الخاتمة

أخذ الغريب الدفتر من يدي، واحتضنه، ثم قبله، وقال: لقد كان هذا الدفتر أنيسي عند كل وحشة.. ورفيقي عند كل ضيق.. ودوائي عند كل داء.
قلت: فما الذي جعلك تحن إليه؟
قال: حنيني إلى الحبيب الذي لا يعرف القلب غيره.. ألا تعلم أن حبيب الحبيب حبيب؟
قلت: أجل.. أعلم ذلك..
قال: ولهذا تراني أمتلئ محبة وعشقا لكل من أحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل إني أشعر، وكأني أتقوت بكلمات الصدق التي يتفوه بها المخلصون.
قلت: ألم تخش على نفسك، وأنت في ذلك المحل الرفيع أن يتجسس عليك أحدهم.. فيلحظه معك.. فيشي بك وشاية تهدم كل أحلامك؟
قال: وهل نسيت أخي؟
قلت: ومن أخوك؟
قال: أخي التوأم.. ما بالك.. إنه حصني الذي كنت به أتحصن.. كما كان الحجاب الذي به احتجبت عن شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل تلك المدة.
قلت: وأخوك.. ألم يلحظ هذا الدفتر؟
قال: بلى.. لقد لحظه.. فيستحيل أن يرى ما لا أرى، أو يسمع ما لا أسمع.. لقد نأن أن ااكان فخورا به غاية الفخر.. بل استعمله وسيلة يرتقي بها في المعارج التي ظللنا طول عمرنا نحلم بها.
قلت: كيف هذا !؟.. إنك توقعني في حيرة.
قال: لقد كان أخي يأخذ هذا الدفتر، ويتدراسه مع رجال مختلفين حرفا حرفا، وكلمة كلمة..
قلت: لم كل هذا الاهتمام؟
قال: لقد ذكرت لك بأن المتآمرين أرادوا أن يدرسوا أسرار انتشار الإسلام، وأسرار تغلغله إلى العقول والقلوب..
قلت: ولم يفعلون ذلك؟
قال: لقد استخدم المتآمرون.. وهم رجال اجتمعت لهم جميع حيل الشياطين على تحليل أسرار المحبة والإقبال لتقضي عليها واحدة.. فتحول من جمال الإسلام دمامة.. ومن حياته موتا.
قلت: ومتى تبدأ تنفيذ هذه الخطة؟
قال: الأمة الآن تقع تحت أسرها.
قلت: أنحن الآن أسارى لهذا الخطة؟
قال: أجل.. لقد استعان المتآمرون بكل القوى التي ينافسها الإسلام في حلف ليس له من هدف إلا تفريغ الإسلام من قيم الجمال التي يتزين بها.
قلت: حلف.. !؟
قال: أجل.. حلف يضم ساسة واقتصاديين وإعلاميين.. وغيرهم.
قلت: ولكنهم سيصطدمون بعقول متحجرة ترفض ما يملون عليها من أفكار.
قال: خطتهم هذه المرة خطة محكمة.. لأن جنودها ليسوا صليبيين.. بل مسلمين.
قلت: أي مسلم يرضى لنفسه أن يمثل هذا الدور؟
قال: كثيرون هم.. بل أكثرهم أسرع إلى ثكنات هذا الحلف ليسجل نفسه جنديا.
قلت: فهم يعطونهم أجورا مغرية إذن !؟
قال: لا.. أولئك الحمقى يتطوعون بمحض رغبتهم لتنفيذ ما يحلم به ذلك الحلف.
قلت: أنا إلى الآن لا أكاد أفهم.. إن كلماتك لا تزيدني إلا حيرة.. فلست أفهم شيئا.. فانتقل من التلميح إلى التصريح.. ومن الألغاز إلى الكلام الذي تعودته منك.
قال: سأضرب لك أمثلة تعظيك صورة عن هذا الجند المتطوع.
دققت بصري في عينيه لأعرف سر هذا الجند الخفي الذي يريد أن يستل محمدا من القلوب، فقال: ألم تر في كل الذي استهواهم الإسلام، وامتلأت قلوبهم بحب محمد صلى الله عليه وآله وسلم حبهم للسلام؟
قلت: بلى.. لقد لاحظت ذلك في الأتباع والأصدقاء.
قال: فقد أراد هؤلاء أن يستلوا اسم السلام من الإسلام.. ليصبح دين السلام دين الإرهاب.. وقد تطوع لذلك بعض الأغبياء، فراحوا يقتلون الصغار والكبار.. والظالم والمظلوم.. والمستكبر والمستضعف.. ولسبب ولغير سبب.. وكأن الإسلام جاء ليقتل لا ليحيي.. فهم يستدركون على الله قوله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } (لأنفال:24) لينسخوا لآية بأهوائهم وفهومهم السقيمة، فيحولوا الحياة موتا، والأمن خوفا.
قلت: أعرف هذا.. وقد ساءني كما ساء كل مسلم.. لقد ذكر لي بعض أصدقائي في بلاد الغرب أنه كان مقصدا لكل سائل وباحث عن الحقيقة.. وكان إذا سار إلى أي محل تجتمع عليه الجموع لتسأله عن دينه.. وعن نبيه.. وعن ربه.
لكنه اليوم.. ما إن يدخل محلا حتى تنفض الجموع فارة فزعة.. وكأنه قنبلة موقوتة، أو كأنه مجذوم يفرون منه فرارهم من الأسد.
قال: فقد نجحوا في تحقيق ما لم يستطع أساطين العالم أن تحققه.
قلت: فاضرب لي مثالا آخر على هذه المخططات القذرة.
قال: ألم تر أن كل من أحبوا محمدا تحدثوا عن رحمته وحلمه وألفته ولطفه.. وغير ذلك من الخلال التي اجتمعت له، فاستحق بها شرف قوله تعالى:{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)!؟
قلت: بلى.. ومن لا يمتلئ إعجابا بتلك الخلال التي أعطت النموذج الأكمل للإنسان الأكمل.
قال: فقد قدر الكائدون ومكروا.. فراحوا يستغلون بعض الحمقى ليختصروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في لحية طويلة.. وجبة قصيرة.. وتقطيب جبين.. وغلظة دونها غلظة أكباد الإبل.
قلت: أعرف هذا.. وقد سمعت بعضهم يصف شيخا من هؤلاء يقول عنه: (رأيته وكأنه السنة تمشي) مع أنه لم ير منه إلا ما كان يراه الناس من أبي لهب وأبي جهل من لحية وقميص وسواك.
قال: فقد نجحوا في هذا أيضا.
قلت: فاضرب لي مثالا آخر.
قال: ألم تر الجميع من الأصدقاء والأتباع يمتلئون إعجابا بحرية الفكر التي أتاحها الإسلام، فاجتذب أصحاب العقول والأذواق.. واجتمع في حبه الأدباء والشعراء والفلاسفة والعلماء وأهل الدين وأهل الدنيا؟
قلت: بلى .. قد سمعت الكثير ممن يذكر ذلك، ويفخر به على الكنيسة التي طوقت العقول بأغلالها.
قال: فقد انتدب بعض الحمقى ليحولوا من المسجد كنيسة لا ترسل المحبة.. بل ترسل الحرمان والتضليل والتبديع والتكفير..
قلت: أعرف هذا.. وأتألم له.. فالحب الذي ربط قلوب الأمة أجيالا طويلة تحول إلى بغضاء.. والإسلام الذي اتسع للجميع ضاق على أتباعه، فصار ـ في منطق هؤلاء ـ يرفض كل من لم يلغ عقله وقلبه ومشاعره.
قال: فقد نجحوا في هذا أيضا.
قلت: فاضرب لي مثالا آخر.
قال: ألم تر إلى أولئك الأدباء الذين لهجوا بحب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فراحوا يتغنون به آناء الليل وأطراف النهار.. وراح كل عندليب يغرد أشعارهم.. ويملأ القلوب أشواقا تمحي كل ظلمة، وتنشر كل سعادة؟
قلت: بلى.. فقد مررنا على الأدباء، واستمتعنا بتلك المدائح العذبة.
قال: لكن هؤلاء حرموا الخلق من تلك المتعة، فراحوا يحكمون بالشرك على كل من مدح حبيبه.. بل راحوا يفرضون على الشعراء أن يحذفوا كل استعارة وكناية وتشبيه ومحسنات بديعية.. وراحوا يكتمون على أنفاس الحناجر الرقيقة الممتلئة أشواقا، فماذا جرى؟
قلت: لقد انصرف الناس عن البردة والهمزية وقصائد البرعي وشوقي والبارودي.
قال: ففي أي حفرة وقعوا؟
قلت: صاروا يلهثون وراء البوب والروك والراي والجاز والأغاني العصرية الممتلئ بالرقص والمجون.
قال: ونسوا حبيبهم صلى الله عليه وآله وسلم..
قلت: للأسف لقد حصل كثير من ذلك.. فإن أولئك يفضلون الجاز والروك على البردة والهمزية.. فالأولى عندهم فسق والثانية كفر وشرك.
قال: ألا ترى أنهم قد نجحوا في هذا أيضا.
قلت: للأسف.. لقد نجحوا نجاحا دونه كل نجاح.. فاضرب لي مثلا آخر.
قال: سأكتفي بهذه الأمثلة ليعلم قومك مقدار الغفلة التي حاقت بهم، فجعلتهم ينفذون مخططات خصومهم من غير شعور.
قلت: إنك لم تزدني إلا ألما.. فهل من مخرج مما نحن فيه؟
قال: المخرج بأيديكم.. يمكنكم في أي لحظة أن تقفوا على أعتاب حبيبكم، وتقبلوا يديه وتعتذروا له.. وتعيشوا الإسلام الذي رباكم عليه.
قلت: أي إسلام؟
قال: إسلام السلام والمحبة والأشواق الرفيعة والحضارة الراقية والهمم العالية..
قلت: فكيف نصل إلى هذا السلام؟
قال: بالعودة إلى رسول السلام.. فقد شوهتم صورته ورسالته.
قلت: ومن أين نتعرف عليه؟
قال: من القرآن والسنة والسيرة..
قلت: نحن نقرأ كل ذلك.
قال: وتسيئون فهم ما تقرؤون.
قلت: فما المخرج؟
قال: تبحثون عمن عرفوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وامتلأت قلوبهم بمحبتهم.. وامتلأت حياتهم بسنته.
قلت: فهل يمكن أن نجد هؤلاء؟
قال: يستحيل أن تخلو الأرض من هؤلاء.
هذا الكتاب
في هذا الكتاب مجموعة كبيرة من شهادات المحبة والإعجاب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والرسالة العظيمة التي جاء بها.. وهي من جميع أصناف الناس من عامتهم وخاصتهم.. وأدبائهم وفنانيهم.. وعلمائهم وأوليائهم.. وأحبارهم ومفكريهم.. بل حتى أولئك المستشرقين من غير أتباعه الذين أتيحت لهم الفرصة للبحث عنه والتعرف عليه، والذين لم يملكوا إلا أن يشهدوا الشهادات الصادقة إعجابا به وتعظيما له.. بل حتى أعداءه لم يملكوا في بعض لحظات الصدق التي عاشوها إلا أن يقروا بفضله وكماله.
وبطل هذه الرواية رجل الدين المسيحي راح يبحث عن القلوب التي حنت إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحبته وتأثرت به.. فجمع لذلك الكثير من الشهادات التي سقناها في هذه الرواية، كنماذج وأمثلة فقط، لأن الاستيعاب في هذا مستحيل.
وقد جعلنا هذه الرواية مقدمة لروايات تالية تتعلق بالتعريف بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي [النبي المعصوم]، و[النبي الإنسان]، و[النبي الهادي] لتكمل الهدف الذي ترمي إليه هذه الرواية.. وهو أن هذا الذي أحبته تلك القلوب الكثيرة، وأعجبت به تلك العقول العظيمة ليس إنسانا بسيطان .. بل هو إنسان حاز كل ألوان الكمال، وظفر بكل معاني الجمال التي جعلته محبوبا لكل صاحب فطرة سليمة.