البداية

البداية

في صباح ذلك اليوم، نهضت على أصوات ملأتني بالرعب.. فقد سمعت ضجة كبيرة في الحارة التي كنت أسكن فيها.. ولم ألبث بعدها حتى سمعت أصوات الرصاص ترتفع.. ثم لم ألبث حتى سمعت أصوات سيارات الشرطة، وهي تملأ الفضاء بصوتها المميز.

كانت الحادثة ـ بالنسبة لي وبالنسبة لمن يسكنون معي تلك الحارة ـ بسيطة عابرة.. فلم تصر تأخذ منا تلك المساحة التي كانت تأخذها في بداية عهدنا بمثلها.

لقد كانت ـ في بداية عهدنا بمثلها ـ تأخذ منا اهتماما كبيرا.. تعقد له المجالس الطويلة.. أو تغلق لأجله الأبواب، وتكمم الأفواه، ويفر كل امرئ بنفسه عن كل شيء.

هكذا بدأ تعاملنا مع مثل تلك الحوادث.. ولكنا بعد أن تعودنا عليها.. وبعد أن تعودت أسماعنا على تلك الأصوات المزعجة، واندمجت لها، صارت لنا كأي صوت نسمعه، ولا نبالي به.

لم ألبث بعد ذلك حتى سمعت جارا لنا، كان شابا نشيطا يدرس في الجامعة، وكانت تلك الأيام أيام امتحانات، فأخذت أسترق السمع لما يحفظ رغما عني، كما تعودت أن أسترق، فلم أسمع منه إلا ما تعودت أن أسمعه.. فقد كان يردد كل حين أسماء حفظها صبياننا كما حفظها شبابنا.. بل حتى عجائزنا سرت إليهن العدوى، فنسين أبا زيد الهلالي وعنترة بن شداد، ورحن يرددنها لنا..

لقد كان بين الحين والحين يذكر أوجست كونت، ودوركايم، وليني بريل، وديفيد هيوم، وآدم سميث، وهويز، وهربرت سبنسر، وفرويد، وماركس، وأنجلز، وبافلوف، وديوي، وبرتراند راسل، وهارولد لاسكي.. وغيرهم كثير.. وكان كل اسم من تلك الأسماء ينفجر في أذني كما تنفجر أعتى المتفجرات.

حمدت الله، فقد انخفض صوته، ثم تلاشى بعدها.. لكني لم ألبث حتى سمعت من بيت جار آخر صوت فيلم بوليسي لم أسمع من كلماته غير كلمات الرصاص والتفجيرات وأصوات السيارات المزعجة.

بعدها ذهبت إلى النافذة لأطل على الشارع، فشاهدت صبية صغارا، وهم يلعبون لعبة الشرطي واللصوص، ويستعملون ما أبدعت هذه الحضارة الشقية في صناعته من أنواع المتفجرات التي لا تكاد تفرق بينها وبين المتفرجات الحقيقية.

أغلقت النافذة.. فما لبثت حتى سمعت صوت ولدي، وهو يبكي طالبا من أمه أن تشتري له نوعا جديدا من المتفجرات امتلأت به أسواقنا.. وكان يقول لها، وهو يبكي:( لقد اشترى كل الأولاد هذه المتفجرات، ولم نبق إلا نحن)، ثم أخذ يصيح 🙁 صدق الناس عندما يعتبروننا بدوا متخلفين.. فنحن لسنا سوى ما ذكروا)

لم أدر كيف غضبت في ذلك الحين غضبا شديدا، ورحت أصيح في الولد وأمه بهستيرية، وأنا أقسم بأغلظ الأيمان بأن لا أشتري له أي لعبة..

بكى ولدي بكاء شديدا لم يحرك في ساكنا.. لكن أمه نهضت وأشغلت التلفاز.. فما إن رأى الولد فيلما من أفلام الرسوم المتحركة المليئ هو الآخر بالقنابل والمدافع والدبابات حتى راح ينشغل بالتفرج عليها عن المتفجرات التي كان يطلبها.

هكذا بدأ ذلك اليوم الذي سمعت فيه قصة ذلك الشيخ الممتلئ بالسلام، وهو يحكي رحلته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي سأرويها لكم..

ومع أن المشهد لم يكن يختلف كثيرا عن سائر الأيام.. لكني في ذلك اليوم خصوصا امتلأت بالألم.

لقد رأيت الصراع في صورة شيطان قد استوى على عرش البشرية، فراح يملي عليها من ألوان الصراع ما لم يعرفه البشر في تاريخهم جميعا.

لكني فجأة.. شعرت بروحانية عميقة، وأنا أسمع صوت الشيخ الصالح في زحمة تلك الأصوات جميعا، وهو يردد بخشوع قوله تعالى:{ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } (يّـس:58).. ثم يكررها مرات كثيرة.. ثم تختلط دموعه بصوته، فلا أكاد أميز صوته عن دموعه.

لست أدري كيف دب الأمل إلى نفسي، وذهب عني ذلك الإحباط الذي سببه لي ما رأيته وسمعته.

أسرعت إليه.. وقلبي يردد ما يردده من الآية الكريمة.. استأذنت عليه، فأذن لي، ودموعه لا تزال تفيض من آثار ما قرأه من القرآن الكريم.

قلت له: سيدي.. ألم تزعجك أصوات المتفجرات التي استيقظنا عليها هذا الصباح؟

قال: نعم.. انزعجت لها كثيرا.. بل كدت أشتعل من فرط انزعاجي.. فلذلك رحت أقرأ آيات السلام لأغسل بها أدران الصراع التي أنشأتها في نفسي أصوات المتفجرات.

قلت: اعذرني ـ سيدي ـ فأنت تعلم الحال التي صار إليها قومي.. لقد استبدلوا بأصوات القرآن العذبة هذه الأصوات.. وليتهم استبدلوها بنهيق الحمير، ولم يستبدلوها بهذه الأصوات.

قال: أنا لم أنزعج لأجل الأصوات.. وإنما انزعجت من قومي..

قلت: قومك!؟.. وما علاقة قومك بهذا؟

قال: ألا ترى أن قومك لم يتخلوا عن أصوات القرآن إلى هذه الأصوات إلا بعد أن تخلوا عن التلمذة على القرآن الكريم وعلى نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، وراحوا يتتلمذون على قومي؟

قلت: أراك تلصق بقومك كل مثلبة.. فهل أنت من الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة([1])؟.. إن من يؤمن بها متخلف عندنا.

قال: ولم تعتبرونه متخلفا؟

قلت: لأنه لا دليل يدل عليها.. هي مجرد خرافات نسجها بعض الناس ليتهربوا من مسؤوليتهم..

قال: ألم تسمع ذلك الشاب.. وهو يحفظ كل ما لقنه قومنا من دروس؟

قلت: هو شاب جامعي.. وهو شاب نشيط.. وقد تعودنا على سماع هذا منه.

قال: فخيرة شبابكم يتتلمذ على أساتذة الصراع الذين خرجناهم.. ألا تعتبر ذلك الشاب خاضعا لمؤامرة؟

قلت: كيف يكون خاضعا لمؤامرة.. هو لم يفعل إلا أن راجع دروسه؟

قال: أرأيت لو أن ذلك الشاب.. وبدل أن يحفظ أسماء أساتذة الصراع حفظ أسماء أساتذة السلام.. هل سينجح في دراسته؟

قلت: هو لن ينجح حتى يعيد لأساتذته بضاعتهم التي باعوه إياها.

قال: فهو مكره إذن على أن يتعلم كل ذلك.

قلت: ليس في العلم حرج.

قال: ولكن الحرج في أن يعلم شيئا واحدا.. ثم لا يكون ذلك الشيء الواحد إلا الصراع.

قلت: على العموم.. ليس ذلك الشاب سوى فرد من أفراد المجتمع.. ولا يمكن أن يتغير المجتمع بتغير فرد واحد فيه.

قال: وأولئك الصبية الذين شغلناهم باللهث وراء المتفجرات.. أليسوا ضحايا مؤامراتنا؟

قلت: وما علاقتكم بذلك؟

قال: ألسنا الذين صدرنا لكم تلك المتفجرات.. وكان في إمكاننا أن نصدر لكم بدلها أناشيد السلام؟

قلت: ولكن قومي هم الذين اختاروا أن يشتروا تلك المتفجرات.. ولو اختاروا أن يشتروا بدلها ورودا لفعلوا.. ولكنهم أبوا إلا أن يشتروا متفجرات..

قال: ومن أملى على قومك أن يشتروا ما اشتروا؟

قلت: نفوسهم.. نفوسهم هي التي أملت عليهم ذلك.. وربما كان لشياطينهم سبب في ذلك.. ولكن السبب الأكبر هو نفوسهم.

قال: النفوس كالشياه لا يتشكل لحمها إلا من العلف الذي تعلفه.

قلت: وما علاقة العلف الذي تعلفه نفوسنا بالمؤامرة؟

قال: ألا ترى قومي كيف وضعوا قومك.. بل البشرية جميعا.. في زريبة واحدة، ثم راحوا يعلفونهم بجميع أنواع السموم كما علفوا البقر الذي جن؟

قلت: لم أر البشرية في زريبة.. ولم أر أي علف يقدم لها.

قال: ألم تر أولئك الراكعين الساجدين أمام ما يصدر قومي من كل ما يسمونه تسلية؟

قلت: بلى.. ولكنها تسلية..

قال: بل هي العلف الذي علفت به نفوس العالم.. إنكم لا تجلسون لتتسلوا، وإنما تجلسون لتعلفوا كل قيم الصراع التي يصدرها قومي.. لتصبحوا حيوانات كحيوانات الغابة يفترس القوي منها الضعيف، ويأكل ذو الناب منها من لا ناب له.

قلت: أهذه أدلتك على نظرية المؤامرة؟

قال: أخطر المؤامرات هي التي لا يقصدها أصحابها.. لأنهم لو قصدوها قد يخطئون في تخطيطاتهم، فينحرفوا عن مقصدهم الذي قصدوه.

قلت: أتقصد أنها مؤامرة قصدوها أو لم يقصدوها؟

قال: أجل.. فلا يمكن لأحد يملأ بستانه ببذور الشوك أن يجني عنبا.

قلت: أقومك هم الزارعون؟

قال: عندما ركن قومك إلى الكسل استولى قومي على جميع حقول العالم، وراحوا يزرعون جميع أنواع الأشواك..

قال ذلك، ثم تنفس الصعداء، وراحت دموع غزيرة تنحدر بقوة، فقلت: هون عليك.

قال: كيف أهون علي.. وأنا أحس بمسؤوليتي عن كل هذه المتفجرات التي تملأ حياتكم ضجيجا؟

قلت: لا تقل ذلك يا ولي الله.. فأنت أرفع من أن تكون سببا.

قال: بلى.. لقد كنت في يوم من الأيام.. كما كان قومي.. سببا من الأسباب.

قلت: ما تقول؟

قال: للأسف.. لقد مدت الكنيسة يدها إلى المصارعين من أول ما ظهر المصارعون.. وراحت تشجعهم على كل ألوان الصراع.. وما تراه من قومك هو ثمار بذور كثيرة غرسها من تربوا في كنائسنا، وتعمدوا على أيدينا.

قلت: ولكن المسيح رسول السلام.. ألستم تروون كل حين قوله 🙁 طوبى لصانعي السلام، لأنهم يدعون أبناء الله([2]) )(متى 5/9)؟

قال: بلى.. لقد صلبنا ذلك المسيح الذي قال تلك الكلمات.. صلبناه بكل حقد، ثم رميناه في جهنم بعد أن صببنا عليه كل ألوان اللعنات([3]).

قلت: وأي مسيح بقي لكم؟

قال: مسيح لا علاقة له بكم.. إنه مسيح روماني.. يحمل كل بذور الصراع التي كانت تصدرها روما للعالم الذي تتهمه بالبربرية.

قلت: ما تقول؟.. إن ما تقوله خطير.

قال: ولكنه حقيقة.. حقيقة عشتها ورأيتها.. بل عاشتها جميع الأجيال التي تقلبت في أصلابها.

قلت: لم أفهم ما الذي تقصد.

قال: لقد رحت أبحث فينا.. في جذورنا.. فلم أجد إلا الصراع..

في البدء.. كان هناك شعبان.. الرومان واليونان.. وكان هذان الشعبان هما الهواء الذي تنفسناه، والماء الذي شربناه..

وقد شربنا مع مياه الرومان واليونان جميع أنواع الصراع.. ولبسنا جميع أثواب الصراع.

لقد كان هذان الشعبان يوحيان إلينا كل حين أن هناك عدوا يهدد وجودنا.. فنصيح من حيث لا نشعر بإعلان الحرب بكافة صورها.. ثم نغرق البشرية بعدها في حمامات من الدماء.

ألا تعلم أن أهم أسباب الحروب الصليبية ـ كما يذكر مؤرخونا ـ هو إعادة توجيه طاقة البارونات الأوروبيين من النزاعات الدموية المحلية إلى غاية نبيلة تتمثل في استعادة الأرض المقدسة وقبر المسيح من أيدي المسلمين؟

وإمعانا من الكنيسة في تحميس الصليبين الذين وهنت دواعي النصر فيهم لكثرة ما سفكوا من دماء بعضهم البعض أصدر البابا (أوربان) صكّه للغفران، والذي عرض فيه إسقاط ذنوب وخطايا الذين يقاتلون المسلمين.. فدبَّت اليقظة في أوصال الجندي المرتبك أخلاقيا، واشتعل حماسا كأنما هو يستيقظ من سبات عميق.

وهكذا كنا دائما..

حتى نظام الفروسة الذي يفخر به قومنا لم يكن إلا مثلا من أمثلة هذا التكريس الديني للنزعات الحربية التي حاولت الكنيسة حتى ذلك الحين قمعها لأغراض مثالية ورغبات نبيلة.. فالحروب الصليبية من هذه الناحية كانت تعتبر المظهر الهجومي للفروسية، والفروسة تعتبر بذرة الحروب الصليبية كما تعتبر ربيبته.. والفارس الذي يشترك في الحروب الصليبية، إنما يشبع بذلك النزعة الحربية الكامنة فيه تحت إشراف الكنيسة وبأمرها، وينال بذلك الخلاص التام والتطهر من الذنوب وهو ما يسعى إليه بشدة.. وربما أمعن الفارس طوال يومه في القتل والتذبيح، فإذا جاء الليل ركع أمام مذبح كنيسة القيامة، يهلل من فرط فرحه آملا أن يكون ما تخضب به من الدماء إنما جرى من أجل السيد المسيح.

قلت: ولكن أوربا طلقت الكنيسة من زمان..

قال: طلقتها.. ولكنها لم تطلق الصراع.. لقد ظلت نزعة الصراع تضرب على أوتار قلوبنا كما كانت تضرب في جميع فترات تاريخنا.

لقد ظهر الفكر الشيوعي.. ظهر كارل ماركس ثم لينن وظهر معهما الصراع الطبقي وكفاح العمال والفلاحين ضد الإقطاعية.. وظهر بعدهم جميع حملة فكر الصراع.. مكسيم جوركي ومايا كوفسكي وبوشكين وغيرهم في أدبهم الذي صار ترجمانا لإملاءات الشيوعية وشعاراتها المتطرفة.

ثم جاءت الوجودية التي قامت أساسا على إثبات حق الوجود ورأت أن قضيتها الأولى هي الصراع الذي بتحدي القوي الغيبية، وما لازمه من الشعور بالعبثية وفقدان الحكمة في الخلق.

وكانت مع هاتين الفلسفتين والنظامين (الرأسمالية) بمبادئها المتطرفة، تنهش عقولنا وحياتنا وتملأنا بالصراع.. لقد عمقت الرأسمالية فينا الأنانية.. لقد أعطت المال لطبقة رأسمالية تمسك بزمام المال والأعمال وتسوس الفكر مع وجود طبقة تعاني من الحرمان مما زاد من معدلات الجرائم واتساع الهوّة في المجتمع الواحد..

رأيت الألم باديا على وجهالشيخ الصالح، فأردت أن أغير الموضوع، فقلت: هون عليك.. فالله الرحمن الرحيم العدل الخبير لا يحاسب الأمم وهي أمم، بل يحاسبها أفرادا.. فلكل فرد ما جنت يداه، ولا يهم من أي أمة كان.

قال: صدقت.. وجزاك الله خيرا على هذه السلوى.. لقد قرأتها في قوله تعالى :{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) } (النساء)

قلت: فأبشر إذن.. فأحسب أنك على خير كثير.

قال: بشرك الله بكل خير..

ثم عقب يقول: أنا لا أريد البشارة لنفسي وحدها.. بل أريدها لجميع أمم الأرض، وأفرادها، فلا يمكن أن تستظل بظل السلام إلا في ظل الإسلام.

قلت: ذكرتني بالسلام.. لقد وعدتني أن تحدثني عن رحلتك لسلام الإسلام.

قال: أجل.. فلا يمسح أحزان الصراع إلا تلك الأحاديث الجميلة التي امتلأت بها في رحلتي إلى سلام الإسلام.

***

اعتدل الشيخ الصالح في جلسته، وحمد الله وصلى وسلم على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مستغرقا في كل ذلك، ثم قال: استدعاني أخي وتوأمي رجل الدين إلى مكتبه الضخم في الفاتيكان، وقال لي: لقد وردتني أنباء لم تصل بعد إلى وكالات الأنباء بأن طائفتين من المسلمين عظيمتين يهم بعضهما ببعض.. ولعل بعضهما يقضى على بعض، فنستريح منهما جميعا.

قلت: لم أسمع هذا في الأخبار.

قال: هناك أخبار يسمعها الناس جميعا.. وهناك أخبار لا يسمعها إلا نحن.

قلت: وكيف نسمعها من دون الناس؟

قال: لاشك أن الكاتب هو أول من يقرأ كتابه.. ولا يمكن لأحد في الدنيا أن يسبقه إلى قراءته.

قلت: الكاتب يحصل له ذلك لأنه هو الذي كتب الكتاب.

قال: ونحن حصل لنا ذلك.. لأنا بسلطان المسيح الذي وهبه لنا صرنا نحن الكتبة.. فنحن نملي على غيرنا.. وغيرنا لا يجد إلا أن يكتب ما نمليه عليهم.

قلت: فلم لا نملي عليهم الهداية التي حثنا المسيح على تعليمها؟

قال: إن هؤلاء الحمقى يقبلون منا كل شيء إلا الهداية التي جاء بها المسيح.. إنهم يزعمون أن الهداية التي جاء بها محمد أكمل وأشمل وأعلم وأوثق من التي جاءنا بها المسيح.

قال لي أخي ذلك، ثم طلب مني أن أسير معه إلى غرفة في بيتنا الجديد بالفاتيكان، وكانت غرفة أشبه ما تكون بغرف الأسرار.. وهناك دلني على تفاصيل السيناريو الذي سيمثله المسلمون بإملاء منا ومن كل المؤسسات العالمية التي اجتمعت على استئصال المسلمين من الوجود.

***

بعد أن امتلأت هما بما ذكره أخي.. وبعد أن أيقنت بالخطر الذي يحدق بالمسلمين.. لم يخطر على بالي شيء كما خطر على بالي أن أسرع إلى بلاد الإسلام لأتدارك الأمر قبل حصوله.

لكني.. وبعد أن فكرت طويلا.. وجدت أنه لا جدوى من ذلك.. فأولئك الذين يتربعون على عروش المسلمين الدينية أو الدنيوية لن يقبلوا مني ما أقول.. لأنهم تعودوا أن لا يقبلوا إلا لمن يملؤهم بالصراع والحقد والضغينة.

في ذلك المساء.. سرت إلى غابة قريبة من محل سكني  لأنفس عن نفسي بعض ما تعانيه من صراع.. وما إن سرت على ثراها قليلا حتى رأيت رجلا كصفحة الماء التي لم تعبث بها التيارات، بل لو أن أعاصير الدنيا اجتمعت ما حركت منه ساكنا.

رأيته قد خط دائرة صغيرة كتب في وسطها (الأنا).. ثم خط بعدها دائرة أخرى مركزها هو نفس مركز الدائرة السابقة سماها (العقل).. ثم تلاها بدائرة أخرى سماها (القلب).. ثم بدائرة أخرى سماها (النفس).. ثم بأخرى سماها (الأسرة).. ثم بأخرى سماها (المجتمع).. ثم بأخرى سماها (الدولة).. ثم بأخرى سماها (العالم).. ثم بأخرى سماها (الكون).. ثم بأخرى سماها (الله)

كان يرسم الدوائر، ويكتب الأسماء المرتبطة بها بتركيز عجيب لا يشبه إلا تركيز القادة الذين يخططون لأعتى المعارك، وقد دعاني ذلك لأن أقول له ساخرا: مرحبا بحضرة القائد العظيم.. أي معركة هذه التي تريد أن تخوضها اليوم؟

قال: معركة السلام.

قلت: أللسلام معركة؟

قال: لا يمكن للسلام أن يتحقق بغير المعارك.

قلت: أرى أن مظهرك لا يوحي إلا بالسلام.. بكيف تتحدث عن الحرب؟

قال: عن حرب أهل السلام، لا حرب أهل الصراع.

قلت: ألأهل السلام حرب؟

قال: أجل.. وهي تنطلق من هذه الدائرة..

أشار إلى الدائرة الأولى التي سماها (الأنا)، ثم قال: من هذه الدائرة يبدأ السلام.. ومن هذه الدائرة يبدأ الصراع.

قلت: كيف.. ألهذه الدائرة من السلطان ما يتيح لها أن تتصرف في كل شيء؟

قال: أجل.. هذه الدائرة هي المركز.. ولا دائرة إن خرب المركز.

قلت: فأي معركة هذه التي تريد أن تخوضها مع (الأنا)؟

قال: معركة التصحيح والتثبيت..

قلت: لم أفهم.

قال: تصحيح الأنا وتثبتها.. فلا يمكن للجندي الذي لم تصح نسبته للحندية، ولم يتثبت فيها أن ينتصر في أي معركة.

قلت: فبم تصحح الأنا، وبم تثبتها؟

قال: أنا الآن أبحث عن أقوم السبل لذلك..

قلت: فهل اهتديت لشيء؟

قال: أجل.. لقد عرفت أنه لا يمكن لعقلي أن يعرف مناهج التصحيح والتثبيت.. لابد من جهة عليا.. عليا بالقدر الذي لا يمكن تصوره.. فهي الوحيدة العالمة بي.. وهي الوحيدة التي تستطيع أن تصححني وتثبتني.

قلت: ولم لا تثبت نفسك بنفسك؟

قال: وهل يستطيع الوتد أن يتثبت نفسه بنفسه؟

قلت: لابد للوتد من مطرقة ومن طارق.

قال: ولابد للأنا من النور الذي يملؤها بالهداية، فترسخ قدمها في السلام الجميل الذي لا تهزه الأعاصير.

قلت: أحسبني وعيبت بعض هذا.. فما الدوائر التالية لدائرة الأنا؟

قال: علاقات الأنا.. وقد وجدت أن الأنا إن كانت ثابتة راسخة صحيحة سيكون ما حولها من الدوائر ثابتا راسخا صحيحا.

قلت: وإن لم تكن كذلك؟

قال: ستهزها الأعاصير.. وستمتلئ بجميع أنواع الحروب التي تستخدم فيها جميع أنواع الأسلحة.

قلت: لكأني بك تتحدث عن سفينة شراعية.

قال: الإنسان سفينة شراعية.

قلت: السفن الشراعية قد تغرق عند الأعاصير.

قال: ذلك عندما تكون أشرعتها ضعيفة.

قلت: فكيف تكون قوية؟

قال: هذا ما أبحث عنه.. وهذا ما ينبغي لكل عاقل أن يبحث عنه.. فكل من لم يبحث عنه سيغرق لا محالة.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة العقل ـ : لقد جعلت العقل بعد أول دائرة من دوائر الأنا؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تصحب عقلا مشوشا متناقضا مضطربا غافلا ممتلئا بالجهل والخرافة.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة القلب ـ : لقد جعلت القلب هو الدائرة الثالثة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تصحب قلبا مريضا سكرانا ضعيفا تهوي به الأهواء في كل المهالك.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة النفس ـ : لقد جعلت النفس هي الدائرة الرابعة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تصحب نفسا طماعة حريصة جشعة متكبرة ممتلئة بالشهوات، مستغرقة في الملذات، مدمنة على الغفلات.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة الأسرة ـ : لقد جعلت الأسرة هو الدائرة الخامسة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تعيش في أسرة مفككة يحارب بعضها بعضا، ويعتدي بعضها على بعض.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة المجتمع ـ : لقد جعلت المجتمع هو الدائرة السادسة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تعيش في مجتمع تملؤه النزعات الخسيسة، والأهواء الخبيثة.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة الدولة ـ : لقد جعلت الدولة هي الدائرة السابعة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تعيش في دولة يحكمها الاستبداد والجور والظلم والطغيان والحريات الكاذبة.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة العالم ـ : لقد جعلت العالم هو الدائرة الثامنة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تعيش في عالم قلق مضطرب متنازع.. القوي فيه يأكل الضعيف.. والمتكبر فيه يتسلط على المستضعف.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة الكون ـ : لقد جعلت الكون هو الدائرة التاسعة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تعيش في كون قد أغارت عليه جنود الإفساد، فحولته عن فطرته السليمة.

قلت ـ مشيرا إلى دائرة الله ـ : لقد جعلت (الله) هو الدائرة العاشرة؟

قال: لا يمكن للأنا أن تمتلئ بالسلام، وهي تجحد الله، أو تحمل صورة مشوهة عنه، أو تحتقره، أو تعزله عن التصرف في وجوده الذي خلقه وأبدعه وصممه.

قال ذلك، ثم راح إلى دوائره مستغرقا فيها، وكأنه لم يكن يحدثني، ولم أكن أحدثه.

***

في تلك الأيام.. وبعد ذلك الحديث الذي حدثني به معلم السلام.. قررت أن أسير إلى تلك البلاد التي تعتزم الفتنة أن تستأصلها، ثم تستأصل بعدها سائر بلاد الإسلام، فاستأذنت أخي.. ففرح كثيرا.. وقال: إن ما تفعله سيرسخ قدمنا في الكنيسة إلى آخر الدهر.

قلت: كيف؟

قال: إن الكل يفر من تلك البلاد.. رجال الدين ورجال الدنيا.. وذهابك أنت تضحية لا تعدلها إلا تضحيات القديسين.. إنك ستعود إلينا إن عدت قديسا يتمسح الكل بك.

قلت: لم؟

قال: أنت هناك معرض للخطف في كل لحظة.. فليس هناك إلا من ملأناهم بالصراع.

قلت: ألا تخاف علي؟

قال: ما دمت قد أمنت عليك من أشعة محمد، فلن تضرك بعدها أي أشعة.

قلت: ولكن الذين سأذهب إليهم لهم حظ من أشعة محمد.

قال: إن الأشعة التي نالوها من محمد لن تزيدك إلا فرارا منه.. وهذا ما دعاني إلى السرور بقرارك، فإن الرحلة التي سترحلها هذه المرة ستغسل عنك كل تلك الشبهات التي علقت بقلبك من رحلاتك السابقة.

قلت: لم؟

قال: سترى من أولئك المصارعين الصورة الحقيقية لمحمد.. تلك الصورة التي ظلت تتزين لك لتملأك بالغواية.

***

كان أخي يدرك المخاطر التي يمكن أن أتعرض لها في كل لحظة في تلك البلاد التي قررت الذهاب إليها.. لذلك ودعني ـ كغير عهده ـ وداعا حارا، وكأنه قد تيقن أني لن أعود إليه من جديد.

امتطيت الطائرة.. وسرت إلى البلاد التي تموج بكل أنواع الصراع.

عندما دخلتها لم أشم إلا روائح الموت.. كان الموت في الطرقات والأزقة والبيوت كالهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه.

في المطار رأيت عشرة من الرجال.. فيهم الكهل، وفيهم الشاب، وفيهم الشيخ.. كلهم وقفوا في انتظار الحافلة التي سننتقل بها إلى المدينة التي لا يولد فيها إلا الموتى.

كان أهل المطار ينظرون إلينا بشفقة وحزن، وكأنهم يعلمون ما ينتظرنا من دواه.

لم نلبث إلا قليلا حتى جاءت حافلة خربة عضتها السنون بنابها.. وقد كان إطارها مخترقا برصاصات كثيرة تدل على المخاطر الكثيرة التي نريد أن نسير إليها.

ركبنا الحافلة.. ولم نسر إلا أميالا حتى استقبلنا من يسميهم الناس (صناع الموت).. أخذونا وكأننا معهم على ميعاد، ووضعونا في مغارة لا تختلف كثيرا عن القبور.

بعدها عرضونا على محكمة صورية كان الكل فيها ملثما، فلم نميز أحدا منهم، وفيها حكم علينا بالإعدام.. وقد منوا علينا فوهبونا عشرة أيام من الحياة، لنودع فيها الحياة، ونودع فيها ما استودعناه ذاكرتنا من ذكريات.

في المغارة.. جلسنا جميعا، لا ندري ما نفعل.. تفرست في وجوه الجالسين معي، فلم أجد فيها من الحزن ما كنت أتصور أن يوجد، فقلت من دون أن أشعر: أراكم مطمئنين إلى الحكم الذي حكم علينا.. فهل ترونه حكما عادلا؟

قال أحدهم: لقد كنت نفذت في يوم من الأيام هذا الحكم على نفسي.. ولكني لم أنجح.. لقد وقف بعض المسلمين حائلا بيني وبين تحقيقه.. ومن عجائب الأقدار أن المسلمين الذين بسببهم مدت حياتي مدة طويلة هم أنفسهم الذين يريدون أن يضعوا حدا لحياتي.

قال آخر: إن ما حصل لك هو ما حصل لي.. لقد قدمت نفسي ذات يوم لمقصلة الموت.. فوقف مسلم دون ذلك.. وها هو أخوه ينفذ ما عجزت عنه.

قال آخر: لكأنكما تتحدثان عن نفسي.. أنا نفسي حصل لي ما حصل لكما.

قال آخر: وأنا كذلك.

نطقوا جميعا: إن هذا من العجائب.. كلنا حصل لنا ما تذكرون.

امتلأت عجبا بما سمعت.. فقلت لهم: إن ما تذكرونه عجيب.. فحدثونا بأحاديثكم، فلا أرى هؤلاء أخرونا هذه الأيام العشرة إلا ليسمع بعضنا حديث بعض. 

***

التفت إلي الشيخ الصالح، وقال: في هذه الرحلة لن أحدثك إلا بأحاديث هؤلاء العشرة الذين تعلمت منهم من سلام الإسلام ما لم أتعلمه في حياتي جميعا.

لقد وصلت إلى قناعة كبيرة في هذه الرحلة بأنه لا سلام إلا في الإسلام.. وأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي جعله الله سلاما لكل العوالم.. العوالم التي هيئ لحواسنا أن تراها، والعوالم التي لم يهيأ لها أن تراها.


([1]) ننبه إلى أننا بنينا أحداث هذه الرسالة على ما يسمى بنظرية المؤامرة بأبعادها المختلفة.. ونحن ـ كما تعودنا في هذه السلسلة ـ لا نقصد الأحداث، وإنما نقصد المعاني الرمزية التي تحملها.

([2]) ذكرنا بتفصيل المعنى الصحيح لهذه العبارة على حسب الكتاب المقدس، وهو مرادفتها لمعنى (ولي الله) في رسالة (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

([3]) انظر (النبي المعصوم) من هذه السلسلة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *