البداية

البداية

عند عودتي من [حصون العافية] شعرت برحمة الله سبحانه وتعالى، وهي تشمل أجساد عباده وأرواحهم.. بل رأيتها وهي تمد يدها إليهم ترعاهم وتحوطهم بكنفها.. وقد تعجبت من ذلك الكم الكبير من النصوص المقدسة التي لا تخدم الروح فقط، بل تخدم الجسد أيضا، وتخدم معه كل حاجاته ومتطلباته التي يتصور الغارقون في أوحال الدنيا أن الدين ينفر منها، وأن الاتصال بالله يحجب عنها.

وفي غمرة تلك السعادة والسلام الذي استشعرته خطرت على بالي خاطرة، وهي أن تلك الرعاية الإلهية التي وضعت قوانين حفظ الطين، ألا يمكن أن تكون قد وضعت كذلك قوانين علاجه إذا ما طرأ عليه أي طارئ، أو حصل له أي مكروه.

وبمجرد أن خطرت هذه الخاطرة على بالي رحت أسأل نفسي: هل يمكن أن يكون في الطبيبعة التي خلقها ا لله لنا ما يغنينا عن كثير من تلك الأدوية المسمومة التي لا تداوي داء إلا بعد أن تضع بدله أدواء؟

وهل يمكن أن تأتي الإشارة إلى هذا النوع من الأدوية في النصوص المقدسة، مثلما وردت الإشارة إلى الطب الوقائي؟

وهل يمكن أن تستفيد البشرية ـ إن تخلصت من كبريائها من تلك النصوص ـ فتفعلها في حياتها، وتبني عليها منهجا جديدا في التداوي ينطلق من السماء قبل أن ينطلق من الأرض؟

بمجرد أن خطر على بالي هذه الأسئلة وغيرها، رأيت معلم السلام يأخذ بيدي، وهو يقول: هيا بنا إلى الأرض المباركة، حيث تتنزل أدوية السماء.

قلت: الأرض المباركة.. أدوية السماء.. ما تعني؟

قال: سر.. فبالله إن تسر ترى العجائب.

سرت معه فترة من الزمن في عوالم مجهولة إلى أن بدت لنا قبة تشبه قبة المسجد الأقصى في جمالها وسكينتها وروحانيتها، وقد كتب فوقها بحروف من نور قوله تعالى على لسان المسيح u:{ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ } (مريم:31)

قلت للمعلم: أترانا الآن سائران نحو المسيح u.. إني أرى المسجد الأقصى.. وأرى كلامه مجتمعان هنا.. أنزل المسيح u؟.. كيف؟.. ولم يخرج الدجال بعد؟

قال: ومن قال بأن الدجال لم يخرج.. إن آلاف الدجاجلة الصغار يظهرون كل يوم.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة، ولا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله)([1])

قلت: بلى.. الدجالون كثيرون.. ولكن المسيح واحد.

قال: المسيح u واحد.. ولكن أنصاره الذين يكونون معه أو يسبقونه كثيرون، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناواهم حتى يقاتل آخرهم الدجال)([2])

قلت: بلى.. ولكن هل سنزور أحد هؤلاء الأنصار المباركين.

قال: لا.. لن نزور أشخاصا، بل سنزور أدوية مباركة.. بورك فيها كما بورك في المسيح.. وهي الأدوية التي إذا رأتها الدجاجلة ذابت واندثرت.

قلت: أي دجاجلة؟

قال: الأدوية الكثيرة التي تفوح بالدجل.. والتي لا يقصد منها غير ملأ الجيوب، وتدمير الصحة.

قلت: أدوية قومي.

قال: أدوية الصراع.. وهي أدوية قومك وغير قومك.

قلت: ولم كانت دجلا؟

قال: لأنها تقوم على الصراع.. فتصارع الجسم، وتصارع الصحة، فلا تبني حتى تهدم.

قلت: وأدوية البركة.

قال: هي الإكسير الذي لا يعرف إلا العافية.. والنعمة التي لا تعرف وجه النقمة.. والمنحة التي لا تشم منها روائح المحنة.

قلت: فلم كانت مباركة؟

قال: الله تعالى برحمته بارك فيها.. ألا تعلم سر البركة؟

قلت: العجائز ـ عندنا في العادة ـ هم الذين يتعلقون بالبركة..

قال: ولكنهم يخطئون سبيلها.

قلت: فما البركة؟

قال: ما فضل الصلاة في الحرم على فضلها في سائر المساجد؟

قلت: ورد في النصوص أن الصلاة فيه تعدل مائة ألف فيما سواه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع([3])فيه بخمس مائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي هذا بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)([4])

قال: فهذا من البركة.. فصلاة واحدة تعدل مائة ألف صلاة.

قلت: فكيف تطبق هذا على الإكسير المبارك الذي يستعمله أهل هذه الديار؟

قال: إن ما يستعمله أهل هذه الديار من الأدوية لا يمكن مقارنة ما فيه من البركات بأي دواء آخر.

قلت: كيف تقول هذا ـ يا معلم ـ ونحن في عصر الدواء؟

قال: أنتم في عصر الداء والدواء.. ولا يلد الداء مثل الدواء الممحوق البركة.

قلت: أفنستغني عن الدواء بالبركة؟

قال: البركة هي أم الأدوية، كما أن مكة هي أم القرى، فكيف تقارنها بالدواء؟

قلت: أنا لا أعرف البركة بعد.. فإني لا أزال على دين قومي.. ولكني أتعجب من هذه المبالغة في شأن البركة..

قال: لا.. بل أنا مقصر في التعبير عنها، أتعلم ما أمر الله تعالى نوحا u أن يقوله عندما نزل إلى الأرض بعد الطوفان؟

قلت: بلى.. فقد قص القرآن الكريم علينا ذلك، فقال تعالى:{ وقل رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}(المؤمنون:29)

قال: لو ترك الأمر لعقلك وعقول قومك: ما هي صفة الأرض التي كنت ستطلب النزول فيها؟

قلت: سأضع وصفة طويلة بمطالبي.

قال: مثل ماذا؟

قلت: ذلك يطول.. ولكني سأطلب أرضا جيدة المناخ، طيبة الثمار، حسنة التضاريس، ليس فيها الوحوش الكاسرة، ولا الأفاعي السامة.

قال: ولو ظللت طول اليوم تعد مواصفات الأرض التي تحب أن تنزل فيها، فلن يعدل كل ما تذكره كلمة:( مباركا)التي ورد ذكرها في طلب نوح u.

قلت: لم؟

قال: لأنها تحوي كل ما ذكرت، وغير ما ذكرت.. لأن البركة من الله.. والله يعلم ما لا نعلمه.

قلت: ولكني لم أقصر فيما ذكرت، بل قد يكفيني ما ذكرت.

قال: ولكن هناك أراض كثيرة بالوصف الذي ذكرته.. ولكنها أرض موبوءة بالزلازل أو البراكين أو الحروب أو قلة الرزق..

قلت: ولكن..

قال: سأضرب لك مثالا على البركة في الأرض.. أرأيت لو سرت إلى مكة المكرمة قبل أن تنزل فيها هاجر ـ عليها السلام ـ أتراك تطلب القرار بها؟

قلت: لا.. فقد كانت أرضا خاوية خالية.. هي أقرب للموت منها إلى الحياة.. ألم يقل الله تعالى فيها على لسان خليله u:{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} (ابراهيم:: 37)

قال: ولكن البركة لما نزلت عليها تحولت منبعا من منابع الرزق، ومسكنا من مساكن القلوب.. ولم يصب أهلها أي جوع أو ظمأ منذ تنزلت البركات، قال الخليل u:{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}(ابراهيم:37)

قلت: ولكن هناك فرق ـ يا معلم ـ بين الدواء والأرض.. الأرض للجميع.. أما الدواء فللأفراد.. فلذلك لا يمكن القياس في هذا الباب.

قال: أنا لا أقيس.. فأنت تعلم بغضي للقياس.. ولكني أستبصر.. وأطبق سنن الله.. ولست مبتدعا في ذلك، فقد كان من هدي الصالحين البحث في مواطن البركات واستثمارها في الشفاء وغيره، ألم تعرف وصفة الإمام علي ؟

قلت: لا أعرفها.. فهل روي عنه شيء من الطب؟

قال: أجل.. كما روي عن غيره من الأئمة.. وقد رويت عنه وصفة قد تكون أنجع من كثير من الصناديق التي تملؤونها بالسموم.

قلت: فما قال؟

قال: روي عنه أنه قال:( إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب اللّه في صحفة، وليغسلها بماء السماء، وليأخذ من امرأته درهماً عن طيب نفس منها، فليشتر به عسلاً فليشربه كذلك فإنه شفاء، من وجوه)

قلت: أي وجوه يقصدها؟

قال: يقصد الآيات التي ذكر فيها الشفاء والبركة، وهي قوله تعالى:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ }(الاسراء:82)، وقوله تعالى:{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً }(قّ:9)، وقوله تعالى:{ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} (النساء:4)، وقوله في العسل:{ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس}(النحل:69)

قلت: أهذا اجتهاد اجتهده، أم تجربة جربها؟

قال: يمكن أن يكون كل ذلك، ويمكن أن يكون غيره..

قلت: ولكن قومي يسارعون إلى إنكار مثل هذا..

قال: فلينكروا.. فلا حرج عليهم أن ينكروا.. ولكنهم في إنكارهم مثل من غرق في بحر، فمد إليه منقذ خبير يده، فقال في نفسه: إن يده أضعف من أن تحملني أو تنقذني، فبقي كذلك إلى أن التهمه حوت البحر وأمواجه.

قلت: قد يكون ما تقول صحيحا.. ولكن الغريق الذي تتحدث عنه يمد يده إلى أدوية كثيرة اخترعها قومي..

قال: لا حرج عليه في ذلك.. ولكن الحرج على إنكاره على غيره إن شفاه الله بسبب من الأسباب عجز عقله المحدود عن فهمه.

قلت: ولكن هل نكتفي بما يهديه إليه تدبرنا واستبصارنا؟

قال: لا.. لا بد أن نراجع الخبراء.. فقد أمرنا الله بالرجوع إليهم.

قلت: فكيف يتم العلاج في هذه الديار؟

قال: العلاج في هذه الديار ينقسم إلى أربعة أقسام.

قلت: فما القسم الأول منهما؟

قال: مرصد البركة.

قلت: وهل يمكن رصد البركة حتى ينصب لها مرصدا؟

قال: أجل.. فهناك المتوسمون الذي علمهم الله أسرار البركات، فراحوا ينشرونها بين الناس.

قلت: فما القسم الثاني؟

قال: منازل البركة.

قلت: فما منازل البركة؟

قال: هي المحال التي تنزل فيها البركة، فليس الشأن في وجود البركة ولكن الشأن في وجود المستقبل لها.

قلت: فما القسم الثالث؟

قال: مخزن البركة.

قلت: وما مخزن البركة؟

قال: المخزن الذي تجبى إليه الثمرات المباركة ليأكلها المرضى، ويستشفوا بها.

قلت: فما القسم الرابع؟

قال: صيدلية البركة.. وهو قسم يشبه مخابركم إلا بفارق بسيط.

قلت: ما هو؟

قال: ليس فيه الفئران البيضاء.

قلت: أفيه الفئران السوداء؟

قال: ليس فيه أي فئران.

قلت: أيخافون عليها من القطط؟

قال: لا.. ولكن فئرانهم هي البشر أنفسهم.

قلت: لم.. فلا يجوز إجراء التجارب على البشر.. أم أن هؤلاء يضحون بأنفسهم.

قال: لا.. لا تخف.. فالدواء المبارك إن لم يصبك بشفائه أصابك ببركته.

قلت: فهل سنزور هذه الأقسام؟

قال: لا مناص لنا من زيارتها.

***

في هذا الجزء من هذه الرسالة نرحل ـ مع معلم السلام ـ إلى قسم العلاج بأدوية البركة، لنعلم صدق قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الله لم يُنزل داءً إلا أنزل له شفاء، علمه مَن علمه وجهله مَن جهله)

وهذه الأدوية التي نراها في هذا القسم لا نعرضها ليعالج بها المرضى فقط، أو لنعرف بها موقف أهل السلام منها، وإنما نعرضها ليمتلئ المرضى بالأمل الذي يملأ أنينهم بالابتسامة، فلا يقتل المريض مثل اليأس، ولا يشرح صدره مثل الأمل.


([1])   أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي.

([2])   أحمد وأبو داود والحاكم.

([3])   أي يصلون صلاة الجمعة. النهاية [1/297]

([4])   ابن ماجه، وقال في الزوائد: إسناده ضعيف… وقد ورد في أحاديث أخرى ما يؤيد هذا، كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة » رواه أحمد وابن حبان.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *