرى لم تلق بالا لهؤلاء الأنبياء، فلذلك نسوا، وأهمل ذكرهم،أو حرفت تعاليمهم ([29]).

ولذلك كان من عدل الله ورحمته بخلقه أن لا يحاسبهم إلا بعد إرسال الرسل إليهم، كما قال تعالى:{ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام:131) أي إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب لئلا يؤاخذ أحد بظلمه وهو لم تبلغه دعوة، ولكن أعذرنا إلى الأمم وما عذبنا أحد إلا بعد إرسال الرسل إليهم.

ولهذا تستفهم الملائكة ـ عليهم السلام ـ المعذبين عن إرسال الرسل إليهم بمجرد إلقائهم في العذاب، كما قال تعالى:{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} (الملك:8 ـ 9)، وقال تعالى:{ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (الزمر:71)، وقال تعالى:{ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (فاطر:37)

وقد بين الله تعالى سنته في ذلك ـ والتي لا تبديل لها ـ فقال تعالى:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الاسراء: 15)

جو التكليف:

أما الشق الثاني، وهو تفريغه للاختبار بتيسير حياته على الأرض، بحيث لا يستهلك وقته في رعاية جسده وحفظ وجوده، فيشير إليه قوله تعالى عقب الآية المخبرة عن غاية الخلق:{ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (الذريات:57)، ثم تعقيبها بقوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } (الذريات:58)

ففي ذلك كله إشارة إلى تفريغ الإنسان إلى ما طلب منه من مزاولة الخلافة، وأداء ما أمر به من عبادة، قال النورسي في بيان هذا المعنى:( الإنسان مغرم بالرزق كثيراً، ويتوهم أن السعي إلى الرزق يـمنعه عن العبودية، فلأجل دفع هذا التوهم، ولكي لا يُتخَذ ذريعة لترك العبادة تقول الآية الكريـمة:{ وَمَا خَلَقْتُ الـجنَّ والإنْسَ اِلاّ لِيَعْبُدون }، وتـحصر الغاية من الـخلق في العبودية لله، وأن السعي الى الرزق – من حيث الامر الإلـهي – عبودية لله ايضاً.

أما إحضار الرزق لـمخلوقاتي ولأنفسكم وإهليكم وحتى رزق حيواناتكم فأنا الكفيل به، فأنتم لـم تـخلقوا له، فكل ما يـخص الرزق والاطعام يـخصني أنا وأنا الرزاق ذو القوة الـمتين.. فلا تـحتجوا بـهذا فتتركوا العبادة، فانا الذي ارسل رزق مَن يتعلق بكم من عبادي)([30])

وهذا المعنى الجميل الذي أشار إليه النورسي هو الذي يدل عليه ذكر هذا الاسم هنا، يقول النورسي:( ولو لـم يكن هذا الـمعنى هو الـمراد، لكان من قبيل اعلام الـمعلوم، لأن رزق الله سبحانه وتعالى واطعامه مـحال بديهي ومعلوم واضح، وهناك قاعدة مقررة في علم البلاغة تفيد: إن كان معنى الكلام معلوماً وبديهياً، فلا يكون هذا الـمعنى مراداً، بل الـمراد لازمهُ او تابع من توابعه)

ومن هذا الباب فإن في ذكر اسمي ( ذو القوة المتين) اللذين يشتركان في الدلالة على القوة([31]) تنبيها إلى جانب آخر قد يشغل الإنسان عن وظيفته التي ندب لها، وهو الجانب الأمني، فلذلك نبهه الله تعالى أنه محمي بقوة الله ومتانته، فلا يضره شيء إلا بإذنه.

وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من النصوص الدالة على تيسير الحياة على الأرض وتوفير ما يحتاجه الإنسان من مرافق ليتفرغ للتكليف.

وهذا سر من أسرار تسخير الأشياء للإنسان ليتناول منها باسم الله ما يحتاجه وجوده على هذه الأرض، وليكون اختبارا من جهة أخرى، ولذلك يعرض القرآن الكريم أنواع المسخرات لتشير إلى مدى التفرغ الذي أوتيه الإنسان لمزاول التكليف:

ومن المسخرات المذكورة في القرآن الكريم تمهيد الأرض وتيسير الحياة عليها حتى صارت كالدابة الذلول، كما قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك:15)

ومنها تسخير الوسط والأجواء التي يعيش فيها الإنسان كما قال تعالى:{ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (ابراهيم:33)، وقال تعالى:{ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النحل:12)، وقال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحج:65)

ومنها تسخير جميع الكائنات الحية التي على الأرض للإنسان، كما قال تعالى:{ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (الحج:37)، وقال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل:14)

بل إن القرآن الكريم يخبرنا عن تسخير ما في السموات كتسخيره ما في الأرض للإنسان، كما قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (لقمان:20)، وقال تعالى:{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثـية:13)

ومن خلال ما ورد في النصوص، فإن الغرض من هذا التسخير ليس هو تفريغ الإنسان لعبودية الله فقط، بل هناك غرض آخر يرتبط بالتكليف، وهو اختبار سلوك الإنسان مع هذه المسخرات، هل يتعامل معها باسم الله، أم باسمه هو، وهل ينسبها إلى الله أم ينسبها إلى نفسه، ولذلك عقب تعالى على تسخير الحيوانات المركوبة بقوله تعالى:{ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (الزخرف:13)

وقد ورد في النصوص ما يدل على أن المقصد من تفريغ الإنسان عبادته لله، كما قال تعالى:{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } (الشرح:7)، أي إذا فرغت من أُمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغ البال، واخلص لربك النية والرغبة.

ومن ذلك قوله تعالى:{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزمل:8)، أي أكثر من ذكره، وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته.

وقد ورد في الحديث القدسي:( يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك)([32])

وإلى هذا المعنى أشار الأثر الإلهي المشهور:( ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء)

ولذلك يشير العارفون إلى هذا المعنى في تربية السالكين حتى لا ينشغلوا بما ضمن لهم عما طلب منهم، كما قال ابن عطاء الله معبرا عن ذلك:( اجتهادُكَ فيما ضَمِنَ لكَ، وتقصيرُكَ فيما طَلَبَ منكَ، دليلٌ على انْطماسِ البصيرةِ منْكَ)

3 ـ اختبارات التكليف:

قد يقال: كيف يكون العدل في التكليف والبشر يتعرضون لاختبارات مختلفة متناقضة؟

فهذا يختبر بالفقر وهذا يختبر بالغنى، وهذا يبتلى بالصحة، وهذا يبتلى بالمرض.

وهذا يعيش في الصحارى القاحلة أو في الأراضي المتجمدة، والآخر يعيش في السهول اليانعة، والجنان الوارفة.

وهذا يعمر إلى أن تمل الأيام مرآه، والآخر يختطف، فلا يكاد تبصره الحياة، ولا يكاد يبصرها.

وهذا يقبل عليه الخلق، بل يتفانون فيه، وهذا يعرضون عنه، بل يسارعون في أذاه.

ألا تحمل هذه الاختبارات المتناقضة علامات الجور والظلم؟

فكيف يستوي في الامتحان كل هؤلاء وحياتهم لم تستو؟

والجواب عن هذا له تفاصيله الخاصة في الفصل الثالث الذي نتعرف فيه على سر الحكم الإلهية في الأقدار المختلفة والتي قد تبدو متناقضة.

أما الجواب المرتبط بسر العدل، فنقول فيه بأن ما نراه مما نتوهمه تناقضا هو في الحقيقة منتهى العدالة والحكمة والرحمة الإلهية.

ولتقريب هذا المعنى نحاول أن نخرج لرؤية المباريات التي تقام للرياضات المختلفة، فتلك المباريات هي عبارة عن امتحانات لكفاءات القوى الجسدية.

فهل يعقل أن يكلف في تلك المباريات العداء الذي يباري الضباء في عدوه بملاكمة بطل العالم في الملاكمة، بل من هو دونه بكثير؟

وهل من العدل أن يكلف السباح الماهر بمسايفة من تمرن على المسايفة حتى صارت رياضته التي اختص فيها؟

لا يعقل هذا كما لا يعقل أن يختبر الطبيب في الهندسة، أو يختبر المهندس في التشريح.

ومثل هذا يقال في كل اختبارات الدنيا، فيستحيل أن يتساوى الخلق جميعا في اختبار واحد لتعدد مواهبهم وطاقاتهم.

وهكذا يقال في اختبارات الله تعالى لخلقه، فطاقاتهم مختلفة ومواهبهم مختلفة، فلذلك يعامل كل شخص بحسب حاله.

وهذه المعاملة ترجع كما ذكرنا في الفصل الأول إلى خبرة الله بخلقه، كما قال تعالى عند ذكر التنوع في بسط الرزق وقبضه:{ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (الشورى:27) أي لو أعطاهم فوق حاجتهم التي تختلف باختلاف طبائعهم وأحوالهم لحملهم ذلك على البغي والطغيان.

والشاهد هنا هو ختمه الآية بإرجاع علة ذلك إلى خبرة الله وبصره بخلقه، كما ورد في الحديث القدسي:( إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسقم ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إلا بالصحة ولو أسقمته لكفر)([33])

ويدل على هذا ما ورد في الحديث من اختبار الله لثلاثة نفر في بني إسرائيل أبرص، وأقرع، وأعمى، ليخرجوا ما يخفيه جوهرهم من صفات، فبعث ملكا فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها.

وأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال شعر حسن، ويذهب هذا عني، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب وأعطي شعرا حسنا، فقال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر فأعطاه بقرة حاملا، وقال: يبارك لك فيها.

وأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال، يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره، فقال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم فأعطاه شاة والدا.

وبعد مدة أنتجت تلك الأنعام التي اختبروا بها، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من غنم.

وعندما اكتملت لهم النعمة عاد الملك ليختبرهم من جديد، فأتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين، تقطعت به الحبال في سفره، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا؛ فأعطاك الله، فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له: مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال له: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته، فقال رجل مسكين، وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله، ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك([34]).

فهذا الحديث يدل على أسرار تنوع البلاء سواء للشخص الواحد أو للمجتمع ككل، ولهذا يوجد في كل مجتمع من المجتمعات، بل في حياة كل شخص الاختبارات المختلفة المتناقضة التي قد يتصورها عشوائية بينما هي تسيير من الله ليظهر الإنسان ما يخفيه جوهره من صفات.

زيادة على هذا، فإن الله تعالى يختبر عباده بعضهم ببعض، فيختبر القوي بضعف الضعيف ليرى هل يعينه أم يتسلط عليه، ويختبر الغني بالفقير، هل ينفق عليه أم يستسخره، ويختبر الصحيح بالمريض هل تطغيه نعمة الصحة أم تجعله متواضعا لربه.

وإلى هذا الإشارة بالآيات القرآنية التي تذكر سر اختلاف البشر في المتاع الدنيوي كقوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام:165)

فقد ربطت الآية الكريمة بين التكليف الذي هو الخلافة في الأرض والاختبار باختلاف الدرجات الذي يعني التفاوت في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوي، والمناظر والأشكال والألوان، وكأنه يشير بذلك إلى ان الخلافة تقتضي هذا التفاوت.

وتشير إلى ذلك آية أخرى تبين أثر هذا التفاوت في العلاقات بين البشر والتي يتمحض عنها جوهر الإنسان وحقيقته التي تؤهله للثواب او العقاب، قال تعالى:{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: 32)

أي أن العلة في ذلك التفاوت هي أن يسخّر بعضُهم بعضاً في الأعمال، لاحتياج بعضهم لبعض.

وفي نفس الوقت، فإن الله تعالى بحكمته جعل هذه الدار مثالا مصغرا عن الدار الآخرة، فلذلك ينبه القرآن الكريم الضمائر إلى أن هذا التفاوت المحدود سيعقبه في الآخرة تفاوت لا محدود، فلذلك يقترن ذكر المتاع الدنيوي بالمتاع الأخروي، كما قال تعالى:{ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (الاسراء:21)

وقال تعالى بعد ذكر المتاع الدنيوي الذي يحرص على جمعه المترفون:{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران:15)، وقال تعالى:{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (الأنعام:32)

وأعطى مثالا لهذا التفاوت المحدود في الدنيا بالمقارنة مع ما ينتظر الإنسان في الآخرة من نعيم أو عقاب، كما قال تعالى:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد:20)

ثم إن الله تعالى بعد كل هذا أخبر أنه لا يختبر الإنسان إلا في حدود ما آتاه من أشياء، كما قال تعالى:{ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } (المائدة: 48)، وقال في الآية السابقة جامعا بين الخلافة والبلاء:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام:165)

ولهذا تقترن العبادات بالاستطاعة، بل إن الله تعالى برحمته نوع التكاليف لينال كل امرئ ما يتناسب مع وضعه وطبيعته وحاله، فلا يميز الإنسان إلا بحسب عمله.

بل إن الله تعالى عوض من لا يستطيع عملا من الأعمال بأعمال أخرى يمكنه من خلالها أن يتدارك ما فاته، ومما يقرب هذا المعنى ما روي في الحديث أن ناسا من الفقراء قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور([35]) بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة([36]).. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث أرشد الفقراء إلى ما يكنهم فعلهم ليعوضهم عن الصدقات التي لا يملكون إخراجا.

ومما يقربه كذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( من صلى الصبح في مسجد جماعة، ثم مكث حتى يسبح سبحة الضحى، كان له كأجر حاج، ومعتمر تام له حجته وعمرته)([37])، ففي هذا الحديث أرشد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لا يستطيع الحج بشيء سهل يمكنه أن ينال من خلاله ثواب الحج.

بل إن الله تعالى برحمته يكتب للإنسان نية الخير التي ينويها، وإن لم يفعلها في الواقع، وقد ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول:( الحسنة بعشر والسيئة بواحده أو اغفرها ومن لقيني بقراب الارض خطيئه لا يشرك بى لقيته بقراب الارض مغفرة ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شئ ومن تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب منى ذراعا تقربت منه باعا) ([38])

بل إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تقسيمه لأصناف الناس اعتبر هذه الناحية، فقال:( مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يعمل بعلمه في ماله، ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، وهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما ولا مالا وهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، فهما في الوزر سواء) ([39])

ولهذا ورد في الحديث اعتبار النية من أهم أصول الجزاء، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( يا أيها الناس إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ([40])

وبذلك.. فإن أي شخص حتى ولو كان مقعدا يمكنه أن ينال من الفضل والجزاء ما ينال أي عامل مهما أوتي من قوة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في بعض الغزوات:( لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرًا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه)

فتعجبوا، وقالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبينا أن السير إلى الله قد لا يحتاج أي جارجة من الحوارح:( حبسهم العذر)([41])

وقد قال الشاعر معبرا عن هذا المعنى الجليل:

يا راحلين إلى البَيت العتيق لَقَدْ

  سرْتُم جُسُوما وسرْنا نحنُ أرواحا

إنَّا أقَمنا على عُذْرٍ وعَنْ قَدَرٍ

  ومَنْ أقامَ على عذْرٍ فقد راحا

* * *

قد يقال بعد هذا: فلماذا اختلفت الشرائع التي هي الإجابات الصحيحة على اختبارات الله تعالى، فكان في الشرائع ما يميل إلى التشديد، ومنها ما يتطلع إلى رفع الحرج، بل يجعل ذلك قاعدته العامة؟

أليس البشر كلهم عبيدا لرب واحد، ويقعون تحت اختبار واحد؟

فلماذا تختلف الإجابات؟

ولماذا يفضل بعضهم على بعض؟

والإجابة على هذا كالإجابة على ما سبق، فالله تعالى العالم بأحوال عباده وما يختزنه خلقهم من مواصفات هو الذي شرع لهم ما يتناسب مع تلك الأحوال.

وكمثال بسيط يقرب هذا المعنى أن موسى u أمر قومه بأمر واضح بسيط هو أن يذبحوا بقرة، كما قال تعالى على لسانه:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (البقرة: 67) وقد جاء بها منكرة لتدخل أي بقرة في هذا الأمر كما روي عن بعضهم قوله:( لو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال:( واللّه لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً)([42])

وكان أول جواب لهم ينم عن سوء أدبهم أن قالوا:{ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً }، فرد عليهم u:{ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة: 67)

فعادوا إلى جدالهم ليقولوا:{ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ } (البقرة: 68)

فقال موسى u:{ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} (البقرة: 68)

فلم يكفهم هذا، بل عادوا ليسألوا:{ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا } (البقرة: 69)

فقال موسى u:{ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} (البقرة: 69)

فلم يكفهم هذا، فالأمر في تصورهم لا زال مشتبها يحتاج إلى تفصيل وتوضيح، فقالوا:{ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} (البقرة: 70)

فقال موسى u:{ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا } (البقرة: 71)

وبعد هذا التردد الطويل، وتكليف موسى u أن يرجع إلى ربه من أجل الاستفسار عن بقرة، قالوا بسوء أدبهم:{ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقّ } (البقرة: 71) وكأنهم كانوا يعرفون البقرة من قبل، واكتفى القرآن الكريم بأن عقب عليهم بقوله تعالى: { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (البقرة: 71)

فمثل هذا النموذج الذي يكاد يملي اختياره على الله كيف لا يشدد عليه، بل إنهم هم الذين شددوا على أنفسهم، والله الرحمن الرحيم تعامل معهم كتعامله مع الخلق جميعا برحمته التامة الشاملة.

ومن الأمثلة على هذا مما يتعلق بشريعة بني إسرائيل أن ما طبعوا عليهم من عصيان وتمرد اقتضى أن تكون شريعتهم متناسبة مع هذه الطبيعة حتى أنهم بمجرد مجاوزتهم البحر طلبوا أن يجعل لهم موسى u شريكا مع الله، كما قال تعالى:{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (لأعراف:138)

ولذلك فإنهم لم يقبلوا شريعة الله إلا بعد أن رفع فوقهم الطور، كما قال تعالى:{ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (النساء:154)، وقال تعالى:{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (لأعراف:171)

وكان سر هذه المعاصي أن طبيعتهم المتأبية كانت تأبى الخضوع لغير هواها، ولذلك قالوا لموسى u في قصة البقرة بعد الأخذ والرد:{ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } (البقرة: 71)، وكأنهم هم الذين يحددون الحق، أو كأنهم هم الذين يحددون لله ما يأمرهم به.

وهذا ما فعلوه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أبوا على الله أن يغير القبلة، فسماهم الله لذلك سفهاء، فقال تعالى:{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } (البقرة: 142)، ثم رد عليهم بقوله تعالى:{ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (البقرة: 142)

انطلاقا من هذا أخبر الله تعالى أن هذه الطبيعة القاسية المتأبية هي السر فيما لحق شريعتهم من التشديد، كما قال تعالى:{ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}  (النساء:160ـ 161)، أي بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وغير ذلك من الآثام شدد عليهم فحرمت عليهم الطيبات كان أصلها حلالا.

وقد ذكر القرآن الكريم بعض النماذج عن هذه الطيبات المحرمة، كما قال تعالى:{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (الأنعام:146)

فعلة هذا التحريم كما نصت الآية الكريمة هو أنه جزاء يتناسب مع بغيهم وعدوانهم، كما قال تعالى في الآية الأخرى:{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل:118)

والقرآن الكريم ينص على أن هذه المحرمات كان أصلها حلالا لبني إسرائيل لولا أن تدخلوا بأهوائهم أو ألحوا في السؤال فحرم عليهم ما أحل لهم، كما قال تعالى:{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران:93)

هذا نموذج عن أثر الطبيعة في نوع الأحكام والشرائع..

وهو أمر غير مستغرب عقلا ولا واقعا، فالقوانين المنظمة لحياة المساجين ليست نفس القوانين المنظمة لحياة الطلبة، لأن طبيعة كل واحد تحتم أن يوضع لها قانون خاص يتناسب معها.

ومن رحمة الله أن الشريعة الخاتمة، والتي لم تكن معلقة بطائفة معينة أو زمن معين كان من خصائصها رفع الإصر الذي وجد في الشرائع السابقة، كما قال تعالى:{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (لأعراف: 157)

ولذلك عبر عنها بأنها شريعة الفطرة، أي تتناسب مع الفطرة السليمة التي لم تتأثر بالمؤثرات الخاجية، كما قال تعالى:{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:30) بخلاف شريعة بني إسرائيل التي شرعت لفطرة انتكست وانحرفت عن مسارها.

ولهذا عندما عرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء الخمر واللبن، فتناول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم اللبن، فقال له جبريل u:( أصبت الفطرة) ([43])فاللبن باق على أصل خلقته، بخلاف الخمر الذي تحول بالتخمر عن طبيعته.

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم حريصا على ألا تشدد هذه الأمة على نفسها، فيشدد الله عليها، ولهذا نهى عن الوصال، وهو أن يصل يوماً بيوم آخر ولا يأكل بينهما شيئاً، وعندما تشددوا، ولم ينتهو عن الوصال واصل بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومين وليلتين رعاية لما اشتدوا به على أنفسهم، ثم رأوا الهلال فقال:( لو تأخر الهلال لزدتكم) كالمنكل لهم ([44]).

وقريب من هذا ما روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، خطب فقال: ( أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا)، فقال رجل: أكل عام يا رسول اللّه؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم)، ثم قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) ([45])

ثانيا ـ عدالة الهداية

قد يقال بعد هذا: نعم إن العدالة قد بلغت قمتها في تكليف الخلق، وفي وضعهم جميعا تحت المحك لتختبر جواهرهم، ولكن القلب الذي هو محور التكاليف، وعلى صفحاته تتم الإجابة، ليس بيد صاحبه، بل هو بيد الله يقلبه كيف يشاء، فكيف تستقيم العدالة مع هذا؟

ألم يقل الله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم:{ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (البقرة: 272) وقال له:{ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (النحل:37)، وقال له:{ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص:56)

بل إن الله تعالى خص المؤمنين بالهداية، وحرم غيرهم، فقال تعالى:{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة:213)

وأخبر عن سنته في ذلك، فقال:{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} (الحج:16)، وقال:{ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النور:46)

وبعد ذلك كله اعتير أنه يستحيل على شخص أن يهتدي إن لم يفتح الله له أبواب الهداية، فقال تعالى:{ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (الروم:29)

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعرف الخلق بالله يكثر أن يقول: (يا مُقَلِّب القلوب، ثبت قلبي على دينك)، فقال له أصحابه: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال:( نعم، إن القلوب بين إصبعين([46]) من أصابع الله تعالى يقلبها)([47]

وعن بلال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو، فيقول: (يا مُقَلِّب القلوب ثَبِّت قلبي على دينك)([48]

 والجواب عن هذا يقتضي دراسة النصوص التي استنبطت منها هذه الأحكام، ومقارنتها بكل ما ورد في سائر النصوص، لنعرف حقيقة المراد منها.

وذلك ما يقتضيه المنهج العلمي حتى لا ننحجب بنص عن نص، وبفهم عن فهم.. فكلام الله المحكم يهدي بعضه إلى بعضه، ويعرف بعضه ببعض، ويستحيل على من قصر فهمه على البعض أن يحيط بالكل.

ولهذا، فسنتاول في هذا المبحث ما وفر الله لعباده من حجب الغفلة والتي هي من مقتضيات اسمه (المضل).. وما وفر لهم من أنوار الهداية، وهو من مقتضيات اسمه (الهادي)

1 ـ حجب الغفلة:

قد يقال بعد هذا كيف تكون العدالة والقرآن الكريم يخبر بأنواع كثيرة من السدود تمنع الضال من الهداية والكافر من الإيمان!؟

فكيف يحطم الضال أو العاصي حصون الختم والطبع والأكنة والغطاء والغلاف والحجاب والوقرة والغشاوه والران والغل والسد والقفل والصمم والبكم والعمي والصد والصرف والضلال والإغفال والمرض والخذلان والأركاس والتثبيط والتزيين التي يحدثنا القرآن الكريم أنها حواجز منيعة تحول بين الكافر والإيمان!؟

وكيف يحطم الضال ما ورد في القرآن الكريم من (عدم إرادة هداهم، وتطهيرهم وإماتة قلوبهم بعد خلق الحياة فيها فتبقى على الموت الأصلي، وإمساك النور عنها فتبقى في الظلمة الأصلية، وجعل القلب قاسيا لا ينطبع فيه مثال الهدى وصورته، وجعل الصدر ضيفا حرجا لا يقبل الإيمان) ([49])!؟

هذه الشبهات وغيرها، والتي قد تطرح بسبب النظرة القاصرة لمعاني القرآن الكريم دون محاولة الولوج إلى أعماقه مع الجمع بينها وبين غيرها من النصوص كانت سبب خلاف شديد في تفسيرها.

فالبعض ممن يغلب العدل على التوحيد حرفها عن معانيها وغيرها تغييرا كليا بحيث صار معناها ركيكا لا يليق بالقرآن الكريم بحجة تنزيه الله عن الظلم.

وآخرون فهموها بحروفها مقتصرين عليها غير محاولين الجمع بينها وبين غيرها من النصوص، أو على الأقل فهم السياق الذي وردت فيه، والطريقة التي طرحت بها.

ولذلك، فإن الحديث عن عدالة الهداية يقتضي فهم معني هذه السدود وعللها، وذلك يقتضي البحث عن مورادها في النصوص لتفهم من خلال السياق الذي وردت فيه والسبب الذي دعت له.

وقبل العروج في معارج النصوص نحب أن نقرب الصورة الواقعية لهذه السدود بمثال واقعي، وهو أن المجرم في أي قانون من قوانين الدنيا يحاسب ويعاقب بحسب جرائمه، فقد يكتفى بحجزه أياما معدودة، قد يتلقى فيها بعض التوجيهات، ثم يطلق لحال سبيله.

وقد تزيد جريمته، فيشتد عليه بحسبها، بل قد يحكم عليه بأن يقضي حياته محجوبا في السجن، أو يقضى عليه بالإعدام.

وهذه المصطلحات الحسية لهذا العقاب الحسي لتلك الجرائم الحسية هو نفسه الذي استعاره القرآن الكريم للعقوبات المعنوية لجريمة المعصية لله.

وقد تقرب الصورة أكثر إذا عدنا إلى مثال الامتحان الذي ذكرناه سابقا، والذي يوهب للمتحنين فيه ورقة بيضاء نقية كنقاوة الفطرة الإنسانية، فإذا ما اشتغل الطالب بتلطيخ تلك الورقة إلى أن تصبح ورقة سوداء لا محل فيها لأي إجابة صحيحة أو خاطئة، فهل يقال بأن مراقب الامتحان إن أخبره بأن ورقته قد طبع عليها أو ختم عليها، فليس فيها محل لأي جواب يكون المراقب قد أجبره على ذلك الطبع والختم.

ومثل ذلك تماما ورقة الفطرة الإنسانية، وصفحة القلب إن ملأها صاحبها بصنوف المعاصي.

انطلاقا من هذين المثالين نعود إلى القرآن الكريم لنطبق حقائق القرآن الكريم التي يجادل فيها المجادلون على ما يتصورونه منتهى عدلهم.

ونقرأ لذلك جزءا من سورة المطففين التي تتحدث عن شخصية المطفف المحتال الذي يتعامل مع الحقائق الكبرى انطلاقا من مصالحة الضيقة المحدودة، فتختصر الدنيا والآخرة عنده في تلك المكاييل التي يكيل بها، وفي تلك الفوائد التي يجنيها.

وأول ذلك الإخبار بمصيرهم الأخروي الذي ينتهي بهم إلى سجين، وهي السجن الضيق، وهو سجن يتناسب مع قلوبهم التي ضاقت عن الحقائق واكتفت بالمكاييل.

وهي في المثال الأول تنطبق على ذلك المجرم الذي حكم عليه بالمؤبد، إشارة إلى أنه قد بلغ درجة من العتو لا يستقيم بعدها، قال تعالى:{ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)} (المطففين)

والآيات الكريمة لا تقتصر على عادة القرآن الكريم في ذكر العقوبة دون ذكر التهم الموجهة لأصحابها، فلذلك جاء بعد هذه الآيات ما يبين انسجام العقوبة مع نفسية وسلوك صاحبها، فقال تعالى:{ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) } (المطففين)

فالآيات الكريمة تتحدث عن علة تلك العقوبة العظيمة، وهو أن هؤلاء الذين يتعرضون لصنوف الهداية من المرسلين أو من ورثتهم ينحجبون بالغفلة التي أفرزتها الأهواء في قلوبهم عن رؤية الحق أو الاستماع له، فلذلك ينسبون تلك الآيات التي يتلوها المؤمنون إلى أساطير الأولين.

وهم في ذلك يشبهون ذلك الممتحن الذي يلطخ صفحته البيضاء الطاهرة بصنوف العبث والعشوائية.

ثم بينت الآيات السبب لذلك، وهو لا يختلف عن السبب الذي جعل الممتحن يلطخ ورقة إجابته، وهو ما نص عليه قوله تعالى:{ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (المطففين:14)، أي أن كسبه وعمله وحركة قلمه هي التي ملأت فطرته بقعا منحرفة حالت بينها وبين التعرف على الحق أو سلوكه.

وقد فسر صلى الله عليه وآله وسلم الآية بقوله:( إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول اللّه تعالى:{ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ})([50])

وإن أردنا تمثيلا واقعيا آخر على هذا، وهو ما يكاد ينطق به هذا الحديث الشريف هو ما نعرفه في الواقع من تأثير الإدمان على الجسد، بحيث لا يملك صاحبه دفع آثاره، فالمدمن هو الذي أقبل على ما أدمن عليه باختياره، ولكنه نتيجة للمبالغة فيه وصل إلى حالة المتحكم فيه بعد أن كان متحكما في نفسه.

وعلى ذلك يدل قول الشاعر:

تولع بالعشق حتى عشق  فلما استقل به لم يطق

رأى لجة ظنها موجة          فلما تمكن منها غرق

ولذلك لم ترد هذه التعابير في القرآن الكريم ـ كما سنرى ـ إلا مع من اشتد في كفره وبالغ فيه إلى درجة محقت من قلبه كل استعداد للخير.

ومثلما ذكرنا في تفسير الران وعلاقة العبد به وردت في القرآن الكريم مصطلحات أخرى تدل على ما يفعل الله بالقلوب ووسائلها الإدراكية إن هي أمعنت في معصية الله تعالى، وقبل أن نتعرف على تلك الحجب التي نص عليها القرآن الكريم نشير إلى أن الفهم المثالي لهذه الإخبارات الإلهية هو اعتبارها إخبارات حقيقية لا رمزية.

والذي جر إلى توهم أنها إخبارات رمزية، وأنها مجرد استعارات لا حقيقة وجودية لها، هو أن القرآن الكريم يصورها بصورة مجانسة لما نراه أو نستعمله في التعبير عن المحسوسات.

والذي يقول بهذا يضطر إلى تأويل كل النصوص التي وردت في اعتبار الأشياء المعنوية أمورا حسية، كإخباره صلى الله عليه وآله وسلم أن الموت يأتي يوم القيامة في صورة كبش([51])، وأن الدنيا تأتي بصورة معينة، وهكذا.

وهذا التأويل ناتج من عدم القدرة على تعدية معاني الحس إلى عوالم المعنى، ولكن المؤمن الذي يحترم عقله وقدراته من جهة ويعظم ربه وكلامه وكلام نبيه من جهة أخرى لا يقع في هذا الوهم.

ولذلك لا يستبعد أن يكون للقلب قفل كقفل أبواب الدنيا، وختم كختمها، وأن يحصل لعين القلب من العمى ما حصل لعين الحس، فكل ذلك من المعقول الذي لم تدركه الحواس، وفي قدرة الله أن يريها ذلك كما يريها يوم القيامة هذه المعاني في قوالب الحس.

بل إن تصورها معاني حقيقية يضفي على القلب من الإحساس بمعناها وخطره أكثر من تصورها مجرد أمور معنوية قد لا تجد من بعض القلوب القدرة على فهمها.

ولذلك يستعمل القرآن الكريم كل ما يستعمل من أساليب الحس لمنع إدراك من طبع على قلبه، بل قد يجمع الله له مجموعة أمور علامة على بلوغه مرحلة اليأس التي لا إمكانية فيها لإيمانه.

ومن ذلك قوله تعالى في أوائل سورة يس في عقوبة الذين حق القول عليهم بعد أن مورست معهم كل أساليب الدعوة، فقابلوها بكل أساليب الإنكار:{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (يّـس:9) ثم ذكر نتيجة هذه السدود بقوله تعالى:{ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (يّـس:10)

ولا حاجة بنا إلى ذكر ما سلف ذكره من أن هذه العقوبة النازلة بقلوبهم هي من صنع أيديهم، فالآيات السابقة واللاحقة تدل على ذلك، وإنما المراد هنا الصورة الحسية التي يضربها الله لحجب هؤلاء عن الإيمان بعد أن بلغوا قمة العتو والطغيان.

فالله تعالى يخبر بأنه جعل على هؤلاء المحتوم عليهم بالاستمرارية في الكفر الأغلال في أعناقهم بل يحدد مواضع هذه الأغلال، وهي كونها إلى أذقانهم، ثم يخبر عن وضع السدود من بين أيديهم ومن خلفهم، ثم عن وضع الغشاوة على عيونهم.

وهي إخبارات عن أمور وضعت حقيقة، ونرى أنه من التأويل البعيد الذي لا حاجة له تفسيرها بأمور معنوية، كما فسرها ابن القيم في الإجابة على إشكال طرحه، وهو أن ( الغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب، فكيف ذكر الغل الذي في العنق؟)([52])

وقد أجاب على ذلك بقوله:( لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله والمراد به القلب، فإن الغل إذا كان في العنق واليد مجموعة إليها منع اليد عن التصرف والبطش، فإذا كان عريضا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن منع الرأس من تصويبه وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه لا يستطيع له حركة)

ثم عقب على ذلك بقوله:( فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم، ومثلها بأحسن تمثيل وأبلغه، وذلك حال قوم قد وضعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم وضمت أيديهم إليها، وجعلوا بين السدين لا يستطيعون النفوذ من بينمها وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئا)

ثم قال:( وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة وجدت هذا المثل مطابقا له أتم مطابقة، وأنه قد حيل بينه وبين الإيمان كما حيل بين هذا وبين التصرف)

ونرى أن ما ذكره ابن القيم من اعتبار هذه الأغلال والسدود مجرد أمثلة غير صحيح، فالقرآن الكريم يفرق بين المثال والحقيقة، فيذكر في المثال لفظ المثال أو ما يدل عليه، بينما يذكر الحقيقة مطلقة، فقوله تعالى مثلا:{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} (البقرة:17) صريح في كونه مثلا، اما في هذه الآيات، فالله تعالى يقول:{ إِنَّا جَعَلْنَا }، ويستبعد أن يقال بأن جعله المخبر به مجرد مثال([53]).

ثم إن العقل بعد ذلك لا يمنع هذا، فقدرة الله تعالى التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء لا يستحيل عليها أن تضع هذه الأغلال والسدود التي يتألم لها الموضوعة عليه، ويصرف بها من غير ان تكون لنا القدرة على إدراكها، ويكون في وضعها عقوبة عاجلة له على ذنوبه.

وقد ورد في السيرة ما يشير إلى ظاهرية هذا النص، قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب قال، قال أبو جهل وهم جلوس: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكاً فإذا متم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن، وإنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم ناراً تعذبون بها، وخرج عليهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك وفي يده حفنة من تراب، وقد أخذ اللّه تعالى على أعينهم دونه، فجعل يذرها على رؤوسهم ويقرأ أوائل سورة يس، وانطلق رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لحاجته وباتوا رصداء على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار، فقال: ما لكم؟ قالوا: ننتظر محمداً، قال: قد خرج عليكم، فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه تراباً، ثم ذهب لحاجته، فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب.

وهذا الذي حصل مع هؤلاء لا يستحيل أن يحصل مع غيرهم إن عملوا مثل عملهم، فسنة الله في خلقه واحدة.

ومثل هذه الأغلال التي نراها أغلالا حسية وإن كنا لا نراها بأبصارنا القاصرة لا لعدم وجودها بل لضعف أبصارنا ما أخبر عنه القرآن الكريم من طمس الوجوه، كما قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (النساء:47)

فالقرآن الكريم ينذر هؤلاء الجاحدين بأن يسارعوا إلى الإيمان قبل أن يطمس الله وجوههم، فلا يبقي لها سمعاً ولا بصراً ولا أنفاً، ثم يردها إلى ناحية الأدبار.

ومما يدل على حسية هذا كذلك قرنه بأصحاب السبت الذين مسخوا قردة وخنازير.

بل إن القرآن الكريم يخبر أن هؤلاء الغافلين يشعرون بهذه الحجب التي تحول بينهم وبين الاستماع إلى الحق أو اتباعه، كما قال تعالى:{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} (البقرة:88)، وقال تعالى:{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (فصلت:5)

والقرآن الكريم أقرهم على ذلك الشعور، ولكنه صححه لهم نسبته، فقد تصوروا أنهم هم الذين وضعوا تلك الحجب، فأخبرهم الله تعالى أنه هو الذي وضعها لما سلف منهم من الآثام، قال تعالى:{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} (النساء:155)

قد يقال بعد هذا: كيف يصح أن يكن هذا أمرا محسوسا، والقرآن الكريم قد ينكر عمى الأبصار ثم يثبته للبصائر مع أن عمى الأبصار محسوس، أفلا يدل ذلك على أن الأمر مقصور على المعنى، كما قال تعالى:{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج:46)

والجواب عن هذا هو أن القرآن الكريم لا ينكر عمى الأبصار، وإنما يخبر عن ضآلة تأثيره مقارنة بعمى البصائر.

ومثل هذا التعبير ورد كثيرا في النصوص، كقوله تعالى:{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177)

فالقرآن الكريم لا ينفي برية التولي جهة القبلة، وإنما ينفي الغلو فيها وإهمال ما عداها، وكأنه ينبهنا إلى مراعاة الأولويات لا إهمال غيرها.

ومثل ذلك في السنة كثير كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:( الحج عرفة) ([54]) أي أنها أعظم أركانه، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ليس الغنى عن كثرة العرض([55])، إنما الغنى غنى النفس) ([56])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يجد ما يعنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه) ([57])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) ([58]) وغيرها من الأحاديث.

***

قد يقال بعد هذا: سلمت بأن قلبي بيدي.. وأنه يمكنني أن أقفله أو أفتحه، ويمكنني أن أبيضه أو أسوده.. ولكن كيف يمكن أن أنجح في ذلك.. والعصابات تحيط بي من كل جانب، تريد أن تلتهمني التهاما؟

بل إن القرآن الكريم يخبر بأن الله تعالى هو الذي يقيض هؤلاء الشياطين لغوايتي، فماذا أعمل، وهل للأعزل أن يقاوم أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها هذه العصابات؟

أوليس مناقضا للعدل أن أمتحن في هذه الأجواء؟

أوليس مناقضا للعدل أن يخص المنحرفون بتقييض الشياطين، بينما ينعم المؤمنون بصحبة الملائكة؟

والجواب عن ذلك في شقه الأول هو أن امتحان جوهر الإنسان يقتضي كل ما صرفته يد الحكمة الإلهية من وسائل الخير والشر، فكيف يميز الخبيث من الطيب في جو لا تفوح منه إلا روائح الطيبة؟

أما الشق الثاني في تعليل تسليط الله تعالى هؤلاء الشياطين على بعض الخلق دون غيرهم، فقد أخبر القرآن الكريم بأن الإنسان بسلوكه الحر الاختياري هو الذي يحدد نوع الرفيق والمستشار الذي يرجع إليه في شؤونه، هل الشيطان، أم الملاك؟

وبحسب تحديده يكون التعامل معه، ولذلك قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأنعام:129) وقد ورد في تفسيرها:( إنما يولي اللّه الناس بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي)([59])

هذا في الجانب الظاهر المتعلق بشياطين الإنس، أما الجانب الباطن، أو المستشار النفسي، فإن هذا الذي فتح لنفسه باب الإدمان على معصية الله يسخر له ما هو من جنسه، فالمرء مع من أحب، قال تعالى:{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف:36)

فالآية الكريمة عبرت عن الغفلة عن الله، أو تصور هذا الغافل لله بأنه أعشى البصر يرى الحقائق، وكأنه مغمض العينين، فلا يكاد يبصرها، لذلك فتح لشيطانه طريق قلبه ليملي فيه من وساوسه ما يعمي بصره عمى كليا.

وهكذا تفسر جميع الآيات التي تتحدث عن توفير أسباب الضلال ووسائله، فوسائل الضلال وأسبابه كوسائل الهدى وأسبابه لا يمنع منها أي مكلف، وهي بيد الله جميعا يرسلها لمن شاء، ومن عدله أنه لا يشاء إرسالها إلا لمن استحق لها باستعداده لنوع موجاتها.

فالتوحيد يقتضي أن يتفرد الله تعالى بالتقييض والإمساك، والعدل يقتضي أن لا تقيض أو تمسك إلا للمستحقين.

ولهذا أخبر صلى الله عليه وآله وسلم بأن لكل شخص شيطانا، فلا فرق في ذلك بين الفاسق والمؤمن، ولكن الفرق هو في مدى الاستعداد لتلقي وساوسه، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه)، قالوا:( وأنت يا رسول اللّه؟) قال:( نعم إلا أن اللّه أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير)([60])

وفي حديث آخر تقريب أكثر للشيطان بحيث أخبر أنه يجري من الإنسان في كل محل، قال صلى الله عليه وآله وسلم في قصة زيارة صفية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو معتكف:( إن الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً – أو قال – شراً) ([61])

وفي حديث آخر أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر اللّه خنس، وإن نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخناس([62]).

فالشيطان إذا باعتباره وسيلة الشر الكبرى يستوي في تلقي وساوسه المؤمن وغيره، ولكن الفرق هو أن المؤمن يعرض عنه بخلاف الغافل والكافر.

والشيطان في ذلك يشبه الموجات التلفزيونية المنتشرة في كل مكان، ولكل شخص بعدها الاختيار في تحديد نوع الموجات التي تتناسب مع طبيعته ورغباته.

ولذلك يخبر القرآن الكريم بأن سلطان الشيطان مقصور على من أطاعه دون من لم يطعه، قال تعالى:{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:99)، ثم قال عقبها:{ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (النحل:100)

وأخبر القرآن الكريم عن قول الله تعالى للشيطان عندما أجيز له أن يقوم بإضلال بني آدم:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (الحجر:42)، وقال تعالى:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الاسراء:65)

وأخبر عن مقالة الشيطان في الخطبة التي يختم بها وظيفته التي تعهد أن يقوم بها خير قيام:{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (ابراهيم:22)

وقد شرح القرآن الكريم الطريقة التي يتعامل بها الشيطان مع قلوب بني آدم، وهي طريقة تعتمد على اختيار الإنسان وسلوكه ورغبته، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)} ( الحج)

 فقد أخبر تعالى في هذه الآيات الكريمات أن إلقاءات الشيطان واحدة، ولكن القلب المتلقي، والذي يمثل اختيار الإنسان وإرادته الحرة هو الذي يحدد كيف يتعامل مع إلقاءات الشيطان.

فالقلب الصحيح السليم الذي ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، يردّ وساوس الشيطان وإملاءاته، ويكرهه ويبغضه، ويعلم أن الحق فى خلافه، فيزداد إيمانا بالحق ومحبة له وكفرا بالباطل وكراهة له.

بينما القلب الميت القاسى الذي لا يقبل الحق ولا ينقاد له، ومثله القلب المريض إن غلب عليه مرضه التحق لا يزال مفتونا فى مرية من إلقاء الشيطان.

فالقلب إذا متجاذب حسب اختيار صاحبه بين الشيطان والملك، وميله لأحدهما يبعده عن الآخر، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الآخرى فليتعوذ بالله من الشيطان) ([63])

والذي يحدد هاتين اللمتين هو الإنسان، كما قال بعضهم:( إنما هما همان يجولان في القلب همٌّ من الله تعالى وهمّ من العدوّ، فرحم الله عبداً وقف عند همه فما كان من الله تعالى أمضاه وما كان من عدوه جاهده)

ولعل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع رب العالمين إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه) ([64]) ودعاءه المعروف:( يا مقلب القلوب ثبتنا على دينك) ([65]) يشير إلى هذه المؤثرات التي تريد ان تجذب الإنسان إليها.

أما عن كيفية تسلط الشيطان على قلب ابن آدم حتى يصير سلطانا عليه، فهو كتسلط العصابات، فهي إنما تتسلط على من وجدت فيه ما تبحث عنه مما يتناسب مع طبيعتها، وفي نفس الوقت سهل عليها اختراقه لعدم التجائه لأي حصن أو احتمائه بأي جهة.

يقول الغزالي:( والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك ولقبول آثار الشيطان صلاحاً متساوياً ليس يترجح أحدهما على الآخر، وإنما يترجح أحد الجانبـين باتباع الهوى والإكباب على الشهوات أو الإعراض عنها ومخالفتها، فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضب والشهوة ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى وصار القلب عش الشيطان ومعدنه لأن الهوى هو مرعى الشيطان ومرتعه، وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه وتشبه بأخلاق الملائكة عليهم السلام صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم ولما كان لا يخلو قلب عن شهوة وغضب وحرص وطمع وطول أمل إلى غير ذلك من صفات البشرية المتشعبة عن الهوى لا جرم لم يخل قلب عن أن يكون للشيطان فيه جولان بالوسوسة) ([66])

ولهذا نبهت الشريعة الإرادة الإنسانية إلى اتخاذ كلا الوسيلتين اللتين تحميانه من هجمات عصابات الضلال، فحثت على كثرة ذكر الله والتزام أوامره، ( فلا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به، لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان فيه من قبل، ولكن كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضاً أن يكون مجالاً للشيطان، وذكر الله هو الذي يؤمن جانبه ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال) ([67])

ولذلك أخبر الله تعالى عن نجاة الذاكرين من وساوس الشيطان، قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (لأعراف:201)

وللتضاد بين ذكر الله ووسوسة الشيطان قال تعالى:{ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المجادلة:19)

* * *

قد يقال: سلمنا بأن إرادة الإنسان هي التي تحدد باختيارها نوع مستشاريها، أو تحدد سلطة الشيطان عليها، ولكن الفتن التي وردت النصوص بالإخبار عنها وعن نزولها ليست إلا فتنا مجعولة لله، وهو الذي يرسلها على القلوب لتحولها عن الطريق الصحيح، أليس في ذلك إبعادا عن الحق وإضلالا لا يتناسب مع العدل الإلهي؟

والجواب عن هذا أن الفتن هي نار الله الحارقة التي يتميز بها الخبيث من الطيب، بل هي أسئلة الاختبار التي يفلح المكلف على أساسها أو يخسر، وهي التي تحدد نوع القلوب وطبائعها.

والذي ينكر نزول الفتن كالذي ينكر الامتحان نفسه، لأنه لا امتحان بدون أسئلة، ولهذا قال تعالى:{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:2 ـ 3)

ولهذا كانت الفتن هي المحددة لحقيقة الإنسان كما قال تعالى على لسان موسى u:{ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء} (لأعراف: 155)

فالفتن حسب هذه الآية، وحسب ما ورد في النصوص ليست شرا محضا، بل هي خير محض لمن عرف كيف يتعامل معها، كما أن أسئلة الامتحان خير محض لمن أتقن الإجابة عليها.

ومن هذا الباب ما روي عن أم سلمة قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة، فقال:( سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ وماذا فتح من الخزائن؟ أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)([68])

ففي هذا الحديث جمع صلى الله عليه وآله وسلم بين الفتن والخزائن، ولم يحدد الحديث نوع الخزائن المفتوحة لتشمل جميع ما يتصور من خزائن الثواب والعقاب، ولهذا دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى إيقاظ أصحاب الحجر اغتناما لفرصة هذه الفتن لنيل أكبر نصيب من الثواب.

والأمر في ذلك يشبه إعلان جهة ما عن فتح مسابقة ترفع الناجح فيها إلى ما تهفو إليه نفسه من مناصب ودرجات، فإن ذلك لا يدعو إلى القلق بقدر ما يدعو إلى الاستبشار والاجتهاد.

ولذلك لا نرى صحة ما فسر به الحديث من أن المراد بالخزائن خزائن المال، وأنه ينشأ من فتحها فتنة المال، بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه، وأن يبخل به فيمنع الحق، أو يبطر فيسرف.

فليس في الحديث الشريف ما يدل على هذا، بل إن في القرآن الكريم ما ينفي إرادة هذا، فقد قال تعالى:{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } (الحجر:21) فأخبر أن خزائنه تعالى تشمل كل شيء.

وأخبر تعالى أن:{ لِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (المنافقون: 7)، ومن خزائنه خزائن الرحمة:{ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} (صّ:9)

ولذلك فإن الحديث الشريف يدل على ارتباط الفتن بالخزائن، ثم إن جواب المكلف على أسئلة الفتن هو الذي يحدد نوع الخزانة التي سيستمد منها درجته.

وهذه الآثار التي تعقب نزول الفتن لا تتعلق فقط بالآثار الخارجية من الثواب والعقاب، بل ترتبط ـ قبل ذلك ـ بتأثيرها على حقيقة الإنسان وجوهره، ثم إن حقيقته وجوهره هو الذي يحدد بعد ذلك نوع الثواب والعقاب ـ عدلا من الله وحكمة ـ

وقد شبه صلى الله عليه وآله وسلم عرض الفتن على القلوب شيئا فشيئا بعرض عيدان الحصير، فقال:( تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربدا([69]) كالكوز مجخيا([70])، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) ([71])

فقد قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث القلوب التي هي محال نظر الله تعالى، ومحال امتحان المكلفين عند عرض الفتن عليها إلى قسمين:

أما أولهمها، فهو القلب الذي إذا عرضت عليه فتنة أشربها، كما يشرب الإسفنج الماء، فتنكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس، وحينذاك يعرض له مرضان خطران:

أحدهما اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرا والمنكر معروفا.

والثانى تحكيمه لهواه على ما جاء به الشرع، وانقياده للهوى واتباعه له.

وأما القلب الثاني، فهو الذي قاوم الفتن، وتملك الحصانة والمناعة ضدها قلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها، فازداد نوره وإشراقه وقوته.

وبذلك تصبح الفتن وسيلة من وسائل صقل القلوب وإصلاحها، وبالتالي تجعلها أهلا لأداء وظيفة التعرف على ربها وعبادته،كما قال ابن عطاء الله:( لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين، إذ لا مسافة بينك وبينه حتى تطويها رحلتك، ولا قطعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك)

ومن النماذج التي ذكرها القرآن الكريم للتأثير المزدوج للفتن، أو للتعامل المختلف مع الفتن، الفتنة المنجرة عن إخبار الله تعالى عن عدة الملائكة، كما قال تعالى:{ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (المدثر:31)

فقد أخبر تعالى أن في إخبار الله تعالى عن عدد الملائكة الموكلين بجهنم كان فتنة للخلق، وكان تأثير هذه الفتنة مختلفا على حسب قابلية كل شخص وتعامله مع إخبارات الله.

أما المؤمنون فزادتهم إيمانا إلى إيمانهم، وعرفوا أن قدرة الله التي لا يعجزها شيء لا تعجز عن مثل هذا، بل اعتبروا هذا من دلائل القدرة التي تزيدهم إيمانا إلى إيمانهم.

أما السطحيون البسطاء في تفكيرهم الغارقون في أوحال التشبيه، فاعتبروا ذلك سندا شرعيا لكفرهم.

وقد ورد في السيرة ذكر بعض آثار هذه الفتنة على الكافرين، قال ابن عباس:( لما نزل قوله تعالى:{ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر:30) قال أبو جهل لقريش:( ثكلتكم أمهاتكم! أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدهم – أي العدد – والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم!) ([72])

وقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي:( لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة) ؛ يقولها مستهزئا([73]).

وقال آخر:( أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين) ([74])

وقال آخر:( أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟)

ومثل هذا النموذج من تأثير الفتن ما ورد في القرآن الكريم من ذكر شجرة الزقوم، فقد كان الإخبار عنها بالنسبة للغافلين فتنة تصرفهم عن الحق، قال تعالى:{ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات:62 ـ65)، وقال تعالى:{ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ } (الاسراء: 60)

فمع أن هذا الإخبار لا يحوي أي غرابة بالنسبة للعقل الذي يعلم قدرة الله التي لا تحدها الحدود إلا أنه كان فتنة كبيرة للعقول البسيطة المحدودة، وقد روي في السيرة أنه لما لما نزلت الآية التي ذكرت شجرة الزقوم قال كفار قريش:( ما نعرف هذه الشجرة. فقدم عليهم رجل من إفريقية فسألوه)، فقال:( هو عندنا الزُبد والتمر)، فقال ابن الزبعري:( أكثر الله في بيوتنا الزقوم)، فقال أبو جهل لجاريته:( زقمينا) ؛ فأتته بزبد وتمر. ثم قال لأصحابه:( تزقموا ؛ هذا الذي يخوفنا به محمد؛ يزعم أن النار تنبت الشجر، والنار تحرق الشجر) ([75])

ومثل هذا الفتن الكثيرة التي تجعل من الحقائق شبهات عظيمة ينظر إليها الغافلون بأعينهم المحجوبة عن الحق، فلا يرون إلا الظلمات.

ولهذا كان من حكمة الله تعالى أن يجعل في هذا الدين كما في كل الأديان ما يميز المؤمنين من غيرهم حتى يستبين الصادقون من الجاحدين، قال تعالى عن فتنة ثمود:{ إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} (القمر:27)

ولهذا لا يسأل المؤمن عن تعدد زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن سر الأمر بالحجاب، وعن قص يد السارق، وإنما يسأل الغافلون الذين تعشش الشبهات في قلوبهم وعقولهم.

وقد شبه الله تعالى هؤلاء الذين يميد دينهم بالفتن، بمن يعبد الله على حرف، قال تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج:11)

بل إن فتنة مثل هؤلاء تمتد لكل شيء حتى النعم الدنيوية البسيطة التي تنزل عليها، فيتعتقد أنها ناتجة عن حوله وقوته:{ فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر:49)

وقد أخبر الله تعالى عن المدى الذي وصل إليه تفكيرهم، فحجبهم عن الحق، فقال تعالى:{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} (الإسراء)

وقد علل الله هذا النوع من التفكير، فقال:{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)} (الإسراء)

أي أن هؤلاء الجاحدين أرادوا أن يتخلصوا من العبودية لله، والتي طولبوا بها، ليفرضوا على الله نوع الأسئلة التي يريد طرحها عليهم.

ومع ذلك، فإن الله برحمته، يجيبهم معللا سر كون النبي بشرا، فيقول:{ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} (الإسراء)

2 ـ أنوار الهداية:

قد يقال بعد هذا: نعم إن حجب الغفلة حجب أسدلها المكلف على عينيه ليعمى عن رؤية الحقائق، وإن من نتصورهم عصابات تقطع الطرق عن الله ليس لها من الأمر شيء، بل إن أمرها بيد المكلف الذي يستطيع أن يبعدها عن نفسه بالقرب من الحق، فبقدر اقترابه من الحق يكون بعده عن الباطل.

ولكن..

الطريق مظلم مشوك، والجزاء خطير شديد، وأيام الدنيا معدودة محدودة، وأنوار الهداية كشمعة في وسط تلك الظلمات الداكنة.. و.. و

فكيف السبيل لقطع تلك المهامه؟

وهل يمكن لشمعة أن تضيئ كل ظلمات الكون؟

وهل يمكن لناقة مهزولة أن تقطع كل تلك الصحارى؟

الله جل جلاله:

والجواب عن هذا، هو أن من عرف الله تعالى رأى كل ما في الكون أنوارا من أنوار الهداية، فكل شيء يدل على الله، وكل شيء يعرف بالله، حتى ما نتصوره من حجب تحجب عن الله هي في حقيقتها أدلة على الله وهادية إليه.

فإن من أسمائه تعالى النور والظاهر والهادي، فهو النور الذي استمدت منه جميع الأشياء وجودها، قال تعالى:{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (النور: 35)

وهو الهادي الذي دل على نفسه بكل شيء { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53)

فكيف بعد هذا يتصور أن يحتاج إلى ما يدل عليه و{ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (الحديد:3)

وكيف يتصور أن يحتاج إلى ما يدل عليه، و( جميع ما في العالم شواهد ناطقة وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها ودالة على علمه وقدرته ولطفه وحكمته) ([76])

فإن كان البشر يستدلون بعقولهم التي يتيهون بها على الكون على حياة الكاتب وليس لها من شاهد إلا ما أحسسنا به من حركة يده، ( فكيف لا يظهر عندنا ما لا يتصور في الوجود شيء داخل نفوسنا وخارجها إلا وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله، إذ كل ذرة فإنها تنادى بلسان حالها أنه ليس وجودها بنفسها ولا حركتها بذاتها، وأنها تحتاج إلى موجد ومحرك لها يشهد بذلك)

ولهذا لا يرى العارف الذي أعمل ما أعطاه الله من طاقات ومواهب ( إلا الله تعالى، ولا يعرف غيره، يعلم أنه ليس في الوجود إلا الله، وأفعاله أثر من الآثار قدرته فهى تابعة له، فلا وجود لها بالحقيقة دونه، وإنما الوجود للواحد الحق الذى به وجود الأفعال كلها، ومن هذه حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل، ويذهل عن الفعل من حيث إنه سماء وأرض وحيوان وشجر،بل ينظر فيه من حيث أنه صنع الواحد الحق فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره)([77])

ولهذا، فإن أول نور من أنوار الهداية هو الله، فالله هو النور الذي يستدل به، ولا يحتاج للاستدلال عليه.

ولهذا يقول العارفون في مناجاتهم:( إلـهي! كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟)

ويرددون مع أبي الحسن الشاذلي:( كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف؟ أم كيف يعرف بشيء من سبق وجوده وجود كل شيء)

والله هو الظاهر الذي لا تحجبه الأشياء، و( كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء؟ كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء؟ كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء؟ كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر لكل شيء؟ كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر قبل وجود كل شيء؟ كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء؟ كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الواحد الذي ليس معه شيء؟)

فهذا النور من أنوار الهداية كاف واحده لإضاءة جميع ظلمات الكون، وكاف وحده لخرق جميع حجب الغفلة، ولحرق جميع عصابات الغواية.

أكوان الله:

ولذلك يجعل القرآن الكريم الكون جميعا هاديا إلى الله ومعرفا بالله، ويدعو الخلق الغارقين في أو حال الجدل إلى إغلاق أسفارهم التي تبحث عن وجود الله لينظروا:{ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ }  (الغاشية:17ـ 20)

والله تعالى يخاطب العقول جميعا التي يتفق البشر جميعا على أن لهم منها النصيب الأوفر، بل إن أكبر مسبة لهم أن يتهمهم أحد في عقولهم ليقول لهم:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة:164)

ويعرفهم بـ { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} (ابراهيم:32)

ويسأل عقولهم التي تشق الشعر بذكائها، ليقول لها:{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل:60)

ويقول لها:{ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (النمل:61)

ويقول لها:{ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (النمل:62)

ويقول لها:{ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل:63)

ويقول لها:{ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل:64)

بعد هذا، وهو رشحة من محيط الدلائل على الله، هل يمكن لعاقل أن يقول بأن الكون حجاب عن الله، وهو كتاب الله الذي تجلى لعباده من خلاله.

وهل يمكن أن نجعل أولئك المسدلين حجب الغفلة أصلا، ونجعل كل هذه الدلائل أنوارا كاسفة؟.. أم نتصور أن شمس الكون تحجبها تلك الأكف الهزيلة التي تريد أن تحول بين الخلق وإبصارها؟

فلذلك كان ( الله) هو أكبر حجة يقيمها الله على عباده، فهل يخفى الله حتى يغفل عنه؟ وهل يهون الله حتى يقدم عليه غيره؟

وإن عدنا إلى ما كنا فيه من دلائل العدل في الهداية، فنقول: لو أن أولئك الممتحنين سئلوا عن وصف ما يرونه في غرفة الامتحان، أو سئلوا عن وصف نفوسهم، أو سئلوا عن بديهية من البديهيات، أكان يعجزهم ذلك؟ فكيف يتصورون الحوائل تحول بينهم وبين ذلك الوصف الذي لا يتطلب منهم سوى فتح أعينهم والنظر إلى أنفسهم وإلى ما حولهم.

كلمات الله:

وفوق ذلك كله، فإن الله تعالى ـ برحمته وفضله ـ من على عباده، فأنزل عليهم كتبا فيها كلامه لهم.. ليعرفهم فيها بنفسه، وبحقيقتهم، ووظيفتهم، ويدعوهم بكل الأساليب ليتخلصوا من كل الحجب، ويقضوا على كل العصابات التي تحول بينهم وبين الامتحان العظيم الذي أعده لهم.

وكتب الله لا تعد ولا تحصى، وكلمات الله إلى خلقه لا تنفذ، قال تعالى:{ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف:109)، وقال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (لقمان:27)

والله تعالى ـ برحمته ـ أمد عباده في أول لحظة احتاجوا فيها إلى كلماته ليضمدوا بها الجراح التي أحدثتها فيهم عصابات الغفلة، قال تعالى:{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة:37)

وظلت هذه الكلمات هي السيف الأعظم الذي يحطم حجب الغفلة، ويقضي على عصاباتها، قال تعالى:{ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (يونس:82)

وسر ذلك يرجع إلى التأثير العظيم الذي جعله الله في هذه الكلمات، قال تعالى:{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21)

 والبشرية التي تاهت عن الله، فاستحقت بذلك أن تطبق عليها قوانين العدالة الإلهية لم تته لأن الله حرمها من كلماته، وإنما تاهت لأنها احتقرت كلمات الله، أو تدخلت فيها كما يتدخل المجرمون، فيحولون من القوانين وسائل إجرام، قال تعالى عن المبدلين الذي تدخلوا في كتب ربهم ينسخونها بما ينسجم مع أهوائهم:{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)} (آل عمران)

وقال تعالى:{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)} (البقرة)

ولو أن هذه البشرية تخلصت من أهوائها، وراحت تقرأ رسائل ربها بصدق، فإنها تجد الحق أمامها أقرب إليها من كل شيء، قال تعالى:{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (المائدة)

وقال تعالى:{ وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) } (المائدة)

وفي تلك اللحظات ستنزل عليهم جميع بركات الله التي حجبتها عنهم عصابات الغفلة، قال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} (المائدة)([78])

أهل الله:

والله تعالى برحمته وفضله لم يترك عباده هملا لتتحكم فيهم هذه العصابات، فلذلك أرسل لهم من يبلغونهم كلماته، ويشرحونها لهم، ويسيرون في حياتهم وفق مراضي الله ليكونوا نماذج صالحة للإجابة الصحيحة التي يريدها الله.

ولهذا يدعو الله عباده لأن يشكروه على هذه النعمة، قال تعالى:{ كمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} (البقرة)

وهؤلاء الرسل اختزنوا كل معاني الرحمة والهداية.. وكان لهم من الكمال ما يمكنه أن يفيض على جميع البشر، ويقضي على جميع العصابات، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو الجامع لما فتح الله به عليهم، اعتبره الله رحمة للعالمين.. لا رحمة للبشر وحدهم، قال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الانبياء:107)

وهؤلاء الرسل الذين زودهم الله بمعين من الرحمة لم ينبض استعملوا كل الوسائل، ومارسوا كل الأساليب لبث الهداية، قال تعالى يحكي عن نوح u وعن الجهود العظيمة التي بذلها من أجل هداية قومه:{ إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)} (نوح)

وبعد أن استعمل كل هذه الأساليب.. ووضعوا هم كل ما أمكنهم من حجب الغفلة واقفين مع زمر الإضلال حينها طبق عليهم الله تعالى حكم العدالة بعد أن رفضوا حكم الرحمة، قال تعالى:{ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)} (نوح)

والله تعالى ـ برحمته ـ زود هؤلاء الرسل بكل البينات المعجزة التي لا يملك البشر معها إلا التسليم، قال تعالى:{ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} (لأعراف:101)، وقال تعالى:{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (التوبة:70)

وتلك المعجزات مما لا يمكن لبشر أن يأتي بمثله، قال تعالى حاكيا عن معجزات المسيح u:{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (المائدة:110)

وقال عن معجزة موسى u:{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)} (الإسراء)

وهكذا سائر المعجزات التي هي توقيعات ربانية تخبر البشر بأن الله تعالى هو الذي أرسل لهم من يملؤهم بالهداية.

والله تعالى برحمته جعل الرسل في منتهى العفاف والزهد والكمال حتى يملأ البشر محبة لهم ورغبة فيهم وعلما بصدقهم وإخلاصهم، قال تعالى:{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان:57)، وقال على ألسنة رسله:{ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء:109)

والله تعالى برجمته وعدله لا يحاسب عباده إلا بعد أن يأتيهم هؤلاء الرسل، قال تعالى:{ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الاسراء:15)

وهو برحمته وعدله جعل في البشر خلفاء للرسل يحفظون هديهم.. ولا يخلو منهم زمان.. لتقوم بهم الحجة على عباده، قال تعالى:{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32)

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( لا نزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)([79])

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( لن تخلو الارض من ثلاثين مثل ابراهيم خليل الرحمن، بهم تغاثون، وبهم ترزقون، وبهم تمطرون)([80])

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن أبدال أمتي لم يدخلوا الجنة بالاعمال ولكن إنما دخولها برحمة الله، وسخاوة الانفس، وسلامة الصدر، ورحمة لجميع المسلمين)([81])

فهذه الأحاديث وغيرها كثير يثبت لطف الله بعباده.. فكل من احتاج الوصول في أي لحظة وجد من يدله عليه([82]).

ولهذا، فإن الله تعالى لا يقيم الساعة إلا بعد أن تنفذ الأرض من أوليائه، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الارض: الله الله)([83])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)([84])

ثالثا ـ عدالة الجزاء

نصت النصوص القرآنية الكثيرة على أن كل جزاء يناله الإنسان خيرا أو شرا، في الدنيا أو الآخرة هو ثمرة من ثمار كسبه، وحصاد من نبت زرعه، فلا ينال الإنسان إلا ما كسبت يداه، قال تعالى:{ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (آل عمران:25)

ونرى من خلال استقراء النصوص أربعة أوصاف للجزاء الإلهي، وكلها تنطلق من العدالة وتنتهي إليها([85]):

أما الأول، فهو أن هذا الجزاء يتساوى فيه الجميع، فلا يفضل فلان من الناس على غيره.. ولا تفضل فيه أمة على غيرها.. فالخلق كلهم خلق الله.. والعدل يقتضي أن يعاملوا كلهم معاملة واحدة.

وأما الثاني، فهو أن هذا الجزاء موزون بموازين دقيقة تسجل كل شيء، ولا يغيب عنها شيء.

وأما الثالث، فهو أن هذا الجزاء، لا يناله صاحبه إلا بعد أن يحاكم محاكمة عادلة، يتاح له فيها أن يستشهد من يشاء من الشهود، ويدافع عن نفسه بما استطاع أن يدافع.

وأما الرابع، فهو أن هذا الجزاء متوافق تماما مع الأعمال، وكأنه حصاد لبذور الأعمال، فمن زرع شوكا لن يجني إلا شوكا.

 ونحسب أن هذه الأربع كافية لبيان عدالة الجزاء الإلهي.. وسنحاول أن نرى أدلتها والمدى الذي بلغته في المطالب التالية.

ونقدم لذلك بقوله تعالى في الآية المحكمة التي تفسر على ضوئها جميع آي القرآن، وهي قوله تعالى:{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (الانبياء:47)

وقوله تعالى عند ذكر دقة الموازين الإلهية:{ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (الزلزلة)

1 ـ المساواة:

الوصف الأول للجزاء الإلهي هو المساواة، فالله تعالى يعامل عباده معاملة واحدة، والمعاملة الواحدة تقتضي أن يجازى كل شخص بحسب عمله، لا بحسب هواه.

ولهذا كانت آخر آية من القرآن الكريم، أو آخر وصية من الله لعباده هي قوله تعالى:{ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (البقرة:281)

وهو المعنى الذي أكدته بتعابير مختلفة كثير من آيات القرآن الكريم، قال تعالى:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286)، وهذه الآية الكريمة جمعت بين العدالتين: عدالة التكليف وعدالة الجزاء.

المكلفون:

وبهذا، فإن كسب الإنسان وحده هو الذي يحدد مصيره، والعدل يقتضي تفرد الكسب بتحديد المصير حتى لا ينجح في هذا الامتحان إلا الجادون المجتهدون الصادقون، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله) ([86])

والمراد بالهوى هنا هو كل ما يتصوره الإنسان فكرا سليما أو ذوقا رفيعا أو كشفا صادقا يحول بينه وبين ممارسة العمل الذي كلف به الخلق جميعا، أو يجعل له من المزية ما ليس لغيره مما يتناقض مع نظام العدل الذي بني على أساسه الكون.

ولهذا ما ذكر الهوى في القرآن الكريم إلا مذموما، وقد قال ابن عباس 🙁 ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه، قال الله تعالى:{ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} (لأعراف: 176)، وقال تعالى:{ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف: 28)، وقال تعالى:{ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّه} (الروم: 29)، وقال تعالى:{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (القصص: 50)، وقال تعالى:{ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (صّ: 26)) ([87])

ولهذا نفى القرآن الكريم كل ما يتوهمه الإنسان من الأهواء والعلل التي يتصور أنها قد تلغي عدالة الله:

ومنها تصوره ارتباط مصيره بمجرد أمانيه وأحلامه وأوهامه، وكأن أوهامه هي التي تملي على الله ما يطلبه، أوكأنه يريد أن يساوي لذات أمانيه بعرق ودماء وجهد العاملين المخلصين، قال تعالى نافيا هذا الوهم:{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} (النساء:123 ـ 124)

وقال منكرا على من غرته الأماني:{ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} (لنجم:24)أي ليس كل من تمنى خيراً حصل له، وقد عقبت هذه الآية بقوله تعالى:{ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} (لنجم:25)، وكأنها تشير إلى أن عجز الأماني وقصورها عن تحقيق مطالب الإنسان في الدنيا هو نفسه عجزها وقصورها عن تحقيق مطالبه في الآخرة.

ومنها الفهم الخاطئ لحقيقة الشفاعة، حيث حولتها الأماني القاصرة إلى وساطة كوساطات الدنيا تعمق الجور، وتولد الظلم، فلذلك عقبت الآيات السابقة من سورة النجم بقوله تعالى:{ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (لنجم:26)

والشفاعة في حقيقتها ـ والتي تدل عليها النصوص ـ هي جزاء كسائر أنواع الجزاء التي ينالها الخلق في الآخرة لأعمال عملوها أو صفات اتصفوا بها، وليست كما يتوهم من أنها وساطة ينجو على أساسها قوم في الوقت الذي يحرم منها غيرهم مع تساوي الاستحقاق، لأن ذلك لا يتناسب مع العدل المطلق الذي بنيت عليه قوانين الآخرة ـ كما سنرى ـ

ولذلك أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا ينتفع من لا يستحق من أمته من هذه الشفاعة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم في موعظة جمع لها الصحابة 🙁 أيها الناس إنكم محشورون إلى اللّه عزَّ وجلَّ حفاة عراة غرلا { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } (الانبياء: 104)، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح:{ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} (المائدة)، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) ([88])

ونرى بناء على هذا، وبناء على أدلة كثيرة لا يمكن ذكرها هنا أن الشفاعة خاصة بالمقصرين من محبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو محبي غيره من الأنبياء والأولياء والملائكة أو غيرهم الذين قعدت بهم أعمالهم عن النجاة، فرفعتهم محبتهم إلى محل الشفاعة.

ومن الأهواء التي تصورها الخلق بديلا عن الكسب الاغترارا بالأنساب، وتوهم أنها من القوة بحيث تحول بين الله وعقوبة من يستحق العقوبة، فيتساوى في منطقها الصائم القائم بالسكير الفاجر لأن نسب الفاجر ـ على حسب هذا الوهم ـ من القوة ما يلغي عدالة الله بين عباده.

ولهذا أنكر تعالى على الأمم قبلنا هذا الوهم، فقال تعالى:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (المائدة:18)

وأخبر تعالى أن لكل أمة ما كسبت، فلا يسأل إلا المكتسب، قال تعالى:{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة:134)، أي أن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيراً يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم.

وقد أشار تعالى إلى هذا عدم جدوى هذا الوهم بقوله على لسان يعقوب u:{ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (يوسف: 67)

وإلى هذا أيضا يشير قوله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من أن الأمر لله وحده، قال تعالى:{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران:128)

ولهذا ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ما من رجل يسلك طريقا يطلب فيه علما إلا سهل الله له طريق الجنة ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)

وفي هذا الحديث جمع لطيف بين المجتهد الذي يسلك طريق العلم، فيسلك بسلوكه طريق الجنة، وبين من يكتفي بالقعود مع التغني بأمجاد سلفه التي لا تغني عنه شيئا.

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشتد في نفي هذه الأنواع من الأوهام، وقد قرأ مرة قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)

ثم قال:( فليس لعربى على عجمى فضل، ولا لعجمي على عربي فضل، ولا لاسود على أبيض فضل، ولا لابيض على أسود فضل، الا بالتقوى، يا معشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على أعناقكم، ويجئ الناس بالاخرة، فانى لا أغني عنكم من الله شيئا)([89])

وكان يخاطب قبيلته وأهل بيته قائلا:( يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف اشتروا انفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا)([90]

وهذا القانون الإسلامي هو الفاصل بين فهم الإسلام لدور الكسب، وبين فهم المسيحية التي تربط مصير الخلق جميعا بخطيئة أبيهم آدم u، ثم تربط تكفير الخطيئة بمن لم يعملها.

ومنها وهم الانتساب إلى مذاهب أو أديان مع الخلو من الأعمال، فيتصور المتوهم أن انتسابه وحده كاف في نجاته، ولذلك قال تعالى رادا على بني إسرائيل في قولهم:{ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى } (البقرة: 111)

وقد رد الله تعالى على هذا الوهم بقوله تعالى:{ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111)

ويدخل في هذا الوهم هذه التصنيفات الكثيرة التي امتلأت بها أسماع الأمة من تقسيمها إلى سنة وشيعة وغيرها.. فيحسب كل سني أنه قد ظفر بالفردوس الأعلى ما دام قد احتكر سوق السنة.

ويحسب الشيعي أن غيره عامة لن يرقى إلى رتبته ما دام قد احتكر سوق أهل البيت..

وهذه كلها أوهام..

فالله تعالى قسم عباده أقساما كثيرة.. وليس منها واحد من هذه الأقسام، فقد قال تعالى:{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32)

فكل صنف من هذه الأصناف قد يكون سنيا، وقد يكون شيعيا، وقد يكون من غيرهما.

ونحسب أن أي عاقل يدرك هذا.. فالشيعي العامي البسيط الذي ولد لا يعرف إلا مذهبه.. وكان له من الصلاح ما جعله يقوم الليل ويصوم النهار ويجاهد في سبيل الله، وتدمع عيناه خشية لله، وشوقا لآل بيت رسول الله، أو حزنا على ما أصابهم.. هل يستوي مع ذلك الخامل السني الذي يترفع بسنيته التي يتوهمها، ويحتقر بها غيره، ويتجهم بها في وجه غيره؟

وهكذا يقال للشيعي الخامل الذي يحتقر السني العامل.

والله تعالى بعدله لن يسأل الناس يوم القيامة عن متون العقائد، وهل حفظوها، وإنما يسألهم عما انطوت عليه جوانحهم من الإيمان، وعما كسبته جوارحهم من السلوك([91]).

ولهذا ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن رجلا كان قبلكم رغسه([92]) الله مالا وولدا، فقال لبنيه لما أحتضر: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: إني لم أعمل خيرا قط فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، قم اذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله فقال: ما حملك؟ قال مخافتك فتلقاه برحمته)([93])

فهذا الرجل ـ على حسب هذا الحديث الصحيح ـ كان يحمل عقيدة منحرفة في قدرة الله تعالى ([94]).. فهو تصور أنه إن فعل به ما فعل لن يقدر الله على جمعه، ومع أن هذه العقيدة عقيدة كفر إلا أن الله تعالى برحمته نظر إلى قصده ونيته، فغفر له.

ومنها وهم من ألفوا الرشوة في الدنيا، فيتصورون أن بإمكانهم رشوة الملائكة، أو ربما رشوة الله تعالى، قال تعالى:{ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الحديد:15) أي لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهباً ومثله معه ليفتدي به من عذاب اللّه ما قبل منه.

ومنها أوهام كثيرة تخالف سنة الله في التعامل مع خلقه، والذي أثبته في الكتب السالفة كما أثبته في القرآن الكريم، قال تعالى في آخر سورة النجم التي جمعت أوهام القاعدين عن الكسب:{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} (النجم)

فهذه سنة الله التي لا تحتمل التغيير ولا التبديل، وكل ما يتوهم أنه شذوذ عنها، فسببه اختلاط المفاهيم أو تدخل الأهواء فيها.

وبناء على هذا فإن الخلق في الدنيا والآخرة يصنفون بحسب أعمالهم، ويجازون بحسب أصنافهم، فلا يدخل في كل صنف إلا من وفر من دلائل انتسابه ما يؤهله لذلك.

ولهذا نفت الآيات القرآنية الكثيرة أي مساواة بين العامل والمتكاسل، أو بين المصلح والمفسد، قال تعالى:{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (صّ:28)

وفي آية أخرى يستفهم مستنكرا:{ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (القلم:35)

وقد شبه الله تعالى ـ لتقريب الصورة للأذهان، ولإقناع العقل المجادل بصحة هذا التصنيف ـ بعدم تساوي التعامل مع ما نراه من المحسوسات، فقال تعالى:{ قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيث} (المائدة: 100)

وشبه ذلك بالبحار المختلفة الطعوم والمنافع، قال تعالى:{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (فاطر:12)

وشبه ذلك بالتمايز الذي نراه بين الحي والميت، فقال تعالى:{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (فاطر:22)

وشبه الفريقين من المؤمنين وغيرهم بالمنعم عليهم بالحواس والفاقدين لها، قال تعالى:{ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (هود:24)، وقال تعالى:{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (الرعد: 16)

وشبه الفريقين بالأحرار والعبيد، فقال تعالى:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل:76)، وقال تعالى:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر:29)

ولهذا، فإنه لا يستوي ـ في ميزان العقل ـ المجتهد بالمتكاسل والعامل بالمقعد والقائم بالنائم، قال تعالى:{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر:9)

ولا يستوي المجاهدون المضحون بأنفسهم في سبيل الله بالراكنين إل مخادع الرخاء، قال تعالى:{ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:95)

وهذا التفريق شامل لأجزية الدنيا والآخرة، قال تعالى:{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثـية:21)

فحكمة الله وعدالته التي قام عليها السموات والآرض تأبى المساواة بين المسيء والمحسن، قال تعالى:{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (لنجم:31)

* * *

بعد هذه النصوص الكثيرة المحكمة نرجع إلى النصوص المتشابهة لنحاول فهمها على ضوء ما سبق، ومنها قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الانبياء:101)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( لن يدخل أحداً منكم عملُه الجنةَ)، قالوا:( ولا أنت يا رسول اللّه؟)، قال:( ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه تعالى برحمة منه وفضل)([95])

ومنها ما يروى عن على بن أبي طالب قال:( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببقيع الغرقد في جنازة فقال:( ما منكم أحد إلا قد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة) فقالوا:( يارسول الله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل) فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فسييسر لعمل أهل الشقاوة) ثم قرأ قوله تعالى:{ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى }  (الليل:5 ـ 10) ([96])

ومنها ما ورد في تفسير قوله تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (لأعراف: 172) قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عنها، فقال:( إن اللّه خلق آدم u، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، قال:( خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون)، فقال رجل:( يا رسول اللّه ففيم العمل؟)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( إذا خلق اللّه العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار) ([97])

وهذه الأحاديث وأمثالها تشتبه على من لم يجمع بين فهم سر التوحيد والعدل، فالتوحيد يقتضي أن يعلم الله ما كان وما يكون، بل ما لا يكون لو كان كيف كان يكون، ويكون الحاضر والمستقل بالنسبة إليه سواء، لأن ذلك ما تقتضيه الألوهية، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه:( إنى عند الله مكتوب بخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبى إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام)([98])

فعلم الله تعالى هو العلم الذي تقتضيه الألوهية، وهو العلم في قمة كماله، وخطأ الذين يعترضون بمثل هذه الشبه هو قياسهم علم الله على علم البشر، وهو قياس ناشئ من خلل في فهم التوحيد.

وهو خلل ناشئ كذلك من سوء فهم للعدل، فالعادل هو الذي يوفر لك كل الأسباب، ويمنح لك كل الفرص، ثم يحاسبك بعد ذلك لا على علمه فيك، بل على مقتضى تصرفاتك، بل فوق ذلك يتيح لك فرص الدفاع عن نفسك واستئناف الحكم أو الطعن في الشهود في حال الحاجة إلى ذلك.

وكل هذه النواحي ـ والتي يتخلف أكثرها في كل أقضية الدنيا وحكوماتها ـ سنرى الشواهد الدالة عليها.

فالله تعالى منحنا حرية الاختيار التي نستشعرها، ولا يجادلنا أحد في استشعارنا لها، ومنحنا من القوى ما نؤدي به ما أمرنا به، وأخبرنا عن القانون الذي يتم على أساسه محاسبتنا، ووفر لنا من الدلائل ما يقتنع به العقل بصحة كل ذلك، ثم أخبرنا بأنه لا يحاسبنا على علمه فينا، بل يحاسبنا على ما كسبت أيدينا.

فأي عدل فوق هذا؟

زيادة على ذلك، فإن الله تعالى الذي يعلم الأمورعلى ما هي عليه قد جعل للأشياء أسبابا تكون بها، فلذلك يدخل في علمه الأسباب ونتائجها.

فلذلك يخطئ من يقول:( إن كنت من أهل الجنة فأنا أدخلها بلا عمل صالح)، بل إن قوله متناقض باطل لأنه علم أنه لن يدخل الجنة إلا بعمله الصالح، فلو دخلها بلا عمل كان هذا مناقضا لما علمه الله وقدره.

أما الوهم الذي سبب هذه الأخطاء في الفهم، فهو سؤال ( كيف)، وهو سؤال لا يسأله العقل، فالعقل لا يسأل عما يخرج عن اختصاصه، وإنما هو سؤال يطرحه الخيال ليعرف حقيقة علم الله، فيحاول بمحدوديته أن يحد المطلق.

ولهذا يتنزه عن هذا السؤال من ذاقوا حلاوة الإيمان، وأدركوا بالبصيرة من نور المعرفة بالله ما وقاهم من شؤم التشبيه الذي يطرح مثل هذا السؤال.

أما الذي يجعل هذه الشبهة سببا في قعوده، فإن وهمه هذا هو الذي يكون سببا في دخوله جهنم، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:( اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فسييسر لعمل أهل الشقاوة)([99])

والجمع بين فهم سر التوحيد مع سر العدل هو الذي يزيد المجتهد اجتهادا، بل يخلط اجتهاده بلذة عظيمة حين يعلم أن الله اختاره من بين الكثيرين من خلقه ليعبده وييسره لطريق أهل الجنة،ويقيه في نفس الوقت من الغرور الذي يجعله متعاظما بعمله متكبرا به.

أما الواقع في براثن التشبيه فقد يستسلم لهذه الشبه والأوهام، وتكون سببا لقعوده عن كل عمل، ويكون ذلك الوهم سرا من أسراره تيسيره لأعمال أهل الشقاوة، ولهذا سبق آيات سورة الليل التي فسرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى:{ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (الليل:4)

غير المكلفين:

قد عرفنا أن أمر المكلف بيده، فإن أحسن فلنفسه، وإن أساء فعليها، ولا حجة له بعد أن قامت عليه كل الحجج.

ولكن..

كيف يتحق العدل مع غير المكلف؟

مع ذلك الصبي الذي مات وهو يحمل بذور الخير والشر، والتي لم تسق بعد فتنبت.

أو مع ذلك الفلاح الذي عاش في أقاصي الأرض منهمكا مع محراثه لا يعلم بإله، ولا يعرف نبيا.

أو مع ذلك المعتوه الذي يرمى بالحجارة، ولو كان عاقلا لتبين معدنه، وتحقق خبثه أو طيبه.

إن قلنا بأنهم يدخلون الجنة، فبأي عمل عملوه؟

وإن قلنا بأنهم يدخلون النار، فبأي جناية جنوها؟

وإن قلنا: إن أمرهم للمشيئة، أو لعلم الله فيهم، فلماذا لم يكن أمر الخلق جميعا للمشيئة، فلم تقم محكمة القيامة، ولم يكن هناك حساب ولا كتب ولا موازين؟

وإن قلنا: إن أمرهم للرحمة، فقد يقول البالغ: لماذا يارب لم تتوفني صبيا لتشملني رحمتك التي شملت الصبي؟

ويقول العاقل: لم يارب لم تذهب عقلي لأبصر من الرحمة ما يبصره المجنون؟

ويقول الفيلسوف: لم يا رب لم تجعلني في غياهب الجهل التي حميت بها ذلك الفلاح البسيط من التعرض لمقتك وعقابك؟

إن هذه المسألة من أعقد المسائل التي خيض فيها بعلم وبغير علم، والحديث عن عدالة الله في الجزاء يقتضي المرور بها والحديث عما نراه متناسبا مع ما حاولنا فهمه من نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة في هذا المجال.

والذي دعانا إلى هذا هو ما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم من دخول الشبه من هذا الباب، كما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:( لا يزال أمر هذه الأمة موائما أو مقاربا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر) وفسر الراري (الولدان) بأنه أراد بهم أطفال المشركين) ([100])

ففهم القدر، وعدالة الله فيه يقتضي التعريج على هذه المسألة لنفي الشبه الكثيرة التي تحرف كمالات عدالة الله.

* * *

وبداية ننبه إلى أن جزاء الله كما نص عليه القرآن الكريم مرتبط بالقدرة على تحمل التكليف، ولذلك قال تعالى:{ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام:131) أي إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب لئلا يؤاخذ أحد بظلمه وهو لم تبلغه دعوة، ولكن أعذرنا إلى الأمم، فلم نعذب أحدا إلا بعد إرسال الرسل إليهم.

وتحتمل الآية كذلك: إن ربك لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر فيظلمهم بذلك، واللّه غير ظلام لعبيده.

وهذا الوجه الثاني هو الذي يبين علاقة العدالة بالجزاء في هذا الصنف من الخلق.

وهو ما دلت عليه النصوص الكثيرة، كقوله تعالى:{ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} (الحجر:4)، وقال تعالى:{ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} (الشعراء:208)، وقوله تعالى:{ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الاسراء:15)

ولهذا كان من جملة الأسئلة التي يواجه بها أهل جهنم تبكيتا وإظهارا لعدالة الجزاء ما عبر عنه قوله تعالى:{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} (الملك:8)

* * *

 ومثل ارتباط التكليف ببلوغ الدعوة يرتبط ببلوغ سن القدرة على التمييز واستعمال العقل، لأن أحكام الله تعالى مرتبطة بالعقل.

فالعقل هو المدرك لأحكام الله، والنافذة التي يطل منها الإنسان على مراده، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:( رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحلم – أي يستكمل خمس عشرة سنة وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق) ([101])

 وهؤلاء الثلاثة رفع عنهم القلم بسبب العقل، فالأول لم يكتمل عقله، والثاني غفل عقله، والثالث غاب عقله.

* * *

بعد هذه الأدلة القطعية على ارتباط التكليف بالعقل وبلوغ الدعوة، مع ارتباط الجزاء بالتكليف نحاول التعرف على مصير هذه الفئة التي لم تمنح أدوات التكليف.

وهذا يدعونا إلى دراسة الآراء الواردة في المسألة مع محاولة الجمع بين النصوص الواردة فيها، لنرى من خلالها كيف تتحقق العدالة مع هذا الصنف من الخلق.

القول الأول:

وأول قول نبدأ باستبعاده هو القول بأنهم في النار.. فهذا القول يتنافى مع الحكمة والعدل والرحمة التي بنيت عليها أقدار الله.

وللأسف، فقد قال بهذا القول قوم، مستندين في ذلك إلى أحاديث ضعيفة أو موضوعة يريدون بها تحطيم الأسس اليقينية التي وردت بها النصوص المحكمة.

ومن هذه النصوص ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن أولاد المسلمين أين هم؟، فقال:( في الجنة) وسئل عن أولاد المشركين أين هم يوم القيامة؟، فقال:( في النار)، فقيل له:( لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام) قال:( ربك أعلم بما كانوا عاملين، والذي نفسي بيده لئن شئت أسمعتك تضاغيهم([102]) في النار) ([103])

وهذا الحديث الضعيف لا يصح أن يستدل به على مثل هذا، زيادة على معارضته النصوص المحكمة والأحاديث الصحيحة.

ومن الأحاديث الموضوعة الخطيرة التي تروى في هذا المجال من دون تحقيق أو تمحيص، ومن دون عرضها على محكم القرآن الكريم والسنة المطهرة، فيغتر بها، ما يروى عن سلمة بن يزيد الجعفي: قال: أتيت أنا وأخي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلنا:( إن أمنا ماتت في الجاهلية، وكانت تقري الضيف، وتصل الرحم، فهل ينفعها من عملها ذلك شيء؟)، قال:( لا) قلنا له:( فإن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث) فقال:( الموؤودة والوائدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم)([104])

وهذا الحديث زيادة على تناقضه مع عدالة الله المطلقة والتي قد تدرك بالعقل يتناقض مع القرآن الكريم الذي نص على أن المؤودة تسأل عن أي ذنب قُتلت ليكون ذلك تهديداً لقاتلها، فإنه إذا سئل المظلوم فما ظن الظالم، قال تعالى:{ وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (التكوير:8 ـ 9)

زيادة على ذلك تصريح النصوص الصحيحة بعكس ذلك، وأنها في الجنة، وقد يكون ذلك رحمة خاصة بها، ولذلك قرنت بالشهيد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموءُدة في الجنة)([105])

وفي حديث آخر:( قيل: يا رسول اللّه مَن في الجنة؟)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( الموؤودة في الجنة)([106])

فهذه الأحاديث تتعارض مع الأحاديث السابقة، ويتجلى فيها نور الحديث الصحيح، وتتناسب مع عدالة الله تعالى ورحمته:

أما عدالته، فإن الأذى الشديد الذي تعرضت له يشبه الشهادة، فلذلك قرنها صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق بالشهيد.

أما رحمته، فبأن تدخل الجنة من غير تعرضها للامتحان.

ومن الأدلة التي استدلوا بها كذلك على دخول غير المكلفين النار، ما روي من احتجاج الجنة والنار، وأن الله تعالى ينشئ للنار خلقا يسكنهم إياها.

وهذا الحديث غير محفوظ به الصيغة، بل لفظه الصحيح، هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والتمجبرين؛ وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال اللّه عزَّ وجلَّ، للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما النار فلا تمتليء حتى يضع رجله فيها فتقول: قط قط فهنالك تمتليء وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم اللّه عزَّ وجلَّ من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن اللّه عزَّ وجلَّ ينشيء لها خلقاً آخر)([107])

ولو فرضنا صحة ما استدلوا به،أو فرضنا أن المراد بالرجل في الحديث خلق من خلق الله، فقد يكون لهذا الخلق خاصية التنعم بالنار، فتكون جهنم نعيما لهم، أو أن لا يكون لها أي تأثير عليهم، كما أنه ليس لها أي تأثير على خزنة جهنم وزبانية النار.

ومما استدلوا به كذلك قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور:21)

فقاسوا ذرية الكافرين بذرية المؤمنين، وهو قياس غير صحيح، فليست هناك أي علة يمكن الرجوع إليها في هذا، والقياس لا يصح في الغيبيات.

بل ذكر ابن القيم أن الآية حجة على نقيض ما ادعوه من وجهين ([108]):

الأول: إخباره أنه لم ينقص الآباء بهذا الإلحاق من أعمالهم شيئا، فكيف يعذب هذه الذرية بلا ذنب؟

والثاني: أنه سبحانه نبه على أن هذا الإلحاق مختص بأهل الإيمان وأما الكفار فلا يؤاخذون إلا بكسبهم كما قال تعالى:{ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور: 21) رهين. 

ومما استدلوا به كذلك قوله تعالى إخبارا عن نوح u أنه قال:{ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} (نوح:27)

وهذا ـ كذلك ـ لا حجة فيه لأنه إنما أراد به كفار أهل زمانه لا عموم الكفار، ثم إن قوله:{ فَاجِراً كَفَّاراً }  حال مقدرة، أي من إذا عاش كان فاجرا كفارا، ولم يرد أنهم حال طفولتهم يكونون فجرة كفرة.

* * *

ومما تنهد به الجبال، ويرتبط بهذا، ما يشيعه بعضهم ويدافع عنه بكل صنوف الدفاع من كون أبوي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في النار.

ومن العجب أن الذي يقول هذا، أو يحكم بهذا يقصره على أبوي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون سائر المشركين، وكأن التهمة الموجهة لأبوي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهما من أهل الفترة، هي أنهما أبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وما كان لنا أن نجرؤ، فنتحدث عن هذا، لولا أن هؤلاء جعلوا من علامات السنة هذا الاعتقاد..

ومما استدل به هؤلاء على هذا المعتقد الشنيع([109])، ما ورد في الحديث عن أبي هريرة مرفوعا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:( استأذنت ربي أن استغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذن لي)([110])

ومنها ما وري أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار، فلما قضى دعاه فقال:( إن أبي وأباك في النار) ([111])

وأول نقد يتوجه إلى هذين الحديثين هو أنهما معلولان.. وانتفاء العلة من شروط الحديث الصحيح.

وأول علة في هذين الحديثين، وأخطر علة معارضتهما لصريح القرآن الكريم كقوله تعالى:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الاسراء: 15)

وقال تعالى:{ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام:131)، فقد اعتبر الله تعالى إهلاك القرى من غير نذير ظلما.

وقال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى } (طـه:134)، أي أن الحامل على إرسال الرسل تعللهم بهذا القول واحتجاجهم به.

واعتبر القرآن ذلك من العدل الإلهي، فقال تعالى:{ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)} (الشعراء)، فقوله { وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } دليل على أن إهلاك القرى من غير أن يرسل إليهم النذر ظلم يستحيل على الله تعالى.

وذكر الله سنته مع القرى في هذا، فقال:{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص:59)

 وغيرها من الآيات التي تخبر بأن الله لا يعذب أحدا إلا بعد أن يقيم الحجة عليه.

وبناء على هذا، فقد أخبر القرآن الكريم بأن القوم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذين منهم أبواه لم يأتهم نذير قبله، لصريح قوله تعالى:{ وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} (سـبأ:44)، وقوله تعالى:{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص:46)، وقوله تعالى:{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} (السجدة:3)

فهذه الآيات صريحة بأنه لم يكن هناك رسول في بلاد العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وذلك ـ مع الآيات التي تنفي التكليف عمن لم يرسل إليه رسول ـ دال على أن المشركين الذي كانوا قبل إرسال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم من أهل الفترة.

وقد يعترض هنا بأن هناك رسالة المسيح، والجواب على ذلك من القرآن نفسه، فقد اعتبر الله رسالة المسيح خاصة ببني إسرائيل، قال تعالى عن المسيح u:{ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)} (آل عمران)

وفي الإنجيل، يقول المسيح:( لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة) (متى 15 / 24)؟

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفَّى مهذَّبا لا تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما)([112])، فوصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصوله بالطاهرة والطيبة، وهما صفتان منافيتان للكفر والشرك، كما قال تعالى يصف المشركين:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة: 28)

وما نقل من سيرتهم يدل على ذلك، وقد عقد علماء السيرة لذلك فصولا خصوها بالحديث عن أجداد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمو أخلاقهم.

أما أمه، فإن ما يروى عنها لا يدل إلا على أن لها مكانة من الولاية والاصطفاء لا يمكن لنا تصورها، وقد روي عن أم سماعة بنت أبي رهم عن أمها قالت: شهدت آمنة بنت وهب في علتها التي ماتت فيها ومحمد غلام يفع له خمس سنين عند رأسها، فنظرت إلى وجهه، ثم رددت أبياتا، ثم قالت: كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى، وأنا ميتة وذكري باق، وقد تركت خيرا وولدت طهرا)، ثم ماتت([113]).

بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ فوق ذلك كله قرنها بأنبياء كرام، فقال، عندما سئل: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، فقال:( أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام)([114])

وبذلك.. فإن الحديث الذي نهي فيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الاستغفار لها، ولو صح، فإن مثل هذه المرأة لا يستغفر لها، بل يترضى عنها، ويسلم، ويصلى عليها، كما قال تعالى:{ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } (النمل: 59)

زيادة على أنه ليس لها من الأدب.. ولا من تعظيم آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقال (آمنة) غفر الله لها.. فهذه الكلمة قد يستشعر بعض مرضى النفوس من معناها أنها كانت ذات خطايا([115]).. وهو مما يسيء إلى هذه المرأة الشريفة الفاضلة التي شرفت بخير مولود على هذه الأرض.

أما ما يروى عن أب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: (في النار)، فلما قفى دعاه فقال:(إن أبي وأباك في النار)، فلهذا الحديث ثلاثة طرق:

أما السند الأول، فروي عن طريق حماد بن سلمة عن ثابت وهي التي جاء  فيها: (إن أبي وأباك في النار)

وأما السند الثاني، فهو عن طريق معمر عن ثابت وهي خالية من ذكر ( إن أبي وأباك في النار)

وأما السند الثالث، فعن طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص وهي خالية أيضا من ذكر (إن أبي وأباك في النار)، غير أنها تنتهي بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:( حيث ما مررت بقبر كافر فبشره بالنار)

فالطريق الأولى في سندها ثابت وحماد بن سلمة، أما ثابت فهو عند بعضهم ثقة، ولكن ذكره ابن عدي في الضعفاء وعلل الحديث فقال:( إنه وقع في أحاديثه ما ينكر، وهذا الحديث منها، وأمَّا حماد فقال عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة (فتح الباري): حماد بن سلمة بن دينار البصري أحد الأئمة الأثبات إلا أنه ساء حفظه في الآخر. وقال السيوطي عن حماد بن سلمة في كتابه (مسالك الحنفا في نجاة والدي المصطفى): إن حماد تكلم في حفظه ووقع في أحاديثه مناكير ذكروا أن ربيبه دسها في كتبه، وكان حماد في آخر حياته لا يحفظ فحدث بها فوهم فيها ومن ثم لم يخرج له البخاري شيئا، ولا خرَّج له مسلم في اصول الدين إلا من روايته عن ثابت. قال الحاكم في المدخل:( ما خرج مسلم لحماد إلا من حديثه عن ثابت)

أما السندان الثاني والثالث، ففي سند الرواية الثانية معمر عن ثابت عن أنس عوضاً عن حماد عن ثابت.

والرواية الثالثة جاءت بالسند الآتي فقد أخرج البزار والطبراني والبيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أين أبي؟ قال: في النار قال: فأين أبوك؟ قال: حيث ما مررت بقبر كافر فبشره بالنار.

ويُلاحظ أن السند الأول ذكر فيه حماد عن ثابت، والسند الثاني ذكر فيه معمر عن ثابت، ومن المعروف أن معمرا أثبت من حماد بدليل أن حماداً تُكلِّم في حفظه كما سلف، ولم يتكلم أحد في معمر.

قال السيوطي في نفس المرجع المذكور:( وأما معمر، فلم يتكلم في حفظه ولا اسْتُنكر شيءٌ من حديثه، واتفق على التخريج له الشيخان، فكان لفظه أثبت أي فتكون روايته أوثق وأثبت وأقرب الى الصحة)

وأما سند الرواية الثالثه فقد قال السيوطي في نفس المرجع:( وهذا إسناد على شرط الشيخين فتعين المصير اليه والاعتماد على هذا اللفظ وتقديمه على غيره)

القول الثاني:

وأما القول الثاني في المسألة، فهو عكس القول الأول، وهو أنهم في الجنة، وقد ذهب إلى هذا القول الكثير من العلماء، ودلت عليه بعض النصوص، ومنها ما روي في الحديث أن رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم قال يحكي رؤيا رآها:( فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط) ثم قال:( وأما الولدان حوله فكل مولود مات على الفطرة) فقال بعض المسلمين:( يا رسول الله وأولاد المشركين)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( وأولاد المشركين)([116])

واستدلوا بالأحاديث الدالة على كون الموؤودة في الجنة السابق ذكرها.

وهذا القول يدل على غلبة الرحمة في يوم القيامة، ولكنه مع ذلك معارض بالنصوص الدالة على العدل المطلق في الآخرة، كما سنرى.

القول الثالث:

ومن الأقوال التي تتنافى مع ما نصت عليه النصوص القطعية من عدالة الله تعالى أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة، فلا يفردون عنهم بحكم في الدارين، فكما أنهم منهم في الدنيا فهم منهم في الآخرة.

واالرد على هذا المذهب كالرد على القول الأول، بل إن المذهب أبشع مما قبله، لأن القائلين به يجعلون مصير الأبناء في الآخرة مرهونا بأعمال الآباء، فلذلك قالوا بأنه لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لأفراطهما بالنار.

وقد استدل هؤلاء بالإضافة لما سبق بما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيرون من نسائهم وذراريهم فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( هم منهم)([117])

والمراد من هذا الحديث ما يتعلق بالأحكام الدنيوية، لأن ذلك هو محل السؤال، قال النووي:( هم من آبائهم أي لا بأس بذلك، لأن أحكام آبائهم جارية عليهم في الميراث وفي النكاح وفي القصاص والديات وغير ذلك، والمراد إذا لم يتعمدوا من غير ضرورة)

ومن القياس استدلوا بأن إتباع ذرية المؤمنين بآبائهم كان إكراما لهم وزيادة في ثوابهم، وأن الإتباع إنما استحق بإيمان الآباء، فكذلك إذا انتفى إيمان الآباء انتفى الإتباع الذي تحصل به النجاة.

وهذا قياس خطير لا يلجأ لمثله في احكام الدنيا الفانية من أجل حظوظ بسيطة، فكيف يلجأ إليه في أحكام الآخرة، والله تعالى يقول:{ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (الأنعام: 164)

القول الرابع:

ومن الأقوال التي لا تستند إلا على مجرد الوهم والكلام بلا علم ما ذكره بعضهم من أنهم يكونون يوم القيامة ترابا، وهوقول لا مستند له من نقل أو عقل.

ومن الأقوال في المسألة والتي تخالف الأدلة القطعية، القول بأنهم خدم أهل الجنة، واستدل هؤلاء بحديث ضعيف روي عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:( سألت ربي عن اللاهين من ذرية البشر ألا يعذبهم فأعطانيهم، فهم خدم أهل الجنة يعني الصبيان)([118])

وهذا القول مع ضعف دليله يتنافى مع ما نصت عليه النصوص المحكمة من أن أمر الخلق بيد الله، لا بيد أحد من خلقه، ثم كيف يصور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرحمة المهداة، وكأنه أرحم بالخلق من خالقهم.

القول الخامس:

وهو أكثر الأقوال شهرة، والقول به يلغي البحث في هذه المسألة، ويلغي ما ورد فيها من النصوص هو القول بـ ( أنهم مردودون إلى محض مشيئة الله بلا سبب ولا عمل)

أي أنه يجوز أن يعمهم الله تعالى جميعا برحمته، ويجوز أن يدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار، فكلها جائزة بالنسبة إلى الله تعالى وإنما يترجح بعضها على بعض بمجرد المشيئة.

وهو بذلك يرى التوقف في أمرهم، فلا يحكم لهم بجنة ولا نار، وقد يعبر عن هذا القول بمذهب الوقف، وقد يعبر عنه بمذهب المشيئة، وأنهم تحت مشيئة الله يحكم فيهم بما يشاء، ولا يدرى حكمه فيهم ما هو.

ومما استدل به على هذا القول قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تنتج البهيمة من بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير قال الله أعلم بما كانوا عاملين) ([119])

عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن أولاد المشركين، فقال:( الله أعلم بما كانوا عاملين) ([120])

وهذا القول يتنافى مع ما ذكرنا سابقا من أن الله تعالى لا يحاكم عباده إلى علمه فيهم، بل يحاكمهم إلى أعمالهم، بل يضيف إلى ذلك الشهود إقامة للحجة عليهم.

فكيف يقبل العقل أن يعامل الله أولئك بهذه المعاملة، ويعامل غيرهم معاملة أخرى، مع أن عدالة الله تسوي بين الخلق جميعا؟

ومنشأ هذا القول هو الفهم الخاطئ لجوابه صلى الله عليه وآله وسلم حين سئل عنهم، فقال:( الله أعلم بما كانوا عاملين)([121])

القول السادس:

 بعد هذه الأقوال جميعا، والتي تكاد تحصي كل الاحتمالات الممكنة للمسألة فإن القول الذين نراه، والذي ينسجم مع عدالة الجزاء، وقد تجمع على أساسه النصوص المختلفة هو ما وردت به النصوص من أن هؤلاء الذين لم تتح لهم فرصة التكليف في الدنيا تتاح لهم هذه الفرصة في الآخرة.

فيرسل إليهم الله تعالى رسولا، وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وبناء على ذلك يكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار.

وقد وردت بعض النصوص تدل على هذا القول:

ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:( أربعة يمتحنون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة، أما الأصم فيقول:( يا رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا) وأما الأحمق فيقول:( يا رب قد جاء الإسلام والصبيان يرمونني بالبعر) وأما الهرم فيقول:( يا رب قد جاء الإسلام وما أعقل شيئا) وأما الذي مات في الفترة فيقول:( ما أتاني لك رسول)، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار)، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما، ومن لم يدخلها سحب إليها)([122])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:( يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا، فيقول الممسوخ عقلا: يا رب لو آتيتني عقلا ما كان ما آتيته عقلا بأسعد بعقله مني، ويقول الهالك في الفترة: لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني، ويقول الهالك صغيرا: يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني، فيقول الرب سبحانه: إني آمركم بأمر أفتطيعوني؟ فيقولون: نعم وعزتك فيقول: اذهبوا فادخلوا النار، ولو دخلوها ما ضرهم، فتخرج عليهم قوابس ([123]) يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله عز وجل من شيء، فيأمرهم فيرجعون سراعا يقولون: خرجنا يا رب وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابس ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله عز وجل من شيء، فيأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك فيقولون مثل قولهم فيقول الله عز وجل سبحانه: قبل أن تخلقوا علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون ضميهم، فتأخذهم النار.

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم، فيسألهم ربهم عز وجل فيقولون: لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك، فيقول ربهم: أرايتم إن أمرتكم بأمر تطيعونه؟ فيقولون: نعم، فيأمرهم أن يعبروا جهنم فيدخلونها فينطلقون حتى إذا دنوا منها سمعوا لها تغيظا وزفيرا فيرجعون إلى ربهم فيقولون: ربنا أخرجنا منها، فيقول: ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني، فيأخذ على ذلك من مواثيقهم فيقول: اعمدوا لها فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا فرجعوا فقالوا: ربنا! فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها، فيقول: ادخلوها داخرين)، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( فلو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما)([124])

وقد تكلم العلماء بالإنكار على هذه الأحاديث واعتبارها من الضعف بحيث لا تنهض للاستدلال بها، وقد رد ابن كثير على ذلك بقوله:( إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها)([125])

وأيدها ابن القيم بجملة وجوه، لا بأس من إيراد بعضها هنا([126]):

  1. منها أن هذه الأحاديث كثرت بحيث يشد بعضها بعضا، وقد صحح الحفاظ بعضها.
  2. ومنها أن غاية ما يقدر فيه أنه موقوف على الصحابي، ومثل هذا لا يقدم عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد، بل يجزم بأن ذلك توقيف لا عن رأي.
  3. ومنها أن هذه الأحاديث يشد بعضها بعضا فإنها قد تعددت طرقها، واختلفت مخارجها، فيبعد كل البعد أن تكون باطلة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، زيادة على أنه قد رواها أئمة الإسلام ودونوها ولم يطعنوا فيها.
  4. ومنها أنه وإن أنكرها بعض المحدثين، فقد قبلها الأكثرون، والذين قبلوها أكثر من الذين أنكروها وأعلم بالسنة والحديث، وقد حكى الأشعري اتفاق أهل السنة والحديث على القول بها.

ويضاف إلى هذا التأييد الروائي، ما يدل على توافقها مع العدالة والرحمة الإلهية، وما يجمع على أساسه كل النصوص السابقة، وكل الأقوال المبنية عليها.

أما اتفاقها مع العدالة، فحتى لا يتأسف العاقل على أنه لم يكن مجنونا، أويتأسف البالغ على انه لم يمت صبيا.

وهذا ما نطق به القرآن الكريم ودلت عليه قواعد الشرع، قال ابن القيم:( فهي تفصيل لما أخبر به القرآن أنه لا يعذب أحد إلا بعد قيام الحجة عليه، وهؤلاء لم تقم عليهم حجة الله في الدنيا، فلا بد أن يقيم حجته عليهم، وأحق المواطن أن تقام فيه الحجة يوم يقوم الأشهاد وتسمع الدعاوى وتقام البينات ويختصم الناس بين يدي الرب وينطق كل أحد بحجته ومعذرته فلا تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم)([127])

أما اتفاقها مع الرحمة، فإن الله تعالى يكلف هؤلاء بعد معاينتهم لأمر الآخرة، ويكون التكليف حينها مع شدته هينا.

أما اجتماع النصوص على أساسها، فلأن من هؤلاء من يطيع الله، فيدخل الجنة، ومنهم من يعصيه، فيدخل النار، وبذلك كله وردت النصوص، قال ابن كثير:( وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها. وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض)([128])

والاعتراض الثاني الذي قد يوجه لهذا القول هو ما ساد اعتقاده من أن الدار الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف، فكيف يكلف هؤلاء بالعمل؟

ومع أن لهؤلاء أحوالهم الخاصة التي قد لا يشاركهم فيها غيرهم إلا أن الأدلة متظافرة على أن هذا الاعتقاد السائد ليس على عمومه.

وقد قال تعالى:{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} (القلم:42)، وقد ثبت في الحديث أن المؤمنين يسجدون للّه يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحداً، كلما أراد السجود خر لقفاه([129]).

وفي الحديث الآخر في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها، أن اللّه يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مراراً، ويقول اللّه تعالى:( يا ابن آدم ما أغدرك!) ثم يأذن له في دخول الجنة([130]).

زيادة على ذلك ما ثبت في النصوص الكثيرة من الامتحانات والأسئلة التي يتعرض لها أهل القبور.

أما الاعتراض الثالث، فهو تصور استحالة أن يكلفهم اللّه دخول النار، لأن ذلك ليس في وسعهم.

وهذا الاعتراض أيضا غير صحيح لأن ذلك في وسعهم من جهة، وهو مع مشقته لا يختلف كثيرا عن الكثير من التكاليف التي يطلب بها الفوز بسعادة الأبد:

ومنها أن الله تعالى يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.

ومنها ما ثبت في السنّة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه برداً وسلاماً([131])، وهذا يشبه إلى حد كبير هذا الامتحان الذي تعرض له هؤلاء.

ومنها أن الله تعالى أمر بني إسرئيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها اللّه عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل ([132])، وهو لا يقل مشقة على النفوس مما تعرض له هؤلاء.

ومنها أن الكثير من الأوامر التي أمر الله تعالى بها في الدنيا نظير الأمر بدخول النار (فإن الأمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ورماحهم وتعريضهم لأسرهم لهم وتعذيبهم واسترقاقهم لعله أعظم من الأمر بدخول النار)([133])

زيادة على ذلك كله، فإن أن أمرهم بدخول النار ليس عقوبة لهم، وكيف يعاقبهم على غير ذنب؟ ( وإنما هو امتحان واختبار لهم هل يطيعونه أو يعصونه فلو أطاعوه ودخلوها لم تضرهم وكانت عليهم بردا وسلاما، فلما عصوه وامتنعوا من دخولها استوجبوا عقوبة مخالفة أمره، والملوك قد تمتحن من يظهر طاعتهم هل هو منطو عليها بباطنه فيأمرونه بأمر شاق عليه في الظاهر، هل يوطن نفسه عليه أم لا؟فإن أقدم عليه ووطن نفسه على فعله أعفوه منه، وإن امتنع وعصى ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشد منه)([134])

ومن هذا الباب أمر الله تعالى الخليل u بذبح ولده، ولم يكن مراده تعالى من ذلك سوى امتحانه على مدى امتثاله وتسليمه وتقديمه محبة الله على محبة الولد، فلما فعل ذلك رفع عنه الأمر بالذبح.

بل إن عباد النار ـ مع كفرهم ـ يتهافتون فيها ويلقون أنفسهم فيها طاعة للشيطان، ولا يقولون: ليس ذلك في وسعنا مع تألمهم بها غاية الألم، ( فعباد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته باقتحامهم النار كيف لا يكون في وسعهم وهو إنما يأمرهم بذلك لمصلحتهم ومنفعتهم)([135])

بل إن اقتحامهم النار المفضية بهم إلى النجاة لا تختلف عن الكي الذي يحسم الداء، أو هي بمنزلة تناول الداء الكريه الذي يعقب العافية.

فليس أمرهم بدخول النار من باب العقوبة في شيء، لأن ( الله تعالى اقتضت حكمته وحمده وغناه ورحمته ألا يعذب من لا ذنب له، بل يتعالى ويتقدس عن ذلك كما يتعالى عما يناقض صفات كماله، فالأمر باقتحام النار للخلاص منها هو عين الحكمة والرحمة والمصلحة، حتى لو أنهم بادروا إليها طوعا واختيارا ورضي حيث علموا أن مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عين صلاحهم وسبب نجاتهم، فلم يفعلوا ذلك ولم يمتثلوا أمره، وقد تيقنوا وعلموا أن فيه رضاه وصلاحهم، بل هان عليهم أمره وعزت عليهم أنفسهم أن يبذلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به رحمة وإحسانا لا عقوبة)([136])

2 ـ الميزان:

كما أن العدل سار في جميع المكلفين، فلا يقدم أحدهم على غيره إلا بما كسبت يداه، فإن العدل كذلك سار في الموازين التي توزن بها الأعمال، فلا يظلم أحد مثقال ذرة، قال تعالى:{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الانبياء:47)

وهذه الموازين تعتمد على الأعمال التي أحصاها الله تعالى على عباده، فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة، قال تعالى في موعظة لقمان u لابنه:{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (لقمان:16)

وقد أخبر تعالى عن مقالة المكلفين حين يبصرون دقة موازين الله، فقال:{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف:49)

ولذلك فإن الإنسان يرى في القيامة كل ما كسبت يداه ابتداء من مثاقيل الذر، وهذا من العدل الذي يجعل المتهم مبصرا لجرائمه وذنوبه التي يحاكم على أساسها، قال تعالى:{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة:7 ـ 8)

وقد أخبر تعالى أن ثقل هذه الموازين بالأعمال الطيبة هو الكفيل بالنجاة، قال تعالى:{ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لأعراف:8)، وقال تعالى:{ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المؤمنون:102)

وبخلافه من خفت موازينه، قال تعالى:{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} (لأعراف:9)، وقال تعالى:{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (المؤمنون:103)

ومن مظاهر العدل الإلهي التي لا يمكن وصفها أن الله تعالى لا يزن الأعمال فقط، كما نفعل في الدنيا حين نكتفي بتقييم الأعمال دون نظر إلى ما يحيط بها من ملابسات، فنقع بذلك في أخطاء كثيرة وجور عظيم.

لكن الله ـ بعدله ـ يزن العمل، وكل ما يرتبط بالعمل من قريب أو من بعيد، ولهذ ورد التعبير عن الميزان في القرآن الكريم بلفظ الجمع.

وسنحاول ـ من باب التعرف على عدل الله ـ أن نرى ما ورد في النصوص المقدسة من هذه الموازين:

وزن العمل:

فمن موازين الله العادلة ميزان الأعمال، وهو ميزان مختص بوزن الأعمال التي يقوم بها الإنسان، فلكل عمل عند الله تعالى وزنه الخاص، وقيمته الخاصة.

وإلى هذا الميزان الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً، أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فقال: لا يا رب فيقول: بل إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضر وزنك فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم.. قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)([137])

ففي هذا الحديث إخبار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا النوع من الموازين، وفيه تركيز واضح على العدل ونفي الظلم في هذا الميزان.. وفيه أنه لا يترك شيئا إلا ويزنه.. وفيه أن كل عمل يوزن على حدة.. وفيه أن العمل بقيمته لا بحجمه.. وفيه تطمين عظيم لصاحب العمل.. وفيه حضور صاحب العمل للجلسة التي يوزن فيها عمله بخلاف المتهم عندنا، فهو يحرم من حضور جلسة القضاة التي يحكمون فيها عليه.

وكل هذه وغيرها من المعاني التي ينطوي عليها الحديث تدل على مدى العدل الذي تنظم به موازين الله في الآخرة.

وقد ورد في النصوص أن هذا الميزان يزن كل شيء.. الصغير والكبير.. الجليل والحقير.. ذلك أن الملائكة الكتبة يكتبون كل شيء.. كما قال تعالى:{ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} (ق)

وقد روي في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عليه بها، سخطه إلى يوم يلقاه)([138])

ومن الأحاديث التي رويت فيما يوزن في هذا الميزان ويثقله قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)([139])

وفي حديث آخر، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( والذي نفسي بيده لو جيء بالسموات والأرض ومن فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن)([140])

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي أبا ذر فقال:( ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله، قال:( عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما)([141])

وفي حديث آخر، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء)([142])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:( أول ما يوضع في الميزان الخلق الحسن)([143])

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( ما من شيء يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن)([144])

وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( خمس ما أثقلهن في الميزان سبحان الله ولا إله إلا الله والحمد لله والله أكبر وفرط صالح يفرطه المسلم)([145])

وفي حديث آخر، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( أول ما يوضع في ميزان العبد نفقته على أهله)([146])

وفي حديث آخر، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( ما أنفقت عن خادمك من عمله كان لك أجره في موازينك)([147])

وفي حديث آخر، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( من توضأ فمسح بثوب نظيف فلا بأس به ومن لم يفعل فهو أفضل لأن الوضوء يوزن يوم القيامة مع سائر الأعمال)([148])

وقد اختلف العلماء هنا: هل يكتب الملك كل شيء، أم يكتب ما فيه ثواب وعقاب فقط على القولين، والأرجح من خلال النصوص أنه يكتب كل شيء، لأن كل شيء، وإن ظهر ـ بادئ الرأي ـ لغوا إلا أن فيه نوع من أنواع العمل.

فالنكتة ـ مثلا ـ والتي لم تختلط بحرام، قد تبدو نوعا من اللغو، ولكنها ـ في الحقيقة ـ وعند تحليلها، قد تحوي خيرا كثيرا أو شرا كثيرا.. وبالتالي تكون محلا للجزاء.. ومحلا قبل ذلك للحساب.

ولهذا قال تعالى:{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر:8)

وبهذا يحل الإشكال الوارد في الحديث المعروف، والذي قال صلى الله عليه وآله وسلم في آخره: (لتسألن عن هذا يوم القيامة. أخرجكم من بيوتكم الجوع، فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا، فهذا من النعيم)([149])

فربما يتوهم أن هذا الحديث يخالف قوله تعالى:{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (لأعراف:32)

ولكنه ـ في الحقيقة ـ لا يخالفه، فالله تعالى الذي أباح الطيبات وأحلها، هو الذي أمر بالواجبات وحض عليها، والمنطق السليم يفرض على من تمتع بالحقوق، أن يسأل عن الواجبات، فإذا قصر فيها كان تناوله للحقوق غير صحيح.

وكمثال مقرب لذلك أن بعض المؤسسات تمنح عمالها امتيازات معينة، فإذا ما قصر العامل في واجباته حاسبته على تلك الامتيازات، وربما طلبت منه تعويضا عنها.

وهذا ما يكون في الآخرة.. وبهذا تفهم أسرار كثيرة من قسمة الله العادلة في الدنيا.. فالغني الذي يتمتع بماله من غير قيام بالواجبات سيكون ذلك المال وبالا عليه في الآخرة، ولهذا قد يود أنه لم يكن له.

ومثل ذلك الفقير.. فسيحاسب عن مدى صبره على ما قسمه الله له من الفاقة، فإن صبر كان له أجر الصابرين، وإن سخط كان عليه وزر الساخطين.

وانطلاقا من هذا، فإن الله تعالى بعدله يزن أعمال المؤمنين وغيرهم، سواء ما تعلق منها بالدين، أو ما تعلق منها بالدنيا، لينال كل شخص ثوابه العادل منها، يستوي في ذلك الكافر والمؤمن.

فالعدل الإلهي يجازي الكافر المحسن على إحسانه، كما يجازي المؤمن المسيء على إساءته.

فقد ورد في الحديث أن الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: يا رسول الله إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها، فقال: هي في النار، فقالوا: يا رسول الله إن فلانة تصلي المكتوبة وتصدق بالاثوار من الاقط ولا تؤذي جيرانها، فقال: هي في الجنة([150]).

وهذا يدل على ما تحتله العلاقات الاجتماعية من أهمية في موازين الله تعالى، ولهذا فإن من يسارع في تقديم الخدمات الاجتماعية سيكون حاله أفضل بكثير من الذي يقتصر على العبادة المجردة ([151]).

ولهذا، فإن الكافر الذي يكون منه هذا السلوك الطيب سيناله جزاءه عليه في الآخرة، وقد ذكر العلماء هذا، قال القرطبي:( فإن قيل: أما وزن أعمال المؤمنين فظاهر وجهه، فتقابل الحسنات بالسيئات، فتوجد حقيقة الوزن والكافر لا يكون له حسنات، فما الذي يقابل بكفره وسيئاته وأن يتحقق في أعماله الوزن؟)

ثم أجاب على ذلك بوجهين:

أما الوجه الأول، فهو أن الكافر يحضر له ميزان يوضع فيه كفره أو كفره وسيئاته في إحدى كفتيه، ثم يقال له: هل لك من طاعة تضعها في الكفة الأخرى؟ فلا يجدها، فيشال الميزان فترتفع الكفة الفارغة، وتقع الكفة المشغولة، فذلك خفة ميزانه، لأن الله تعالى وصف الميزان بالخفة لا الموزون، وإذا كان فارغاً فهو خفيف.

وهذا الوجه ـ الذي ذكره القرطبي ـ قد ينطبق على كافر لم يعمل في حياته ما يمكن تسميته طاعة، أما الكافر الذي قد يكون منه هذا.. فلا شك أن العدل الإلهي لا يساويه مع غيره.

وهو ما ذكره القرطبي في الوجه الثاني من جوابه، حيث قال:( والوجه الآخر: أن الكافر يكون منه صلة الأرحام ومؤاساة الناس وعتق المملوك ونحوهما مما لو كانت من المسلم لكانت قربة وطاعة، فمن كان له مثل هذه الخيرات من الكفار فإنها تجمع وتوضع في ميزانه، غير أن الكفر إذا قابلها رجح بها ولم يخل من أن يكون الجانب الذي فيه الخيرات من ميزانه خفيفاً ولو لم يكن له إلا خيراً واحد أو حسنة واحدة لأحضرت ووزنت كما ذكرنا)

وهذا ينبني على أصل مهم، سنتحدث عنه في فصل (الحكمة)، وهو أن الحسن والقبح ذاتيان لا اعتباريان، وحقيقيان لا وهميان.. فالكذب قبيح مطلق([152])، والصدق حسن مطلقا.

ولهذا، فإن من كذب من المؤمنين عوقب على كذبه.. ومن صدق من غيرهم جوزي على صدقه.

قد يقال: بأن الكافر لم يقصد بعمله الطيب وجه الله.. وهو شرط من شروط الطاعة.

والجواب عن ذلك: أن الجزاء نوعان:

جزاء إيجابي.. وذلك بدخول الجنة، ونيل درجاتها، ولا شك أن هذا خاص بأن كان لهم حدا معينة من الطيبة يستحقون به هذا الدخول، كما قال تعالى:{ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزمر:73)

والجزاء الثاني.. جزاء سلبي، ويعني أن ترفع العقوبات عن الذنوب التي ثبت عدم ارتكاب الجاني لها.. وبذلك يختلف عذاب هذا الكافر عن غيره ممن وقع في تلك الذنوب.

وهذا الجزاء ـ من باب العدل ([153]) ـ لا يكون إلا من باب التخفيف..

أو بتعبير آخر أليق، وأيسر لفهم العدل في هذه المسألة الخطيرة، نقول: بأن الله تعالى وضع عقوبة لكل ذنب من الذنوب دق أو جل.. فكان للكفر عقوبته، وكان لقطع الرحم عقوبتها، وكان للبخل عقوبته.. وهكذا الكذب والفجور وغيرها من الجرائم التي تتفق العقول على أنها جرائم.

فإذا لم يقع الكافر في جريمة الكفر، فإنه لن يعاقب إلا بالعقوبة المرتبطة بها، ولا يعاقب بغيرها.. بينما تنزل بالكافر الذي ارتكب جميع الجرائم جميع العقوبات.

وهذا ما يفهم به قوله صلى الله عليه وآله وسلم عندما سئل عن عبد الله بن جدعان، وقيل له: إنه كان يقري الضيف، ويصل الرحم ويعين في النوائب، فهل ينفعه ذلك؟ فقال: لا لأنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.

فهذا الحديث ينص على أن هذا الكافر لا يدخله عمله الجنة، لأن الشرط الأول من شروط الجنة هو الإيمان، ولكن هذا لا يعني أن عقوبته ستكون متساوية مع غيره من المجرمين.

ويدل لهذا، أن الله تعالى ـ بعدله ـ قسم النار دركات يختلف فيها عذاب المجرمين، ومدة عذابهم بحسب جرائمهم، قال تعالى عن المنافقين:{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} (النساء:145)

بعد هذا.. فإن من رحمة الله بعباده أن أجاب خيالهم عن أسئلة الكيفية إما من باب الحقيقة المطلقة، وإما من باب التقريب، فبعض الناس لا يقتنع عقله إلا بعد أن يمتلئ خياله بالصور.

ومما ورد في ذلك، وقد نقله العلماء من باب الخلاف، وننقله من باب تعدد الصور ما ذكر من أن أعمال المؤمن تتصور بصورة حسنة، وأعمال الكافر بصورة قبيحة، فتوزن تلك الصورة، وله دليله من النصوص المرفوعة:

فمن الأحاديث التي تصف ما يحصل في القبر من نعيم وعذاب يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( وينادي منادي السماء أن قد صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وأروه منزله منها ويفسح له مد بصره ويمثل عمله له في صورة رجل حسن الوجه طيب الرائحة حسن الثياب فيقول: أبشر بما أعد الله لك ابشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم فينقول: بشرك الله بخير من أنت فوجهك الوجه الذي جاء بالخير؟ فيقول: هذا يومك الذي كنت توعد أو الأمر الذي كنت توعد أنا عملك الصالح فو الله ما علمتك إلا كنت سريعا في طاعة الله بطيئا عن معصية الله فجزاك الله خيرا)

وقال عن تمثل العمل الخبيث:( ويمثل له عمله في صورة رجل قبيح الوجه منتن الريح قبيح الثياب فيقول: أبشر بعذاب الله وسخطه فيقول: من أنت فوجهك الذي جاء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث فو الله ما عملتك إلا كنت بطيئا عن طاعة الله سريعا إلى معصية الله)([154])

ومنها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على أصحابه يوما، فقال: إني رأيت البارحة عجبا! رأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءه وضوؤء فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءته صلاته فاستنقذته من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته اشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه منهم، ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا فجاءه صيام رمضان فسقاه، ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة ورأيت رجلا من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرده عنه، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت: إن هذا كان واصلا لرحمه فكلمهم وكلموه وصار معهم، ورأيت رجلا من أمتي يأتي النبيين وهم حلق حلق، كلما مر على حلقة طرد، فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بياده فأجلسه إلى جنبي، ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار بيديه عن وجهه فجاءته صدقته فصارت ظلا على رأسه وسترا على وجهه، ورأيت رجلا من أمتي جاءته زبانية العذاب فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه اللاتي بكى بها في الدنيا من خشية الله تعالى فأخرجته من النار، ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته إلى شماله فجاءه خوفه من الله فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه، ورأيت رجلا من أمتي خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه، ورأيت رجلا من أمتي على شفير جهنم فجاءه وجله من الله تعالى فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي يرعد كما ترعد السعفة([155]) فجاءه حسن ظنه بالله تعالى فسكن رعدته، ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط مرة ويحبو مرة فجاءته صلاته على فأخذت بيده فأقامته على الصراط حتى جاز، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الابواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله فأخذت بيده فأدخلته الجنة)([156])

هذه هي الصورة الأولى، وهي صورة تنتظم معنى العدالة في أكمل جوانبها، فالعذاب ـ حسب هذه النصوص ـ ليس إلا العمل المتمثل في صورته الحقيقية، فيتعذب صاحبه به إلى أن تكتمل تربيته.

أما الصورة الثانية التي وردت في النصوص، فهي أن الوزن يعود إلى الصحف التي تكون فيها أعمال العباد مكتوبة.

ومما ورد في هذا من النصوص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عما يوزن يوم القيامة فقال: (الصحف)([157])

ومما يؤيد هذا ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:( يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان، ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها مد البصر فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة الميزان، ثم يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله يوضع في الأخرى، فترجح)([158])

وزن أثر العمل:

ومن موازين الله العادلة التي تقام في يوم المحاكمة الأكبر ميزان آثار الأعمال، وهو ميزان مختص بوزن آثار الأعمال التي يقوم بها الإنسان، وهو من دلائل العدل المطلق، وأنه لا يظلم أحد.

وهذا الميزان يستحيل أن تقيم مثله أي محكمة من محاكم الدنيا، ذلك أن محاكم الدنيا ـ في جزائها الإيجابي أو السلبي ـ لا تستطيع أن تمد من تريد أن تجازيه بالعمر الذي يكفي لذلك الجزاء.

ويشير إلى هذا الميزان قوله تعالى:{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (يّـس:12)

ويشير إليه قوله تعالى:{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (العنكبوت:13)، وقوله تعالى:{ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (النحل:25)

فهذه النصوص تخبر أن الله تعالى لا يحاسب على العمل فقط.. بل يحاسب على آثاره سواء كانت سلبية أو إيجابية، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، وَمَنْ دعا إلى ضلالة كان عليه مِنَ الإثم مثل آثام مَنِ اتبعه إلى يوم من غير أن ينقص من آثامهم شيئا)([159])

ويشير إلى هذا الميزان من الحديث من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)([160])

وفي رواية أخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( من سن سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك، ومن سن سنة سيئة فعليه إثمها حتى تترك، ومن مات مرابطا جرى عليه عمل المرابط حتى يبعث يوم القيامة)

وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشر، وويل لعبد جعله الله مفتاحا للشر مغلاقا للخير)([161])

ففي هذا الأحاديث يخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا النوع من الموازين، ذلك أن أثر العمل الصالح لا يقل عن العمل نفسه، وأثر الجريمة لا يقل عن الجريمة نفسها.

وهذا من العدل الذي لا يمكن لبشر أن يطبقه.

فالجريمة عندنا جريمة ترتبط بحادثة معينة تبدأ بها، وتنتهي عندها، فالقاتل يتهم بجريمة واحدة هي قتل ضحيته فقط.. بينما آثار تلك الجريمة قد تكون أخطر بكثير من تلك الجريمة الوحيدة.

وعن هذا عبر قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ليس من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل)([162])

بل إنه ـ يوم القيامة ـ يأتي بعض الناس ممن لم يقتل حشرة، فيحشر في خانة كبار المجرمين.. لا لأنه قتل، ولكن لأنه كتب رواية ملأها بالدماء المسفوكة، أو أخرج فيلما ضمنه ما تختزن نفسه الشريرة من جرائم..

وهكذا بالنسبة للعامل الصالح.. فقد يعمل الرجل العمل الواحد، ويكون له جزاؤه لكن الله الشكور الكريم يشكر عبده، فيجازيه بالآثار الإيجابية لذلك العمل.

وهذا ما يشير إليه قوله تعالى معبرا عن أدعية الصالحين الممثلة لأمانيهم:{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان:74)

فهؤلاء الصالحون لم يقصدوا بالإمامة إلا هذا.. فيكونوا قدوة صالحة لغيرهم.. ثم يجيئون يوم القيامة في موازين حسناتهم.

ومن هذا الباب استحب علماء السلوك المسلمين إظهار الأعمال الصالحة، ليكون الصلاح هو السلوك العام الذي يحكم المجتمع المسلم([163]).

وقريب من هذا ما روي من الأعمال التي لا تنقطع بعد موت صاحبها، فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته)([164])

وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( سبع يجري أجرهن للعبد بعد موته وهو في قبره: من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته)([165])

وهذه الأحاديث وغيرها كانت سببا في ازدهار الحضارة الإسلامية.. فالحضارة الإسلامية لم يقمها الساسة([166])، وإنما أقامها أفراد المجتمع الذين امتلأوا بمثل هذه القيم.. فراحوا يقفون أموالهم كلها في سبيل الله مما نشط العلوم والصحة والنظام.. وقضى على الفقر والتخلف والمرض والجهل.

وزن العامل:

ومن الموازين التي ورد ذكرها في النصوص، والتي تبين عظم العدل الإلهي (وزن العامل).. فالموازين الإلهية لا تكتفي بوزن الأعمال، فقد تصدر مظاهر الخير من قلب مليء بالأمراض، أو قد تصدر بعض الذنوب من القلوب الطيبة، فلذلك يوزن الإنسان نفسه بمقاييس العدالة المطلقة.

ولذلك ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند اللّه جناح بعوضة)([167])، ثم قرأ قوله تعالى:{ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف: 105)

وبخلاف هذا السمين الهزيل قال صلى الله عليه وآله وسلم في عبد الله بن مسعود عندما تعجب الصحابة من دقة ساقيه:( أتعجبون من دقة ساقيه والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد)([168])

ويفهم بسر هذا الميزان ما ورد من النصوص في الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ففي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل، والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الافق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قيل: من هم؟ قال هم الذين: لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)([169])

فهؤلاء الذين نالوا هذا الشرف لم ينالوه إلا بتوكلهم على الله، وثقتهم في الله، ولذلك جوزوا بأن لا يحاسبوا، كما جوزي الصابرون بأن ينالوا من الأجور ما لا يمكن حسابه، قال تعالى:{ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)

فالصابرون الذي ثبتوا في وجه البلاء وكل ما يصرفهم عن الله ـ والذين جعلهم الله حجة على غيرهم ـ ينالون من الأجور ما لا يمكن تصوره.

وقد روي في الأحاديث التي تذكر موازين الآخرة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( تنصب الموازين يوم القيامة، فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصيام فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينتشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صباً بغير حساب)([170])

وزن أجور العمل:

ومن الموازين العادلة التي تنصب في ذلك اليوم الميزان المختص بالأجور، ونحسب أنه آخر الموازين، أو هو نتيجة سائر الموازين، وانطلاقا من نتيجته تكون النجاة أو الهلاك.

وقد روي عن عبد الله بن مسعود قال: يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثم قرأ:{ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)} (المؤمنون)([171])

3 ـ المحاكمة

الصفة الثالثة من صفات الجزاء الإلهي أنه لا يتم إلا بعد محاكمة عادلة تتسم بكل ما تتسم به المحاكمة العادلة من أوصاف.. بل لا يمكن لأي محكمة أن تتسم بما تتسم به محكمة العدل الإلهي.

فمع أن الله تعالى يعلم ما فعله عباده من خير أو شر، إلا أنه تعالى ـ عدلا منه ـ لا يحاسبهم بمجرد علمه، بل يحاسبهم كما يحاسب الند نده.. وذلك من عدل الله ورحمته بعباده.

وسنرى في هذا المطلب بعض ما أقامه الله لهذه المحاكمة العادلة من أركان:

الكتابة:

أول ما تستند إليه هذه المحاكمة العادلة هي الكتب التي كتبها الملائكة ـ عليهم السلام ـ بتوكيل من الله تعالى..

فالله تعالى بحكمته وعدله جعل مع كل إنسان شهودا على أعماله، وجعل لهم سجلات خاصة تتناسب مع طبيعتهم يسجلون فيها حركات الإنسان، وأعماله، ولهذا سماهم الله تعالى (كراماً كاتبين)، فقال تعالى:{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (الانفطار:10 ـ12)

وقد سمى الله تعالى هؤلاء الملكة الكتبة شهودا، فقال:{ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} (قّ:21)

وأخبر عن كلام الملاك الذي يقدم شهادته يوم القيامة بقوله:) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} (قّ:23)، قال مجاهد: هذا كلام الملك السائق يقول: هذا ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته.

وأخبر أن هؤلاء الكتبة يسجلون كل أعمال الإنسان، فقال تعالى:{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (قّ:18)

وقد ورد ما يدل على أن هذين الملكين يقفان في جانبي الإنسان، ليكون لهما من القرب ما يسجلان به كل شيء كما قفعله تماما رعاية للعدل، قال تعالى:{ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} (قّ:17)

وروي في الآثار ما يدل على أن ملك اليمين الذي يكتب الحسنات أمين على صاحب الشمال الذي يكتب السيئات رعاية للعدل والرحمة، قال الأحنف بن قيس:( صاحب اليمين يكتب الخير وهو أمين على صاحب الشمال، فإن أصاب العبد خطيئة قال له: أمسك، فإن استغفر اللّه تعالى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها)([172])

وقد اختلفت الآثار فيما يكتب من أعمال الإنسان، هل ما يتعلق منه بالجزاء فقط، أم كل أعماله، :

فذهب فريق من العلماء إلى أنه يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه، وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يئن في مرضه، فقيل له: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين ([173])، فلم يئن حتى مات.

وذهب آخرون إلى أنه لا يكتب إلا ما يؤجر به أو يؤزر عليه.

وذهب ابن عباس إلى قول وسط، وهو أنه يكتب كل شيء، ثم يمحى ما لا علاقة له بالتكليف، قال ابن عباس:( يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى أنه ليكتب قوله: أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت. حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقَّر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقي سائره، وذلك قوله U:) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (الرعد:39)

وقيل:( يكتب عليه كل ما يتكلم به، فإذا كان آخر النهار محي عنه ما كان مباحا، نحو أنطلق أقعد كل مما لا يتعلق به أجر ولا وزر)

ونرى ـ والله أعلم ـ انطلاقا من عموم النصوص أن هؤلاء الكتبة يكتبون كل شيء، لأن سيرة الإنسان بمجموعها هي التي تعبر عن حقيقته، وتعبر في نفس الوقت عن الملابسات المرتبطة بأدائه للتكاليف.

ونرى ـ كذلك ـ والله أعلم، أن هذه الكتابة أشبه بتصوير الواقع منها إلى الكتابة الوصفية، وربما تكون الكاميرا التي تصور الظاهر والباطن بحيادية تامة أقرب تشبيها من التسجيل الوصفي التعبيري الذي قد تدخل الذاتية في تعبيراته.

وقد روي للدلالة على هذا المعنى عن يحيى بن أبي كثير قال: ركب رجل الحمار، فعثر به فقال: تعس الحمار، فقال صاحب اليمين: ما هي حسنة أكتبها، وقال صاحب الشمال: ما هي من السيئات فأكتبها، فأوحى الله إلى صاحب الشمال: ما ترك صاحب اليمين من شيء فاكتبه، فأثبت في السيئات (تعس الحمار)

فهذا يدل على أن ما ليس بحسنة هو سيئة، وإن كان لا يعاقب عليها، لأن بعض السيئات قد لا يعاقب عليها، وقد تقع مكفرة باجتناب الكبائر، ولكنه صاحبها مع ذلك يكون قد خسر زمانه، حيث ذهبت باطلا، فيحصل له بذلك حسرة في القيامة وأسف عليه، وهو عقوبة من العقوبات.

وقد روي للدلالة على هذه الحسرة التي هي نوع من العقوبات النفسية قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة)([174])، وفي رواية أخرى:( ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم)، وفي رواية أخرى:) من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه إلا كان عليه من الله ترة ومن اضطجع مضطجعا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة)

وعلى هذا التسجيل الكامل لكل أعمال الإنسان في كل لحظة يدل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير إلا حسر عندها يوم القيامة)([175])، فالتعبير بالساعة يدل على أن كل عمر الإنسان يعاد عرضه عليه يوم القيامة بتفاصيله.

وهذا التسجيل ـ كما تشير النصوص ـ لا يكتفي بظواهر الأعمال، بل يعبر منها إلى باطنها، والأحوال الصادرة عنها، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي:( قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له سيئة، فإن تاب منها فامحوها عنه، وإن هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف)([176])

بل يدل عليه عموم قوله تعالى:{ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (الانفطار:12)، فالفعل يطلق على عمل الظاهر والباطن، بل إن التكاليف الشرعية ألصق بالباطن منها بالظاهر.

بل إن الظاهر نفسه لا يصح إلا بالنية، وهي عمل الباطن، وقد ربط صلى الله عليه وآله وسلم أجور الأعمال بالنيات، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( إنما الأعمال بالنية، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)([177])

أما ما روي من أن الملكين لا يسجلان إلا الأعمال الظاهرة استدلالا بحديث واه جدا لفظه:( قال الله تعالى: الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أحب، لا يطلع عليه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده)([178])، فهو لا يقوى لرد الحديث الصحيح الصريح.

الشهادة:

مع أن الكتابة تحصي كل ما فعله الإنسان من خير أو شر أو لغو.. ولكن الله تعالى بعدله لم يكتف بها في تلك المحاكمة العادلة، بل ضم إليها أنواع الشهود.

وقد ورد في النصوص الجمع بين الكتب المحصية للأعمال والشهود، أو التهم والدلائل، حتى لا يؤاخذ العبد إلا بعد إقامة الحجة الكاملة عليه، قال تعالى: { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (الزمر:69)

فالآية الكريمة ذكرت ثلاثة أركان للعدالة، وهي الكتاب الحاوي للتهم، والشهود المثبتة لها، ثم القضاء بينهم بالحق حتى لا يؤاخذ العبد إلا بمقدار جريمته.

والقرآن الكريم يخبرنا عن أنواع الشهود حتى نأخذ حذرنا:

وأولهم الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد، كما قال تعالى:{ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} (قّ:21)، وقال تعالى:{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (قّ:18)، وقال تعالى:{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} (الانفطار)

ومن الشهود الأنبياء، كما قال تعالى حاكياً عن عيسى ـ عليه السلام ـ:{ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المائدة: 117)

وقال في حق محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته في هذه الآية: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143)، وقال:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} (النساء:41)

ومن الشهود كل ما يرتبط بالإنسان أو يمر به أو يعرفه، ويدخل في هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم مخبرا عن الشرف العظيم، والمكانة السامية التي يحتلها الشهود يوم القيامة:( أنا وأُمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد إلا ودَّ أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عزّ وجلّ)([179])

ويدخل في هذا الباب قوله تعالى عن الأرض:{ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} (الزلزلة:4)، أي: تحدث بما عمل العاملون على ظهرها.

وقد ورد في الحديث: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية:{ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} (الزلزلة:4) قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عَمِل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها)([180])

وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( تحفظوا من الأرض، فإنها أمكم، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرًا أو شرًا، إلا وهي مُخبرة)([181])

الدفاع:

بعد كل هذا، فإن الله تعالى ـ بعدله ـ يتيح كل الفرص للإنسان للدفاع عن نفسه، حتى أن له الحق في الطعن في الشهود أنفسهم، حتى لو كانوا ذوي مكانة عالية، ففي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلَّغت؟ فيقول نعم، فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته، قال فذلك قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: 143) قال: والوسط العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم)([182])

وفي حديث آخر تصوير مفصل لمحاورات ذلك المشهد، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( يجيء النبي يوم القيامة، ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعي قومه فيقال: هل بلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول نعم: فيقال من يشهد لك، فيقول محمد وأمته فيدعى محمد وأمته: فيقال لهم هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون نعم. فيقال وما علمكم؟ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: 143)، قال عدلاً { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة: 143))([183])

لكن بعض المتهمين من أهل جهنم يستغل هذه الفرصة المتاحة له ـ والتي لم يكن يظفر بمثلها في محاكم الدنيا ـ فلا يكتفي برفض كل الشهود، مع كونهم صفوة الله من عباده، بل يحتال بالكذب الذي كان يحتال به في الدنيا، بل يحتال بالقسم بالله الذي كان لا يعترف به، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام:23)، وقد قال ابن عباس في تفسيرها:( إنهم لما رأووا يوم القيامة أن اللّه لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا يغفر شركاً، جحد المشركون فقالوا:{ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِين })([184])

وحينما يبلغ إنكارهم للشهود منتهاه، ويجادلون في الطعن فيهم كما كانوا يجادلون في الدنيا يأتيهم الله تعالى بما لا يطيقون دفعه، فيقيم عليهم الحجة من أنفسهم، قال تعالى:{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يّـس:65)

فهذه الآية تشير إلى أن هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم اللّه على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت.

وقد صور لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض مشاهد ذلك، وهي تدل على قمة العدالة التي تتيح للمجرم أن يناقش القاضي الأكبر ملك يوم الدين ويجادله وهو يعلم أنه لا يعزب عنه من مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فعن أنَس بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:( أتدرون مم أضحك؟) قلنا:( اللّه ورسوله أعلم)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: لا أجيز عليَّ إلا شاهداً من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل)([185])

فقول المتهم في الآخرة:( رب ألم تجرني من الظلم) يدل على الضمانات الكثيرة التي أخذها العباد لإقامة العدالة المطلقة في ذلك اليوم، وقوله:( فعنكن كنت أناضل) دليل على مدى الحرية التي أتيحت له للدفاع عن نفسه.

وقد ورد في بعض الأحاديث إشارة إلى هذا الصنف الذي تستنطق جوارحه، وهم المنافقون الذين حاولوا أن يحتالوا على قلب الحقائق في الدنيا، وخداع الخلق بها، فلذلك تبقى هذه الأحبولة في أيديهم يوم القيامة، ويتصورون أنهم سيخادعون الله كما خادعوا الخلق،، قال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث القيامة الطويل:( ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت وصلّيت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع ـ قال ـ فيقال له ألا نبعث عليك شاهدنا؟ ـ قال: فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه، فيختم على فيه، ويقال: لفخذه انطقي ـ قال ـ فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك الذي يسخط اللّه تعالى عليه)([186])

وحينذاك يندم الجاحد على جحوده، ويود لو أنه اعترف في البدء لعل ذلك أن يخفف عنه، وهذا هو وجه الجمع بين قوله تعالى:{ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء:42) والتي تفيد بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا يكتمون منه شيئاً، وبين ما رأيناه من صنوف الإنكار.

وقد روى سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال له:( سمعت اللّه عزّ وجل يقول ـ يعني أخباراً عن المشركين يوم القيامة ـ إنهم قالوا:{ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام: 23)، وقال في الآية الأخرى:{ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء: 42)، فقال ابن عباس ( أما قوله:{ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }، فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام، قالوا: تعالوا فلنجحد، فقالوا::{ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }  فختم اللّه على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء: 42)([187])

الشفاعة:

وكما أن المحاكمة العادلة تقتضي توفر المحامين الذين يدافعون عن المتهم، فإن الله تعالى بعدله نصب المحامين الكثيرين من عباده، والذين سماهم الشفعاء.

ولكن هؤلاء الشفعاء لا يشفعون إلا فيمن رضي الله أن يشفع فيه، فهناك من الجرائم ما لا يمكل معه هؤلاء الشفعاء شيئا، قال تعالى:{ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} (طه:109)، وقال:{ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 23)، وقال:{ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الزخرف:86)

ومع أن الشفاعة التي ورد ذكرها في النصوص من باب رحمة الله تعالى بعباده قد أسيء فهمها من كثير من العوام، إلا أن فيها آثار نفسية طيبة لا يمكن تجاهلها، وقد أشار إلى بعض هذه الآثار العلامة الجليل ناصر مكارم الشيرازي.

فمن الآثار التي ذكرها مكافحة روح اليأس في نفس المعتقدين بها، ذلك أن مرتكبي الجرائم الكبيرة يعانون من وخزالضمير، كما يشعرون باليأس من عفو اللّه، ولذلك لا يفكرون بالعودة، ولا بإعادة النظر في طريقة حياتهم الاثمة، وقديدفعهم المستقبل المظلم الى التعنت والطغيان، وإلى التحلل من كل قيد تماما، كالمريض اليائس من الشفاء الذي يتحلل من أي نظام غذائي، لاعتقاده بعدم جدوى التقيد بنظام.

ومنها أن قلق الضمير الناتج عن هذه الجرائم قد يؤدي الى اختلالات نفسية، وإلى تحفيز الشعور بالانتقام من المجتمع الباعث على تلوثه، وبذلك يتبدل المذنب الى عنصر خطر، وإلى مصدر قلق اجتماعي، والإيمان بالشفاعة يفتح أمام الانسان نافذة نحو النور، ويبعث فيه الامل بالعفو والصفح، وهذا الامل يجعله يسيطر على نفسه، ويعيد النظر في مسيرة حياته، بل ويشجعه على تلافي سيئات الماضي.

ومنها أن الايمان بالشفاعة يحافظ على التعادل النفسي والروحي للمذنب، ويفسح الطريق أمامه إلى أن يتبدل إلى عنصر سالم صالح.

وختم هذه الآثار بقوله:( من هنا يمكن القول أن الاهتمام بالشفاعة بمعناها الصحيح عامل رادع بناء، قادر على أن يجعل من الفرد المجرم المذنب فردا صالحا، وانطلاقا من هذا الفهم نجد أن مختلف قوانين العالم وضعت فسحة أمل أمام المحكومين بالسجن المؤبد باحتمال العفو بعد مدة إن أصلحوا انفسهم، كي لا يتسرب اليأس إلى نفوسهم بذلك ويتبدلوا الى عناصر خطرة داخل السجن أو يصابون باختلالات نفسية)([188])

4 ـ التوافق

الصفة الرابعة للجزاء الإلهي هي أنه جزاء متوافق تماما مع نوع العمل، كما قال تعالى:{ جَزَاءً وِفَاقاً } (النبأ:26)، أي: هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وَفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا ([189]).

بل إن النصوص الكثيرة تدل على أن الجزاء المعد في الآخرة هو الصورة المجسدة للكسب، كما قال تعالى:{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (الأنعام:31)

وقد ورد في بعض الآثار في تفسير هذه الآية:( يستقبل الكافر أو الفاجر عند خروجه من قبره كأقبح صورة رأيتها أنتنه ريحاً، فيقول: من أنت؟ فيقول: أو ما تعرفني؟ فيقول: لا واللّه، إلاّ أنَّ اللّه قبح وجهك وأنتن ريحك، فيقول: أنا عملك الخبيث، هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه، فطالما ركبتني في الدنيا، هلم أركبك)([190])

وإلى ذلك أيضا يشير قوله تعالى:{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (آل عمران:161)

وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لرجل استعمله على الصدقة، فجاء فقال:( هذا لكم وهذا أهدي لي)، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، فقال:( ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، وإن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر؟؟، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت؟ ثلاثاً([191]).

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة محتقرين ممتلئين ذلة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر، في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الانيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال)([192])

ولذلك وردت آيات القرآن الكريم تربط بين أصناف الجزاء والأعمال المتعلقة بها، سواء كان ذلك الجزاء في الدنيا أو الآخرة:

في الدنيا:

أما في الدنيا، فقد ورد في النصوص الكثيرة بيان بعض جزاء الله لعباده على أعمالهم ليكون ذلك إشارة إلى ما ينتظرهم في الآخرة من الجزاء الخالص.

أما أجزية المؤمنين، فقد ورد في القصص القرآني ما يشير إلى ما تعرض له الصالحون من فضل الله في الدنيا جزاء وفاقا على أعمالهم الصالحة:

فقال تعالى عن يوسف u:{ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:56)، فقد ذكرت الآية الكريمة أن سبب استحقاقه للتمكين هو الإحسان الذي لا يضيع جزاؤه عند الله تعالى.

وقال تعالى عن نوح u:{ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} (الاسراء:3) فقد عقب الجزاء بكونه عبدا شكورا.

وقال تعالى عن آل لوط u:{ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} (القمر:34) ثم قال بعدها:{ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} (القمر:35)

وقال تعالى عن الصابرين من بني إسرائيل:{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (لأعراف:137)، فهذا الجزاء الكريم ثمرة من ثمار صبرهم.

وبمثل ذلك، وعلى ضده جاء الإخبار عن الكفار من السابقين من قوم نوح وعاد وثمود وفرعون ولوط ومدين وغيرهم الذين أهلكوا بذنوبهم في الوقت الذي نجى الله فيه الأنبياء ومن اتبعهم بإيمانهم وتقواهم، كما قال تعالى مبينا تلك السنة:{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (لأعراف:165) فالجزاء الذي تعرضوا له هو نتيجة طبيعية لفسقهم.

أو هو نتيجة حتمية لظلمهم، كما قال تعالى:{ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (العنكبوت:40)، وقال تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (العنكبوت:14)

أو هو نتيجة حتمية لبغيهم، كما قال تعالى:{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (الأنعام:146)

أو هو نتيجة حتمية لكفرهم، كما قال تعالى:{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (سـبأ:17)، وقال تعالى:{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (لأنفال:52)، وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (غافر:22)

أو هو نتيجة حتمية لتكذيبهم، كما قال تعالى:{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (آل عمران:11)، وقال تعالى:{ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (النحل:113)، وقال تعالى:{ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء:189)

أو هو بعبارة جامعة نتيجة حتمية لذنوبهم، كما قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} (غافر:21)، وقال تعالى:{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} (لأنفال:54)

وأول ذنوبهم وأخطرها هو معصية الرسل الذين كلفوا بتبليغهم رسالات الله، وقال تعالى:{ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} (الحاقة:10)، وقال تعالى:{ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:139)

وقد يعترض بعد هذا بأن من الكفار من يعيش مرغدا ويموت مترفا لا يصيبه جرائر ذنوبه ولا تهلكه كثرة معاصيه.

فهل لهذا المتمرد من الوجاهة ما جعله بمنأى من عدالة الجزاء الإلهي؟

وما السر في هذا التمييز الذي تحيرت له الألباب، بل صار فتنة تصد القلوب عن دين الله.

والجواب عن هذا الاعتراض هو أن عدالة الله المطلقة، ورحمته التامة الشاملة، والتي سبقت غضبه تتيح لهذا المتمرد من الفرص، وتبلغه من الحجج ما يكفي لعودته، فإن استمر على بغيه أخذ أخذ عزيز مقتدر بمجرد تسليم روحه.

ولذلك علل الله تعالى عدم تعجيله بالعقوبة بمغفرته ورحمته، فقال تعالى:{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} (الكهف:58)

وأخبر تعالى أن كل القرى التي نزل عليها العذاب لم ينزل عليها إلا بعد الإمهال الكافي لإقامة الحجة، قال تعالى:{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} (الرعد:32)، وقال تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} (الحج:48)

ويضرب تعالى الأمثلة على ذلك بالأمم التي أصابها العذاب، ولم يصبها إلا بعد فترة طويلة من الإمهال وإقامة الحجة، قال تعالى مسلياً نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في تكذيب من خالفه من قومه:{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} (الحج:44)

وقد ذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه:{ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعـات: 24) وبين إهلاكه أربعون سنة)

بل قد أخبر القرآن الكريم أن الله تعالى أمهل قوم نوح u كل تلك الآماد الطويلة، وبعد تلك الفرص الكثيرة، قال تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (العنكبوت:14)

فالإمهال إذن رحمة من الله، أو هو فرصة ممنوحة من الله للظالمين، قد يستغلونها بالرجوع إلى الله، وقد ينتكسون بأن يضاعف لهم العذاب، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، ثم قرأ قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود:102))([193])

والأمر الثاني أن امتحان الخلق يقتضي ستر أكثر ما يتعرض له الخلق من الجزاء، لأن تعجيل الجزاء قد يجعل الخلق جميعا في صف واحد، صف الخير أو صف الشر بحسب الجزاء، كما قال تعالى:{ وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف:33) أي لولا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال لجعلنا للذين كفروا ذلك الترف الموصوف في الآية.

ولهذا ورد في النصوص الكثيرة الإخبار بأن ما أعطي الكفار من النعيم لا يدل على مرضاة الله، بل قد يدل على سخطه،، قال تعالى مصححا فهوم الكفار الخاطئة:{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون:55 ـ 56)، وقال تعالى:{ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (آل عمران:178)

ولهذا ورد بعد هذه الآية الإخبار بأن هذا الابتلاء هو الذي يميز الخبيث من الطيب، ويميز بين الراغب في الله، والراغب في المتاع الأدنى، قال تعالى:{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:179)

ففي الآية الكريمة إشارة إلى أن تعجيل الجزاء قد يؤثر في الابتلاء، ولذلك قال تعالى:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } 

ولهذا يرد في القرآن الكريم الإخبار بأن الجزاء الحقيقي هو الجزاء المعد في الآخرة، قال تعالى مخبرا عن جزاء المؤمنين:{ وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } (الزخرف: 35) وقد ورد هذا المعنى عقب ذكر زخارف الحياة الدنيا التي يتهافت عليها الغافلون.

وفي نفس الوقت ينهى تعالى المؤمنين من الإعجاب بما أوتي الكفار من النعيم، قال تعالى:{ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } (التوبة:55)

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم ينبه إلى عدم الاغترار بهذه المظاهر التي يغتر بها الغافلون، ويتصورون أنهم على أساسها بمكان من الله تعالى، فقد علل صلى الله عليه وآله وسلم تحريم الذهب والفضة بقوله:( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة)([194])

فما أمهل به هؤلاء الغافلون ليس دليلا على أي تفضيل لهم، يقول صلى الله عليه وآله وسلم:( لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء أبدا)([195])

فهذا الإمهال ـ إذن ـ كما ينطوي على معاني الرحمة والعدل، وينطوي على معاني الانتقام ممن لم يعرف للنعمة حقها ولا للإمهال حقه، ينطوي كذلك على سر الامتحان الذي يقتضي ستر الجزاء حتى لا يكون الناس أمة واحدة في الخير أو في الشر.

في الآخرة:

أما في الآخرة، فإن الله تعالى يربط بين الجزاء المعد للكفار والعصاة، وبين أعمالهم، كما يربط بين الجزاء المعد للمؤمنين، وبين أنواع أعمالهم، فكلا من السعادة والشقاوة في الآخرة منوط بالأعمال:

أما ارتباط الجزاء المعد للمؤمنين بالعمل، فتنص عليه الآيات الكثيرة في معرض التهنئة للمؤمنين على أعمالهم، قال تعالى:{ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الطور:19) وقال تعالى:{ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (الحاقة:24) وقال تعالى:{ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (المرسلات:43)

ويذكر القرآن الكريم فرح المؤمنين بما قدموه من أعمال بعد أن رأوا أنواع الجزاء المعدة لهم، قال تعالى:{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (لأعراف:43)

وعدل الله المرتبط برحمته، لا ينقص لهم أي جزاء يجازيهم به، ولو أضيف من ذلك الجزاء لأبنائهم، قال تعالى:{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } (الطور:21)

ويربط الله تعالى بين صبرهم على تحقيق حكمة الله من خلقهم وبين جزائهم، فيقول تعالى:{ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (المؤمنون:111) ويقول تعالى:{ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} (الانسان:12)

ولا يتعارض هذا مع ما ورد من النصوص من أن دخول الجنة هو بمحض الرحمة، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( لن يدخل أحداً منكم عملُه الجنةَ)، قالوا:( ولا أنت يا رسول اللّه؟)، قال:( ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه تعالى برحمة منه وفضل)([196])

بل كما أخبر تعالى عن مقالة المؤمنين بعد دخولهم الجنة من أنهم يقولون:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} (فاطر:34 ـ 35)

فإن أقل نعمة من نعم الله تعالى على عباده لا تكفئها جميع طاعات العبد، بل إن الطاعة نفسها نعيم من نعم الله، فكيف يكون النعيم جزاء على النعيم، وقد ورد في الحديث عن جابر قال: خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: خرج من عندي خليلي جبريل آنفا فقال: يا محمد! والذي بعثك بالحق إن لله عبدا من عباده عبد الله تعالى خمسمائة سنة على رأس جبل في البحر عرضه وطوله ثلاثون ذراعا في ثلاثين ذراعا والبحر المحيط به بأربعة آلاف فرسخ من كل ناحية، وأخرج الله له عينا عذبة بعرض الاصبع تبيض بماء عذب فتستنقع في أسفل الجبل، وشجرة رمان تخرج في كل ليلة رمانة فتغذيه يومه، فإذا أمسى نزل فأصاب من الوضوء وأخذ تلك الرمانة فأكلها ثم قام لصلاته فسأل ربه عند وقت الاجل أن يقبضه ساجدا وأن لا يجعل للارض ولا لشئ يفسده سبيلا حتى يبعثه وهو ساجد، ففعل، فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا، فنجد له في العلم أنه يبعث يوم القيامة

فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول له الرب تبارك وتعالى: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: يا رب! بل بعملي، فيقول الله: حاسبوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله، فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة وبقيت نعمة الجسد فضلا عليه، فيقول: ادخلوا عبدي النار، فيجر إلى النار فينادي: رب! برحمتك أدخلني الجنة، فيقول: ردوه، فيوقف بين يديه فيقول: يا عبدي! من خلقك ولم تكن شيئا؟ فيقول: أنت يا رب! فيقول: من قواك لعبادة خمسمائة سنة؟ فيقول: أنت يا رب! فيقول: من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح وأخرج لك كل ليلة رمانة وإنما تخرج في السنة مرة؟ وسألتني أن أقبضك ساجدا ففعلت ذلك بك؟ فيقول: أنت يا رب! فقال الله: فذلك برحمتي، وبرحمتي أدخلك الجنة، قال جبريل: إنما الاشياء برحمة الله يا محمد([197]).

وهذه النظرة النافية للغرور هي التي تقي المؤمن من انحراف بعض الناس الذين جرهم فهمهم الخاطئ لمعنى العدل الإلهي إلى أن يطلبوا الجزاء من الله، كما يطلبه الأجير من المستأجر، متكلين على حولهم وقوتهم وعملهم.

وكأنهم يتصورون أن الجنة عوض حقيقي عن العبادة، أو كأن العبادة عوض حقيقي ينتفع به الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا، فالله تعالى غني عن العالمين إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساؤا فلها، لهم ماكسبوا وعليهم ما اكتسبوا، من عمل سالحا فلنفسه ومن أساء فعليها.

وقد ورد في الحديث القدسي الجليل قول الله تعالى لعباده:( ياعبادى أني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ياعبادى أنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفرالذنوب جميعا ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم يا عبادى كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم ياعبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ياعبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ياعبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكى شيئا ياعبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم مانقص ذلك من ملكي شيئا ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم إجتمعوا في صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك في ملكي شيئا إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)([198])

فهذا الحديث الجامع لحقيقة علاقة الله بعباده هو الأساس الذي يفهم به المؤمن المراد من العدل الإلهي المزين بالرحمة الإلهية.

ولهذا دأب الصالحون إلى التنبيه إلى هذا المعنى، والتحذير من معاملة الله كمعاملة الأجير للمستأجر، وقد روي أن محمدا بن واسع اجتمع بمالك بن دينار، فقال ابن دينار: إما طاعة اللّه أو النار، فقال ابن واسع: إما رحمة اللّه أو النار، فقال ابن دينار:( ما أحوجني إلى معلم مثلك)، وقال البسطامي:( كابدت العبادة ثلاثين سنة فسمعت قائلاً يقول:( يا أبا يزيد خزائنه مملوءة من العبادة إن أردت الوصول إليه فعليك بالذلة والافتقار)

وإلى هذا المعنى تشير كثير من حكم ابن عطاء الله كقوله:( من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل)، وقوله:( لا تفرحك الطاعة لأنها برزت منك، وافرح بها لأنها برزت من اللّه:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس:58))

ولكن العدل الإلهي مع ذلك يقتضي اختلاف أصناف العاملين، ولو دخلوا جميعا برحمة الله إلى الجنة، فلا يستوي الطائع والمقصر، ولا القريب مع البعيد.

ولعله لأجل هذا خوطب المؤمنون في الجنة وهنئوا بأن أعمالهم هي التي أهلتهم لذلك، فقد ورد ذلك عند ذكر المقربين الطيبين، كما قال تعالى:{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل:32)

وفي سورة الرحمن بعد ذكر نعيم المقربين قال تعالى:{ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} (الرحمن) بينما لم يذكر ذلك عند نعيم غيرهم.

وفي سورة الواقعة بعد ذكر نعيم المقربين قال تعالى:{ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} (الواقعة)، وعندما ذكر نعيم غيرهم من أهل اليمين لم يذكر ذلك.

وبذلك، فإن الأعمال لم تؤهلهم لدخول الجنة، وإنما أهلتهم لدرجات الجنة، كما قال عبد الله بن مسعود 🙁 تجوزون الصراط بعفو الله، وتدخلون الجنة برحمة الله، وتقتسمون المنازل بأعمالكم)([199])

وقد نص القرآن الكريم في مواضع كثيرة على استحقاق المؤمنين للدرجات بحسب أعمالهم، فقال تعالى:{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:132)

بل أخبر أن درجات الجنة أكثر بكثير من درجات التفاضل في الدنيا، قال تعالى:{ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (الاسراء:21)

وأخبر أن الدرجات العليا من استحقاق من تحققوا بحقيقة الإيمان، فقال تعالى:{ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (لأنفال:4)

وهذا القانون الذي يتقاسم المؤمنون على أساسه نعيم الجنة ودرجاتها هو نفس القانون الذي يتقاسم به أهل جهنم دركات النار، والذي عبر عنه قوله تعالى:{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (الاحقاف:19)

فلا يتساوى أهل جهنم في العذاب كما لا يتساوى المؤمنون في النعيم، بل لكل حسب عمله وجهده ووسعه، قال تعالى:{ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (الاسراء:21)

هذا عن نعيم أهل الجنة.. وعلاقة عملهم بها..

أما ارتباط الجزاء المعد لأهل جهنم من الكفار والعصاة بالعمل، فتنص عليه الآيات القرآنية الكثيرة في مواضع مختلفة:

منها أن يعرض ذلك على صيغة الوعيد الإلهي الذي لا يتخلف، قال تعالى:{ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يونس:8)

أو أن يعرض على صيغة التبكيت والسخرية، كقوله تعالى:{ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (التوبة:82)، أو قوله تعالى:{ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الحجر:84)، أو قوله تعالى:{ وقال تعالى:{ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المطففين:36)

أو على صورة إجابة أهل النار أنفسهم، كما في هذا المشهد القرآني، قال تعالى:{ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ }  (المدثر:42 ـ 47)

وهذا يدل على قناعة أهل النار باستحقاقهم لها على مقتضى العدل الإلهي، فعدل الله تعالى الذي يقيم عليها أصناف الحجج، ويدع لهم فرص الدفاع عن أنفسهم بما شاءوا من الأساليب يضطرهم في الأخير إلى التسليم، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف:49)

فهذه الآية الكريمة تدل على ان الكفار يرون أعمالهم، وهي توزن، فيتعجبون من إحصاء الله لكل شيء مع إقرارهم بما عملوه.

ومن عدالة الله في أهل جهنم أن جعل لكل ذنب جزاءه الخاص وعقوبته التي تتناسب معه، فلا يعاقب العبد إلا بما عمل، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي:( ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) ([200])

ولذلك جعل الله تعالى جهنم دركات مختلفة بعضها فوق بعض، كما قال تعالى:{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (الاحقاف:19)

ومن الأخطاء التي تتداول بين العامة، وينشرها بعض الوعاظ، وتمتلئ بها بعض كتب الزهد والرقائق والتي لا تتناسب مع العدالة ما يذكر من ترتيب أهل الطبقات بحسب أديانهم، فيجعلون فى الدرك الأعلى المحمديون، وفى الثانى النصارى، وفى الثالث اليهود، وفى الرابع الصابئون، وفى الخامس المجوس، وفى السادس مشركو العرب، وفى السابع المنافقون ([201]).

فهذا الترتيب يحصر أهل جهنم في أصناف محدودة، بالإضافة إلى أنه يسوي أصحاب كل دين في مرتبة واحدة، مع أن بعضهم قد يكون أفضل من بعض، وقد نطق القرآن الكريم بالتفريق بين أهل الدين الواحد، فقال تعالى:{ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران:113)

وقال في الفرق بين الطرق المختلفة لتعاملهم:{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ} (آل عمران: 75)

بل ورد في السنة ما يدل على أن أهل جهنم مقسمون بحسب نفسياتهم وأسباب إعراضهم عن الله، وذلك في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( المرء مع من أحب) ([202])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:( خمس صلوات من حافظ عليهن كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له نور يوم القيامة ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف) ([203])

ويدل على هذا ما روي من تقسيم أصناف علماء السوء على طبقات جهنم:( من علماء السوء من إذا وعظ عنف وإذا وعظ أنف فذاك فى أول درك من النار، ومن العلماء من يأخذ علمه مأخذ السلطان فذلك فى الدرك الثانى من النار، ومن العلماء من يحرز علمه فذلك فى الدرك الثالث من النار، ومن العلماء من يتخير الكلام والعلم لوجوه الناس ولا يرى سفلة الناس له موضعا فذلك فى الدرك الرابع من النار، ومن العلماء من يتعلم كلام اليهود والنصارى وأحاديثهم ليكثر حديثهم فذلك فى الدرك الخامس من النار، ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا يقول للناس سلونى فذلك الذى يكتب عند الله متكلفا والله لا يحب المتكلفين فذلك فى الدرك السادس من النار، ومن العلماء من يتخذ علمه مروءة وعقلا فذلك فى الدرك السابع من النار) ([204])

فكل صنف من هذه الأصناف يدل على حال نفسية معينة تقتضي عذابا معينا، وإن كان صاحبها في الظاهر عالما جليلا، وقد كان يحيى بن معاذ يقول لعلماء الدنيا:( يا أصحاب القصور قصوركم قيصرية وبيوتكم كسروية وأبوابكم ظاهرية وأخفافكم جالوتية ومراكبكم قارونية وأوانيكم فرعونية ومآثمكم جاهلية ومذاهبكم شيطانية فأين المحمدية)

ولذلك فإن الأعمال الصالحة للكفار، والتي لم تمكنهم من دخول الجنة بسبب كفرهم وعدم إرادتهم بها وجه الله قد تخفف عنهم بعض العذاب، فلا يستوي ـ ولو في جهنم ـ المحسن والمسيء، وقد قال سعيد بن جبير في قوله تعالى: { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} (النساء: 40):( فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ولا يخرج من النار أبداً)([205])

وروي من وجه آخر أن الأعمال الحسنة للكفار يجازون عليها في الدنيا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن اللّه لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة)([206])

ولكن هذا ـ كما ذكرنا سابقا ـ لا يلغي جزاء الآخرة، خاصة إن لم يجاز هذا الكافر في الدنيا على ما قدمه من خير.

بعد هذا، فإن عدالة الله المطلقة ورحمته التامة الشاملة اقتضت أن لا يخلد في النار من كان في قلبه ولو مثقال حبة خردل من إيمان، قال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الشفاعة الطويل:( يقول اللّه عزَّ وجلَّ ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار)([207]) ؛ وفي لفظ آخر:( أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار، فيخرجون خلقاً كثيرا)، ثم يقول أبو سعيد: اقرأوا إن شئتم:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:40)

ولكن هذه الرحمة التي ينالها هؤلاء لا تكون على حساب العدل الذي يقتضي أن ينال كل ذي حق حقه، فلذلك وردت النصوص بأن حقوق العباد لا يتسامح فيها، بل يأخذ المظلوم حقه كاملا غير منقوص.

وهذا مايشير إليه قوله تعالى:{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر:31)، فالله تعالى يتيح في ذلك اليوم لكل ذي حق أن يستقدم من يشاء ليطالبهم بحقه.

وقد ورد في الحديث تصوير لبعض مشاهد العدل في أداء الحقوق لمستحقيها، وذلك حين سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة، فقال:( أتدرون من المفلس؟)، فقالوا:( المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)([208])

فعدالة الله المطلقة تقتضي أن لا يضيع أي حق من الحقوق مهما كان، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم:( من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)([209])

بل إن النصوص أخبرت بعدالة الله الشاملة للحيوانات حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء ([210])، وفي الحديث القدسي عن الجنة، يقول اللّه تعالى:( وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم)([211])، وهو ما ينص عليه قوله تعالى:{ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} (طـه: 111)

* * *

قد يقال بعد هذا: كيف يكون الجزاء عادلا، والعباد يجازون على أعمال فانية بجزاء غير فان([212]).

فكيف تتحكم الثواني المعدودة من عمر الزمن الممتد في جزاء لا ينتهي أمده؟

والجواب عن هذا، بأن جزاء المؤمنين لا إشكال فيه، لأن نفس دخولهم الجنة برحمة الله، وإنما العدل في تقاسمها بينهم على أساس أعمالهم، وقد أشرنا إلى هذا في محله.

والقرآن الكريم يخبرنا عن الارتباط الوثيق بين العدل بالرحمة في جميع أنواع الجزاء، فلذلك تضاعف الحسنات، ولا تجازى السيئات إلا بمثلها، قال تعالى عن جزاء الحسنات:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:40)

وقال تعالى عن جزاء السيئات:{ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (يونس:27)

وقال جامعا بينهما:{ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (الأنعام:160)

زيادة على هذا، فإن النعيم الحقيقي الخالي من المنغصات يقتضي الخلود، فتذكر الفناء كاف في تنغيص أي نعيم، وفي تكدير أي لذة، فلذلك تقتضي رحمة الله، أن ينعم المؤمنون نعيما خاليا من الغصص، وهو لا يكون إلا مع الخلود.

يقول النورسي:( ان رحمة خالق الكون وهو الرحمن الرحيم تدل على السعادة الأبدية، نعم ان التي جعلت النعمة نعمة فعلاً وانقذتها من النقمة، ونجَّت الموجودات من نحيب الفراق الابدي.. هي السعادة الخالدة ودار الخلود، وهي من شأن تلك الرحمة التي لا تحرم البشر منها، اذ لو لم توهب تلك السعادة ودار الخلود التي هي رأس كل نعمة وغايتها ونتيجتها الأساس، أي ان لم تبعث الدنيا بعد موتها بصورة (آخرة).. لتحولت جميع النِعَم الى نقم.. وهذا يستلزم إنكار الرحمة الإلهية المشهودة الظاهرة بداهة وبالضرورة في الكون، والثابتة بشهادة جميع الكائنات والتي هي الحقيقة الثابتة الواضحة وضوحاً أسطع من الشمس)([213])

أما الكافرون، فإن التصور الخطير الذي يحملونه عن الكون كاف في تخليدهم في العذاب، وإلا لتساوى الكافر مع المؤمن، وهو ما لا تقتضيه العدالة.

وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (فاطر:36)، فقد علل تعالى خلودهم فيها بكفرهم سواء بذكر وصفهم، أو بذكر القانون الإلهي الذي حكم عليهم بذلك.

يقول النورسي معللا سر خلود الكفار في العذاب:( أيها الانسانُ! اِنّ فيك جهتين: جهةُ الايجاد والوجودِ والخير والايجابية والفعل، والاخرى جهةُ التخريب والعدم والشر والسلبية والانفعال.

فعلى اعتبار الجهة الاولى (جهة الايجاد) فانك أقلُّ شأناً من النحلة والعصفور وأضعفُ من الذبابة والعنكبوت. أما على اعتبار الجهة الثانية (جهة التخريب) فباستطاعتك ان تتجاوز الأرضَ والجبال والسموات، وبوسعِكَ ان تحمل على عاتقك ما أشفقن منه فتكسبَ دائرةً أوسعَ ومجالاً أفسح؛ لأنك عندما تقوم بالخير والايجاد فانك تعمل على سعةِ طاقتك وبقدر جهدك وبمدى قوتك، أما اذا قمتَ بالإساءةِ والتخريب، فإن اساءتكَ تتجاوز وتستشري، وان تخريبَك يعم وينتشر)([214])

ويضرب المثل على ذلك من الواقع بأن الانسان يستطيع هدمَ بيتٍ في يوم واحد الاّ أنه لا يستطيع أن يشيّده في مائة يوم.

ومثل ذلك الكفر، فهو سيئة واحدة، ولكنها ( تُفضي الى تحقير جميع الكائنات وازدرائها واستهجانها، وتتضمن أيضاً تزييف جميع الاسماء الإلهية الحسنى وإنكارها. وتتمخّض كذلك عن إهانة الانسانية وترذيلها؛ ذلك لأن لهذه الموجودات مقاماً عالياً رفيعاً، ووظيفةً ذات مغزى، حيث انها مكاتيب ربانية، ومرايا سبحانية، وموظفات مأمورات إلهية. فالكفر فضـلاً عن إسقاطهِ تلك الموجودات من مرتبة التوظيف ومنزلة التسخير ومهمة العبودية، فانه كذلك يُرديها الى درك العَبَث والمصادفة ولا يرى لها قيمةً ووزناً بما يعتريها من زوالٍ وفراق يبدّلان ويفسّخان بتخريبهما وأضرارهما الموجودات الى مواد فــانيـة تافهة عـقيــمة لا أهمية لها ولا جدوى منها)([215])

ولذلك كان هذا التخريب العظيم لكل حقائق الكون مقتضيا للخلود في العذاب، يقول النورسي:( فالذين لايعرفون هذا الرحمن الرحيم ولايسعون بالعبودية لحبّه، بل يضلون الى الانكار فيضمرون نوعاً من العداء تجاهه.. هؤلاء ليسوا الاّ شياطين في صور أناسي، وفي حكم نماردة صغار وفراعنة صُغر. ولاشك أنهم يستحقون عذاباً خالداً لانهاية له)([216])

هذا ما تقتضيه العدالة أما ما تقتضيه الرحمة، فهو شأن آخر، وسنعرض له في محله من الباب الرابع.

* * *

بعد هذه الجولة في رحاب النصوص المقدسة، فإن المصير الذي ينتظر الخلق لا يكون إلا من صنع أيديهم، ولذلك فإن المجتهد لا يقعد بسبب ما توهمه خياله مما كتب له، بل يحاول ان يملي على الكتبة من الملائكة ما يرضاه من كتاب، فالله تعالى لا يحاسبه على الكتاب السابق، بل يحاسبه على الكتاب الذي كتبه بعمله.

ولذلك فإن القرآن الكريم يرجع كل ما يحصل من خير او شر للبشر إلى أيديهم وأنفسهم، قال تعالى:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (لأنفال:53)

ويعلل ذلك بأنه مقتضى العدل، قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (يونس:44)، ويقول تعالى:{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (آل عمران:182)

وبمثل جزاء الشر يكون جزاء الخير، يقول تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (لأعراف:96)


([1]) رواه أحمد وابن حبان.

([2]) انظر علاقة العدل بالصحة الحسدية والنفسية في سلسلة (ابتسامة الأنين)، بل إن بعض الأطباء اعتبر حديث النصوص عن الموازين إعجازا طبيا.

([3]) رواه مسلم.

([4]) المقصد الأسنى:98.

([5]) فالله تعالى استدل ـ مثلا ـ على رحمته بآثارها، حيث قال:{ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الروم:50)

ونحسب أن الغزالي استنبط كلامه في تحقيق معنى العدل من قوله تعالى في تحقيق معنى الرحمة:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} (القصص:71)

([6]) انظر: كتاب العلم يدعو إلى الإيمان أ. كريسي مورسون رئيس أكاديمية العلوم في واشنطن

([7]) يقصد بالأولية في علم الفلك بأنه شيء يدور حول جسم آخر، فالأولية للأرض هي الشمس، والأولية للقمر هي الأرض.

([8]) نعلم أن في المجموعة الشمسية ثمانية كواكب غير منيرة تدور حول الشمس: أصغرها عطارد ثم المريخ ثم الزهرة، فالأرض فارونوس فنبتون فزحل فالمشتري، ثم بلوتوا الذي كشفوه منذ ثلاثين سنة ( و هو كوكب شاذ في صغر حجمه و في بعد عن الشمس فلا يصلح أن يكون سببا قاطعاً لابطال النسبة العجيبة التي سأذكرها عن بعد الكواكب من الشمس).هذا في ترتيب أحجامها، و أما بعدها عن الشمس فالكواكب تأتي على ترتيب آخر: فأقربها عطارد الذي يبلغ متوسط بعده عن الشمس 36 مليون ميل، ثم الزهرة و متوسط بعدها 67 مليوناً، فالأرض و متوسط بعدها 93 مليواناً، فالمريخ و بعده مليوناً، فالمشتري و بعده 484 مليوناً، فزحل 887 مليوناً، فأورانوس و بعده 1782 مليوناً، و نبتون و متوسط بعده عن الشمس 2792 مليوناً من الأميال.

([9]) الإحياء:3/58.

([10]) رواه البخاري ومسلم.

([11]) رواه أبو داود.

([12]) رواه البيهقي وإسناده حسن.

([13]) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بالعدل في الإسلام في رسالة (عدالة للعالمين)

([14]) شفاء العليل:275.

([15]) انظر: طريق الهجرتين: 152، فما بعدها.

([16]) رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر: 15.

([17]) مدارج السالكين:1/189.

([18]) رواه البخاري.

([19]) رواه العوفي.

([20]) رواه مسلم.

([21]) رواه البخاري ومسلم.

([22]) رواه الطبراني في الكبير.

([23]) رواه أحمد ومسلم والترمذي.

([24]) رواه أحمد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك.

([25]) رواه البخاري ومسلم.

([26]) رواه أحمد والنسائي.

([27]) رواه أحمد.

([28]) انظر في هذه الروايات: الدر المنثور:1/120.

([29]) للأسف، فإن المؤرخين المسلمين ـ ابتداء من الطبري وغيره ـ تأثروا بالتاريخ الإسرائيلي، فراحوا ينقلونه حرفيا معتبرين أنه حقائق ثابتة، وقد نقله عنهم كثير من كتاب قصص الأنبياء.

والناظر في هذا التاريخ يكاد يحصر الخير والنبوة في محل معين من العالم.. وأن ما عداه كأنه لا علاقة له بالله، ولا بالتكاليف.

وقد ورد في الحديث عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا). قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر جَمّ غَفِير) قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: (آدم) قلت: يا رسول الله، نبي مرسل؟ قال: (نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سَوَّاه قِبَلا) رواه ابن مردويه وغيره.

([30]) النورسي، اللمعة الثامنة عشر.

([31]) فذو القوة يدل على القدرة التامة، والمتين يدل على شدة القوة، والله تعالى من حيث إنه بالغ القدرة تامها قوي، ومن حيث إنه شديدة القوة متين.

([32]) رواه أحمد والترمذي والحاكم.

([33]) رواه الخطيب.

([34]) رواه البخاري ومسلم.

([35])الدثور بالثاء المثلثة: الأموال، واحدها: دثر.

([36]) رواه مسلم.

([37]) رواه الطبراني في الكبير وغيره.

([38]) رواه الطبراني في الكبير وغيره.

([39]) رواه أحمد وهناد وابن ماجة والبيهقي والطبراني في الكبير.

([40]) رواه البخاري ومسلم.

([41]) رواه أبو داود وغيره.

([42]) رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه.

([43]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([44]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([45]) رواه أحمد ومسلم.

([46]) طبعا.. هذا جار على أسلوب العرب في تعبيرها، فالله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11).

([47]) رواه الترمذي وقال: حسن.

([48]) قال ابن كثير: هذا حديث جيد الإسناد إلا أن فيه انقطاعا وهو -مع ذلك -على شرط أهل السنن ولم يخرجوه، ابن كثير:4/36.

([49]) شفاء العليل:92.. وقد ذكر أن هذه الأمور منها ما يرجع إلى القلب كالختم والطبع والقفل والأكنة والإغفال والمرض ونحوها، ومنها ما يرجع إلى رسوله الموصل إليه الهدى كالصمم والوقر، ومنها ما يرجع إلى طليعته ورائده كالعمى والغشا، ومنها ما يرجع إلى ترجمانه ورسوله المبلغ عنه كالبكم النطقي وهو نتيجة البكم القلبي فإذا بكم القلب بكم اللسان.

([50]) رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح.

([51]) وذلك في قوله r:( إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جئ بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة! خلود لا موت، يا أهل النار، خلود لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم) رواه البخاري ومسلم.

([52]) شفاء العليل:94.

([53]) انظر الرد على أمثال هذه الأنواع من التأويلات في رسالة (أكوان الله)

([54]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([55]) ) العرض: بفتح العين وسكون الراء وتحرك: هو المتاع وكل شئ سوى النقدين

([56]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([57]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([58]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([59]) رواه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ.

([60]) رواه أحمد ومسلم.

([61]) رواه النسائي.

([62]) نص الحديث:( إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فان ذكر الله خنس وإن نسى التقم قلبه) رواه ابن ابى الدنيا والبيهقي.

([63]) رواه الترمذي والنسائي وابن حبان.

([64]) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني في الكبير.

([65]) رواه النسائي والحاكم.

([66]) الإحياء.

([67]) الإحياء.

([68]) رواه البخاري.

([69])الربدة: لون بين السواد والغبرة.

([70])المجخي: المائل عن الاستقامة والاعتدال، فشبه القلب الذي لا يعي خيرا بالكوز المائل الذي لا يثبت فيه شيء.

([71]) رواه أحمد.

([72]) رواه عبد بن حميد وابن جرير.

([73]) رواه ابن أبي حاتم.

([74]) انظر: القرطبي:19/81.

([75]) انظر: القرطبي:15/85.

([76]) الإحياء:6/382.

([77])الإحياء:6/382.

([78])يسيء كثير من المبشرين فهم مثل هذه النصوص، فيتصورون بذلك أن القرآن الكريم الذي نص على تحريف كتبهم هو الذي دعاهم إلى الرجوع إليها، وأنهم بذلك على الحق، وقد رددنا على هذه الشبهات بتفصيل في رسالتي (أنبياء يبشرون بمحمد)، و(الكلمات المقدسة)

([79]) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.

([80]) رواه ابن حبان في تاريخه.

([81]) رواه البيهقي في الشعب.

([82]) انظر تفاصيل ذلك في رسالة (أهل الله) من هذه المجموعة.

([83]) رواه أحمد ومسلم والترمذي.

([84]) رواه أحمد.

([85]) سنرى علاقة الجزاء الإلهي بالرحمة في الفصل الرابع من هذه الرسالة.

([86]) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم.

([87]) القرطبي:16/167.

([88]) رواه البخاري ومسلم.

([89]) رواه الطبراني في الكبير.

([90]) رواه البخاري ومسلم.

([91]) للمؤلف رسالة مهمة في هذا، وهي مصاغة بشكل روائي جذاب، سماها (الفرق الإسلامية ـ إعادة تصنيف)

([92])رغس: أي أكثر له منهما ويبارك له فيهما، والرغس: السعة في النعمة والبركة والنما ( النهاية:2 / 283).

([93]) رواه البخاري ومسلم.

([94]) وقد ورد في طرق أخرى ما يؤكد هذا، فقد روى أحمد والحكيم والطبراني في الكبير عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده يرفعه قال: كان عبد من عباد الله آتاه الله مالا وولدا، فذهب من عمره عمر وبقي عمر، فقال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: إني والله ما أنا بتارك عند أحد مالا كان مني إليه إلا أخذته أو تفعلون بي ما أقول لكم، فأخذ منهم ميثاقا قال: أما الاول فانظروا إذا أنا مت فأحرقوني بالنار، ثم اسحقوني، ثم انظروا يوما ذا ريح فأذروني لعلي أضل الله، فدعي واجتمع، فقيل: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشية عذابك، قال: استقل ذاهبا فتيب عليه.

([95]) رواه البخاري ومسلم.

([96]) رواه البخاري ومسلم.

([97]) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن.

([98]) رواه أحمد والطبراني والحاكم وأبو نعيم وغيرهم.

([99]) رواه البخاري ومسلم.

([100])رواه أبو بكر البزار.

([101]) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم.

([102]) أي صياحهم وبكاءهم. يقال ضغا يضغو ضغوا وضغاء إذا صاح وضج (النهاية:3/92)

([103]) الحديث أورده ابن حجر في الإصابة ( 174 / 175) قال البيهقي: هذا منكر وقد خبط فيه يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف جدا. وهكذا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ( 1 / 57) وقال رواه البزار وفيه يوسف بن عطية لا يحتج به، وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح قال احمد بن حنبل يحيى بن المتوكل يروي عن بهية احاديث منكرة وهو واهي الحديث وقال يحيى ليس بشيء وقال علي والفلاس والنسائي هو ضعيف قال ابن حبان ينفرد باشياء ليس لها اصول وقال السعدي سألت عن بهية كي اعرفها فأعيانا، انظر: العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لعبد الرحمن بن علي بن الجوزي: 2/924.

([104]) رواه أحمد والنسائي.

([105]) رواه أحمد وأبو داود.

([106]) رواه الطبراني.

([107]) رواه البخاري ومسلم.

([108]) أحكام أهل الذمة: 2/1109.

([109]) من المراجع التي رجعنا إليها في الرد على هذه الشبهة الخطيرة رسالة مهمة بعنوان (إظهار الحق بوجوب الدفاع عن سيد الخلق)، لأبي الفضل الفلســطيني.

([110]) رواه مسلم.

([111]) رواه مسلم.

([112]) رواه أبو نعيم.

([113]) رواه أبو نعيم.

([114]) رواه الحاكم وصححه والبيهقي، وقد ذكرت بعض النسوة الحاضرات مولده – صلى الله عليه وسلم – هذه الأنوار، فعن عثمان بن أبى العاص، قال: حدثتني أمي، أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله r ليلة ولدته، قالت: فما شئ أنظره في البيت إلا نور، وإنى أنظر إلى النجوم تدنو حتى إنى لأقول: لتقعن على(رواه البيهقى)

([115]) ومما يزيد الطين بلة أن الخطايا عند بعض النفوس المريضة لا تعني إلا الفواحش.

([116]) رواه أحمد والطبراني في الكبير.

([117]) وهذا الحديث معارض بالأحاديث الناهية عن قتل الصبيان، ولكنه في حالة خاصة وهي عدم التمكن من التميز.

([118]) البيهقي في الشعب، والدارقطني في الأفراد والضياء.

([119]) أحكام أهل الذمة: 2/1126.

([120]) أحكام أهل الذمة: 2/1126.

([121]) رواه ابن عساكر.

([122]) رواه النسائي والحاكم وابن مردويه.

([123]) قوابس: القبس: الشعلة من النار. النهاية 4/4.

([124]) رواه البزار بإسنادين ضعيفين.

([125]) تفسير ابن كثير: 5/58.

([126]) أحكام أهل الذمة: 2/1147.

([127]) أحكام أهل الذمة: 2/1149.

([128]) تفسير ابن كثير: 5/58.

([129]) رواه البخاري.

([130]) الحديث طويل رواه البخاري ومسلم.

([131]) الحديث طويل، وهو مروي في أكثر أصول السنة، وبهذا اللفظ راه أبو داود وابن ماجه.

([132]) كما قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (البقرة:54)

([133]) أحكام أهل الذمة:2/1154.

([134]) أحكام أهل الذمة:2/1152.

([135]) أحكام أهل الذمة:2/1155.

([136]) أحكام أهل الذمة:2/1156.

([137]) الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، ورواه ابن ماجه.

([138]) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن.

([139]) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة واللالكائي.

([140]) رواه الطبراني.

([141]) رواه ابن أبي الدنيا والبزار وأبو يعلى والطبراني والبيهقي.

([142]) رواه المرهبي في فضل العلم.

([143]) رواه ابن أبي شيبة.

([144]) رواه أبو داود والترمذي وصحح وابن حبان واللالكائي.

([145]) رواه البزار والنسائي والبيهقي والحاكم وأحمد.

([146]) رواه الطبراني في الأوسط.

([147]) رواه أبو يعلى وابن حبان.

([148]) رواه ابن عساكر.

([149]) رواه مسلم وأهل السنن الأربعة.

([150]) رواه ابن النجار.

([151]) ومما يروى في أن راهبا تعبد في صومعة ستين سنة فنظر يوما في غب السماء فقال: لو نزلت فإني لا أرى أحدا فشربت من الماء وتوضأت ثم رجعت إلى مكاني فتعرضت له امرأة فتكشفت له فلم يملك نفسه أن وقع عليها فدخل بعض تلك الغدران يغتسل فيه وأدركه الموت وهو على تلك الحال ومر به سائل فأومأ إليه أن خذ الرغيف رغيفا كان في كسائه فأخذ المسكين الرغيف ومات فجيء بعمل ستين سنة فوضع في كفة وجيء بخطيئته فوضعت في كفة فرجحت بعمله حتى جيء بالرغيف فوضع مع عمله فرجح بخطيئته) رواه ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد.

([152]) قد يعتبرض على هذا بأن الكذب يحسن في بعض الأحيان، فيجوز، والجواب عن ذلك أن جوازه لا يعني حسنه، ولكنه يعني أنه في ذلك الحين يستعمل من باب الضرورة، ولو كان قبيحا، لا أنه حسن في ذاته.

([153]) سنرى ما يتعلق بهذا الجزاء من باب الرحمة في فصل (الرحمة)

([154]) رواه أبو داود الطيالسي وعبد بن حميد في مسنديهما.

([155]) السعفة: هي أغصان النخيل.

([156]) رواه الطبراني والحكيم الترمذي، والبيهقي.

([157]) ذكره الفخر الرازي في تفسيره، ولم أجده.

([158]) رواه عبد بن حميد.

([159]) رواه أحمد ومسلم.

([160]) رواه مسلم وغيره.

([161]) رواه ابن ماجه وغيره بسند فيه لين.

([162]) رواه البخاري ومسلم.

([163]) وقد قيد الغزالي ذلك بقيدين عبر عنهما بقوله:( ولكن على من يظهر العمل وظيفتان: إحداهما أن يظهره حيث يعلم أنه يقتدي به أو يظن ذلك ظنا، ورب رجل يقتدي به أهله دون جيرانه، وربما يقتدي به جيرانه دون أهل السوق، وربما يقتدي به أهل محلته، وإنما العالم المعروف هو الذي يقتدي به الناس كافة. فغير العالم إذا أظهر به الطاعات ربما نسب إلى الرياء والنفاق وذموه ولم يقتدوا به فليس له الإظهار من غير فائدة، وإنما يصح الإظهار بنية القدوة ممن هو في محل القدوة على من هو في محل الاقتداء به والثانية أن يراقب قلبه فإنه ربما يكون فيه حب الرياء الخفي، فيدعوه الإظهار بعذر الاقتداء، وإنما شهوته التجمل بالعمل وبكونه يقتدي به، وهذا حال كل من يظهر أعماله إلا الأقوياء المخلصين وقليل ما هم. فلا ينبغي أن يخدع الضعيف نفسه بذلك فيهلك وهو لا يشعر، فإن الضعيف مثاله مثال الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل عليهم حتى تشبثوا به فهلكوا وهلك، والغرق بالماء في الدنيا ألمه ساعة وليت كان الهلاك بالرياء مثله، لا بل عذابه دائم مدة مديدة، وهذه مزلة أقدام العباد والعلماء فإنهم يتشبهون بالأقوياء في الإظهار ولا تقوى قلوبهم على الإخلاص فتحبط أجورهم بالرياء، والتفطن لذلك غامض)

([164]) رواه ابن ماجه.

([165]) رواه أبو نعيم.

([166]) بل شوهوها، انظر في هذا رسالة (ثمار من شجرة النبوة)

([167]) رواه ابن عدي والبيهقي.

([168]) رواه ابن جرير.

([169]) رواه البخاري ومسلم.

([170]) رواه أبو نعيم.

([171]) رواه ابن المبارك.

([172]) رواه ابن أبي الدنيا وابن المنذر.

([173]) هذا بناء على كون الأنين شكوى، أما الأنين المجرد، والذي ينفس به المريض عن آلامه، فلا حرج فيه.

([174]) رواه أحمد والنسائي وابن حبان وغيرهم.

([175]) رواه الطبراني في الأوسط وفيه عمرو بن الحصين العقيلي وهو متروك.

([176]) رواه ابن حيان.

([177]) رواه البخاري ومسلم.

([178]) وقد روي مثل هذا عن حذيفة، سألت النبي r عن علم الباطن ما هو فقال سألت جبريل عنه فقال: سر بيني وبين أحبائي وأوليائي وأصفيائي أودعه في قلوبهم لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل) قال ابن حجر: هو موضوع.

([179]) رواه ابن مردويه.

([180]) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

([181]) رواه الطبراني من حديث ابن لَهِيعة.

([182]) رواه البخاري والترمذي والنسائي.

([183]) رواه أحمد.

([184]) رواه عبد الرزاق، ابن كثير:2/307.

([185]) رواه ابن أبي حاتم ورواه مسلم والنسائي بنحوه.

([186]) رواه مسلم وأبو داود.

([187]) رواه ابن جرير.

([188]) تفسير الأمثل.

([189]) قاله مجاهد، وقتادة، وغير واحد، ابن كثير:8/307.

([190]) رواه ابن أبي حاتم.

([191]) رواه الطبراني في الكبير وغيره.

([192]) رواه أحمد والترمذي.

([193]) رواه البخاري ومسلم.

([194]) رواه البخاري ومسلم.

([195]) رواه الترمذي وغيره.

([196]) رواه أحمد ومسلم وغيرهما.

([197]) رواه الحكيم الترمذي، والحاكم، وابن حبان.

([198]) رواه مسلم.

([199]) رواه هناد بن السري وعبد بن حميد في الزهد.

([200]) رواه مسلم.

([201]) انظر: التذكرة للقرطبي، وغيرها من كتب المواعظ.

([202]) رواه البخاري ومسلم.

([203]) رواه محمد بن نصر.

([204]) انظر: التذكرة للقرطبي، وغيرها من كتب المواعظ.

([205]) سنرى المواقف من هذا في الفصل الأخير.

([206]) رواه مسلم.

([207]) رواه البخاري ومسلم.

([208]) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.

([209]) رواه البخاري.

([210]) نص الحديث:( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء تنطحها) رواه أحمد ومسلم والترمذي.

([211]) رواه الطبراني وفيه يزيد بن ربيعة وقد ضعفه جماعة وقال ابن عدي أرجوا أنه لا بأس به، وبقية رجاله ثقات.

([212]) سنرى الخلاف في هذا في (سر الرحمة)

([213]) الكلمة التاسعة والعشرون، وهي كلمة تخص بقاء الروح والملائكة والحشر، النورسي.

([214]) الكلمة الثالثة والعشرون، النورسي.

([215]) الكلمة الثالثة والعشرون، النورسي.

([216]) الكلمة الثالثة والعشرون، النورسي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *