البداية

البداية

في ذلك اليوم العجيب، استيقظت فزعا مذعورا من رؤيا رأيتها.. كانت أبعد ما تكون في وضوحها وصفائها عن الرؤى.. لقد كنت فيها ـ كما أنا في اليقظة تماما ـ بجميع مشاعري وقواي وضعفي.. وكان الزمان فيها كالمكان ككل شيء لا يختلف تماما عما أراه في اليقظة وأشعر به وأعيشه.

سأقص عليكم ما بقي منها في خاطري.. فإن لها علاقة بهذه الرواية.. ولها علاقة كبرى بالرحلة العجيبة التي حدثني عنها الشيخ الغريب الصالح، والتي سـأرويها لكم بدوري كما رواها لي([1]).

لقد رأيتني وحدي أنام على تراب الأرض.. كان ترابا ممتلئا بالماء.. وقد تحول نتيجة لذلك إلى طين.. بل إنه تغير من طول المكث، فصار حمأ مسنونا.. لعله يشبه الحمأ المسنون الذي تشكل منه آدم u.

استيقظت في تلك المتاهة.. ولم أكن أعرف من أيقظني.. ولكني شعرت بيده الحانية تربت على كتفي.. وتوقظني بحنان.. كان ذلك هو أسعد شيء في رؤياي.. وليتها توقفت عند ذلك الحد.. ولم أتعرض لتلك الاختبارات التي تعرضت لها.. والتي جعلت حلمي كابوسا ثقيلا ملأني رعبا.

سرت في تلك المتاهة خطوات طويلة إلى أن وجدت قصرا مكتنفا بأشجار كثيرة.. وكان تحت الأشجار ماء كثير.. وأزهار كثيرة.. وعشب جميل.

لقد كانت لي في ذلك الحلم جراءة لم أعهدها في اليقظة.. ولذلك دخلت القصر من غير أن أطرق بابه.. فقد كان بابه مفتوحا..

لكني مع سوء أدبي هذا استقبلني صاحب القصر أحسن استقبال.. بل أتاح لي في ذلك القصر والجنة المحيطة به من المتاع ما لم أر مثله في حياتي..

بعد أن مكثت فترة في ذلك الجو الهادئ السعيد.. لم تطمئن نفسي لتلك الحياة التي ليس فيها إلا اللذة المجردة عن كل تكليف وكل مغامرة..

لذلك طلبت من صاحب القصر.. ذلك الرجل الكريم.. الذي أغدق علي من كرمه ما لم أر مثله في حياتي، أن يكلفني بأي وظيفة.. لقد قلت له، وأنا ممتلئ حماسة وقوة: لم لا تكلفني.. أنت تراني ممتلئ بالقوى العجيبة.. أنا أفكر.. وأحلل.. وأشعر.. وأتخيل.. وأطير في الأجواء التي لا يستطيع جسدي أن يطير إليها.

وقلت له: أنا أشق الشعرة بذكائي.. وأحول من تلك التربة التي كنت فيها جنات وقصورا لا تقل عن هذا القصر الذي أسكنتني فيه..

وقلت له: نعم أنا معك الآن.. وقريب منك.. ولكني أشعر أني مع هذا القرب بعيد.. بل أشعر أنك لا تريد إلا أن تهجرني عندما تشغلني بهذا النعيم عن الجلوس إليك ومنادمتك.

نظر إلي صاحب القصر بعين حانية ممتلئة بالشفقة، وقال: لقد جاء قبلك من طلب مني ما تطلب.. لكنه ما إن وضع قدمه على مقام التكليف حتى امتلأ عقله وقلبه وكل قواه بالتحريف.. فراح يصورني في أذهان الخلق بصورة المجرم..

قلت بغضب: ويل للمجرم.. أيقابل مثلك بهذا؟

قال: لا تهتم.. فقد نال جزاءه.. فإني مع كرمي الشديد لا أترك لأي أحد الفرصة أن يعبث بسمعتي أو بالرحمة والعدالة التي أشعر أن الله كلفني برعايتها، وعدم التقصير في رعايتها.

قلت: أهو مسجون في هذا القصر؟

ابتسم، وقال: القصر لا يسجن فيه.. أنا لدي من الزنازن ما يوضع فيه المجرمون ليردعوا نفوسهم الشريرة التي تحدثهم بالإجرام.

قلت: ما كنت أتصور أن لمثلك في حنانك ورحمتك ولطفك زنازن؟

قال: أحيانا تقتضي العدالة والرحمة أن تتخذ من الزنازن ما يحفظ لهما وجودهما وتوازنهما.

قلت: دعنا من هذا.. وهيا كلفني.. فستجدني قويا أمينا.. حفيظا عليما.. أسند إلي أي وظيفة.. بل أسند إلي أخطر الوظائف.. فإن لدي من القدرات ما يطيق أعلى الوظائف وأدقها.

ابتسم، وقال: سأعطيك كنزا..

قاطعته قائلا ـ وقد سال لعابي، ولم أملك أن أحبسه ـ : وما أفعل به؟

قال: لقد تعودت أن أتعهد قرية من القرى الضعيفة الفقيرة بما يكفيها من المال وغيره.. وأنا لا أطلب منك إلا أن توصل ذلك الكنز لتلك القرية.. وتوزعه عليها بحسب ما لديك من موازين العدالة التي ذكرتها لي.

قلت ـ وأنا ممتلئ زهوا ـ : ما أبسط ذلك.. وما أيسره.. نم هانئا.. فلن يجد أهل القرية مني إلا ما وجدته منك من الكرم والرحمة واللطف والحنان.. سأسير فيهم بما تعلمته منك.. فقد تعلمت منك الكثير.

قال: لكن احذر.. فهناك محتالون.. قد يخادعونك.. وقد يأخذون منك الكنز ليستأثروا به لأنفسهم، ويدعو أهل القرية للجوع والعراء.

قلت: لا تهتم.. أنا لم أذكر لك طاقاتي جميعا.. لدي طاقة تسمى الفراسة أتفرس بها الوجوه لأميز الخبيث من الطيب.. والكاذب من الصادق.. والخب من المغفل.

قال: واحذر أن تحدثك نفسك بأن تأخذ من هذا الكنز ما لم أتح لك منه..

قلت: لا تهتم.. فلي نفس ممتلئة بالزهد والعفاف.. وهي لن تتحرك لأي إغراء.

قال: احذر.. فالأمر أخطر مما تتصور..

قلت: الأمر بسيط.. ولست أدري لم تعقده.

قال: لأنه معقد.. أنت لا تعلم عاقبة نجاحك أو فشلك.

قلت: لقد ذكرت لي أن عاقبة فشلي هي الزنزانة..

قال: لا تستهن بها.. فإن العذاب الذي فيها لا يمكن لأحد تخيله.

قلت: وما الجزاء إن نجحت؟

قال: ستعطى الجائزة الكبرى.

قلت: وما الجائزة الكبرى؟

قال: ستكون مفاجأة.. كل ما يمكن أن تعرفه عنها.. هو أن هذا القصر الذي تراه بالجنة التي تحيط به سيصبح ملكك.

قلت مندهشا: ملكي!؟

قال: ليس وحده.. هناك قصور كثيرة معه.. وفيها من كل شيء.

قلت: وأنت.. هل يمكنني أن أتصل بك وأجلس إليك.. إن هذا شيء مهم بالنسبة لي لا تغنيني عنه جميع قصور الدنيا؟

قال: لك ذلك.. ولكن بشرط واحد أن تؤدي هذه الأمانة الثقيلة إلى المحل الذي طلبت منك.

قلت: لا تهتم.. سأسير الآن.

قال: سر.. واعلم أن لي في كل خطوة تتحركها من العيون من ينقلها لي..

قلت: لن ترى مني إلا ما يسرك.

بعد أن قلت هذا سرت.. وبصحبة ذلك الكنز العظيم الممتلئ بكل أصناف الجمال.. كنت في الطريق أنظر إليه كل حين.. وكنت إذا ما ارتحت في أي محل أنشغل بالنظر إليه عن الأكل والشرب..

بعد أيام من السير صرت مدمنا على النظر إليه، والتمتع بذلك..

وقد وصل بي الأمر بعد أيام قلائل إلى أن توقفت عن السير.. بل وصل بي الأمر إلى أن وضعت الكنز في محل رفيع، ورحت أجثو بين يديه كما يجثو الوثني أمام أصنامه.

أذكر أني في تلك الرؤيا كنت أسمع التحذيرات الشديدة من الانشغال بالكنز عن الوظيفة التي كلفت بها.. لكني لم ألتفت لأي ناصح أو محذر..

وذات يوم.. حصل ما حول من حلمي كابوسا.. لقد مددت يدي لآخذ من ذلك الكنز.. فلم يعد يكفيني أن أنظر إليه.. وليت ذلك فقط كان، بل حدثتني حينها نفسي أن أستأثر به لنفسي.. وقال لي شيطاني: إنك لو ملكت هذا الكنز، فستصير كصاحب ذلك القصر.. سيكون لك من الأمر ما هو له..

مددت يدي.. وليتني ما مددتها.. لقد تحول ذلك الكنز الذي كنت ممتلئا إعجابا به إلى حية كبيرة أحاطت بذراعي، ولم ينقذني منها إلا صراخي، واستيقاظي بعده..

***

ملأتني تلك الرؤيا بالمخافة.. ولست أدري كيف سرت إلى الشيخ الصالح ـ الذي تشرفت بزيارته ذلك اليوم ـ من حيث لا أشعر لأقصها عليه..

لكني ما إن دخلت عليه حتى خاطبني بقوله: هل رأيت الإنسان؟

قلت: كيف لا أرى الإنسان.. أنا لا أرى إلا الإنسان.. ألست أنت وأنا وكل أولئك الذين يعمرون القارات أناسي؟

قال: لا.. ليسوا كلهم أناسي.. الإنسان هو الذي بقي إنسانا.. أما من لم يبق إنسانا، فلا يصح أن نطلق عليه هذا اللقب العظيم.

قلت: لم أفهم.

قال: أرأيت لو أن عنبا لذيذا حلالا حوله مجرم خمرا.. هل يبقى للعنب كرامة العنب؟

قلت: كيف تبقى له كرامة العنب، وقد نجس بتحويله خمرا؟

قال: فلو قال لك رجل من الناس: أعطني عنبا.. فأعطيته خمرا.. هل تكون مصيبا بفعلك هذا؟

قلت: بل أكون مصيبة بفعلي هذا.. فشتان بين الخمر والعنب.

قال: ولكن الخمر ليست سوى عنب.

قلت: هي عنب منحرف خبيث.. لا عنب مستقيم طيب.

قال: أخبثه وانحرافه يحذف منه كرامة اسمه؟

قلت: أجل.. كما تحذف من الخائن كل ألقاب الأمانة التي لقب بها.

قال: فهكذا الإنسان..

قلت: ما تقصد؟

قال: لقد خلق الله الإنسان مخلوقا طيبا بريئا ممتلئا بالطاقات العظيمة التي تؤهله للخلافة التي هي وظيفته الكبرى.. ولكن الكثير من الخلائق راحوا يمحون اسم الإنسان ليضعوا بدله اسم الشيطان.

قلت: لم أفهم.

قال: أرأيت لو أن صاحب مطعم أراد أن يجعل بعض عماله نادلا لما رأى فيه من الخلال المناسبة لذلك.. لكنه فوجئ بأن يدي النادل تقطعان.. أو تشلان.. فهل يمكن أن يستمر صاحب المطعم على هذه النية؟

قلت: غبي إن هو استمر على هذه النية.. فلا يمكن للقطيع أو المشلول أن يحمل الطعام إلى فمه.. فكيف يحمله إلى أفواه غيره؟

قال: فهكذا الإنسان.. لقد وهب الله الإنسان من القوى ما يستطيع أن يؤدي به الوظائف الخطيرة التي وكلت إليه.. لكنه إن راح يقطعها ويصيبها بالشلل، فلن يطيق تحمل شيء.

قلت: فهلا ضربت لي مثالا على ذلك.

 قال: ألا ترى هؤلاء الخلائق الذين راحوا يتلاعبون بالكنوز التي جعلها الله أمانة في أعناقهم؟

أصابني رعب الكابوس، فقلت له: لقد ذكرتني بما جئت من أجله.. لقد رأيتني أخون الكنز.. لقد مددت يدي إليه.. لكن الحية طوقت يدي.. وكادت تقضي علي لولا أن تداركتني اليقظة.

قال: وهكذا البشر جميعا لن ينقذهم من الحيات إلا اليقظة.

قلت: ولكنهم مستيقظون؟

قال: لا.. بل هم نائمون.. كل من غفل عن حقيقته نائم.. كل من انشغل عن وظيفته نائم.. كل من مد يده للكنوز التي اؤتمن عليها غير مدرك عواقبها نائم..

قلت: فمن يوقظهم؟

قال: لقد أيقظهم الله بالرسل..

قلت: ولكن الرسل ماتوا.

قال: لقد تركوا من الورثة ما يخلفهم في هذه الوظيفة.

قلت: فهل يسمع الناس للورثة؟

قال: فهل سمعت أنت؟

قلت: في الحلم لم أسمع.

قال: ليس الشأن بالحلم.. الشأن باليقظة.. أنت لا تحاسب على ما تفعله في الأحلام، بل تحاسب على ما تفعله في اليقظة.

قلت: فهل يمكنني أن أسمع الورثة الذين لم أسمعهم في الرؤيا؟

قال: ذلك يرجع إليك.. أنت الذي تقرر.. ولا يمكن لأحد في الدنيا أن يقرر بدلك.

قلت: لقد أرحتني بقولك هذا.. سأتدارك بتوفيق الله ما فاتني في الحلم أن أتداركه.

قال: إنك إن صدقت.. فلن تطوقك الحية.

قلت: لقد غفلنا بالحديث عن الرؤى عن الحديث عن قصتك التي أخبرتني أنك ستحدثني عنها، وطلبت مني كتابتها.

قال: قصتي مرتبطة بما كنا نتحدث عنه.. لقد تعرفت من خلالها على الإنسان.. الإنسان الذي كان لغزا.. ولم يستطع أحد في الدنيا أن يجرؤ على حله لولا الأشعة التي أنالنا الله إياها من شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: ما أشد شوقي لأن أسمع أشعة ترتبط بهذا.. فلا يعرف ربه من لا يعرف نفسه.

***

اعتدل الشيخ الصالح في جلسته، وحمد الله، وصلى وسلم على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مستغرقا في كل ذلك، ثم قال: بعد أن قدر الله لي من معرفته ما قدر.. وبعد أن هداني، فتخلصت من كل تلك القيود التي كانت تحول بيني وبين الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وبعد أن تنزل علي من النور ما تنزل على من أراد الله هدايته.. بعد كل ذلك شعرت بشوق عظيم يحركني للتعرف على ذاتي.. على حقيقتها.. ومكانتها.. والوظائف المناطة بها.

وكما تعودت في رحلاتي السابقة، فإن الله بفضله حرك أخي التوأم لأن يوفر لي من الجو ما ييسر لي التعرض لهذا النوع من الأشعة.. فقد أرسلني إلى بقعة خالية في إقليم من أقاليم الأرض لم أعرفه.. ولا أحسب أحدا في الدنيا يمكن أن يعرفه.. لقد طارت بي طائرة خاصة إلى ذلك الموقع، ثم تركتني فيه مع بعض الزاد، ثم انصرفت..

لقد كانت البقعة خالية.. وكانت ممتلئة بالطين.. وكان بعض الطين قد تحول إلى حمأ مسنون.. وبعضه تحول إلى صلصال كالفخار..

قلت: عجبا.. لكأنك تذكر رؤياي.. لقد كان هذا ما رأيته في رؤياي.

قال: لقد ذكرت لك أنك رأيت الإنسان.. فلا يمكن أن يعرف الإنسان من لم يعرف الطين والتراب والحمأ المسنون.. ولكن هناك فرقا كبيرا بين رؤيتي ورؤيتك.. فأنت رأيت الإنسان في الحلم، أما أنا فقد أرانيه الله في اليقظة.

قلت: ما أراد أخوك بإرسالك إلى هذه البقعة الخالية؟

قال: أراد أن يعاقبني بفعله هذا.. فقد أوحى إليه بعضهم بأنني لن أكف عما أنا فيه إلا بتلك العزلة التي تعيد لعقلي اتزانه.

قلت: فكيف خرجت من هذه البقعة؟.. وكيف استطعت أن تقوم برحلتك هذه فيها، وقد ذكرت لي أنه ليس فيها إلا التراب؟

قال: لقد قدر الله أن تكون رحلتي هذه في تلك البقعة الخالية التي ليس فيها إلا التراب.

قلت: لقد ملأتني بالعجب.. كيف ذلك؟.. وليس في الخلاء إلا الهباء.

قال: ببصرنا الضعيف نرى الهباء..ولكنا ببصر الحقيقة نرى ما لا يمكن تصوره.

قلت: لقد زدتني عجبا.. فحدثني كيف كان ذلك؟

قال: عندما انصرفت الطائرة انصرفت إلى أذكاري وأورادي.. وقد شعرت بأنس عظيم وأنا في تلك الحال، وفي تلك البقعة..

وفجأة.. وبينما أنا كذلك إذا بي أرى صاحبك (معلم السلام) كالشمس في ضحاها، وكالزهور في جمالها، وكالبراءة في ابتسامتها.. ما رأيته حتى صحت بأعلى صوتي أريد أن أسمعه: يا من يمتلئ بالحكمة والنور.. تعال أخبرك أخبارا سارة.. لقد يسر الله لي الطريق إليه.. لقد عرفت محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.. وعرفت أنه هو الشمس التي دلتني عليها جميع الحقائق.

رأيت البشر على وجهه.. لكنه أشاح بوجهه عني، وهو يقول: ليس الشأن أن تعرف الملوك، ولكن الشأن أن ترفع الحجب عنك، فتدخل عليهم.. وليس الشأن أن تدخل عليهم، ولكن الشأن أن تستقر عندهم.. وليس الشأن أن تستقر عندهم، ولكن الشأن أن تصلح لمنادمتهم.. وليس الشأن أن تنادمهم، ولكن الشأن أن تنصهر فيهم، فلا تميز عنهم، ولا يميزون عنك([2]).

قلت: كيف لا أميز عنهم، ولا يميزون عني.. وأنا لي كياني الذي لا يمكن أن يندمج في أي كيان.. ولي دولتي التي لا تستعمرها أي دولة؟ 

قال: ذلك عالم التراب.. أما عالم الأرواح الذي يمثل حقيقتك، فمختلف تماما.

قلت: فحدثني عنه.. لقد بعث الله في من الأشواق إلى معرفة ذاتي ما بعثه قبل ذلك لمعرفته.

قال: أنت تعلم دوري.. أنا دليل.. والدليل يدلك على طرق الحقيقة.. ثم يدعك تسير إليها.

قلت: لقد تعودت منك أن تدلني على أبواب الحقيقة.. فما أبواب الـ (أنا)؟

قال: ثمانية.. عددها كأعداد أبواب الجنة الثمانية([3]).

قلت: فما هي؟.. وكيف أهتدي إليها؟

قال: افتح عينيك.. وسيقيض الله لك من يدلك عليها.

قلت: أنا لا أرى في هذه البقعة إلا الهباء.. فكيف تطلب مني أن أفتح عيني، وأنت تراهما منفتحتين؟

قال: افتح عيني بصيرتك.. وسترى ما لا يراه بصرك.

قلت: بصيرتي ترى عالم الحقائق، لا عالم الأجساد.

قال: قد يجعل الله للحقائق أجسادا تعرف بها وتميز.

قلت: إنها حينذاك تتلوت بلوث الأجسام..

قال: من خلق الطهارة في عالم الحقائق، فلن يعجز عن خلق الطهارة في عالم الأجساد.

قلت: هل تقصد أني سأرى ببصيرتي أجسادا تتحرك؟

قال: لو فتحت بصيرتك، فسترى الحقائق تتحرك.. فلله من المعلمين ما له من الجنود.. { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ..(31)} (المدثر)

قلت: لا أزال لا أرى إلا الهباء.. فما أفعل حتى تنفتح بصيرتي؟

قال: إذا حجبك بصرك عن بصيرتك.. فأغلق بصرك لتعيش عوالم بصيرتك.

لست أدري كيف بدا أن أغلق بصري..

وقد امتلأت عجبا.. فما إن أغلقته حتى رأيت رياحا عجيبة تهب من اللامكان تمتلئ بروائح مقدسة لا يمكن للواصف أن يصفها.. ثم تنجلي الغمامة عن مدينة عجيبة ممتلئة بكل الألوان.. بل – فوق ذلك – رأيتني أتحرك فيها بكل نشاط، وكأن شبابي قد عاد إلي، بل كأني ولدت في تلك اللحظة.

***

في تلك البلاد العجيبة التقيت كثيرا من أهل الله في مواطن مختلفة.. وقد تعلمت منهم جميعا أركان (الأنا) وأوصافها وأخلاقها وصعودها وهبوطها.

قلت: فهل ستحدثني بما أفادوك؟

قال: من كلامهم ما تسمح العبارة بنقله.. ومنه ما لا تطيقه عقول الجماهير.. ولا ينبغي للعاقل أن يتكلم بما لا تطيقه عقول الجماهير.

قلت: فهو معارض للشريعة إذن؟

قال: لا.. ما كان لأهل الله أن يعارضوا الشريعة، وهم لا يستقون إلا من حياضها الطاهرة.

قلت: عهدي بالشريعة اليسر والوضوح.

قال: هي كذلك.. ولكن فيها من الحقائق ما لا تطيق الجماهير فهمه.

قلت: لم أستوعب سر ذلك.

قال: هل ترى الجماهير تفهم الحقائق التي تنطوي عليها نظرية النسبية؟

قلت: هي نظرية تحتاج عقلا رياضيا..

قال: ومن حقائق الإيمان ما يحتاج عقلا عرفانيا.

قلت: فهل ستسر لي منها ما أستفيد منه لخاصة نفسي؟

قال: لن ينفعك ذلك.. فهذه الحقائق لا تنال بالألسن.

قلت: فبم تنال إذن؟

قال: بالسلوك.. وبالتدريب.. عندما تتطهر في البحار المقدسة.. وعندما يصفو قلبك.. حينها سيتنزل عليك من حقائق العرفان ما تعرف به حقيقة حقائق الإنسان.

قلت: فهلم حدثني بما أطيق، وبما يطيق قومي.

قال: سأحدثك عن أسرار الإنسان الثمانية التي فتحها الله علي في هذه الرحلة.. وحسبك بها.


([1])  ننبه إلى أن هذه الرؤيا التي نقصها هنا مجرد مثل.. والمثل لا يؤخذ به ـ كما هو معروف ـ بكل وجوهه.

([2]) نريد بهذا الإشارة إلى المعنى الرمزي للفناء.. أما الاتحاد بمفهومه الحسي، فلا يقبله العقل المجرد، فكيف يقبله العقل المسدد بأنوار الوحي.

([3]) من الأحاديث الدالة على ذلك قوله  صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء) [رواه البخاري ومسلم]

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *