البداية

في ذلك اليوم الذي زارني فيه معلم السلام كنت ممتلئا هما وحزنا للتجارة التي يمارسها المصارعون بجسد الإنسان في هذه الأرض التي امتلأت فسادا وصراعا.
فلم يكن الأمر متوقفا على أولئك الرقاة اللصوص الدجاجلة الذين راحوا يبتزون الناس بالخرافة والشعوذة ليخرجوهم من العالم الذي أسكنهم الله فيه إلى عوالم الجن والعفاريت والسحرة والشياطين، بل تعداه إلى أولئك الأطباء العصرانيين الذين فتح الله عليهم الكثير من الفتوح المرتبطة بجسد الإنسان.. فلم يتواضعوا، ويحمدوا الله على تلك النعمة، ويستزيدوه من فضله.. بل راحوا يصيحون بما صاح به قارون حين قال: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } (القصص: 78)
وليتهم اكتفوا بذلك، بل راحوا يتكبرون على كل الأمم التي فتح الله عليها قبلهم من فتوح الطب ما فتح.. وكأن الطب لم يعرف إلا بمجيئهم.. وكأن البشر قبلهم كانوا يعيشون في الوهم.. وكأن الله لم يرحم عباده في كل العصور السابقة حتى جاء عصرهم، وتداركوا هم ما رأوه قاصرا من رحمة الله.
لم يكن هذا وحده يغيظني ويؤلمني، بل كانت تلك الجفوة والغلظة التي أرى الأطباء، وهم يتعاملون بها مع المرضى، وكأنهم حشرات أو فئرانا بيضاء.. وأرى بعد ذلك الصيادلة، وهم يبيعون الدواء المزيف والمغشوش والممتلئ بالسموم من دون أن يشعروا بألم أو وخز ضمير.
في تلك الحالة من الكآبة والألم والصراع جاءني معلم السلام، وهو يقول: لقد زرت أدوية السماء.. فهلم لتزور أدوية الأرض.
قلت: حسبي بأدوية السماء.. فقد ملأتني أدوية الأرض ألما.
قال: أدوية الصراع هي التي ملأتك ألما .. أما أدوية الأرض التي أنزلها الله لعباده، فلا تختلف عن أدوية السماء.. فالأرض والسماء كلاهما من الله ولله وبالله.
قلت: أليست أدوية الأرض هي التي أنتجتها المصانع.. تلك التي تباع في الصيدليات.. والتي يتلاعب بها المصنعون بحسب ما يحلو لهم؟
قال: منها ما هو من أدوية الأرض.. ومنها ما هو من أدوية الصراع..
قلت: لم أفهم..
قال: ستفهم.. سر معي.. وسلم لي.. وستمسح عن صدرك كل الآهات..
سرت معه – كما تعودت – في عوالم ممتلئة بالغرابة إلى أن نزل بي في أرض عجيبة..
فجأة لاح لنا رجل عليه سيما الصالحين جالسا لا يكاد يستطيع حراكا، وفوق رأسه شيخ وقور، يقول له بشدة مصحوبة بلين، وقوة مكسوة برحمة: انهض من كبوتك أيها الجبل الشامخ، واحمل سيوف الله التي جعلها في يدك، وثر بها على أناتك، لتحول جدبها ربيعا، وحزنها ابتسامة، وسقوطها صعودا.
فالله الذي ابتلاك هو الذي علمك كيف تخرج من بلائك.. كيف تخرج منتصرا لا منهزما، ممتلئا بالغنائم لا خاوي الوفاض منها.
والله الذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء، والذي قدر المحن هو الذي وهب المنح، فارجع إليه ليعلمك كيف تثور على بلائك، وكيف ينهض جوادك من كبوته ليواصل سيره إلى الله.
انهض لتردد مع إبراهيم u: { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ((الشعراء:80)، وتتلو مع أيوب u: { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ((الانبياء:83.. وتضرع في إلحاحك ودعائك.. لتسمع ـ بلا حرف ولا صوت ـ كلام طبيب الكائنات، وهو يقول لك: { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ((صّ:42)
قال الرجل: بم؟.. ليس لدي القدرة على المواجهة، وليس لدي أسلحة.. ثم ألست في مدائن السلام؟.. فكيف يستقيم السلام مع الحرب؟.. وكيف تستقيم الطمأنينة مع الثورة؟
قال الشيخ: لا تكون الطمأنينة إلا بالثورة.
قال الرجل: لم أفهم.
قال الشيخ: ماذا تفعل إذا أردت أن تبذر البذر لينبت لك العشب والثمر؟
قال الرجل: أثير الأرض.. أحرثها.. أقلبها.. أرفع الحجارة عنها.
قال الشيخ: وهكذا كل أرض.
قال الرجل: ولكني لست أرضا.
قال الشيخ: ألم تسمع قوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ( (الروم:20)؟
قال الرجل: بلى، فما وجه الإشارة فيها؟
قال الشيخ: كما أن الأرض تثار بالحرث، فأنت أيضا تثار..
قال الرجل: بم؟
قال الشيخ: بالإرادة والمواجهة والتحدي.
قال الرجل: التحدي!؟.. أأتحدى أقدار الله؟
قال الشيخ: بأقدار الله.. فالله تعالى قدر لكل شيء مقاديره.. { ِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ((القمر:49)
ولذلك، فإنه من البلاهة والحمق مصادمة القوانين التي خلقها الله ونظم بها كونه، لأن المصادمة حينئذ لا تكون للقوانين، بل تكون لله، واحترام القوانين هو تعظيم لله، وعبودية له.
قال الرجل: ولكن.. أليس في انشغالنا بالله ما يغنينا عن مواجهة مقادير الله.. ألم نخلق للعبودية؟.. فما حاجتنا للمواجهة التي تحمل بذور الصراع؟
قال الشيخ: عبودية المواجهة لا تختلف عن عبودية طاعة أوامر الله ونواهيه، فالله الآمر الناهي هو الله الذي وضع قوانين الشمس والمياه والأمطار والأمراض والشفاء.
قال الرجل: ولكن الأولياء الذين نتنفس بأريج عطرهم يخالفونك.
قال الشيخ: كيف يخالفوني، ونحن نهتدي بمشكاة واحدة، ونشرب من نبع واحد؟
قال الرجل: ألم تسمع قول بعضهم:(حججتُ أربع عشرة حَجَّة، حافياً، على التوكل.. فكان يدخل في رجلي شوكة، فأذكر أني قد اعتقدت على نفسي التوكل، فأحكها في الأرض وأمشي!)
فقد تصور هذا الولي الصالح أن إخراج الشوكة المؤذية من رجله مناقض للتوكل الذي هو أسمى علاقات العباد بالله.
ألم تسمع قول بعضهم:( إني لأستحي من الله أن أدخل البادية وأنا شبعان، وقد اعتقدت التوكل لئلا يكون شبعي زاداً أتزود به!)!؟
ألم تسمع قول الآخر:(دخلت البادية مرة بغير زاد، فأصابتني فاقة، فرأيت المرحلة ـ محطة الاستراحة ـ من بعيد، فسررتُ بأني قد وصلت، ثم فكرت في نفسي: أني سكنت واتكلت على غيره تعالى، فآليت ألا أدخل المرحلة، حتى أُحمَل إليها، فحفرت لنفسي في الرمل حفرة، وواريت جسدي فيها إلى صدري! فسمعوا صوتاً في نصف الليل عالياً يقول: يا أهل البادية؛ إن لله تعالى ولياً حبس نفسه في هذا الرمل فالحقوه.. فجاءني جماعة فأخرجوني وحملوني إلى القرية)!؟
ألم تسمع حكاية من وقع في بئر، فنازعته نفسه أن يستغيث، فقال: أراد الله ألا أستغيث.. ومر رجلان، فقال أحدهما للآخر: تعال نسد رأس هذه البئر لئلا يقع فيها أحد.. وشرعا يفعلان، وقد همَّ أن يصيح، ثم قال في نفسه: أصيح (أي أشكو) إلى مًن هو أقرب منهما! إلى الله سبحانه، وسكن لهذا الخاطر، فيما هو بعد ساعة، إذا هو بشيء جاء، وكشف عن رأس البئر، وأدلى رجله، وكأنه يقول له: تعلق بي، قال: فتعلَّقتُ به فأخرجني، فإذا سبع!؟
قال الشيخ: رحم الله الأولياء، ورضي عنهم، ورزقنا محبتهم، ولكنهم قد يمرون بأحوال تخالف العلم.. فلا ينبغي اتباعهم فيها.. ألم نؤمر باتباع الله ورسوله والتسليم في حال التنازع لله ورسوله؟
قال الرجل: بلى.. قد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (النساء:59)
قال الشيخ: فقد قال الله تعالى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة:197)، فالله تعالى أمرنا بأخذ الزاد، وهو أمر لا يختلف عن أي أمر إلهي آخر، ومن سوء الأدب مع الله اعتبار بعض الأوامر واحتقار بعضها.
قال الرجل: ولكن الصالحين المتوكلين على الله أمدوا من المدد الإلهي ما جعلهم مستغنين عن مدد الأسباب.. لقد استغنوا بمسبب الأسباب عن الأسباب.
قال الشيخ: أليس من العجب أن نطلب من الله قوانين خاصة بنا تنسخ قوانين الكون.. وكأننا من الطبقة الارستقراطية التي لا يرضيها أن تعامل كما تعامل طبقة البروليتاريا.. ألم يعطنا الله من الأدوات ما يجعلنا نسخر الأشياء لمصالحنا وبإذنه لنا؟
قال الرجل: بلى..
قال الشيخ: فالأدب مع الله أن لا نخرق سنن الله.. فإن شاء الله أن يخرقها لنا، فذلك له.. ألم تر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرج به إلى السموات العلا.. ولكنه اضطر إلى الهجرة متخفيا يقطع الصحاري.. ولم يلح له أن يطلب من الله أن يرسل البراق ليضعه في المدينة.
قال الرجل: أنبحث عن الدواء إذن؟
قال: أدوية الأرض، وأدوية السماء.. فقد جعل الله في كونه الأدواء والأدوية، والصحة والمرض، وجعل قوانين لكل ذلك، فمن قاوم الداء بالدواء ظفر بالعافية، وفاز بالصحة، وكان عبدا لله في ذلك، فالله ما خلق العافية إلا لنتناولها.
ومن قصر في الأسباب وقعد عنها، وطلب من الله أن يناوله إياها من غير أن يكلف نفسه عنتا مخطئ في طلبه، ومسيء أدبه مع ربه.
قام الرجل، وقبل رأس الشيخ، ثم سار معه.
***
قلت للمعلم: من هذا الشيخ.. فإني أراه بقوة الخلفاء، وحزم الأمراء، وحلم العلماء.
قال: ألا تعرفه؟.. إنه مدير مخابر مدائن السلام.
قلت: أهذا هو المدير؟.. كم كنت أود أن أراه؟.. لكن ما الذي أخرجه من مكتبه الدافئ إلى هذا القسم؟
قال: ومن قال لك بأن له مكتبا دافئا؟
قلت: أمكتبه بارد؟.. أليس لديه مكيفات؟
قال: لا.. ليس له مكتب أصلا.. إن عمله هو التجول في أركان أقسام المخابر.. ومعاينة الأطباء والمرضى، وإسداء النصح للجميع.
قلت: فمن ولاه مديرا؟
قال: علمه وخبرته وإيمانه وسلوكه، وقبل ذلك وبعده سلامه.. فلا يمكن لأحد أن ينال مثل هذه الوظيفة الخطيرة من دون أن يتخرج من جامعة السلام بعد أن يمر على جميع مراحل تعليم السلام.
قلت: ألم ينتخب؟
قال: لقد قلت لك بأن انتخابه تم من طرف سلوكه وعلمه خبرته.
قلت: وزملاؤه.. أليس فيهم من ينافسه؟
قال: المنافسة تكون في مدائن الصراع، لا في مدائن السلام.. ثم لماذا ينافسونه؟ وعلى ماذا ينافسونه؟
قلت: على الحظوظ التي ينالها المدراء.
قال: لم يصر مديرا إلا بعد أن تخلى عن كل الحظوظ، فمن طلب الحظوظ وكل إليها وشغل بها.
قلت: أيمكن أن نتحدث معه؟
قال: أجل..
قلت: بدون أن نقدم لذلك طلبا.
قال: ولماذا تقدم الطلب؟.. إن وظيفته أن يستجيب، فلم يتول هذه المسؤولية إلا ليستجيب لمن يحتاجه.
قلت: فأين أجده؟ فقد سار مع الرجل.
قال: ستجده في هذا القسم.. وفي كل محل تذهب إليه.
قلت: ولم؟.. ألا يهتم بغير هذا القسم؟
قال: لا.. هو يهتم بالأقسام جميعا.. ولكن لهذا القسم خصوصية تختلف عن سائر الأقسام، فلذلك تراه يعطيه كل جهده.
قلت: وما خصوصية هذا القسم؟
قال: هذا القسم هو القسم الذي يتم فيه البحث عن أدوية الأرض، وأدوية الأرض كثيرة بكثرة العلل، وهي متجددة بتجددها، فلذلك لا ينام أهل هذا القسم أبدا.. بل هم في بحث مستمر.. بل إن لهم مراسلين إلى جميع أنحاء العالم يخبرونهم عن كل جديد ليروا مدى موافقته لقوانين أهل السلام، ليتخذوه علاجا، أو ليرفضوه.
***
دخلت القسم، وقد كتب على بابه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لكل دَاءٍ دواء، فإذَا أصيبَ دَوَاء الداء، بَرَأَ بإذن الله عَز وجَل)([1])
وقد دهشت لمنظره، فهو قسم غاية في الجمال والتنظيم، لست أدري هل كان مزرعة، أم حقل تجارب، أم مخبرا كيميائيا، أم مصنع أدوية، أم مصنع أنسجة..
وكان يعج بالخبراء الذين يبدو عليهم الانشغال التام، فهم لا يلتفتون لأحد، ولا يكاد أحد يلتفت لهم.
قلت للمعلم: ما هذا القسم؟ ومن هؤلاء؟
قال: هذا القسم هو الذي تصنع فيه جميع الأدوية، وتحارب فيه جميع العلل.
قلت: ولكن عللا كثيرة لا تزال تنخر أجسام البشر.
قال: وهؤلاء يبحثون عن علاجها.. ويبحثون عن علاج علل تصورتم أنكم قد وصلتم إلى علاجها.
قلت: فلم يبحثون فيما قتل بحثا؟.. أليس من المجدي أن يبحثوا فيما لم يبحث فيه؟
قال: لا.. فقد وضعتم أنواعا كثيرة من العلاج لا تصلح للإنسان.. فهي تسالم عضوا، وتصارع أعضاء، ولا يرضى أهل السلام بالصراع، فلذلك يبحثون عن أدوية السلام.
قلت: فكيف يعالج المرضى بهذه الأدوية؟
قال: لقد مررت على قسم البركة، فبه يبدأون.. فيستعمل المرضى ما فيه من أنواع العلاج.. وأكثر المرضى يخرجون منه، وقد عادت إليهم صحتهم، وارتدت إليهم عافيتهم.
قلت: فإن لم تجد فيهم البركات؟
قال: يعالجون بأدوية الأرض..
قلت: وما هي؟
قال: أربعة.
قلت: أعلم أنها أربعة.. ولكني أبحث عن ماهيتها.
قال: في هذا القسم أربعة مراكز للعلاج، كل قسم منها يعالج بنوع من أنواع الأدية.
قلت: فما المركز الأول منها؟
قال: يسمونه هنا مطاعم الشفاء، وهو مركز يهتم بالبحث فيما جعل الله في الأغذية من أسرار الشفاء.. بالإضافة إلى أنه يبحث في الأغذية المناسبة للعلل المختلفة.
قلت: ولم كانت مطاعم.. ولم تكن مطعما واحدا.. أهناك شركات مختلفة تتولى إدارة هذه المطاعم؟
قال: لا.. ولكنها قسمت على أساس المناهج التي تتبعها في العلاج بالغذاء.. وقد تركت إدارة هذا المستشفى الحرية لكل مطعم في إطعام مرضاه ما يشاء ما لم يكن حراما.
قلت: فالقسم الثاني؟
قال: هم يسمونه (مزارع الشفاء)
قلت: أهي مزارع حقيقة أم من باب المجاز؟
قال: هي حقيقة، فأهل هذا القسم لا يعرفون المجاز.
قلت: عهدي بالمزارع في الحقول، لا في المخابر والمستشفيات.
قال: في هذا القسم تستنبت جميع أعشاب العالم لتجرى عليها جميع أنواع الاختبارات ليستخلص من كل عشب ما وضع الله فيه من أسرار الشفاء.
قلت: أهناك فئران تجارب إذن؟
قال: هناك أشياء لم ترها طول عمرك.. وستراها هنا، فاحفظ سرها.
قلت: فما هو القسم الثالث؟
قال: يسمونه هنا (مصانع الشفاء)
قلت: فيه آلات إذن.
قال: أجل.. من كل الأنواع.. وهو قسم لا يلجأ إليه إلا للضرورة القصوى.
قلت: فالأدوية الكيمياوية تصنع في هذا القسم؟
قال: أجل.. ولكنها تظل آخر المراتب، فلا يلجأ إليها إلا كما يلجأ المضطر لأكل الميتة.
قلت: لم؟
قال: لغرابتها عن حققة الإنسان.. فطبيعة الإنسان تأبى التصنيع، وتأنف الابتداع.
قلت: ولكن أساسها قد يكون من الطبيعة.. بل هو من الطبيعة.
قال: ولكنه يمزق عن أصله.. فيشوه خلقه، ويكدر صفوه.
قلت: فما هو القسم الرابع؟
قال: هو ما يطلقون عليه:(مناسج الشفاء)
قلت: أينسجون فيه الثياب، أم الأكفان؟
قال: لا.. في هذا القسم يعامل الجسد كالثوب.. فيرقع ويقطع وينسج.
قلت: فهمت.. تقصدون به العمليات الجراحية.
قال: أهل هذا المستشفى يحبون صناعة النسيج.. لأنها صناعة ترمز إلى السلام بخلاف العمليات، فقد اختلطت بألوان الصراع.
قلت: فهل سنزور هذه الأقسام جميعا.
قال: لا مناص لنا من ذلك.. وسيكون مرشدك فيها المدير الذي رأيته..
قلت: فهل هو كإخوانه نقطة تحت الباء.
قال: لن يصل أحد إلى بحار السلام حتى يتضمخ بمسك النقطة التي تحت الباء.
قلت: فمتى نلتقي؟
قال: إذا عرفت متى نفترق.. عرفت متى نلتقي.
قلت: أتبقى معي؟
قال: من حيث تراني.. أو من حيث لا تراني.
***
في هذه الرسالة نرحل إلى مخابر مدائن السلام المختصة بالأدوية التي اكتشفها البشر، أو اخترعها البشر.. لنعلم صدق قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الله لم يُنزل داءً إلا أنزل له شفاء، علمه مَن علمه وجهله مَن جهله)
وهذه
الأدوية التي نراها في هذا القسم لا نعرضها ليعالج بها المرضى فقط، أو لنعرف بها
موقف أهل السلام منها، وإنما نعرضها ليمتلئ المرضى بالأمل الذي يملأ أنينهم
بالابتسامة، فلا يقتل المريض مثل اليأس، ولا يشرح صدره مثل الأمل.
([1]) مسلم.