البداية

البداية

في ذلك الصباح، نهضت فرحا مسرورا بعد أن سمعت تلك الأحاديث الجميلة عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ومن يمثله من الورثة الذين لم يرتضوا لذواتهم قالبا غير القالب الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم..

ولكن الألم عاد يعتصرني من جديد..

لقد قلت لنفسي: كم يمكن أن يكون في هذه الرقعة الكبيرة المباركة التي يستوطنها المسلمون من أولئك النماذج الراقية من ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟.. كم يمكن أن يكون هناك من جعفر وباقر وزين العابدين وأويس وبشر والنورسي والبغدادي والصالحي والسيد سليمان([1])؟.. كم يمكن أن يكون من أعداد هؤلاء، أو من يقاربهم، ولو بأن يكتفي بالسير على خطاهم؟

وبعد أن قلبت بصري وبصيرتي في الواقع وجدت أن أعداد أمثال هؤلاء لا تكاد تذكر.. فهم كالإكسير الأحمر قل من يظفر بهم.. وقل من يمكن أن يستفيد منهم.. وهم في حال وجودهم قد يغرقون في وديان النسيان، أو قد يتيهون في صحارى الإهمال واللامبالاة.. وبالتالي يصبح وجودهم في الناس كعدمهم.

ثم عدت ببصري وبصيرتي إلى ورثة الشياطين.. فوجدتهم يملأون الأرض سهلها وجبلها، وبرها وبحرها.. صياحا ونعيقا ولغوا:

وجدتهم يدخلون كل بيت عبر شاشات التلفزيون، والمذياع، والأشرطة المسموعة والمرئية، وعبر وسائل الإعلام الكثيرة التي تفنن أهل عصرنا في اختراعها، كما تفننوا في استغلالها.

ووجدتهم يستعملون كل الحيل، ويلتمسون كل السبل ليصلوا إلى قلوب الذين يستهلكون تلك الوسائل وعقولهم.. بل حتى أجسادهم.. فكم رأيت من شباب يضع السماعات على أذنه ليرقص معها بالحركات التي توحيها له الموسيقى التي أبدع ورثة الشياطين في التلاعب بها؟

ووجدتهم لا يكتفون بكل ذلك مما يخص العامة البسطاء.. بل رأيتهم ببصري وبصيرتي يدخلون الجامعات ومراكز العلم والثقافة ليملأوها بما شاءت لهم أهواؤهم من أطروحات تلبس لباس العلم، لتجعله ذريعة لجهل مركب يستحيل محوه، ولو صبت عليه جميع بحار الدنيا.

ووجدتهم فوق ذلك كله يصرفون أموالا ضخمة.. لا مكاسب واضحة لها.. ولكن مكاسبها الخفية أعظم من كل المكاسب.. إن مكاسبها هي استعباد الإنسان نفسه، ليصبح لعبة بين يدي تلك الوسائل تملي عليه ما تشاء، فلا يجد نفسه إلا مسوقا للتحرك حسب رغبتها.

بعد أن امتلأت ألما بكل هذا.. رحت أبحث في واقعنا.. نحن المسلمين.. نحن الذين كلفوا بأن يحملوا رسالة أعظم الأنبياء ليبلغوها إلى الأرض، فيطهروها بذلك البلاغ من ورثة الشياطين، ومن رجس أذنابهم وذيولهم.. فازددت ألما على ألم، وحزنا على حزن:

لقد رأيت الخطيب الذي يصعد المنبر وحوله الألوف المؤلفة.. فلا يلتفت لهم، ولا يحاول أن يسمعهم رسالة ربهم، وهدي نبيهم، بل ينشغل بورقته يقرأ حروفها حرفا حرفا.. وأحيانا تتوقف به الحروف، فيقرأ ما لا يفهم، ويسمعهم ما لا يفهمون.. وتنصرف بعدها  الألوف المؤلفة، وكأنها كانت تمثل تمثيلية ساخرة، ولم تكن تسمع كلام ربها أو هدي نبيها.

ورأيت الواعظ الذي ينشغل بالسجع والجناس والطباق والحروف التي لا نقط لها والجمل التي تقرأ من الجهتين عن التسلل إلى القلوب لمحو الران الذي يغشاها، والسموم التي تقتلها، والظلام الذي يسكنها.

ورأيت المفتي الذي يوزع الفتاوى بحسب هواه، يفتي في كل شيء، ولا يتورع عن شيء، ولا يجعل فتاواه سلما يعرج به العباد إلى ربهم، بل يجعل منها سما يشوه به الدين وحقائق الدين، ويجعل منها مهواة تنحدر بالمؤمنين إلى الهاوية التي تسكنها الأهواء.

