الخاتمة

الخاتمة

بعد أن أخبرني الغريب حديث هؤلاء العشرة الذين أرادوا أن يحيوا سنة أبي جهل وأبي لهب، التفت إلي، وقال: لقد كانت تلك الأيام العشرة من أكثر الأيام بركة في حياتي.. لقد كانت كالمطر الذي يغسل الأرض من أدرانها.. أو كالدواء الشافي الذي ينقض على السموم، فيقضي عليها واحدا واحدا.

ابتسمت، وقلت: فأين تلك الدار المباركة التي حصلت ببركتها كل هذه البركات، لعل الله ييسر لنا، فنجعلها مزارا؟

قال: لم تبق تلك الدار بعد تلك الأيام العشرة.. ولم يبق لها إلا حديث طويل مر لازالت نفسي تتألم له.

قلت: هل ترى طائفا من السماء طاف عليها، فحولها كهشيم المحتضر، أو ترى الطير الأبابيل عادت من جديد، فرمتها بحجارة السجيل؟

قال: لا هذا، ولا ذاك..

قلت: فما الذي حصل لها؟

قال: لذلك قصة طويلة سأختصرها لك اختصارا.

تنفس الغريب الصعداء بألم، ثم قال: في نهاية اليوم العاشر، وبعد أن نثرت جماعتنا آخر سهم من كنانتها عاد أخي إلى دارنا بحزن شديد، وقال لي: أحضر لي جميع الأقراص التي قمنا بتسجيلها في هذه الأيام العشرة.

فقلت له متعجبا: هل انتهيت من التجريب، وتريد أن تخوض غمار التنفيذ؟

قال: ما تقصد؟

قلت: هل تريد أن تري قداسة البابا هذه الأقراص ليعاين الطريقة الجديدة التي تقترح على الكنيسة أن تتعامل بها مع محمد، ومع الإسلام؟

قال بغضب: لا.. هذه الأقراص لا ينبغي أن يراها أحد.. لا ينبغي لأحد في الدنيا أن يسمع حديثها.. إنها أشعة جديدة.. بل هي أشعة حارقة من شمس ذلك الرجل الذي أتعب الكل.. ولا زال يتعب الكل.

قلت: فما الذي تريد أن تفعل بها؟

قال: لا يصلح لتلك الأقراص إلا أن تحرق، ثم يدفن رمادها في أي كوكب من الكواكب حتى لا يأتي من يحلل ذلك الرماد ليستخرج ما حصل في هذه الأيام العشرة المشؤومة.

قلت: أراك تحمل حقدا عظيما.. والمسيح الذي نتمسح بهديه ما علمنا أن يكون في قلوبنا غير السلام.. السلام هو وحده المعراج الذي يرتقي بأرواحنا إلى الملكوت.

لست أدري كيف انتفض أخي من مكانه، وقال: السلام.. نعم.. السلام..

ثم توجه إلي، والسرور يملأ أسارير وجهه، وهو يقول: نعم.. السلام.. لطالما كنت أراك مفكرا.. بل أنت عبقري.. لقد وضعت يدك على الإكسير الأحمر.

قال ذلك، ثم انصرف من دون أن يأخذ الأقراص..

قلت: فهي معك إذن؟

قال: لا.. ولتلك الأقراص حديث آخر له علاقة بهذا الحديث.

قلت: فحدثني عنه.

قال: في الغد ذهبت صباحا مع أخي إلى دار الندوة الجديدة، حيث تعودنا أن نلتقي، لكنا فوجئنا بأعمدة الدخان تخرج منها لتصعد في أجواء السماء، وتملأ ما حولها بالتلوث.

هرعت أنا وأخي إليها، وقد امتلأنا بهول المفاجأة، وهناك وجدنا الشرطة، ومعها رجل منا..

قاطعت الغريب قائلا: من هو؟

قال: لن أذكر لك اسمه.. المهم أنه رجل منا.. 

قلت: هل كان ذلك الرجل هو الجاني الذي تاب من حرفته، فراح يحرق كل أثر لمعصيته؟

قال: لا.. لقد كان هو المخاتل المخادع الذي سايف خصمه، فلما غلبه ارتد عليه فطعنه في ظهره.

قلت: احك لي قصة ذلك، ولا تحدثني بالألغاز.

قال: بعد أن انصرف أخي في ذلك اليوم.. جاء في المساء بوجه ممتلئ سرورا، وقال: أرأيت.. لقد أوحت لي كلماتك بفكرة عبقرية لم تخطر ببال أحد من الناس.

قلت: ما هي؟

قال: لقد عرفت أن سر انتصار الإسلام هو السلام.. انظر حتى اسم الإسلام فيه حروف السلام.. ولذلك فإن خلع السلام من الإسلام سيحوله إلى دين ميت.. ولن يبق في اسم الإسلام أي حرف يصلح للتعبير عنه.

قلت: فكيف يمكن أن نفعل ذلك؟

قال: ليس ذلك دورنا.. هناك أجهزة خاصة يمكنها أن تؤدي هذا الدور..

قلت: فأنت لا تزال تلح على فكرة التحالف؟

قال: لا شك في ذلك.. فلم يتحقق أي انتصار في الدنيا من دون تحالف.

 قاطعت الغريب قائلا: أنا إلى الآن لم أفهم سر حرق الدار، وعلاقته بالسلام، وعلاقة ذلك كله بذلك الرجل اللغز، وعلاقة القصة جميعا بأخيك.

كتم الغريب عبرات تكاد تنحدر من عينيه، ثم قال: بعد أن نفذت كل السهام التي أرادت جماعتنا أن تعيد تصويبها لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم قام رجل منا هو أكثرنا حيلة وأعظمنا دهاء، وأقربنا مع ذلك إلى عروش السلاطين، فأوحى إلى بعض ضعاف العقول من المسلمين، الذي اختلطت عليهم مفاهيم الإسلام بمفاهيم الصراع التي غذتهم عليها وسائل إعلامنا، فقاموا بحرق الدار..

وبعد أن أحرقوها نسبوا التهمة للحكيم، ذلك الرجل الحكيم المضمخ بعطر السلام.

قلت: فما الأدلة التي استندوا إليها؟

قال: تلك الأقراص التي كانت محفوظة عندي.. لقد فتشوها حرفا حرفا، وكلمة كلمة.. ثم أحضروا مصممين دهاة، فحولوا من كل تلك المناظرات الطاهرة المسالمة خطبا مملوءة بالحقد والصراع.. ثم نشروا كل ذلك بين الناس يحذرونهم من الإسلام ومن صراع الإسلام.

قلت: والحكيم.. هل ظفروا به؟

قال: لا.. لقد ذكرت لك بأنه أشبه الناس بمعلم السلام، بل لعله معلم السلام عينه، فقد كان يحضر، فلا نعرف من أين جاء، ويذهب، فلا نعرف أين ذهب.

قلت: وأولئك الطيبون الذين ملأوا ميدان الحرية؟

قال: لم يغادروه.. هم لا يزالون فيه إلى اليوم.

قلت: فميدان الحرية لا يزال قائما إذن؟

قال: نعم.. هو لا يزال قائما.. ولكن اسمه فقط هو الذي تبدل..

قلت: تبدل الاسم!؟

قال: أجل لقد تحول من (ميدان الحرية) إلى (معتقل..)

قلت: هل ندموا على الحرية التي فتحوها للناس؟

قال: لقد عرفوا أن الإسلام لا ينتشر إلا في وسط ممتلئ بالحرية، ولذلك سارعوا يكفرون عن خطيئة الحرية، وما جرت عليهم من ويلات.

قلت: ولكني لا أزال أسمع بأن في بلادكم حرية.

قال: نعم.. أنت حر في أن تكفر، أو أن تسب محمدا.. بل أنت حر في أن تسب المسيح نفسه.. ولكنك لست حرا في أشياء أخرى كثيرة ([1])..

ثم التفت إلي بألم، وقال: نحن في معتقل كبير سدنته أصحاب بطون منتفخة.. أما نحن وذلك الغثاء الذي يسكن أرضنا، فمجرد مستهلكين.. نستهلك الطعام، ونستهلك الإعلام.. ويباح لنا أن نستهلك كل شيء إلا أن نستهلك الإسلام.

قلت: ألا زال البحث جاريا عن الحكيم؟

قال: ما دام الصراع هو المسيطر على هذه البشرية فإن البحث عن الحكيم وعن معلم السلام لن يتوقف أبدا.

شعرت بما يشعر به الغريب من ألم، فأردت أن أخفف عنه، فقلت: عم ستحدثنا غدا إن شاء الله؟

قال: سنرحل إلى (النبي الإنسان)([2]) .. لنجد الحكيم.. أو معلم السلام.. لنتعلم منه كيف كان النبي الإنسان.


([1])كتب رجل من ستوكهولم في بعض المواقع مقالا بعنوان (الغرب بين حريّة سبّ الإسلام، وحرمة الحديث عن الهولوكست) تحدث فيه عن تناقضات مفهوم الحرية في الأعراف الغربية.. ومما جاء فيه قوله:( تجيز القوانين الغربية للمواطن الغربي أن يعيش الحريّة بكل تفاصيلها وأن يتحررّ من كل القيود التي تكبلّه وبناءا عليه أصبحت الحريّة الجنسية المقرفة والحرية السياسية والحرية الاقتصادية في متناول الجميع، و هناك كمّ هائل من القوانين الرئيسية والفرعية التي تكفل مبدأ الحرية للمواطن الغربي الذي يحقّ له أن يستهين بالقيم الدينية وبالأنبياء، وعلى الرغم من ذلك فإنّ مناقشة موضوع الهولكست تعتبر محرمة ولا يجوز مطلقا الخوض فيها أو الحديث عنها أو الدعوة إلى إعادة قراءة ظاهرة الهولوكست، فإنّ ذلك يعتبر محرما ويعرّض الداعي إلى إعادة قراءة هذه الظاهرة إلى الملاحقات القانونية و الإعتقالات ، كما حدث مع روجي غارودي وفريسون في فرنسا، وكما حدث مع أحمد رامي في السويد الذي سجن ستة أشهر بسبب تناول إذاعته راديو الإسلام موضوع الهولوكست واستضاف شخصيات غربية تحدثت في راديو الإسلام عن خرافة الموضوع.

وقد تعرض الكثير من الكتّاب الغربيين إلى الإعتقال في ألمانيا وهولندا و النمسا بسبب حديثهم عن الهولوكست و تفنيذ مزاعم الرواية الإسرائيلية للمحرقة اليهودية.

وفي الدانمارك سمحت جريدة رسمية لنفسها بتصوير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رسوم كاريكاتورية، بينما تلتزم كل الصحف الدانماركية بمبدأ عدم جواز الحديث عن الهولكوست أو حتى الحركة الصهيونية.

و للإشارة فإنّ السويد، وعندما دعت الكاتب البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي صاحب كتاب (آيات شيطانية) رحبّت كل وسائل الإعلام السويدية بقدومه، وأتاحت له فرصة واسعة لمخاطبة الجمهور السويدي، وفي نفس زمن وجوده في السويد دعت جمعية عربية الكاتب الفرنسي المعروف بطروحاته ضدّ الحركة الصهيونية فوريسون وقامت الدنيا ولم تقعد ضدّ فوريسون المعادي للصهيونية، وقوبل بتظاهرات مضادة، الأمر الذي جعل البعض يقول: لماذا الحرية متاحة لسلمان رشدي، والذي تهجمّ على المسلمين، وشبّه طوافهم حول الكعبة بمثابة طواف الزناة حول بيت الزانية، و غير متاحة لرجل كفوريسون أو روجي غارودي بمجرّد حديثهم عن الحركة الصهيوينة و أكاذيبها.

وفرنسا التي حظرت الحجاب، وتصف المسلمين بأخس النعوت لا تسمح مطلقا بالحديث عن الهولوكست وغرف الغاز، وأبرز من تعرض للإيذاء في هذا المجال الكاتب الفرنسي روجي غارودي.. وقد ظل غارودي محل ملاحقة منذ سنة 1998 فرض عليه عندها حصارا متعددّ الوجوه وفي كل المجالات بمجرّد أنّه تنكرّ للهولوكست.

([2]) عنوان الرسالة التالية، وهي تتحدث عن الشمائل المحمدية، وعلاقتها بالكمال الإنساني.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *