البداية

البداية

لست أدري هل كان ذلك يقظة أو مناما.. فقد اختلطت علي في تلك الأيام حياة اليقظة بحياة الأحلام.. لكن الذي أدريه أنني بعد أن استيقظت أو عاد إلي وعيي رحت إلى كل نص سمعته، أو فكرة سجلتها، أبحث عن حقيقتها ومصداقها.. وقد وجدتها جميعا كما رأيتها وسمعتها لم تزد حرفا، ولم تنقص.. ولهذا رحت أسجل هذه الأحداث بالدقة التي رأيتها فيها.. عساكم تنتفعون بها كما انتفعت.

وبداية حكايتي تنطلق مني، ومن قريتي الصغيرة المتواضعة .. فقد مررت بسوقها، فرأيت الكثير من المظاهر التي سببت لي الأسى والألم.. وجعلتني أعاني أنواعا كثيرة من الصراع.

وعندما سرت في الطريق الخالي، وأنا عائد إلى بيتي صادفت ذلك السوق العجيب الذي بصرني الله من خلاله إلى أن كل ما نعانيه من آلام ومآس سببه ما نقترفه من الآثام والذنوب التي نشعر بها أو لا نشعر.

في بداية دخولي إلى ذلك السوق العجيب أصابني ما أصابني في سوق قريتي من الألم.. فقد كانت السوق ممتلئة شحا وفقرا.. وكانت أرضها مملوءة بالأوساخ والقاذورات.. وكانت سماؤها مملوءة بدخان أسود يحيل حياة أهل السوق إلى جحيم..

عندما شاهدت هذا المشهد المؤلم امتلأت نفسي بالاعتراض والصراع.. بل كدت أصيح: يا رب.. أنزل عليهم من بركاتك ما يرفع عنهم هذا الهم الذي يعيشونه.. وهذا الفقر الذي يعانونه.. وارفع عن السماء سوادها.. وارفع عن الأرض ما حل بها من رجس.. وارفع عن أهل هذا السوق ما نزل بهم من محق..

ما اكتمل هذا الحديث في نفسي حتى ربت رجل ـ يبدو عليه الغنى ـ على كتفي، وقال: ألا ترى هؤلاء الحمقى والمغفلين؟

قلت: بل الفقراء والمساكين..

قال: لو لم يكونوا حمقى ومغفلين ما كانوا فقراء ولا مساكين..

قلت: أرى أنك امرؤ عديم الرحمة والمروءة.. أهكذا يتعامل الأغنياء مع الفقراء؟.. أبهذا الازدراء تعاملهم بدل أن تعاملهم بالإحسان، وبما من الله عليك من كرمه؟

قال: لقد جربت ذلك.. فوجدتهم لا يستحقون إلا هذا الجزاء الذي يعيشونه.. إن هذا الواقع المؤلم الذي تراه ليس إلا جريرة آثامهم وصنعة ذنوبهم وصدى ما في نفوسهم من ألوان الإثم والغواية.. ولو أنهم أوقفوا تلك المحركات التي لا تصدر إلا الاثم لحسن حالهم، وارتفع المحق عن معاشهم، ولحلت بدله البركات.

توسمت في الرجل، فرأيت فيه ما كنت أرى في أولياء الله الصالحين الذين تعود معلم السلام أن يرسلهم لي، فقلت له: لا شك أنك من أصحاب معلم السلام.

قال: ومن أنا حتى أكون صاحبه.. أنا لست سوى تلميذ بسيط من تلاميذه.. أو عبد حقير من عبيده.

قلت: فهل لك رسالة منه لي، فقد اشتقت إلى رسائله وحديثه؟

قال: أجل .. رسالتي لك هي قصتي مع هذا السوق.. فإن لي حديثا طويلا مع أهله.. سأحدثك عنه.. فلن يخلص نفسك من الصراع إلا حديثي عنه.

نظر إلى المكان الذي نقف فيه، ثم قال: أما المكان.. فلا أرى مكانا أصلح لما أريد أن أحدثك عنه من هذه السوق..

قلت: من أنت أولا.. فلا يصح أن أسمع حديثا لا سند له؟

قال: أنا من من أهل كاشان… سماني والدي فيض الله (محسنا)([1]).. وقد حبانا الله من فضله الكثير.. وقد بدأت علاقتي بهذه السوق في يوم لا يختلف عن يومنا هذا.. وفي حال لا تختلف عن حالنا هذه..

ذهبت حينها إلى والدي، وأنا أعتصر من الألم لأطلب منه أن يمد السوق بما حباه الله من فضله، فيخرج أهله من فاقتهم وفقرهم وعجزهم..

وقد استجاب والدي لطلبي، ولكنه قال لي: لقد رأيت صورتهم الظاهرة.. فحزنت عليها.. وحاولت أن تغيرها.. فهلا رأيت صورتهم الباطنة.. فعساك تتحرك لإصلاحها.. فإنه لا يصلح ظاهر باطنه خراب..

قلت: ما تقصد؟

قال: هل نميت فيهم من المكارم التي تمسح عنهم المآثم.. فلا يمكن أن تستقر بأحد حال.. وفي صدره وقلبه وحقيقته من الثعابين والحيات ما يظل ينهشه ويقتل فيه الحياة؟

قلت: أنى لي أن أفعل ذلك.. ولكني مع ذلك أستطيع بكل يقين أن أجزم بأن صورتهم الباطنة من أحسن الصور.. ولذلك فلن أخاف من بواطنهم على ظواهرهم.. ولن أخاف على مكارمهم من آثامهم..

بعد أن قلت هذا، قال لي والدي: سنرى.. سأعطيك مبلغا محترما من المال.. وهو كاف لأن يحول سوقهم ـ لو أحسنوا استخدامه ـ إلى سوق صالحة ممتلئة بكل البركات.. بل إن المشارق والمغارب ستفد إليهم طلبا لما عندهم.. ولكن قبل أن تسلمهم المال حذرهم من الآفات والموبقات.. وذكرهم بما ورد في الحديث من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلس على المنبر وحوله أصحابه، فقال لهم: (أخوف ما أخاف عليكم، ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا)، قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال : (بركات الأرض) قالوا : يا رسول الله، وهل يأتي الخير بالشر؟ قال : (لا يأتي الخير إلا بالخير، لا يأتي الخير إلا بالخير، لا يأتي الخير إلا بالخير، إن كل ما أنبت الربيع يقتل، أو يلم، إلا آكلة الخضر، فإنها تأكل، حتى إذا امتدث خاصرتاها، استقبلت الشمس، ثم اجترت، وبالت، وثلطت، ثم عادت فأكلت، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع)([2])

قلت: لا عليك يا والدي.. سأؤدي كل ما تطلبه مني..

قلت هذا، ثم أسرعت إلى أهل السوق أفرق عليهم من الأموال ما عساه يحول حالهم ويبدلها وينزع عنهم وعنها تلك الكآبة التي تحيط بهم وبها..

 وقد نسيت في غمرة ذلك الكرم العظيم كرما أكرم وأجدى.. نسيت أن أخبرهم بوصية والدي، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وبتلك الحصون القوية التي تحمي نفوسهم من شر الأموال التي تحملها أيديهم..

نسيت ذلك.. أو تعمدت أن أنساه.. لأني لم أكن أود أن أفسد تلك الفرحة التي ملأت أقطار نفسي، وهي ترسل إليهم الأموال كالريح المرسلة.. ولم أكن أود في نفس الوقت أن أمثل دور الواعظ والمعلم.. فقد كان دور الكريم أرفع عندي من دور الواعظ المعلم..

لكن فرحتي لم تستمر طويلا..

