البداية

لا أزال أذكر ذلك اليوم المبارك من شهر رمضان المعظم، وفي ليلة من ليالي الوتر منه، حينها كنت معتكفا في مسجد من المساجد، وكنت حريصا على أن أصادف ليلة القدر، تلك الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم.. والتي أخبر الله تعالى أنها أفضل من ألف شهر.. ولذلك كنت أتنقل بين القراءة والذكر والصلاة والدعاء رجاء أن يضاعف لي كل ذلك.
لكني فجأة تألمت لحالي، ونظرت إلى نفسي نظرة احتقار على تلك التصرفات التي كنت أقوم بها من غير وعي..
لقد كان لساني يردد كلمات ربي المقدسة من غير أن أنفعل لها، أو أتأثر بها، وكأنني أقرأ قصيدة أو رواية.. لا كلام الله مبدع الوجود جميعا..
لقد كنت منشغلا بجمع الحسنات، وما يتبعها من الأجور عن تدبر القرآن الكريم والتأثر به والترقي من خلاله في معارج الكمال.
لقد كنت أرتل الكلمات التي تختصر كل حقائق الوجود، وتصفها وصفا دقيقا.. بل تعطي الحلول لكل المشكلات.. بل تجمع كل سنن الكون والحياة والمجتمع في كلمات معدودات.. ومع ذلك لم أكن أستفيد منها إلا تلك الحركات التي يتحرك بها لساني.
لذلك ثرت على نفسي، وغضبت عليها غضبا شديدا.. ولست أدري كيف رحت أتجول في أنحاء المسجد لأنفس عن نفسي ما عراها من الآلام.
وقد شاء الله أن تكون تلك الحركة مفتاحا لبركات عظيمة عرفت من خلالها عظمة الكلمات المقدسة التي كلمنا الله بها..
لقد رأيت في ركن من أركان المسجد شيخا وقورا، يقرأ القرآن الكريم من أعماق أعماقه.. ويبكي أثناء قراءته، وينفعل انفعالا شديدا، وكأن زلزالا قد نزل بكيانه جميعا، فهزه، وحركه.
اقتربت منه رجاء أن يتنزل علي من الأحوال ما تنزل عليه، وأن أذوق من المعارف ما ذاقه، وأن يتحرك من كياني ما تحرك من كيانه.
أحس الشيخ بحركتي، فالتفت إلي، وقال بلهجة فيها بعض العجمة: هل أحضرت قلمك معك؟
قلت متعجبا: وما حاجتي للقلم.. أنا جئت لأعتكف بهذه المناسبة العظيمة.. ومن يعتكف لا يحتاج إلى قلم، ولا إلى قرطاس، ولا إلى دواة، يكفيه مصحف ومسبحة.
قال: أحيانا يكون القلم هو هادينا للمصحف والمسبحة.. ألم يقسم الله بالقلم، وبما يسطرون؟
قلت: بلى.. ولكن ما علاقة ذلك بهذا؟
قال: لقد أخبر الله تعالى أنه علم الإنسان بالقلم..
قلت: ذلك صحيح، فقد كان من أول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } [العلق: 3 – 6]
قال: فأحضر قلمك ودواتك والقراطيس لأحكي لك رحلتي إلى الكلمات المقدسة عساك تخرج بها من ألمك الذي عراك.. وعساك تبلغها لمن ينتفع بها.
قلت: رحلتك إلى الكلمات المقدسة.. من أنت.. ؟
قال: أظن أنك عرفت من خلال لهجتي أنني لست من أهل هذه البلاد.
قلت: أجل.. فلهجتك وملامحك تدل على أنك من أوروبا أو من أمريكا.
قال: ذلك صحيح .. أنا من ألمانيا..
قلت: مبارك لك هداية الله.. لاشك أنك سمعت تصريحات البابا الذي هو ابن بلدك حول الإسلام([1]) .
ابتسم، وقال: لقد كان ذلك البابا شقيقي التوأم في يوم من الأيام.
تفرست في ملامحه جيدا، فوجدته يشبهه تماما، فازداد عجبي، وصحت: أرى أن هناك شبها كبيرا بينكما.
قال: لقد ذكرت لك أن البابا كان أخي التوأم..
قلت: كيف هذا .. إن هذا لعجيب؟
قال: وما العجب في ذلك.. الله يهدي من يشاء .. كيف يشاء .. متى يشاء.
قلت: صدقت في هذا.. فكيف اهتديت إلى ربك؟
قال: لقد هداني ربي إليه من خلال كلماته المقدسة.. لقد من الله علي برحلة مباركة سمعت فيها ما ملأني هداية ونورا عشت به طول عمري.
قلت: وأخوك التوأم.
قال: تلك قصة طويلة لا يعنيك منها شيئا.. لا يعنيك من قصتي إلا رحلتي للكلمات المقدسة.. فإن شئت أن أمليها عليك فأحضر قلمك وقراطيسك، وتعال.. فما جئت هذه البلاد، وما دخلت هذا المسجد إلا لأجل أن أمليها عليك لتبلغها للعالم.
قلت: ولكني نويت الاعتكاف هذه الليلة.
قال: عندما تسمع قصتي، وتعرف قيمة الكلمات المقدسة التي كان يرددها لسانك، حينها تكون روحك دائما في حال اعتكاف، وقلبك دائما في حال سجود.
أسرعت إلى محفظتي، وأحضرتها، وأخرجت قلمي وقراطيسي، وقلت: ها أنذا بين يديك امل علي ما تشاء.
***
اعتدل الشيخ في جلسته، ثم قال: لقد كانت رحلة جميلة تلك التي قمت بها قبل أكثر من أربعين سنة، كان الهدف الظاهر منها هو الإشراف على طبعة جديدة من طبعات الكتاب المقدس، والتي تمت تحت رعاية ونفقة كنيستنا في الإسكندرية، ولكن الهدف الخفي الذي أراده الله هو أن أتنعم في هذه الرحلة بالاستنارة بأنوار كلمات الله المقدسة.
سأحدثك من الأول.. من أول الرحلة.
حزمت أمتعتي، أنا وأخي.. وركبنا الطائرة التي تقلنا إلى الإسكندرية، وقد شاء الله أن يختلف مجلسي عن مجلس أخي.. ذلك شيء لم نخطط له، ولكن المقادير التي شاءت أن أتعرض لتلك الأشعة العظيمة هي التي دبرت لذلك وقدرته.
فتحت الكتاب المقدس الذي كنت أحمل نسخة منه في محفظة صغيرة أحملها، ثم رحت أقرأ فيه.. كنت أمر أثناء قراءته بمواقف مضطربة:
ففي مواضع أشعر أنه كلام الله الجميل المتدفق بينابيع الرحمة واللطف والمودة، وأشعر حينها بأن كل ذرة من ذرات الوجود تشهد له بذلك، بل تترنم معي، وأنا أرتله بخشوع وتدبر.
وفي مواضع أشعر أنه لغو أو لهو فارغ لا يعنيني، ولا يعني البشرية المتشوفة للخلاص.. لكني أعتذر بيني وبين نفسي لله الذي أتهم كلامه بهذه التهم.
وفي مواضع أشعر بأنه كتاب خطير.. لو سرت تعاليمه إلى الأرض لأحرقت الأخضر واليابس، ومحت معها كل وجود اجتماعي على الأرض.
أحيانا أشعر أنه كلام من الله المتعال.. وأحيانا أشعر أنه كلام حكواتي فارغ يهتم بالتفاصيل التي لا حاجة لها..
أحيانا أشعر أنه كلام ينبع من منابع تمتلئ بالعنصرية والحقد واللاإنسانية.. وأحيانا أشعر أنه كلام يفيض من منابع الرحمة والحنان والإنسانية.
كنت أشعر بكل ذلك التناقض، وأنا أقرأ الكتاب المقدس على كرسيي في الطائرة التي امتطيتها مع أخي، ونحن راحلان إلى الإسكندرية.
فجأة تحركت الطائرة حركة شديدة، حتى ظننا أننا سنسقط.. ثم ازدادت حركتها شدة.. وازدادت قلوب الناس هلعا.. ولست أدري كيف سقط الكتاب المقدس من يدي من حيث لا أشعر.. وكيف امتلأت من الرعب كما امتلأ سائر الناس.. لا فرق بين صالحهم ومنحرفهم.
لكني التفت إلى الذي يجلس بجاني.. فإذا بي أراه ساكنا هادئا مطئمنا، وكأن شيئا لم يحصل .. لقد بدا لي حينها في قمة قمم الجمال والكمال والسلام والطمأنينة.
لا أخفيك أني – بمجرد أن زالت المخاوف – رحت أحاول أن ألتمس كل السبل للتعرف عليه، وعلى سر هدوئه.
لكنه بادرني بذلك، وهو يسلم لي الكتاب المقدس الذي سقط من يدي، ويقول: خذ الكتاب الذي كنت كنت تقرؤه فيه.. لقد سقط منك من حيث لا تشعر.
قلت: شكرا جزيلا .. إنه الكلمات المقدسة التي أنزلها الله على أنبيائه.
قال: ولكني لا أرى آثارها عليك.
قلت: ما تقصد؟
قال: أكنت بالفعل تقرأ الرسالة التي أرسلها ربك لك؟
قلت: أجل.. لقد أرسلها لي كما أرسلها لجميع البشرية على لسان أنبيائه.
قال: ولكني لم أر على وجهك أي علامة تدل على أن الذي تقرأ كلامه هو الله.
قلت: وهل تحدث كلمات الله أثرا على الوجوه؟
قال: أجل.. أليست كلمات مقدسة؟
قلت: بلى.. هي كلمات مقدسة.
قال: إن الكلام المقدس يقدس صاحبه، ويطهره، ويملأ بالطمأنية قلبه، وبالانشراح صدره، وبالأسارير الصافية صفحة وجهه.
قلت: ألم تر ذلك حدث لي أثناء قراءته؟
قال: أنا لا أتهمك.. ولكني أسأل: هل كنت تقرأ حقيقة الكتاب المقدس؟
فتحت الكتاب، وقلت: انظر ها هو.. الكتاب المقدس.
قال: ليس الشأن في غلافه.. إنما الشأن في محتواه.
قلت: وهل تتصور المطابع تتلاعب بالكتاب المقدس لهذه الدرجة؟
قال: ألا يمكن أن تستبدل هذه المطابع أغلفة الكتب التي ظلت مكدسة في خزائنها بأغلفة للكتاب المقدس لتنشر سلعها، وتكسب من وراء ذلك؟
قلت: إنه الكتاب المقدس يا رجل!!
قال: أنا لا أفكر إلا بعقلي، فلذلك لا أتيقن إلا بعد أن أشك، ولا أطمئن إلا بعد أن أضطرب.
قلت: أتريد أن تشككني في الكتاب المقدس.. في كلمات ربي المقدسة؟
قال: لا.. أنا لا أعطيك الشك، ولا اليقين.. ولكني أدعوك إلى البحث عن اليقين الذي لم ترثه.. فلا خير في يقين يورث.
قلت: أتريد مني أن أضع الكتاب المقدس على مشرحة البحث؟
قال: وما الذي يمنعك من ذلك؟
قلت: ربي.. إذا قال لي ربي يوم الدينونة: كيف تشك في كلامي؟.. وكيف تضعه في مشرحة البحث كما تضع أي كلام، فما عساي أقول له؟
قال: قل له: يارب.. لقد رأيت كلامك المقدس يحذرنا من المتنبئين الكذبة، فخشيت أن يختلط كلامك الجميل بكلام الكذبة.. وخشيت فوق ذلك أن أحمل صورة مشوهة عنك بسبب ما يرجف الكذبة عليك.. الكذبة الذين حملوا أقلام الكتبة.
قلت: أترى ذلك مجديا لي عند ربي؟
قال: بل ذلك ما يجديك عند ربك.. ألم يخلق الله لك عقلا؟
قلت: بلى.. ولولاه ما تحدثت معك، وناقشتك.
قال: لم ناقشتني؟
قلت: لأبحث عن الحقيقة.
قال: فناقش كلام ربك لتبحث فيه عن الحقيقة.. فلا خير في حقيقة لا تناقش.
قلت: ولكن كيف أبحث عن الحقيقة في هذا.. لو كان مؤلف هذا الكتاب بيننا لذهبت إليه، وتحدثت معه عن سر كل كلمة قالها.
قال: والله معنا لا يغيب.. لقد وضع في عقولنا برامج الحكمة التي نميز بها بين الحق والباطل.
قلت: ولكني لا أرى الناس يستعملونها.
قال: لأنهم يبحثون عن المكاسب، لا عن الحقائق.
قلت: فما الطريق إلى الحقيقة؟
قال: الكلمات المقدسة تتصف بعشر صفات.. لا تكون مقدسة إلا بها.
قلت: فما هي؟
قال: لقد سجلتها في هذه الورقة.. فخذها واحتفظ بها.
أعطاني ورقة صغيرة، قرأتها أمامه:(الحفظ، والربانية، والحق، والحقيقة، والعقلانية والروحانية، والشمول، والأدب، والتربية، والجمال)
قلت: ما هذه الكلمات؟.. أتراك كنت تحل الكلمات المتقاطعة؟
قال: لا.. هذه أسوار الكلمات المقدسة التي تحميها من كذب الكذبة الذين يلبسون لباس الكتبة.
قلت: فما الحفظ؟
قال: أن لا يصلك كتاب ربك إلا من الأيدي الطاهرة..
قلت: ولكني لا يمكنني أن أمنعه من الأيدي النجسة.
قال: لا تمنعه منها.. ولكن امنعها من الانفراد به.
قلت: لم؟
قال: لئلا تنجسه.
قلت: لم أفهم سر ذلك.
قال: أرأيت لو انفرد اللصوص والمجرمون ببنك من البنوك.. ولم يكن معهم رقيب ولا حفيظ.. هل سيتركونه سليما معافى؟
قلت: بل سيسطون عليه لا محالة.
قال: فهذه أموال لا تضر ولا تنفع.. احتاجت كل أولئك الحفظة.. فكيف بالكلمات المقدسة التي تفسر حقيقة الوجود، ومصير الوجود؟
قلت: فهمت هذا، فما الربانية؟
قال: لن يكون الكلام مقدسا حتى يكون ربانيا.
قلت: فما الحق؟
قال: هل ترى في الكون أي عبث أو شيء لا قيمة له؟
قلت: لا.. ليس في مخلوقات ربك عبث.
قال: وليس في كلام ربك عبث ولا لغو ولا باطل.
قلت: فما الحقيقة؟
قال: هي الصدق الذي لا يحتاج برهانا.
قلت: فما العقلانية؟
قال: كلام ربك لا يتناقض مع خلق ربك، وبرمجة ربك.
قلت: فما الروحانية؟
قال: الكلام المقدس هو الذي يجعل روحك مقدسة.
قلت: فما الشمول؟
قال: كلام ربك يغنيك عن كلام غيره.. فيشفي حاجتك، ويسد خلتك.
قلت: فما الأدب؟
قال: هو الذي يرفع إنسانيتك عن البهيمية، ويرفع حقيقتك عن المستنقعات.
قلت: فما التربية؟
قال: الكلام المقدس سلم ترتقي به في مراتب الكمال.
قلت: فما الجمال؟
قال: الكلام المقدس يجذب القلوب والنفوس، فتمتلئ بالرفعة والراحة.
قلت: فكيف أتعلم علوم هذه الأسوار؟
قال: بالصدق.. بالصدق وحده تصل إلى الأشعة التي تطل من شمس الحقيقة.
لست أدري كيف جاءت المضيفة المشؤومة لتطلب أوراقه، ثم
ليسير معها، ويتركني في حيرتي، ويترك معي تلك الورقة التي كانت خريطتي في البحث عن
الكلمات المقدسة.
([1]) أشير إلى [بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر]، وقد كانت تصريحاته المسيئة للإسلام داعيا لي لكتابه سلسلة [أشعة من شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم] والتي حاولت أن تكون موسوعة شاملة في الرد على الشبهات التي تثار كل حين.