ورأيت المعلم الذي يتعامل مع تلاميذه كما يتعامل السيد مع عبيده..

ورأيت غير هؤلاء ممن يستلمون المناصب العالية.. ولكنهم بسلوكهم ينزلون بها إلى الحضيض الأسفل.

***

كانت أول مرة أسمع الغريب ينادني بذلك الإلحاح([2])، وأنا في غرفتي، فأسرعت أهرول إليه، وقلت: اعذرني حضرة الولي الصالح.. لقد شغلتني نفسي كما تعودت أن تشغلني.

قال: ألست مشتاقا إلى النبي الهادي؟

قلت: وكيف لا أشتاق.. ونحن ـ كما ترى ـ في واقع لا يتقن شيئا كما يتقن أساليب الإضلال والتمويه والتلاعب بالحقائق.

قال: فلن يصلح هذا الواقع إلا النبي الهادي.. والهدي الذي خلفه النبي الهادي.. وورثة النبي الهادي.

قلت: وأين هم؟.. نحن لا نرى إلا الأشباح التي لا تستطيع أن تصل إلى الأرواح، بل لا تفكر في الوصول إليها.. بل تعتبر الحديث معها وعنها لغوا وثرثرة.

قال: يستحيل على ركن خطير من أركان النبوة كهذا الركن أن يعدم من الأمة.. إن الله الرحمن الرحيم النور الهادي أرحم بعباده من أن يتركهم فرائس للشياطين وورثة الشياطين.

قلت: فهل التقيت ببعضهم؟.. حدثني عن ذلك.. فما أجمل أحاديث الورثة؟

قال: نعم.. لقد شرفني الله، فالتقيت ببعضهم.. وسيكون حديثنا عنه اليوم، كما كان حديثنا في الرحلة السابقة عن الوارث.

***

اعتدل الغريب في جلسته وحمد الله وصلى وسلم على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مستغرقا في كل ذلك، ثم قال: بعد أن رأيت ما رأيت، وسمعت ما سمعت من حديث الوارث مما كنت قد ذكرته لك في رحلتي السابقة.. وبعد أن آنس مني قومي من الصدق والإخلاص والثبات ما أنسوا.. ترقيت في السلم الذي كنت أحلم به إلى درجات عالية لم أكن أتصورها، ولا أطمح لها.

وقد تثاقلت ـ بسبب تلك الكراسي الرفيعة، وما توفره من رغد عيش ـ إلى الدنيا مدة من الزمن إلى أن جاء ذلك اليوم العظيم الذي التقيت فيه الهادي الذي هداني الله به إلى النبي الهادي..

في ذلك اليوم كنت في أواسط إفريقيا في جولة هي أقرب إلى الجولة السياحية منها إلى الجولة التبشيرية.. كنت حينها أسير بسيارتي الفخمة ذات العجلات القوية مخترقا غاباتها العذراء، غير مبال بأي خطر قد ألقاه في طريقي، لأن ما زودت به السيارة من وسائل الأمان يكفي لحمايتها وصد أي خطر عنها أو عني.

ولكن الله شاء في ذلك اليوم أن أتعرض لخطر ربما لم أتعرض لمثله في حياتي..

لقد اصطدمت سيارتي بشيء لا أزال إلى الآن أجهله.. ربما يكون شيئا من الغيب، وربما يكون من الشهادة.. المهم أني إلى الآن لم أعرف ما هو.. لم أعرف إلا أنه أصاب سيارتي بما جعلها لا تطيق السير خطوة واحدة.. وقد أصابني ذلك بهلع شديد، فقد كنت في أدغال الغابات، وليس بين يدي إلا الحيوانات المفترسة.. والتقدم في تلك الغابة خطوة واحدة ليس له إلا معنى واحد هو الموت المؤكد.. فلم يخرج من تلك الغابات أحد من الناس سالما.

في ذلك المحل الذي كان برزخا بين الموت والحياة، وبين الدنيا والآخرة.. وصرت أشعر بجسدي فيه كعارية جاء مالكها ليستلمها.. في ذلك المحل ارتفع عني ذلك التثاقل إلى الأرض، وشعرت من جديد بتلك الأشواق إلى تلك الشمس التي دعتني العذراء للبحث عنها.

وبمجرد أن دب ذلك الشعور إلى نفسي رأيت صاحبك (معلم السلام)، وهو يسير نحوي كما يسير البرء إلى المريض، وكما تسير العافية إلى المبتلى.. وما إن لمحته حتى أسرعت مهرولا إليه، وقد رأيت فيه الحياة التي يئست منها، والعافية التي غادرتني، وكنت أتصور أنها لا ترجع.

استقبلني بابتسامته التي عهدتها منه، وقال: عجبا.. ما الذي جاء بك إلى هنا؟

قلت: سيارتي.. هذه السيارة التي ترى هي التي جاءت بي إلى هنا.

ابتسم، وقال: أأعطيتها عقلك وإرادتك لتقودك إلى هنا؟

قلت: لا.. عقلي لا يزال لدي.. وإرادتي كذلك.. وأنا لم آت إلا وفق ما أملاه علي عقلي، وما طلبته مني إرادتي.

قال: فعقلك وإرادتك هما اللذان جاءا بك إلى هنا.. لا هذه السيارة المسكينة المسخرة التي لا يمكنها إلا أن تطيع إرادتك، وتستجيب لعقلك.

قلت: ذلك صحيح..

ثم عقبت قائلا: وأنت.. ما الذي جاء بك إلى هنا، فأنا لا أرى معك سيارة ولا طائرة؟

قال: الذي خلق السيارة والطائرة يستطيع أن ينقلك بهما، ويستطيع أن ينقلك بغيرهما.

قلت: إن هذه الغابة خطيرة جدا، ولم يخرج منها أحد يسير على قدميه سالما، فكيف ظهر لك أن تسير فيها؟

قال: لي في الغابة حاجة، فأنا أبحث عنها..

ابتسمت وقلت: ليس في الغابة إلا الأسود المفترسة.. والغزلان المفتَرَسة.. لا يأتي مثل هذه الغابة إلا من يريد أن يَفترس، أو يريد أن يُفترس.

قال: هناك من يريد أن يفترس اللحوم، وهناك من يريد أن يفترس الحقائق.

قلت: الحقائق لا تفترس في الغابات؟

قال: لو لم تكن هناك حقائق تزين الغابات ما خلقها ربك.. فلكل خلق حقيقته التي إليها يرجع.. وسره الذي إليه يؤول.

قلت: ومن يعرفك بالأسرار في مثل هذه المجاهيل؟

قال: الذي هدى النحل إلى صناعة العسل، وهدى الطير في أجواء السماء، وهدى النجوم في مساراتها.. لن يعجز أن يرسل لي من الهداة من يدلني على الحقائق، ومن يكشف لي عن الأسرار.

قلت: ألا تخاف أن تقع في يد من يضللك؟

قال: للهداة نور لا تطفئه الظلمات.. وللمضللين ظلمات لا يمكن لجميع أشعة الدنيا أن تنيرها.

قلت:  فأين الهداة؟.. نحن في غابة ليس فيها إلا التضليل والتمويه.

قال: بل نحن في غابة ليس فيها إلا الهداية والدلالة.. ألا ترى أن أبسط طائر يمكنه أن يخرج من هذه الغابة من غير عناء؟

قلت: ذلك أنه يطير.. وهو يرى في السماء ما لا نراه نحن المتثاقلون إلى الأرض.

قال: فلنطر كما يطير، لنبصر ما يبصر، فلا ينتظر المتثاقل إلا الافتراس.. فهو إن لم تفترسه السباع افترسته نفسه التي زينت له أن يقع في أيدي السباع.

ما قال ذلك حتى رأى طيرا جميلا يترنم بألحان عذبة.. فأسرع إليه.. قلت: ما بالك.. أين تذهب وتتركني؟

قال: إن لهذا الطائر هو الذي جئت أبحث عنه.. إنه السيمرغ([3]) الذي تحدث عنه الأولياء.. ألا تعرفه؟

قلت: أنا لا أعرف في هذه المفازة إلا البحث عن النجاة..

قال: لقد ذكرتها لك.. لا تتثاقل إلى الأرض.. اركب سيارتك، ولا تدعها تركبك..  قدها، ولا تدعها تقودك..

قال ذلك، ثم انصرف مسرعا نحو ذلك الطائر العجيب الذي كان يرسل من الألحان ما يملأ القلوب بطرب لا يستطيع أي لسان في الدنيا تصويره ولا تفسيره.

بعد أن غاب عني عاد اليأس يدب إلى نفسي من جديد.. فامتطيت السيارة، ورحت أنتظر قدر الله..

أخذتني سنة من النوم.. لم أفطن بعدها إلا برجل هو أشبه الناس بالحكيم، وبمحمد الوارث.. فصحت: ها قد أرسلك الله إلي ـ يا محمد ـ لتنقذني؟

قال: أبشر.. فأنا ليس لي من دور في هذه الغابة إلا الإنقاذ.. كل من أطاعني أنقذته من الموت المحقق..

قلت: ومن هو الأحمق الذي يرفض أن تنقذه؟

قال: كثيرون هم.. وإن شئت أريتك من جثثهم ما يملؤك رعبا.

قلت: هؤلاء مجانين لا حمقى.

قال: ولكنهم يدعون أنهم أعقل الناس وأعلم الناس وأغنى الناس.. كلما جئت إليهم محذرا من السباع المتربصة والثعابين المتلهفة كلما أداروا رؤوسهم وصعروا خدودهم.. وقالوا: اذهب، فلسنا في حاجة إليك.

قلت: أما أنا فبحاجة إليك.. سر بي حيث شئت، واقطع بي أي واد، واصعد بي أي جبل.. فلن تجد مني إلا الطاعة والتسليم.

قال: أنت تعلم أن الطريق صعبة شاقة.

قلت: وأعلم ـ كذلك ـ أن الموت في هذه الغابة بين أنياب السباع أصعب وأشق.

قال: إن السير في هذه الغابة يحتاج إلى قوة وبصيرة وصبر.. فهل تملكها؟

قلت: إن لم أملكها في جميع حياتي، فسأملكها اليوم.

قال: أنت تعلم أن في كل خطوة في هذه الطريق شرك أو أحبولة أو حفرة يمكن أن تقع فيها.

قلت: أعلم ذلك.. ولولا ذلك لكنت قطعت الطريق بنفسي، وما احتجت إليك لتدلني.

قال: فما دمت قد تحققت بالإرادة، وتحليت بالهمة.. فما عليك إلا أن تتبعني.. فما أيسر السير على صاحب الإرادة، المتحلي بالهمة.

قلت: لقد سرت بالسيارة مسافة طويلة.. فكم يا ترى يمكن لأرجلنا الضعيفة أن تقطع تلك المسافة؟

قال: لا يهم الزمن في هذه المحال.. المهم هو أن نسير في الطريق الصحيح.. لأن خطأ واحدا سيضعنا في أفواه السباع.

قلت: وسيارتي!؟

قال: أراك تردد ما ردد أكثر من أريد أن أنقذهم.

قلت: أكانت لديهم سيارات؟

قال: لو لم تكن لديهم سيارات لنجوا.. لقد أهلكتهم سياراتهم.

قلت: كيف أهلكتهم مع أنها لم تصمم إلا للإنقاذ؟

قال: لقد تعلقوا بها، فلم يستطيعوا أن يسيروا ويتركوها.. فهلكوا وهلكت سياراتهم معهم.. وإن شئت أريتك من هياكلها ما يملؤها زهدا في سيارتك، ورغبة عن التعلق بها.

قلت: فأرني ذلك.. لعل همتي تترفع عن هذه السيارة التي التصقت بروحي.

لم يسر بي إلا قليلا حتى رأينا سيارة اخترقتها بعض القوارض، وحولتها مأوى لها..

قلت: أين صاحب هذه السيارة؟

قال: انظر إلى أسفلها.

نظرت فإذا هيكل عظمي ملأني بالرعب، فقال: هذا هو صاحبها.. لقد استعملت كل الأساليب لأنقذه، فلم يستجب.. وأبى.. بل تصورني لصا يريد أن يسرق سيارته.. فلما أكثرت من الإلحاح أخرج بندقية من سيارة وصوبها في وجهي، وقال: (إن لم تغادر أيها البدائي هذا المحل، فسأقتلك بسلاحي هذا)

قلت: فأنت الآن تشفي غيظك بالنظر إلى جثته.

قال: لقد حزنت عليه حزنا شديدا.. وعندما طردني بكيت..

قاطعته قائلا: عليه.. أم على نفسك؟

قال: بل عليه.. فأنا أعلم أن المصير الذي كان ينتظره هو هذا المصير.. لقد حاولت أن أستشفع له بدموعي لكنه ضحك ضحكة عالية، وقال: لا مكان هنا للعواطف.. هنا القوة.. القوة وحدها هي التي تحميك.

قلت: فأين ذهبت قوته؟

قال: كان المسكين يكذب على نفسه.. فليس هناك إلا قوة واحدة في هذا الوجود.. وكل ما عداها ضعف.. وليس هناك إلا حصن واحد.. وما عداه مفازة.

قلت: من أنت؟.. وما الذي جعلك تمارس هذه الوظيفة؟.. وما هي الأجور التي تتقاضاها؟

قال: أما أنا فرجل من أرض الله اسمه (محمد الهادي).. وأما وظيفتي فهداية من انقطعت به السبل، واحتارت به الطرق.. وأما الأجر الذي أناله فهو نجاة من نجا، وهداية من اهتدي.. يكفيني أن أرى من أنقذته يسير بعافية في وسط أهله وماله وولده.

قلت: إن أمرك عجيب.. لا بد أن لك قصة غريبة.. فحدثني حديثها.

قال: لك ذلك.. فلا تقطع مثل هذه الطريق الطويلة إلا بالأحاديث.

قلت: من أين تبدأ قصتك؟

قال: من الضلال تبدأ قصتي..

قلت: عجبا.. أقصة الهادي تبدأ من الضلال؟

قال: أجل.. ألم تسمع قوله تعالى:{ وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} (الضحى:7)

قلت: بلى.. هذه الآية قرأتها كثيرا في قرآن المسلمين.

قال: بل في قرآن رب العالمين الذي هو خطابه للناس أجمعين..

قلت: فكيف بدأ الضلال يتسرب لتحل محله الهداية؟

قال: لقد هداني الله إلى رجل من أهله من الصالحين من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان اسمه محمد الوارث..

قاطعته قائلا: أعرفه.. لقد زرته قبل سنوات.. وسمعت رحلته إلى محمد.

قال: لقد صحبته مدة من الزمن.. وقد امتلأت بالمعاني العظيمة التي كان ـ بسلوكه ـ يدعو إليها.

قلت: فما الذي جعلك ترغب عن صحبته.. وتسير إلى هذه البلاد، حيث لا تسمع إلا عواء الذئاب، وزئير الأسود؟

قال: لقد ذكرت ما كنت فيه من الضلال، فامتلأت هما وغما..

قلت: أخفت ألا يتوب الله عليك؟

قال: لا.. لقد أيقنت بأن الله قد تاب علي.. فيستحيل على الغفور الرحيم أن يستغفره عبده، ثم لا يغفر له.

قلت: فما الذي دعاك إلى الحزن إذن؟

قال: لقد حزنت على البشر التائه في صحراء نفسه، الغارق في أوحال شهواته، المصلوب على خشبة أهوائه.

قلت: وما تملك أن تفعل أنت له؟

قال: لقد قلت لنفسي: إن الرحمن الرحيم الذي ما أنزل داء يرتبط بالطين إلا أنزل له من الدواء ما يقاومه، لن يتخلى عن الروح التي هي الأصل.. فلذلك لن يكون في الروح داء إلا وينزل الله من الأدوية ما يقاومه.

قلت: فماذا فعلت؟

قال: لقد قعد بي العجز عن معرفة الدواء.. فلذلك ظللت مدة في تلك الأحزان إلى أن جاء اليوم الذي أرسل الله لي فيه رجلا لا أزال إلى الآن لا أعرف كيف جاء، ولا كيف ذهب.

قلت: ما اسمه؟

قال: لم أكن أناديه إلا بـ (معلم الهداية)

قلت: معلم الهداية.. !؟

قال: أجل.. فلم يكن له حديث إلا عن الهداية.. وقد سألته أول ما زارني عن أسرار الهداية التي تقضي على كل ضلال، فقال: سر في الأرض.. فلن ينال الهداية ولا علوم الهداية إلا من سار في الأرض، وخبر البشر، وتعلم لغة الطير، وسلك مسالك النحل، وسكن قرى النمل.

قلت: إن هذا الرجل يلغز ولا يهدي..

قال: أحيانا تلبس الهداية لباس الألغاز.. وتحتاج العبارة إلى ثوب إشارة.

قلت: هل فهمت مراده؟

قال: أجل.. لقد فهمت مراده.. فقد وضح لي لغزه هذا بلغز أمكنني أن أبحث عنه.. وأعيش فترة من حياتي في البحث عنه.

قلت: فما قال؟

قال: لقد قال لي: ترياق الهداية يحتاج إلى عشرة أوصاف لن تنالها إلى في عشرة حضائر، ومن عشرة أفواه..

قلت له: فما الفم الأول؟

قال: الفم الذي يعرف للمراتب حقها.. فلا يتجاوز بها منازلها.([4])

قلت له: فما الفم الثاني؟

قال: الفم الذي يسيل ما جف من الدموع، ويلين ما قسا من القلوب ([5]).

قلت: فما الفم الثالث؟

قال: الفم الذي يكشف عن الجواهر بالقيل والقال، والجواب والسؤال، لا بالمراء والجدل([6]).

قلت: فما الفم الرابع؟

قال: الفم الذي طهر لسانه بماء الحقائق، وزين بمواثيق الرقائق، وعتق من سجون العلائق، فصار بين الناس كالبدر المتلألئ، تنشق له حجب الظلمات، وتندك له صروح الطغاة([7]).

قلت: فما الفم الخامس؟

قال: الفم الذي ينطق من غير لسان.. ولكنه أبلغ من كل لسان([8]).

قلت: فما الفم السادس؟

قال: الفم الذي يطهر أرض النفوس من الأدناس، ليرفعها إلى قدس الأقداس([9]).

قلت: فما الفم السابع؟

قال: الفم الذي يرفع صوته، فتعلو برفعه الرايات، وتنتشر المكرمات([10]).

قلت: فما الفم الثامن؟

قال: الفم الذي حلي بحلية الورع، وزين بزينة العلم والحلم، ونور بأنوار البصيرة.. فأجاب عن كل سؤال، وحل كل إشكال، ورفع كل معضلة، وأزال كل مشكلة([11]).

قلت له: فما الفم التاسع؟

قال: الفم الذي يثور على المحو، ليطفئ السراب، ويمحو الضباب([12]).

قلت: فما الفم العاشر؟

قال: الفم الذي يسلك القفار، ويقطع البحار، لينشر الأنوار([13]).

قلت: فهل بحثت عن هذه الأفواه؟

قال: أجل.. لقد ذكر لي أنها في عشرة حضائر من بلاد الإسلام.. فلذلك سرت في كل بلاد الإسلام أبحث عنها حتى وجدتها.

قلت: وجدتها جميعا؟

قال: أجل.. فلا تكمل الهداية إلا باجتماعها جميعا.. كما لا يمكن أن يكتمل الشعاع الأبيض إلا بجميع ألوانه.

قلت: فهل ستحدثني حديث رحلتك هذه؟

قال: يسرني ذلك.. فبيننا وبين الأمان عشر مراحل.. وسنقطع بكل واحد من هذه الأفواه مرحلة من المراحل.. على أن لا تنسى أننا في غابة.. وأنه يمكن في أي لحظة أن يهم بنا سبع، أو تلدغنا عقرب..

قلت: إن ذلك يمنعني من أن أعيش ما تقول..

قال: دع بصرك لجسدك.. وأرسل ببصيرتك إلي.. فلست أحتاج سوى بصيرتك.

قلت: فمن أين ابتدأت رحلتك؟

أشار إلي أن نسير، ثم حمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مستغرقا في كل ذلك، ثم قال:


([1])   هؤلاء هم أبطال الرواية السابقة [النبي الإنسان]، والذين يمثلون دور ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

([2])   أشير بهذا إلى أن الداعية الوارث هو الذي يبدأ بدعوة الناس إلى الله، لا الذي يتنظر حتى يأتيه الناس، كما قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة:67)

([3])   أشير به إلى (منطق الطير)لفريد الدين العطار، وأشير بالسيمرغ إلى الطيور التي كانت تبحث عن الملك، وتطير شوقا إليه، وكل ذلك من باب الكناية على أن طريق الهداية لا حدود له.

([4])   أقصد به (الحكيم)، وهو الفصل الأول من هذه الرسالة.

([5])  أقصد به (الواعظ)، وهو الفصل الثاني من هذه الرسالة.

([6])  أقصد به (المحاور)، وهو الفصل الثالث من هذه الرسالة.

([7])  أقصد به (المعلم)، وهو الفصل الرابع من هذه الرسالة.

([8])   أقصد به (القدوة)، وهو الفصل الخامس من هذه الرسالة.

([9])  أقصد به (المربي)، وهو الفصل السادس من هذه الرسالة.

([10])  أقصد به (الخطيب)، وهو الفصل السابع من هذه الرسالة.

([11])   أقصد به (المفتي)، وهو الفصل الثامن من هذه الرسالة.

([12])  أقصد به (المحتسب)، وهو الفصل التاسع من هذه الرسالة.

([13])  أقصد به (الشاهد)، وهو الفصل العاشر من هذه الرسالة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *