البداية

في ذلك اليوم الذي تشرفت فيه باستضافة الشيخ الغريب الصالح رأيت عجبا، سأحكيه لكم كما رأيته، ولا جناح عليكم أن تنكروه، فأنا نفسي كنت أنكر الكثير مما يحكى لي من هذا الباب، إلى أن رأيته بأم عيني.
كنت قد أعددت للشيخ غرفة خاصة منذ زيارته لي، هي أحسن غرف منزلي، وقد كانت منفصلة عن سائر الغرف، وتطل على حديقة البيت.
في منتصف تلك الليلة، انقطعت الكهرباء، فنبهني أهلي إلى أخذ سراج ـ كنا نستعمله في هذه الحالات ـ إلى غرفة الشيخ، لعله يحتاج إليه، فقد كانت الظلمة شديدة جدا.
ما سرت قليلا إلى الغرفة حتى رأيت عجبا.. لقد رأيت أضواء ساطعة، كأجمل ما يمكن أن تراه من أضواء دفئا وحنانا وإنارة ولطفا.. فتعجبت كل العجب من مصدرها، فلم يكن في الغرفة أي شيء يمكن اعتباره مصدرا لها، ولم يكن لدى الشيخ أي محفظة يمكنه أن يحفظ فيها أي نوع من أنواع المصابيح.
أصابتني هيبة من ذلك كادت تقعد بي عن زيارته وإيصال السراج له، ولكني تغلبت عليها، وقهرت مخاوفي، وسرت نحو غرفته.
أطللت من نافذة صغيرة عليه، فرأيته جالسا على السجادة التي هيأتها له، رافعا يديه إلى السماء، والدموع تنحدر من عينيه بخشوع وجلال، وقد غمرت تلك الأضواء الجميلة وجهه، فصار كالشمس، أو قريبا من الشمس.
لقد كان منظرا يصور الخشوع والإيمان بأرقى درجاته.. ولا يمكن لأي آلة تصوير في الدنيا أن تصور جلال ذلك المنظر وجماله.
لست أدري كيف سقط السراج من يدي، فأحدث بعض الجلبة، جعلت الشيخ ينتبه من ذلك الخشوع الذي ملأ كيانه، ثم يلقي ببصره إلى النافذة ليراني.
غمرني الحياء من نظره لي، خشية أن يتهمني بالتجسس عليه.. لكنه ناداني، فدخلت إليه، لتشملني تلك الأنوار التي شملته، والتي لم يكن لها أي مصدر ظاهر.
قلت: ما هذا.. إن هذا لعجب!؟
قال: ليس عند ربك عجب.. إن ما تراه من أنوار فضل من فضل الله لا يقل عن أي فضل آخر نراه في كل لحظة، ونعيشه، وننعم به.
قلت: ولكن تلك الأنوار ينعم بها كل الناس.. أما هذا النور، فلا أراه الآن إلا في بيتك، وهو كرامة عظيمة لا تقل عن الكرامات التي حكيت عن أهل الله.
قال: إن فضل الله العظيم يشمل الكل.. وما أنا إلا فرد بسيط حقير فقير.. وقد علم الله فقري إليه، فأنالني بعض ما أنالهم، وذلك لا يعني أني مثلهم، بل ولا قريبا منهم.
ثم أخذ نفسا عميقا، وقال: أنا الآن مشغول ببناء حياتي الجديدة مع الله.. أنا لست سوى مريد صغيرة يجلس أمام أشعة تلك الشمس الجميلة المشرقة ليشم عطر أنوارها..
قلت: ولكن أحاديث الكرامات صارت موضوعة في هذا الزمان.. فأنا بين قوم لا يصدقون إلا بالأسباب، وعالم الأسباب.. ولو أصبحت أحدثهم بما رأيت لاتهموني بالكذب، بل بالدجل.. بل يملأون الأرض ضجيجا على خفة عقلي، وأحسنهم حالا، وأقربهم إلي مودة من يذهب يلتمس لهذا الأمر أسبابه وقوانينه التي لا تخرج به عن قوانين الكون التي نعيشها.
ابتسم، وقال: الله رب القوانين والأسباب والكون.. فلا ينبغي أن تخضعوا الله للقوانين التي خلقها.
نظر إلى السراج الذي كنت أحمله، ثم قال: ما هذا؟
قلت: سراج.. لقد أتيت به إليك، لما انقطعت الكهرباء.
قال: فحدث قومك عن سراجك هذا، لتقنعهم بسرج ربك.. استعمل القياس لإقناعهم بذلك.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لم تكن عادتك أن تحمل سراجا في هذا الوقت من الليل لتحمله إلى هذا الموضع من بيتك.
قلت: أجل.. ذلك صحيح.. لعل هذه أول مرة أفعل هذا.. فقد كان هذا البيت معدا للضيوف.. ولم يكن من عادة الكهرباء أن تنقطع في حضورهم.
قال: فما فعلته إذن خرق للعادة..
قلت: كيف ذلك؟
قال: البشر يتعرفون على القوانين من خلال التجربة والاستقراء.. إنهم يرون للأشياء صورا معينة في ظل ظروف معينة، فيستنتجون القوانين من خلال ذلك.
قلت: ذلك صحيح.. كل القوانين تبدأ هكذا، ثم تعمم أحكامها.
قال: وحينذلك يقع الخطأ.
قلت: أي خطأ؟
قال: التعميم.. التعميم أعظم الأخطاء.
قلت: لابد للقوانين أن تعمم.. وإلا ذهب العلم.. ولاحتجنا في كل لحظة إلى تجارب جديدة.
قال: يمكنكم أن تعمموا، ولكن مع ذلك لا ينبغي أن يمنعكم التعميم من اعتقاد احتمال خرق التعميم.
قلت: لم أفهم.. عد بنا إلى السراج، وتطبيقه على هذا.. لعلي أفهم مرادك.
قال: فلنفترض أن هناك رجلا تتبع حياتك في هذا الوقت من الليل.. فرآك في كل السنوات التي مرت بها حياتك، وفي هذا الوقت بالذات من الليل لا تفعل ما فعلته الليلة، فراح يستنتج قانونا يذكر فيه هذا.. بناء على استقراء كل المدة التي مضت من حياتك.. هل ترى ذلك ممكنا؟
قلت: أجل.. فكل العلماء الذين يستنتجون القوانين يفعلون هذا.. إنهم ينطلقون من استقراء حالات معينة في فترة معينة، ثم يحكمون من خلال ذلك، ثم يعممون الحكم.
قال: فما فعلته أنت اليوم إذن بهذه المقاييس خرق للعادة!؟
قلت: يمكنك أن تقول ذلك.. بل نحن في عرفنا نصف الكثير من تصرفاتنا بأنها خارقة للعادة، أو أنها مستحيلة.
قال: فكيف أجزتم لأنفسكم ـ وأنتم الممتلئون ضعفا ـ أن تنخرق لكم العوائد، ولم تجيزوا لربكم أن يخرق العوائد لمن شاء، وكيف شاء!؟
قلت: وعيت هذا.. ولكني أعلم أن لله سننا في الكون.. وأنه لا تبديل لسنن الله، فكيف ينسجم هذا مع ما أراه؟
قال: هذا من سنن الله..
قلت: هذا خرق للعوائد.. فكيف تذكر أنه من سنن الله؟
قال: أليست السنن هي القوانين التي تحكم الأشياء؟
قلت: أجل.. فالله نظم الكون بنظام دقيق محسوب لا ينخرق.
قال: سأضرب لك مثالا يوضح لك هذا.. لقد من الله تعالى على إبراهيم u بأن جعل النار بردا وسلاما عليه، فقال تعالى:{ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الانبياء:69)
قلت: هذا خرق للعادة.. وقد تحقق لإبراهيم u، لأنه نبي الله.. ولكن مع ذلك فإن من قومي من يستحيي من ذكر مثل هذا..
قال: نعم إن ما حصل لإبراهيم u خرق للعادة، ولكنه ليس خرقا لسنن الله.. بل هو من سنن الله.. فسنن الله مطلقة لا تتبدل، ولا تتغير.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لقد كان إبراهيم u في تلك اللحظات يعيش حالة إيمانية عالية.. لقد ألقي في المنجنيق ليرمى به إلى ما أضْرَم له أعداء الله من النار، فلم يتحرك قلبه، ولم ترتعد فرائصه، بل بقي كالطود الأشم لا تزعزعه الرياح، بل سرت السكينة من باطنه إلى ظاهره إلى ما حوله، فأطفأت ببرودتها وسلامها نار النمروذ وزبانيته.
جمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها، واشتعلت واشتدت، حتى أن الطائر كان يمر بجنباتها، فيحترق من شدة وهجها.
ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا، وغفلوا أن يقيدوا سكينته، أو عجزوا أن يقيدوها.
وحينذاك ضجت السموات والأرض ضجة واحدة: ربنا! إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره يحرق فيك، فأذن لنا في نصرته.
وكان الله يعلم ما في قلب إبراهيم، فقال ـ كما يروي المفسرون ـ: (إن استغاث بشيء منكم أو دعاه، فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري، فأنا أعلم به وأنا وليه)
فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه خزان الماء – وهو في الهواء – فقالوا: يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار بالماء. فقال: لا حاجة لي إليكم.
وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار. فقال: لا.
ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: (حسبي الله ونعم الوكيل)
وحينها جعل الله من هذا الذي أرادوا حرقه به بردا وسلاما وبشارة.
قلت: وعيت هذا.. وهذا من خرق السنن، فكيف تعتبره من السنن؟
قال: بل هو من السنن.. فـ { لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الفتح: 23)
قلت: كيف ذلك؟
قال: أرأيت لو أن عالما ـ يحترم نفسه، ويحترم تخصصه، ويحترم العلوم التي وهبت له ـ تمكن من إجراء تجارب معينة في ظروف معينة، واستنتج قوانين منها، ولكنه لم يتمكن من إجراء تجارب على ظروف أخرى.. فهل يستطيع الحكم على نتائج ما لم يجرب عليه؟
قلت: لو فعل ذلك لخرج عن المنهج العلمي.. ولدخل في زمرة أهل الخرافة الذين يستخدمون كل ما توحيه لهم أنفسهم من أهواء.
قال: فهذا ينطبق على من ينكر هذه الخارقة، أو يعتبرها خارج سنن الله.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لأن إبراهيم u كان في ذلك الحين في حالة نفسية معينة، حولت من النار الحارقة بردا وسلاما.. فلو أن أحدا مر بنفس ظرف إبراهيم u، وبنفس حاله الإيمانية، فإن النار ستبرد له، وستصير سلاما كما صارت على إبراهيم.
قلت: لا يمكن لأحد أن يكون كإبراهيم.
قال: إذن لا يمكن الحكم على شيء لا يمكن التجريب عليه، وإلا كان ذلك الحكم محض خرافة.
قلت: إن ما ذكرته يحتاج إلى تأمل لاستيعابه.. دعنا منه، وأخبرني عن السنة التي جعلت غرفتك تضاء بالسرج دون غرفتي.. ودون غرف كل أولئك الخلق الذين نراهم.
قال: لا طاقة لي بالتعرف على السنن التي تضبط هذا، ولكني سأذكر لك حديثا قد يبين لك بعض القوانين التي يمكن أن تستنتجها لهذا.
لقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم) ([1])
قلت: أفي هذا الحديث قوانين تشير إلى هذا؟
قال: أجل.. لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا خارقا في تصوراتنا الهزيلة، وهو مصافحة الملائكة لنا، وذكر لها سببين، عبر عنهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر)
فأولهما الديمومة على استذكار المعاني الإيمانية التي كان يذكر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والثاني هو الديمومة على الذكر.
قال ذلك، ثم رمى ببصره إلى السماء، وسبح في آفاقها البعيدة، وقال: ألا يرمي هؤلاء المساكين الذين ينكرون هذا بأبصارهم إلى السماء ليروا هذا الكون العريض؟
أليس الذي خلق كل هذا بقادر على أن يخلق أي شيء؟
إن حياتنا جميعا خواق يعجز العقل عن تفسيرها.. فكيف ينكر العقل الذي يعجز عن تفسير كل شيء ما لا يستطيع فهمه أو إدراكه؟
نظرت إلى الساعة، فوجدتنا قد قطعنا شوطا طويلا من الليل، فأخذت السراج، وأردت أن أنصرف، فقال: اجلس..
قلت: لقد خشيت أن أكون قد آذيتك.. وإلا فإن الحديث معك لا يمل.
قال: اجلس لأحدثك عن رحلتي التي هداني الله بها إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فلا حال أنسب للحديث عن هذه الأشعة من هذا الحال، ولا وقت أنسب لها من هذا الوقت.
قلت: أعجبا .. أكنت تائها عنه؟
قال: لقد أمضيت كل عمري تائها عنه .. ولولا أن هداني الله إليه لكنت الآن من الجافين عنه المحاربين له.
قلت: من أي البلاد أنت؟
قال: لا تهمك بلدي.. ولا يهمك اسمي .. يكفي أن تعرف قصتي.. وأن تسجلها بقلمك.. فلم أزرك إلا لأجل ذلك.
قلت: أكنت تقصدني إذن عندما خرجت من المسجد، وطلبت المأوى؟
قال: أجل.. كنت أقصدك.. بل كنت أقصد قلمك.. فهاته لتسجل ما أحكيه لك.
***
تحت أشعة تلك السرج الجميلة بدأ الشيخ يحدثني عن رحلته إلى الإسلام.
قال: في ذلك اليوم جاءتني رسالة من الفاتيكان تأمرني بالذهاب إلى الهند، وإلى مدينة من مدنها الفقيرة، وقد عرفت سر اختيار تلك المدينة.
فقد كان رجال الفاتيكان يعرفون توجهي العقلي.. ويعرف مثله بغضي للتخلف.. ويعرفون فوق ذلك ما أبديه من تعاطف نحو الإسلام والمسلمين، فأرادوا من خلال تلك الرحلة أن أتعرض لما يفاجئني.. فأرى الخرافة التي تصادم توجهي العقلي، وأرى الفقر الذي يصادم بغضي للتخلف.
ولكن الله شاء أن أتعرض في تلك المدينة الفقيرة.. والجميلة بفقرها.. إلى أشعة لم أكن لأظفر بها لولا أن قيض الله لي تلك الرحلة..
لقد كانت تلك الرحلة بداية للبحث العقلي والعلمي عن الإسلام وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.. وكانت النهاية هي اعتناقي له بقلبي وقالبي وكل كياني.
امتطيت الطائرة المتوجهة إلى الهند، وجلست في بعض كراسيها.. ولست أدري كيف خطر على بالي رؤيا رأيتها من زمن بعيد .. رأيت العذراء.. لقد ارتسمت صورتها التي رأيتها في مخيلتي.. كما ارتسمت الكلمات التي ذكرتها لي في أذني ..
لقد صرت أسمعها في اليقظة كما سمعتها في النوم.. وهي تصيح في بصوتها الرقيق الحنون.. والذي يحمل شدة مكسوة برحمة.. تقول لي: ابحث عن الشمس التي بشرت بها الأنبياء، وتحطمت أمام أشعتها الطواغيت.. ومن أفواهها سارت الكلمات المقدسة.
ابحث عن الشمس التي فتحت لها خزائن العلوم، وخرقت لها أسوار الأقدار، وامتلأت القلوب حبا لها، وشوقا إليها.
ابحث عن الشمس التي هي رحمة وعدل وسلام.
ابحث عن الشمس التي تبشرك بحقيقة الوجود، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة.
فلن ينقذك من بردك وظلمتك إلا هذه الشمس.
قالت ذلك، ثم انصرفت في طي الغيب، كما جاءت..
لقد كانت رؤيا غريبة تلح على بالي كل حين، ولا أجد لها تفسيرا.
فجأة التفت، إلى الذي بجانبي، فإذا بي أرى وجها مشرقا كالشمس، هادئا كصفحة الماء التي لم تعبث بصفائها التيارات.
ابتسم، وقال: ألا تزال تذكر رؤياك للعذراء؟
تعجبت من معرفته بذلك، وقلت: أجل.. وقد كانت تخطر على بالي الساعة.. بل كان صوتها العذب الجميل يترنم بألحانه العذبة الآن في أذني.
قال: فهل أسمعتك حديث الخوارق؟
كنت في ذلك الحين لا أؤمن بالخوارق.. حتى ما ورد عن المسيح.. كنت أقلد في ذلك تقليدا.. لقد كان توجهي العقلي يكاد يحيلني ملحدا في هذا الباب.
قلت: أجل.. لكن كيف عرفت ذلك؟
ابتسم، وقال: معارفك تبع لهمتك.. وهمتك تبع لطبيعتك.. وطبيتعك تبع لحقيقتك.
قلت: وحقيقتك تبع لمن؟
قال: تبع لإرادتك.. فلن يصنعك غيرك.. أنت الذي تقرر كيف تكون.
قلت: ولكن الإرادة قد يعتريها ما يملؤها بالعجز، فتقع في أدغال الجبن.
قال: لقد زود الله الإرادة بما يخرجها من كل السجون..
قلت: حتى لو رميت مفاتيح سجونها في أعماق المحيط!؟
قال: حتى لو رمي بمفاتيحها في أدغال المجرات.. فإن الروح تستطيع أن تصرخ مستغيثة ليأتيها المدد من كل مكان..
قلت: بالعوائد.. أم بخرق العوائد؟
قال: ليس هناك شيء اسمه عوائد.. فلذلك لا وجود لخرق العوائد.
قلت: العوائد هي القوانين التي يسير بها الكون.. فكيف تزعم عدم وجودها؟
قال: العوائد تعني التكرار.. ولا تكرار عند ربك.. إن ربك هو البديع الذي لا يكرر صنعه..
قلت: ولكنا نرى القوانين السارية..
قال: أنتم ترونها بعين الغفلة.. فلذلك ترونها تكرارا.. ولكنكم لو رأيتموها بعين الحقيقة لرأيتم في كل قديم جديدا، وفي كل حادث حديثا.
إن الكون الذي ترونه كآلات تتحرك بتلقائية، فتشبهونه بآلاتكم التي تتفنون في صنعها أشبه ما يكون بتلك العرائس التي تحتاج من يحركها.. فإذا رآها الغبي الغافل تصورها تتحرك من ذاتها.
قلت: لقد ذكرت لي العذراء أن القوانين تخرق لتلك الشمس التي بشرتني بها.
قال: لا بد للقوانين أن تخرق لكل شمس، لتثبت أنها شمسا.. فلا يمكن لطاقة الشمس أن تكون كطاقة السرج التي تستضيئون بها.
قلت: فما حاجة الشمس لأن تخرق لها العادات؟
قال: ليعرف الناس أنها من مصدر علوي..
ثم التفت إلي، وقال: أنت الآن ذاهب إلى الهند.. وهناك لا يعرفك أحد.. وستذهب إلى قوم قد ينكرونك، وقد يطردونك من بينهم، فما الذي تفعله لتثبت لهم أنك أنت أنت، وأن وظيفتك هي وظيفتك؟
قلت: لا تخف علي من ذلك.. فهناك من أنبأهم بأني سآتي..
قال: فهناك من بشرهم بقدومك إذن([2]).
قلت: تستطيع أن تقول ذلك..
قال: ولكن.. يمكن أن يستغل أحد من الناس تلك المبشرات، فيدعي أنه المبشر بها دونك، فكيف يميز بين الكاذب والصادق منكما؟
قلت: ذلك بسيط.. لدي في هذه الحقيبة كل الوثائق الدالة على هويتي ووظيفتي، ولن يستطيع أحد من الناس أن يأتي بمثلها.
قال: ولكن يمكن أن يزور وثائق مثلها.
قلت: يمكن أن يزور الكتابة.. ولكن هناك أشياء مهمة يستحيل تزويرها، وهي تعرف بالمصدر الذي ابتعثني لهذه الوظيفة.
قال: فتقليدها مستحيل إذن.
قلت: أجل.. لقد ابتكر قومي في هذا الباب وسائل خارقة يستحيل تقليدها.
قال: فربك يفعل هذا إذن مع الشمس التي يرسلها لتضيء على خلقه.. فهو لا يكتفي بالبشارات التي تبشر بها، بل يعطيها من القوى والخوارق ما يعجز الدجالون عن تقليده.
قال ذلك، ثم قام مستأذنا، بعد أن طلبت المضيفة المشؤومة أوراقه.
بقيت متأملا ما قال، فوصلت إلى نتيجة نفت عن عقلي ما كان يتمسك به مما يعتبره روح العلم وحقيقته.
لقد صرت أدرك أن الله تعالى لا بد أن يمد عباده الذين يصطفيهم بما يؤكد كونهم من عنده.. حتى يقطع الطريق على الدجالين من المتنبئين.
***
كان في المقعد الأمامي للطائرة شابان يتحدثان بحماسة، وقد ارتفعت أصواتهما، وكل منهما يريد أن يفرض قناعته على أخيه.
قال أحدهما، وهو عبد الحكيم([3])، على حسب ما عرفت بعد ذلك: اسمع.. يا أخي عبد القادر.. إن الذي تقوله خطير جدا.
عبد القادر: لست أرى أي خطورة فيه.. بل لا أرى شيئا يناسب تلك البلاد، ويناسب أهلها والظروف التي يمرون بها إلا هذا.
عبد الحكيم: ولكن ألا تخشى من ثورة الخبراء والعلماء على الإسلام كما ثاروا قبل ذلك على الكنيسة؟
عبد القادر: نحن لا نزعم أن هذه قوانين تنطبق على كل الناس.. هذه أحكام خاصة ارتبطت ببيئة خاصة، وكان قصدها تحقيق أهداف خاصة.
عبد الحكيم: ولكنا يمكن أن نتوسل للإقناع بذلك بأدلة أخرى كثيرة غير هذه.. يمكننا أن نستدل ببلاغة القرآن الكريم.
عبد القادر: هم لا يعرفون العربية، فكيف نقنعهم ببلاغة القرآن الكريم؟
عبد الحكيم: فنقنعهم بعلومه؟
عبد القادر: هم يتخبطون في مستنقعات الجهل التي فرضها عليهم عدوهم، فكيف يفهمون ما تقول؟
عبد الحكيم: نقنعهم بتشريعات الإسلام وتنظيماته.
عبد القادر: هم لن يفهموا كل هذا.. هم قوم لا يؤثر فيهم شيء مثلما تؤثر فيهم الخوارق.. إن آباءهم هم الذين اخترعوا فنون اليوغا، وأنواع السحر.. إنهم لا يؤمنون بشيء كما يؤمنون للخوارق..
وقد استغلت الكنيسة القائمة هناك هذه الطبيعة المتأصلة فيهم، فراحت تستنفر لها كل ما روي عن المسيح u من الخوارق، لا لتثبت لهم نبوته، بل لتثبت لهم إلهيته.
عبد الحكيم: أجل.. وقد علمت أن مبشرا خبيرا قدم تلك البلاد.. واسمه (بولس) وقد كان لهذا الرجل أثره الخطير في ردة الكثير من المسلمين في إفريقيا، فله القدرة على تصوير الخوارق ببلاغة، وكأنها تحدث أمامك.
عبد القادر: أفنترك هذا الرجل يعيث في الأرض فسادا، ونظل نتجادل.
عبد الحكيم: لم أقصد أن أجادلك، ولكني أردت أن نتحرى الحقيقة فيما نقول، خشية أن يتسرب لديننا من الخرافة ما يكدر صفوه.
عبد القادر: لا تخف.. فنحن أحرص الناس على صفاء الدين.. إن الأدلة التي نستند إليها في إثبات ما نقوله تعجز كل الدنيا عن ردها..
عبد الحكيم: فما ترى من سبيل لرد دعوة هذا المبشر؟
عبد القادر: ذلك بسيط.. أخرج ورقة وقلما.. وتعال أخبرك بما سنفعل.
أخرج عبد الحكيم ورقة من محفظته، وراحا يهمسان بما سيفعلانه.
***
وصلت إلى الهند، فاستقبلني الرجل الموكل بكنيستها، ولست أدري كيف عرفني، لقد جاء، واحتضنني، وقال: مرحبا بك معنا رسولا من رسل المسيح.
ثم عرفني بنفسه، وأنه (بولس) ـ الذي كان يتحدث عنه عبد القادر وعبد الحكيم ـ وحدثني، والسرور يهز نفسه، عن الفتوح العظيمة التي فتحت له في إفريقيا.
لقد كان بولس من خلال كلماته وحركاته كتلة عجيبة من النشاط قل نظيرها، وكان له من الإخلاص والصدق بقدر ما كان له من النشاط، فلم يكن يرغب في أي مسؤولية أو وظيفة غير وظيفة التبشير، قال لي: في الحقيقة أنا لا أصلح لتولي هذه المسؤولية التي أنيطت بي في هذه الكنيسة.. أنا لا أصلح لأن أكون مسؤولا.. ولذلك فقد سررت كثيرا بمجيئك.. فأنت الذي ستتحمل ما يرتبط بهذه الكنيسة من مسؤوليات.. أما أنا، فدعني أسير بين الناس أبشر بذلك المخلص الذي فدانا على خشبة الصليب.
قلت: هل لي أن سير معك، لأتعلم على يديك فنون التبشير.
قال: إن ذلك يسرني.. سوف أعلمك من أساليب التبشير في هذه البلاد ما يجعل الناس يتهافتون عليك كما يتهافت الفراش على النار.
ابتسم، وقال: عذرا.. أنا دائما لا أعرف صياغة التشبيهات.. أقصد.. يتهافتون عليك كما يتهافت النحل على الأزهار.
قلت: من أين لك هذه المقدرة العجيبة؟
قال: لقد اكتسبتها من طول المدة التي مكثتها في إفريقيا.. تصور.. لقد استطعت عن طريق قصي لحادثة واحدة ـ هي حادثة إحياء المسيح لبنت يايرس، والتي وردت قصتها في (مرقس 5: 21-43)([4]) ـ من إدخال الآلاف المؤلفة رحاب الكنيسة.
قلت: وهل يصدق الناس أنباء الخوارق بسهولة؟
قال: وهل تتصور أن هناك دينا من غير خوارق.. الدين لا يثبت إلا بالخوارق.. بل ولا يستمر إلا بالخوارق.. بل إن الكنيسة في جميع أطوارها التاريخية اعتمدت هذا الأسلوب.. حتى بولس.. بولس الرسول.. لولا تلك الخارقة التي حصلت له([5]) ما كان ليصير بولس الذي يزاحم الحواريين، بل يبعدهم عن طريقه، ويسبقهم مكانة وتقديرا ودورا.
قلت: أليس في هذه البلدة مسلمون؟
قال: بلى.. كما كان في إفريقيا التي بشرت فيها مسلمون.. إن الإسلام ييسر لنا التبشير أكثر من أي دين آخر.. فالمسلمون يؤمنون بالله أصلا، فلذلك لا نحتاج لأن نقنعهم بالله، بل نكتفي بإضافة ابن لله.. فيتحولون من الإسلام إلى المسيحية.
قلت: فإن حصلت اعتراضات من المسلمين، أو ناقشنا بعضهم!؟
قلت هذا، وأنا أشير إلى عبد القادر وعبد الحكيم اللذين سمعت عزمهما على تعطيل محاولات (بولس) التبشيرية.
قال: نرحب بكل كلمة تقال.. بل نسمع لها.. ولو حصل ذلك، فإنا نكون أنشط لما نقول.. وقد نجد من الشبهات حينها ما نمطرهم به..
قلت: متى تبدأ جلساتنا التدريبية؟
قال: من الغد.. غدا تبدأ تلك الجلسات أو تلك الخرجات.. لقد نذرت
حياتي للمسيح.. ولا ينبغي أن أضيع لحظة منها.
([1]) رواه مسلم.
([2]) انظر: أنبياء يبشرون بمحمد، من هذه السلسلة.
([3]) الأسماء التي نوردها في العادة في هذه الرسائل وغيرها تكون لها دلالة معنوية خاصة، فعبد الحكيم يشير هنا إلى عالم الحكمة والأسباب والسنن الإلهية التي يسير عليها الكون، وعبد القادر يشير إلى الناحية الثانية المكملة لهذه الناحية، وهي أن قدرة الله لا يحدها شيء، ولا يحكم عليها شيء.
والإشارة فيهما ـ كالإشارة في الرسالة السابقة (معجزات علمية) في شخصية علي وحذيفة.
فعبد القادر في هذه الرسالة يمثل الحديث عن القدرة الإلهية، والخوارق المرتبطة بها، ويمثل في نفس الوقت جمهور المسلمين القائلين بذلك، وعبد الحكيم يمثل عالم الحكمة، وهو يمثل طائفة من الناس ظهرت في هذا العصر تحاول التهرب من المعجزات خشية على تلبس الدين بالخرافة.
([4]) ستأتي قصتها في فصل (تحديات) مبحث (الخوارق والألوهية)
([5]) الخارقة التي حصلت لبولس، والتي جعلت المسيحيين يولونه كل ذلك الاهتمام هي أنه رأى المسيح بعد رفعه بسنوات، فبينما هو ذاهب إلى دمشق في مهمة لرؤساء الكهنة تجلى له المسيح دون القافلة التي كان يسير معها، وفي ذلك التجلي منحه منصب الرسالة.. وكان مما قاله له:« ولكن قم وقف على رجليك لأني لهذا ظهرت لك لأنتخبك خادما وشاهدا بما رأيت وبما سأظهر لك به منقذا إياك من الشعب ومن الأمم الذين أنا الآن أرسلك إليهم لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى الله حتى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيبا مع المقدسين » (اعمال 26/16-18)