البداية

في ذلك الصباح المبارك، استيقظت على مشاعر غريبة وفدت علي من حيث لا أشعر..كانت موحشة مظلمة ممتلئة بالقساوة..
كانت بدايتها موقفا من المواقف تذكرته.. لعله كان سبب تلك المشاعر التي كانت مخبأة في وجداني، ولم يتح لها أن تظهر إلا في تلك اللحظات التي كنت أنتظر فيها بشوق بالغ حديث الغريب الذي جاءني من غير ميعاد ليحدثني عن رحلته إلى شمس الهداية محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
سأذكر لكم الحادثة بتفاصيلها.. ولكل منكم الحرية في أن يفسر سر تلك المشاعر ليربطها بها، أو ينفيها عنها.
في شبابي.. ذهبت إلى بعض أهلي في البادية.. هناك حيث لا ترى في الأفق البعيد إلا الحجارة القاسية التي تملأ الجبال.. ولا ترى في الأفق القريب إلا رمالا جافة لا يضاهيها في قساوتها إلا تلك الحجارة.. وبين هذين كنت ترى صخورا أخرى كثيرة قد ملأتها رمال البيداء وصخور الجبال قسوة وغلظة وجفاوة..
كنت أرى النساء في تلك البيداء مهانات محتقرات.. لا تكاد تسمع لهن صوتا.. فهن في شغل دائم.. لا يلقين بعده جزاء ولا شكورا..
وكنت أرى الأولاد الصغار.. وهم لا يقلون شغلا عن الكبار.. وقد ذهبت ملامح براءة الصبا من وجوههم.. فهم يهتمون بما يهتم له الكبار.. ويحرصون على ما يحرصون عليه.
وكنت أرى في هذا الجو الكئيب شيخ القرية أو مختارها أو عمدتها أو ما شيء له من أسماء صاحب صوت مجلجل.. وصاحب عصا قوية.. وصاحب حرس شديد.. وصاحب أوامر ليس لها إلا أن تنفذ رغبت رعيته في تنفيذها أو أنفت.
وكنت أرى بين هذا وذاك منافقين كثيرين.. لا قلوب لهم ولا مشاعر.. هم فقط مجموعة هياكل عظمية مكسوة بأكداس من اللحم والشحم الذي لا يختلف في لونه وقساوته عن ذرات الرمال وطبقات الصخور..
كل هذه الصور لم أكن أكترث لها كثيرا.. ولكن الذي اكترثت له هو فقيه القرية وقارئها وعالمها.. ذلك الذي يجلس على عرش القرية الديني.. فهو إمامهم في الصلاة.. وهو قاضيهم في المحكمة الشرعية الصغيرة.. وهو معلمهم في الكتاتيب.. وهو فوق ذلك كله مستشارهم الذي يرجعون إليه كل حين([1])..
كان هذا الشخص مع بداوته الشديدة.. بداوته التي تغلبت على دينه.. أو بداوته التي جعلها نظارة ينظر بها إلى دينه.. أو بداوته التي فسر بها كتاب ربه وسنة نبيه.. بل فسر بها الحياة جميعا.. كان هذا الشخص هو مصدر إزعاجي الأكبر..
لقد حاولت بكل ما أطقت أن أمسح تلك الذكريات التي جمعتني به، فلم أطق.. لقد كانت تلح علي كل حين.. وكانت تملؤني بالحزن كل حين ..
وكانت كل مرة تخطر علي بالي تلك الذكريات أمد يدي من حيث لا أشعر.. وكأني أخنق بها شيئا لست أدري ما هو.. ولا لماذا.
كان للرجل أربع نسوة.. هن في الظاهر زوجاته.. ولكنهن في الحقيقة لسن إلا خدما في ضيعته الكبيرة التي اكتسبها بجشعه الكبير.. فهو لا يفتي إن أفتى إلا بالمال.. ولا يصلي إن صلى إلا بالمال.. ولا يقرأ القرآن على الموتى إلا بالمال.. ولا يضع يده المباركة على جبين المرضى ليخلصهم من العفاريت التي تسكنهم إلا بالمال.. حتى لعابه المملوء بالبركات كان لا يبيعه إلا بالمال..
ولم يكن يكتفي بكل ذلك.. بل كان فوق ذلك يسخر من يشاء ليعمل له في مزرعته الكبيرة من غير أجر إلا أجر الوساطة بينه وبين ربه..
كان كلما لمح شابة جميلة طلق زوجة من زوجاته القديمة.. وراح يتقدم لخطبة الجديدة التي تحل محلها.. ولم يكن لأهل الشابة إلا أن يقبلوا.. ولا يهمه أكان ذلك بطيب نفس، أم لم يكن بطيب نفس..
أذكر مرة أن بعضهن رفضت.. واستجاب أهلها لرفضها.. فأقام الدنيا ولم يقعدها.. كان في كل خطبه في ذلك الحين يردد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)([2])
كان يردده بصوت قوي شديد.. وكأنه سياط يلهب بها الظهور..
ومع ذلك لم يكن يكتفي بذلك.. بل كان يقصد وجهاء القرية ليضيقوا على أهل الفتاة حتى يضطروا في الأخير إلى الإذعان..
كان له ذرية كثيرة.. وكان يختلط عليه أمرهم.. ولهذا راح يسمهم بما يذكره بهم.. ولم يكن يناديهم إلا بيا ابن فلانة..
لم يكن يستخدمهم كما يستخدم سائر الناس.. ولكنه كان يتعامل معهم بشدة وقسوة وعنف.. ويبرر كل ذلك بحديث كان يردده كل حين.. هو قوله: (اخشوشنوا وتمعددوا، واجعلوا الرأس رأسين)([3])
وكان لهذا الشيخ فوق ذلك كله ومع هذا كله دعاوى عريضة.. فهو يتصور الدين كما يتصور ضيعته.. فهو يراه ملكه الذي لا يجوز لأحد أن ينافسه فيه.. فإن ظهر بعضهم وتحدث في الدين بحسب ما هداه إليه علمه أو عقله راح ينشر البيانات في القرية.. بيانات التكفير والتبديع والتضليل والحرمان.. وكان يتبع تلك البيانات التقريرية بنقاط عملية من خالفها خرج من الفرقة الناجية ليسقط في هاوية الفرق الهالكة الكثيرة..
كان أقل تلك النقاط شأنا هجر المبتدع وترك السلام عليه وعدم عيادته إذا مرض، وعدم المشي في جنازته إذا مات.. وعدم البيع له.. وعدم الشراء منه.. ومن تجرأ وابتسم في وجهه فقد أتى بالكبيرة التي ليس دونها كبيرة..
كان الناس يسمعون هذه البيانات ويقرأونها ويمتلأون رعبا منها..
لقد كانوا يتصورون أن للرجل من السلطة ما يمكنه أن يضع أي اسم شاء في قوائم أهل النار.. كما أن له السلطة ما يمكنه أن يضع أي اسم شاء في قوائم أهل الجنة.. ولذلك كانوا يمتلئون بالرعب منه.. وكان ذلك الرعب يجعلهم يتزلفون أحيانا بكل ما يملكون ليكتسبوا من رضاه ما يضمنون به مصيرهم الذي وضع بين يديه.
كنت أجلس ـ أحيانا ـ لأستمع إلى دروسه الفقهية التي كان يتكرم بها على أهل القرية.. أو ليحضر نفوسهم بها.. فكنت أسمع من التقريعات والتشديدات ما يملأ القلوب بالمهابة..
والعجب في دروسه أنه كان لا يهتم بشيء كما يهتم بالمسائل المرتبطة بالرقيق.. وكان فهمه للرق فهما ممتلئا بالعنصرية والكبرياء.. كان كلما ذكر الرقيق يردد بحزن قائلا:(متى يأتي ذلك اليوم الذي نرى فيه الرقيق الأسود والأبيض والأصفر.. حتى نعيد إحياء هذه الأحكام التي لن تحيا إلا بعودة الرقيق)
أذكر أني في يوم من الأيام ضاقت نفسي.. فتحدثت أمامه، منكرا عليه بعض الأمور.. فأقام الدنيا ولم يقعدها..
لقد عقد المجالس الطويلة يحذر مني وينفر.. إلى أن اضطر أهلي أن يطردوني بالتي هي أحسن من تلك البادية التي ولد فيها أجدادي جميعا..
لقد خشوا علي من بطش كلماته وبطش مواقفه وبطش أتباعه الذين لم يكونوا يحملون إلا العصي..
لقد ظل هذا الرجل فترة طويلة في حياتي يملأ أحلامي بالكوابيس..
وكان مما يزيد في آلامي أنه كان يصور نفسه خليفة للنبي ووارثا له.. وكان كثير من الناس يعتقدون ذلك.. مع أنه في الحقيقة لم يكن إلا دجالا لا يختلف عن المسيح الدجال..
في ذلك اليوم جثم على قلبي كما تجثم الأدواء.. فقلت في نفسي: كيف غفل قومي عن هذا، وراحوا ينكرون على الرسامين وعلى البابا وعلى جميع الأبواق الخارجية.. !؟
ألم يكن الأولى بهم أن يبدأوا بهذا السرطان الذي ينهش ديننا وقيمنا وحقائقنا.. فيبتروه.. لأنه لم يكن للرسامين ولا لغيرهم أن يفعلوا ما فعلوه لولا أنهم وجدوا أمثال هؤلاء الدجالين الذين يلبسون قمصان محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. ولكن قلوبهم لا تحمل إلا أضغان أبي جهل.. وأحقاده.. وأطماعه.. وقساوته !؟
ألم يكن الأولى بنا أن نخرج في مظاهرات عارمة لنحرق دمى هؤلاء الدجالين بدل أن نحرق دمى غيرهم.. فلم يكن لغيرهم أن يتحدث لولا هؤلاء؟
ألم يكن الأولى بنا أن نصيح كما صاح قبلنا رواد الثورة الصناعية، وهم يقولون: (ليشنق آخر دوق بأمعاء آخر قسيس).. فنقول معهم أو على شاكلتهم: (ليشنق آخر مستبد بأمعاء آخر دجال)؟
كنت أقول هذا.. وأنا أمد يدي لأخنق بها شيئا لست أدري ما هو..
بينما أنا كذلك إذا بي أسمع الغريب يردد بصوت حنون خاشع قوله تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الانبياء:107).. فإذا بشمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تطل على قلبي.. وتزيح كل تلك الكوابيس والآلام التي نشرتها تلك الذكريات المريرة..
لقد ذاب ذلك الكابوس كما يذوب الدجال عندما يرى المسيح.. فلذلك امتلأت بالبشارة.. ورحت أسرع إلى البابا.. وفي قلبي أشواق عظيمة لأسمع رحلته الجديدة إلى شمسه صلى الله عليه وآله وسلم.
***
عندما دخلت عليه وجدته يمسك بقدم عصفور يعالجها بحنان.. فقلت: ما هذا؟
ابتسم، وقال: لقد سقط هذا العصفور من عشه.. وقد رأيته يتعثر في مشيته.. فرحت أعالجه.. يوشك أن تعود إليه العافية.. لدي خبرة في هذا.
قلت: أرى لك قلبا حنونا..
قال: لقد استفدته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم الناس رحمة وشفقة.. لقد مر مرة مع صحابته بشجرة فيها فرخان لحمرة، فأخذهما بعض الصحابة، فجاءت الحمرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تقرب من الأرض وترفرف بجناحها، فقال: (من فجع هذه بفرخيها؟)، فقالوا: نحن، قال: (ردوهما) فردوهما إلى موضعهما([4]).
قلت: أعرف عظم رحمة رسول الله.. لقد وصفه الله بها، فقال:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)..
بل إن الله سماه باسمين من أسمائه الحسنى يحملان هذا المعنى، فقال:{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128)
بل إن الله عم رحمته على العالمين، فقال:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الانبياء:107)
أنا أعرف كل هذا.. ولكني أتعجب كيف ينتسب لرسول الله من امتلأ قلبه قسوة وغلظة.. ولم يكتف بذلك بل راح يصور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصورة القاسي الغليظ.. فينفر الناس عنه، وينفر القلوب منه.
قال: هذه سنة الله في أتباع أنبيائه، فمنهم من يمثلهم تمثيلا حسنا.. ومنهم من يخطئ في تمثيله، لقد ذكر الله ذلك، فقال:{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } (فاطر:32)
وذكره، فقال:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (لأعراف:169)
وذكره، فقال:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (مريم:59)
قلت: لعل هؤلاء الورثة المذكورين عوام يعذرون لجهلهم.. ولكن الشأن في أولئك الذين يتصورون أنهم ورثة رسول الله وخلفاؤه.. إنهم بقساوتهم وغلظتهم يسيئون لرسول الله ودين الله أعظم إساءة.
قال: لقد ذكر الله ذلك، ونبه إليه، وحذر منه، وأقام الحجة على عباده بكل ذلك.. فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (التوبة:34)
قلت: هذه الآية في الأحبار والرهبان..
قال: وهي في الأئمة والفقهاء والمفتين والمحتسبين.. وكل من ينتسب لأي وظيفة من الوظائف التي ترتبط بالدين.. هؤلاء جميعا هم المقصودون بهذه الآية.. كل من تاجر بالدين سواء كان مسلما أو غير مسلم مخاطب بهذه الآية..
قلت ـ وأنا أمد يدي لأخنق بها شيئا لا أدري ما هو ـ: فلم لا نخنق هؤلاء.. لم لا نطعنهم.. لم لا نفجر فيهم القنابل.. لم لا نرسل عليهم بالويلات التي تبيدهم.. لم لا نحرق دماهم.. ؟
قاطعني مبتسما، وقال: يمكنك أن تفعل كل ذلك.. ويمكنك أن تدعو الكل لينفذ ذلك.. ولكن لا تنس شيئا واحدا.. لا تنس أن تبدأ بقتل الشيطان وقتل النفس الأمارة قبل أن تبدأ بهم.
قلت: فكيف أصل إلى الشيطان؟
قال: ما دام الشيطان موجودا.. وما دامت النفوس الأمارة موجودة.. فإنه من العبث أن تريق دماء هؤلاء.. ومن العبث الأكبر أن تحرق دماهم.
أطلق العصفور من يده، وقال: ما دامت المدرسة التي تكون المجرمين موجودة.. وأساتذتها أحياء.. فمن العبث أن تقتل التلاميذ المتخرجين منها..
قلت: فما الحل؟.. أرى أن الأمر لو استمر بيد هؤلاء، فسيشوه دين الله تشويها لا مطمع في إصلاحه.
قال: دين الله لا يشوه.. دين الله محفوظ كحفظ كتابه.. ألم يقل الله تعالى:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9)؟
قلت: بلى.. إن هؤلاء لم يطيقوا أن يحرفوا حروفه وألفاظه.. ولكنهم يطيقون أن يحرفوا معانيه ومقاصده.. فيحولوا من شريعة الرحمة شريعة قسوة.. ومن دين العدالة دين جور..
قال: إن الله الرحيم الرحمن الذي تولى حفظ حروف كتابه تولى حفظ معانيه ومقاصده.. ولذلك لا تمضي فترة من الزمان دون أن يكون فيها قائم لله بالحجة.
ثم سكت قليلا، وقال: سأحدثك اليوم عن ورثة قدر الله أن ألتقي بهم لأتعرف على رسالة الرحمة الشاملة العامة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
قلت: ما أشوقني لأحاديث الورثة.. فلا ينسخ همومي شيء مثلما تنسخه أحاديثهم.. فحدثني عنهم.
قال: سأبدأ لك من الأول.. فلا يفهم الآخر إلا بالأول.
***
اعتدل الغريب في جلسته، وحمد الله وصلى وسلم على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مستغرقا في كل ذلك.. ثم قال: في تلك الأيام التي كنت فيها عضوا في تلك الجمعية الشيطانية التي لا هم لها إلا حرب الإسلام، ووضع الحجب على شمس هدايته محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعيت إلى حفل كبير.. حضره الكثير.. منهم رجال سياسة.. ومنهم رجال دين.. ومنهم رجال فكر.. ومنهم رجال مال .. كان الحضور من كل الأصناف..
في ذلك الحفل وضعت خطة جديدة.. بدأ بالحديث عنها رجل كأنه الشيطان.. وكان اسمه الذي نعرفه به هو (…؟)
قام أمام الحضور، وهو ممتلئ بهجة وسرورا، وقال: لقد استطعنا أن نرمي الإسلام بالإرهاب.. وبالجور.. وبقي شيء واحد إن استطعنا أن نقرره في نفوس العالم.. فإنا نكون بذلك قد استأصلنا الإسلام من جذوره..
ساد صمت عميق في القاعة في انتظار هذا الجديد.. فقال: ألا تعرفون البسملة؟
قال الجميع: وكيف لا نعرفها.. والمسلمون يرددونها كل حين.. بل إنهم لا يقرأون قرآنهم إلا بعد قراءتها.
قال: ألم تنتبهوا لشيء في تلك البسملة؟
قال بعضنا: لقد ذكر فيها اسم الله.. واسمين من أسمائه ـ عند المسلمين ـ هما (الرحمن) و(الرحيم)
قال: ألا تعرفون قيمة هذين المسلمين عند المسلمين؟
قلنا: بلى.. نعرف ذلك.. فما مرادك من كل ذلك؟
قال: لقد اكتشفت من خلال بحث طويل أن السبب الأكبر الذي أمد الإسلام في جميع أجياله بالبقاء هو (الرحمة).. لقد رأيت أنها الوصف الغالب فيه.. فهي اسم إله المسلمين.. وهي اسم نبيهم.. وهي القاسم المشترك في جميع تشريعاتهم..
وقد رأيت من خلال الواقع أن سلوك الرحمة الذي سلكه الدعاة من المسلمين هو السبب الأكبر في انفتاح القلوب على الإسلام.
ولذلك رأيت أن خلع الرحمة من الإسلام ومن المسلمين هو خلع للإسلام نفسه .. خلع له من الوجود.. وخلع له من الاستمرار.
قال رجل منا ـ وهو يبتسم ـ: لو كانت الرحمة سنا لخلعناها.. ولكنها وصف.. وهي وصف خفي تمتلئ به جوانح القلوب.. فكيف نصل إليها؟
قال: ما فعلناه مع السلام والعدالة نفعله مع الرحمة.
قلنا: لم نفهم.
قال: أليس الناس على دين علمائهم وملوكهم؟
قلنا: بلى..
قال: فلنكون المدارس التي تنتج علماء ممتلئين غلظة وجفارة.. ولنكون المدارس التي تنتج ساسة وحكاما ممتلئين قسوة وظلما.
قلنا: وما علاقة ذلك بالإسلام؟
قال: الإسلام يمثله هؤلاء.. والناس لا يعرفون الإسلام إلا من خلال هؤلاء.. سوف نري العالم أجمع من خلالهم أن الإسلام دين القسوة والغلظة والجفاء.
قلنا: لا زلنا إلى الآن ننتظر تفاصيل الخطة.
قال: ألا ترون أن للرحمة تجليات يتبين من خلالها الراحمون من القساة؟
قلنا: بلى..
قال: فلنبدأ بها.
قلنا: كيف؟
قال: لنبدأ بالمرأة.. لنبين أن الإسلام قسا على المرأة وظلمها وحرمها من أبسط حقوقها.
قلنا: وما بعد ذلك؟
قال: نمر بعدها على الطفولة.. فنبين أن الإسلام بتشريعاته القاسية حرم الأطفال من أن يحافظوا على براءة طفولتهم.. ونبين أن التعاليم التي جاء بها الإسلام في شأن الأطفال ملأت حياة الأطفال بالكآبة والإحباط.
قلنا: وما بعد ذلك؟
قال: نمر بعدها على العجزة.. ثم على المتألمين.. ثم على المحبطين.. ثم على الفقراء.. ثم على المستضعفين.. ثم على العبيد.. ثم على الخطائين.. وهكذا حتى الحيوانات وسائر الكائنات.. سنبين كيف تعامل الإسلام معها جميعا بقسوة وغلظة تنفجر لها الصخور.
قلنا: عرفنا كل هذا.. فما لديك من خطة التنفيذ؟
قال: سنستغل كل ما لدينا من وسائل لننشر هذا الوعي بين الناس.. وسيكون أول من نستغله أولئك الذين لا يخدمنا أحد كما يخدموننا.
قلنا: من تقصد؟
قال: أنتم تعلمون من أقصد.
قلنا: فهل تشرح لنا خطة التنفيذ؟
قال: لا يمكنني أن أصرح بتفاصيل الخطة هنا.. ولكني أدعوكم في هذا المجلس إلى أنكم جميعا ستؤدون أدواركم لنجاح هذه الخطة.. لا تفكروا في المال، فسأعطي كل واحد منكم الحرية في أن يصرف ما يشاء من الأموال..
لا يهمني إلا شيء واحد هو أن ينظر الناس إلى دين محمد كما ينظرون إلى تلك الحجارة القاسية التي لا يفيض منها إلا الموت..
***
في الغد استدعاني أخي إلى مكتبه بالفاتيكان، وقال، وهو ممتلئ زهوا وفرحا وسرورا: أبشر ـ يا أخي ـ فها نحن نقترب كثيرا من كرسي البابا.. ذلك الكرسي الذي طالما حلمنا به..
لا يحول بيننا وبينه الآن إلا هذا البابا.. وهو عجوز مسن كما تراه.. ويوشك أن يدعوه ربه إليه ليخلو الجو لنا.
قلت: لقد زهدت في ذلك الكرسي منذ زمن بعيد.
ضحك بصوت عال، وقال: ذلك شيء يهيأ لك.. أما الحقيقة.. فهي أن الجلوس على ذلك الكرسي هو حلمك الأكبر.. حلمك الذي يمتلئ به سرك الباطن الذي لا تعرفه.
قلت: فكيف عرفت أنت؟
قال: ألست سواك.. أنا وأنت توأمان.. بل شقان لبذرة واحدة.. أنا أمثل طرفا من أطرافها، وأنت تمثل الثاني.. ولا يوجد في عقلك إلا ما يوجد في عقلي.. ولا أحلم إلا بما تحلم به.
قلت: أنا أحلم بالحقيقة.. أنا أريد أن أستظل بشمس الحقيقة.
قال: شمس الحقيقة لا ينالها إلا من جلس على كرسي بطرس.. ذلك الكرسي الذي يجعلك قريبا جدا من المسيح، ولن تنال الخلاص إلا بقربك من المسيح.
قلت: ولكن.. ألا ترى أن فيما نستخدمه من أساليب ما يبعدنا عن المسيح؟.. ألم يكن المسيح داعية سلام وداعية رحمة وداعية أخوة وإنسانية؟.. فكيف نرغب عن كل دعواته لنضع أيدينا في أيدي الشياطين؟
قال: وأي شياطين نضع أيدينا في أيديهم؟
قلت: ألم تسمع ـ أمس ـ ذلك الشيطان.. وما وضعه من الخطط؟
قال: أنت لا تعرف ذلك الرجل.. فلذلك تتكلم عنه بهذا الأسلوب.
قلت: فعرفني به.
قال: لن أعرفك به الآن.. ولكني أقول لك: لا يمكن لأحد من الناس أن يصل إلى أي كرسي على هذه الأرض من كراسي السياسة أو كراسي الدين ما لم يرض عنه..
وأي شخص لا يرضى عنه.. فإن مصيره معروف.
قلت: أنت تريدني أن أتزلف إليه إذن؟
قال: أجل.. بقلبك وقالبك.. فلذلك الرجل من القدرات ما يقرأ به أسرارك.. فلذلك احذر أن يطلع منك على أي خيانة.. فإنه لا شيء يزعجنا عن أحلامنا كما يزعجنا غضبه.
قلت: فأنت الآن تريد أن تنفذ الخطة التي أرادها.
قال: ولم أدعك إلا لأجل ذلك.. إن كل من رأيتهم قد حضروا الحفل لا يهتمون الآن بشيء كما يهتمون بتنفيذ خطته.. لأنه لا تنفذ مآربهم ولا تحقق أحلامهم إلا بذلك.
قلت: ولكنا لم نسمع في الحفل بأي خطة؟
قال: هو لا يتكلم في هذه الأمور علانية.. هو يأخذ حذره أكثر مما تتصور.. ولذلك هو يرسل إلى خاصة خاصته برسائل مشفرة لا يقرؤونها إلا هم.. بل إنه أحيانا كثيرة، وإمعانا في الاحتياط، لا يثق في الرسل الذين يرسلهم، فلذلك يأتي هو، ويسر لمن يريد أن يتحدث إليه، ويناجيه ليس بينه وبينه أحد.
قلت: لكأنه يمارس أساليب الشياطين.
ضحك أخي، وقال: لقد ذكرتني.. فكثيرا ما يقول لنا هذا عن نفسه..
قلت: ما يقول؟
قال: إنه يقول لنا ـ مازحا بالطبع ـ: أحيانا تقتضي منا التضحية أن نتحول إلى شياطين.. لأنه لا يمكن أن نحقق أهدافنا ونحن نسلك سبل الملائكة.
قلت: ويله.. أيتهم الملائكة بالعجز؟
قال: هو لا يتهم الملائكة بالعجز.. ولكنه يتهم السبل النظيفة بالعجز.
قلت: أرى أن هذا ليس إلا الشيطان.. فكيف نسلم أنفسنا له؟
قال: إن اضطر العاقل أن يستخدم الشيطان لأجل غرضه الشريف، فمن الجنون أن لا يستخدمه.
قلت: أي غرض شريف هذا؟.. إن الرجل يريد أن يتهم محمدا ودين محمد ورب محمد بما هم منهم برآء.
قال: ألم تر المسلمين.. وهم يسلون تلك السكاكين الحادة، فيزهقون بها أرواح الحيوانات البريئة، وهم ممتلئون سرورا؟
ألم تقرأ آيات الاستعباد في القرآن؟
ألم تقرأ الأمر بضرب النساء في القرآن؟
ألم تقرأ ما وصف به القرآن إله المسلمين.. لقد كان من ضمن ما وصفه به قوله:{.. وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} (الأنفال)([5]) ؟
لم أجد ما أجيبه به.. فلما رأى صمتي، قال: أعلم صدقك وإخلاصك.. وأعلم أن بينك وبين دين محمد كما بين السماء والأرض.. ولكني في نفس الوقت أعلم أن بعض الفيروسات قد تسربت إليك نتيجة رحلاتك السابقة لبلاد المسلمين.. أنا أعذرك في ذلك.. فالكثير ممن تعرض لما تعرضت له أصابه ما أصابك.. بل إن الكثير منهم لم يتحمل فراح يحترق في شمس محمد.
ولذلك.. فقد هيأت لك رحلة إلى بلد من بلاد المسلمين.. بلد مملوء بالقساوة.. لتبصر فيه حقيقة الإسلام التي ربما تكون قد خفيت عليك.
قلت: وما وظيفتي في هذه الرحلة؟
قال: ليس لك إلا وظيفة بسيطة لا تختلف عن كثير من الوظائف التي كنت قد كلفتك بها.
قلت: وما هي هذه الوظيفة البسيطة؟
قال: لقد أرسلنا نفرا من قومنا لبلد من بلد المسلمين.. لنعرفهم بحقيقة القساوة التي يحملها الإسلام.
قلت: قد أرسلتموهم.. فما علاقتي أنا بهم؟
قال: أنت – بمكانتك الرفيعة في الكنيسة – ستكون رقيبا عليهم.. لترى سلامة السبل التي يتخذونها لهذا الغرض.. ولنرى مدى نجاح الطرق التي ينتهجونها لنعممها بعد ذلك على سائر بلاد الإسلام.
قلت: فكيف لي أن أعرفهم؟
قال: سأعطيك دفترا يحوي أسماءهم وصورهم والأماكن التي يمكن أن تجدهما فيها.. لترى مدى نشاطهم في الوظائف التي كلفوا بها.. واطمئن فلن يعرفك أحد منهم.. ولذلك، فستقوم بوظيفتك من دون أن يحرجك أي أحد.. هذا هو الغرض الوحيد الذي أردت أن أبعثك له في هذه الرحلة.
قال ذلك.. ثم ابتسم.. وكأنه يخفي شيئا.. فقلت له: لكأني بك تخفي شيئا لا تريد أن تصرح لي به.
ابتسم، وقال: أجل.. لي هدف آخر من وراء إرسالك لهذه المنطقة.. ولهذه الوظيفة..
قلت: ما هو؟
قال: لقد عرفت الجروح التي أصابتك من رحلاتك السابقة.. فلذلك أردت أن تكون هذه الرحلة رحلة علاج.. رحلة تكتشف فيها من قسوة محمد، وقسوة دينه ما يملؤك بالغثاء.. لترجع إلينا بعدها حبرا صالحا يمكنه أن يصير في يوم من الأيام خليفة من خلفاء بطرس وأولئك القديسين الكثيرين الذين جلسوا مجلسه.
***
في ذلك المساء امتلأت هما وغما لما ذكره لي أخي من مظاهر القسوة في الإسلام، فلذلك ذهبت ـ كعادتي في مثل هذه الأحوال ـ إلى الغابة التي تعودت أن ألتقي فيها بمعلم السلام.
لم أسر في الغابة إلا قليلا حتى رأيته، وهو يحمل حجارة يرمي بها حيوانا لم أتبينه، فأسرعت إليه، وقلت: ماذا تفعل؟.. لم أكن أتصور أن رجلا في مثل حكمتك يحمل الحجارة.
قال: لقد دفعتني الرحمة إلى حمل هذه الحجارة.
قلت: الرحمة لا تدفعك لحمل الحجارة.. لا يرمي بالحجارة إلا من قلوبهم مثل الحجارة.
قال: لقد رأيت حيوانا عاديا يهم بحيوان قاصر ضعيف.. وقد خيرت بين أن أترك الضعيف للقوي.. أو أصد القوي عن الضعيف.. وقد دلتني الرحمة أن أنتصر للضعيف من القوي.
قلت: نعم ما اخترت.. ولكن ألم تجد إلا الحجارة؟
قال: لم يكن لي خيار إلا الحجارة.. فالرحمة أحيانا قد تتطلب بعض القسوة.
قلت: لقد قال الشاعر العربي يعبر عن ذلك:
وقسا ليزدجروا ومن يك راحما |
فليقس أحيانا على من يرحم |
قال: صدق الشاعر.. فقد نظر إلى الحقيقة من بابها الصحيح..
قلت: ألا ترى أن هذا قد يصبح حجة للظلمة والمستكبرين والطغاة، فيفعلون ما تطلبه نفوسهم من القسوة، ثم يلبسون على الناس وعلى أنفسهم، فيزعمون أنهم لا ينطلقون إلا من الرحمة؟
سأضرب لك مثالا يقرب لك ذلك.. لقد ذهبنا إلى أراضي المستضعفين نستولي عليها ونتسلط.. ونحن نزعم لهم مع ذلك أن قصدنا هو رحمتهم.. رحمتهم بإخراجهم من التخلف إلى الحضارة.
قال: ولكن كير الامتحان يميز الخبيث من الطيب، والغليظ من اللين، والقاسي من الرحيم.
قلت: وما كير الامتحان؟
قال: أليس قومك يهتمون بالنتائج قبل الوسائل.. فلذلك يتذرعون بكل وسيلة للحصول على ما يرغبونه من النتائج؟
قلت: ذلك صحيح.. وهم يعبرون عن ذلك بأن الغاية تبرر الوسيلة.
قال: فكير الامتحان هو النظر إلى النتائج.. فبذور الشوك يستحيل أن تنبت ثمار العنب.
قلت: أتقصد أن ننتظر النتائج حتى نرى حقيقة الدوافع؟
قال: أجل.. فالنتائج هي التي تبين المنطلقات.. فلا يمكن أن يخرج إلى الوجود إلا ما بذر في أرض النفوس.
قلت: إني أرى أقواما يحملون رايات كثيرة قد التبست علي فلم أدر أهي رايات رحمة أم رايات قسوة؟
قال: لا تنظر إلى الرايات.. وانظر إلى ما يحركها..
قلت: لم أفهم.
قال: أرأيت الطبيب الذي يضطر إلى إجراء عملية جراحية لولد صغير.. فتقف في وجهه الرايات الكثيرة تدافع عن الطفل.. وترمي بالحجارة وجه الطبيب، لكونه يريد أن يقسو على الولد.
قلت: مخطئون هم.. وقساة هم.. وليس الرحيم إلا الطبيب.
قال: لم؟
قلت: لأن رحمتهم القاصرة المحدودة ستقسو على الولد، وستملأ حياته بالألم .. بينما قسوة الطبيب الظاهرة لا تنتج إلا الصحة والعافية.. فقسوته رحيمة.. ورحمتهم قاسية.
قال: فانظر بهذا المنظار للحقائق.. فلا ينبغي للعاقل أن تغره القشور، فينشغل بها عن اللباب.
قال ذلك، ثم انصرف تاركا لي كعادته.
بمجرد أن سار شعرت بهمة عظيمة تدفعني لأرحل تلك الرحلة التي كلفني بها.. بصدق وعزيمة وإخلاص..
لقد قلت في نفسي: فليكن ما يكون.. فالحقائق لابد أن تبرز عن نفسها لا محالة..
***
بعد أيام قليلة سرت إلى البلد الذي طلب مني أن أذهب إليه.. كان بلدا قاسيا في ظاهره، فليس في تضاريسه ولا أجوائه إلا القسوة..
لقد امتلأت بالكآبة عندما نزلت فيه.. لكني ما إن رأيت ورثة النبوة وعاشرتهم حتى تحول كل شيء في نظري إلى جمال لا يضاهيه أي جمال..
لم أمكث في ذلك البلد الطيب طويلا.. ولكني استفدت من كل يوم مكثت فيه ـ بفضل الله ـ من أشعة شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يستطيع اللسان التعبير عنه..
قلت: فهل ستحكي لي خبر ما رأيت؟
قال: أجل.. فقد كانت الأنوار التي تحملها براهين جديدة اقتربت
بها خطوات كثيرة من شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
([1]) لا نقصد بهذا شخصا معينا ولا جهة معينة.. وإنما نقصد صنفا خاصا ممن يسميهم الناس (متدينين) بينما هم في الحقيقة لا يحملون من الدين إلا صورة مشوهة ممتلئة بالقسوة والغلظة والجفاوة.. وقد استعرنا البداوة هنا ـ مع احترامنا للبداوة ـ لما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من بدا جفا، ومن تبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً) (رواه أحمد والبزار)
([2]) رواه الترمذي وحسنه، ورواه أبو داود في المراسيل.
([3]) رواه أبو عبيد في الغريب موقوفا.. ومعنى حديثه صحيح، وقد ذكرنا الحكم الصحية في قوله هذا في مجموعة (ابتسامة الأنين).. ولكنا نشير هنا إلى سوء الفهم الذي ينحرف بالنصوص عن معناها الصحيح.
([4]) رواه أبو داود الطيالسي وأبو نعيم وأبو الشيخ في كتاب العظمة والبيهقي.
([5]) هكذا يتلاعب المبشرون وغيرهم بنصوص القرآن الكريم.. ونص الآية الكامل هو:{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} (الأنفال)، ومعناه على المشاكلة كما هو معروف، فالله تعالى أعظم من أن يحتاج إلى أساليب المكر التي يلجأ إليها الضعفاء.. وسنرى توضيح المعاني المرتبطة بأمثال هذه النصوص في رسالة (الباحثون على الله) من هذه السلسلة.