فما هي إلا أيام وأشهر وسنوات حتى عادت السوق إلى حالها.. وعاد أهل السوق إلى حالهم.. وكأن تلك الأموال التي امتلأت بها جيوبهم ومخازنهم لم تكن إلا حلما استيقظوا منه على حياة النكد التي ألفوها وألفتهم..

قلت: أهذه هي حكايتك مع أهل هذه السوق.. فلهذا أراك ناقما منهم؟

قال: لا.. حكايتي مع أهل هذه السوق أطول.. وأنا لم آتهم ناقما.. بل أتيتهم لأصلح الخطأ الذي وقعت فيه المرة الماضية.. فما كان لتلاميذ السلام أن يحملوا نقمة.. وما كان لتلاميذ السلام أن يسكتوا عن خطأ.. وما كان لتلاميذ السلام أن يقعدوا عن إصلاح.

قلت: فقد أتيتهم بالمواعظ بدل الأموال؟

قال: تستطيع أن تقول ذلك.. فقد رأيت أن المال لا يحميه شيء كما تحميه المواعظ.. 

قلت: ولكن المواعظ سرعان ما تحاصرها جنود الغفلة التي يمدها الشيطان بمدده.. فيرتفع عن القلوب تأثيرها، ويرتفع عن النفس أثرها.

قال: ولذلك لم آت بالمواعظ وحدها.. فالمواعظ وسيلة من الوسائل التي يتم بها الإصلاح.. ومن أعظم الأخطاء أن يقتصر العاقل في حربه مع الشيطان والنفس على بعض الوسائل.. فيؤتى من قبل غيرها.

قلت: فبم أتيت إذن؟

قال: لقد بدأت ـ بمعونة والدي ـ بإحصاء العلل والآثام التي حولت السوق إلى هذه الحال.. فلا يمكن أن يداوي الطبيب مريضا لا يعرف مرضه.

قلت: فما العلل التي وجدتها بأهل هذه السوق؟

قال: سبع..

قلت: فقط.. إنهم أصحاء إذن..

قال: كل علة منها كافية لأن تخرب كل حياة.. وتفسد كل صالح.. وتعوج كل مقوم.

قلت: فهلا حدثتني عنها.

قال: سأحدثك أولا عن الدليل الذي دلني عليها.

قلت: لقد ذكرت لي أنه والدك..

قال: والدي أضعف من أن يعرف مثل هذا.

قلت: فمن هو إذن؟

قال: الله..

قلت: الله!؟

قال: أجل.. الله الذي خلق الإنسان، وهو العليم بما خلق.. هو الذي أخبرنا عنها.. إن ذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ مثل الصانع الذي يخبرك عن الآفات التي قد تنزل بالجهاز الذي باعه لك.. لتأخذ احتياطاتك نحوها.

وهكذا فإن الله الحكيم أخبرنا أن بالإنسان آثام ظاهرة وباطنة.. وأنه لا يصلح حاله إلا بتركها.. قال تعالى :{ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ) (الأنعام:120)

قلت: هذه الآية مجملة.. فكيف كشفت غموضها؟

قال: لقد أخبرنا القرآن الكريم عن العلل التي تنخر حقيقة الإنسان.. وقد ربطها جميعا بالإنسان..

أخبرنا عن كفره ويأسه، فقال :{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ } (هود:9)، وقال :{ لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ) (فصلت:49)

وأخبرنا عن ظلمه الممزوج بكفره، فقال :{ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (ابراهيم:34)

وأخبرنا عن ظلمه الممزوج بجهله، فقال :{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72)

وأخبرنا عن خصومته، فقال :{ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (النحل:4)

وأخبرنا عن عجلته، فقال :{ وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} (الاسراء:11)، وقال:{  خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} (الانبياء:37)

 وأخبرنا عن بخله، فقال :{ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} (الاسراء:100)

وأخبرنا عن جدله، فقال :{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف:54)

وأخبرنا عن هلعه، فقال :{ إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} (المعارج:19)

وهكذا.. أخبرنا ربنا عن حقيقتنا وحقيقة الصفات التي تمتلئ بها ذواتنا.

قلت: لقد أثار في كلامك هذا زوابع من الشبهات..

قال: أعلم ذلك.. أنت تتعجب كيف يخلق الله كائنا به كل هذه الشرور والآثام.

قلت: لم تعدو ما في نفسي.. فهل بحثت في جواب ذلك؟

قال: لقد أخبرنا القرآن الكريم بالجواب.. وذلك لم يحتج مني إلا بعض التدبر البسيط.

قلت: أين؟

قال: في قوله تعالى :{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:30).. ففي هذه الآية إخبار إلهي عن سر ما يكتنزه الإنسان من آثام..

ولهذا عندما ذكر الله للملائكة الخلافة ذكروا الإثم.. وسفك الدماء؟

قلت: لقد ظللت متعجبا من هذا.. فما علاقة الخلافة بالفساد وسفك الدماء؟

قال: الخلافة تقتضي الحرية.. والحرية تقتضي الاختيار.. والاختيار يقتضي أن تكون هناك فرص مختلفة متعددة، وسبل متنوعة.. وكل ذلك يقتضي أن يكون في الإنسان ميل متساو لكل الطرق ولكل الاتجاهات حتى يحدد بعد ذلك الخيار الذي يتناسب معه ومع طبيعته وعزيمته وإرادته.

لقد ذكر الله ذلك فقال عند حديثه عن الإنسان :{ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} (الإنسان)

انظر كيف ربط الله تعالى بين السمع والبصر وبين الهداية والضلال.. فكما أن السمع والبصر يتيحان لنا أن نستعملهما في الخير والشر.. فهكذا باقي القوى واللطائف..

قلت: ألهذا نفخ في الإنسان كل تلك الآثام؟

قال: نحن نعبر عنها بالآثام باعتبار اختيار الإنسان.. لا باعتبار حقيقة الحال.. فالله الحكيم الرحيم لا يخلق الشر المجرد عن كل خير([3]).. بل هو يخلق الخير.. ومن الخير ما يتحول إلى شر.. كما أن من الطعام ما يتسنه ويصبح غير صالح للأكل.. مع أنه في أصل طبيعته طيب وصالح.

قلت: فهمت تسنه الطعام.. ولم أفهم تسنه الإنسان.

قال: أليس الطعام يتسنه بالغفلة عنه؟

قلت: تستطيع أن تقول ذلك.. فعندما نغفل عن الطعام مدة من الزمان نكتشف أنه قد تسنه وتغير.

قال: فكذلك الإنسان.. كلما غفل عن النظر في حقيقته وتقويمها وربطها بمصدرها الأعلى كلما تمكنت الآفات منه، وانحرفت به بعد ذلك.. لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، فقال :{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} (الحشر)

قلت: ولكن الآية تتحدث عن نسيان الله والغفلة عنه.. لا عن الإنسان لنفسه.

قال: لا يمكن لإنسان أن يذكر نفسه أو يعرفها.. وهو لا يذكر ربه ولا يعرفه.. إن حقيقة الإنسان لا يمكن أن تتجلى للإنسان إلا عندما يتصل بربه.

قلت: أكاد أفهم ما تقول.. لكني أتعجب كيف يخلق الله نفسا شحيحة.. أتعجب لقوله تعالى :{ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ } (النساء:128).. وغيرها من الآيات التي تذكر الخراب الذي يملأ أعماق الإنسان.

قال: هو ليس خرابا بالصورة التي تتصورها..

قلت: فما هو إذن؟

قال: تستطيع أن تقول: إنه لبنات.. ومواد خام.. نعم هي مفرقة في أرض النفس بحيث يهيأ لمن يراها بأنه يرى خرابا.. ولكنها في الحقيقة إن وجدت أيد ماهرة ومهندسين خبراء.. فستتحول تلك اللبنات إلى عمران ليس مثله عمران.

قلت: هل لي بمثال يوضح لي هذا؟

قال: أنت تعجبت من أن تفطر النفس على الشح؟

قلت: أجل.. ذلك صحيح.. والكل يتعجب من ذلك.

قال: هل ترى أن حياة الإنسان يمكن أن تستمر.. ولحضارته يمكن أن تقوم.. ولوظيفة الخلافة فيه يمكن أن تؤدى من غير أن تكون فيه هذه الخصلة؟

قلت: لو خلت حياة الإنسان من الشح.. وخلت حضارته منه لعاش الإنسان إنسانا.

قال: ذلك هو الشح المنحرف.. السلبي.. أما الشح الفطري.. والذي هو لبنة من لبنات الإنسان.. فإن نزعه من الإنسان لن يبقيه إنسانا..

نظر إلي، فوجدني لا أزال على هيئتي لم أقتنع، فقال: أليس الشح هو الحرص على ما تملكه من أشياء؟

قلت: بلى.. فالشحيح هو الذي يبخل بماله.

قال: البخل بالمال فرع من فروع الشح.. الشح أخطر من أن ينحصر في المال..

قلت: صحيح ما تقول..

قال: نحن نرى الشح السلبي.. وهو شح يوظف لبنات الإنسان لتخدم المصالح الخاصة ولو على حساب المصالح العامة.

 قلت: فهل هناك شح إيجابي؟

قال: أجل.. وهو شح يوظف لبنات الإنسان وطاقاته لتخدم المصالح الخاصة.. وفي نفس الوقت لا تضر بالمصالح العامة.. بل إنه يخدم المصالح العامة.. فلا يمكن للمصالح العامة أن تقوم إلا بالمصالح الخاصة.

قلت: لم أفهم.

قال: أرأيت لو أن كل الناس حرصوا على ما عندهم من مال وصحة وعافية.. وشحوا بها.. فلم يدعوها للآفات.. أليس في ذلك اجتماع للمصالح الخاصة والعامة؟

قلت: بلى.. سيكون المجتمع حينها مجتمعا قويا صحيحا سليما من الآفات..

قال: ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهو يحض على هذا الشح الإيجابي.. لبعض صحابته : (الثلث والثلث كبير، أو كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة، تبتغى بها وجه الله، إلا أجرت بها، حتى ما تجعل فى فى امرأتك)([4])

قلت: وعيت هذا في الشح.. لكن هناك آثاما أخرى قد لا ينطبق عليها ما تقول.

قال: كلها ينطبق عليها ما أقول..

قلت: الجدل مثلا.. لا ينطبق عليه ما تقول.

قال: لولا الجدل ما قامت للأفكار سوق..

قلت: والكفر!؟

قال: لولا الكفر ما عرفنا قيمة اختيار المؤمن للإيمان..

قلت: والظلم!؟

قال: الظالم هو الذي انحرف بموازين العدالة في نفسه عن وجهتها..

قلت: فالموازين صحيحة.. لكنه هو الذي انحرف بها؟

قال: أجل.. وهكذا في كل الأمور.. إن مثل ذلك مثل الملح يكون في الطعام.. فمن وضعه بقدر انتفع به وانتفع بطعامه.. ومن وضع بغير قدر استضر به واستضر بطعامه.

قلت: لقد وعيت الآن.. فبورك فيك.. ولكني لن أتركك حتى تحدثني عن هذه الآثام السبعة.. عن حقيقتها.. وعن علاقتها بهذه السوق.. وعن الترياق الذي قدمت به لعلاجها.

قال: ما جئت اليوم لهذه السوق إلا لأجل هذا.. لقد وفقني الله، فأسست مدرسة تطهيرية في مدخل هذه السوق، وقد جئت لها بالعلماء من كل حدب وصوب.. وجعلتها أقساما بحسب الآثام التي التي يمكن أن يقع فيها الإنسان.

قلت: فمن تريد أن يتتلمذ فيها؟

قال: أهل هذه السوق.. أهل هذه السوق هم تلاميذ تلك المدرسة؟

ابتسمت، وقلت: هل تريد من هؤلاء أن يتركوا معايشهم وأرزاقهم وقوت أولادهم ليتتلمذوا في مدرستك.. لا شك أنهم لن يقبلوا.

قال: سأستغل آثامهم للوصول إلى طهارتهم.

قلت: عجبا.. ما تقول؟

قال: ألم أذكر لك شح الإنسان وحرصه وأنانيته؟

قلت: بلى..

قال: فسأطرق أبوابهم من هذه النواحي.

قلت: كيف؟

قال: اصبر.. ولا تستعجل.. وسترى الكيف.

***

 قال ذلك، ثم طلب من بعض من كان معه بأن يباشر المهمة التي كلفه بها.

قام ذلك الرجل، وراح ينادي في أهل السوق: يا أهل السوق.. إن محسن بن فيض الله يريد أن يحدثكم.

رنت جميع الوجوه إليه.. ثم سرعان ما اجتمعوا حولنا..

بعد أن اجتمعوا قام محسن بن فيض الله، وقال: لاشك أنكم تعرفونني.. فلذلك لا أحتاج أن أعرفكم بنفسي.

قال واحد منهم: أجل.. لقد سبق لك أن قدمت في يوم من الأيام بعض الإحسان.. ولكنك سرعان ما غفلت عنا.. وأنستك الشياطين أن تذكرنا.

قال آخر: هات ما جئت من أجله.. فأرزاق أولادنا تنتظرنا.

قال آخر: إن كنت جئت بالمال، فأسرع به.. أما إن جئتنا بالكلام، فاتركه لنفسك، فلا يمكننا أن نطعم أولادنا كلاما.

تكلم أكثر من كان حاضرا، وكان كلاما وقحا أكد لي ما ذكره محسن بن فيض الله.

بعد أن انتهوا من كلماتهم الممتلئة بالبذاءة والوقاحة، قال محسن: تريثوا يا أهل هذه السوق الكرام.. نعم أنا أتيتكم بالكلام.. ولكنه ليس كلاما مجردا.. إنه كلام..

قاطعه بعضهم، وقال: الكلام هو الكلام.. ولا شيء غير الكلام.. هيا بنا ننفض عنه.. لقد كنت أعلم أني أضيع وقتي بالجلوس إليه..

ردد آخر نفس ما ردده الأول، فارتفع الضجيج..

لكن محسنا كان في غاية الذكاء، فقد أمر من معه بأن يسمعوا الحاضرين رنين الدراهم والدنانير.. فما إن سمعوها حتى امتلأت السوق بصمت عميق قطعه محسن بقوله: لقد جئتكم بهذه أيضا..

سال لعاب الحاضرين، وامتلأوا بخشوع عظيم.. ثم قال بعضهم: هاتها.. فطالما رأيناك محسنا.

قال آخر: بل أنت الإحسان عينه.

قال آخر: لو أن الدنيا كلها كانت في كفك لجدت بها.

قال آخر: لا أظن من قال هذه الأبيات إلا يقصدك..

ثم راح ينشد:

تراه إذا ما جئتَه متهلِّــلاً  ‍
ولو لم يكن في كفّه غيرُ رُوحه
  كأنَّك تعطيه الذي أنت نائلُهْ
  لجاد بها فليتَّقِ اللهَ سائلــــــــه

قال آخر: ومثله من قال:

أقول لمرتاد الندى عند مالك  ‍
فتى جعل الدنيا وقاء لعرضه  ‍
فلو خذلت أمواله جود كفه  ‍
وإن لم يجز في العمر قسم لمالك  ‍
وجاد بها من غير كفر بربـــــه
  تمسك بجدوى مالك وصلاته
  فأسدى بها المعروف قبل عداته
  لقاسم من يرجوه شطر حياته
  وجاز له أعطاه من حسناته
  وأشركه في صومه وصلاتـــــه

قاطعهم محسن بقوله: مهلا.. فهذه المرة لن أعطيكم المال دون أن آخذ  شيئا..

قال واحد منا: خذ منا كل شيء.. أعطنا المال فقط..

قال محسن: لن آخذ منكم إلا بعض أوقاتكم.. وسأعطيكم بدلها من المال ما يكفيكم.. ولكن من نجح منكم فيما أطلبه منه، فسأعطيه من فضل الله الذي من به علينا ما يجعله أغنى أهل هذه السوق.

قالوا: لم نفهم ما تريده منا.

قال: لقد أنشأت مدرسة تربوية في مدخل هذه السوق، وقد ملأتها بالعلماء والمربين والمدربين.. وجعلت لكل من يدخل لتلك المدرسة مرتبا يكفيه لمعاشه.. ولكنه إن استطاع أن يهضم دروسها، ويتدرب عليها، فسأعطيه من المال ما يستطيع أن يتحول به إلى غني من أغنياء هذه المدينة.. فهل تراكم تقبلون؟

صاحوا جميعا بصوت واحد: أجل.. ومن لا يقبل.

قال واحد منهم: نعرف المراد من هضم الدروس.. ولكن ما تريد بالتدرب عليها؟

قال محسن: أنتم تدرسون في هذه المدرسة في الصباح.. وبالتحديد تبدأ دراستكم من طلوع الفجر.. وبعد أن تنتهوا من دروسكم تعودون إلى سوقكم لتطبقوا كل ما درستموه.

قال الرجل: ولكن كيف تميز المتفوق منا من غير المتفوق؟

قال محسن: ما أيسر ذلك.. سأرسل مراقبين يطوفون عليكم كل حين.. وسيروا مدى تفاعلكم مع الدروس التي درستموها.. وقد ذكرت لكم أن من نجح في التدرب عليها سأعطيه من المال ما يملك به هذه السوق جميعا.

سال لعابهم جميعا.. وقالوا: فمتى نبدأ دراستنا؟

قال محسن: من فجر يوم الغد.. وكل من تغيب، فسيعتبر بالنسبة لي غير موافق على العرض الذي قدمته.

قال رجل منهم: أحمق من غاب عن مثل هذا العرض.

قال آخر: أما أنا، فلن أنام الليل جميعا.

قال آخر: أما أنا، فسأذهب إلى باب المدرسة، لأبيت هناك، فلا أحب أن يسبقني إليه أحد..

وهكذا ردد الجميع ما ردده هؤلاء.. ثم انصرفوا، والفرحة بادية على وجوههم التي كانت ممتلئة كآبة ويأسا.


([1])   أشير به إلى العلامة محسن بن مرتضى بن فيض الله محمود الكاشي ـ أو الكاشاني أو القاشاني ـ (1008 ؟ – 1090 هـ)، وهو من علماء الامامية الكبار.. ويعرف بـ (الفيض)، وعرف جده بفيض الله وبالفيض.. وينعت بالمتأله الحكيم.. قرأ كتب أبي حامد الغزالي وتأثر به وسلك منهجه في كثير من (تصرفاته وتظرفاته) كما يقول صاحب الروضات.. له نحو 80 مصنفا، بعضها في مجلدات.. وأكثرها تعليقات ورسائل..  من كتبه (الصافي في تفسير كلام الله الوافي) و(الاصفى)، و(منهاج النجاة)، و(الحقائق في محاسن الاخلاق).. وقد اخترناه لأجل كتابه هذا.. وهو كتاب من أمهات كتب الأخلاق. ولا يخفى سر اختيارنا له في هذا المحل.

([2])   رواه البخاري ومسلم.

([3])   ذكرنا هذه المسألة بتفصيل في رسالة (أسرار الأقدار) من سلسلة (رسائل السلام)

([4])   رواه البخاري ومسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *